صوت يسوع المحجوب..كشف تناقضات الكتاب المقدس وأسباب عدم ملاحظتنا لها:::.د. بارت إيرمان

تقليص

عن الكاتب

تقليص

karam_144 مسلم اكتشف المزيد حول karam_144
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صوت يسوع المحجوب..كشف تناقضات الكتاب المقدس وأسباب عدم ملاحظتنا لها:::.د. بارت إيرمان

    بسم الله الرحمن الرحيم
    [frame="4 98"]وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[/frame]


    يسرني أخوكم كرم شومان وفريق الترجمة بمنتدى حراس العقيدة أن يقدم لكم ترجمةَ رائعةَ بارت إيرمان وأحدث مؤلفاته :

    Jesus, Interrupted: Revealing the Hidden Contradictions in the Bible
    (And Why We Don’t Know About Them )
    أو
    "صوت يسوع المحجوب: كشف تناقضات الكتاب المقدس (وأسباب عدم ملاحظتنا لها)"





    فهرس المحتويات

    - التمهيد (1 ، 2)


    - الفصل الأول : اعتداء تاريخي على الإيمان (1 ، 2 ، 3)


    - الفصل الثاني : عالم من التناقضات (1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7)


    - الفصل الثالث : حشود من الآراء المتنوعة (1 ، 2 ، 3 )


    - الفصل الرابع : من كتب الكتاب المقدس؟ (1 ، 2 ، 3 ، 4 )


    - كذاب، أم مجنون، أم رب؟ اكتشاف يسوع التاريخي


    - كيف وصل إلينا الكتاب المقدس


    - من اختلق الديانة المسيحية؟


    - هل الإيمان ممكن؟



    ولا تنسونا من صالح دعائكم

    الإشراف:

    للنقاش على هذا الرابط
    https://www.hurras.org/vb/showthread.php?p=166181#post166181
    التعديل الأخير تم بواسطة _الساجد_; 20 ينا, 2010, 03:31 م.
    تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على



  • #2
    تمهيد

    [align=justify] تمهيد

    وصلت إلى سيمينار برينستون اللاهوتي في عام 1978، حديث عهد بالتخرج من الكلية وبالزواج. نسختي من العهد الجديد كانت قد اهترأت من كثرة قراءتي لها، وفي القلب شغف بطلب العلم، وكان هذين هما جل ما أملكه. لم يكن شغفي بطلب العلم سمة ملازمة لي قبل ذلك. ولم يكن ثمة شخص ممن يعرفونني قبل هذه اللحظة بخمس أو ستة سنوات ليتوقع أنني سأتجه إلى أحد الأوساط الأكاديمية لبناء مستقبلي المهني. لكن الحماس إلى العمل الأكاديمي سيطر على عقلي في لحظة ما أثناء دراستي في الكلية. أعتقد أن هذا الشعور راودني للمرة الأولى في معهد مودي للكتاب المقدس في شيكاغو وهي كلية أصولية لتدريس الكتاب المقدس بدأت في التردد عليها طالبا للعلم وكنت حينها شابا في السابعة عشرة من عمري اليانع. كان دافعي العلمي عندها يؤججه رغبة دينية في الوصول إلى اليقين أكثر من كونه نتاج فضول فكري.

    كانت الدراسة في معهد مودي تجربة حادة من وجهة نظري. كنت قد ذهبت إلى هناك لأنني كنت قد خبرت تجربة «الميلاد من جديد» في المدرسة الثانوية وقررت أنني لكي أصير مسيحيًّا «جادًّا» فلابد أنني في حاجة إلى التعلم الجاد للكتاب المقدس. وعلى نحو ما وقع لي شيء بينما كنت أدرس في نصف عامي الأول في الكلية: لقد صرت متحمسًا –بل وضارٍ حتى- في بحثي عن المعرفة المتعلقة بالكتاب المقدس. في مودي لم أحصل فحسب على كل دورة أمكنني الحصول عليها في ميدان اللاهوت والكتاب المقدس، بل قمت بمبادرة شخصية مني بحفظ أسفار كاملة من الكتاب المقدس عن ظهر قلب. لم أترك لحظة فراغ إلا وقمت باستغلالها في المذاكرة. قرأت كتبا وبرعت في تدوين حواشي على المحاضرات الدراسية. كنت طوال كل أيام أسبوع تقريبا أقضي الليل في المذاكرة استعدادًا للمحاضرات.
    ثلاث سنوات على هذا المنوال سارت من شأنها أن تحدث في حياة المرء تغييرات جمة. فهي بالتأكيد ستنمي عقليته. وحينما تخرجت من مودي توجهت مباشرة إلى كلية ويتون لكي أحصل على شهادة في الأدب الإنجليزي، لكني حافظت على تركيزي المكثف على الكتاب المقدس، فواظبت على حضور دورات في تفسير الكتاب المقدس وتدريسه في كل أسبوع لأطفال من مجموعة الشباب التابعة لي داخل الكنيسة. وتعلمت اليونانية حتى أكون مؤهلا لدراسة العهد الجديد في لغته الأصلية.
    كنت، كمسيحي ملتزم يؤمن بالكتاب المقدس، على يقين من أن الكتاب المقدس، بما في ذلك كل كلمة من كلماته، منزل من عند الله. ربما هذا هو الذي كان الدافع لدراستي المكثفة. فهذه كلمات الله، وسائل اتصال خالق الكون ورب العالمين بنا، بها تحدث إلينا نحن الفانين التافهين. من المؤكد أن التعرف عليها عن قرب هو أهم شئ في الحياة، أو على الأقل هكذا كانت نظرتي إليها. إن استيعابي للأدب على نحو أوسع ربما سيساعدني على فهم هذه القطعة الأدبية على وجه التحديد(ومن هنا جاء تخصصي في الأدب الإنجليزي)؛ وقد ساعدتني القدرة على قراءة العهد الجديد باللغة اليونانية في التعرف على الكلمات الأصلية التي منحنا إياها كاتب النص الأصلي.
    كنت قد اتخذت بالفعل قرارا أثناء عامي الأول في معهد مودي أنني أريد أن أصبح أستاذا متخصصا في علوم الكتاب المقدس. بعد ذلك، أبان وجودي في ويتون، أدركت أنني كنت ذا مستوى متميز في اليونانية ولذلك كانت خطوتي التالية مفروضة علي ولم أخترها لنفسي: أعني أن أحضر الدكتوراة في دراسات العهد الجديد، وأن ينصب عملي تحديدا على جانب اللغة اليونانية. أستاذ اللغة اليونانية الأقرب إلى نفسي في ويتون، أعني جيرالد هاوثورن، عرفني على مؤلفات بروس ميتزجر، أكثر علماء المخطوطات اليونانية للكتاب المقدس في البلاد تبجيلا، والذي تصادف وأنه كان يقوم بالتدريس في سيمينار برينيستون اللاهوتي. ولهذا السبب تقدمت بأوراقي للالتحاق بسيمينار برينيستون، جاهلا تماما بحقيقة الوضع في برينستون عدا أن بروس ميتزجر هو أحد أعضاء الهيئة التدريسية فيه وأنني أريد أن أصبح خبيرًا في المخطوطات اليونانية، وكان برينيستون هو المكان المثالي الذي أنا بحاجة للالتحاق به.
    أعتقد أنني كنت أعرف شيئا واحدًا عن سيمينار برينيستون: أنه ليس معهدا إنجيليا. ولكما توطدت معرفتي بالوضع فيه خلال الشهور التي سبقت انتقالي إلى نيوجيرسي، كلما صرت عصبي المزاج. عرفت من أصدقائي أن برينيسوت هو سيمينار «ليبرالي» النزعة لا يؤمنون بين أروقته بالحقيقة الواضحة للكتاب المقدس وبإلهاميته الحرفية. أكبر التحديات التي ستجابهني لن تكون ذات طبيعة أكاديمية مجردة، أعني تحقيق النجاح الكافي في فصول المستوى الأساسي لكي أكتسب الحق في مواصلة التحضير لنيل شهادة الدكتوراة. بل ستكون قبضي على ديني واعتقادي في الكتاب المقدس ككلمة الله المنزلة والمعصومة من الخطأ.

    تابع بإذن الله تعالى .....................
    [/CENTER]
    تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


    تعليق


    • #3
      تمهيد

      [align=justify] وهكذا خطوت خطواتي الأولى على أرض سيمينار برينيستون اللاهوتي صغير السن وفقيرًا ومتلهفا مع ذلك ومهيئا لتحدى هذه الطغمة من الليبراليين برؤيتهم الأقل صرامة تجاه الكتاب المقدس. كنت مستعدا كمسيحي إنجيلي صالح لصد أي هجوم على إيماني بالكتاب المقدس. كان بمقدوري الإجابة على أي تناقض متوهم وحل أي تعارض محتمل بين دفتي كلمة الله، سواء أكانت في العهد القديم أم في الجديد. كنت أعلم أنني كان لدي الكثير لأتعلمه، إلا أنني لم أكن بصدد تعلم أن نصي المقدس يضم أغلاطًا بين دفتيه.
      بعض الأمور لم تجر كما كان مخططا لها. فما تعلمته على أرض الواقع في برينستون قادني إلى تغيير قناعاتي بشأن الكتاب المقدس. لم تتغير قناعاتي عن رضا- لقد بدأت في الصراخ والعويل. صليت لله كثيرا بهذا الشأن وقاومت هذا التغيير باستماتة، قوامته بكل قواي. لكن تزامن مع مقاومتي هذه أنني فكرت في أنني لو كنت مستسلما لله بحق، فلا مفر من أن أستسلم للحقيقة. وأصبح واضحًا لي بعد مرور وقت طويل أن رؤاي السابقة عن الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المعصومة كانت خطأ أبلقا. كان أمامي خياران: إما أن أتمسك بمعتقداتي التي صرت مدركا لخطئها أو أن أسلك السبيل الذي أؤمن أن الحقيقة ستقودني إليه. لم أختر في نهاية المطاف. فلو أن أحد الأشياء هو الحقيقة ، فهو الحقيقة، والعكس صحيح.
      خبرت أناسا عبر السنين كانوا يقولون:«لو كانت معتقداتي تخالف الحقيقة، فلتذهب الحقيقة إلى الجحيم.» لم أكن يوما واحدا من هذا الصنف. في الفصول التالية سأحاول أن أفسر كيف قصرتني المعرفة بالكتاب المقدس على تغيير معتقداتي قصرًا.
      هذا النوع من المعارف لا يتعلق فحسب بالعلماء من أمثالي، الذين كرسوا أعمارهم للبحث العلمي الجاد، بل إنها ذات صلة كذلك بكل إنسان يجد في نفسه اعتناءً بالكتاب المقدس- سواءً أكانوا يصنفون أنفسهم كمؤمنين أم لا. بحسب ما أعتقده، هذا الأمر له أهمية, فسواء أكنت مؤمنا- أصوليا كنت أم إنجيليا أم معتدلا أم ليبراليا- أم كنت ملحدًا، فالكتاب المقدس هو أهم الكتب التي أنتجتها حضارتنا. أن يصل المرء إلى إدراك الطبيعة التي كان عليها هذا الكتاب في الحقيقة، والطبيعة التي كان عليها في غير ذلك، هو واحد من أهم المساعي الفكرية التي بوسع أي شخص في مجتمعنا أن يشرع في إنجازها.
      بعض الناس عند قراءتهم لهذا الكتاب ربما يشعرون بالضيق الشديد تجاه المعلومات التي يقدمها. كل ما أطلبه منك، إن كنت واحدًا من هذا الصنف، أن تفعل ما فعلته شخصيا: أن تتعامل مع هذه الملعومات بعقل متفتح وأن تعزم على التغيير إن وجدت فيه ضرورة. أو إذا كنت من الصنف الآخر فم تجد في الكتاب ما يشعرك بالصدمة أو بالانزعاج، فاجلس واستمتع وهذا كل ما أحتاجه منك.
      أدين بجبال من العرفان لعدد من القراء الذين أنهكوا نسختي المخطوطة من هذا الكتاب قراءة وأصروا بكل نشاط وحيوية- وأرجو أن تكون جهودهم هذه قد أثمرت- أن أغير بعض المواضع فيها لكي يخرج هذا الكتاب في أبهى صورة. وأخص بالذكر في هذا الصدد: «ديل مارتن» من جامعة ييل و«جيف سايكر» من جامعة لويولا مارماونت؛ وابنتي «كيلي إيرمان كاتز»؛ وطلابي في الدراسات العليا «جيرد أندرسون» و«بينجامين وايت»؛ وقارئ فطن في شئون الطباعة؛ والمحرر الألمعي والمعوان في «هاربر وان» السيد «روجر فريت».
      ترجمات الكتاب المقدس العبري(العهد القديم) التي سأوردها في هذا الكتاب مأخوذة من النسخة المعيارية المنقحة الجديدة؛ أما ترجمات العهد الجديد فقد أخذتها من الترجمة نفسها أو من ترجماتي الشخصية؛ إقتباساتي من كتابات الآباء من ترجمتي الخاصة لأعمالهم.

