ما هو مصير أطفال النصارى في الآخرة ؟

تقليص

عن الكاتب

تقليص

(((ساره))) مسلمة ولله الحمد والمنة اكتشف المزيد حول (((ساره)))
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ما هو مصير أطفال النصارى في الآخرة ؟

    سؤال : ماهو مصير أطفال أهل الذمة - كاليهود والنصارى- في الآخرة ؟؟



    الجواب بإذن الله :

    [ ص: 1071 ] ذكر أحكام أطفالهم في الآخرة واختلاف الناس في ذلك ، وحجة كل طائفة على ما ذهبت إليه ، وبيان الراجح من أقوالهم .

    فذهبت طائفة من أهل العلم إلى التوقف في جميع الأطفال ، سواء كان آباؤهم مسلمين ، أو كفارا ، وجعلوهم بجملتهم في المشيئة .

    وخالفهم في ذلك آخرون ،فحكموا لهم بالجنة ، وحكوا الإجماع على ذلك .

    قال الإمام أحمد : لا يختلف فيهم أحد أنهم من الجنة .


    واحتج أرباب التوقف بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبد الله بن مسعود ، وأنس بن مالك ، وغيرهما : " إن الله وكل بالرحم ملكا ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قال الملك : يا رب ، أذكر أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيكتب كذلك ، وهو في بطن أمه " .

    وكذلك قوله في حديث ابن مسعود : " ثم يرسل إليه الملك ، فيؤمر بأربع كلمات : يكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد " متفق على صحته .

    [ ص: 1072 ] ووجه الدلالة من ذلك أن جميع من يولد من بني آدم - إذا كتب السعداء منهم ، والأشقياء قبل أن يخلقوا - وجب علينا التوقف في جميعهم ، لأنا لا نعلم هذا الذي توفي منهم هل هو ممن كتب سعيدا في بطن أمه ، أو كتب شقيا .

    واحتجت هذه الطائفة بما رواه مسلم في " صحيحه " عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت : دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله طوبى لهذا ! عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه ! قال : أو غير ذلك يا عائشة ؟ إن الله خلق للجنة أهلا : خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا : خلقهم لها ، وهم في أصلاب آبائهم " .

    وفي لفظ آخر : " وما يدريك يا عائشة ؟ " .

    قالوا : فهذا الحديث صحيح صريح في التوقف فيهم ، فإن الصبي كان من أولاد المسلمين ، ودعي النبي ] صلى الله عليه وسلم

    [ ليصلي عليه كما جاء ذلك منصوصا عليه .

    قال الآخرون : لا حجة لكم في شيء مما ذكرتم .

    أما حديث ابن مسعود ، وأنس فإنما يدل على أن الله سبحانه كتب سعادة الأطفال ، وشقاوتهم ، وهم في بطون أمهاتهم ، ولا ننفي أن تكون الشقاوة والسعادة بأشياء علمها سبحانه منهم - وإنهم عاملوها لا محالة - [ ص: 1073 ] تفضي بهم إلى ما كتبه ، وقدره ، إذ من الجائز أن يكتب سبحانه شقاوة من يشقيه منهم بأنه يدرك ، ويعقل ويكفر باختياره ، فمن يقول : " أطفال المؤمنين في الجنة " يقول : " إنهم لم يكتبوا في بطون أمهاتهم أشقياء " ، إذ لو كتبوا أشقياء لعاشوا حتى يدركوا زمن التكليف ، ويفعلوا الأسباب التي قدرت وصلة إلى الشقاوة التي تفضي بصاحبها إلى النار ، فإن النار لا تدخل إلا جزاء على الكفر ، والتكذيب الذي لا يمكن إلا من العاقل المدرك .

    والدليل على ذلك قوله تعالى : ( فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ) ، وقوله : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ، وقوله : ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ) ، وقوله لإبليس : ( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) ، إلى غير ذلك من النصوص التي هي صريحة في أن النار جزاء الكافرين المكذبين .

    وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - وإن كان مسلم رواه في " صحيحه " - فقد ضعفه الإمام أحمد وغيره .

    [ ص: 1074 ] وذكر ابن عبد البر علته بأن : " طلحة بن يحيى انفرد به عن عمته عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين ، وطلحة ضعيف .

    [ ص: 1075 ] وقد قيل : إن فضيل بن عمرو رواه عن عائشة بنت طلحة كما رواه طلحة بن يحيى سواء " هذا كلامه .

    قال الخلال : أخبرني منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد حدثهم قال : سمعت أبا عبد الله يسأل عن أطفال المسلمين ؟ فقال : ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة . أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم أن إسحاق بن منصور حدثهم قال : قال إسحاق بن راهويه : أما أولاد المسلمين فإنهم من أهل الجنة .

    أخبرني عبد الملك الميموني : أنهم ذاكروا أبا عبد الله في أطفال المؤمنين ، وذكروا له حديث عائشة - رضي الله عنها - في قصة الأنصاري ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، وإني سمعت أبا عبد الله يقول غير مرة : " وهذا حديث ضعيف " وذكر

    [ فيه ] رجلا ضعفه ، وهو طلحة ، وسمعته يقول غير مرة : " وأحد يشك أنهم في الجنة " .

    ثم أملى علينا الأحاديث فيه ، وسمعته غير مرة يقول : " هو يرجى لأبويه ، كيف يشك فيه ؟ " .

    وقال أبو عبد الله : واختلفوا في أطفال المشركين ، فابن عباس يقول : كنت أقول : "

    [ هم ] مع آبائهم " حتى لقيت رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثني عن رجل آخر من أصحاب النبي - صلى الله عليه [ ص: 1076 ] وسلم - أنه سئل عنهم ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين
    " .

    وقال الحسن بن محمد بن الحارث : سمعت أبا عبد الله يسأل عن السقط إذا لم تنفخ فيه الروح ، فقال : في الحديث " يجيء السقط محبنطئا " .

    قال الخلال : سألت ثعلبا عن " السقط محبنطئا " فقال : غضبان ، ويقال : قد ألقى نفسه .

    وقد أجبت عنه بعد التزام صحته بأن هذا القول كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يعلمه الله بأن أطفال المؤمنين في الجنة ، وهذا جواب [ ص: 1077 ] ابن حزم وغيره .

    وأجاب طائفة أخرى عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رد على عائشة - رضي الله عنها - لكونها حكمت على غيب لم تعلمه ، كما فعل بأم العلاء إذ قالت حين مات عثمان بن مظعون : شهادتي عليك أن الله أكرمك ، فأنكر عليها وقال لها : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " ثم قال : " أما هو فقد جاءه اليقين ، وأنا أرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به " ، وأنكر عليها جزمها وشهادتها على غيب لا تعلمه ، وأخبر عن نفسه - صلى الله عليه وسلم - أنه يرجو له الخير .

    ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن كان أحدكم مادحا أخاه فليقل : أحسب فلانا إن كان يرى أنه كذلك ، ولا أزكي على الله أحدا " .

    وقد يقال : إن من ذلك قوله في حديث لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - حين قال له : أعطيت فلانا ، وتركت فلانا ، وهو مؤمن - فقال : " أو مسلم " ، فأنكر عليه الشهادة له بالإيمان لأنه غيب ، دون الإسلام ، فإنه ظاهر .

    وإذا كان الأمر هكذا فيحمل قوله لعائشة - رضي الله عنها - : " وما [ ص: 1078 ] يدريك يا عائشة " على هذا المعنى ، كأنه يقول لها : إذا خلق الله للجنة أهلا ، وخلق للنار أهلا ، فما يدريك أن ذلك الصبي من هؤلاء ، أو من هؤلاء ؟

    وقد يقال : إن أطفال المؤمنين إنما حكم لهم بالجنة تبعا لآبائهم لا بطريق الاستقلال ، فإذا لم يقطع للمتبوع بالجنة كيف يقطع لتبعه بها ؟

    يوضحه أن الطفل غير مستقل بنفسه بل تابع لأبويه ، فإذا لم يقطع لأبويه بالجنة لم يجز أن يقطع له بالجنة ، وهذا في حق المعين ، فإنا نقطع للمؤمنين بالجنة عموما ، ولا نقطع للواحد منهم بكونه في الجنة ، فلهذا - والله أعلم - أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم العلاء حكمها على عثمان بن مظعون بذلك .

    واحتجوا أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ، حتى تكونوا أنتم تجدعونها ؟ " قالوا : يا رسول الله ، أرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، فلم يخصوا بالسؤال طفلا من طفل ، ولم يخص عليه السلام بالجواب بل أطلق الجواب كما أطلقوا السؤال ، ولو افترق الحال في الأطفال لفصل وفرق بينهم في الجواب .

    وهؤلاء لو تأملوا ألفاظه ، وطرقه لأمسكوا عن هذا الاحتجاج ، فإن هذا الحديث روي من طرق متعددة :

    فمنها حديث أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله [ ص: 1079 ] عنهما - : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين - أو أطفال المشركين - فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم " ، رواه عن أبي بشر جماعة منهم : شعبة ، وأبو عوانة .

    ومنها حديث الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين ، فقال : " الله أعلم إذ خلقهم ما كانوا عاملين " .

