إنا كفيناك المستهزئين كتاب الكتروني

تقليص

عن الكاتب

تقليص

سيف الكلمة مسلم اكتشف المزيد حول سيف الكلمة
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • إنا كفيناك المستهزئين كتاب الكتروني

    إنا كفيناك المستهزئين كتاب الكتروني






    إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
    الجريمة الدانماركية
    ووسائل
    نصرة خير البرية صلى الله عليه وسلم

    وليد عبد الجابر أحمد نورالله


    كتاب الكتروني رائع
    حجم البرنامج913 كيلوبايت





    قال المؤلف
    ولقد بينّا في هذه الرسالة، حكم الساب المتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوضحنا أن توبة هذا الآثم لا تسقط عنه حد القتل كما هو الراجح من أقوال العلم.
    أما نصرته صلى الله عليه وسلم فقد عرضنا قبل أن نذكر سبلها ووسائلها كيف أن الله عزوجل نصر رسوله صلى الله عليه وسلم، وانتقم لنبيه صلى الله عليه وسلم من شائنيه على مر العصور والدهور، ثم ذكرنا طائفة من أهم وسائل نصرته صلى الله عليه وسلم، وألحقنا بالرسالة ملحقًا بمائة وسيلة من وسائل نصرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لا تترك لمسلم عذر في التقاعس عن واجب النصرة.
    وفي الختام أسال الله عزوجل أن يتقبل مني هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم العرض عليه

    منقول.


    روابط التنزيل


    أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
    والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
    وينصر الله من ينصره

  • #2
    بحث جيد ومتكامل عن
    قضية سب المصطفى
    صلى الله عليه وسلم


    إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ



    الجريمة الدانماركية
    ووسائل
    نصرة خير البرية صلى الله عليه وسلم






    وليد عبد الجابر أحمد نورالله
    مع تحيات
    عادل محمد
    أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
    والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
    وينصر الله من ينصره

    تعليق


    • #3
      المقدمة

      بسم الله الرحمن الرحيم



      إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
      (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
      (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
      (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
      "الحمدُ لله الهادي النّصِيرِ، فَنِعْمَ النَّصِير ونِعْمَ الهاد، الذي يَهْدِي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيم ويُبيّن له سُبُلَ الرشاد، كما هدى الذِين آمَنُوا لِمَا اخْتُلِفَ فيه مِنَ الْحَقّ وجَمعَ لهم الهُدَى والسَّدَاد، والذي ينصر رُسُلَه والذين آمنوا في الحياة الدّنْيَا ويومَ يقومُ الأشْهَاد، كما وعَده في كتابه وهو الصادقُ الذي لا يُخْلِفُ الميعاد.
      وَأشهد أن لا الهَ إلا الله وَحْدَه لا شريكَ له شهادةً تُقِيمُ وَجْهَ صاحِبِها للدِّين حَنِيفاً وتُبَرِّئُه من الإلحاد.
      وأشهد أنَّ محمداً عَبدُه ورسولهُ أفْضَلَ المرسلين وأكرمُ العباد، أرْسَلَه باِلهُدَى ودِين الحقِّ لُظْهِرَه على الدِّين كُلِّه ولو كَرِه أهل الشَّرْكِ والعِنَاد، ورَفَع له ذِكْرَه فلاَ يُذْكَرُ إلا ذُكِر معه كما في الأذَانِ والتشهدِ والخطبِ والمجامِعِ والأعيادِ.
      وكَبَت مُحآدّه وأهْلَكَ مُشاقَّه وكَفَاه المستَهْزِئِيْنَ به ذوي الأحْقَادِ، وبَتَرَ شَانِئَهُ ولَعَنَ مُؤْذِيَه في الدنيا والآخرَةِ، وجَعَل هَوانه بالمِرْصَادِ، واخْتَصَّه على إخوانِه المرسلين بِخَصائِصَ تَفُوقُ التّعدَاد، فَلَهُ الوسِيلةُ والفَضِيلةُ والمقَامُ المحمودُ ولِواءُ الحمْدِ الّذي تَحْتَه كُلُّ حَمَّاد، صلى الله عليه وعلى آله أفضَل الصَّلَواتِ وأعلاها، وأكملها وأنمْاهَا، كما يُحِبُّ سبحانه أن يُصلّى عليه وكما أمر، وكما ينبغي أن يُصَلَّى على سيِّد البشر، والسلام ُعلى النبيِّ ورحمةُ الله وبركاتُه أفضل تحيةٍ وأحسنها وأوْلاَهَا، وأبْرَكها وأطيبها وأزكاها، صلاةً وسَلاماً دائمين إلى يوم التّنَاد، باقِيَيْن بعد ذلك أبداً رِزقاً من الله ما لهُ من نَفَاد"[1].
      أما بعد:
      إن من أوجب الواجبات وألزم الأركان على كل مسلم ومؤمن القيام بما تقتضيه شهادة أن محمدًا رسول الله من حقوق وواجبات، فلا يصح إيمان مسلم لم يقم بما تقتضيه هذه الكلمة من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق لخبره والطاعة لأمره صلى الله عليه وسلم، وتوقيره واحترامه صلى الله عليه وسلم فلا تطاول أو انتقاص، وتعزيره صلى الله عليه وسلم بنصرته ونصرة سنته حتى تسيل الدماء في سبيل ذلك والمسلم راض مسرور، يفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه، وهو يعلم أن إيمانه لا يتحقق إلا إذا كان رسول الله أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، ولا غرو في ذلك فإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي السبيل إلى الفلاح في الدنيا والسعادة في الآخرة، فلم لا يحبه المسلم وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك من ساعة من ليل أو نهار إلا وأنفقها في سبيل أن يصل الدين إلى المسلم نقيًا، لم لا يحبه المسلم وهو يقرأ في سيرته كيف ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقته وماله وجهده وحياته في سبيل نشر هذا الدين العظيم.
      إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس رمزًا من رموز الأمة المسلمة فحسب، بل هو حجر الأساس في هذه الأمة المسلمة، فلولاه صلى الله عليه وسلم - بعد الله عزوجل – ما كان لتلك الأمة وجود، ويوم أن يدافع المسلم عن نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ليس يدافع عن رمز ولكن يدافع عن عقيدة هي أغلى عند المسلم من حياته، بل إن أعظم أماني المسلم أن يختاره الله عزوجل فيما يقتلون في سبيله تبارك وتعالى، فما أحلاها من أمنية وما أعظمها من غاية.
      يعلم الجميع ما أقدمت عليه صحيفة "يولاندس بوستن" الدانماركية من تطاول وإساءة لنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما تبع ذلك من مظاهرات وغضب إسلامي عارم، قابله عناد دانماركي يعضده تأييد أوروبي غربي.
      لقد كان الموقف الإسلامي الشعبي في هذه القضية جيد في مجمله، ولكن حتى لا يصبح ما حدث انفعال وانزوى، وحتى نضع الأمور في نصابها ونرد على أولئك الذي نادوا بالحوار وطالبوا بالتهدئة، كان لابد من تلك الرسالة التي تعرضنا فيها لتلك الجريمة الدانماركية بحق خير البرية صلى الله عليه وسلم.
      ولقد بينّا في هذه الرسالة، حكم الساب المتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوضحنا أن توبة هذا الآثم لا تسقط عنه حد القتل كما هو الراجح من أقوال العلم.
      أما نصرته صلى الله عليه وسلم فقد عرضنا قبل أن نذكر سبلها ووسائلها كيف أن الله عزوجل نصر رسوله صلى الله عليه وسلم، وانتقم لنبيه صلى الله عليه وسلم من شائنيه على مر العصور والدهور، ثم ذكرنا طائفة من أهم وسائل نصرته صلى الله عليه وسلم، وألحقنا بالرسالة ملحقًا بمائة وسيلة من وسائل نصرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لا تترك لمسلم عذر في التقاعس عن واجب النصرة.
      وفي الختام أسال الله عزوجل أن يتقبل مني هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم العرض عليه.
      وإن كان من صواب فمن الله تبارك وتعالى، وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان

      وليد عبد الجابر أحمد نورالله
      الإسكندرية 4 صفر 1427



      1- من مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية لكتابه الماتع "الصارم المسلول"
      أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
      والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
      وينصر الله من ينصره

      تعليق


      • #4
        الجريمة الدانماركية

        في 30 سبتمبر 2005 نشرت صحيفة "يولاندس بوستن" الدانماركية 12 رسمًا كاريكاتيريًا سخرت فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ساعتها لم تتنبه الشعوب العربية والمسلمة لهذه الجريمة، غير أنه بعد هذه الفعلة بأشهر قليلة، اشتعل العالم كله غضبًا من هذه الجريمة النكراء، كيف بدأت هذه الجريمة؟، وإلى أين وصلت؟، هذا ما سنعرضه في الصفحات القادمة.
        بداية الجريمة:
        أما بداية تلك الجريمة، فيكشفها داعية مسلم بالدانمارك، حيث يذكر الشيخ "رائد حليحل" رئيس "الرابطة الأوروبية لنصرة خير البرية" أن كتابا متداولا بين الدانماركيين يسيء للإسلام من خلال الافتراء على نبيه الكريم كان هو السبب الرئيس وراء نشر صحيفة "يولاندز بوستن" الصور المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
        وقال رائد حليحل: إن "ثمة كتابا ينتشر في الأسواق الدانماركية حاليا للمؤلف كوري بلوتيكن بعنوان (القرآن وحياة محمد) يحمل بين صفحاته إساءة للإسلام".
        وروى القصة التي أدت بالكتاب لأن يصبح السبب الرئيسي في نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة قائلا: "طلب مؤلف الكتاب من رسامين رسم صور مسيئة للرسول، بيد أن الرسامين رفضوا خوفا من رد فعل المسلمين".
        وأردف: "بعد ذلك توجه المؤلف إلى الصحيفة وعرض الموضوع على رئيس تحريرها الذي تبنى القضية في إطار ما يعتقد أنه حرية الرأي والتعبير".
        وأضاف: "بعدها دعا رئيس التحرير نحو 40 رساما إلى رسم هذه الرسوم الكاريكاتيرية؛ لكن لم يستجب لهذه الدعوى سوى 12 رساما وضع كل منهم تصوره قبل أن يستعين المؤلف بالرسوم في كتابه، ويقوم بطباعته ونشره في 24-1-2006".
        وقال رئيس "الرابطة الأوربية لنصرة خير البرية": إن "المؤلف انتقى مواقف من سيرة الرسول، ووظفها بطريقة تخدم غايته الذميمة في الطعن في الرسول، وبالتالي الطعن في الإسلام".
        وأضاف: "المؤلف تناول قضايا خطيرة ذات مغزى"، وأوضح أن "الكتاب يقول إن الرسول قتل اليهود؛ حيث اعتبر المؤلف أن الحقبة الزمنية التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم شهدت محارق لليهود تفوق محارق النازي ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية (الهولوكوست)".
        بعد قيام الصحيفة الدانماركية بنشر الصور المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في 30 سبتمبر 2005، بدأت الجالية المسلمة في الدانمارك بالتحرك عبر الوسائل المشروعة، حيث سعوا إلى مقابلة رئيس تحرير الصحيفة ورئيس الوزراء الدانماركي، كما سعوا إلى مقاضاة الصحيفة ولكن ذلك كان دون جدوى، حيث كان الرد الدائم هو التذرع بحرية التعبير وحرية الصحافة.
        بعد ذلك قام وفد من مسلمي الدانمارك يحمل ملف هذه القضية بزيارة الدول المسلمة وتركزت جولته في مصر والسعودية التي قام أئمتها وشيوخها بتفعيل القضية في خطبهم، وانتقلت القضية إلى شبكة الإنترنت وإلى الفضائيات، وتعالت الدعوات إلى مقاطعة الدانمارك اقتصاديًا، خاصة وأن دول الخليج من أكبر مستوردي المواد الغذائية الدانماركية، واشتعلت أنحاء الأرض بالغضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مطالبين باعتذار صريح وواضح من الحكومة الدانماركية ومعاقبة المسئولين عن تلك الفعل، غير أن الحكومة الدانماركية ركبت رأسها ورفضت تقديم هذا الاعتذار، وقام الاتحاد الأوروبي بمساندة الدانمارك في هذه القضية، وأعلن رفضه للمقاطعة الاقتصادية، وبدأت العديد من الصحف الأوروبية تعيد نشر الصور المجرمة في محاولة لتخفيف الضغوط عن الدانمارك.
        ويشير الشيخ "رائد حليحل" إلى أن الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدانمارك بدأت بطريقة اعتباطية، لكنها الآن تسير بشكل ممنهج ومخطط له جيدا، حتى إنها بدأت تجد صدى في الأوساط الغربية الخارجية، وبرهن على التجاوب الغربي مع موقف الدانمارك بتأكيده أن ثمة شركة ألمانية للملابس القطنية طبعت أحد الرسوم المسيئة على بعض منتجاتها، وأوضح أن هذا الرسم يصور رجلا يرتدي عمامة بها قنبلة بفتيل مشتعل ومكتوب عليها "لا إله إلا الله".
        وأكد أن الشركة عرضت منتجاتها بموقعها الإلكتروني، وأنها أفصحت عن نيتها تخصيص أرباح مبيعات تلك المنتجات لما أسمته "نصرة حرية الرأي بالدانمارك".
        وأشار رئيس الرابطة الأوربية لنصرة خير البرية إلى شركة أمريكية أخرى لم يذكر اسمها أعلنت استعدادها شراء المنتجات الدانماركية التي يقاطعها العرب والمسلمون؛ لتعويض الدانماركيين عن خسارتهم بسبب المقاطعة.
        وقد كشف تحقيق صحفي نُشر يوم الأربعاء 1/3/2006 أن الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم نشرت في 143 صحيفة من 56 بلدًا، وقد أعادت هذه الصحف نشر رسم واحد أو أكثر من الرسوم الـ 12 المثيرة للجدل في نشراتها المطبوعة وخصوصًا على شبكة الإنترنت.
        وأشار التحقيق إلى أن أكبر عدد من إعادة نشر الرسوم كان في الدول الغربية مثل أوروبا [70] والولايات المتحدة [14] وكندا [3] وأستراليا [2] ونيوزلندا [3] واليابان [1].
        كذلك نشرت الرسوم في ثماني دول إسلامية[1] هي الجزائر ومصر والأردن والسعودية والمغرب وماليزيا وإندونيسيا والبوسنة والهرسك.
        وأفادت هذه الدراسة التي أجريت خلال فبراير أنه في الولايات المتحدة ورغم أن أيًا من الصحف الوطنية لم تنشر الرسوم الكاريكاتورية، نشرتها 14 صحيفة إقليمية أو محلية.



        1- بعض هذه الصحف العربية والإسلامية التي نشرت تلك الصور المسيئة لم تنشرها من باب التنقص لرسول الله ÷ ولكن نشرتها من باب التغطية الإخبارية للحادثة، غير أن ذلك لا يعفيها من الإثم الذي وقعت فيه، فإن نشر هذه الصور من شأنه أن يحقق الهدف الذي تسعى إليه الدول الغربية وهو تدمير هيبة وعظمة رسول الله ÷ في قلوب المسلمين، وجعل حياته ÷ مادة للمناقشة والتندر، لهذا فإن نشر هذه الصور لا يجوز حتى وإن كان من باب نقل الخبر، خاصة وأن نشر هذه الصور من الأمور التي تسبب الإيذاء والألم للمسلمين.
        أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
        والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
        وينصر الله من ينصره

        تعليق


        • #5
          مواقف مجرمة وأخرى مشبوهة

          كان التفاعل الشعبي المسلم مع قضية الصور المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غاية الروعة، حيث انطلقت الأمة على كافة الأصعدة تندد بتلك الجريمة، وتطالب بمحاكمة المسئولين، غير أن هذه الجريمة أظهرت كذلك حقيقة الموقف الأوروبي الغربي من الإسلام والمسلمين، كما أنها كشفت عن مواقف مشبوهة لعدد من المسلمين
          الموقف الأوروبي:
          مع اشتعال الأزمة في أرجاء العالم الإسلامي، تميز الموقف الغربي بمساندته للدانمارك بشكل كامل، إلا إنه في الوقت ذاته حاول خداع العالم المسلم، حيث توجه خافير سولانا مفوض السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي إلى المنطقة ينشر فيها كلمات دبلوماسية منمقة حول الجريمة غير المسبوقة التي أساء فيها الغرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، في حين كان الموقف الرسمي الغربي يعلن في ذات التوقيت بعدة أشكال مختلفة:
          1- أعلن الاتحاد الأوربي على لسان رئيس المفوضية الأوروبية دعمه للدانمارك ومشاركته لها أمام ما أسماه بالانتقادات الحادة, و كرر بصيغة غاضبة قوله : إن حرية الرأي قيمة أصيلة في أوربا ويجب على الأديان أن تتكيف معها، وإن علينا أن نقول لهؤلاء الذين لا يوافقون على الرسومات أن حرية الرأي لا يمكن المساومة عليها'.
          2- صرّح نائب رئيس المفوضية الأوروبية ومفوض شئون الحريات العامة والأمن والعدل 'فرانكو فراتيني' بأنه ' لا يمكن تقييد ممارسة حرية التعبير '، وبأنه يستنكر الحملة الشديدة ضد الدانمارك، وبأن الذين يحرقون علم الدانمارك كأنهم يحرقون علم بلاده.
          3- رفضت الحكومة الدانماركية على لسان رئيس وزرائها تحمل أية مسؤولية عن نشر تلك الرسومات، ورفضت الضغوط التي طالبتها بالاعتذار , وقال أحد وزرائها : ربما نرسل ممثلين عن الصحيفة للشرق الأوسط لتوضيح الموقف.
          4- أعلن أحد الوزراء الإيطاليين عن طباعته لآلاف القمصان التي رُسم عليها تلك الرسوم وابتدائه في توزيعها بالمجان.
          5- قال رئيس الوفد المسيحي الأوربي الأسقف البروتستانتي ' كارستن نيسن ' الذي زار القاهرة والتقي شيخ الأزهر :إننا لن نقدم اعتذارًا باسم الحكومة الدانماركية أو باسم الصحيفة , هذا ليس هدف زيارتنا. نحن سننقل فقط تصريحات رئيس الوزراء الدانماركي التي ينأى فيها بنفسه عن الرسوم الكاريكاتورية '.
          6- قال رئيس الوزراء الدانماركي محذرًا المسلمين في بلاده إنه بعدما تنتهي الأزمة سوف يفتح السجلات، وسيحاكم كل من استغل الأزمة للتشنيع ببلاده.