      إلى حفيدتي ذات الربيعين الكاملة من كل الوجوه«إيا» أهدي هذا الكتاب.

      [/CENTER]
      تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


      تعليق


      • #4
        الفصل الأول اعتداء تاريخي على الإيمان

        [align=justify]
        الفصل الأول



        اعتداء تاريخي على الإيمان



        الكتاب المقدس هو أكثر الكتب مبيعًا وأوسعها قراءةً وأعلاها توقيرًا في تاريخ الحضارة الغربية. بل إن البعض يجادل بالقول إنه كذلك أكثر الكتابات التي كانت عرضة لإساءة الفهم من جهة عامة القراء من الدوائر التي لا تنتمي إلى طبقة رجال الدين على وجه التحديد.
        حقق علماء الكتاب المقدس تقدمًا عظيما في تفسيرهم للكتاب المقدس خلال القرنين الأخيرين اعتمادًا على الاكتشافات الأثرية والتقدم الذين تحققا بشأن معرفتنا باللغتين اليونانية والعبرية اللتين كتبت بهما أسفار الكتاب المقدس في شكلها الأصلي، وعلى التحليلات الأدبية والتاريخية والنصية المعمقة والمتأنية. وهذا نشاط ضخم يبذله العلماء. حسبك أن تعلم أن آلافا من العلماء في أمريكا الشمالية وحدها يواصلون القيام بأبحاثهم الجادة في هذا الميدان، وتتحول نتائج أبحاثهم بانتظام وعلى نحو اعتيادي إلى مادة دراسية يتعلم منها طلبة الدراسات العليا في الجامعات وكذلك قساوسة المستقبل ممن يدرسون في معاهد اللاهوت(السيمينارات) التي تعدهم لتولي مناصب كهنوتية.
        مع هذا، ما تزال آراء هؤلاء العلماء حول الكتاب المقدس مجهولة لدى الأفراد العاديين بوجه عام. والسبب في هذا في أغلب الأحوال هو أن زملاءنا ممن ينفقون أوقاتهم المهنية في دراسة الكتاب المقدس لم يبذلوا جهدًا في توصيل هذه المعارف للعامة ولأن عددا كبيرا من القساوسة ممن تعلموا هذه العلوم في المعاهد الدينية لا يقاسمون، لعدد من الأسباب، أبناء أبرشياتهم هذه المعارف عندما يتسلمون مناصبهم في الكنيسة(الكنيسة هي، أو يفترض أن تكون كذلك، أنسب الأماكن لتعلم الكتاب المقدس ومدارسته). نتج عن ذلك أن غالبية الأمريكيين لم يتزايد جهلهم بمحتوى الكتاب المقدس فحسب، بل تعدى الأمر إلى أن صاروا مغيبين تماما عما ظل العلماء يقولونه عن الكتاب المقدس طوال العقدين الأخيرين. من هنا يأتي هذا الكتاب وغرضي من كتابته أن أساعد في معالجة هذه المشكلة. وبمقدورك، أيها القارئ، أن ترى فيه محاولة من جانبي لإماطة اللثام عن هذا الأسرار الدفينة.
        وجهات النظر التي سأعرضها في ثنايا الفصول التالية ليست آرائي الشخصية حول الكتاب المقدس. بل هي آراء ظلت متداولة لسنوات كثيرة بين الغالبية الغالبة من علماء النقد الجادين ممن امتهنوا مهنة التدريس داخل أروقة الجامعات والمعاهد في أمريكا الشمالية وأوروبا، حتى لو لم يتم إيصالها بفاعلية إلى الشعوب بوجه عام، ناهيك عن نشرها بين المؤمنين الذين يحملون في نفوسهم توقيرا خاصا تجاه الكتاب المقدس والذين يفترض بهم أن يكونوا أكثر البشر اعتناءً بأمر على هذه الشاكلة. أقول لمن يطمحون أن يحصلوا على قسط جيد من المعرفة في هذا الباب، وأن يصيروا من أهل العلم، وأن يكونوا من أهل الاطلاع، هذا الواقع لابد أن يتغير.

        مقدمة للتلاميذ عن الكتاب المقدس


        تلقت الغالبية العظمى من المتعلمين في المؤسسات التعليمية الكتابية معارفهم داخل المعاهد اللاهوتية. شريحة واسعة من الطلاب يغيرون مسارهم، بطبيعة الحال، نحو المعاهد في كل عام. عدد كبير من هؤلاء قد حضروا دروسًا عن الكتاب المقدس أثناء الأعوام التي قضوها في المدارس، بل بعضهم تعود دراسته للكتاب المقدس إلى أيام فصول مدارس الأحد التي كان يحضرها في طفولته. لكنهم درسوا الكتاب المقدس دراسة تقليدية من منظور إيماني، قرأوه ليحصلوا منه على إرشادات تحدد لهم أي العقائد بها يؤمنون وأي السبل يسلكون في حياتهم اليومية. نتج عن هذا أن هؤلاء الطلاب لم يكونوا معنيين بما اكتشفه العلماء عن مشكلات الكتاب المقدس حينما درسوه من منظور أكثر موضوعية وأكثر اعتبارا للحقائق التاريخية، بل لم يكونوا حتى معرضين لاستكشاف ذلك.
        نوع آخر من التلاميذ هم جادون في القيام بواجباتهم الدراسية على أحسن وجه في المعاهد التعليمية لكنهم فيما يبدو تعوزهم المعرفة الواسعة بالكتاب المقدس أو يتمسكون بآراء حاسمة فيما يتعلق بالكتاب المقدس باعتباره كلمة الله التي أوحاها. هؤلاء التلاميذ هم في كثير من الأحوال مؤمنون بالفطرة وبالتربية، وهم يشعرون أنهم مختارون للكهنوت، غالبيتهم يشعرون أنهم مختارون للعمل الكهنوتي بين جدران الكنيسة، لكن عدد لا بأس به منهم يمارس الكهنوت بمختلف أشكاله الاجتماعية. من بين الطوائف الكبيرة داخل البلاد- أتباع الكنيسة المشيخية، والمنهجيين(الميثوديست)، واللوثريين وأتباع الكنائس الأسقفية وغيرهم- عدد لا بأس به من هؤلاء التلاميذ هم بالفعل ممن أُصنِّفُهم كمناصرين للاتجاهات المتحررة. هؤلاء لا يؤمنون بعصمة الكتاب المقدس وهم أكثر التزاما نحو الكنيسة باعتبارها مؤسسة أكثر منهم ملتزمين نحو الكتاب المقدس باعتباره برنامج عمل يوضح ما يجب أن يعتنقه الإنسان من عقائد وما ينبغي أن يسلكه من سلوكيات في حياته. وكثير منهم لا يعلمون الكثير عن الكتاب المقدس وجل ما لديهم من معرفة هو مجرد مفاهيم ضبابية عن ما يقدمه من قيم دينية.

        لا يمضي الأمر دائما على هذا النحو في المعاهد العلمية البروتسانتية. في العقود المبكرة كان من الممكن افتراض إمكانية أن يلتحق طالب ما بمعهد ما من المعاهد حاملا في جعبته مقدارًا هائلا من المعرفة عن الكتاب المقدس، وأن تفترض عملية التدريب على الأعمال الكهنوتية مسبقا أن الطلاب لديهم معرفة بالمحتوى الأساسي للعهدين كليهما، القديم والجديد. من المحزن أن هذا الأمر لم يعد له وجود. حينما كنت أدرس في معهد «برينستون» اللاهوتي(وهو مدرسية تابعة للطائفة المشيخية) في أواخر سبعينات القرن العشرين، غالبية زملائي في الدراسة كانوا مطالبين بتلقي دروس تقوية في سبيلهم لاجتياز اختبارا كنا نسميه اختبار « الكتاب المقدس للأطفال »، وقد كان امتحانا يقيس معلومات الطالب عن أبسط أبجديات المعرفة فيما يتعلق بالكتاب المقدس – ما هي«الأسفار الخمسة»؟ من هو «ثاوفيلوس»؟- وهي المعلومات التي يحفظها غالبيتنا، نحن الصادرين عن خلفيات إنجيلية راسخة، عن ظهر قلب.

        إحساسي الداخلي أن غالبية الطلاب الذين يلتحقون بفصلهم الأول في دروس السيمينار التعليمية لا يعرفون ما عليهم أن يتوقعوه من تلك الحلقات الدراسية التي سيلتحقون بها عن الكتاب المقدس. هذه الفصول هي فحسب جزء صغير من المنهج الدراسي بطبيعة الحال. هناك حلقات دراسية أخرى مطلوبة في تاريخ الكنيسة واللاهوت النظامي والتعليم المسيحي و الخطابة وفنون الوعظ، وإدارة الكنيسة. هذا كم كبير من المواد يصعب ضغطه في ثلاث سنوات. لكن كل امرأٍ مطالب بتلقي دورات دراسية تحضيرية ومتقدمة في الدراسات الكتابية. طلاب كثر يتوقعون أن تتلى هذه الدورات على مسامعهم من زاوية نظر دينية إن على نحو أكبر أو أقل، وأن تكشف لهم كيف، باعتبارهم كهنة المستقبل، يمتلكون ناصية الكتاب المقدس وكيف يجعلونه خلال المواعظ الأسبوعية قابلا للتطبيق في حياة الناس.