    ومنها حديث الوليد بن مسلم ، عن

    [ عتبة ] بن ضمرة أنه سمع عبد الله بن قيس مولى

    [ غطيف ] بن عفيف قال : سألت عائشة - رضي الله عنها - عن أولاد المشركين ، فقالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

    [ ص: 1080 ] [ ص: 1081 ] وهذه كلها صحاح تبين أن السؤال إنما وقع عن أولاد المشركين ، وقد جاء مطلقا في الحديث الآخر : " أرأيت من يموت وهو صغير " ، على أنه لو كان السؤال عن حكم الأطفال مطلقا لكان هذا الجواب غير ذلك على استواء أطفال المسلمين ، والمشركين ، بل أجاب عنهم جملة من جملة بقوله : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، فإذا كان سبحانه يعلم أن أطفال المسلمين لو عاشوا عملوا بطاعته ، وأطفال المشركين - أو بعضهم - لو عاشوا لكانوا كفارا ، كان الجواب مطابقا لهذا المعنى .
    اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

  • #2
    197 - فصل

    المذهب الثالث : أنهم في الجنة :

    وهذا قول طائفة من المفسرين والفقهاء والمتكلمين ، والصوفية ، وهو اختيار أبي محمد بن حزم وغيره .

    واحتج هؤلاء بما رواه البخاري في " صحيحه " عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر أن يقول لأصحابه : " هل رأى أحد منكم رؤيا " قال : فيقص عليه من شاء الله أن يقص ، وإنه قال لنا ذات غداة : " إنه أتاني الليلة آتيان . . . " وذكر الحديث ، وفيه : " فأتينا على روضة معتمة ، فيها من كل لون الربيع ، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا ، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط " ثم قال : " وأما الولدان حوله فكل مولود مات على الفطرة " ، فقال بعض المسلمين : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وأولاد المشركين " .

    قالوا : فهذا الحديث الصحيح الصريح هو فصل الخطاب .

    [ ص: 1111 ] وفي " مستخرج " البرقاني من حديث عوف الأعرابي ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن سمرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كل مولود يولد على الفطرة " فناداه الناس : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ قال : " وأولاد المشركين " .

    وقال أبو بكر بن حمدان القطيعي : حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا هوذة بن خليفة ، حدثنا عوف ، عن خنساء بنت معاوية قالت :

    [ حدثني عمي قال : ] قلت : يا رسول الله ، من في الجنة قال : " النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والموءودة في الجنة " ، وكذلك رواه بندار ، عن غندر [ ص: 1112 ] عن عوف .

    [ ص: 1113 ] واحتجوا بقوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) .

    واحتجوا بقوله : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ) .

    واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - حاكيا عن ربه تعالى أنه قال : " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا " .

    [ ص: 1114 ] واحتجوا أيضا بقوله تعالى : ( فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها ) . . . الآية ، وبقوله في النار : ( أعدت للكافرين ) ، وبقوله : ( وما كنا معذبين ) . . . الآية ، وبقوله : ( رسلا مبشرين ومنذرين ) . . . الآية ، وبقوله لإبليس : . . . ( لأملأن جهنم ) . . . الآية .

    قالوا : والقرآن مملوء من الأخبار بأن دخول النار إنما يكون بالأعمال ، بقوله : ( هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) ، وقوله : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) . . . الآية ، وبقوله : ( وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ) ، وقوله : ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ) ، وقوله : [ ص: 1115 ] ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) ، وقوله تعالى : ( وهل نجازي إلا الكفور ) ، وقوله : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) ، ونظير ذلك في القرآن كثير .

    وأيضا ، فالدار دار جزاء فلا يدخلها من لا ذنب له ، وما ثم إلا دار الثواب أو دار العقاب ، فإذا لم يدخلوا النار دخلوا الجنة .

    قالوا : وإذا كان الله ينشئ للجنة خلقا آخرين يدخلهم إياها بلا عمل ، فالأطفال الذين ولدوا في الدنيا أولى بها .

    قالوا : وإذا كان كل مولود يولد على الفطرة إلى أن يغير أبواه فطرته ، فإذا مات قبل التغيير مات على الفطرة ، فكان من أهل الجنة .

    قالوا : وقد أخبر تعالى أنه خلق عباده حنفاء مسلمين ، وأن الشياطين اجتالتهم عن دينهم ، فمن مات قبل اجتيال الشياطين مات على الحنيفية ، فيكون من أهل الجنة ، ودليل ذلك ما روى مسلم في " صحيحه " من حديث عياض بن حمار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل : " إني خلقت عبادي حنفاء " الحديث .

    [ ص: 1116 ] وزاد محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن يحيى بن جابر ، عن عبد الرحمن بن عائذ ، عن عياض بن حمار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين ، وأعطاهم المال حلالا لا حراما " .

    قالوا : وأيضا ، فالنار دار عدله تعالى ، لا يدخلها إلا من يستحقها ، وأما الجنة فدار فضله فيدخلها من أراد بعمل ، وغير عمل ، وإذا كانت النار دار عدله فمن لم يعص الله طرفة عين كيف يجازى بالنار خالدا مخلدا أبد الآباد ؟

    قالوا : وأيضا فلو عذب الأطفال لكان تعذيبهم إما مع تكليفهم بالإيمان ، أو بدون التكليف . والقسمان ممتنعان :

    أما الأول : فلاستحالة تكليف من لا تمييز له ، ولا عقل أصلا .

    وأما الثاني : فممتنع أيضا بالنصوص التي ذكرناها ، وأمثالها من أن الله تعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه .

    قالوا : وأيضا ، فتعذيبهم إما أن يكون لعدم وقوع الإيمان منهم ، وإما لوجود الكفر منهم ، والقسمان باطلان :

    أما الثاني : فظاهر ؛ لأن من لا عقل له ولا تمييز لا يعرف الكفر حتى يختاره .

    [ ص: 1117 ] وأما الأول : فلو عذبوا لعدم وجود الإيمان الفعلي منهم لاشتركوا هم وأطفال المسلمين في ذلك ، لاشتراكهم في سببه .

    فإن قلتم : أطفال المسلمين منعهم تبعهم لآبائهم من العذاب ، بخلاف أطفال المشركين فإنهم يعذبون تبعا لآبائهم ، وإهانة لهم ، وغيظا ، قيل : هذا خطأ ، فإن الله لا يعذب أحدا بذنب غيره ، كما قال تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، وقال : ( فاليوم لا تظلم نفس شيئا ) . . . الآية ،

    قالوا : وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها " ، فإذا لم يعاقب المكلف بما يهم به من السيئات كيف يعاقب الطفل بما لم يعمله ، ولم يهم به ، ولم يخطر بباله ؟ !

    قالوا : ولا خلاف بين الناس أن الطفل الذي لم يميز إذا مات طفلا ، وقد علم الله منه أنه لو عاش لقتل النفوس وسفك الدماء ، وغصب الأموال ، فإن الله لا يعذبه على ذلك .

    قالوا : وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في أطفال المشركين : " هم من آبائهم " فإنما أراد أنهم منهم في أحكام الدنيا .

    [ ص: 1118 ] وأما قوله : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، فإنه لم يرد به أنه يجزيهم بعلمه فيهم ، وإن لم يقع معلومه في الخارج .

    قالوا : وأيضا ، فإنما قال هذا قبل أن يوحى إليه في أمرهم ، فلما أوحي إليه أنهم في الجنة أخبر به أصحابه .

    قلت : وهذا الجواب لا يصح ، فإنه أخبر بهذا في حديث الأسود بن سريع وحديث أبي هريرة ، وهما ممن تأخر إسلامه إلى بعد خيبر ، وإنما الجواب الصحيح أن يقال : إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر بأن الله يعذبهم على علمه فيهم ، وإنما أخبر بأنه " أعلم بما هم عاملون مما يستحقون به العقاب " فإذا امتحنوا في الآخرة ، وعملوا بمعصيته ظهر معلومه فيهم ، فعاقبهم بما هم عاملون لا بمجرد علمه .

    قالوا : وأما حديث خديجة - رضي الله عنها - " أنهم في النار " فلا يصح ، وقد تقدم كلام الناس فيه .

    وأما حديث " الوائدة والموءودة في النار " فليس في الحديث أن الموءودة لم تكن بالغة ، فلعلها وئدت بعد بلوغها .

    فإن قلتم : فلفظ الحديث " يا رسول الله ، إن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الوائدة [ ص: 1119 ] والموءودة في النار " ، فقد قال أبو محمد بن حزم : هذه اللفظة وهي قوله " لم تبلغ الحنث " ليست من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شك ، ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي ، وأخيه اللذين سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن " الموءودة في النار " كان ذلك إنكارا ، وإبطالا لقولهما " لم تبلغ الحنث " وتصحيحا ، لأنها كانت قد بلغت الحنث بوحي من الله إليه بخلاف ظنهما ، لا يجوز إلا هذا القول ؛ لأن كلامه صلى الله عليه وسلم لا يتناقض ، ولا يتكاذب ، ولا يخالف كلام ربه ، بل كلامه يصدق بعضه بعضا ، ويوافق ما أخبر به عن ربه عز وجل ، ومعاذ الله من غير ذلك ! وقد صح إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أطفال المشركين في الجنة ، وقال تعالى : ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) ، فنص تعالى على أنه لا ذنب للموءودة فكان هذا مبينا لأن إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن تلك الموءودة في النار إخبار عن أنها كانت قد بلغت الحنث بخلاف ظن إخوتها .

    وقد روى هذا الحديث عن داود بن أبي هند محمد بن أبي عدي ، وليس هو دون المعتمر ، ولم يذكر فيه " لم تبلغ الحنث " .