          المواقف المشبوهة:
          أما المواقف المشبوهة، فقد تمثل أخطرها في دعوة عدد من الدعاة إلى إجراء حوار مع الدانمارك بدعوى أنهم لم يقدموا على جريمتهم إلا إنهم لا يعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغت ذروة هذا الموقف المشبوه الدعوة إلى عقد مؤتمرًا عن قضية الصور المسيئة في الدانمارك يومي 9و10 مارس، وهي الدعوة التي رفضها جل علماء المسلمين ورحبت الحكومة الدانماركية بها بحفاوة ولم لا وهي تلقي للحكومة الدانماركية حبل النجاة من الغضب الإسلامي المحتد، وتزداد الشكوك بحقيقة هذا المؤتمر عندما نرى القائمين عليه يتجاهلون دعوة أيًا من قادة الجالية المسلمة بالدانماركية للمشاركة.
          إن الدعوة إلى الحوار في ظل الرفض الدانماركي الاستجابة لأبسط مطالب المسلمين، وهو الاعتذار عن تلك الجريمة، لهو أمر مشبوه وغير مقبول ولا يبرره أي سبب، إن إسلام الإنسان لا يتحقق إلا إذا نطق بالشهادتين "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، والمسلم في هذه الحياة مطالب بتحقيق الشهادتين ومقتضياتهما، فلا يصح ولا يجوز أن تصبح حقوق النبي صلى الله عليه وسلم خاضعة للمصالح الوقتية والأعمال الفردية.
          أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
          والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
          وينصر الله من ينصره

          تعليق


          • #6
            الجريمة ليست جديدة

            من الأمور المؤكدة أن هذه الجريمة الدانماركية بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست جديدة على العقلية الغربية، بل إنها نتاج ما توارثته العقلية الغربية من نظرة مشوهة عمدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللإسلام، وليس هذا غريبًا فقد أخبر الله عزوجل في كتابه الكريم بأن هذا جرى مع الرسل السابقين، فقال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأنعام:10].
            ولن نتحدث عن الإساءة للرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم منذ العهد المكي، فذلك أمر معروف، ولكن سوف تتوجه وجهتنا تجاه أوروبا، حيث أفاض الدكتور "عبد الرحمن بدوي" في كتابه "دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره" في عرض مواقف الباحثين والمؤلفين الأوروبيين من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ القرن العاشر الميلادي وما قبله، حيث يظهر كم الإساءات المتعمدة والأكاذيب المشوهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدين الإسلام، ويتأكد لنا أن هذه الأكاذيب لم تكن أمرًا عفويًا أو نادرًا بل كانت منهجًا تلقاه الخلف عن السلف، فلم يكن مستغربًا أن تقدم صحف غربية معاصرة في تجديد للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
            وبعيدًا عن ذكر الأمثلة الكثيرة على ذلك نكتفى بإيراد شهادة واحدة أدلى بها الباحث الفرنسي "إرينست رينان"، والذي يقول: "لقد كتب المسيحيون تاريخًا غريبًا عن محمد .. إنه تاريخ يمتلئ بالحقد والكراهية له، لقد ادعوا أن محمدًا كان يسجد لتمثال من الذهب كانت تخبئه الشياطين له، ولقد وصمه دانتي بالإلحاد في رواية الجحيم، وأصبح اسم محمد عنده وعند غيره مرادفًا لكلمة كافرًا أو زنديق، ولقد كان محمدًا في نظر كتاب العصور الوسطى تارة ساحرًا، وتارة أخرى فاجرًا شنيعًا ولصًا يسرق الإبل، وكاردينالاً لم يفلح في أن يكون بابا فاخترع دينًا جديدًا اسمه الإسلام لينتقم به من أعدائه، وصارت سيرته رمزًا لكل الموبقات وموضوعًا لكل الحكايات البغيضة".
            هكذا يلخص رينان النظرة الأوروبية على مدى القرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي نظرة لم تختلف كثيرًا في العصر الحديث، فإذا عدنا إلى أوائل القرن التاسع عشر والقرن العشرين فإننا نجد فريقا من المستشرقين أساءوا إلى الرّسول محمّد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من اتّهمه بسرقة ما جاء في التوراة والإنجيل كأبراهام جيجر في كتابه "ماذا استفاد محمد من اليهودية" (بون 1833)، وهير شفيلد في "العنصر اليهودي في القرآن" (برلين 1878)، وسيدرسكي في "أصول الأساطير الإسلامية في القرآن" (باريس 1933)، وريتشاربل في "أصل الإسلام في بيئته الإسلامية" (لندن 1926).
            وهكذا تستمر الإساءة والإجرام حتى نصل إلى العصر الحالي، فتأخذ الإساءة بعدًا أكثر تنظيمًا، وأكثر قبحًا ولعل أخطر هذه الإساءات تلك الحملة الكبرى التي نظمتها مجموعة من الجمعيات التّنصيرية حشدت أكثر مليون منصّر بدعم من الفاتيكان للحدّ من انتشار الإسلام في العالم، والعودة بالبشريّة إلى المسيحيّة، ونشرت صحيفة (فليت إم زونتاج) الألمانية تقريراً عن منظمة رابطة الرهبان لتنصير الشعوب سلطت فيه الضوء على جهود المنظمة في نشر الدين المسيحي ومعتقداته حول العالم.
            وكشفت الصحيفة في ثنايا تقريرها وهي تشيد بالمنظمة التنصيرية أن المنظمة وهي (المؤسسة الوحيدة في العالم التي تتصدى بفاعلية للصراع بين المسيحية والإسلام ) بحسب وصف الصّحيفة، تعمل بجيش يضم أكثر من مليون منصّر للحدّ من انتشار الإسلام في العالم وعلى تشويه صورة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما تسعى الرابطة أيضاً لإعادة البشر في كل أنحاء العالم للمسيحيّة.
            ونقلت الصحيفة أيضاً في تقريرها أن الصراع الذي تقوده رابطة الرهبان لا يخلو من العنصر العسكري، واستدلت في ذلك بأن الكاردينال (كريشنسيو زييه) رئيس الرابطة دائماً ما يصف المُنَصِّرين العاملين معه بـ( قُوّاتي)، وهذا كما يؤكد التقرير ليس من قبيل الصدفة؛ فقادة الرابطة يعتبرون أنفسهم في حرب معلنة، إذ لا بد أن يكون هناك قادة وقوات كثيرة العدد، وهذا العدد عنصر مهمّ في هذه الحرب حول "العقيدة". ورابطة الرهبان وحدها كما يوضح التقرير موجودة في 40% من أراضي العالم المسيحي، ومعترف بها من 1081 أسقفية، ولرابطة 0الرابطة أكثر من مليون مدرس تعليم مسيحيّ تخرجوا في القسم المحارب للرابطة، وهم يجوبون كل مكان في العالم من قرية لقرية؛ لإقناع المترددين في الإيمان بالعقيدة المسيحية ولإنجاح هذه الأهداف يتم تأمين مبالغ مالية ضخمة تصل إلى 500 مليون دولار سنويًّا.
            وهكذا نرى أن الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر متعمد ونهج متبع، وليست الجريمة الدانماركية حادثة فردية، كما يحاول البعض الترويج لذلك في سبيل التخفيف من حدة الغضب الإسلامي.
            أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
            والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
            وينصر الله من ينصره

            تعليق


            • #7
              حكم الساب المتطاول على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم

              تواترت الآيات والأحاديث وأجمع الصحابة والعلماء على كفر الساب المتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان مسلمًا، وعلى انتقاض عهده إذا كان ذميًا أو معاهدًا، واتفق العلماء على وجوب قتله، ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية في "الصارم المسلول" أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم لا تسقط توبته إن تاب الحد عنه، وكذلك إن أسلم، فتوبته وإسلامه إن كانت تنفعه في الآخرة فإنها لا تسقط عنه الحد في الدنيا، وذلك حفظًا لمقام النبي صلى الله عليه وسلم وصونًا لعرضه من أن يتساهل فيه كل أحد.
              يقول القاضي عياض: "قد تقدم من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ما يجب من الحقوق للنبي صلى الله عليه وسلم، وما يتعين من بر وتوقير، وتعظيم وإكرام، وبحسب هذا حرم الله تعالى أذاه في كتابه، وأجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، قال الله تعالى (إِنَّالَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُفِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا) [الأحزاب 57]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وقال الله تعالي: (وَمَاكَانَ لَكُمْ أَنتُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاأَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا) [الأحزاب 53]"[1].
              وقال إسحاق بن راهويه: "أجمع المسلمون على أنَّ من سَبَّ اللهَ، أو سَبَّ رسولَه صلى الله عليه وسلم، أو دَفَعَ شيئاً مما أنزل الله عزّ وجلّ، أو قَتَلَ نبياً من أنبياء اللهِ عزّ وجلّ، أنه كافر بذلك وإن كان مُقِرّاً بكل ما أنزل اللهُ."[2].
              ويقول ابنُ المُنْذِرِ: "أجمعَ عوامُّ أهلِ العلمِ على أَنَّ حَدَّ من سَبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم القتل، وممن قاله مالكٌ واللَّيثُ وأحمدُ وإسحاقُ، وهو مذهبُ الشافعي، وحُكي عن النعمان: لا يقتل – يعني الذِّمَّي- ما هُم عليه من الشركِ أعْظَمُ"[3].
              وقال محمد بن سحنون أحد فقهاء المالكية: أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر"[4].
              ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق المسلمين فلو تاب لم يسقط عنه القتل؛ لأن حد قذفه القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة"[5].
              ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن سب الله أو سب رسوله كفرٌ ظاهراً وباطناً، وسواءٌ كان السابُّ يعتقد أن ذلك محرَّمٌ، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمانَ قولٌ وعملٌ)[6].
              وفيما يلي نسرد الأدلة من القرآن والسنة على كفر ساب النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله بسبب فعلته الشنيعة، ونبدأ أولا بأدلة ذلك الأمر إن كان المقترف لهذا الفعل الأثيم مسلمًا.



              1- الشفا 426 .

              2- الصارم المسلول 12، وفي قول ابن راهويه رحمه الله دليل على خطأ من قال أن كفر ساب النبي ÷ لا يقع إلا إذا كان مستحلاً وهو قول المرجئة.

              3- الصارم المسلول 11

              4- الشفا للقاضي عياض 429 .

              5 - فتح الباري 12/281، وانظر نيل الأوطار للشوكاني 9/71 .

              6- الصارم المسلول 429.
              أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
              والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
              وينصر الله من ينصره

              تعليق


              • #8
                الأدلة على كفر الساب ووجوب قتله إذا كان مسلمًا[1]

                قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة 61]إلى قوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) [التوبة 63].
                يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " .. فعُلم أن إيذاء رسول الله محادَّة لله ولرسوله؛ لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفاً إذا أمكن أن يقال: إنه ليس بمحاد، ودل ذلك على أن الإيذاء و المحادّ‌َة كفر؛ لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها، ولم يقل: "هي جزاؤه"، وبين الكلامين فَرْق، بل المحادَّة هي المعاداة والمشاقَّة، وذلك كفر ومحاربة؛ فهو أغْلَظُ من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً، عدوّاً للهِ ورسوله، محارباً لله ورسوله، لأن المحادَّة اشتقاقها من المباينة بأن يصير كلُّ واحد منهما في حد ... وفي الحديث أنَّ رجلاً كان يسبُّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "مَنْ يَكْفِيني عَدُوِّي؟"، وهذا ظاهر .. وحينئذٍ فيكون كافراً حَلال الدم؛ لقوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّين) [المجادلة 20]، ولو كان مؤمناً معصوماً لم يكن أذلَّ؛ لقوله تعالى: (وَللهِ العزةُ ولرسُولهِ وللمؤمِنيْنَ) [المنافقين 8]وقوله: (كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [المجادلة 5]، والمؤمن لا يُكبت كما كُبت مكذبو الرسل قط، ولأنه قد قال تعالى: (لاَ تجدُ قوماً يُؤمنونَ بِاللهِ واليوْمِ الآخرِ يُوآدُّونَ منَ حآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية، فإذا كان من يُوَادّ المحادَّ ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه؟ وقد قيل: إن من سبب نزولها أن أبا قُحَافَةَ شتم النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الصديق قتله، وأن ابن أُبَيّ تنقَّصَ النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذن ابنُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قتله لذلك، فثبت أن المحادَّ كافرٌ حلالُ الدم.."[2].
                قوله سبحانه: (يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُوْرَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا في قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزئُوا إنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُون* ولَئِن سَألْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخوُضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبالله وآياتِهِ وَرَسُولهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرتُمْ بَعْدَ إيْمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرميْنَ) [التوبة 64-66].
                يقول شيخ الإسلام: ".. هذا نصٌّ في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسبُّ المقصود بطريق الأَوْلى، وقد دلَّتْ هذه الآية على أن كل مَنْ تنقَّصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جادّاً أو هازلاً فقد كفر.
                وقد رُوي عن رجال من أهل العلم – منهم ابنُ عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقَتَادة – دخل حديثُ بعضهم في بعض[3]، أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك؛ ما رأيتُ مثل قُرَّائنا هؤلاء أرغبَ بطوناً، ولا أكذبَ أَلْسُناً، ولا أجْبَنَ عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عَوْف بن مالك: كذبْتَ، ولكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عَوْف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجدَ القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركِبَ ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نَلْعَبُ ونتحدَّثُ حديث الركب نَقْطَع به عناء الطريق.
                قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بِنِسْعَةِ[4] ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة لتنكب رجليه[5] وهو يقول: إنما نخُوضُ ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَبِاللهِ وآيَاتِهِ وَرَسُولهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) ما يلتفت إليه، وما يزيده عليه.
                وقال مجاهد: قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمدٌ أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، وما يدريه ما الغيب، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
                وقال مَعْمَر عن قَتَادة: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك ورَكْبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: أيظنُّ هذا أن يفتح قصورَ الروم وحصونَهَا؟ فأطْلَعَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "عَليَّ بِهَؤُلاَءِ النَّفَرِ" فدعا بهم فقال: "أََََقُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟" فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب.
                قال مَعْمر وقال الكلبي: كان رجل منهم لم يمالهم في الحديث يسير مجانباً لهم، فنزلت: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَآئِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً) فسُمي طائفة وهو واحد.
                فهؤلاء لما تنقَّصوا النبي صلى الله عليه وسلم حيث عابوه والعلماءَ من أصحابه، واستهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك، وإن قالوه استهزاء، فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟ وإنما لم يُقِم الحدَّ عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أُمِرَ به إذ ذاك، بل كان مأموراً بأن يَدَعَ أذاهم، ولأنه كان له أن يعفو عمن تنقصه وآذاه"[6].
                قال سبحانه: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ[7] فِي الصَّدَقَاتِ) [التوبة 58]، وقال تعالى: (وَمِنْهُمُ الذِينَ يُؤْذُونَ النّبي) [التوبة 61].
                يقول شيخ الإسلام: ".. وذلك يدلُّ على أن كلَّ من لمزه أو آذاه كان منهم[8]؛ لأن (الَّذِينَ) و (مَنْ) اسمان موصولان، وهما من صيغ العموم، والآية وإن كانت نزلت بسبب لَمْزِ قَوْمٍ وأذى آخرين، فحكمها عامٌّ كسائر الآيات اللواتي نزلَنْ على أسباب، وليس بين الناس خلافٌ نعلمه أنها تعمُّ الشخصَ الذي نزلت بسببه ومَن كان حاله كحاله، ولكن إذا كان اللفظ أعمَّ من ذلك السبب فقد قيل: إنه يُقْتَصَر على سببه، والذي عليه جماهيرُ الناس أنه يجب الأخْذُ بعموم القول، ما لم يقم دليل يوجب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه"[9].
                ثم قال شيخ الإسلام: ".. لما أخبر سبحانه أن الذين يَلْمَزُونَ النبي صلى الله عليه وسلم والذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليلٌ على النفاق وفرعٌ له، ومعلومٌ أنه إذا حصلَ فرعُ الشيء ودليلُه حصل أصلُه المدلولُ عليه، فثبت أنه حَيْثُما وجد ذلك كان صاحبه منافقاً سواء كان منافقاً قبل هذا القول أو حَدَثَ له النفاق بهذا القول .. وأيضاً، فإن هذا القول مناسبٌ للنفاق؛ فإن لَمْزَ النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه لا يفعله مَن يعتقد أنه رسولُ الله حقاً، وأنه أَوْلى به من نَفْسه، وأنه لا يقول إلا الحق، ولا يحكم إلا بالعدل، وأن طاعته طاعة لله، وأنه يجب على جميع الخلق تعزِيرُه وتوقيره، وإذا كان دليلاً على النفاق نفسِهِ فحيثما حصلَ حصل النفاق.
                وأيضاً، فإن هذا القول لا رَيْبَ أنه مُحَرَّم؛ فإما أن يكون خطيئةً دون الكفر أو يكون كفراً، والأول باطل؛ لأن الله سبحانه قد ذكر في القرآن أنواع العُصَاة من الزاني والقاذف والسارق والمُطَفِّفِ والخائن، ولم يجعل ذلك دليلاً على نفاق معين ولا مطلق؛ فلما جعل أصحاب هذه الأقوال من المنافقين عُلم أن ذلك لكونها كفراً، لا لمجرد كونها معصية؛ لأن تخصيص بعض المعاصي بجعلها دليلاً على النفاق دون بعض لا يكون حتى يختص دليلُ النفاق بما يوجب ذلك، وإلاَّ كان ترجيحاً بلا مُرَجِّح، فثبت أنه لابُدَّ أن يختص هذه الأقوال بوصفٍ يُوجبُ كونها دليلاً على النفاق، وكلما كان كذلك فهو كفر"[10].
                ثم أشار شيخ الإسلام إلى كفر المنافقين بقوله: ".. وقد نَطَقَ القرآن بكفر المنافقين في غير موضع، وجعلهم أسوأ حالاً من الكافرين، وأنهم في الدَّرْك الأسفل من النار، وأنهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم) الآية، إلى قوله: (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ولاَ مِنْ الّذِين كَفَرُوا) [الحديد 31-15] وأمر نبيَّه في آخر الأمر بأن لا يصلي على أحدٍ منهم وأخبر أنه لَنْ يغفر لهم. وأمَرَهُ بجهادهم والإغلاظ عليهم، وأخبر أنهم إن لم ينتهوا لَيُغْرِيَنَّ الله نبيه بهم حتى يُقَتَّلُوا في كل موضع"[11].
                قوله سبحانه وتعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء 65].
                يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أقْسَمَ سبحانه بنفسهِ أنهم لا يؤمنون حتى يحكِّموه في الخصومات التي بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً من حكمه، بل يُسلِّموا لحكمه ظاهراً وباطناً، وقال قبل ذلك: (أَلَم تَرَ إلى الَّذِين يَزْعُمُونَ أَنَّهُم ءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قبْلِكَ يُريدُونَ أَنْ يَتَحَاكََمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإذَا قِيلَ لَهُمُ تَعَالَوْا إلى مَا أَنزلَ اللهُ وإلَى الرَسُولِ رَأَيتَ المنافقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً) [النساء 60-61]فبيّن سبحانه أن مَن دُعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصدَّ عن رسوله كان منافقاً، وقال سبحانه: (وَيقُولُونَ آمنَّا باللهِ وَبالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ باِلمؤمِنَينَ* وَإِذَا دُعُوا إلى اللهِ ورسُولهِ لِيحكُمَ بَينهُمْ إذا فَرِيقٌ مِّنْهمْ مُّعْرِضونَ* وَإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأَتُوا إليهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَليهمْ ورسُولهُ بَلْ أُوْلَئكَ هُمُ الظَالِمُونَ* إنّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤمِنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ وَرَسُولهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعنا وأطعْنَا) [النور 47-51]فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا؛ فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع إن هذا تركٌ محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالتنقص والسب ونحوه؟"[12].
                قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب 57-58].
                يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ".. ودلالتها من وجوه:
                أحدها: أنه قَرَن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه، ومن آذى الله فهو كافر حَلالُ الدَّمِ، يبين ذلك أن الله تعالى جعل محبةَ اللهِ ورسوله وإرضاءَ اللهِ ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئاً واحداً فقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأبْنَاؤكُمْ وإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيْرَتُكمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَونَ كسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أحَبَّ إلَيكم مِنَ اللهِ وَرَسُولهِ) [التوبة: 24]وقال: (وَأَطِيعُوا الله والرَّسُول) [آل عمران: 132] في مواضع متعددة... وجعل شقاق الله ورسوله ومحادَّةَ الله ورسوله وأذى الله ورسوله ومعصيةَ الله ورسوله شيئاً واحداً، فقال: (ذَلِكَ بأنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرسُولَهُ) [الأنفال: 13]، وقال: (إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسولَه) [المجادلة 20]، وقال تعالى: (ألَمْ يَعْلمُوا أنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسولَهُ) [التوبة: 63]، وقال: (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسولَهُ) [النساء: 14]الآية.
                وفي هذا وغيرِه بيانٌ لتلازم الحقين، وأن جهةَ حرمة الله ورسوله جهة واحدة؛ فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله؛ لأن الأمة لا يَصِلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول، ليس لأحدٍ منهم طريقٌ غيرُه ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مُقَام نفسِهِ في أمره ونَهْيه وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يُفَرَّقَ بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور.
                وثانيها: أنه فَرَّق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل هذا قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، وجعل على ذلك لعنته في الدنيا والآخرة، وأعَدَّ له العذابَ المُهين، ومعلومٌ أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجَلْد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل.
                الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعَدَّ لهم عذاباً مهيناً، واللَّعْنُ: الإبعاد عن الرَّحمة، ومَن طَرَده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلاَّ كافراً، فإن المؤمن يقرب إليها بعضَ الأوقاتِ، ولا يكون مباحَ الدَّمِ؛ لأن حقْنَ الدم رحمةٌ عظيمة من الله؛ فلا يثبت في حقه"[13].
                قوله سبحانه: (لاَ تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْت النَّبِيّ وَ لاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُمْ وَأنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) [الحجرات:2]
                قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" عند تفسيره لهذه الآية: ".. ليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه[14] غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزيز والتوقير "[15].
                قال شيخ الإسلام: "وَجْهُ الدلالة أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض؛ لأن هذا الرفع والجهر قد يُفْضي إلى حُبُوط العمل وصاحبه لا يشعر؛ فإنه عَلَّلَ نَهْيَهم عن الجهر وتركهم له بطلب سلامة العمل عن الحبوط، وبيّن أن فيه من المفسدة جواز حبوط العمل وانعقاد سبب ذلك، وما قد يُفْضي إلى حبوط العمل يجب تركه غَايَةَ الوجوب، والعمل يَحْبُطُ بالكفر، قاله سبحانه: (ومَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِيْنِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) [البقرة 217]، وقال تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة 5]... وهذا ظاهر، ولا يحبط الأعمال غير الكفر ...
                فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يُخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر ويحبط عمله بذلك، وأنه مظنة لذلك وسببٌ فيه؛ فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزير والتوقير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال، وأن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له، أو استخفافٍ به، وإن لم يقصد الرافع ذلك.
                فإذا كان الأذى والاستخفافُ الذي يحصل في سوء الأدب من غير قَصْدِ صاحبِهِ يكون كفراً؛ فالأذى والاستخفافُ المقصودُ المتعمَّدُ كفر بطريق الأولى.."[16].
                وقال الإمام الشنقيطي في "أضواء البيان": "اعلم أن عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم المشعر بالغض منه أو تنقيصه صلى الله عليه وسلم والاستخفاف به أو الاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله.
                وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت راحلته: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [ التوبة : 65 - 66 ]"[17].
                وقال الآلوسي في روح المعاني: ".. والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي صلى الله عليه وسلم سواء وجد هذا المعنى أو لا حماية للذريعة وحسما للمادة، ثم لما كان هذا المنهى عنه منقسماً إلى ما يبلغ مبلغ الكفر وهو المؤذى له عليه الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقاً خوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى إذ لا دليل ظاهر يميزه".
                7- ومن السنة ما رواه أبو داود في سننه عن أَبِي بَرْزَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَغَيَّظَ عَلَى رَجُلٍ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَقُلْتُ تَأْذَنُ لِي يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ فَأَذْهَبَتْ كَلِمَتِي غَضَبَهُ فَقَامَ فَدَخَلَ فَأَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ مَا الَّذِي قُلْتَ آنِفًا قُلْتُ ائْذَنْ لِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ أَكُنْتَ فَاعِلًا لَوْ أَمَرْتُكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لَا وَاللَّهِ مَا كَانَتْ لِبَشَرٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
                قَالَ أَبُو دَاوُد هَذَا لَفْظُ يَزِيدَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَيْ لَمْ يَكُنْ لِأَبِي بَكْرٍ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا إِلَّا بِإِحْدَى الثَّلَاثِ الَّتِي قَالَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرَ نَفْسٍ وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْتُلَ[18].
                قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد استدل به على جواز قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم جماعات من العلماء، منهم أبو داود وإسماعيل بن إسحاق القاضي وأبو بكر عبد العزيز و القاضي أبو يعلي وغيرهم من العلماء، وذلك لأن أبا برزة لما رأى الرجل قد شتم أبا بكر وأغلظ له حتى تغيظ أبو بكر استأذنه في أن يقتله لذلك، وأخبره أنه لو أمره لَقَتَله، فقال أبو بكر: ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
                فعُلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتل من سبه و من أغلظ له، وأن له أن يأمر بقتل مَنْ لا يعلم الناس منه سبباً يبيح دمه، وعلى الناس أن يطيعوه في ذلك؛ لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به، و لا يأمر بمعصية الله قط، بل من أطاعه فقد أطاع الله.
                فقد تضمن الحديث خَصِيصَتَيْنِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
                إحداهما: أنه يطاع في كل من أمر بقتله.
                و الثانية: أنَّ له أن يَقْتُلَ من شتمه وأغلظ له.
                و هذا المعنى الثاني الذي كان له باقٍ في حقه بعد موته؛ فكل من شتمه أو أغلظ في حقه كان قتله جائزاً، بل ذلك بعد موته أَوْكَدُ و أَوْكَد؛ لأن حُرْمَته بعد موته أكمل، و التساهل في عِرْضِه بعد موته غير ممكن، وهذا الحديث يفيد أن سبه في الجملة يبيح القتل، ويستدل بعمومه على قتل الكافر والمسلم"[19].
                8- ومن أدلة السنة الصريحة قصة "ذو الخويصرة"، وقد رواها الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ فَقَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ[20] يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ[21] فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ[22] فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ[23] وَهُوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ[24] فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ[25] رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ[26] تَدَرْدَرُ[27] وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ[28]، وجاء في رواية أخرى عند الإمام مسلم: " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ".
                ففي هذا الحديث لم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب رضى الله عنه رغبته في قتل هذا المتطاول الآثم، بل إنه صلى الله عليه وسلم أشار في رواية مسلم إلى عزمه صلى الله عليه وسلم قتل هذا الرجل وصحبه، إلا إنه لم يمنع عمر رضى الله عنه من فعل ذلك إلا لمصلحة رآها صلى الله عليه وسلم وقتها وهي عدم تنفير الناس من الإسلام، وقد ترجم البخاري رحمه الله هذا الحديث بقوله "باب من ترك قتال الخوارج للتألف وأن لا ينفر الناس عنه"، يقول ابن حجر في "فتح الباري": ".. قوله (فإن له أصحابا) هذا ظاهره أن ترك الأمر بقتله بسبب أن له أصحابا بالصفة المذكورة، وهذا لا يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بما واجهه، فيحتمل أن يكون لمصلحة التأليف كما فهمه البخاري لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة مع إظهار الإسلام، فلو أذن في قتلهم لكان ذلك تنفيرا عن دخول غيرهم في الإسلام، ويؤيده رواية أفلح ولها شواهد، ووقع في رواية أفلح "سيخرج أناس يقولون مثل قوله""[29].
                وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى ترك قتال هذا المتطاول الآثم فذلك لمصلحة رآها تنازل عن حقه، غير أنه ليس لأحد من أمته أن يعفو عمن تطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي مصلحة أعظم من مصلحة إعلاء شأن الدين وصون عرض النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، وقد روى القاضي عياض أن هارون الرشيد رفع للإمام مالك بن أنس رحمه الله أمر رجل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفتي بعض الفقهاء بجلده، فغضب الإمام مالك، وقال: ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها[30]، فلا مصلحة أعلى من مصلحة إعلاء الدين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقًا على قصة "ذو الخويصرة": "فثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه أو قسمه فإنه يجب قتله، كما أمر به صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد موته، وأنه إنما عفا عن ذلك اللامز في حياته، كما قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين لما علم أنهم خارجون في الأمة لا محالة، وأن ليس في قتل ذلك الرجل كثير فائدة، بل فيه من المفسدة ما في قتل سائر المنافقين وأشد"[31].



                1- اجتهدنا في تلخيص هذه الأدلة من الكتاب الماتع "الصارم المسلول على شاتم الرسول" فجزى الله مؤلفه شيخ الإسلام ابن تيمية خير الجزاء على نصره لرسول الله ÷

                2- الصارم المسلول 32.

                3- روى هذه الآثار الإمام الطبري في تفسيره (14/331-336).

                1- النسعة: سير مضفور يجعل زمامًا للبعير، وقد تنسج عريضة تجعل على صدر البعير

                2- نكبته الحجارة: لثمت الحجارة رجله وظفره، أي نالته وآذته وأصابته.

                3- الصارم المسلول 36.

                4- اللمز: العيب والطعن.

                5- منهم أي من المنافقين.

                6- الصارم المسلول 38.

                1- الصارم المسلول 39-40 باختصار.

                2- الصارم المسلول 41.

                3- الصارم المسلول 41.

                1- الصارم المسلول 43-44 باختصار.

                1- صوته.

                2- الجامع لأحكام القرآن (16/307) ط دار إحياء التراث العربي.

                3- الصارم المسلول 55-56 باختصار.

                4- أضواء البيان (7/617).

                1- سنن أبي داود كتاب الحدود باب الحكم فيمن سب النبي ÷، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (4363).

                2- الصارم المسلول 89.

                3- قال ابن حجر في "فتح الباري": وَزْنِ فَعِيلَة بِمَعْنَى مَفْعُولَة وَهُوَ الصَّيْد الْمَرْمِيّ ، شَبَّهَ مُرُوقهمْ مِنْ الدِّين بِالسَّهْمِ الَّذِي يُصِيب الصَّيْد فَيَدْخُل فِيهِ وَيَخْرُج مِنْهُ ، وَمِنْ شِدَّة سُرْعَة خُرُوجه لِقُوَّةِ الرَّامِي لَا يَعْلَق مِنْ جَسَد الصَّيْد شَيْء

                4- أَيْ حَدِيدَة السَّهْم

                5- ما يَكُون فَوْق مَدْخَل النَّصْل ، وَالرِّصَاف جَمْعٌ وَاحِدُهُ رَصَفَة

                1- قال ابن حجر في الفتح: قد فسره في الحديث بالقدح بكسر القاف وسكون الدال أي عود السهم قبل أن يراش وينصل ، وقيل هو ما بين الريش والنصل قاله الخطابي ، قال ابن فارس : سمي بذلك لأنه بري حتى عاد نضوا أي هزيلا . وحكى الجوهري عن بعض أهل اللغة أن النضي النصل ، والأول أولى.

                2- جمع قذة وهي ريش السهم يقال لكل واحدة قذة.

                3- علامتهم.

                4- قطعة اللحم.

                5- تضطرب.

                6- رواه البخاري في كتاب "استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم" باب "من ترك قتال الخوارج للتألف وأن لا ينفر الناس عنه"، ورواه مسلم في كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم.

                7- برنامج موسوعة الحديث الشريف شركة حرف

                8- الشفا للقاضي عياض 435.

                1- الصارم المسلول 163.
                أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                وينصر الله من ينصره