        هذا النوع من الطلاب من المحتمل أن يمر بصحوة عنيفة. الاتجاه الرئيس من المعاهد الدينية(السيمينارات) البروتسانتية في هذه البلاد مشهورة بتحديها للمعتقدات المألوفة في أذهان الطلاب نحو الكتاب المقدس – حتى إذا كانت هذه المعتقدات المألوفة هي ببساطة شعور دافئ وغامض بأن الكتاب المقدس هو الدليل الأريب إلى الإيمان والعمل، وبأنه ينبغي أن يعامل بتوقير وبتقوى. هذه المعاهد تمنح علما جادًّا وحاسمًا وغير قابل للتشكيك فيما يتعلق بالكتاب المقدس. لا تمنح هذه المعاهد تدليلا للمعتقد الديني. يدرس في هذه المعاهد علماء يتمتعون باطلاع كاف على ما دأب العلماء من المتحدثين باللغتين الإنجليزية والألمانية على قوله عن الكتاب المقدس طيلة القرون الثلاثة الماضية. وهم شغوفون بجعل طلابهم على اطلاع حسن عن الكتاب المقدس، أكثر من شغفهم بتعليمهم ما هو مكتوب بالفعل بين دفتي الكتاب المقدس. دروس الكتاب المقدس في المعاهد عادة ما يتم مدارستها من زاوية تاريخية وأكاديمية محضة، وهو ما لا يشبهه أي شئ يتوقعه غالبية طلاب السنة الأولى ولا يشبهه أي شئ سمعوا عنه من قبل سواء داخل الكنيسة، أو في البيت أو في مدارس الأحد.

        المنهج المعتمد في التعامل مع الكتاب المقدس في غالبية السيمينارات البروتستانتية(والكاثوليكية في العصر الحاضر) التقليدية هو ما يعرف باسم منهج «النقد التاريخي». هذا المنهج يختلف تمام الاختلاف عن ذلك المنهج«الإيماني» في التعامل مع الكتاب المقدس الذي يتعلمه المرء في الكنيسة. المنهج التعامل مع الكتاب المقدس صدورًا عن آراء إيمانية يهتم كثيرًا بالحديث عن ما يقوله الكتاب المقدس – خاصة ما على الكتاب المقدس أن يقوله لي على المستوى الشخصي أو ما يقوله لمجتمعي الذي أعيش فيه. ماذا يقول لي الكتاب المقدس عن الله؟ عن المسيح؟ عن الكنيسة؟ عن علاقتي بالعالم؟ عن الإيمان الذي سأعتنقه؟ عن سلوكي في الحياة كيف يكون؟ عن مسئولياتي تجاه المجتمع؟ كيف يمكن للكتاب المقدس أن يقربني من الله زلفًا؟ كيف يساعدني على العيش؟

        المنهج النقدي التاريخي لديه مجموعة مختلفة من الاهتمامات ولهذا يقدم لنا مجموعة مختلفة من الأسئلة. في قلب هذا المنهج تأتي القضية التاريخية(ومن هنا استقى المنهج اسمه) المتعلقة بمعاني نصوص الكتاب المقدس في سياقها التاريخي الأصلي. من هم الكتاب الحقيقيون للكتاب المقدس؟ هل من الممكن(نعم ممكن!) أن يكون مؤلفو بعضا من أسفار الكتاب المقدس ليسوا هم في الحقيقة من زعموا أنهم مؤلفوها، أو من زُعِمَ أنهم كذلك – كالقول إن الرسالة الأولى إلى تيموثاوس، على سبيل المثال، لم يكتبها بولس، أو إن سفر التكوين لم يكتبه موسى؟ متى عاش هؤلاء المؤلفون؟ ما هي الظروف التي كتبوا كتاباتهم في ظلها؟ ما هي المشكلات التي كانوا يحاولون مواجهتها في عصرهم هذا؟ كيف أثرت عليهم الافتراضات الثقافية والتاريخية التي سادت زمانهم؟ ما هي مصادرهم التي استقوا منها معلوماتهم؟ متى أنتجت هذه المصادر؟ هل يمكن أن تكون وجهات نظر هذه المصادر مختلفة أحداها عن الأخرى؟ هل من الممكن أن يكون لدى كل مؤلف ممن استعملوا هذه المصادر وجهات نظر مختلفة عن ما لدى مصادره من وجهات نظر أو عن بعضهم البعض سواءً؟

        هل من الجائز أن تكون أسفار الكتاب المقدس التي اعتمدت على مصادر متنوعة تضم بين ثناياها تناقضات داخلية؟ أو أن يكون ثمة تناقضات لا يمكن التوفيق بينها بين تلك الأسفار؟ وهل يمكن أن يكون معنى الأسفار الذي كان يقصده المؤلف في سياقه الأصلي في الأساس مختلفا عن تلك المعاني التي استقر الناس اليوم على أنها هي المعنى المقصود من الأسفار؟ أو أن تكون تفسيراتنا للكتاب المقدس تضم بين ثناياها اجتزاء الكلمات اجتزاءً من سياقها ومن ثم تشويها لما تحويه من رسالة؟
        وماذا سيكون الحال إذا كنا لا نملك حتى كلمات النص الأصلية؟ وماذا لو كانت كلمات الكتاب المقدس، أثناء القرون التي كان ينسخ فيها الكتاب المقدس- بعهديه كليهما، القديم وهو المكتوب بالعبرية، والجديد وهو المكتوب باليونانية، نسخًا يدويًّا، قد تعرضت للتحريف بيد نساخ تميزوا بحسن نياتهم وإهمالهم، أو على يد نساخ كانوا في أوج يقظتهم قصدوا إلى تحريف النصوص قصدًا لكي يقصروها قصرًا على أن تقول ما أرادوا منها أن تقوله؟

        هذه الأسئلة هي عينة صغيرة من الأسئلة الكثيرة التي يثيرها منهج النقد التاريخي. لا عجب إذن أن يكون لزاما على الطلاب الملتحقين حديثا بتلك المعاهد أن يحصلوا على دروس تقوية تعينهم على اجتياز اختبارات «الكتاب المقدس للأطفال» قبل حتى أن يكون بمقدورهم أن يبدؤوا دراسة جادة للكتاب المقدس. هذا النوع من الدراسات يفترض مسبقا أنك تعرف ما ستتكلم عنه قبل أن تبدأ في الكلام عنه.
        نسبة كبيرة جدا من طلاب السيمينارات يفاجئهم منهج النقد التاريخي. فهم يلتحقون ويراودهم أمل بأن يتعلموا الحقائق الدينية عن الكتاب المقدس لكي يكون بوسعهم تمريرها في مواعظهم إلى المؤمنين، كما وقع لهم مع كهنة كنائسهم. لا شئ يعدهم لصدامهم بالنقد التاريخي. ما يفاجئهم هو أنهم يتعلمون حصيلة ما أقره علماء النقد التاريخي معتمدين على قرون من الأبحاث بدلا من تعلم مضامين وعظية. الكتاب المقدس يغص بالاختلافات، وكثير من هذه الاختلافات هي تناقضات غير قابلة للتوفيق بينها. فموسى لم يكتب الأسفار الخمسة( أي أول خمسة أسفار من العهد القديم) ومتَّى ومرقص ولوقا ويحنا لم يكتب أي منهم تلك الأناجيل. هناك كتب أخرى لم تعتبر جزءًا من الكتاب المقدس اعتبرت في وقت من الأوقات جزءًا من لائحة الأسفار المعتمدة – على سبيل المثال أناجيل تختلف عن الأناجيل الرسمية يزعم أنها من نتاج أقلام تلامذة يسوع بطرس وتوما ومريم. واقعة الخروج، على الأرجح، لم تقع على الوصف الذي ورد عليه في العهد القديم. غزو أرض الميعاد يعتمد على الأرجح على رواية أسطورية. والأناجيل تتناقض فيما بينها في عدد من النقاط وتتضمن معلومات ليس عليها دليل تاريخي. من العسير معرفة ما إذا كان موسى قد كان له وجود في عصر من العصور وما هو الشكل الأصلي لتعاليم المسيح التاريخي. المرويات التاريخية التي ذكرت في العهد القديم تغصُّ بالاختلاقات الأسطورية وسفر الأعمال في العهد الجديد يحتوي معلومات غير موثق بها من الناحية التاريخية عن حياة بولس الرسول وتعاليمه. كثير من أسفار العهد الجديد مكتوبة بأسماء مستعارة(pseudonymous)- أي أن الرسل لم يكونوا هم كاتبيها بل مؤلفين من عصور متأخرة ادعوا أنهم الرسل. والقائمة تطول.

        بعض هؤلاء الطلاب يتقبلون هذه الآراء الجديدة من الوهلة الأولى. أما الآخرون – وخاصة من بين الطلاب الأكثر محافظةً- يقاومون لفترة طويلة مطمئنين إلى معرفتهم أن الله لم يكن ليسمح بمرور البهتان إلى كتابه المقدس. لكن قبل فوات الأوان، ولأن الطالب يرى البراهين أكثر وأكثر، يجد كثير منهم أن إيمانهم بعصمة الكتاب المقدس ومصداقيته من الناحية التاريخية يبدأ في الاضطراب. هناك ببساطة الكثير جدا، جدا من الأدلة، وللتوفيق بين كل هذه المئات من الاختلافات بين المصادر الكتابية ينبغي وجود الكثير جدا من التخمين ومن المناورات التفسيرية الوهمية التي في النهاية تصل إلى أنك لا قبل لك بالتوفيق بينها.