    [ ص: 1120 ] ورواه أيضا عن داود عبيدة بن حميد ، فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر ، ثم ساق الحديثين .

    ثم روى من طريق أبي داود ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الوائدة والموءودة في النار ، ثم قال : هذا مختصر ، وهو على ما ذكرنا أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عنى بذلك التي " قد بلغت " ، لا يجوز غير هذا .

    قال : وقد يمكن أن يهم فيه الشعبي ، فإنه مرة أرسله ، ومرة أسنده ، ولا يخلو ضرورة هذا الخبر من أنه وهم ، أو أن أصله مرسل ، كما رواه أبو داود : ثنا إبراهيم بن موسى ، أنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن عامر الشعبي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو أنه إن صح عنه - صلى الله عليه وسلم - فإنما أراد به التي بلغت لا يجوز غير ذلك .

    قلت : وهذا الجواب في غاية الضعف ، ولا يجوز أن ينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن موءودة لم تبلغ الحنث ، فأجاب عمن بلغت الحنث ، بل إنما خرج جوابه - صلى الله عليه وسلم - لنفس ما سئل عنه ، فكيف ينسب إليه أنه ترك الجواب عما سئل عنه ، وأجاب عما لم يسأل عنه موهما أنه المسئول عنه ، ولم ينبه السائل ؟ ! هذا لا يظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلا .

    [ ص: 1121 ] وأما قوله : " إن هذا الحديث قد روي بدون هذه اللفظة " ، فلا يضره ذلك ؛ لأن الذي زادها ثقة ثبت لا مطعن فيه ، وهو المعتمر بن سليمان ، كيف وقد صرح بالسماع من داود بن أبي هند ! واختصار ابن أبي عدي ، وعبيدة بن حميد لها لا يكون قادحا في رواية من زادها .

    وأيضا ، لو لم تذكر في السؤال لكان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - شاملا لها بعمومه ، كيف وإنما كانت عادتهم وأد الصغار لا الكبار ! ولا يضره إرسال الشعبي له ، وإنما الجواب الصحيح عن هذا الحديث أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الوائدة والموءودة في النار " جواب عن تينك الوائدة والموءودة اللتين سئل عنهما ، لا إخبار عن كل وائدة وموءودة ، فبعض هذا الجنس في النار ، وقد يكون هذا الشخص من الجنس الذي في النار .

    ويدل عليه حديث بشر بن موسى ، عن هوذة بن خليفة ، عن عوف ، عن خنساء بنت معاوية قالت :

    [ حدثني عمي قال : ] قلت : يا رسول الله ، من في الجنة ؟ قال : " النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والموءودة في الجنة " رواه جماعة عن عوف .

    وأخباره - صلى الله عليه وسلم - لا تتعارض ، فيكون كلامه دالا على أن بعض هذا الجنس في الجنة ، وبعضه في النار ، وهذا هو الحق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

    [ ص: 1122 ] وأما قوله تعالى : ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) ، فهذا السؤال إنما هو إقامة لحجته سبحانه على تعذيب من وأدها : إذ قتل نفسا بغير حقها . وأما حكمه سبحانه فيها هي فإنه يحكم فيها بغير حكمه في الأبوين ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى .
    اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

    تعليق


    • #3
      198 - فصل

      واحتجوا أيضا على أنهم في الجنة بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القارئ ، عن أبي حازم

      [ المدني ] ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سألت ربي اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم ، فأعطانيهم فهم خدم أهل الجنة " .

      [ ص: 1123 ] وبحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : سألت خديجة - رضي الله عنها - النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين ، فقال : " هم مع آبائهم " ، ثم سألته بعد ذلك ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، ثم سألته بعد ذلك ، فنزلت : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، فقال : " هم على الفطرة " أو قال : " هم في الجنة " ، ذكره أبو عمر في " الاستذكار " ، ولم يذكر له إسنادا ، فينظر في إسناده .

      [ ص: 1124 ] ثم قال : وآثار هذا الباب معارضة لحديث " الوائدة والموءودة في النار " وما كان مثله ، وإذا تعارضت الآثار وجب سقوط الحكم بها ، ورجعنا إلى الأصل : وهو أنه لا يعذب الله أحدا إلا بذنب ، لقوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ، وقوله : ( ألم يأتكم رسل منكم ) ، وآي القرآن كثير في هذا المعنى .

      على أني أقول : إن الله ليس بظلام للعبيد ، ولو عذبهم لم يكن ظالما لهم ، ولكن جل من تسمى بالغفور الرحيم الرءوف الحليم أن يكون من صفته إلا حقيقة " لا إله إلا هو ، لا يسأل عما يفعل " .

      قلت : وآثار هذا الباب الصحيحة ليس فيها بحمد الله تعارض ، وحديث " الوائدة والموءودة في النار " قد تقدم الجواب عنه .

      ومعارضة الأحاديث الباطلة للأحاديث الصحيحة لا توجب سقوط الحكم بالصحيحة ، والأحاديث الصحيحة يصدق بعضها بعضا .
      اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

      تعليق


      • #4
        المذهب الثاني : أنهم في النار .

        وهذا قول جماعة من المتكلمين ، وأهل التفسير ، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد ، وحكاه القاضي نصا عن أحمد ، وغلطه شيخنا كما سيأتي بيان ذلك .

        واحتج هؤلاء بحجج : منها حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل ، عن بهية ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :
        سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المسلمين : أين هم ؟ قال : " في الجنة " وسألته عن أولاد المشركين : أين هم يوم القيامة ؟ قال : " في النار " فقلت : لم يدركوا [ ص: 1093 ] الأعمال ، ولم تجر عليهم الأقلام ، قال : " ربك أعلم بما كانوا عاملين ، والذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار " .

        ولكن هذا الحديث قد ضعفه جماعة من الحفاظ .

        [ ص: 1094 ] قال أبو عمر : أبو عقيل هذا لا يحتج بمثله عند أهل النقل . وهذا الحديث لو صح لاحتمل من الخصوص ما احتمل غيره .

        قال : ومما يدل على أنه خصوص لقوم من المشركين قوله : "
        لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار " ، وهذا لا يكون إلا فيمن قد مات ، وصار في النار .

        قال : وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه من الآثار .

        قلت : مراد أبي عمر : أن هذا خاص ببعض أطفال المشركين الذين ماتوا ، ودخلوا النار ، ولا يلزم منه أن يكون هذا حكما عاما لجميع الأطفال .

        وهذا صحيح يتعين المصير إليه جمعا بينه وبين حديث سمرة الذي رواه
        البخاري في " صحيحه " ، وهو صريح بأنهم في الجنة كما سيأتي .

        [ ص: 1095 ] واحتجوا بحديث
        عمر بن ذر ، عن يزيد بن أمية أن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أرسل إلى عائشة - رضي الله عنها - يسألها عن الأطفال ، فقالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : يا رسول الله ، ذراري المؤمنين ؟ قال : " من آبائهم " ، قلت : بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " قلت : يا رسول الله ، فذراري المشركين ؟ قال : " هم من آبائهم " ، قلت : يا رسول الله ، بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " هكذا قال مسلم بن قتيبة .

        [ ص: 1096 ] وقد رواه غيره ، عن
        عمر بن ذر ، عن يزيد ، عن رجل ، عن البراء .

        ورواه أحمد من حديث عتبة بن ضمرة بن حبيب ، حدثني
        عبد الله بن قيس مولى

        [ غطيف بن ] عفيف
        أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - ، وعبد الله هذا ينظر في حاله ، وليس بالمشهور .

        وبالجملة ، فلا حجة في الحديث على أنهم في النار ؛ لأنه إنما أخبر بأنهم " من آبائهم " في أحكام الدنيا ، كما تقدم .

        [ ص: 1097 ] واحتجوا بما رواه عبد الله بن أحمد في " مسند " أبيه : حدثنا
        عثمان بن أبي شيبة ، عن محمد بن فضيل بن غزوان ، عن محمد بن عثمان ، عن زاذان ، عن علي قال : سألت خديجة - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين لها ماتا في الجاهلية ، فقال : " هما في النار " ، فلما رأى الكراهية في وجهها قال : " لو رأيت مكانهما لأبغضتهما " ، قالت : يا رسول الله ، فولدي منك ! قال : " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار " ثم قرأ : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) .

        [ ص: 1098 ] وهذا الحديث معلول من وجهين :

        أحدهما : أن محمد بن عثمان هذا مجهول .

        والثانية : أن زاذان لم يدرك عليا .

        وقال الخلال : أخبرنا

        [ حفص بن عمرو الربالي ] ، ثنا أبو زياد سهل بن زياد ، ثنا الأزرق بن قيس ، عن
        عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : يا رسول الله ، أين أطفالي من أزواجي من المشركين ؟ قال : " في النار " ، وقالت : بغير عمل ؟ قال : " قد علم الله ما كانوا عاملين " .

        [ ص: 1099 ] [ ص: 1100 ] قال شيخنا : وهذا حديث موضوع ، لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي غر
        القاضي أبا يعلى حتى حكى عن أحمد " أنهم في النار " ؛ لأن أحمد نص في رواية بكر بن محمد ، عن أبيه : أنه سأله عن أولاد المشركين ، فقال : أذهب إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، فتوهم القاضي أن أحمد أراد هذا الحديث ، وأحمد أعلم بالسنة من أن يحتج بمثل هذا الحديث ، وإنما أراد أحمد حديث عائشة ، وابن عباس ، وأبي هريرة - رضي الله عنهم - .