                تعليق


                • #9
                  حكم الذمي أو المعاهد إذا تطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم
                  ناقشنا حكم المسلم المتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينا أن تطاوله هذا دليل على كفره، وحده في الإسلام هو القتل، ونناقش الآن حكم الذمي أو المعاهد إذا تطاول على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
                  وقبل أن نناقش حكم هذا المتطاول الآثم لابد أن نسبق ذلك بتعريف الذمي والمعاهد والمستأمن ومعرفة صفاتهم[1].
                  الذمي أو أهل الذمة: هم الكفّار الّذين أقرّوا في دار الإسلام على كفرهم بالتزام الجزية ونفوذ أحكام الإسلام فيهم.
                  أما أهل العهد : فهم الّذين صالحهم إمام المسلمين على إنهاء الحرب مدّةً معلومةً لمصلحةٍ يراها، والمعاهد : من العهد : وهو الصّلح المؤقّت، ويسمّى الهدنة والمهادنة والمعاهدة والمسالمة والموادعة.
                  والمستأمن في الأصل : الطّالب للأمان، وهو الكافر الذي يدخل دار الإسلام بأمانٍ ، أو المسلم إذا دخل دار الكفّار بأمانٍ، والمقصود به في البحث الكافر الذي يدخل دار الإسلام بأمان.
                  هذا هو الذمي والمعاهد والمستأمن في الشرع الإسلامي، وقد صح لدى العلماء أن من كانت تلك صفته فتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عهده ينتقض ويقتل، قال إسحاق بن رَاهُوْيَه: إن أظهروا سَبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسُمِعَ منهم ذلك أو تُحُقِّق عليهم قُتِلوا، وأخطأ هؤلاء الذين قالوا: "ما هم فيه من الشرك أعظم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
                  ونورد هنا الأدلة من الكتاب والسنة على ما ذهب إليه العلماء من قتل الذمي المتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
                  الأدلة على انتقاض عهد الذمي بالسب أو الطعن في الدين:
                  قولُه تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29].
                  يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ".. فأمَرَنا بقتالهم إلا أن يُعْطُوا الجزيةَ وهم صاغرون، فلا يجوزُ الإمساكُ عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حالَ إعطائهم الجزيَةَ، ومعلومٌ أن إعطاء الجزيةِ من حين بَذْلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها، فإنهم إذا بذلوا الجزيةَ شَرَعُوا في الإعطاء، ووجب الكفُّ عنهم إلى أن يُقْبِضُونَاهَا فيتم الإعطاءُ؛ فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولاً وامتنعوا من تسليمها ثانياً لم يكونوا معطيْنَ للجزية؛ لأن حقيقة الإعطاءِ لم توجد، وإذا كان الصَّغَارُ حالاًّ لهم في جميع المُدَّة فمن المعلوم أن من أظهَرَ سَبَّ نبينا في وجوهنا وشَتَمَ ربَّنَا على رؤوسِ المَلأ منَّا وطَعَنَ في ديننا في مجامِعنا فليس بصاغرٍ؛ لأنَّ الصَّاغِرَ الذليلُ الحقيرُ، وهذا فعلُ متعزِّزٍ مُرَاغِم، بل هذا غايةُ ما يكونُ من الإذلالِ له والإهانةِ"[2].
                  قوله تعالى: (وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِيْنِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ) [التوبة:12].
                  قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ".. إذا كان الطعنُ يغلِّظُ قتالَ من ليس بيننا وبينه عهدٌ ويُوجبه فأن يوجبَ قتالَ من بيننا وبينه ذمةٌ وهو ملتزم للصَّغار أوْلى".
                  ويشير شيخ الإسلام إلى الفارق بين المعاهد والذمي مؤكدًا أن هذا الفرق بينهما لا يعنى السماح للمعاهد بالطعن في الدين أو التطاول على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يقول ابن تيمية: "على أن المعاهَدَ له أن يُظْهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا، والذميّ ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئاً من دينه الباطل وإن لم يُؤْذِنا، فحالُه أشدُّ، وأهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهَدِينَ لا أهْلَ ذمة، فلو فرض أن مجرد طعنهم ليس نَقْضاً للعهد لم يكن الذميّ كذلك".
                  ثم قال شيخ الإسلام: ".. أن الذّميَّ إذا سبَّ الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانيةً فقد نكَث يمينه وطعن في ديننا؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يُعاقب على ذلك ويُؤَدَّبُ عليه، فعلم أنه لم يُعاهد عليه؛ لأنا لو عاهدناه عليه ثم فَعَلَه لم تجز عقوبته عليه، وإذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم طعن في ديننا فقد نكث في يمينهمن بعد عهده وطعن في دينِنا، فيجب قتله بنص الآية..".
                  ثم أشار شيخ الإسلام إلى أن الطاعن في الدين يندرج تحت زمرة "أئمة الكفر" الذين أمرنا الله بقتالهم وقتلهم، يقول شيخ الإسلام: ".. أنه سَمَّاهم أئمة الكفر لطعنهم في الدين ... وإمامُ الكفر هو الداعي إليه المُتَّبَعُ فيه، وإنما صار إماماً في الكفرِ لأجلِ الطعن، فإنَّ مجرَّد النكث لا يوجب ذلك، وهو مناسب؛ لأن الطاعن في الدين يعيبه ويذمه ويدعو إلى خلافه، وهذا شأن الإمام، فثبت أنَّ كلَّ طاعنٍ في الدين فهو إمامٌ في الكفر، فإذا طعن الذميٌّ في الدين فهو إمامٌ في الكفر، فيجب قتالُه لقوله تعالى: (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ) ولا يمين له؛ لأنه عاهَدَنَا على أن لا يظهر عَيْبَ الدين هنا وخَالَفَ .. فثبت أنَّ كلَّ مَن طعن في ديننا بعد أن عاهَدْناه عهداً يقتضي أنْ لا يفعل ذلك فهو إمامٌ في الكفر لا يَمِينَ له، فيجب قتله بنصِّ الآيةِ، وبهذا يظهر الفرقُ بينه وبين الناكِثِ الذي ليس بإمامٍ، وهو مَن خالف بفعل شيءٍ مما صولحوا عليه من غير الطعن في الدِّينِ"[3].
                  قوله تعالى: (ألاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُم وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرّةٍ) [التوبة:13].
                  يقول شيخ الإسلام: "فجعل هَمّهم بإخراجِ الرسولِ من المحضِّضَات على قتالهم، وما ذاك إلا لما فيه من الأذَى، وسَبُّه أغلظ من الهم بإخراجه، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم عَفَا عَامَ الفَتْحِ عن الذين هَمُّوا بإخْرَاجِهِ، ولم يَعْفُ عمن سَبَّه؛ فالذمِّي إذا أظهر سَبَّه فقد نَكَث عهده، وفَعَل ما هو أعظم من الهمِّ بإخراج الرسولِ، وبَدَأ بالأذى؛ فيجبُ قتالُه"[4].
                  أما من السنة فقد وردت أحاديث كثيرة في هذا الشأن تدل على انتقاض عهد الذمي والمعاهد بالطعن في الدين والتطاول على الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم:
                  1- ما روى أن يهودية كانت تشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليها رجل أعمى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلها، روى أبو داود والنسائي في سننهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعْمَى كانت له أمُّ ولدٍ تَشْتُمُ النبي صلى الله عليه وسلم وتَقَعُ فيه؛ فَيَنْهَاها فلا تَنْتَهِي، و يزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جَعَلَت تقعُ في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه؛ فأخَذَ المِغْول فوضَعَه في بطنها واتَّكَأَ عليها فقتلها، فلما أصْبَحَ ذُكِرَ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الناسَ فقال: "أنْشدُ الله رَجُلاً فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌ إِلاَّ قَامَ"، فقام الأعْمَى يتخطَّى الناسَ وهو يتدلدل، حتى قَعَدَ بين يَدَي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أنا صَاحِبُهَا، كانت تشتمك و تَقَعُ فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجُرُها فلا تَنزَجر، ولي منها ابْنَانِ مِثْلُ اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقعُ فيك، فأخذت المِغْول[5] فوضعته في بطنها واتَّكَأْتُ عليه حتى قتلتُهَا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَرٌ"[6].
                  يقول الخطابي: " فيه بيان أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم مهدر الدم، وذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم إرتداد عن الدين، ولا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله"[7].
                  وقال صاحب عون المعبود: " .. وفيه دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله فلا ذمة له فيحل قتله ، قاله السندي .
                  قال المنذري : وأخرجه النسائي فيه أن ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل وقد قيل إنه لا خلاف في أن سابه من المسلمين يجب قتله وإنما الخلاف إذا كان ذميا، فقال الشافعي يقتل وتبرأ منه الذمة، وقال أبو حنيفة لا يقتل ما هم عليه من الشرك أعظم، وقال مالك من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يُسلم ..". وروى أبو داود بسنده عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهَا[8].
                  يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" .. هذا الحديث نَصٌّ في جواز قتلها لأجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، ودليل على قتل الرجل الذمي وقتل المسلم و المسلمة إذا سبَّا بطريق الأَولى؛ لأن هذه المرأة كانت مُوادعة مُهادِنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وَادَعَ جميع اليهود الذين كانوا بها مُوَادَعة مطلقة، ولم يضرب عليهم جِزْيَةً، وهذا مشهور عند أهل العلم بمنزلة المتواتر بينهم"[9].
                  وقال شيخ الإسلام: " .. إن نشدان النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ في أمرها ثم إبطال دَمِهَا دليلٌ على أنها كانت مَعْصُومَة، وأن دَمَهَا كان قد انعقد سببُ ضمانِه، وكان مضموناً لو لم يُبْطِلْه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لو كانت حَرْبِيِّة لم ينشد الناسَ فيها، ولم يَحْتَج أن يُبْطل دمها و يُهْدِره؛ لأن الإبطال والإهدار لا يكون إلا لدمٍ قد انعقد له سبب الضمان .. والمسلمون يعلمون أن دَمَ الحربيةِ غيرُ مضمونٍ، بل هو هَدْر، لم يكن لإبطاله وإهداره وجه .. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهد المعاهدين اليهودَ عهداً بغير ضرب جزية عليهم، ثم إنه أهدر دَمَ يهوديةٍ منهم لأجل سَبِّ النبي صلى الله عليه وسلم فَأَنَّه يُهْدِرَ دَمَ يهودية من اليهود الذين ضُرِبَت عليهمُ الجزيةُ وأُلزموا أحكام الملة لأجل ذلك أَوْلَى وأَحْرَى"[10]، وقال في موضع آخر: ".. فلو لم يكن قَتْلُهَا جائزاً لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم له أن قتلها كان محرماً، وأن دمها كان معصوماً، و لأوْجَبَ عليه الكفَّارَةَ بقتل المعصوم والدِّيَةَ إن لم تكن مملوكة له، فلما قال: "اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَر" عُلم أنه كان مباحاً مع كونها كانت ذمية، فعُلم أن السبَّ أباح دَمَهَا، لا سيما والنبيُّ صلى الله عليه وسلم إنما أهْدَرَ دَمَهَا عقب إخباره بأنها قتلت لأجل السبِّ، فعُلم أنه الموجِبُ لذلك، والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك"[11].
                  الدليل الثاني من أدلة السنة: قصة مقتل "كعب بن الأشرف" اليهودي، وقد أوردنا هذه القصة بتفصيلها في فصل "نصرة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم على يد أتباعه"، وننقل هنا أقوال الأئمة وتعليق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذه القصة لما فيها من فوائد واستدلالات عظيمة.
                  قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والاستدلالُ بقتل كعب بن الأشرف من وجهين:
                  أحدهما: أنه كان مُعَاهداً مُهَادناً، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي والسير، وهو عندهم من العلم العام الذي يُستغنى فيه عن نقل الخاصة ... ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جعله ناقضاً للعهد بهجائه وأذاه بلسانه خاصة، والدليل على أنه إنما نقض العهدَ بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن لِكَعْبِ بِنِ الأشْرِفِ فإنهُ قَدْ آذَى الله ورَسُولَهُ؟"، فعلَّل نَدْبَ الناسِ له بأذاه، والأذى المُطْلَقُ هو باللسان كما قال سبحانه: )و لَتَسْمَعَنَّ مِنَ الّذِينَ أُوْتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا أذىً كثيراً(، وقال: )لَنْ يَضُرُوْكُمْ إلاَّ أذىً(، و قال: )وَمِنْهُمْ الّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ويَقُولُونَ هُوَ أذُنٌ( ..
                  وأيضاً، فإنه جعل مطلق أذى الله ورسوله مُوجِباً لقتل رجل معاهد، و معلوم أن سَبَّ الله ورسوله أذَى لله ولرسوله، وإذا رُتِّب الوَصْفُ على الحكم بحرف الفاء دل على أن الوصف علة لذلك الحكم، لا سيما إذا كان مُنَاسباً، وذلك يدل على أن أذَى الله ورسوله عِلة لنَدْب المسلمين إلى قتل مَن يفعل ذلك من المعاهَدِين، وهذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله ورسوله، والسبُّ من أذى الله ورسولهِ باتفاق المسلمين، بل هو أخص أنواع الأذى ...
                  الوجه الثاني من الاستدلال به: أن النَّفَرَ الخمسة الذين قَتَلوه من المسلمين: محمد بن مَسْلمة، وأبا نائلة، وعباد بن بشر، و الحارث بن أوس، وأبا عبس بن جبر، قد أذِنَ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يغتالوه ويخدعوه بكلام يُظْهرُون به أنهم قد آمنوا ووافقوه، ثم يقتلوه، ومن المعلوم أن من أظهر لكافر أماناً لم يجز قتله بعد ذلك لأَجل الكفر، بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمَنَه وكلمه على ذلك صار مستأمناً، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رَواه عنه عمرو بن الحَمِق: "مَن آمنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَأَنَا مِنْهُ بَرِئ وَإِنَ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً" رواه الإمام أحمد و ابن ماجه .. وهذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمناً، وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان، ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر؛ فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه، وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه للهِ ورسوله، ومن حَلَّ قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمانٍ و لا بعهد كما لو آمن المسلم مَن وجب قتله لأجل قطع الطريق و محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل، أو آمن من وجب قتله لأجل زِناه، أو آمن مَن وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام ونحو ذلك، و لا يجوز أن يَعقِدَ له عقد عهد، سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة؛ لأن قتله حد من الحدود، وليس قتله لمجرد كونه كافراً حربياً، وأما الإغارة والبيات فليس هناك قول أو فعل صاروا به آمنين، و لا اعتقدوا أنهم قد أومنوا، بخلاف قصة كعب بن الأشرف؛ فثبت أن أذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يُحْقنَ معه الدم بالأمان، فَلأَنَ لا يُحْقَنَ معه بالذمة المؤَبَّدة و الهدنة المؤقتة بطريق الأَولى، فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر، ويعقده كل مسلم، ولا يشترط على المستأمَن شيء من الشروط، والذمة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه، ولا تعقد إلا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة: من التزام الصَّغَار ونحوه"[12].
                  الدليل الثالث من السنة: قصة عمير بن عدي رضى الله عنه في قتل الخطمية التي كانت تهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أوردنا هذه القصة كذلك في باب "نصرة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم على يد أتباعه"، غير أننا ننقل هنا تعليق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذه القصة.
                  يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وذلك يفيد أن السب موجب للقتل لوجوه:
                  أحدها: أنه لو لم يكن موجباً للقتل لما جاز قتل المرأة، وإن كانت حربية، لأن الحربية إذا لم تقاتل بيدٍ ولا لسان لم يجز قتلها إلا بجناية موجبة للقتل، وهذا ما أحسب فيه مخالفاً، لا سيما عند من يرى قتالها بمنزلة قتال الصائل.
                  الثاني: أن هذه السابة كانت من المعاهدين بل ممن هو أحسن حالاً من المعاهدين في ذلك الوقت؛ فلو لم يكن السب موجباً لدمها لما قتلت، أو لما جاز قتلها، ولهذا خاف الذي قتلها أن تتولد فتنة حتى قال النبي e: "لا يَنْتَطِحُ فيها عَنْزَانِ" مع أن انتطاحهما إنما هو كالتشام، فبين e أنه لا يتحرك لذلك قليل من الفتن ولا كثير، رحمة من الله بالمؤمنين، ونصراً لرسوله و دينه، فلو لم يكن هناك ما يحذر معه من قتل هذه لولا الهجاء لما خِيفَ هذا.
                  الثالث: أن الحديث مصرح بأنها إنما قتلت لأجل ما ذكرته من الهجاء، و أن سائر قومها تُركوا إذ لم يهجوا، أو أنهم لو هجوا لفُعِل بهم كما فعل بها؛ فظهر بذلك أن الهجاء موجب بنفسه للقتل، سواء كان الهاجي حربياً أو مسلماً أو معاهداً، حتى يجوز أن يقتل لأجله مَن لا يقتله بدونه، وإن كان الحربي المقاتل يجوز قتله من وجه آخر، وذلك في المسلم ظاهر، وأما في المعاهد فلأن الهجاء إذا أباح دم المرأة فهو كالقتال أو أسوأ حالاً من القتال"[13].
                  ونكتفي بهذا القدر من أدلة القرآن والسنة خشية الإطالة، ومن أراد الاستزادة فعليه بالكتاب الماتع "الصارم المسلول على شاتم الرسول" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد حوى من الدرر الكثير.



                  1- نقلنا هذه التعريفات من الموسوعة الفقهية الكويتية.

                  2- الصارم المسلو ل 19.

                  1- الصارم المسلول 21-24 بتصرف.

                  2- الصارم 25.

                  1- المغول سيف قصير.

                  2- رواه أبو داود في السنن كتاب الحدود باب الحكم فيمن سب النبي، والنسائي كتاب تحريم الدم باب الحكم فيمن سب النبي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود وصحيح النسائي، وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم ..

                  3- معالم السنن 4/528.

                  4- أبو داود في سننه كتاب الحدود باب الحكم فيمن سب النبي، وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل في تعليقه على الحديث رقم (1251): إسناده صحيح على شرط الشيخين .

                  5- الصارم المسلول 61.

                  6- الصارم السملول 65.

                  1- الصارم المسلول 68.

                  1- الصارم المسلول 68-86 بتصرف واختصار.

                  2- الصارم المسلول 90.
                  أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                  والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                  وينصر الله من ينصره

                  تعليق


                  • #10
                    موقف الصحابة الكرام من ساب النبي العدنان

                    ومما يستدل به على حكم ساب النبي صلى الله عليه وسلم، هو موقف الصحابة رضوان الله عليهم من هذا المتطاول الآثم، فالصحابة هم أعلم الأمة وأقربهم اتباعًا واقتداءً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فكان أصحابه إذا سمعوا من يَسُبُّه ويؤذيه صلى الله عليه وسلم قتلوه، وإن كان قريباً، فيقرهم على ذلك و يرضاه، وربما سمى مَن فعل ذلك ناصراً لله ورسوله.
                    روى البيهقي في سننه عن إسماعيل بن سُميع عن مالك بن عمير قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لقيت أبي في المشركين، فسمعت منه مقالة قبيحة لك، فما صبرت أن طعنته بالرمح فقتلته، فما شقَّ ذلك عليه، قال: وجاء آخر فقال: إني لقيتُ أبي في المشركين فصَفَحْتُ عنه، فما شَقَّ ذلك عليه[1].
                    وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشًا فيهم عبدالله بن رواحة وجابر، فلما صافوا المشركين أقبل رجلٌ منهم يسب رسول الله فقام رجل من المسلمين فقال: أنا فلان بن فُلان، وأمي فلانة، فَسُبَّني وسُبَّ أمي، وكُفَّ عن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزده ذلك إلا إغْرَاء، فأعاد مثل ذلك، وعاد الرجل مثل ذلك، فقال في الثالثة: لَئنْ عُدت لأرْحَلَنَّك بسيفي، فعاد، فحمل عليه الرجل، فولّى مُدبراً، فاتَّبعه الرجل حتى خرق صفوف المشركين، فضربه بسيفه، وأحاط به المشركون فقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَعَجِبْتُمْ مِنْ رَجُلٍ نَصَرَ اللهَ وَرَسُولَه؟" ثم إن الرجل برئ من جراحه، فأسلم، فكان يسمى الرحيل[2].
                    ومن الأخبار في هذا الشأن ما ذكره سيف بن عمر التميمي في كتاب "الردة والفتوح" عن شيوخه، قال: ورفع إلى المهاجر ـ يعني المهاجر بن أبي أمية، وكان أميراً على اليمامة ونواحيها ـ امرأتان مغنيتان غَنَّت إحداهما بشَتْم النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَطع يدها، ونَزَع ثَنيتها، وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يَدَها، ونزع ثنيتها، فكتب أبو بكر: بَلَغني الذي سرت به في المرأة التي تغنَّت وزمرت بشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فلولا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بِقَتْلِهَا؛ لأن حدَّ الأنبياء ليس يشبه الحدود؛ فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتدٌّ أو معاهدٍ فهو محارب غادر[3].
                    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا يوافق ما تقدم عنه أن مَن شَتم النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتله، وليس ذلك لأحد بعده، وهو صريح في وجوب قَتْل من سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم ومعاهد وإن كان امرأة، وأنه يُقْتَل بدون استتابة، بخلاف من سبَّ الناس، وأن قتله حد للأنبياء كما أن جلدَ من سَب غيرهم حدٌّ له، وإنما لم يأمر أبو بكر بقَتْل تلك المرأة لأن المهاجِرَ سبق منه فيها حدٌّ باجتهاده، فكَرِهَ أبو بكر أن يجمع عليها حَدَّيْن، مع أنه لعلها أسلمت أو تابت فقبل المهاجر توبتها قبل كتاب أبي بكر، وهو محل اجتهاد سبق منه فيه حكم فلم يغيره أبو بكر؛ لأن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد، وكلامه يدلُّ على أنه إنما منعه من قتلها ما سبق من المهاجر"[4].
                    وروى حَرْبٌ في مسائله عن مجاهد قال: أُتي عُمَرُ رضي الله عنه برَجُل سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقتله، ثم قال عمر رضي الله عنه : مَنْ سَبَّ الله أو سب أحداً من الأنبياء فاقتلوه، ثم قال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أيما مسلم سب الله ورسوله أو سب أحداً من الأنبياء فقد كَذَّبَ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي رِدَّةٌ، يُسْتتاب فإنْ رَجَع وإلا قُتِلَ، وأيما معاهدٍ عاند فسب الله أو سبّ أحداً من الأنبياء أو جهر به فقد نَقَضَ العهد فاقتلوه[5].
                    وذكر الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر به راهب فقيل له هذا يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر رضي الله عنه لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا والآثار عن الصحابة بذلك كثيرة وحكى غير واحد من الأئمة الإجماع على قتله[6] .
                    ومما ورد في ذلك ما روى عن الصحابي الجليل غَرَفة بن الحارث الكِنْدي وكان قد سكن مصر، فمر به نصرانيًا فدعاه إلى الإسلام فسب النصراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه غرفة بن الحارث فقتله، فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال له: إنا قد أعطيناهم العهد، فقال له غرفة: معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يُظْهرُوا شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أعطيناهم العهد على أن نُخَلِّي بينهم وبين كنائسهم يعملون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم على ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدو قَاتَلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم فيهم بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن غيبوا عنا لم نعرِض لهم، فقال عمرو: صدقت[7].
                    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فقد اتفق عمرو وغَرفة بن الحارث على أن العهد الذي بيننا وبينهم لا يقتضي إقرارهم على إظهار شتم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما اقتضى إقرارهم على ما هم عليه من الكفر والتكذيب فمتى أظهروا شتمه صلى الله عليه وسلم فقد فعلوا ما يبيح الدم، من غير عهد عليه فيجوز قتلهم، وهذا كقول ابن عمر في الراهب الذي شتم النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سمعته لقتلته، فإنا لم نعطهم العهد على أن يسبُّوا نبينا"[8].
                    أقوال العلماء:
                    قال الإمام أحمد:"من شتم النبي صلى الله عليه وسلم، أو تنقصه مسلماً كان أو كافراً فعليه القتل"[9].
                    وقال أبو يوسف – صاحب أبي حنيفة- : "وأيما مسلم سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كذبه، أو عابه، أو تنقصه فقد كفر بالله، وبانت منه امرأته"[10].
                    وقد نقل القاضي عياض بعض أقوال المالكية فكان مما نقله: " قال ابن القاسم عن مالك في كتاب ابن سحنون، والمبسوط، والعتبية وحكاه مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب: من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين قتل ولم يستتب.
                    وقال عبد الله بن الحكم: من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب.
                    وقال ابن عتاب:- الكتاب والسنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بأذى أو نقص، معرضاً أو مصرحاً، وإن قل، فقتله واجب"[11].
                    وقال النووي: " من قال لا أدري أكان النبي صلى الله عليه وسلم إنسياً أو جنياً، أو قال إنه جن، أو صغر عضواً من أعضائه على الطريق الإهانة كفر"[12].
                    وقال القاضي أبو يعلى في المعتمد: " من سب الله أو رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه، أو لم يستحله"[13].
                    وقال ابن حزم: " ومن أوجب شيئاً من النكال على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وصفه، وقطع عليه بالفسق، أو بجرحه في شهادته فهو كافر مشرك مرتد كاليهود والنصارى حلال الدم والمال، بلا خلاف من أحد من المسلمين"[14].
                    ويقول السبكي: " أما سب النبي صلـى الله عليه وسلم فالإجماع منعقد على أنه كفر، والاستهزاء به كفر"[15].