        [/CENTER]
        تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


        تعليق


        • #5
          الفصل الأول اعتداء تاريخي على الإيمان

          [align=justify]
          من السيمينار إلى منبر الوعظ


          إحدى خصائص الاتجاه السائد من المسيحية المثيرة للدهشة وللحيرة معا هو أن خريجي السيمينارات الذين تعلموا مبادئ المنهج النقدي التاريخي في فصول دراسة الكتاب المقدس يبدون وكأنهم قد نسوا كل ما تعلموه حينما يحل موعد التحاقهم بسلك الكهنوت. يعَلَّمون مناهج نقدية في التعامل مع الكتاب المقدس، يتعلمون أمورًا عن الاختلافات والتناقضات، يكتشفون كل أنواع الأخطاء والأغاليط التاريخية، يبدأون في إدراك أنه من العسير أن يعرف المرء ما إذا كان موسى قد كان له وجود تاريخي أو أن يعرف ما قاله يسوع فعليا وفعله ، يجدون أن هناك أسفارًا أخرى كانت في وقت من الأوقات معتبرة بين الأسفار المعتمدة ككتب إلهية ولكنها في نهاية الأمر لم ينته بها الحال بين جلدتي الكتاب المقدس ككتب معترف بصحتها( هناك على سبيل المثال أناجيل وأسفار رؤوية أخرى)، يحصل أنهم يعترفون أن عددا لا بأس به من أسفار الكتاب المقدس هي كتب مكتوبة بأسماء مستعارة(كأن يكتب شخص آخر كتابا ثم يدعي أن رسولا من الرسل قد كتبه)، وأننا في حقيقة الأمر لا نمتلك أي نسخ أصلية من أسفار الكتاب المقدس بل نسخا كتبت بعد ذلك بقرون وكلها تعرضت للتحريف.
          يتعلمون كل هذا، إلا أنهم بمجرد أن يلتحقوا بالكهنوت الكنسي، يبدون وكأنهم قد تركوا كل ما تعلموه جانبًا. يمتنع القساوسة عموما، لأسباب سأتطرق إليها في الخاتمة، عن بذل ما تعلموه عن الكتاب المقدس في السيمينار.[2]
          أتذكر جيدا أول مرة أدركت فيها هذا الأمر على نحو ملموس. كنت قد بدأت للتو في التدريس في جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل، وكنت وقتها ما أزال مسيحيًّا. طلب إلي أحد قسوس الكنيسة المشيخية في نورث كارولينا أن أحضر سلسلة تلقى على مدى أربعة أسابيع تتناول قضية «يسوع التاريخي». وقد نفذت ما طلب مني بالفعل. تحدثت، أثناء إلقائي لمحاضراتي تلك، عن الأسباب التي تعيق المؤرخين عن اعتماد الأناجيل كمصادر تاريخية، وذلك في ضوء ما تشتمل عليه هذه الأناجيل من تناقضات وحقيقة أنها قد كتبت بعد عشرات السنين من زمان المسيح بيد مؤلفين مجهولين ورثوا رواياتهم عن حياته من تراث شفوي قابل للتشكل لأقصى درجة. تطرقت أيضًا إلى الحديث عن كيف أبدع العلماء مناهج لإعادة تشكيل ما وقع من أحداث أثناء حياة يسوع، وأنهيت السلسلة بترتيب ما نعرف من معلومات حقيقية عن حياته. لم يكن ثمة جديد على الإطلاق بين ما تناولته بالنقاش- كان ما ناقشته مجرد معلومات علمية نمطية من ذلك النوع الذي جرى تداوله تدريسا وتعليما في السيمينارات خلال ما يربو عن خمسين عاما. تعلمت كل هذه المعلومات أبان وجودي شخصيا في سيمينار برينيستون.
          بعيد ذلك اقتربت مني سيدة عزيزة طاعنة في السن وسألتني وقد أصابها الإحباط:«لماذا لم أسمع عن هذا من قبل؟» لم تكن غضبة على ما تفوهت به؛ كان صمت قس الكنيسة التي تصلي فيها عن إخبارها مثل هذا الكلام هو ما أغضبها. أتذكر أن عيناي قد التفتتا عبر ردهة الزملاء لتقع على القس الذي كان منهمكا في حوار مع زوجين آخرين من المترددين على الأبرشية، وكان التساؤل نفسه يعتمل في صدري: لماذا لم يخبرها هذا الأمر من قبل؟ هو الآخر كان قد درس في معهد برينيستون اللاهوتي، وتعلم القضايا نفسها؛ لقد حاضر في هذه الكنيسة في فصول تربية الراشدين وكان يفعل ذلك حتى لحظتنا هذه لما يربو عن خمس سنوات. لماذا لم يخبر أبناء أبراشيته عما يعرف عن الكتاب المقدس وعن يسوع التاريخي؟ من المؤكد أنهم يستحقون أن يسمعهم هذا . أكان هذا لأنه يعتقد أنهم «غير مستعدين» لسماع هذا- وهو الموقف الوقائي الشائع شيوعًا مزعجًا؟ أكان يخشى من أن «يحدث بلبلة»؟ أم كان يخشى أن تؤدي تلك المعلومات التاريخية إلى تدمير إيمان أبناء رعويته؟ أم لعله كان خائفا أن ألا يتعامل زعماء كنيسته بلطف مع إذاعة هذا النوع من المعرفة؟ هل يمارس زعماء الكنائس بالفعل ضغوطا عليه لكي يتمسك بالمعنى الديني للكتاب المقدس في الوعظ والتعليم؟ هل كان قلقا على استقراره الوظيفي؟ لم أكتشف الإجابة على هذا التساؤلات أبدًا.
          لا أقول إن الكنائس عليها أن تكون جامعات مصغرة يعمل فيها القسوس كأساتذة من فوق منابر الوعظ. لكن بالتأكيد دور الخدمة الكهنوتية يتعدى مهمة التبشير بـ«الأخبار السارة»(نتفهم هذه المهمة مع ذلك) أسبوعيا. فهي تتضمن كذلك دور التعليم. غالبية الكنائس بها فصول لتعليم البالغين. لماذا لا يتم تثقيف هؤلاء البالغين؟ خبرتي مع هذه الكنيسة تحديدًا ليست حالة فريدة من نوعها.
          أعلم سنويا المئات من الطلاب في دورة «مقدمة إلى العهد الجديد» التي أقوم بتدريسها في تشابيل هيل. يوجد في العادة ما بين 300 إلى 350 طالبا في هذا الصف. لا أدارس صفي، بطبيعة الحال، صدورا عن وجهة نظر دينية أو كهنوتية- وهي وجهة النظر الذي اعتاد غالبية هؤلاء التلاميذ، كونهم قد ربوا داخل الكنيسة، على الاستماع إليها- بل انطلاقا من منهج النقد التاريخي. المعلومات وزوايا الرؤية التي طرحتها في هذا الصف ليس بها أي فكرة متطرفة. بل هي أفكار تجدها بين علماء النقد الذين يتناولون الكتاب المقدس من زاوية رؤية تاريخية- سواء أكان العلماء أنفسهم مؤمنين أو كانوا ملحدين، بروتستانت أو كاثوليك، يهود أو لا أدريين، أو كانوا من أي ملة أخرى. إنها وجهات النظر التي تعلمتها في السيمينار والتي يجري تعليمها في المدارس اللاهوتية والجامعات في أنحاء البلاد. مع ذلك فهي الرؤى التي لم يسمع عنها تلامذتي من قبل مطلقا، رغم أن غالبية هؤلاء الطلاب قد قضوا جزءًا كبيرًا من أعمارهم في مدارس الأحد وداخل الكنائس.
          كان لتلامذتي مجموعة من ردود الأفعال على هذه الأفكار. كثير من تلامذتي الأكثر ميلا إلى الاتجاه المحافظ يشبهونني حينما كنت في مرحلتهم العمرية ذاتها- متيقنون من صحة الكتاب المقدس المطلقة ويشعرون بالقلق نحو أي شخص ربما يخضعه للبحث وللتساؤل. البعض من هؤلاء الطلاب يرفضون الإصغاء- يبدو الأمر كما لو كانوا يستغشون ثيابهم ويصمون آذانهم ويغمغمون بصوت عال حتى لا يتوجب عليهم أن يسمعوا أي شئ قد يثير الشكوك لديهم في معتقداتهم المحببة في الكتاب المقدس. البعض الآخر يشعرون بالتلهف لأن يخلعوا عن أنفسهم نير الكنيسة والدين بالكلية، ملتهمين هذه المعلومات التي أقوم بمنحهم إياها التهاما كما لو كانت تمنحهم ترخيصا للكفر.
          شخصيا، لا أعتقد أن ردَّي الفعل كليهما- سواء أكان الرفض المطلق للرؤية الجديدة نحو الكتاب المقدس أو كان التبني المتلهف لها على نحو متطرف – هو رد فعل مثالي. رد الفعل الذي أفضله هو ما يصدر عن هؤلاء الطلاب الذين يدرسون المادة العلمية بحذر ويتأملونها تأملا عميقا، ويشككون في بعض افتراضاتها واستنتاجاتها(وافتراضاتهم الشخصية واستنتاجاتهم كذلك) والتي تلقي ظلالا على الكيفية التي قد تؤثر بها على الطريقة التي ينظرون من خلالها إلى الكتاب المقدس والديانة المسيحية التي ربوا عليها، وينظرون بحذر إلى تأثيراتها المحتملة عليهم شخصيا. واحد من أهدافي الرئيسة بطبيعة الحال أن أصل بهم إلى مرحلة استيعاب المادة المخصصة للدراسة خلال دورتي العلمية. إنها مع ذلك مجرد معلومات تاريخية بشأن ديانة تاريخية ومجموعة من الوثائق المعتمدة على أحداث تاريخية. ليس المقصود من هذا الفصل الدراسي أن يكون تدريبا لاهوتيا لتعزيز إيمان المرء أو توهينه. ولكن لأن الوثائق التي ندرسها هي، بالنسبة للكثيرين من طلابي، وثائق تنتمي ملكيتها إلى العقيدة، فمن المتحتم أن يكون لمنهج النقد التاريخي الذي نستعمله في الفصل تأثيرات على الإيمان. وهناك أهداف نهائية أخرى في مخيلتي- كما ينبغي على كل أستاذ جامعي- كأن أدفع طلابي إلى التفكير.