        واحتجوا أيضا بحديث
        داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة بن قيس ، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : أتيت أنا وأخي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : إن أمنا ماتت في الجاهلية ، وكانت تقري الضيف ، وتصل الرحم ، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء ؟ قال : " لا " قلنا له : فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث ، فقال : الموءودة ، والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم " رواه جماعة كثيرة عن داود .

        [ ص: 1101 ] وقال
        محمد بن نصر : ثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية

        [ بن ] هشام
        ، عن شيبان ، عن جابر ،

        [ عن ] عامر ، عن
        علقمة بن قيس ، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلنا يا رسول الله ، إن أمنا كانت تصل الرحم ، وتقري الضيف ، وتطعم الطعام ، وإنها كانت وأدت في الجاهلية فماتت قبل الإسلام ، فهل ينفعها عمل إن عملنا عنها ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 1102 ] وسلم - : " لا ينفع الإسلام إلا من أدرك ، أمكم وما وأدت في النار " .

        وروى أبو إسحاق عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
        الوائدة والموءودة في النار " وهذا لا يدل على أنهم [ ص: 1103 ] كلهم في النار ، بل يدل على أن بعض هذا الجنس في النار ، وهذا حق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

        وقد رد بعضهم على الحديث بأنه مخالف لنص القرآن قال تعالى : (
        وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) ، سواء كان المعنى أنها [ ص: 1104 ] تسأل سؤال توبيخ لمن وأدها ، أو تطلب ممن وأدها كما تطلب الأمانة ممن اؤتمن عليها .

        وعلى التقديرين ، فقد أخبر سبحانه أنه لا ذنب لها تقتل به في الدنيا ، قتلة واحدة ، فكيف تقتل في النار قتلات دائمة ، ولا ذنب لها ؟ فالله أعدل ، وأرحم من ذلك ؛ لأنه إذا كان قد أنكر على من قتلها بلا ذنب ، فكيف يعذبها تبارك وتعالى بلا ذنب ؟ وهذا المعنى حق لا يعارض نص القرآن ، فإنه لم يخبر أن الموءودة في النار بلا ذنب ، فهذا لا يفعله الله قطعا ، وإنما يدخلها النار بحجته التي يقيمها يوم القيامة إذا ركب في الأطفال العقل ، وامتحنهم ، وأخرجت المحنة منهم ما يستحقون به النار .

        واحتجوا بما روى
        البخاري في " صحيحه " في احتجاج الجنة ، والنار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وأما النار فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها " ، قالوا : فهؤلاء ينشئون للنار بغير عمل ، فلأن يدخلها من ولد في الدنيا بين كافرين أولى .

        قال شيخنا : وهذه حجة باطلة ، فإن هذه اللفظة وقعت غلطا من بعض الرواة ، وبينها
        البخاري - رحمه الله تعالى - في الحديث الآخر الذي هو [ ص: 1105 ] الصواب ، فقال في " صحيحه " ثنا عبد الله بن محمد ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين ، والمتجبرين ، وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس ، وسقطهم ؟ ! قال الله - عز وجل - للجنة : " أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي " ، وقال للنار : " أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها " .

        فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول : قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحدا .

        وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا
        " هذا هو الذي قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا ريب ، وهو الذي ذكره في " التفسير " .

        وقال في باب ما جاء في قول الله عز وجل : (
        إن رحمة الله قريب من المحسنين ) .

        [ ص: 1106 ] ثنا

        [ عبيد الله ] بن سعيد ، ثنا يعقوب ، ثنا أبي ، عن
        صالح بن كيسان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " اختصمت الجنة والنار إلى ربهما ، فقالت الجنة : يا رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم ؟ وقالت النار : ما لها لا يدخلها إلا المتجبرون ؟ فقال للجنة : " أنت رحمتي " ، وقال للنار : " أنت عذابي أصيب بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها " .

        قال : فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا ، وإنه ينشئ للنار من يشاء ، فيلقون فيها ، فتقول : هل من مزيد ؟ ! ويلقون فيها ، وتقول : هل من مزيد ؟ ! ثلاثا ، حتى يضع قدمه فيها فتمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط . "

        فهذا غير محفوظ ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعا كما انقلب على بعضهم : "
        إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " فجعلوه : " إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال " ، وله نظائر من الأحاديث المقلوبة من المتن .

        [ ص: 1107 ] [ ص: 1108 ] وحديث
        الأعرج ، عن أبي هريرة هذا لم يحفظ كما ينبغي ، وسياقه يدل على أن راويه لم يقم متنه ، بخلاف حديث همام ، عن أبي هريرة .

        واحتجوا بما في " الصحيح " من حديث الصعب بن جثامة أنه
        سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ، ونسائهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هم منهم " ، وفي لفظ : " هم من آبائهم " ، فقال الزهري : ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن قتل النساء والولدان .

        ولا حجة لهم في هذا فإنه إنما سئل عن أحكام الدنيا ، وبذلك أجاب ، والمعنى : أنهم إن أصيبوا في التبييت ، والغارة فلا قود ولا دية على من [ ص: 1109 ] أصابهم لكونهم أولاد من لا قود ولا دية لهم ، وعلى ذلك مخرج الحديث سؤالا وجوابا .

        واحتجوا أيضا بقول الله تعالى : (
        والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) ، وهذا يدل على أن ذرية الكافرين تلحق بهم ولا يلحقون بالمؤمنين وذرياتهم ، فإن الله تعالى شرط في الإلحاق إيمان الآباء ، وهذا لا حجة فيه لأن الله تعالى إنما أخبر عن إلحاق ذرية المؤمنين بآبائهم ، ولم يخبر عن ذرية الكفار بشيء ، بل الآية حجة على نقيض ما ادعوه من وجهين :

        أحدهما : إخباره أنه لم ينقص الآباء بهذا الإلحاق من أعمالهم شيئا ، فكيف يعذب هذه الذرية بلا ذنب ؟

        الثاني : أنه سبحانه نبه على أن هذا الإلحاق مختص بأهل الإيمان ، وأما الكفار فلا يؤاخذون إلا بكسبهم ، فقال تعالى : (
        كل امرئ بما كسب رهين ) .

        واحتجوا أيضا بقوله تعالى إخبارا عن نوح أنه قال : (
        ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) ، والفاجر والكفار من أهل النار ، وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه إنما أراد به كفار أهل زمانه قطعا ، وإلا فمن بعدهم من الكفار قد ولد بعضهم الأنبياء ، كما ولد آزر إبراهيم الخليل .

        وأيضا فقوله : " فاجرا كفارا " حال مقدرة ، أي من إذا عاش كان [ ص: 1110 ] فاجرا كفارا ، ولم يرد به أن أطفالهم حال سقوطهم يكونون فجرة كفرة ، كما تقدم بيانه .
        اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

        تعليق


        • #5
          المذهب الرابع : أنهم في منزلة بين الجنة ، والنار :

          فإنهم ليس لهم إيمان يدخلون به الجنة ، ولا لآبائهم إيمان يتبعهم أطفالهم فيه تكميلا لثواب ، وزيادة في نعيم ، وليس لهم من الأعمال ما [ ص: 1125 ] يستحقون به دخول النار ، ولا من الإيمان ما يدخلون به الجنة ، والجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة ، والنار لا يدخلها إلا نفس كافرة ، وهذا قول طائفة من المفسرين .

          قالوا : وهم أهل الأعراف .

          قال عبد العزيز بن يحيى الكناني : هم الذين ماتوا في الفترة ، وأطفال المشركين .

          وأرباب هذا القول إن أرادوا أن هذا المنزل مستقرهم أبدا فباطل ، فإنه لا مستقر إلا الجنة أو النار ، وإن أرادوا أنهم يكونون فيه مدة ، ثم يصيرون إلى دار القرار فهذا ليس بممتنع .

          والصحيح في أهل الأعراف أنهم قوم تساوت حسناتهم ، وسيئاتهم ، فقصرت بهم حسناتهم عن النار ، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، فبقوا بين الجنة ، والنار : كذا قال غير واحد من الصحابة منهم : حذيفة ، وأبو هريرة ، وغيرهما .
          اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

          تعليق


          • #6
            ص: 1086 ] 195 - فصل : أولاد المشركين ، والمذاهب العشرة فيهم .

            وأما أولاد المشركين ، فاختلف أهل العلم فيهم على عشرة مذاهب ، نحن نذكر أدلتها ونبين راجحها من مرجوحها بحول الله وقدرته وتوفيقه .

            المذهب الأول : الوقف في أمرهم :

            ولا نحكم لهم بجنة ولا نار ، ونكل علمهم إلى الله : وهذا قد يعبر عنه بمذهب الوقف ، وقد يعبر عنه بمذهب المشيئة ، وأنهم تحت مشيئة الله يحكم فيهم بما يشاء ، ولا يدرى حكمه فيهم ما هو .

            واحتج أرباب هذا القول بحجج منها :

            ما خرجا في " الصحيحين " من حديث
            أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت ، وهو صغير ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

            ومنها ما في " الصحيحين " أيضا عن
            ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أولاد المشركين ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، وقد تقدمت هذه الأحاديث آنفا .