                    3- السنن الكبرى للبيهقي (9/27) وقال البيهقي: مرسل جيد،

                    1- الصارم المسلول 134.

                    2- ذكره في كنز العمال (5/568).

                    3- الصارم المسلول 174.

                    4- زاد المعاد (5/60).

                    5- زاد المعاد نفسه.

                    1- رواه الطبراني في معجميه الكبير (13/181)، والأوسط (6/402)، وأورده ابن حجر في الإصابة.

                    2- الصارم المسلول 177.

                    3- المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة / جمع عبد الاله الأحمدي 2/95.

                    4- الخراج لأبي يوسف ص 293، 294.

                    5- الشفا 2/935 942 باختصار .

                    6- روضة الطالبين 10/67 .

                    7- الصارم المسلول ص 452 .

                    8- المحلى 2/330.

                    9- فتاوى السبكي 2/573 .
                    أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                    والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                    وينصر الله من ينصره

                    تعليق


                    • #11
                      ساب النبي صلى الله عليه وسلم لا يستتاب ولا يسقط عنه الحد

                      من المسائل المهمة التي ناقشها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصارم المسلول؛ هي هل تقبل توبة ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسقط عنه الحد بتوبته تلك أو إسلامه، ومما رجحه شيخ الإسلام أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم لا يسقط عنه الحد بتوبته، وإن كانت توبته تنفعه في الآخرة، والأدلة في هذه المسألة ترجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله، وهو مذهب جماعة من أهل العلم ذكرهم شيخ الإسلام رحمه الله.
                      قصة ابن أبي سرح وابن خطل:
                      من الأدلة الجلية على أن توبة ساب النبي صلى الله عليه وسلم لا تسقط عنه الحد قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقصة عبد الله بن خطل، والقصتان وقعتا عند فتح مكة؛ روى أبو داود في سننه عن مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَسَمَّاهُمْ وَابْنُ أَبِي سَرْحٍ؛ قَالَ: وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ فَقَالُوا مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ أَلَا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ قَالَ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ"[1].
                      أما جريمة ابن أبي سرح، فقد كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحى فأزله الشيطان فارتد وزعم للمشركين أنه كان يزيد ما يشاء فيما يمليه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة.
                      وفي قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح دلالة واضحة على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم لا تسقط توبته حد القتل عنه، وإن عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن أبي سرح فإن العفو لا يملكه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويتضح من هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن راغبًا في العفو عن ابن أبي سرح، بل إنه وبغ الصحابة لأنه لم يقم منهم أحد بقتل ابن أبي سرح وقد أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه أكثر من مرة.
                      يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي ذلك دليل على أن جرم الطاعن على الرسول صلى الله عليه وسلم الساب له أعظم من جرم المرتد.
                      ثم إن إباحة النبي صلى الله عليه وسلم دمه بعد مجيئه تائباً مسلماً وقوله: "هَلاَّ قَتَلْتُمُوه" ثم عَفْوه عنه بعد ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتله وأن يعفو عنه ويعصم دمه، وهو دليل على أن له صلى الله عليه وسلم أن يقتل من سبه وإن تاب وعاد إلى الإسلام.
                      يوضح ذلك أشياء :
                      منها: أنه قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة، وكذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بها، وقد روى أنه قال لعثمان قبل أن يقدم به على النبي صلى الله عليه وسلم: "إن جرمي اعظم الجرم، وقد جئت تائباً"، وتوبة المرتد إسلامه.
                      ثم إنَّه جاء إلى النبي e بعد الفتح وهدوء الناس، وبعد ما تاب، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن يقتلوه حينئذٍ، وتربص زماناً ينتظر فيه قتله، ويظن أن بعضهم سيقتله، وهذا أوضح دليل على جواز قتله بعد إسلامه.
                      وكذلك لما قال له عثمان: إنه يفر منك كلما رآك، قال: "ألَمْ أُبَايِعْهُ و أُومِنْهُ؟" قال: بلى، ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام، فقال: "الإِسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ" فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خوف القتل سقط بالبيعة والأمان، وأن الإثم زال بالإسلام؛ فعلم أن الساب إذا عاد إلى الإسلام جبّ الإسلام إثم السب، وبقي قتله جائزاً حتى يوجد إسقاط القتل ممن يملكه إن كان ممكناً"[2].
                      وقال في موضع آخر: ".. فإن عبدالله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه وافترى افتراءً عابه به بعد أن أسلم أهدر دمه وامتنع عن مبايعته .. وكان قد جاءه مسلماً تائباً قد أسلم قبل أن يجيء إليه كما رويناه عن غير واحدٍ، وقد جاء يريد الإسلام، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جاء يريد الإسلام ثم كفَّ عنه انتظار أن يقوم إليه رجلٌ فيقتله.
                      وهذا نصٌّ أن مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته بل يجوز قتله وإن جاء تائباً وإن تاب، .. وأن الذي عصم دمه عفو رسول الله ص عنه لا مجرد إسلامه وأن بالإسلام والتوبة امتحى الإثم، وبعفوِ النبي صلى الله عليه وسلم احتقن الدم، والعفو بطل بموته صلى الله عليه وسلم إذ ليس للأمة أن يعفوا عن حقه، وامتناعه من بيعته حتى يقوم إليه بعض القوم فيقتله نصٌ في جواز قتله وإن جاء تائباً.
                      وأما عصمة دمه بعد ذلك فليس دليلاً لنا على أن نعصم دم من سب وتاب بعد أن قدرنا عليه، لأنا قد بيّنا من غير وجهٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعفو عمن سبه ممن لا خلاف بين الأمة في وجوب قتله إذا فعل ذلك، وتعذر عفو النبي صلى الله عليه وسلم".
                      أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل:
                      روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتُلُوهُ[3].
                      يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكان "جرمه أن النبي صلى الله عليه وسلماستعمله على الصدقة، وأصحبه رجلاً يخدمه، فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاماً أمره بصنعه، فقتله، فخاف ثَمَّ أن يُقتل، فارتد و استاق إبل الصدقة، وأنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر جاريتيه أن تغنيا به، فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم: قتل النفس، والردة، و الهجاء.
                      فمن احتج بقصته يقول: لم يُقتل لقتل النفس؛ لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يقتل قوداً، والمقتول من خزاعة له أولياء، فكان حكمه لو قتل قوداً أن يُسَلّم إلى أولياء المقتول، فإما أن يقتلوا أو يعفوا أو يأخذوا الدية، ولم يقتل لمجرد الردة؛ لأن المرتد يستتاب، و إذا اسْتَنْظَرَ أُنْظِرَ، وهذا ابن خطل قد فرَّ إلى البيت، عائذاً به، طالباً للأمان، تاركاً للقتال، ملقياً للسلاح، حتى يُنْظَر في أمره، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك كله أن يُقتل، وليس هذا سنة من يقتل لمجرد الردة، فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب والهجاء، وأن الساب وإن ارتد، فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابة، ولا يؤخر قتله، وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة.
                      وقد استدل بقصة ابن خطل طائفةٌ من الفقهاء على أن من سب النبي e من المسلمين يقتل وإن أسلم حداً.
                      واعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربياً فقتل لذلك.
                      وجوابه: أنه كان مرتداً بلا خلاف بين أهل العلم بالسير، وحتم قتله بدون استتابة مع كونه مستسلماً منقاداً قد ألقى السَّلَم كالأسير، فعلم أن من ارتد وسب يقتل بلا استتابة، بخلاف من ارتد فقط.
                      يؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَّن عام الفتح جميع المحاربين إلا ذوي جرائم مخصوصة، وكان ممن أهدر دمه دون غيره، فعلم أنه لم يقتل لمجرد الكفر والحراب"[4].
                      لماذا يقتل التائب عن سب النبي صلى الله عليه وسلم؟:
                      قد يخطر ببال الكثيرين هذا السؤال، لماذا يقتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم وإن تاب، وهل لا تنفعه توبته تلك؟، وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا السؤال في كتابه الماتع "الصارم المسلول"، فقال: "ثم الجاني إن تاب توبةً نصوحاً فذلك نافعه فيما بينه وبينَ الله، يغفر له ما أسلف، ويكون الحدُّ تطهيراً له وتكفيراً لسيئته، وهو من تمام التوبة، كما قال ماعز بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم: "طَهِّرْنِي" وقد جاء تائباً، وقال تعالى لما ذكر كفارة قتل الخطأ: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيْماً حَكِيماً)، وقال تعالى في كفارةِ الظهارِ: (ذَلِكُمْ تُوْعَظُوْنَ بِهِ).
                      فيشتمل الحد مع التوبة على مصلحتين عظيمتين:
                      مصلحة زجر النفوس عن مثل تلك الجريمة، وهي أهم المصلحتين، فإن الدنيا في الحقيقة ليست دار كمال الجزاء، وإنما كمال الجزاء في الآخرة، وإنما الغالب في العقوبات الشرعية الزجر و النكال، وإن كان فيها مقاصد أُخر، كما أن غالب مقصود العدة براءة الرحم، وإن كان فيها مقاصدُ أُخر، ولهذا كانت هذه المصلحة مقصودةً في كلِّ عقوبةٍ مشروعةٍ.
                      والمصلحة الثانية: تطهير الجاني، وتكفير خطيئته، إن كان له عند الله خيرٌ أو عقوبتهُ، والانتقام منه إن لم يكن كذلك، وقد يكون زيادةً في ثوابه ورفعةً في درجاته.
                      ونظير ذلك المصائب المقدرة في النفس والأهل والمال، فإنها تارةً تكون كفارةً وطهوراً، وتارةً تكونُ زيادةً في الثواب وعلواً في الدرجاتِ، وتارةً تكون عقاباً وانتقاماً.
                      لكن إذا أساء الإنسانُ سراً فإن الله يقبل توبته سراً، ويغفر له من غير إحواج له إلى أن يظهر ذنبه حتى يقام حدهُ عليه، أما إذا أعلن الفساد بحيث يراه الناس ويسمعونه حتى شهدوا به عند السلطان، أو اعترف هو به عند السلطان، فإنه لا يطهره ـ مع التوبة بعد القدرة ـ إلا إقامته عليه .. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "تَعَافَوُا الحُدُودَ فِيْما بَيْنَكُمْ، فِمَا بَلَغَنِيْ مِنْ حدٍّ فَقَدْ وَجَبَ" وقال صلى الله عليه وسلم لما شُفع إليه في السارقة: "تَطَهَّرْ خَيْرٌ لَهَا"، وقال: "مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ فَقَدْ ضَادَّ اللهَ فِي أَمْرِهِ"، وقال: "مَنِ ابْتُلِيْ مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ بِشَيءٍ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كَتَابَ اللهِ".
                      إذا تبين ذلك فنقول: هذا الذي أظهر سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسلمٍ أو معاهدٍ قد أتى بهذه المفسدة التي تضمنت ـ مع الكفر ونقض العهد ـ أذى الله ورسوله، وانتهاك تلك الحرمة التي هي أفضل حرمة المخلوقين، والوقيعة في عِرْضٍ لا يساوي غيرَه من الأعْرَاض، والطعن في صفات الله وأفعاله وفي دين الله وكتابه وجميع أنبياءه والمؤمنين من عباده، فإن الطعن في واحدٍ من الأنبياء طعنٌ في جميع الأنبياء كما قال سبحانه وتعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الكُافِرُوْنَ حَقّاً)، وطعنٌ في كل من آمن بنبينا من الأنبياء والمؤمنين المتقدمين والمتأخرين".



                      1- سنن أبي داود كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، وصححه الشيخ الألباني.

                      1- الصارم المسلول 109 بتصرف.

                      2- البخاري في صحيحه كتاب الحج باب دخول الحرم ومكة بدون إحرام، ومسلم في صحيحه كتاب الحج باب جواز دخول مكة بدون إحرام.

                      1- الصارم المسلول 123-124 بتصرف.
                      أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                      والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                      وينصر الله من ينصره

                      تعليق


                      • #12
                        صور السب وما يندرج تحته

                        ناقشنا حكم الساب المتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونناقش هنا ما يندرج تجت السب وما يدخل في حكمه،
                        صور السب ترجع إلى العرف:

                        أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية في "الصارم المسلول" أن السب يرجع إلى عرف الناس، فكل ما كان نقصًا وانتقاصًا فهو يلحق بالسب، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "هذا الحكم قد نيط في الكتاب والسنة باسم أذى الله ورسوله، وفي بعض الأحاديث ذكر الشتم والسبُّ، وكذلك جاء في ألفاظ الصحابة والفقهاء ذكر السب والشتم، والاسم إذا لم يكن له حدٌّ في اللغة كاسم الأرض والسماء والبر والبحر والشمس والقمر، ولا في الشرع كاسم الصلاة والزكاة والحج والإيمان والكفر، فإنه يُرجعُ في حده إلى العُرْف كالقبض والحِرز والبيع والرهن والكِرَى ونحوها فيجب أن يرجع في حدِّ الأذى والشتم والسب إلى العرف، فما عده أهل العرف سباً أو انتقاصاً أو عيباً أو طعناً ونحو ذلك فهو من السب، وما لم يكن كذلك وهو كفرٌ به، فيكون كفراً ليس بسب، حكم صاحبه حكم المرتد إن كان مظهراً له وإلا فهو زندقةٌ، والمعتَبر أن يكون سبًا وأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن سبًّا وأذى لغيره فعلى هذا كل ما لو قيل لغير النبي صلى الله عليه وسلم أوجب تعزيراً أو حدّاً بوجه من الوجوه فإنه من باب سب النبي صلى الله عليه وسلم كالقذف واللعن وغيرهما من الصورة التي تقدم التنبيه عليها، وأما ما يختص بالقدح في النبوة فإن لم يتضمن إلا مجردُ عدم التصديق بنبوته فهو كفرٌ محضٌ، إن كان فيه استخفافٌ و استهانةٌ مع عدم التصديق فهو من السبِّ".
                        وقد تحدث القاضي عياض رحمه الله في كتابه "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" عن هذه القضية وأفاض في ذكر كثير من الأمثلة التي تندرج تحت هذه القضية، يقول القاضي عياض: "جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خِصَاله أو عَرَّض بِهِ أو شبّهه بشيءٍ على طريق السبِّ له والإزراء عليه أو البغض منه والعيب له فهو سابٌّ له، والحكم فيه حكم الساب: يقتلُ، ولا نستثن فصلاً من فصول هذا الباب عن هذا المقصد، ولا نمترِ فيه، تصريحاً كان أو تلويحاً، وكذلك من لعنه، أو تمنى مضرة له، أو دعا عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذَّم، أو عيَّبه في جهته العزيزة بسُخْفٍ من الكلام وهُجْرٍ ومنكرٍ من القول وزورٍ، أو عيَّره بشيءٍ مما يجري من البلاء والمحنة عليه، أو غَمَصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، قال: هذا كله إجماعٌ من العلماء وأئمةِ الفتوى من لدن أصحابه و هلم جرَّا.
                        و روى ابن وهب ، عن مالك : من قال : إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم ـ و يروى زر النبي صلى الله عليه وسلم - وسخ، أراد عيبه قتل.
                        قال بعض علمائنا : أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل ، أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة .
                        و أفتى أبو الحسن القابسي فيمن قال في النبي صلى الله عليه و سلم : الحمال يتيم أبي طالب بالقتل .
                        و أفتى أبو محمد بن أبي زيد بقتل رجل سمع قوماً يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه و سلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه و اللحية ، فقال لهم : تريدون تعرفون صفته ، هي في صفة هذا المار في خلقه و لحيته، قال : و لا تقبل توبته.
                        ومنها: "رَجُلٌ قَالَ: النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان أَسْوَد".
                        ومنها: "رجلٌ قيلَ له: "لاَ، وحقّ رسولِ الله" فقال: فعل الله برسول الله كذا، قيل له: ما تقول يا عدو الله، فقال أشدَّ من كلامه الأول، ثم قال: إنما أردت برسول الله العقرب" قالوا: لأن ادعاءه للتأويل في لفظ صراحٍ لا يُقبل، لأنه امتهانٌ، وهو غير معزِّرٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مقِّرٍ له، فوجبت إباحةُ دمه".
                        ومنها: "عَشَّارٌ قاَلَ: أَدِّ وَاشْكُ إلى النّبيّ، وَقَالَ: إن سألتُ أوْ جَهِلتُ فَقَدْ سَأَلَ النّبِيّ وَجَهِلَ".
                        وأفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم المتفقه الطليطلي و صلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه و سلم وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم ، وختن حيدرة ، و زعمه أن زهده لم يكن قصداً ، و لو قدر على الطيبات أكلها ، إلى أشباه لهذا .
                        و أفتى فقهاء القيروان و أصحاب سحنون بقتل إبراهيم الفزاري ، و كان شاعراً متفننا في كثير من العلوم ، و كان ممن يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن طالب للمناظرة ، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله وأنبيائه ونبينا صلى الله عليه و سلم ، فأحضر له القاضي يحيى بن عمر وغيره من الفقهاء ، وأمر بقتله وصلبه ، فطعن بالسكين ، وصلب منكسا ، ثم أنزل وأحرق بالنار .
                        و قال القاضي أبو عبد الله بن المرابط : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم هزم يستتاب ، فإن تاب و إلا قتل ، لأنه تنقص ، إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته ، إذ هو على بصيرة من أمره ، ويقين من عصمته .
                        و قال حبيب بن ربيع القروي : مذهب مالك و أصحابه أن من قال فيه صلى الله عليه و سلم : ما فيه نقص ـ قتل دون استتابة .
                        و قال ابن عتاب : الكتاب و السنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه و سلم بأذى أو نقص ، معرضاً أو مصرحاً ، و إن قل ـ فقتله واجب ، فهذا الباب كله مما عده ا لعلماء سباً أو تنقصاً يجب قتل قائله ، لم يختلف في ذلك متقدمهم ولا متأخرهم ، و إن اختلفوا في حكم قتله على ما أشرنا إليه و نبيه بعد .
                        و كذلك أقول حكم من غمصه أو عيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر، أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه، أو أذى من عدوه، أو شدة من زمنه، أو بالميل إلى نسائه، فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه القتل .
                        ثم قال القاضي عياض: "فهذا الباب كله مما عَدَّه العلماء ُ سبًّا وتنقُّصاً، يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم و متأخرهم، وإن اختلفوا في حكم قتلهِ"[1].
                        ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التكلم في تمثيل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر صفته، ذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين أو آثرين لكن الاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك نحن نفرضُ الكلام في أنواع السبِّ مطلقاً من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظه من ذلك، فنقول: السب نوعان : دعاءٌ، وخبر، أما الدعاء فمثل أن يقول القائل لغيره: لعنه الله، أو قبحه الله، أو أخزاه الله، أو لا رحمه الله، أولا رضي الله عنه، أو قطع الله دابره، فهذا وأمثاله سب للأنبياء ولغيرهم، وكذلك لو قال عن نبيٍّ: لا صلى الله عليه أو لا سلم، أو لا رفع الله ذكره، أو محا الله اسمه، ونحو ذلك من الدعاء عليه بما فيه ضررٌ عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة.
                        فهذا كله إذا صدر من مسلمٍ أو معاهدٍ فهو سبٌّ، فأما المسلم فيُقتل به بكل حالٍ، وأما الذميُّ فيقتل بذلك إذا أظهره.
                        النوع الثاني: الخبر، فكل ما عدَّه الناس شتماً أو سبًّا أو تنقصاً فإنه يجب به القتل، فإن الكفر ليس مستلزماً للسبِّ، وقد يكون الرجل كافراً ليس بسابّ، والناس يعلمون علماً عاماً أن الرجل قد يبغضُ الرجل ويعتقد فيه العقيدة القبيحة ولا يسبهُ، وقد يضم إلى ذلك مسبةً وإن كانت المسبة مطابقةً للمعتقَد، فليس كل ما يحتمل عقداً يحتمل قولاً، وما لا يحتمل أن يقال سرًّا يحتمل أن يقال جهراً، والكلمة الواحدة تكون في حالٍ سبًّا وفي حال ليست بسبٍّ، فعُلم أن هذا يختلف باختلاف الأقوال والأحوال، وإذا لم يكن للسبِّ حدٌّ معروفٌ في اللغةِ ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عُرْف الناس، فما كان في العُرف سباً للنبي فهو الذي يجب أن ينزل عليه كلام الصحابة والعلماءِ، وما لا فلا[2].
                        مسألة: ما حكم ناقل سب النبي صلى الله عليه وسلم؟:
                        من المسائل الهامة التي تعرض لها العلماء، هو حكم ناقل وحاكي سب النبي صلى الله عليه وسلم عن غيره، وتظهر أهمية هذه المسألة بعد قيام بعض الدعاة بعرض الصور المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك على سبيل إعلام المسلمين بالإساءة التي تعرض لها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد تعرض القاضي عياض في كتابه الشفا لهذه المسألة بشيء من التفصيل المهم، وهو ما جعلنا ننقله بنصه هنا؛ يقول القاضي عياض: "الوجه السادس أن يقول القائل ذلك حاكياً عن غيره، و آثراً له عن سواه، فهذا ينظر في صورة حكايته و قرينة مقالته، و يختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه: الوجوب، و الندب، و الكراهة، التحريم، فإن كان أخبر به على وجه الشهادة و التعريف بقائله، و الإنكار و الإعلام بقوله، و التنفير منه، و التجريح له فهذا مما ينبغي امتثاله، و يحمد فاعله، و كذلك إن حكاه في كتاب أو في مجلس على طريق الرد له والنقض على قائله، وللفتيا بما يلزمه.
                        و هذا منه ما يجب، و منه ما يستحب بحسب حالات الحاكي لذلك و المحكي عنه، فإن كان القائل لذلك ممن تصدى لأن يؤخذ عنه العلم أو رواية الحديث، أو يقطع بحكمه أو شهادته، أو فتياه في الحقوق وجب على سامعه الإشادة بما سمع منه و التنفير للناس عنه، و الشهادة عليه بما قاله، ووجب على من بلغه ذلك من أئمة المسلمين إنكاره، و بيان كفره، و فساد قوله، لقطع ضرره عن المسلمين، و قياماً بحق سيد المرسلين، و كذلك إن كان ممن يعظ العامة، أو يؤدب الصبيان فإن من هذه سريرته لا يؤمن على إلقاء ذلك في قلوبهم، فيتأكد في هؤلاء الإيجاب لحق النبي صلى الله عليه وسلم، ولحق شريعته.
                        وإن لم يكن القائل بهذه السبيل فالقيام بحق النبي صلى الله عليه وسلم واجب، وحماية عرضه متعين، ونصرته عن الأذى حياً وميتاً مستحق على كل مؤمن، لكنه إذا قام بهذا من ظهر به الحق، وفصلت به القضية، وبان به الأمر سقط عن الباقي الفرض، وبقي الاستحباب في تكثير الشهادة عليه ، و عضد التحذير منه.
                        و قد أجمع السلف على بيان حال المتهم في الحديث ، فكيف بمثل هذا ؟.
                        و قد سئل أبو محمد بن أبي زيد عن الشاهد يسمع مثل هذا في حق الله تعالى : أيسعه ألا يؤدي شهادته ؟ قال : إن رجا نفاذ الحكم بشهادته فليشهد.
                        وكذلك إن علم أن الحاكم لا يرى القتل بما شهد به، و يرى الاستتابة و الأدب فليشهد، و يلزمه ذلك.
                        و أما الإباحة لحكاية قوله لغير هذين المقصدين ، فلا أرى لها مدخلاً في هذا الباب ، فليس التفكه بعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، و التمضمض بسوء ذكره لأحد، لا ذاكراً و لا آثراً لغير غرض شرعي بمباح، وأما للأغراض المتقدمة فمتردد بين الايجاب والاستحباب.
                        وقد حكى الله تعالى مقالات المفترين عليه وعلى رسله في كتابه على وجه الإنكار لقولهم، والتحذير من كفرهم، والوعيد عليه، والرد عليهم بما تلاه الله علينا في محكم كتابه.
                        وكذلك وقع من أمثاله في أحاديث النبي اصلى الله عليه وسلم الصحيحة على الوجوه المتقدمة، وأجمع السلف والخلف من أئمة الهدى على حكايات مقالات الكفرة و الملحدين في كتبهم مجالسهم ليبينوها للناس، و ينقضوا شبهها عليهم، و إن كان ورد لأحمد بن حنبل إنكار لبعض هذا على الحارث بن أسد، فقد صنع أحمد مثله في رده على الجهمية و القائلين بالمخلوق.
                        هذه الوجوه السائغة الحكاية عنها، فأما ذكرها على غير هذا من حكاية سبه والإزراء بمنصبه على وجه الحكايات والأسمار و الطرف وأحاديث الناس و مقالاتهم في الغث و السمين، و مضاحك المجان، ونوادر السخفاء، والخوض في قيل وقال، و ما لا يعني فكل هذا ممنوع، وبعضه أشد في المنع والعقوبة من بعض، فما كان من قائله الحاكي له على غير قصد أو معرفة بمقدار ما حكاه، أو لم تكن عادته، أو لم يكن الكلام من البشاعة حيث هو، ولم يظهر على حاكيه استحسانه و استصوابه زجر عن ذلك ، و نهي عن العودة إليه، وإن قوم ببعض الأدب فهو مستوجب له، وإن كان لفظه من البشاعة حيث هو كان الأدب أشد.
                        وقد حكي أن رجلاً سأل مالكاً عمن يقول : القرآن مخلوق، فقال مالك : كافر فاقتلوه، فقال : إنما حكيته عن غيري، فقال مالك : إنما سمعناه منك.
                        و هذا من مالك على طريق الزجر و التغليظ ، بدليل أنه لم ينفذ قتله .
                        وإن اتهم هذا الحاكي فيما حكاه أنه اختلقه، و نسبه إلى غيره، أو كانت تلك عادة له، أو ظهر استحسانه لذلك، أو كان مولعاً بمثله، و الاستخفاف له، أو التحفظ لمثله، و طلبه، ورواية أشعار هجوه صلى الله عليه وسلم وسبه، فحكم هذا حكم الساب نفسه، يؤاخذ بقوله، ولا تنفعه نسبته إلى غيره، فيبادر بقتله و يعجل إلى الهاوية أمه.
                        قال أبو عبيد القاسم بن سلام: فيمن حفظ شطر بيت مما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كفر، و قد ذكر بعض من ألف في الإجماع؛ إجماع المسلمين على تحريم رواية ما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم، و كتابته و قراءته، و تركه متى وجد دون محو ورحم الله أسلافنا المتقين المتحرزين لدينهم، فقد أسقطوا من أحاديث المغازي و السير ما كان هذا سبيله، و تركوا روايته إلا أشياء ذكروها يسيرة و غير مستبشعة، على نحو الوجوه الأول، ليروا نقمة الله من قائلها، و أخذه المفتري عليه بذنبه.
                        و هذا أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله قد تحرى فيما اضطر إلى الاستشهاد به من أهاجي أشعار العرب في كتبه، فكنى عن اسم المهجو بوزن اسمه، استبراء لدينه، و تحفظاً من المشاركة في ذم أحد أو نشره ، فكيف بما يتطرق إلى عرض سيد البشر صلى الله عليه وسلم"[3].
                        وبهذا التفصيل الماتع يتبين أن إعادة نشر هذه الصور المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تختلف باختلاف الغرض من ورائها، فمن نشرها قاصدًا الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو التفكه بذلك فهو كفر، أما من نشرها بغرض الإعلام والإبلاغ فهو لا يكفر، ولكن فعله هذا قد يندرج في باب الإثم والمعصية لأن نشر هذه الصور مما يلحق الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم ومما يجعل عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم غرضًا مباحًا تلوكه الألسنة، فضلاً عن الإيذاء والألم الذي تسببه تلك الصور للمسلمين، وكل هذه الأمور محرمة نهى عنها الله عزوجل، وأمر رسولُه صلى الله عليه وسلم المسلمين باجتنابها.



                        1- الشفا للقاضي عياض 428-431 بتصرف.

                        1- الصارم المسلول

                        1- الشفا للقاضي عياض
                        أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                        والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                        وينصر الله من ينصره

                        تعليق


                        • #13
                          "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ .."[1]

                          أجمع العلماء على أن الله ناصر رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنتقم له من أعدائه، يقول الإمام الطبري في تفسيره:" .. هذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة، فكيف به وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة؟.
                          يقول لهم جل ثناؤه: إلا تنفروا، أيها المؤمنون، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه، فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم; كما نصره (إذ أخرجه الذين كفروا) بالله من قريش من وطنه وداره (ثاني اثنين) ..".
                          ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الماتع "الصارم المسلول": ".. إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك،ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه.
                          وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب[2] حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة اللهأن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عندهوتارة بأيدي عبادهالمؤمنين"[3].
                          ويضيف شيخ الإسلام في موضع آخر من الكتاب نفسه: " .. ومن سنة الله أن من لم يمكن المؤمنون أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله؛ فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه، .. كما قال سبحانه: )فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِيَن * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهزِئِين(.. فكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله تعالى يقطع دابره، ويمحق عينه وأثره"[4]، وقال رحمه الله : وقد ذكرنا ما جرّبه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرّضوا لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة ، وهذا باب واسعٌ لا يُحاطُ بِهِ"[5].
                          لذلك فإننا نؤمن بأنه إن تخاذل المسلمون أو ضعفوا عن نصرة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فإن الله عزوجل منتقم له وناصره، وفي أحداث التاريخ منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواقف والأحداث التي تؤكد أن الله تبارك وتعالى تكفل بالانتقام لنبيه صلى الله عليه وسلم[6]، ولعل تتبع هذا الأمر يحتاج إلى مجلد ضخم، غير أننا نكتفي في هذه الرسالة بعرض عدة وقائع أمر الله عزوجل فيها جنوده بالانتصار لنبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم.



                          1- التوبة 40.

                          2- يقصد شيخ الإسلام بأهل الغرب أي المغرب الإسلامي.

                          3- الصارم المسلول صـ 108 طبعة دار العقيدة.

                          4- السابق صـ 145 بتصرف.

                          5- السابق صـ 146.

                          1- ولا عجب في ذلك، فقد صح في الحديث القدسي أن الله قد أذن بالحرب كل من من عادي له وليًا، فكيف بمن عادي وآذي سيد الأولياء محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يكفيه الله عزوجل وقد جرت سنتُهُ سبحانَهُ بإهلاك الأمم السابقةِ حين تؤذي أنبياءها وتقابلهم بقبيح القول أو العمل ؟، وكيف لا يكفيه وقد سارت الركبان بأن "لحوم العلماء مسمومةٌ" فما الشأن بلحوم الأنبياء ؟.
                          أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                          والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                          وينصر الله من ينصره

                          تعليق


                          • #14
                            نماذج من انتقام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم

                            في مكة .. "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[1]":
                            قال ابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير عند قوله تعالي "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ":".. التعبير عنهم بوصف {المستهزئين} إيماء إلى أنه كفاه استهزاءهم وهو أقلّ أنواع الأذى، فكفايته ما هو أشدّ من الاستهزاء من الأذى مفهوم بطريق الأحْرى.
                            وتأكيد الخبر بإنّ لتحقيقه اهتماماً بشأنه لا للشكّ في تحقّقه، والتّعريف في {المستهزءين} للجنس فيفيد العموم، أي كفيناك كل مستهزء.
                            وفي التّعبير عنهم بهذا الوصف إيماء إلى أن قصارى ما يؤذونه به الاستهزاء، كقوله تعالى:{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران : 111 ]، فقد صرفهم الله عن أن يؤذوا النبي بغير الاستهزاء، وذلك لطف من الله برسوله.
                            ومعنى الكفاية تولّي الكافي مهمَ المكفي، فالكافي هو متولي عمل عن غيره لأنه أقدر عليه أو لأنه يبتغي راحة المكفي، يقال : كفيتُ مهمك، فيتعدّى الفعل إلى مفعولين ثانيهما هو المهم المكفي منه، فالأصل أن يكون مصدراً فإذا كان اسم ذات فالمراد أحواله التي يدلّ عليها المقام، فإذا قلت: كفيتك عدوّك، فالمراد: كفيتك بأسه، وإذا قلت: كفيتك غريمك، فالمراد: كفيتك مطالبتَه.
                            فلما قال هنا {كفيناك المستهزئين} فهم أن المراد كفيناك الانتقام منهم وإراحتك من استهزائهم"أهـ.
                            وقال ابن هشام في السيرة النبوية تحت عنوان "كفاية الله أمر المستهزئين"[2]: ".. قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله تعالى صابرا محتسبا، مؤديا إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء، وكان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر من قومهم وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم.
                            من بني أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب: الأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه به فقال اللهم أعم بصره وأثكله ولده.
                            ومن بني زهرة بن كلاب : الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة.
                            ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة : الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
                            ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب : العاص بن وائل بن هشام.
                            ومن بني خزاعة : الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن ( لؤي بن ) ملكان فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى عليه (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر 94-96].
                            قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير ، أو غيره من العلماء أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فمر به الأسود بن المطلب، فرمى في وجهه بورقة خضراء فعَمِي.
                            ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه فاسْتَسْقَى بطنه فمات منه حَبَنَا[3].
                            ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله كان أصابه قبل ذلك بسنين وهو يجرّ سِبله[4]، وذلك أنه مر برجل من خزاعة وهو يَريش[5] نبلا له فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش في رجله ذلك الخدش وليس بشيء، فانتقَض به فقتله.
                            ومر به العاص بن وائل ، فأشار إلى أخمص[6] رجله وخرج على حمار له يريد الطائف ، فربض به على شِبْرِقَةٍ[7] فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته.
                            ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا، فقتله".
                            فهؤلاء خمسة من أساطين الكفر بمكة اعتدوا على مقام النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، فما كان من الله إلا وأنهى حياتهم بأساليب شتى نكالاً لهم في الدنيا وتمهيدًا لعذاب السعير ونار الخلد في الآخرة.
                            مع فرعون هذه الأمة (أبي جهل):
                            روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال أبو جهل هل يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْن أَظهُرِكُم، قَالَ فَقِيلَ نَعَمْ فَقَالَ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيتُهُ يَفعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ قَالَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ قَالَ فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ قَالَ فَقِيلَ لَهُ مَا لَكَ فَقَالَ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ شَيْءٌ بَلَغَهُ
                            { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى }يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلَّا لَا تُطِعْهُ}[8].
                            يقول الإمام النووي رحمه الله في تعليقه على هذا الحديث: (..لهذا الحديث أمثلة كثيرة في عصمته صلى الله عليه وسلم من أبي جهل وغيره ، ممن أراد به ضررا ، قال الله تعالى : { والله يعصمك من الناس } .. والله أعلم".
                            وعندما نتحدث عن نماذج نصرة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سوف نرى كيف أن مصير "أبي جهل" كان القتل على يد شبلين من أشبال الإسلام اللذين ساءهما تطاول "أبي جهل" على مقام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
                            الأسْدُ تنتصر لرسول الله (مصير عتبة بن أبي لهب):
                            كان "عتبة بن أبي لهب"[9] من أشد المتطاولين على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، بلغ من جرمه وعدوانه أن أمسك بتلابيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفل في وجهه الشريف، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلط عليه الله كلبًا من كلابه.
                            ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره[10] أن ابن عساكر أورد في "تاريخ دمشق" في ترجمة "عتبة بن أبي لهب" من طريقه عن هَبَّار بن الأسود قال: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام، فتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه، سبحانه، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى.
                            فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ابعث إليه كلبا من كلابك"، ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال: يا بني، ما قلت له؟ فذكر له ما قال له، قال: فما قال لك؟ قال: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك" قال: يا بني، والله ما آمنُ عليك دُعاءه.
                            فسرنا حتى نزلنا الشراة، وهي مأْسَدَة، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب، فقال الراهب: يا معشر العرب، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم؟ فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً -والله-ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها. ففعلنا، فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض، فوثب، فإذا هو فوق المتاع، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة فَفَضخ رأسه. فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد.
                            وروى البيهقي[11] عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه أن عتبة بن أبي لهب قال: يا محمد هو يكفر برب النجم، إذا هوى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلط عليه كلبا من كلابك)، وكان أبو لهب يحتمل البز الى الشام، ويبعث بولده مع غلمانه ووكلائه، ويقول: إنكم قد عرفتم سني وحقي، وإن محمدا قد دعا على ابني دعوة، والله ما آمنها عليه، فتعاهدوه، فكانوا إذا نزلوا المنزل ألزقوه الى الحائط وغطوا عليه الثياب والمتا ع حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء ليلا، فطاف بهم الاسد، فجعل عتبة يقول: يا ويل أمي هو والله آكلي كما دعا محمد علي، قتلني محمد وهو بمكة وأنا بالشام، لا والله ما أظلت السماء، على ذي لهجة أصدق من محمد، ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه ثم جاء النوم، فحاطوا أنفسهم بمتاعهم ووسطوه بينهم، وناموا فجاء الاسد يهمس يستنشق رؤوسهم رجلا رجلا، حتى انتهى إليه، وقال هبار: فجاء الاسد فشم وجوهنا فلما لم يجد ما يريد تقابض ثم وثب، فإذا هو فوق المتاع فشم وجهه ثم هزمه هزمة ففضخ رأسه فقال وهو بآخر رمق: ألم أقل لكم ان محمدا أصدق الناس ؟ ومات فبلغ ذلك أبا لهب، فقال: ألم أقل لكم اني أخاف عليه دعوة محمد ؟ قد والله عرفت ما كان لينفلت من دعوة محمد.
                            وذكر الصالحي صاحب "سبل الهدي والرشاد" أن حسان بن ثابت رضى الله عنه قال في ذلك:
                            سائل بن الأشقر إن جئتهم ما كان أنباء أبي واسع؟
                            لا وسع الله قبره بل ضيق الله على القاطع
                            من يرجع العامَ إلى أهله فَما أكِيلُ السّبْع بالرَّاجعِ
                            وفي المدينة .. (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[12]:
                            قال الحافظ ابن كثير في تفسير قول الله تعالي: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة (67)]: ".. وقوله: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } أي: بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك.
                            وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يُحْرَس كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا يحيى، قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث: أن عائشة كانت تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة، وهي إلى جنبه، قالت: فقلتُ: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: "ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة؟" قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال: "من هذا؟" فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: "ما جاء بك؟" قال: جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت: فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه. أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، به[13]، وفي لفظ: سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مَقْدَمِه المدينة. يعني: على أثر هجرته إليها بعد دخوله بعائشة، رضي الله عنها، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.
                            وقال ابن أبي حاتم: حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نزيل مصر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث بن عُبَيد -يعني أبا قدامة-عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة [رضي الله عنها] قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة، وقال: "يأيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل".
                            وهكذا رواه الترمذي، عن عبد بن حُمَيد وعن نصر بن علي الجَهْضمي، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم، به. ثم قال: وهذا حديث غريب.
                            وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه، من طرق مسلم بن إبراهيم، به. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وكذا رواه سعيد بن منصور، عن الحارث بن عُبَيد أبي قدامة الأيادي عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة، به[14].
                            ثم قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا عن الجُرَيري، عن ابن شقيق قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس. ولم يذكر عائشة.."[15]، وأورد الحافظ ابن كثير – رحمه الله – روايات الحديث من تفسير الإمام الطبري – رحمه الله – ثم قال:
                            " .. ومن عصمة الله عز وجل لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومُعَانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبَغْضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارًا، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته العظيمة. فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا، ثم قيض الله عز وجل له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم -وهي المدينة، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه الله منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًا يطول ذكرها، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة: فقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو مَعْشَرٍ، عن محمد بن كعب القُرَظِي وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط[16] سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال: "الله عز وجل"، فَرُعِدَت يد الأعرابي وسقط السيف منه، قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله عز وجل: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }[17].
                            وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القَطَّان، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار، نزل ذات الرِّقاع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال غَوْرَث بن الحارث من بني النجار: لأقتلن محمدًا. فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له: أعطني سيفك. فإذا أعطانيه قتلته به، قال: فأتاه فقال: يا محمد، أعطني سيفك أشيمُه. فأعطاه إياه، فَرُعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حال الله بينك وبين ما تريد" فأنزل الله، عز وجل: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
                            وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة "غَوْرَث بن الحارث" مشهورة في الصحيح[18]"[19].
                            التيس ينتقم للنبي الأكرم (مصير عبد الله بن قمئة):
                            وهذا مجرم آخر تطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يقتله، فكان جزاؤه أن لقي حتفه بقرني تيس ألقاه من فوق الجبل، روى أصحاب السير والمغازي: لما رأى خالد بن الوليد الرُّمَاةَ يوم أحد قد اشتغلوا بالغنيمة، ورأى ظهورَهم خاليةً، صاح في خَيْله من المُشْرِكِين، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم، فهزموهم، وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحَجَر، فكسر أنفه ورباعيته، وشُجَّ في وجهه، فأثقله، وتفرق عنه أصحابُه، وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم فذَبَّ مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقتله ابنُ قَمِئة، وهو يرى أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم فرجع، وقال: إني قتلتُ محمداً، وصاح صارخ : ألا إن محمداً قد قُتِل.
                            روي الطبراني في المعجم الكبير[20] بسنده عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رماه عبد الله بن قمئة بحجر يوم أحد فشجه في وجهه وكسر رباعيته وقال: خذها وأنا ابن قمئة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه : " ما لك أقمأك الله[21] ؟ "، فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة[22].
                            صاعقة السماء تحرق المتآمرين:
                            وهذا مجرم آخر من مجرمي المنافقين لم يكتفي بتحريضه على قتل سبعين من قراء الصحابة في بئر المعونة[23]، بل سعى إلى اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفظ الله رسوله صلى الله عليه وسلم وانتقم من أعدائه.
                            روى الطبراني في المعجم الكبير[24] والمعجم الأوسط بسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَرْبَدَ بن قَيْسِ بن جُزِيِّ بن خَالِدِ بن جَعْفَرِ بن كِلابٍ، وَعَامِرَ بن الطُّفَيْلِ بن مَالِكٍ قَدِمَا الْمَدِينَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْتَهَيَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ، فَجَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ عَامِرُ بن الطُّفَيْلِ: يَا مُحَمَّدُ، مَا تَجْعَلُ لِي إِنْ أَسْلَمْتُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَكَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ، قَالَ عَامِرُ بن الطُّفَيْلِ: أَتَجْعَلُ لِيَ الأَمْرَ إِنْ أَسْلَمْتُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَلا لِقَوْمِكَ، وَلَكِنْ لَكَ أَعِنَّةُ[25] الْخَيْلِ، قَالَ: أَنَا الآنَ فِي أَعِنَّةِ خَيْلِ نَجْدٍ، اجْعَلْ لِيَ الْوَبَرَ، وَلَكَ الْمَدَرَ[26]، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لا، فَلَمَّا قَفَا[27] مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَامِرٌ: أَمَا وَاللَّهِ لأَمْلأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلا وَرِجَالا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:يَمْنَعُكَ اللَّهُ، فَلَمَّا خَرَجَ أَرْبَدُ وَعَامِرٌ، قَالَ عَامِرٌ: يَا أَرْبَدُ، أَنَا أَشْغَلُ عَنْكَ مُحَمَّدًا بِالْحَدِيثِ، فَاضْرِبْهُ بِالسَّيْفِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا قَتَلْتَ مُحَمَّدًا لَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنْ يَرْضَوْا بِالدِّيَةِ، وَيَكْرَهُوا الْحَرْبَ، فَسَنُعْطِيهِمُ الدِّيَةَ، قَالَ أَرْبَدُ: أَفْعَلُ، فَأَقْبَلا رَاجِعَيْنِ إِلَيْهِ، فَقَالَ عَامِرٌ: يَا مُحَمَّدُ، قُمْ مَعِي أُكَلِّمْكَ، فَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَلَيَا إِلَى الْجِدَارِ، وَوَقَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُهُ، وَسَلَّ أَرْبَدُ السَّيْفَ، فَلَمَّا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَائِمِ السَّيْفِ يَبِسَتْ عَلَى قَائِمِ السَّيْفِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ سَلَّ السَّيْفِ، فَأَبْطَأَ أَرْبَدُ عَلَى عَامِرٍ بِالضَّرْبِ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَى أَرْبَدَ وَمَا يَصْنَعُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمَا، فَلَمَّا خَرَجَ عَامِرٌ وَأَرْبَدُ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَا بِالْحَرَّةِ حَرَّةِ وَاقِمٍ، نَزَلا فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا سَعْدُ بن مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ، فَقَالا: اشْخَصَا يَا عَدُوَّيِ اللَّهِ، لَعَنَكُمَا اللَّهُ، قَالَ عَامِرٌ: مَنْ هَذَا يَا سعدُ؟ قَالَ: هَذَا أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ الْكَاتِبُ، قَالَ: فَخَرَجَا حَتَّى إِذا كَانَا بِالرَّقْمِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَرْبَدَ صَاعِقَةً فَقَتَلَتْهُ، وَخَرَجَ عَامِرٌ إِذَا كَانَ بِالْحَرِّ، ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَرْحَةً فَأَخَذَتْهُ، فَأَدْرَكَهُ اللَّيْلُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بني سَلُولٍ، فَجَعَلَ يَمَسُّ قُرْحَتَهُ فِي حَلْقِهِ، وَيَقُولُ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْجَمَلِ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ، يَرْغَبُ أَنْ يَمُوتَ فِي بَيْتِهَا، ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ، فَأَحْضَرَهُ حَتَّى مَاتَ عَلَيْهِ رَاجِعًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمَا: "اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ"[الرعد آية 8] إِلَى قَوْلِهِ: "وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍِ"[الرعد آية 11] ، قَالَ: الْمُعَقِّبَاتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَ مُحَمَّدًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَرْبَدَ وَمَا قَبْلَهُ بِهِ، قَالَ: "هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمعًا"[الرعد آية 12] إِلَى قَوْلِهِ: "وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ"[الرعد آية 13][28] .
                            الأرض تنتصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
                            أخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما بألفاظ متقاربة عن أنس رضي الله عنه قال: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا (عند مسلم : كَانَ مِنَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ) فَأَسْلَمَ وَقَرَأَالْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، [وعند مسلم : فَانْطَلَقَ هَارِباً حَتَّىَ لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ . قَالَ : فَرَفَعُوهُ ] فَكَانَ يَقُولُ :"مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ " [ وعند مسلم : قَالُوا : هَذَاقَدْ كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ ، فَأُعْجِبُوا بِهِ]، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ [ وعند مسلم : فَمَا لَبِثَأَنْ قَصَمَ اللهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ ] ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ[29] [وعند مسلم : قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَىَ وَجْهِهَا] فَقَالُوا : " هَذَا فِعْلُمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَقَالُوا: "هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَمِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ "، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الْأَرْضِ مَااسْتَطَاعُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَمِنْ النَّاسِ[30] فَأَلْقَوْهُ [ وعند مسلم : فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذا][31].
                            فهذا الأرض الجامدة تننقم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المتطاول المجرم، وتتركه عبرة وعظة لمن يعتبر أو يتعظ، يقول شيخ الإسلام ابنتيمية في "الصارم المسلول" معلقاً على القصة: "فهذا الملعونُالذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له ؛ قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مراراً ، وهذا أمرٌ خارجٌ عنالعادة ، يدلُ كلّ أحدٍ على أن هذا عقوبة لما قالهُ، وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجُرمَ أعظمُ من مجرد الارتداد، إذ كانعامةُ المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن اللهَ منتقمٌ لرسولهِ صلى اللهُعليه وسلم ممن طعن عليه وسبهُ، ومظهرٌ لدينه، ولكذب الكاذب إذا لم يمكن للناس أن يقيموا عليه الحد"[32].
                            مزق خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان يمزق ملكه
                            وها هو كسرى عظيم الفرس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرأ ويمزق خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه الذي يدعوه إلى الإسلام، فيكون الجزاء من جنس العمل ولا تمض إلا أيام ويمزق الله ملكه وكأنه بتمزيقه لخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمزق ملكه هو، بل ومزق ملك الفرس الذي أنهى المسلمون دولتهم في سلسلة من الفتوحات المجيدة.
                            روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ[33].
                            قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": " .. وفي حديث عبد الله بن حذافة " فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم مزق ملكه " وكتب – أي كسرى - إلى باذان عامله على اليمن: ابعث من عندك رجلين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز، فكتب باذان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه في هذه الليلة ، قال : وكان ذلك ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع ، وإن الله سلط عليه ابنه شيرويه فقتله .
                            وروى البيهقي من طريق ابن عون عن عمير بن اسحاق رضي الله عنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى كسرى وقيصر، فأما قيصر فوضعه وأما كسرى فمزقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية)[34].
                            وكان مقتل كسرى كبير الفرس على يد أقرب الناس إليه "شيرويه" ابنه الكبير فيقتله، ثم ما يلبث أن يُقتل هو، ثم يقُتل من قتله، وحتى تمزق ملك كسرى حتى أخذه المسلمون وفتحوا بلاده كلها في عهد الراشدين.
                            والكلاب تثأر لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
                            ومن الوقائع العجيبة في انتقام الله عزوجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ما ذكره الحافظ ابن حجر في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"؛ حيث ذكر الحافظ ابن حجر ".. أن بعض أمراء المغل[35] تنصر فحضر عنده جماعة من كبار النصارى والمغل فجعل واحد منهم ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم وهناك كلب صيد مربوط فلما أكثر من ذلك وثب عليه الكلب فخمشه[36] فخلصوه منه.
                            وقال بعض من حضر: هذا بكلامك في محمد صلى الله عليه وسلم.
                            فقال كلا بل هذا الكلب عزيز النفس رآني أشير بيدي فظن أني أريد أن أضربه، ثم عاد إلى ما كان فيه فأطال فوثب الكلب مرة أخرى فقبض على زردمته[37] فقلعها فمات من حينه فأسلم بسبب ذلك نحو أربعين ألفا من المغل"[38].
                            وقائع متفرقة:
                            ومن الوقائع التي تندرج تحت انتقام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ما ذكره القاضي عياض في كتابه الرائع "الشفا " من قصة عجيبة لساخرٍ بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن فقهاءَالقيروانِ وأصحابَ سُحنُون أفتوا بقتلِ إبراهيم الفزاري، وكان شاعراً متفنناً فيكثير من العلومِ، وكان يستهزىء باللهِ وأنبيائهِ ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر القاضي يحيى بن عمرَ بقتله وصلبه، فطُعن بالسكينِ وصُلب مُنكسًا، ثم أُنزلوأُحرق بالنارِ، وحكى بعضُ المؤرخين أنه لما رُفعت خشبته، وزالت عنها الأيدياستدارت وحولته عن القبلةِ فكان آيةً للجميعِ، وكبر الناسُ، وجاءَ كلبٌ فولغ فيدمهِ[39].
                            ومن ذلك أيضًا ما ذكره الحافظ ابن كثير في كتاب "البدايةِ والنهايةِ" عند أحداثِسنة (761 هـ ) ما نصه:"وفي يوم الجمعة السادس عشر منه[40] قُتل عثمانُ بنُ محمد المعروف بابنِ دبادب الدقاق بالحديدِ على ما شهد عليه به جماعةٌ لا يمكنُ تواطؤهمعلى الكذبِ ، أنه كان يكثرُ من شتمِ الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم ، فرُفع إلىالحاكمِ المالكي وادعى عليه فأظهر التجابنَ ، ثم استقر أمرهُ على أن قتلَ قبحهُاللهُ وأبعدهُ ولا رحمهُ.
                            وفي يوم الاثنين السادس والعشرين منه[41] قتل محمدالمدعو زبالة الذي بهتار لابن معبد على ما صدر منه من سب النبي صلى الله عليه وسلم، ودعواه أشياء كفرية ، وذكر عنه أنه كان يكثر الصلاة والصيام ، ومع هذا يصدر منهأحوال بشعة في حق أبي بكر وعمر وعائشة أم المؤمنين ، وفي حق النبي صلى الله عليهوسلم ، فضربت عنقه أيضاً في هذا اليوم في سوق الخيل ولله الحمد والمنة"[42].
                            الخطيب المفوه يصبح حارس أحذية:
                            من القصص ذات العبر في عاقية المستهزئين والمتطاولين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكره الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في كتابه "كلمة الحق" عن والده محمد شاكر، وكيل الأزهر في مصر سابقاً، أن خطيباً مفوهًا فصيحًا كان يتوافد إليه الناس لسماع خطبه، حضر إليه ذات يوم في خطبته أحد أمراء مصر، فأراد هذا الخطيب مدح هذا الأمير والثناء عليه، وكان هذا الأمير قد أكرم طه حسين الذي كان يطعن في القرآن وفي العربية، فلما حضر طه حسين والأمير في الخطبة، قام هذا الخطيب المفوه يمدح ذلك الأمير قائلا له:
                            جاءه الأعمى فمــا عبس بوجه وما تولى
                            وهو يقصد من شعره هذا إساءة النبي عليه الصلاة والسلام، لأن الله قال عن قصته عليه الصلاة والسلام مع ابن أم مكتوم " عبس وتولى أن جاءه الأعمى " فلما صلى الخطيب بالناس قام الشيخ محمد شاكر والد الشيخ أحمد شاكر رحمهما الله ، وقال للناس : أعيدوا صلاتكم فإن إمامكم قد كفر، لأنه تكلم بكلمة الكفر.
                            يعلق الشيخ أحمد شاكر قائلاً: ولم يدع الله لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسمُ بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين،وبعد أن كان عالياً منتفخاً، مستعزًا بمَن لاذ بهم من العظماء والكبراء رأيتهمهيناً ذليلاً، خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظهافي ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه؛ فماكان موضعاً للشفقة، ولا شماتة فيه؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيتمن عبرة وعظة[43].
                            انتقص النبي تزلفًا لنصراني فأهلك الله أهله وأولاده:
                            ومن قصص المعاصرين كذلك ذات العبر الدالة على الخاتمة السيئة التي تنتظر كل من تطاول وتجرأ على مقام النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، ما ذكره الشيخ محمد صالح المنجد من أن أحدهم ذهب لنيل شهادة الدكتوراه خارج بلده، فلما أتم دراسته وكانت تتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، طلب منه أستاذه من النصارى أن يسجل في رسالته ما فيه انتقاص للنبي صلى الله عليه وسلم وتعريض له ، فتردد الرجل بين القبول والرفض، واختار في نهاية الأمر دنياه على آخرته، وأجابه إلى ما أراد طمعاً في تلك الشهادة، فما أن عاد إلى بلده حتى فوجئ بهلاك جميع أولاده وأهله في حادث مروع، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى[44].
                            (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)[45]:
                            الزمان: الأحد الأول من أغسطس 1993م-الساعة الثانية ظهرًا.
                            المكان: "ركن الخطباء" فى حديقة "هايد بارك " الشهيرة بوسط العاصمة البريطانية "لندن".
                            الحدث: اعتاد بعض المسلمين الإنكليز المؤهلين لدعوة بنى جلدتهم الى الاسلام أن يتواجدوا بصفة أسبوعية فى "ركن الخطباء" بالحديقة المذكورة، ليتناوبوا على الخطابة داعين إلى توحيد الله عز وجل، وموضحين حقائق الإسلام، ومفندين شبهات أعدائه، وفى اليوم المذكور وقف الأخ أبو سفيان داعيًا إلى الله عز وجل، فانبرى له رجل بريطانى نصرانى فأخذ يقاطعه ويشوش عليه، ثم تدني إلى ما هو أشنع من ذلك، فطوعت له نفسه أن يلعن ويسب الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم، والاسلام، فلم يمهله الله طرفة عين، وإذا بالخبيث يخر فى الحال على وجهه صريعًا لليدين وللفم بعد أن بال على نفسه، وأخذت الرغوة الكريهة المقززة تنبعث من فمه، وفشلت كل محاولات إسعافه إذ كان قد نفق فى الحال، وأفضى إلى جبار السموات والأرض جل وعلا ،وكان أحد رجال الشرطة البريطانية المخصصين لحفظ الأمن والنظام يراقب الموقف برمته مع الحاضرين عن كثب، فلما نفضوا أيديهم منه ،وآيسوا من حياته، أقبل الشرطى نحو أخينا "أبى سفيان"قائلا له :"هذا ربك قد انتقم منه فى الحال ؟"،فأجابه "أبو سفيان": "نعم هو الله الذى فعل ذلك، فادعوا الروح القدس كي تعيده إلى الحياة إن استطعتم"[46].