          تقبل منهج النقد التاريخي


          مثل جموع غفيرة من طلاب السيمينارات، ما إن صرت أرى القيمة الكامنة في منهج النقد التاريخي أيام دراستي في سيمينار برينيستون، بدأت في تبني هذا التوجه الجديد(بالنسبة لي)، في البداية بحذر بالغ، فقد كنت غير راغب في أستسلم كليةً للمنهج العلمي. لكني في نهاية المطاف رأيت منطقا قويا وراء منهج النقد التاريخي وارتميت بقلبي وروحي بين أحضان دراسة الكتاب المقدس من هذا المنظور.
          من العسير بشدة أن أعين اللحظة التي توقفت فيها عن اعتبار نفسي أصوليا يؤمن بعصمة الكتاب المقدس المطلقة وإيحائه الحرفي تعيينا دقيقا. فكما أوضحت في كتابي«تحريف أقوال المسيح» كانت القضية الرئيسة بالنسبة لي في وقت مبكر من هذه المرحلة هو حقيقة أننا لا نملك الوثائق الأصلية لأي سفر من أسفار الكتاب المقدس، ما نملكه هو نسخ جرى إنتاجها في مرحلة لاحقة- في غالبية النماذج، بعد عصر المسيح بقرون. بالنسبة لشخصي، صار تقبلي لفكرة أن الله قد أوحى كل كلمة من النص يتضاءل شيئا فشيئا لأننا لا نملك هذه الكلمات في حقيقة الأمر، فلو كانت النصوص بالفعل قد تعرضت للتحريف في آلاف كثيرة من المواضع، فبعض هذه التغيرات غير ذات أهمية، لكن البعض الآخر من الأهمية بمكان. لو أراد الله أن تصلنا كلماته، فلماذا لم يحرص على حفظها؟
          قريبا من هذا الوقت الذي كنت قد بدأت خلاله في التشكك في أن الله قد أوحى كلمات الكتاب المقدس، بدأت الدروس التي كنت أواظب على حضورها والتي يجري التدريس فيها وفقا لمعطيات منهجية النقد التاريخي. بدأت في رؤية التناقضات التي يشتمل عليها النص. علمت أن بعض أسفار الكتاب المقدس كان بينها وبين أسفار أخرى اختلافات. بدأت في الاقتناع بالحجج التي تزعم أن بعض الأسفار لم يكتبها المؤلفون التي سميت بأسمائهم. وبدأت في رؤية أن كثيرًا من العقائد المسيحية التقليدية التي آمنت لزمان طويل أنها بمنأى عن المساءلة، عقيدة لاهوت المسيح على سبيل المثال وعقيدة الثالوث المقدس، لم يكن له حضور في التقاليد المخطوطة للعهد الجديد الأكثر قدمًا وإنما جرى تطويرها عبر السنين وأنها تختلف كثيرًا عن التعاليم الأصلية ليسوع وتلاميذه.
          هذه المفاهيم كان لها وقع عميق على إيماني وعلى إيمان كثير من زملائي في السيمينار في هذا الوقت واستمر تأثيرها هذا على كثير من طلبة السيمينارات إلى اليوم. خلافا لكثير من زملاء دراستي، لم أرتد، مع ذلك، إلى المنهج العقائدي في التعامل مع الكتاب المقدس بعيد تخرجي بدرجة الأستاذية في اللاهوت. بل كرست نفسي بإخلاص أكثر لتعلم المزيد عن الكتاب المقدس من وجهة نظر تاريخية وعن الإيمان المسيحي الذي اعتقدت أن الكتاب المقدس يبشر به. كنت قد بدأت دراستي في السيمينار كأصولي مولود من جديد؛ وقريبا من لحظة تخرجي كنت أتحول إلى الشكل الليبرالي من المسيحية الإنجيلية، ذلك الشكل الذي كان ما يزال ينظر إلى الكتاب المقدس باعتباره يوصل تعاليم هامة من الله إلى شعبه، لكن باعتباره كذلك يغص بوجهات النظر البشرية وبأخطائهم.
          وكلما مر الوقت كما تواصلت قناعاتي في تطورها. لم أنتقل من كوني شخصا يؤمن بالرؤى الإنجيلية إلى لا أدريٍّ بين ليلة وضحاها. بل العكس تماما هو الصحيح: فبعد خمسة عشر من اللحظة التي تخليت فيها عن معتقداتي بشأن الإلهام الحرفي للكتاب المقدس، كنت ما أزال مسيحيا مؤمنا- أعني من المترددين على الكنيسة والمؤمنين بالله ومن المسيحيين المواظبين على الاعتراف بخطاياهم. بدأت وجهات نظري تنحاز إلى الاتجاهات المتحررة. قادتني بحوثي إلى الشك في جوانب مهمة من جوانب عقيدتي. في نهاية الأمر، وليس بعد وقت كبير من مغادرتي للسيمينار، وصلت إلى حالة كنت أثناءها مؤمنا تمام الإيمان بالله، لكن مؤمنا بالكتاب المقدس على معنى أكثر مجازية وأقل حرفية: لقد بدا الكتاب المقدس بالنسبة إلي أنه يحوي بين دفتيه مواد أدبية أوحاها الله، أعني أن بمقدورها أن تثير في النفس أفكارًا صحيحة و مفيدة عن الله، لكنه مع ذلك كان لا يزال مؤلَّفا أنتجته أياد بشرية ويحتوي كل أنواع الأخطاء التي سيقع فيها أي مغامرة بشرية. وعند تلك النقطة حل زمان هجرت فيه الإيمان. لم يكن سبب ذلك ما تعلمته عبر النقد التاريخي، بل لأن يلم أعد قادرا على التوفيق بين إيماني بالله وبين حال العالم الذي أرى فيه كل هذه الأحداث التي تدور من حولي. هذه هي القضية التي تناولتها في كتابي «مشكلة الرب: كيف فشل الكتاب المقدس في إجابة أكثر الأسئلة أهمية- لماذا نعاني.» هناك الكثير من الآلام والبؤس الذين لا منطق من ورائهما ما جعلني أنتهي إلى أنه من المستحيل أن أؤمن بأن هناك إله خير ومحب يسيطر على هذا العالم، على الرغم من علمي بكل الأجوبة النمطية التي يقدمها الناس على هذه الأسئلة.
          هذا الموضوع سأفرده بالبحث في كتاب آخر، لكنها من بعض النواحي ذات علاقة وثيقة بكتابنا هذا لأنني خلال خمسة عشر عامًا بين لحظ هجراني لالتزاماتي كإنجيلي وبين الوقت الذي تحولت فيه إلى المذهب اللاأدري، كنت منهمكا بصدق في النقد التاريخي للكتاب المقدس، وخاصة فيما يتعلق بالعهد الجديد. وهنا أريد أن أؤكد على نقطة سأكرر الحديث عنها على نحو أكثر تفصيلا في الفصل الأخير من هذا الكتاب. لا أعتقد على نحو صارم أن الاشتغال بالنقد التاريخي بالضرورة سيؤدي بالدارس إلى أن يفقد إيمانه.
          كل أصدقائي المقربين(وقبل المقربين) في ميدان دراسات العهد الجديد يتفقون معي تمام الاتفاق في غالبية آرائي التاريخية بشأن العهد الجديد ويسوع التاريخي وتطور الإيمان المسيحي والقضايا الأخرى المشابهة. ربما نختلف في هذه النقطة أو تلك(وفي الحقيقة نختلف بالفعل- فنحن في النهاية علماء)، لكننا نتفق جميعا على نجاعة المناهج النقدية التاريخية والاستنتاجات الرئيسة التي تؤدي إليها. كل هؤلاء الأصدقاء، مع ذلك، ظلوا على التزامهم بالمسيحية. البعض يدرس في الجامعات، والبعض يفعلها في السيمينارات والمدارس اللاهوتية. والأغلبية يكدون بنشاط في كنائسهم. وهم رأوا في المناهج النقدية التاريخية للكتاب المقدس في مرحلة الدراسة في السيمينار صدمة، لكن إيمانهم تغلب على الصدمة. في حالتي، أدى بي النقد التاريخي إلى الشك في إيماني. ليس الشك في الجوانب السطحية للإيمان، بل في أكثرها محورية. مع ذلك فقضية المعاناة هي التي قادتني إلى اللاأدرية وليس التعامل مع الكتاب المقدس من منظور تاريخي.
          ليس هذا الكتاب إذن عن هجراني للإيمان. بل هو بالأحرى عن أن أنماطا معينة من أنماط الإيمان- وخاصة الإيمان بالكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المعصومة والموحاة- لا يمكنها أن تصمد في ضوء ما توصلنا إليه، نحن المؤرخين، من معارف عن الكتاب المقدس. وجهات النظر والرؤى التي بثثتها في هذا الكتاب هي آراء ينظر إليها في أوساط العلماء كقواعد معيارية. لا أعرف عالما واحدا من علماء الكتاب المقدس سيدرس ولو بندًا واحدًا مما سيرد في هذا الكتاب، على رغم أنهم سيختلفون مع الاستنتاجات هنا أو هنالك. من الناحية النظرية، لا يتوقع أن يتعلم قس الكثير من هذا الكتاب لأنه هذه المعلومات يتم تدريسها على نطاق واسع في السيمينارات والمدارس الدينية. لكن الناس في الشارع وعلى المقاعد الخشبية داخل الكنائس لم يسمع غالبيتهم هذه المعلومات من قبل. وهذا أمر مخز في الحقيقة، وقد حان الوقت لتصحيح هذا الخطأ.


          [1] نتيجة للطريقة التي ترجم بها العدد 4 : 54 من إنجيل يوحنا، بعض القراء تعنتوا بالتفكير في أن هذه المعجزة تشير فحسب إلى المعجزة الثانية التي قام بها يسوع في الجليل؛ الترجمة الأصح هي أن هذه المعجزة هي الثانية، أي تلك المعجزة التي قام بها يسوع بعد عودته من أورشليم إلى الجليل.

          [2] من المؤكد أنني لا أعتقد أن القساوسة يلزمهم أن يبشروا بنتائج النقد التاريخي من فوق سدة الوعظ في مواعظهم الأسبوعية( على الرغم من أنني أعتقد أن المواعظ ينبغي بالتأكيد أن تكون مبنية على قاعدة علمية سليمة). لكن ثمة فرص عديدة أمام القساوسة أن يعلموا أتباع أبراشياتهم ما يقوله العلماء عن الكتاب المقدس في الكنائس في غير أوقات العظة الأسبوعية. وهذا ما لا يحدث مطلقا في غالبية الكنائس.[/CENTER]
          تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


          تعليق


          • #6
            الفصل الأول اعتداء تاريخي على الإيمان

            [align=justify]


            مشكلات مع الكتاب المقدس



            بالنسبة لهذا الصنف من الطلبة الذين يلتحقون بالسيمنار مقتنعين برؤية مفادها أن الكتاب المقدس بكامله وعلى نحو مطلق وبنسبة مائة في المائة هو كتاب يخلو من الأخطاء، كون غالبية علماء النقد يعتنقون فهما مختلفًا تمام الاختلاف عن ما يؤمنون به بمقدوره أن يمثل لمنظومات الأفكار التي يؤمن بها هؤلاء صدمة حقيقية. وبمجرد أن يفتح هؤلاء بوابات السدود التي تغلق عقولهم عبر اعترافهم بإمكانية وقوع الأخطاء في الكتاب المقدس، يتعرض فهم هؤلاء للكتاب المقدس لتحولات عنيفة. وكلما قرأوا النص بعناية أكبر وبجدية أكثر، كلما وقعت أيديهم على أخطاء أكثر وأكثر، ويبدأون في معرفة أن معاني الكتاب المقدس في الحقيقة يكون ذا معنى أكثر منطقية إذا سلمت بوجود تناقضات فيه بدلا من إصرارك الثابت أنه ليس ثمة أي أخطاء، حتى عندما تظهر هذه الأخطاء جلية أمام عينيك.

            لا شك أن عددًا كبيرًا من الطلاب المبتدئين هم خبراء في التوفيق بين المتناقضات التي يعاني منها الكتاب المقدس. يشير إنجيل مرقص، على سبيل المثال، إلى أن الأسبوع الأخير في حياة يسوع كان هو الظرف الزماني الذي «طهر فيه يسوع الهيكل» عن طريق قلبه موائد الصيارفة وهو يردد مقولته الشهيرة:« مكتوب بيتي بيت صلاة...وأنتم جعلتموه مغارة لصوص»(مر: 11 )، بينما هذا قد حدث، وفقا لإنجيل يوحنا، في بداية خدمة يسوع التبشيرية(يوحنا 2). بعض القراء اعتقدوا أن يسوع لابد وأنه قد طهر الهيكل مرتين، مرة في بداية خدمته الكهنوتية وأخرى عند نهايتها. لكن هذا لا يعني سوى أن مرقص ويوحنا كليهما لم يخبرانا بالقصة «الحقيقية»، حيث إنه في الروايتين معا يطهر الهيكل مرة واحدة فحسب. فوق ذلك، هل التوفيق بين الروايتين يمكن قبوله ظاهريًّا من الناحية التاريخية؟ إذا كان يسوع قد أحدث اضطرابا في الهيكل في بداية خدمته الكرازية، فلماذا لم تقم السلطات باعتقاله عندها؟ بمجرد أن يتوصل المرء لإدراك أن الكتاب المقدس من الجائز أن يضم بين ثناياه تناقضات، من الممكن أن يدرك أن إنجيلي مرقص ويوحنا ربما أرادا أن يعلمانا درسين مختلفين عن تطهير الهيكل، ولذلك فهما قد وضعا الحادثة في زمنين مختلفين من الخدمة الكرازية اليسوعية . فإذا تناولنا القضية من الناحية التاريخية، من ثم، نجد أن الروايتين لا يمكن التوفيق بينهما.

            الأمر نفسه يصدق على إنكار بطرس ليسوع. في إنجيل مرقص، يخبر يسوع بطرس أنه سينكره ثلاث مرات« قبل أن يصيح الديك مرتين.» في إنجيل متى يخبره يسوع أن الإنكار سيقع «قبل أن يصيح الديك.» حسنًا، أيهما الصحيح- قبل أن يصيح الديك مرة أم مرتين؟ حينما كنت طالبا في الكلية، اشتريت كتابا كان مقصود مؤلفه منه أن يوفق بين المتناقضات من هذا النوع. وكان الكتاب يحمل العنوان التالي:«حياة يسوع مجسمةً» أو «The Life of Christ in Stereo ». المؤلف، جوستون تشيني، أخذ روايات الأناجيل الأربعة ونسجهم معا في نسيج واحد على هيئة إنجيل واحد من النوع الضخم، وكان هدفه أن يكشف لنا الصورة الأصلية التي كان عليها الإنجيل. بالنسبة للتناقضات في قصة إنكار بطرس، كان للمؤلف حلا ذكيا للغاية: لقد أنكر بطرس سيده ست مرات في حقيقة الأمر: ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك وثلاث مرات أخرى قبل أن يصيح الديك مرتين. وهذا بمقدوره كذلك أن يشرح سبب إنكار بطرس ليسوع لثلاثة أشخاص مختلفين( أو لثلاث مجموعات مختلفة من الناس) في الروايات المتعددة. لكن في هذا الموضع أيضًا، وبهدف تخفيف التوتر الحاصل بين الأناجيل، كان على المفسر أن يكتب إنجيله الخاص الذي لا يشبه أي إنجيل من الأناجيل التي نجدها بين دفتي العهد الجديد. ومع ذلك، أليس من السخف أن يقول امرؤ إن «إنجيلي» وحده- أي ذلك الإنجيل الذي اختلقته من أجزاء الأناجيل الأربعة في العهد الجديد- هو الإنجيل الصحيح، وأن الأناجيل الأخرى صحيحة جزئيًّا؟

            المشكلة ذاتها نصادفها في روايات قيامة المسيح. بعد موت المسيح بأيام ثلاثة، تمضي النسوة إلى القبر لكي يدهنوا جثمانه من أجل الدفن. فمن يرونه هناك يا ترى؟ هل يرون رجلا، كما يقول مرقص؟ أم يرون رجلين (كما يقول لوقا؟ أم ملاكا كما يذكر متَّى؟ هذه التناقضات يتم التوفيق بينها كالعادة بالقول إن النسوة رأوا في الحقيقة«ملاكين اثنين». هذا القول بمقدوره تفسير أي قول آخر – فسبب قول متى إنهن رأين ملاكا( هو أنه يذكر واحدًا منهما فحسب، وهذا لا ينفي وجود الثاني!) وسبب قول مرقص إن المرئي كان إنسانًا( هو أن الملائكة قد بدوا وكأنهم بشرٌ، مع أنهم في الحقيقة ملائكة، ومرقص يذكر واحدا منهما فحسب من غير أن ينفي وجود ثانٍ)، أما سبب قول لوقا إنهما كانا رجلين (فلأن الملائكة قد ظهرت كبشر). المشكلة هي أن هذا النوع من التوفيق يتطلب مرة أخرى من المرء أن ما حدث في الحقيقة مخالف لما يقوله كل إنجيل من الأناجيل الأربعة – حيث إن أيا من الروايات الثلاث لم يذكر أن النسوة رأين «ملاكين اثنين».