            [ ص: 1087 ] وفي " صحيح "
            أبي حاتم بن حبان من حديث جرير بن حازم : قال سمعت أبا رجاء العطاردي قال : سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول وهو على المنبر : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يزال أمر هذه الأمة موائما - أو مقاربا - ما لم يتكلموا في الولدان والقدر " .

            قال أبو حاتم : " الولدان " أراد بهم أطفال المشركين .

            وفي استدلال هذه الفرقة على ما ذهبت إليه من الوقف بهذه النصوص نظر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب فيهم بالوقف ، وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله ، والمعنى : " الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا " ، فهو سبحانه يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش ، والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش ، ولكن لا يدل هذا على أنه سبحانه يجزيهم بمجرد علمه فيهم بلا عمل يعملونه ، وإنما يدل هذا على أنه يعلم من يؤمن ، ومن يكفر ، بتقدير الحياة .

            [ ص: 1088 ] وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه - صلى الله عليه وسلم .

            وفي " صحيح "
            أبي عوانة الإسفراييني ، عن هلال بن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه ، فسأله رجل : ما تقول في اللاهين ؟ فسكت عنه ، فلما فرغ من غزوة الطائف إذا هو بصبي يبحث في الأرض ، فأمر مناديه فنادى : أين السائل عن اللاهين ؟ فأقبل الرجل ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الأطفال ، وقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

            [ ص: 1089 ] فقوله : "
            الله أعلم بما كانوا عاملين " عقيب نهيه عن قتلهم يكشف لك المعنى ، ويوضحه ، ويبين أن الله سبحانه يعلم - لو أدركوا - ما كانوا يعملون ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، فلعل أحدهم إذا أدرك يعمل بطاعة الله ، ويكون مسلما ، فهذا أحد الوجهين في جوابه - صلى الله عليه وسلم .

            والوجه الثاني : أنه خرج جوابا لهم حين أخبرهم " أنهم من آبائهم " فقالوا : بلا عمل ؟ فقال : "
            الله أعلم بما كانوا عاملين " ، كما في " السنن " من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله ، ذراري المؤمنين ؟ فقال : " هم من آبائهم " ، فقلت : يا رسول الله بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، قلت : يا رسول الله ، فذراري المشركين ؟ قال : " هم من آبائهم " ، قلت : يا رسول الله ، بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

            ففي هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم - لو عاشوا - لاختاروا الكفر وعملوا به ، فهؤلاء مع آبائهم ، ولا يقتضي أن كل واحد من الذرية مع أبيه في النار ، فإن الكلام في هذا الجنس - سؤالا وجوابا - إنما يدل على التفصيل ، فإن قوله : "
            الله أعلم بما كانوا عاملين " يدل على أنهم متباينون في التبعية بحسب تباينهم في معلوم الله تعالى فيهم .

            يبقى أن يقال : فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل ، ولهذا فهمت منه عائشة - رضي الله عنها - ذلك ، فقالت : " بلا عمل ؟ " فأقرها عليه ، وقال : "
            الله أعلم بما كانوا عاملين " .

            [ ص: 1090 ] ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل في أحكام الدنيا ، وهو الذي فهمته عائشة - رضي الله عنها - ولكن لا ينفي هذا أن يلحقوا بهم في الآخرة بأسباب أخر كامتحانهم في عرصات القيامة ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، فحينئذ يلحقون بآبائهم ، ويكونون معهم بلا عمل عملوه في الدنيا .

            وأم المؤمنين - رضي الله عنها - إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء ، وأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يعلم منهم ما هم عاملوه ، ولم يقل لها : إنه يعذب بمجرد علمه فيهم ، وهذا ظاهر بحمد الله .

            وأما حديث أبي رجاء العطاردي ، عن
            ابن عباس ففي " رفعه " نظر ، والناس إنما رووه " موقوفا عليه " وهو الأشبه ، وابن حبان كثيرا ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنه موقوف : كما رفع قول أبي بن كعب : " كل حرف في القرآن في القنوت فهو الطاعة " ، وهذا لا يشبه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغايته أن يكون كلام أبي .

            [ ص: 1091 ] [ ص: 1092 ]
            والحديث ولو صح إنما يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم ، أو ضرب النصوص بعضها ببعض كما يفعله أهل الجدل والمباحثة الذين لا تحقيق عندهم ، ولم يصلوا في العلم إلى غايته ، بل هم في أطراف أذياله ، وبلاء الأمة من هذا الضرب ، وهم الغالب على الناس ، وبالله التوفيق .
            اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

            تعليق


            • #7
              [ ص: 1127 ] 201 - [ فصل ]

              المذهب السادس : أنهم خدم أهل الجنة ، ومماليكهم معهم بمنزلة أرقائهم ، ومماليكهم في الدنيا :

              وهذا مذهب سلمان ، واحتج هؤلاء بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القارئ عن أبي حازم

              [ المدني ] ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " سألت ربي اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم ، فأعطانيهم ، فهم خدم أهل الجنة " يعني الصبيان .

              قال الدارقطني : ورواه عبد العزيز الماجشون ، عن ابن المنكدر ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس .

              فهذان طريقان ، وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن أنس .

              قال ابن قتيبة : اللاهون من " لهيت عن الشيء " إذا غفلت عنه ، وليس هو من " لهوت " ، وهذا الحديث ضعيف ، فإن يزيد الرقاشي واه ، [ ص: 1128 ] وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف ، وأما فضيل بن سليمان فينظر فيه .

              وقال محمد بن نصر المروزي : حدثنا سعد بن مسعود ، ثنا الحجاج بن

              [ نصير ] ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن علي بن زيد ، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أولاد المشركين ، قال : " خدم أهل الجنة " .

              [ ص: 1129 ] حدثنا عيسى بن مساور ، ثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن حسان الكناني ، أخبرنا محمد بن المنكدر ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " سألت ربي اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم ، فأعطانيهم " ، وهذا طريق رابع لحديث أنس فينظر في [ ص: 1130 ] عبد الرحمن بن حسان هذا .

              وقال محمد بن نصر : ثنا أبو كامل ، ثنا أبو عوانة ، عن

              [ قتادة ] ، عن أبي

              [ مراوح ] ، عن سلمان قال : " أطفال المشركين خدم أهل الجنة " .

              [ ص: 1131 ] حدثنا عمرو بن زرارة ، ثنا إسماعيل ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي

              [ مراوح ] قال : قال سلمان : " ذراري المشركين خدم أهل الجنة " .
              اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

              تعليق


              • #8
                202 - فصل

                المذهب السابع : أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا ، والآخرة .

                فلا يفردون عنهم بحكم في الدارين : فكما أنهم منهم في الدنيا فهم منهم في الآخرة .

                والفرق بين هذا المذهب ، وبين مذهب من يقول : " هم في النار " أن [ ص: 1132 ] صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعا لهم ، حتى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنار .

                وصاحب القول الآخر يقول : هم في النار ، لكونهم ليسوا بمسلمين ، ولم يدخلوا النار تبعا ، وهؤلاء يحتجون بحديث عائشة - رضي الله عنها - الذي تقدم ذكره " أنهم في النار " .

                وبما في " الصحيحين " من حديث الصعب بن جثامة : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم ، وذراريهم ، فقال : " هم منهم " .

                ومثله حديث الأسود بن سريع ، وقد تقدم .

                واحتجوا بحديث ابن مسعود " الوائدة والموءودة في النار " ، فدخلت الوائدة النار بكفرها ، والموءودة تبعا لها .

                قالوا : وكما أن إتباع ذرية المؤمنين بآبائهم كان إكراما لهم وزيادة في ثوابهم ، وأن الإتباع إنما استحق بإيمان الآباء ، فكذلك إذا انتفى إيمان الآباء انتفى الإتباع الذي تحصل به النجاة ، ولا حجة لهم في شيء من ذلك .

                أما حديث عائشة فالصحيح فيه ما تقدم ذكره ، وجواب النبي - صلى [ ص: 1133 ] الله عليه وسلم - لها بقوله : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

                وأما حديثها الآخر - وهو قوله : " هم في النار " فلا يصح ، وقد تقدم الكلام عليه .

                وأما قوله " هم من آبائهم " فليس فيه تعرض للعذاب ، وإنما فيه أنهم منهم في الحكم ، وأنهم إذا أصيبوا في البيات لم يضمنوا ، وهذا مصرح به في حديث الصعب والأسود بن سريع أنه في الجهاد .

                وأيضا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال : " هم من آبائهم " ، ولم يقل : هم مع آبائهم ، وفرق بين اللفظين ، وكونهم " منهم " لا يقتضي أن يكونوا " معهم " في الآخرة ، بخلاف كونهم " منهم " فإنه يقتضي أن تثبت لهم أحكام الآباء في الدنيا من التوارث ، والحضانة ، والولاية وغير ذلك من أحكام الإيلاد ، والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث ، والمؤمن من الكافر .

                والحديث إنما دل على أنهم " من آبائهم " ، وهذا لا شك فيه أنهم يولدون منهم ، ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الإخبار بمجرد ذلك ، وإنما أراد أنهم " منهم في الحكم " ، وهو لم يقل : على دين آبائهم .