                            2- الحجر 95

                            3- السيرة النبوية لابن هشام (2/ 19) دار الحديث.

                            1- حَبِنَ عظمت بطنُه خلقةً أو من داء، والمقصود في الحديث أنه أصيب بالماء الأصفر (الصفراء)، والله تعالي أعلم.

                            2- إزاره

                            3- أي يضع علي السهام ريشًا لها.

                            4- الأخمص: باطن القدم الذي يتجافي عن الأرض.

                            5-قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر(الشِّبْرِق : نبتٌ حجازي يُؤْكل وله شْوكٌ وإذا يبِس سُمّى الضَّريع : أي لا بأسَ بقَطْعِهما من الحَرَم إذا لم يُسْتَأصَلا ).

                            1- رواه مسلم في صحيحه كتاب صفات المنافقين وأحكامهم باب "إن الإنسان ليطغى آن راه استغني".

                            2- ذكر ابن عبد البر في "أسد الغابة" أن "عتبة بن أبي لهب" أسلم في عام الفتح، وذكر غيره أن المقصود بالقصة أخوه "عتيبة"، والله تعالي أعلم.

                            3- تفسير ابن كثير (7/342).

                            4- دلائل النبوة، الأثر رقم 622 ، وقال البيهقي إن اسم صاحب القصة "لهب بن أبي لهب".

                            1- المائدة 67.

                            2- المسند (6/140) وصحيح البخاري كتاب الجهاد برقم (2885)، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم (2410).

                            1- سنن الترمذي برقم (5037) وتفسير الطبري (10/469)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3046).

                            2- تفسير ابن كثير (3/109) طـ المكتبة التوفيقية.

                            3-اخترط أي سل السيف من غمده.

                            4- تفسير الطبري (10 / 470).

                            1- في إسناد ابن أبي حاتم موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، والقصة أصلها في صحيح البخاري في كتاب الجهاد والسير باب باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة.

                            2- تفسير ابن كثير (3/111).

                            3- المعجم الكبير أثر رقم 7476.

                            4- أقمأك الله: يعني قطعك الله.

                            5- علق الهيثمي على هذه الرواية قائلاًرواه الطبراني وفيه حفص بن عمر العدني وهو ضعيف .

                            6- روى الإمام البخاري قصة بئر معونة في كتاب المغازي، وأوردها الإمام مسلم في كتاب الإمارة، ولتفصيل هذه الوقعة راجع سيرة ابن هشام (3/152) طـ دار الحديث.

                            7- المعجم الكبير الأثر رقم 10608.

                            1- أعنة جمع عنان وهو اللجام الذي يمسك به الدابة.

                            2- قال ابن منظور في "لسان العرب":" ..وقول عامر للنبي صلى الله عليه وسلم لنا الوَبَرُ ولكُمُ المَدَرُ إِنما عن به المُدُنَ أَو الحَضَرَ لأَن مبانيها إِنما هي بالمَدَرِ وعنى بالوبر الأَخبية لأَن أَبنية البادية بالوبر"، والأخبية هي الخيام.

                            3- قال ابن الأثير في النهاية: قفا أي ذَهب مُوَلّياً وكأنه من القَفا : أي أعطاه قَفاه وظَهْره.

                            4- قال العراقي في المعني عن حمل الأسفار في تخريج أحاديث الأحياء: أخرجه الطبراني في الأوسط والأكبر من حديث ابن عباس بطوله بسند لين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (رقم 10629) رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه .. وفي إسنادهما عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف.


                            1-رمته من القبر .

                            2- أي ليس من فعلهم

                            3- رواه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام برقم (3617)، ورواه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم برقم 2781.

                            4- الصارم المسلول صـ 108.

                            5- صحيح البخاري كتاب المغازي باب كتاب رسول الله إلى كسرى وقيصر.

                            1- سنن البيهقي (9/179) طـ دار الفكر.

                            2- المغل المقصود بهم المغول.

                            3- قال في لسان العرب: الخَمْشُ الخدْشُ في الوجه وقد يستعمل في سائر الجسد.

                            4- المقصود حنجرته، قال في لسان العرب: "( زردم ) زَرْدَمَهُ خنقه وزَرْدَبَه كذلك وزَرْدَمَه عصر حلقه والزَّرْدَمَةُ الغَلْصَمَةُ وقيل الزَّرْدَمَهُ من الإنسان تحت الحلقوم واللسانُ مركّب فيها".

                            5- الدرر الكامنة جزء 3 صفحة 202 .

                            6- الشفا (430) ط دار الحديث.

                            7- من شهر رمضان عام 761 هجريًا.

                            1- من شهر رمضان عام 761 هجريًا.

                            2- البداية والنهاية (14/273) طـ مكتبة المعارف بيروت.

                            3- كلمة الحق صـ 176.

                            1- ذكر القصة الشيخ محمد صالح المنجد في خطبة له بعنوان "انصر نبيك يا مسلم" تعرض فيها للجريمة الدانماركية بالتطاول على خير البرية ÷.

                            2- القمر :42.

                            3- مجلة بريد الإسلام العدد الثالث، وأكد وقوع هذه القصة الشيخ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله في محاضرة له بعنوان "تبًا لك يا دانمارك" تعرض فيها للجريمة الدانماركية، فجزاه الله خيرًا.
                            أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                            والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                            وينصر الله من ينصره

                            تعليق


                            • #15
                              وللمستهزئين بسنة النبي الهادي صلى الله عليه وسلم مثلها

                              ومما يلحق بالتطاول على مقام النبي صلى الله عليه وسلم، الاستهزاء بسنته وهديه صلى الله عليه وسلم، وهو ما بليت به الأمة في هذا العصر، وقد حوت كتب السير والتاريخ أمثلة لعاقبة من استهزأ بسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
                              المتكبر على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                              روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضى الله عنه أن أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِمَالِهِ فَقَالَ كُلْ بِيَمِينِكَ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ لَا اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ[1].
                              فهذا صحابي[2] تكبر على أمر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان جزاؤه أن استجاب الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فيه، وأصابه بالشلل، فما الشأن بمن لا يرفع لأوامر وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسًا.
                              عاقبة المستنكر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                              ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضى الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ أَوْ لَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ[3].
                              قال المباركفوي في "تحفة الأحوذي": ".. القول الظاهر الراجح هو حمله على الظاهر ولا حاجة إلى التأويل مع ما فيه .. ويؤيد حمله على الظاهر ما حكي عن بعض المحدثين أنه رحل إلى دمشق لأخذ الحديث عن شيخ مشهور بها فقرأ جملة لكنه كان يجعل بيني وبينه حجابا ولم ير وجهه فلما طالت ملازمته له ورأى حرصه على الحديث كشف له الستر فرأى وجهه وجه حمار فقال له احذر يا بني أن تسبق الإمام فإني لما مر بي الحديث استبعدت وقوعه فسبقت الإمام فصار وجهي كما ترى والله تعالى أعلم"[4].
                              عاقبة المحاكي الساخر بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم:
                              أخرج الحاكم في مستدركه بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قال : كان فلان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء اختلج[5] وجهه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « كن كذلك » فلم يزل يختلج حتى مات، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه[6].
                              عاقبة المستهزئ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم (رجل يلد مثل المرأة):
                              ومن ذلك ما أورده الحافظ ابن كثير في أحداث عام 665 هجريًا قال: ".. وحكى ابن خلكان فيما نقل من خط الشيخ قطب الدين اليونيني قال: بلغنا أن رجلا يدعى أبا سلامة[7] من ناحية بصرى، كان فيه مجون واستهتار، فذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة، فقال: والله لا أستاك إلا في المخرج - يعني دبره - فأخذ سواكا فوضعه في مخرجه ثم أخرجه، فمكث بعده تسعة أشهر[8] فوضع ولدا على صفة الجرذان له أربعة قوائم، ورأسه كرأس السمكة[9]، وله دبر كدبر الارنب.
                              ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات، فقامت ابنة ذلك الرجل فرضخت رأسه فمات، وعاش ذلك الرجل بعد وضعه له يومين ومات في الثالث، وكان يقول هذا الحيوان قتلني وقطع أمعائي، وقد شاهد ذلك جماعة من أهل تلك الناحية وخطباء ذلك المكان، ومنهم من رأى ذلك الحيوان حيا، ومنهم من رآه بعد موته"[10].
                              مستهزئ آخر:
                              ومن قصص العاقبة السيئة للمستهزئين ما أورده الإمام "زين الدين العراقي" في كتابه "طرح التثريب" في تعليقه على حديث: (إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِه، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ)، قال الإمام العراقي: بَلَغَنَا أَنَّ شَخْصًا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ وَأَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ مِنْهُ[11] فَاسْتَيْقَظَ مِنْ النَّوْمِ وَيَدُهُ فِي دَاخِلِ دُبُرِهِ مَحْشُوَّةً فَلَمْ تَخْرُجْ حَتَّى تَابَ عَنْ ذَلِكَ وَأَقْلَعَ.
                              وعلق الإمام العراقي على هذه الحادثة قائلاً: يَنْبَغِي لِلسَّامِعِ لِأَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَلَقَّاهَا بِالْقَبُولِ وَدَفْعِ الْخَوَاطِرِ الرَّادَّةِ لَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَضْرِبُ بِهَا الْأَمْثَالَ فَقَدْ ، وَالْأَدَبُ مَعَ أَقْوَالِهِ بَعْدَهُ كَالْأَدَبِ مَعَهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ سَمِعَهُ يَتَكَلَّمُ فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحْفَظَ قُلُوبَنَا مِنْ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَيَرْزُقَنَا الْأَدَبَ مَعَ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ[12] .
                              صور أخرى من انتقام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
                              ولا تقتصر صور انتقام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، على ما ذكرناه، بل هناك صور أخرى أشارت إليها الأثار والأحاديث.
                              من ذلك أن يحولَ الله عزوجل بين المعتدي وبين ما أراد بخوف يقذفه في قلبه، أو ملكٍ يمنعُهُ مما أراد:
                              روى أبو نعيم الأصبهاني في "دلائل النبوة" بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنّ رجالاً من قريش اجتمعوا في الحجر، ثم تعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف أن لو قد رأوا محمدا لقد قمنا إليه مقام رجل واحدٍ فقتلناه قبل أن نفارقه، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت : هؤلاء الملأ من قومك لقد تعاهدوا لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك ، فليس منهم رجل واحدٌ إلا قد عرف نصيبه من ديتك، فقال : ( يا بنية اتيني بوضوئي) ، فتوضأ ، ثم دخل عليهم المسجد ، فلما رأوه قالوا : هاهو ذا ، وخفضوا أبصارهم ، وسقطت أذقانهم في صدورهم ، فلم يرفعوا إليه بصراً ، ولم يقم منهم إليه رجل ، فأقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم ، وأخذ قبضة من التراب ثم قال : (شاهت الوجوه)، ثم حصبهم بها فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصا حصاةٌ إلا قتل يوم بدر كافراً[13].
                              ومن صور حمايةِ الله لخليله صلى الله عليه وسلم كذلك، صرف الشتم والذّمّ والاستهزاءَ إلى غيره، فإذا بالمستهزئ يريدُ أن يشتمَهُ فيشتمَ غيره من حيث لا يشعر:
                              روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ[14].
                              قال ابن حجر في فتح الباري: كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح فيعدلون إلى ضده فيقولون مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا فعل الله بمذمم، ومذمم ليس هو اسمه ولا يعرف به فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفا إلى غيره.
                              ومن ذلك ما رواه ابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا: لما نزلت: (تبت يدا أبي لهب وتب) أقبلت العوراء أم جميل، ولها ولولة، وفي يديها فهر[15]، وهي تقول: (مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا) والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه الى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه، وأنا أخاف أن تراك، فقال: (إنها لن تراني)، وقرأ قرآنا فاعتصم به، كما قال تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) (الإسراء 45) فجاءت حتى أقامت على أبي بكر فلم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أبن الذي هجاني وهجا زوجي، فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت، وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها، وفي لفظ: يا أبا بكر، ما شأن صاحبك ينشد في الشعر، بلغني أن صاحبك هجاني.
                              فقال أبو بكر: والله ما صاحبي بشاعر ولا هجاك، فقالت: أليس قد قال: (في جيدها حبل من مسد)، فما يدريه ما في جيدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قل لها: هل ترين عندي أحدا، فانها لن تراني، جعل الله بيني وبينها حجابا)، فسألها أبو بكر، فقالت: أتهزأ بي والله، ما أرى عندك أحد، فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، إنها لم ترك، فقال: (حال بيني وبينها جبريل، يسترني بجناحيه حتى ذهبت)[16].



                              4- صحيح مسلم كتاب الأشربة باب آداب الطعام والشرب رقم 2021(عبد الباقي).

                              1- قال النووي في شرح مسلم: هذا الرجل هو ( بُسر )، ابن راعي العير، الأشجعي، كذا ذكر ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني ، وابن ماكولا وآخرون وهو صحابي مشهور عده هؤلاء وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وأما قول القاضي عياض - رضي الله عنه - : إن قوله : ما منعه إلا الكبر ، يدل على أنه كان منافقا ، فليس بصحيح ، فإن مجرد الكبر والمخالفة لا يقتضي النفاق والكفر ، لكنه معصية إن كان الأمر أمر إيجاب.

                              2- رواه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة باب "إثم من رفع رأسه قبل الإمام"، ومسلم برقم (427) عبد الباقي، وأصحاب السنن الأربعة.

                              3- تحفة الأحوذي برنامج موسوعة الكتب التسعة من شركة حرف.

                              4- اختلج : حرّك شفتيه وذقنه استهزاءً ومحاكاةً للنبيِّ÷.

                              5- أخرجه الحاكم في مستدركه، أثر رقم 4210، ورواه الطبراني في المعجم الكبير الأثر رقم 3096 ، ورواه البيهقي في دلائل النبوة الأثر رقم 2496.

                              6- قال محقق البداية والنهاية: في شذرات الذهب نقلا عن ابن خلكان 5 / 317: قرية يقال لها دير أبي سلامة، كان بها رجل من العربان فيه استهتار.

                              7- قال محقق البداية والنهاية: زيد في رواية الشذرات: وهو يشكو من ألم البطن والمخرج.

                              1- قال محقق البداية والنهاية: زيد في رواية الشذرات: وله أربعة أنياب بارزة وذنب طويل مثل شبر وأربع أصابع..

                              2- البداية والنهاية (13/289)تحقيق علي شيري دار إحياء التراث العربي.

                              3- يقصد الرجل بكلمته تلك الاستهزاء بحديث رسول الله ÷، أعاذنا الله من ذلك.

                              4- برنامج "جامع الفقه الإسلامي" من شركة حرف.

                              5- دلائل النبوة 1/65

                              1- صحيح البخاري كتاب المناقب باب ما جاء في أسماء رسول الله ÷.

                              2- الفهر: حجر ملء الكف.

                              3- رواه الحاكم في المستدرك كتاب التفسير باب ومن تفسير سورة بني إسرائيل وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان في صحيحه رقم (6511) وقال شعيب الأرناوؤط: صحيح بشواهده، والبيهقي في دلائل النبوة باب قول الله تعالي "وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا.
                              أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى
                              والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضـة
                              وينصر الله من ينصره

                              تعليق

                              مواضيع ذات صلة

                              تقليص

                              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 24 ينا, 2024, 12:01 ص
                              ردود 0
                              6 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 24 ينا, 2024, 12:00 ص
                              ردود 0
                              2 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 23 أغس, 2023, 08:53 م
                              ردود 0
                              27 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 6 يون, 2023, 01:37 ص
                              ردود 0
                              14 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 4 يون, 2023, 03:05 ص
                              ردود 0
                              16 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              يعمل...
                              X