            كما سنرى، هناك كثير من التناقضات داخل دفتي العهد الجديد, بعضها إمكانية التوفيق بينها أكثر صعوبة ( بل إني أقول إنه من المستحيل أن تفعل ذلك) من هذه الأمثلة البسيطة التي ضربناها ها هنا. لا أعني فحسب التناقضات التي بين سفر وآخر من أسفار الكتاب المقدس، بل إن تناقضات ثمة داخل السفر الواحد في بعض الأسفار، وهي المشكلة التي عزاها علماء النقد التاريخي لفترات متطاولة إلى أن مؤلفي الأناجيل كانوا قد استعملوا مصادر مختلفة من أجل كتابة رواياتهم، وهذه المصادر في بعض الأحيان عند المزاوجة بينها بدت متناقضة فيما بينها. المدهش هو سهولة عدم ملاحظتك مثل هذه المشكلات الداخلية ، إذا لم ينبهك أحد بشأنها، عند قيامك بقراءة الأناجيل، لكنهم حين يلفت أحدهم انتباهك إليهم يبدون متناقضين تناقضا بالغ الوضوح. غالبا ما يسألني الطلاب:« لماذا لم أنتبه إلى هذا من قبل؟» خذ على سبيل المثال في إنجيل يوحنا يقوم يسوع بمعجزته الأولى في الإصحاح الثاني عندما يحول الماء إلى خمر(وهي المعجزة المفضلة داخل أروقة الحرم الجامعي)، ويقال لنا إن «هذه كان أولى المعجزات التي صنعها يسوع»(يو 2 : 11 ). في موضع متأخر من هذا الإصحاح يقال لنا إن يسوع صنع «معجزات كثيرة» في أورشاليم(يوحنا 2 : 23 ). وبعدها، أي في الإصحاح الرابع، يشفي ابن قائد المائة، ويخبرنا المؤلف:«هَذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ ...» ماذا؟! المعجزة الأولى، ثم معجزات كثيرة، ثم المعجزة الثانية مرة أخرى؟![1]

            واحدة من تناقضات الكتاب المقدس الواضحات المفضلة لدي – أقرأ إنجيل يوحنا منذ سنوات من غير أن أدرك غرابة هذا التناقض- يأتينا في «خطبة الوادع» التي ألقاها يسوع، وهي خطبته الأخيرة التي ألقاها على مسامع تلامذته عند تناوله عشاءه الأخير برفقتهم، وتشغل الفصول من 13 إلى 17 بالكامل من إنجيل يوحنا. في العدد يوحنا 13 : 36 يقول بطرس ليسوع:«يَا سَيِّدُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» بعدها بعدد قليل من الأعداد يخاطبه توما قائلا: «يَا سَيِّدُ لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟»(يو 14 : 5 ). ثم بعد دقائق قليلة، وأثناء العشاء نفسه يوبخ يسوع تلاميذه قائلا:« وَأَمَّا الآنَ فَأَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي أَيْنَ تَمْضِي؟»(يو 16 : 5 ). إما أن حيز الانتباه لدى يسوع كان حيزا محدودا جدا أو أن هناك شيئا غير طبيعي يتعلق بمصادر هذه الفصول ما أحدث هذا الشكل الغريب من انعدام الاتساق بينها.
            هذا النوع من التناقضات من الواضح أنه أكثر شيوعا في العهد القديم بداية من أسطره الأولى نفسها. بعض الناس يبذل مجهودا ضخما لإيجاد أعذار لكل هذه الاختلافات لكنك إذا نظرت إليها عن كثب، تجد التوفيق بينها من الصعوبة جدا بمكان. ولماذا ينبغي أن يتم التوفيق بينها أصلا؟ فربما هي ببساطة اختلافات. قصة الخلق في الإصحاح الأول من سفر التكوين تختلف تماما عن مثيلتها في الإصحاح الثاني من سفر التكوين. ليس في في الصياغة وأسلوب الكتابة فحسب يكمن الاختلاف، كما يبدو ذلك لك جليا عند قراءتك النص في شكله العبري، وليس لأن الفصلين يستخدمان اسمين مختلفين لله، بل لأن محتوى الفصلين نفسه يختلف من عدد من الأوجه. حسبك أن تكتب قائمة بكل الأحداث التي تقع في الإصحاح الأول بالتسلسل الذي وقعت به، وقائمة أخرى منفصلة للإصحاح الثاني، وقارن بين قائمتيك. هل خلقت الحيوانات قبل البشر، كما في الإصحاح الأول، أم بعدهم كما في الإصحاح الثاني؟ وهل خلقت النباتات قبل خلق الإنسان أم بعده؟ وهل «الإنسان» هو أول المخلوقات الحية أم آخرها؟ وهل تزامن خلق النساء مع خلق الرجال أم خلق كلٌ في وقتين منفصلين؟ بل داخل كل قصة حتى نجد هذه المشكلات: إذا كان «النور» قد خلق في اليوم الأول من الخلق في سفر التكوين الإصحاح الأول، فكيف إذن لم يكن الشمس والقمر والنجوم قد خلقت حتى حلول اليوم الرابع؟ ما هو مصدر الضوء إذن، لو لم يكن ثمة شمس ولا قمر ولا نجوم؟ وكيف أمكن أن هناك «مساء وصباح» في كل من الأيام الثلاثة الأولى لو لم يكن ثمة شمس؟
            لم يكن هذا سوى البداية. فعندما يصطحب نوح الحيوانات على سفينته، هل أخذ سبعة أزواج من جميع الحيوانات «الطاهرة» كما يصرح سفر التكوين 7 : 2 ، أم اصطحب فحسب زوجين اثنين كما يشير إلى ذلك العددان من 9 – 10 من الإصحاح 7؟
            في سفر الخروج، يخبر الرب موسى:« وأنا ظَهَرْتُ لإبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِانِّي الْإلَهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأمَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ»[الرب] فَلَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ.» (خرو 6 : 3 ). كيف يتوافق هذا القول مع ما نجده في موضع سابق، في سفر التكوين، حيث يعَرِّفُ الرب إبراهيم على نفسه باعتباره الرب[أي يهوة]: «أَنا الرَّبُّ [يهوة ]الَّذِي أخْرَجَكَ مِنْ أورِ الْكِلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هَذِهِ الأرْضَ لِتَرِثَهَا.»(تك 15 : 7 )؟
            أو ألق نظرة فاحصة على واحدة من فقراتي المفضلة إلى الأبد، أعني الفقرة التي تقدم وصفا للضربات العشر التي جلبها موسى على رؤوس المصريين لكي يجبر فرعون على «أن يطلق شعبي.» كانت الضربة الخامسة وباءً قتل«كل ماشية المصريين»(خر 9 : 5 ).
            كيف يعقل إذن أن تكون الضربة السابعة التي تقع بعد ذلك بأيام قليلة، وهي البَرَدُ، مخصصة لتدمير كل ماشية الحقل التي للمصريين(خر 9 : 21 – 22 ) عن أيَّ ماشية يتحدث؟
            قراءة متأنية للكتاب المقدس تبوح بمشكلات أخرى إلى جانب الاختلافات والمتناقضات. هناك مواضع يبدو النص فيها وكأنه يتبنى رؤية لا تليق عن الرب أو عن شعبه. هل علينا بالفعل أن نعتقد في أن الرب يأمر بتنفيذ مذبحة جماعية بحق مدينة بأكملها؟ في الإصحاح 6 من سفر يشوع، يأمر الرب جنود إسرائيل بأن يهاجموا مدينة أريحا وأن يذبحوا كل ذكر وأنثى وطفل يجدونه في المدينة. أفترض أن هذه الأعداد توضح أن الرب يرغب في أن لا يلحق بشعبه أي أذى – ولكن هل هو بالفعل يعتقد أن قتل كل الأطفال الصغار والرضع هو ضروري لتحقيق هذه النتيجة؟ فكيف سيكون إذن تعاملهم مع الأشرار؟
            أو ماذا على المرء أن يفعل حيال مزمور 137، واحد من أكثر المزامير جمالا، والذي يبدأ بأسطر جديرة بأن تحفظ:«عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا. بَكَيْنَا أَيْضاً عِنْدَ مَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ.» أمامنا هاهنا تأمل مؤثر لأحد المؤمنين من بني إسرائيل يشتاق للعودة إلى أورشليم التي جرى تدميرها بيد البابليين. لكن هذا التسبيح والثناء على الله ومدينته المقدسة يتحول تحولا معيبا عند نهايته حينما يدبر مكيدة لإمضاء انتقامه من أعداء الرب:«طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ[يعني أطفال البابليين] وَيَضْرِبُ بِهِمُ الصَّخْرَةَ!»(137 – 9 ). أيحطم المرء رؤوس أطفال البابليين انتقاما مما فعله آباؤهم الجنود؟ هل هذا كلام يرد في الكتاب المقدس؟