                فإن قيل : لو لم يكونوا على دينهم ، وكانوا على الحنيفية كما ذكرتم لوجب أن يصلى عليهم إذا ماتوا ، وأن يدفنوا في مقابر المسلمين ، وأن يرثهم [ ص: 1134 ] أقاربهم المسلمون ، وألا يمكن أبواهم من تهويدهم وتنصيرهم ، إذ لا يجوز تمكين الكافر من تهويد المسلم ، وتنصيره ، فدل انتفاء هذا كله على أنهم " منهم في الدين " ، وأنهم تبع لهم فيه ، كما أن أطفال المسلمين منهم في الدين ، وأنهم تبع لهم فيه ، قيل : هذا وما نقول سواء إذا لم يكن الطفل مع أبويه ، أو مع كافله من أقاربه عملا بمقتضى الفطرة ، والحنيفية التي خلقوا عليها .

                وأما إذا كان الطفل بين أبويه ، فإن الذي خلقه على الفطرة ، والحنيفية أقر أبويه على تربيته ، وتهويده ، وتنصيره ، وذلك لضرورة بقاء نوع الكفار في الأرض ، إذ لو منع من ذلك مانع - فالآباء يموتون ، والأطفال يحكم لهم بحكم الإسلام - لانقطع الكفر من الأرض ، وكان الدين كله دين الإسلام ، وبطل الجهاد .

                والحكمة الإلهية اقتضت أن يكون في الأرض الكفار والمسلمون ، والأبرار والفجار ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وليس في ترك الصلاة عليهم ما يوجب أن يكونوا كفارا مخلدين ، فالشهداء هم من أفاضل المسلمين ، ولا يصلى عليهم .

                وأما انقطاع التوارث بينهم ، وبين أقاربهم المسلمين فلا يقتضي أيضا أن يكونوا كفارا في أحكام الآخرة ، فالعبد المسلم لا يرث ولا يورث ، وكثير من العلماء يورث المسلم مال المرتد إذا مات على ردته ، وهذا القول هو الصحيح ، وهو اختيار شيخنا ، وهذا معاذ بن جبل ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومسروق بن الأجدع ، وخلق من الصحابة والتابعين ، وإسحاق بن راهويه وغيره من الأئمة يورثون المسلمين من أقاربهم الكفار إذا ماتوا .

                [ ص: 1135 ] وأما حديث ابن مسعود " الوائدة والموءودة في النار " فقد تقدم أن هذا الحديث إنما يدل على أن بعض الأطفال في النار ، ولا يدل على أن كل موءودة في النار ، وقد تقدم جواب أبي محمد بن حزم وما فيه .

                وأحسن من هذين الجوابين أن يقال : هي في النار ما لم يوجد سبب يمنع دخولها النار : ففرق بين كون الوأد " مانعا " من دخول النار ، وكونه " غير مانع " ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الموءودة في النار : أي كونها موءودة غير مانع لها من دخول النار بسبب يقتضي الدخول .
                اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

                تعليق


                • #9
                  203 - فصل : المذهب الثامن : أنهم يكونون يوم القيامة ترابا .

                  حكاه أرباب المقالات عن ثمامة بن أشرس ، وهذا قول لعله اخترعه من تلقاء نفسه ، فلا يعرف عن أحد من السلف ، وكأن قائله رأى أنهم لا ثواب لهم ، ولا عقاب ، فألحقهم بالبهائم .

                  والأحاديث الصحاح ، والحسان ، وآثار الصحابة تكذب هذا القول ، وترد عليه قوله .
                  اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

                  تعليق


                  • #10
                    [ ص: 1136 ] 204 - فصل : المذهب التاسع : مذهب الإمساك .

                    وهو ترك الكلام في المسألة نفيا وإثباتا بالكلية
                    ، وجعلها مما استأثر الله بعلمه ، وطوى معرفته عن الخلق .

                    قال
                    إسحاق بن راهويه : حدثنا يحيى بن آدم ، ثنا جرير بن حازم ، عن أبي رجاء العطاردي : سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول : " لا يزال أمر هذه الأمة موائما - أو مقاربا - حتى يتكلموا ، أو ينظروا في الولدان ، والقدر " ، وفي لفظ : في الأطفال ، والقدر " .

                    قال
                    يحيى بن آدم : فذكرته لابن المبارك ، فقال : أيسكت الإنسان على الجهل ؟ قلت : فتأمر بالكلام ؟ فسكت .

                    وقال
                    محمد بن نصر : ثنا عمرو بن زرارة ، أخبرنا إسماعيل بن علية ، عن ابن

                    [ عون ] قال : كنت عند
                    القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال : ما كان بين قتادة وبين حفص بن عمر في أولاد المشركين ؟ قال : وتكلم ربيعة الرأي في ذلك ، فقال القاسم : إن الله انتهى عند شيء فانتهوا ، وقفوا عنده ، قال : [ ص: 1137 ] فكأنما كانت نار فأطفئت !
                    اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

                    تعليق


                    • #11
                      205 - فصل : المذهب العاشر : أنهم يمتحنون في الآخرة .

                      ويرسل إليهم الله تبارك وتعالى رسولا ، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة : فمن أطاع الرسول دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار .

                      وعلى هذا ، فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار .

                      وهذا قول جميع أهل السنة ، والحديث : حكاه الأشعري عنهم في [ ص: 1138 ] كتاب " الإبانة " الذي اتفق أصحابه على أنه تأليفه ، وذكره ابن فورك ، وذكره أبو القاسم بن عساكر في تصانيفه ، وذكر لفظه في حكايته قول أهل السنة والحديث ، وطعن بذلك على من بدع الأشعري وضلله .

                      [ ص: 1139 ] قال فيه : " وجملة قولنا أن نقر بالله تبارك وتعالى ، وملائكته ، وكتبه ورسله ، وما جاء من عنده ، وما روى لنا الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئا " إلى أن قال : " وقولنا في الأطفال - أطفال المشركين - أن الله عز وجل يؤجج لهم نارا في الآخرة ، ثم يقول : " اقتحموها " كما جاءت الرواية بذلك " هذا قوله في " الإبانة " وهو من آخر كتبه .

                      وقال في كتاب " المقالات " : " وإن الأطفال أمرهم إلى الله ، إن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم كما يريد " .

                      وهذا المذهب حكاه محمد بن نصر المروزي في كتابه في " الرد على ابن قتيبة " ، واحتج له فقال : ( ذكر الأخبار التي احتج بها من أوجب امتحانهم ، واختبارهم في الآخرة ) فقال :

                      حدثنا إسحاق ، أخبرنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الأحنف بن قيس ، عن الأسود بن سريع أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أربعة يمتحنون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في الفترة .

                      [ ص: 1140 ] أما الأصم فيقول : يا رب ، قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : يا رب ، قد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : يا رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة ، فيقول : ما أتاني لك رسول ، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه ، فيرسل إليهم رسولا : أن ادخلوا النار ، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " .

                      حدثنا إسحاق ، أخبرنا معاذ بن هشام ، أخبرني أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بمثل هذا الحديث ، غير أنه قال في آخره : " فمن دخلها كانت عليه بردا ، وسلاما ، ومن لم يدخلها [ ص: 1141 ] سحب إليها " .

                      حدثنا أبو بكر بن زنجويه ، ثنا عبد الرحمن ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " ثلاثة يمتحنون يوم القيامة : المعتوه ، والذي هلك في الفترة ، والأصم . . " فذكر الحديث .

                      [ ص: 1142 ] حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا أبو نصر التمار ، ثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن يزيد ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربعة كلهم يوم القيامة يدلي على الله بحجة وعذر : رجل هلك في الفترة ، ورجل أدرك الإسلام هرما ، ورجل أصم أبكم ، ورجل معتوه ، فيبعث الله إليهم رسولا ، فيقول : أطيعوه ، فيأتيهم الرسول ، فيؤجج لهم نارا ، فيقول : اقتحموها فمن اقتحمها كانت عليه بردا ، وسلاما ، ومن لا حقت عليه كلمة العذاب " .

                      حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا سعيد بن سليمان ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الهالك في الفترة ، والمعتوه ، والمولود ، قال : يقول الهالك في الفترة : لم يأتني كتاب ، ولا رسول ، ثم تلا : [ ص: 1143 ] ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) ، ويقول المعتوه : رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ، قال : ويقول المولود : رب لم أدرك العقل ، قال : فترفع لهم نار ، فيقال لهم : ردوها ، أو ادخلوها . قال : فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا ، لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل ، فيقول : إياي عصيتم فكيف رسلي ؟ !

                      قال محمد بن نصر : ورواه أبو نعيم الملائي ، عن فضيل ، عن عطية ، [ ص: 1144 ] عن أبي سعيد " موقوفا " .

                      حدثنا أبو بكر بن زنجويه ، ثنا محمد بن المبارك

                      [ الصوري ] ، ثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس ، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يؤتى بالممسوخ - أو الممسوخ عقلا - والهالك في الفترة ، والهالك صغيرا ، فيقول الممسوخ عقلا : يا رب ، لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني بعقله ، ويقول الهالك في الفترة

                      [ يا رب : لو آتاني منك عهد ، ما كان من آتيته عهدا بأسعد بعهدك مني ، ويقول الهالك صغيرا : ] يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني ، فيقول الرب سبحانه : لئن آمركم بأمر أفتطيعونني ؟ فيقولون : نعم ، وعزتك يا رب . فيقول : اذهبوا فادخلوا النار . قال : لو دخلوها ما ضرتهم . قال : فيخرج عليهم قوابض يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء ، فيرجعون سراعا فيقولون : خرجنا - وعزتك - نريد دخولها ، فخرجت علينا قوابض ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء . ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك ، ويقولون مثل قولهم ، فيقول الرب سبحانه : قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون ، وعلى علمي خلقتكم ، [ ص: 1145 ] وإلى علمي تصيرون جميعكم ، فتأخذهم النار " .

                      حدثنا أحمد بن عمرو ، أخبرنا جرير ، عن ليث ، عن عبد الوارث ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يؤتى بالمولود والمعتوه ، ومن مات في الفترة ، وبالمعمر الفاني ، قال : كلهم يتكلم بحجته ، فيقول الرب تعالى لعنق من النار : ابرز ، فيقول لهم : إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم ، وإني رسول نفسي إليكم ، فيقول لهم : [ ص: 1146 ] ادخلوا هذه ، فيقول من كتب عليهم الشقاء : يا رب ، أنى ندخلها ومنها كنا نفر ! قال : ومن كتب عليه

                      [ السعادة ] يمضي فيقتحمهم فيها مسرعا . فيقول الرب تعالى : قد عاندتموني ، وقد عصيتموني ، فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ، ومعصية ، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار
                      .

                      حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا محمد بن الصباح ، ثنا ريحان بن سعيد

                      [ الناجي ، ] عن عباد بن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية [ ص: 1147 ] يحملون أوثانهم على ظهورهم ، فيسألهم ربهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : ربنا لم ترسل إلينا رسولا ، ولم يأتنا لك أمر . ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك لك ! فيقول لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعونني ؟ فيقولون : نعم ، فيؤمرون أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها ، فينطلقون حتى إذا رأوها ، فإذا لها تغيظ وزفير ، فيهابونها ، فيرجعون إلى ربهم ، فيقولون : يا ربنا ، فرقنا منها ، فيقول ربهم تبارك وتعالى : تزعمون أنكم إن أمرتكم بأمر أطعتموني ، فيأخذ مواثيقهم ، فيقول : اعمدوا إليها فادخلوها ، فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا ورجعوا إلى ربهم ، فقالوا : ربنا فرقنا منها ، فيقول : ألم تعطوني مواثيقكم لتطيعوني ؟ اعمدوا إليها فادخلوها . فينطلقون حتى إذا رأوها فزعوا ورجعوا ، فقالوا : فرقنا يا رب ، ولا نستطيع أن ندخلها ، فيقول ادخلوها داخرين . قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما " .

                      [ ص: 1148 ] فإن قيل : هذه الأحاديث - مع ضعفها - مخالفة لكتاب الله ، ولقواعد الشريعة ، فإن الآخرة ليست دار تكليف ، وإنما هي دار جزاء ، ودار التكليف هي دار الدنيا ، فلو كانت الآخرة دار تكليف لكان ثم دار جزاء غيرها .

                      قال أبو عمر في " الاستذكار " ، وقد ذكر بعض هذه الأحاديث : وهذه الأحاديث كلها ليست بالقوية ، ولا تقوم بها حجة ، وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب ؛ لأن الآخرة دار جزاء ، وليست دار عمل ، ولا ابتلاء ، وكيف يكلفون دخول النار ، وليس ذلك في وسع المخلوقين ، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ؟ ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون مات كافرا ، أو غير كافر ، فإن مات كافرا جاحدا فإن الله حرم الجنة على [ ص: 1149 ] الكافرين فكيف يمتحنون ؟ وإن كان معذورا بأنه لم يأته نذير ولا رسول ، فكيف يؤمر أن يقتحم النار وهي أشد العذاب ؟ والطفل ومن لا يعقل أحرى بألا يمتحن بذلك .

                      فالجواب من وجوه :

                      أحدها : أن أحاديث هذا الباب قد تضافرت ، وكثرت بحيث يشد بعضها بعضا ، وقد صحح الحفاظ بعضها كما صحح البيهقي وعبد الحق وغيرهما حديث الأسود بن سريع .

                      وحديث أبي هريرة إسناده صحيح متصل ، ورواية معمر له ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة موقوفا لا تضره ، فإنا إن سلكنا طريق الفقهاء ، والأصوليين في الأخذ بالزيادة من الثقة فظاهر ، وإن سلكنا طريق الترجيح - وهي طريقة المحدثين - فليس من رفعه بدون من وقفه في الحفظ ، والإتقان .

                      الوجه الثاني : أن غاية ما يقدر فيه أنه موقوف على الصحابي ، ومثل هذا لا يقدم عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد ، بل يجزم بأن ذلك توقيف لا عن رأي .

                      الوجه الثالث : أن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا ، فإنها قد تعددت طرقها ، واختلفت مخارجها ، فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بها ، وقد رواها أئمة الإسلام ودونوها ، ولم يطعنوا فيها .

                      الوجه الرابع : أنها هي الموافقة للقرآن ، وقواعد الشرع ، فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أنه لا يعذب أحد إلا بعد قيام الحجة عليه ، وهؤلاء لم تقم [ ص: 1150 ] عليهم حجة الله في الدنيا ، فلا بد أن يقيم حجته عليهم ، وأحق المواطن أن تقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد ، وتسمع الدعاوى ، وتقام البينات ، ويختصم الناس بين يدي الرب ، وينطق كل أحد بحجته ومعذرته ، فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم .

                      الوجه الخامس : أن القول بموجبها هو قول أهل السنة ، والحديث كما حكاه الأشعري عنهم في " المقالات " وحكى اتفاقهم عليه ، وإن كان قد اختار هو فيها أنهم مردودون إلى المشيئة ، وهذا لا ينافي القول بامتحانهم ، فإن ذلك هو موجب المشيئة .

                      الوجه السادس : أنه قد صح - بذلك - القول بها عن جماعة من الصحابة ، ولم يصح عنهم إلا هذا القول .

                      والقول بأنهم خدم أهل الجنة صح عن سلمان ، وفيه حديث مرفوع قد تقدم ، وأحاديث الامتحان أكثر وأصح وأشهر .

                      الوجه السابع : قوله : " وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب " جوابه أنه - وإن أنكرها بعضهم - فقد قبلها الأكثرون ، والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها ، وأعلم بالسنة والحديث ، وقد حكى فيه الأشعري اتفاق أهل السنة والحديث ، وقد بينا أنه مقتضى قواعد الشرع .

                      الوجه الثامن : أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في [ ص: 1151 ] الدار الآخرة ، وقالوا : لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ، ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف .

                      الوجه التاسع : ما ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، وأبي سعيد - رضي الله عنهما - في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إليها : أن الله تعالى يأخذ عهوده ، ومواثيقه ألا يسأله غير الذي يعطيه ، وأنه يخالفه ، ويسأله غيره ، فيقول الله له : ما أعذرك ! وهذا العذر منه لمخالفته العهد الذي عاهده ربه عليه ، وهذه معصية منه .

                      الوجه العاشر : قد ثبت أنه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود ، ويحول بين المخالفين وبينه ، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعا ، فكيف ينكر التكليف بدخول النار اختيارا ؟

                      الوجه الحادي عشر : أنه قد ثبت امتحانهم في القبور ، وسؤالهم وتكليفهم الجواب ، وهذا تكليف بعد الموت برد الجواب .

                      [ ص: 1152 ] الوجه الثاني عشر : أن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم ، وكيف يعاقبهم على غير ذنب ؟ وإنما هو امتحان ، واختبار لهم : هل يطيعونه أو يعصونه ؟ فلو أطاعوه ، ودخلوها لم تضرهم ، وكانت عليهم بردا وسلاما ، فلما عصوه ، وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره ، والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه ، فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر هل يوطن نفسه عليه أم لا ، فإن أقدم عليه ، ووطن نفسه على فعله أعفوه منه ، وإن امتنع ، وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه .

                      وقد أمر الله سبحانه الخليل بذبح ولده ، ولم يكن مراده سوى توطين نفسه على الامتثال ، والتسليم ، وتقديم محبة الله على محبة الولد ، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح .

                      [ ص: 1153 ] وقد ثبت أن الدجال يأتي معه بمثال الجنة والنار ، وهي نار في رأي العين ، ولكنها لا تحرق ، فمن دخلها لم تضره ، فلو أن هؤلاء يوطنون أنفسهم على دخول النار التي أمروا بدخولها طاعة لله ، ومحبة له ، وإيثارا لمرضاته ، وتقربا إليه بتحمل ما يؤلمهم لكان هذا الإقدام والقصد منهم لمرضاته ومحبته يقلب تلك النار بردا وسلاما ، كما قلب قصد الخليل - التقرب إلى ربه ، وإيثار محبته ، ومرضاته ، وبذل نفسه ، وإيثاره إياه على نفسه - تلك النار بأمر الله بردا وسلاما ، فليس أمره سبحانه إياهم بدخول النار عقوبة ، ولا تكليفا بالممتنع ، وإنما هو امتحان ، واختبار لهم هل يوطنون أنفسهم على طاعته أم ينطوون على معصيته ، ومخالفته . وقد علم سبحانه ما يقع منهم ولكنه لا يجازيهم على مجرد علمه فيهم ما لم يحصل معلومه الذي يترتب عليهم به الحجة ، فلا أحسن من هذا يفعله بهم وهو محض العدل ، والحكمة .