            إله الثأر والانتقام ليس ماركة مسجلة باسم العهد القديم تسجيلا حصريًّا كما حاول بعض المسيحيين أن يزعموا. بل إن إله العهد الجديد هو الآخر إله دينونة وعقاب كما يعرف ذلك تمام المعرفة أي قارئ لسفر الرؤيا. بحيرة الكبريت ملتهبة ومعدة لكل من يتمرد على الرب. هذا يشمل فيما يشمل الاحتراق الأبدي- أي عقوبة دائمة حتى لمن عصى الله على فترات متقطعة خلال عمره الذي دام عشرين عامًا. 20 بليون عاما من التعذيب في مقابل عشرين عاما من العيش في تضاد مع تمليه الشريعة؛ وهذه فحسب هي البداية. هل يجدر بنا أن نصف الرب بهذا؟
            لابد أن أؤكد أن العلماء والطلاب الذين يثيرون هذه الأسئلة في وجه هذه الفقرات لا يحاكمون الله نفسه. بل يحاكمون ما يقوله الكتاب المقدس عن الله. البعض من هؤلاء العلماء يواصلون إيمانهم بأن الكتاب المقدس من بعض الأوجه هو كتاب أوحاه الله – والبعض الآخر بطبيعة الحال يتوقف عن ذلك. بل حتى إذا كان مؤلفو الكتاب المقدس من بعض الأوجه أنبياءً موحى إليهم، فهم بلا شك لم يكونوا معصومين تماما من الزلل؛ بل ارتكبوا أخطاءً بالفعل. هذه الأخطاء تتضمن تناقضات واختلافات، وتتضمن كذلك مفاهيم مغلوطة عن الله: من كان وماذا كان يريد منا بالحقيقة. هل كان يريد من المؤمنين به أن يرطموا أدمغة أطفال أعدائهم في الصخور؟ هل يخطط بالفعل لتعذيب غير المؤمنين به لبلايين السنين؟
            هذه عينة من الأسئلة التي رأى خريجو السيمينارات ومعلموها أنهم ملزمين بالتعامل معها حال نأيهم بأنفسهم بعيدا عن الالتزام الديني تجاه الكتاب المقدس الذي جاؤا حاملين إصره معهم لحظة التحاقهم بالسيمينارات وابتدائهم في دراسة الكتاب المقدس في ضوء العلم. هي أسئلة أثيرت، على نطاق أرحب، كنتيجة للدراسة على ضوء منهج النقد التاريخي في دراسة الكتاب المقدس، المنهج الذي يجري تدريسه في معظم السيمينارات البروتستانتية التقليدية والذي يمثل الرؤية الأقل أو الأكثر «أرثوذكسية» في أوساط علماء الكتاب المقدس في أمريكا وأوروبا.
            تصر هذه الرؤية على أن كل مؤلف على حدى من مؤلفي الكتاب المقدس عاش في زمنه وفي مكانه وليس في زماننا أو مكاننا. كل مؤلف كان يؤمن بمجموعة من الافتراضات الثقافية والدينية ربما لا نؤمن نحن بها كما يؤمن هو. المنهج النقدي التاريخي يحاول أن يفهم المعنى الذي كان كل مؤلف من هؤلاء يرمي إليه في سياقه الأصلي. وفقا لهذه الرؤية، ينبغي أن نسمح لكل مؤلف أن يعبر عن رأيه الشخصي بحرية. فيما يتعلق بمؤلفي العهد الجديد، لا يقول مؤلف إنجيل متَّى الشيء نفسه الذي يقوله مؤلف إنجيل لوقا. ومرقص يتميز برؤيته المختلفة عن يوحنا. وبولس ربما لم ينظر إلى الأمور بالعين نفسها التي نظر بها يعقوب إليها. فيما يبدو مؤلف سفر الرؤيا مختلفا عن كل من عداه. وبمجرد أن تبدأ في تطبيق الاعتبارات نفسها على العهد القديم، تضطرب كل الأشياء اضطرابا تاما. فمؤلفا سفريّ أيوب والجامعة يصرحان بوضوح تام أنه ليس ثمة حياة أخرى. بينما يصر سفر عاموس على أن شعب الله يلحقه الآلام لأن الله يعاقبه على آثامه؛ أما سفر أيوب فيصر على أن البرئ قد يتألم؛ أما سفر دانيال فيؤكد أن البرئ سيتألم في الحقيقة. كل هذه الأسفار هي أسفار متمايزة، وكلهم يملك رسالة أخلاقية، وكل رسالة من هذه الرسائل تستحق أن نصغي إليها السمع. [/CENTER]
            تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


            تعليق


            • #7
              جزاكم الله خيرا جميعا ...وأعتذر عن رغبتي في حذف المشاركات جميعها حتى لا نقطع تواصل الترجمة
              وعذرا مرة أخرى أحبابي الكرام...أرجو من أحد الأخوة من الإدارة أن يقوم بحذف هذه المشاركات أو حتى بنقلها إلى موضوع منفصل...وجزاكم الله خيرا جميعا وأرجو أن لا يغضب أحد

              الإشراف:

              للنقاش على هذا الرابط
              https://www.hurras.org/vb/showthread.php?p=166181#post166181
              التعديل الأخير تم بواسطة في حب الله; 30 يون, 2009, 12:39 ص. سبب آخر: إضافة رابط
              تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


              تعليق


              • #8
                الفصل الثاني(ج1) عالم من التناقضات

                [align=justify] حينما قدمت دراسة للكتاب المقدس من منظور تاريخي أول مرة إلى الطلاب كمنهج بديل عن المنظور الديني الإيماني، واحدٌ من الأشياء التي كان هؤلاء مجبرون على التعامل معها هو القول بإن نص الكتاب المقدس، بعهديه كليهما، طافح بأعداد بينها وبين بعضها الآخر تناقضات، وكثير منها لا سبيل إلى التوفيق بينها. بعض من هذه التناقضات ليست سوى تفاصيل سطحية يتناقض فيها ما يقوله سفر من الأسفار مع ما يقوله سفر آخر في قضية ثانوية: عدد الجنود في جيش من الجيوش، أو العام الذي بدأت فيه فترة حكم ملك ما، أو تفاصيل مسار رحلة رسول من رسل المسيح. في بعض النماذج يكون لبعض نقاط الاختلاف التي تبدو سطحية في ظاهرها أهمية بالغة في عملية تفسير سفر ما أو في إعادة رسم تاريخ إسرائيل القديمة أو حياة يسوع. ومن ثم هناك أمثلة لها علاقة بقضايا ذات أهمية بالغة يكون لأحد المؤلفين وجهة نظر واحدة تجاه موضوع ذي أهمية(كيف خلق العالم مثلا؟ لماذا يعاني شعب الله؟ ما الأهمية التي يمثلها لنا موت يسوع؟)، ولمؤلف آخر رأي آخر. في بعض الأحيان يكون بين هذين الرأيين اختلاف بسيط، إلا أنه في أوقات أخرى يكون الرأيان متعارضان تعارضا مباشرًا.

                سأتناول بالحديث في هذا الفصل تناقضات هامة وطريفة يتضمنها الكتاب المقدس تبرز حينما يتم تناولها من منظور علم النقد التاريخي. وحيث إن العهد الجديد هو مادة تخصصي، سأتناول أنواع المشكلات التي نجدها بين جلدتيه.
                لكن بمقدورك أيها القارئ أن تبيت واثقا أن نماذج كثيرة من الأخطاء نفسها بمقدورك أن تصادفها بين دفتي العهد القديم كذلك- بل أكثر منها في حقيقة الأمر. فبينما جرى تأليف العهد الجديد، الذي يتكون من سبعة وشعرين سفرا، على يد مؤلفين يبلغ عددهم ستة أو سبعة عشر مؤلفا خلال مدة تزيد عن سبعين عاما، نجد العهد القديم، الذي يشتمل على تسعة وثلاثين سفرا قد كتبه العشرات من المؤلفين فيما يزيد عن ستمائة عاما على أقل تقدير. فثمة متسع كبير للآراء المتباينة التي إن بحثت عنها، ستجدها بالجملة.
                ليس ما أعنيه ببساطة، كما سأشرح ذلك شرحا وافيا في نهاية هذا الفصل، أن أثبت أن الكتاب المقدس متخم بالتناقضات. ينتاب تلامذتي في بعض الأحيان الشعور بأن هذا هو بيت القصيد والغاية النهائية من أبحاثي- أعني أن الكتاب المقدس ملئ بالمشكلات وأنه لهذا السبب «لا يمكن الإيمان به.» لكن هذا ليس صحيحا- رغم أن تناقضات الكتاب المقدس من شأنها أن تخلق بعض المشكلات لبعض الناس ممن يحملون في قلوبهم إيمانا ما تجاه العقيدة المسيحية(ليس لكل المسيحيين مع ذلك). لكن هناك أسباب أخرى لمحاولتنا استكشاف ما يحتويه الكتاب المقدس من تناقضات. لكني، مع ذلك، أفضل أن أبسط القول في هذه الأسباب في نهاية الفصل وليس في أوله؛ فلزاما على المرء أن يعرف أولا حقيقة ما بين يديه من معلومات وكنهها قبل أن يتعجل كثيرا في اتخاذ قرارا فصلا فيما يتعلق بما تعنيه هذه المعلومات.

                ليس هدفنا مع ذلك أن نوضح كل تناقض يمكننا اكتشافه في العهد الجديد، بل البعض من أكثر هذه التناقضات طرفة وأهمية. سأبدأ بالأناجيل وسأثني بعدها برسائل بولس. على مدى هذا النقاش لن أتناول بالبحث واحدة من أهم القضايا وهي التي تتناول هوية مؤلفي هذه الأسفار في الحقيقة(هل كانوا من رسل المسيح؟ أم كانوا رفقاء للرسل؟ أم مسيحيون عاشوا في أزمنة متأخرة؟). فهذا هو موضوع فصل تال.

                أما في هذا الفصل فيكفي أن نشير إلى أنه مهما تكن هوية من ألف هذه الأسفار، فإنهم في كثير من الأحيان وقفوا مواقف اختلف أحدهم مع الآخر.
                لماذا لم يكتشف مطلقا القارئ غير المواظب على القراءة، بل وحتى ذلك القارئ النهم للكتاب المقدس هذه التناقضات التي ربما يبدو بعضها واضحا لا تخطئوه العين بمجرد أن تلفت الانتباه إليها؟ ما أعتقده هو أن لهذا علاقة بالطريقة التي يقرأ الناس بها هذه الأسفار. معظم الناس يقرأون هذا الموضع من الكتاب المقدس ثم ذاك الموضع- يفتحونه ثم يختارون فقرة ثم يقرأونها ويحاولون تصور معناها. وليس ثمة جهد ولو قليل لعقد مقارنة مفصلة بين الفقرات الأخرى المتشابهة في الأسفار الأخرى. أنت تقرأ نتفا هنا ونتفا هناك وكلهم يبدون مماثلين لأسلوب الكتاب المقدس. مع ذلك، فلكي تطبق المنهج النقدي التاريخي في دراسة النص عليك أن تقرأ النصوص وأن تقارن بينها مقارنة دقيقة فلا تغفل حتى أدق التفاصيل.
                مع ذلك فحتى القارئ المتيقظ للكتاب المقدس غالبا ما يفشل في اكتشاف الاختلافات بين أسفاره، وذلك، وأكرر، ناتج عن الطريقة التي تتم بها القراءة. غالبية القراء من العوام، وذلك على خلاف القراءالذين يقرأون الكتاب المقدس قراءة نقدية من منظور نقدي تاريخي، يقرأون هذه الأسفار على التتالي، واحدًا وراء الآخر. وهذا أمر منطقي- فهذه في نهاية الأمر هي الطريقة نفسها التي نقرأ بها غالبية المختارات الأدبية. وبهذه الطريقة، إذا أردت أن تقرأ العهد الجديد، تبدأ من إنجيل متَّى مفتتحا قراءتك بالإصحاح الأول والعدد الأول، وتقرأ الكتاب من بدايته حتى نهايته وهدفك من هذا أنتستخلص المعنى الذي يحاول متى أن يخبرك إياه عن حياة المسيح. ثم تقرأ بعده إنجيل مرقس، مبتدئا بافتتاحيته حتى تصل إلى خاتمته- وتجد أنه يشبه كثيرا إنجيل متَّى. فثمة كثير من القصص ذاتها، وغالبا بالكلمات ذاتها- ربما يتم إهمال أشياء قليلة في هذا الموضع أو ذاك، لكنه النوع نفسه من الأسفار. ثم تقرأ لوقا من بدايته لنهايته. ومرة أخرى تجد القصص ذاتها أو قصصا شبيهة لها مكتوبة بالكلمات ذاتها. وعندما تقرأ يوحنا ربما تلحظ بعض الاختلافات، لكنهم يبدون متماثلين تماثلا جوهريا: فثمة قصص عن أشياء قالها يسوع أو فعلها قبل سفره إلى أورشليم، ثم تعرضه للخيانة والاعتقال ثم للصلب والقيامة من بين الأموات.
                تلك هي الطريقة الأكثر شيوعا في قراءة أي كتاب، أعني أن تقرأه من بدايته إلى نهايته. القراءة «العمودية» هو ذلك الاسم الذي سميت به هذا النوع من القراءة. تبدأ من رأس الصفحة متحركا إلى ذيلها؛ وتبدأ من بداية الكتاب منتقلا إلى نهايته. ليس ثمة أي خطأٍ فيما يتعلق بقراءة الأناجيل على هذا النحو، فهذه بلا الشك الطريقة التي كان مؤلفو هذه الكتب يخططون لأن تقرأ كتاباتهم بها.