                      الوجه الثالث عشر : أن هذا مطابق لتكليفه عباده في الدنيا ، فإنه سبحانه لم يستفد بتكليفهم منفعة تعود إليه ، ولا هو محتاج إليه ، وإنما امتحنهم وابتلاهم ليتبين من يؤثر رضاه ومحبته ، ويشكره ممن يكفر به ويؤثر سخطه : قد علم منهم من يفعل هذا وهذا ، ولكنه بالابتلاء ظهر معلومه الذي يترتب عليه الثواب والعقاب ، وتقوم عليهم به الحجة .

                      [ ص: 1154 ] وكثير من الأوامر التي أمرهم بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار ، فإن الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ، ورماحهم ، وتعريضهم لأسرهم لهم ، وتعذيبهم ، واسترقاقهم ، لعله أعظم من الأمر بدخول النار ، وقد كلف الله بني إسرائيل قتل أنفسهم ، وأولادهم ، وأرواحهم ، وإخوانهم لما عبدوا العجل لما لهم في ذلك من المصلحة ، وهذا قريب من التكليف بدخول النار ، وكلف على لسان رسوله المؤمنين إذا رأوا نار الدجال أن يقعوا فيها - لما لهم في ذلك من المصلحة - وليست في الحقيقة نارا ، وإن كانت في رأي العين نارا ، وكذلك النار التي أمروا بدخولها في الآخرة إنما هي برد وسلام على من دخلها ، فلو لم يأت بذلك أثر لكان هذا هو مقتضى حكمته وعدله ، وموجب أسمائه ، وصفاته .

                      الوجه الرابع عشر : أن القائل قائلان : قائل بأنه سبحانه يفعل بمحض المشيئة ، والإرادة من غير تعليل ، ولا غاية مطلوبة بالفعل ، وقائل بمراعاة الحكم ، والغايات المحمودة ، والمصالح .

                      [ ص: 1155 ] وعلى المذهبين فلا يمتنع الامتحان في عرصات القيامة ، بل على القول الأول هو ممكن جائز لا يتوقف العلم به على أمر غير إخبار الصادق .

                      وعلى المذهب الثاني هو الذي لا يليق بالرب سواه ، ولا تقتضي أسماؤه وصفاته غيره ، فهو متعين .

                      الوجه الخامس عشر : قوله : " وليس ذلك في وسع المخلوقين " جوابه من وجهين :

                      أحدهما : أنه في وسعهم ، وإن كان يشق عليهم ، وهؤلاء عباد النار يتهافتون فيها ، ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان ، ولم يقولوا : " ليس في وسعنا " مع تألمهم بها غاية الألم ، فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم ؟

                      الثاني : أنهم لو وطنوا أنفسهم على اتباع طاعته ومرضاته لكانت عين نعيمهم ولم تضرهم شيئا .

                      الوجه السادس عشر : أن أمرهم باقتحام النار المفضية بهم إلى النجاة منها بمنزلة الكي الذي يحسم الداء ، وبمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية ، وليس من باب العقوبة في شيء ، فإن الله سبحانه اقتضت حكمته وحمده وغناه ورحمته ألا يعذب من لا ذنب له ، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عما يناقض صفات كماله ، فالأمر باقتحام النار للخلاص [ ص: 1156 ] منها هو عين الحكمة ، والرحمة ، والمصلحة ، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعا ، واختيارا ورضا حيث علموا أن مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم ، وسبب نجاتهم ، فلم يفعلوا ذلك ، ولم يمتثلوا أمره ، وقد تيقنوا ، وعلموا أن فيه رضاه ، وصلاحهم ، بل هان عليهم أمره ، وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة ، وإحسانا لا عقوبة .

                      الوجه السابع عشر : أن أمرهم باقتحام النار كأمر المؤمنين بركوب الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف ، ولا ريب أن ركوبه من أشق الأمور ، وأصعبها حتى أن الرسل لتشفق منه ، وكل منهم يسأل الله السلامة ! فركوب هذا الجسر الذي هو في غاية المشقة كاقتحام النار ، وكلاهما طريق إلى النجاة .

                      الوجه الثامن عشر : قوله : " ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون كافرا ، أو غير كافر ، فإن كان كافرا فإن الله حرم الجنة على الكافرين ، وإن كان معذورا بأنه لم يأته رسول فكيف يؤمر باقتحام النار ؟ " جوابه من وجوه :

                      أحدها : أن يقال هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان ، فإن الكفر هو جحود ما جاء به الرسول ، فشرط تحققه بلوغ الرسالة ، والإيمان هو تصديق [ ص: 1157 ] الرسول فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، وهذا أيضا مشروط ببلوغ الرسالة ، ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه ، فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفارا ، ولا مؤمنين كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين .

                      فإن قيل : فأنتم تحكمون لهم بأحكام الكفار في الدنيا من التوارث ، والولاية ، والمناكحة ، قيل : إنما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا لا في الثواب ، والعقاب ، كما تقدم بيانه .

                      الوجه الثاني : سلمنا أنهم كفار ، لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه وهو قيام الحجة عليهم ، فإن الله تعالى لا يعذب إلا من قامت عليه حجته .

                      الوجه الثالث : قوله : " وإن كان معذورا كيف يؤمر أن يقتحم النار وهي أشد العذاب ؟ " فالذي قال هذا يوهم أن هذا الأمر عقوبة لهم ، وهذا غلط ، وإنما هو تكليف واختبار ، فإن بادروا إلى الامتثال لم تضرهم النار شيئا .

                      الوجه التاسع عشر : قوله : " كيف يمتحن الطفل ومن لا يعقل ؟ " كلام فاسد ، فإن الله سبحانه يوم القيامة ينشئهم عقلاء بالغين ، ويمتحنهم في [ ص: 1158 ] هذه الحال ، ولا يقع الامتحان بهم ، وهم على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا : فالسنة ، وأقوال الصحابة ، وموجب قواعد الشرع وأصوله لا ترد بمثل ذلك ، والله أعلم .
                      اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

                      تعليق


                      • #12
                        الخلاصة :


                        فذهبت طائفة من أهل العلم إلى التوقف في جميع الأطفال ، سواء كان آباؤهم مسلمين ، أو كفارا ، وجعلوهم بجملتهم في المشيئة .

                        وخالفهم في ذلك آخرون ، فحكموا لهم بالجنة ، وحكوا الإجماع على ذلك .

                        قال الإمام أحمد : لا يختلف فيهم أحد أنهم من الجنة .

                        منقول

                        المصدر : "كتاب أحكام أهل الذمة" ...

                        المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ( ابن قيم الجوزية)
                        اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

                        تعليق


                        • #13
                          ها قد عرفنا أخوتي ما هو مصير أطفال المشركين الذين ماتوا وهم أطفال ...

                          الذي أجمع على أنهم في الجنة بإذن الله ..

                          ولكن من هنا نتساءل :

                          ما هو مصير المسلمين الذين ماتوا أطفالًا حسب العقيدة النصرانية ؟ ( وبالدليل )

                          وما هو مصير النصارى الذين ماتوا أطفالًا قبل تعميدهم ؟ ( وبالدليل )
                          اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

                          تعليق


                          • #14

                            فحكموا لهم بالجنة ، وحكوا الإجماع على ذلك .

                            قال الإمام أحمد : لا يختلف فيهم أحد أنهم من الجنة .
                            وهناك دليل حي آخر من القرآن الكريم .. ألا وهو هذه الآية الكريمة :

                            { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) }
                            سورة التكوير .


                            وإن كان للأطفال المشركين أي ذنب كما وضحت الآية ألا ذنب لهم .. لحوسبوا على دين آباءهم .. ولكن الحقيقة أنهم لا ذنب لهم ..

                            وكان لتفسير الآية لابن كثير نفس المعنى أيضًا ..
                            اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النور (35)

                            تعليق


                            • #15
                              المشاركة الأصلية بواسطة (((ساره))) مشاهدة المشاركة
                              ها قد عرفنا أخوتي ما هو مصير أطفال المشركين الذين ماتوا وهم أطفال ...

                              الذي أجمع على أنهم في الجنة بإذن الله ..

                              ولكن من هنا نتساءل :

                              ما هو مصير المسلمين الذين ماتوا أطفالًا حسب العقيدة النصرانية ؟ ( وبالدليل )

                              وما هو مصير النصارى الذين ماتوا أطفالًا قبل تعميدهم ؟ ( وبالدليل )

                              ننتظر الرد .. بارك الله فيكم أختنا الفاضله سارة

                              تعليق

                              مواضيع ذات صلة

                              تقليص

                              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                              ابتدأ بواسطة محمد خالد, منذ 4 أسابيع
                              رد 1
                              34 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة خادم للجناب النبوى الشريف, 22 أكت, 2023, 06:48 ص
                              ردود 0
                              34 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة خادم للجناب النبوى الشريف  
                              ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 28 أغس, 2023, 07:58 ص
                              ردود 0
                              19 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
                              ابتدأ بواسطة mohamed faid, 18 ماي, 2023, 07:38 م
                              ردود 0
                              35 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة mohamed faid
                              بواسطة mohamed faid
                               
                              ابتدأ بواسطة Aiman93, 24 يون, 2022, 11:04 ص
                              رد 1
                              27 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة عاشق طيبة
                              بواسطة عاشق طيبة
                               
                              يعمل...
                              X