                مع ذلك فثمة سبيل أخرى لقراءة هذه الكتب: أعني أن يقرأها قارئها قراءة أفقية. في القراءة الأفقية تطالع قصة في واحد من الأناجيل، وبعدها تقرأ القصة ذاتها بحسب ما يقصه عليك إنجيل آخر كما لو كانتامكتوبتين في عمودين يقف أحدهما بجانب الآخر. وتقارن بين هاتين القصتين مقارنة حذرة ومفصلة.[1]
                تكشف قراءة الأناجيل قراءة أفقية الاختلافات والتناقضات من كل الأنواع.
                أحيانا لا تعدو هذه الاختلافات أن تكون تنوع في قراءات قصة من القصص، وربما تكون لها أهمية إذا أردنا أن نعرف ما كان هذا الكتاب من كتاب الأناجيل أو ذاك يرغب أن يؤكد عليه، لكن هذا التنوع لا يضاد ما يريد الكاتب الآخر يؤكد عليه.
                في روايات ميلاد المسيح الواردة في إنجيلي متَّى ولوقا، على سبيل المثال، تظهر القراءة الأفقية للإنجيلين أن متى يحكي قصة الرجال الحكماء حال مقدمهم للسجود أمام المسيح، بينما يحكي لوقا قصة الرعاة حين مقدمهم للسجود أمامه. ليس ثمة رعاة في متَّى ولا رجال حكماء في لوقا. ليس هذا تناقضا: يريد متَّى (لأسباب بالغة الأهمية كما سيبدو جليا) أن يحكي قصة الحكماء ولوقا يريد(لأسباب أخرى مختلفة) أن يحكي قصة الرعاة.
                إذن لدينا في هذا الموضع اختلافات ربما لا تمثل تناقضا صريحا لكنها ربما تبدو إلى حد ما وكأنها تمثل اختلافا فيما بين القصتين.
                لقد ذكرت من قبل بالفعل قصة تطهير الهيكل الواردة في إنجيل مرقس الإصحاح 11 ويوحنا الإصحاح 2. في مرقس تقع هذه الحادثة قبل أن يموت يسوع بأسبوع؛ لكنها في إنجيل يوحنا تمثل الحادثة العلنية الأولى في فترة رسالة يسوع الكهنوتية التي استمرت ثلاث سنوات. أقول جازما إن هذا الاختلاف لا يمثل تناقضا: فلو كان لديك قدر كاف من الإبداع، لاستطعت أن تجد تفسيرا مقبولا يجعل الروايتين صحيحتين. فكما ذكرت في الفصل السابق، ربما يكون المسيح قد طهر الهيكل مرتين، مرة في بداية خدمته وأخرى في نهايتها. من ناحية أخرى، لا يبدو هذا احتمالا مقبولا كما يشي السؤال التالي نفسه: لماذا لم يلق القبض عليه في المرة الأولى؟ بالإضافة إلى ذلك هذا الأمر يعني أنه لكي تحدث توافقا بين مرقس ويوحنا، فقد كان لزاما عليك أن تكتب نسختك الشخصية من الإنجيل، نسخة تختلف اختلافا جذريا عن الإنجيلين الذين تقرأهما، ففي إنجيلك هناكتطهيران للهيكل لا تطهيرا واحدا.

                هناك اختلافات أخرى، في رأي عدد كبير من علماء النقد التاريخي، لا يمكن التوفيق بينها ببساطة من غير أن تستعمل العنف استعمالا فعليا مع النص. سأقوم بتناول بعضا من هذه الاختلافات على مدى هذا الفصل، ولا أريد أن أقطع متعتي بذكر أكثر النماذج طرافة وإمتاعا من بين هذه الاختلافات في هذا الفصل. أما الآن فالنقطة الأساسية التي أريد التشديد عليها هي أن غالبية القراء لا يلحظون هذه الاختلافات لأنهم دربوا على قراءة الإنجيل بطريقة واحدة وهي الطريقة العمودية، أو على الأقل يميلون إلى ذلك، بينما يقترح منهاج النقد التاريخي أنه من المفيد أن يقرأ النص بطريقة أخرى وهي طريقة القراءة الأفقية.

                لو كنت أيها القارئ معني بالعثور على التناقضات بنفسك، فيمكنك، في الواقع، فعل هذا بسهولة تامة. اختر قصة من الأناجيل- ميلاد المسيح على سبيل المثال، أو شفاء ابنة يايرس، أو حادثة الصلب أو القيامة- ومهما يكن اختيارك من بين هذه القصص فستنطبق عليه القاعدة في الغالب. اقرأ الرواية في أحد الأناجيل، وأدرج في جدول قائمة بكل ما يحدث على التتالي؛ ثم اقرأ القصة ذاتها في إنجيل آخر، ومرة أخرى دون ملاحظاتك بعناية. قارن، كخطوة أخيرة، بين ملاحظاتك. في كثير من الأحيان تحصل اختلافات بسيطة، لكن في أوقات أخرى كثيرة يكون لها شأن كبير- حتى لو بدت للوهلة الأولى تافهة إلى حد ما. وهذا هو شأن مثالي الذي سأتكلم عنه أولا. القضية موضع دراستنا هي قضية بالغة البساطة وجوهرية إلى حد بعيد ويمكن التعبير عنها في صيغة سؤال مباشر فيما يبدو:

                متى مات يسوع؟ أعني في أي يوم صلب يسوع، وفي وقت من هذا اليوم ؟
                سيتضح لنا أن إجابة هذا السؤال تختلف باختلاف الإنجيل الذي تقرأه.


                بيان استهلالي: موت يسوع في إنجيلي مرقس ويوحنا


                هذا بيان للتناقضات بين دفتي العهد الجديد التي أستعملها مرارا وتكرارا مع تلامذتي.[2] إنه «حالة نموذجية» لأن مرقس ويوحنا كليهما قد قدما إشارات واضحة للوقت الذي مات فيه يسوع. وهويموت في وقتين مختلفين بحسب الإنجيل الذي تقرأ فيه.
                من الراجح أن مرقس كان أول الأناجيل تأليفا. وقد اعتقد العلماء لأزمنة مديدة أنه قد جرى تأليفه بعد وفاة يسوع بخمس وثلاثين أو أربعين سنة، أي ربما سنة 65 أو 70 ميلاديا.[3]
                الإصحاحات العشرة الأولى من إنجيل مرقس: موضوعها خدمة يسوع التبشيرية في الجليل الواقعة في الطرف الشمالي لإسرائيل حيث كان يعلم ويشفي المرضى ويطرد الشياطين ويواجه خصومه اليهود والفريسيين. في نهاية حياته يقوم برحلة نحو أورشليم ليحضر احتفال اليهود بعيد الفصح؛ وبينما كان هناك يلقى القبض عليه ويتعرض للموت صلبا(الإصحاحات 11 – 16 ). لكي تفهموا قضية توقيت الصلب في إنجيل مرقس(وتوقيت يوحنا من وجهة النظر نفسها)، أحتاج إلى أن أتلو على مسامعكم بعض المعلومات العامة. في أيام يسوع، كان عيد الفصح، الذي يقام سنويا، أهم الأعياداليهودية. لقد أسس هذا العيد احتفالا بذكرى وقائع الخروج والتي جرت في زمن موسى قبل ذلك بقرون وذكرت تفاصيلها في سفر الخروج في العهد القديم( خروج 5 – 15). وفقا لرواية الخروج، كان أبناء الشعب الإسرائيلي مستعبدين في مصر لمدة أربعمائة سنة، لكن الرب سمع لبكائهم وربى على عينيه مخلصا لينقذهم وكان موسى هو ذاك المخلص. أرسل موسى إلى فرعون وطالبه، متحدثا نيابة عن الرب، أن «أطلق شعبي.» لكن قلب فرعون كان أقسى من الحجر فرفض الخضوع لأمر الله. ولكي يخضعه الله، زود الله موسى بقوة يستطيع من خلالها أن يرسل على المصريين الأوبئة المرعبة،وكان آخرها هو أكثرها رعبا: أن كل مولود بكر من أبناء المصريين أو من الحيوانات يكون عرضة للهلاك بيد ملك الموت.
                وقد أعطي الإسرائيليون إرشادات لكي يجنبوا أبناءهم المصير ذاته. فكل عائلة كان عليها أن تقدم أضحية على هيئة خروف وأن تأخذ بعضا من دمه وأن تنثرها على عضادة الباب وعتبة البيت الذي يعيشون بين جنباته. بعد ذلك سوف يرى الملاك الدم على الباب ويتجاوز (وهو معنى الفعل pass over الذي سمي به العيد) هذا البيت الإسرائيلي لينتقل إلى البيوت التي ليس عليها دم لكي يقتل كل طفل بكر. وهذا ما حدث. أصيب فرعون بالرعب وسمح على مضض للإسرائيليين( ستمائة ألف رجل مضافا إليهم النساء والأطفال) بأن يغادروا البلاد. لكنه بعد انطلاقهم تغير قلبه عليهم فقاد جيشه في إثرهم. تعقب فرعون الإسرائيليين حتى البحر الأحمر –يسمى بالعبري«بحر الرياح العاصفة»- لكن الرب صنع معجزة أخرى فأعطى موسى القدرة على قطع مياه البحر حتى استطاع الإسرائيليون المرور على الأرض اليابسة. وعندما تبعتهم الجيوش المصرية التي تتعقبهم، أمر الرب المياه أن تعود لسابق عهدها وأغرق الشطر الأكبر منهم. وهكذا أنقذ الرب الإسرائيليين من العبودية في مصر. وقد أخبر الله موسى أنه على الإسرائيليين من هذه اللحظة فصاعدا أن يحتفلوا بذكرى هذه الواقعة العظيمة بتناولهم وجبة خاصة أثناء عيد الفصح الذي يحتفلون به سنويا(خروج إصحاح 12 ). في زمان المسيح كان اليهود من مختلف أرجاء المعمورة يأتون إلى أورشليم بغرض الاحتفال بهذا الحدث. في اليوم السابق ليوم تناول الطعام المخصص للاحتفال، كان على اليهود أن يجلبوا خروف الفصح إلى الهيكل في أورشليم، أو أن يشتروا بالأحرى واحدا من هناك، وأن يذبحه الكهنة نيابة عنهم. وعندها كانوا ليأخذوه إلى بيوتهم لكي يعدوا وجبة الطعام. كل هذا وقع في يوم الاستعداد ليوم الفصح.
                الآن الوجه المربك الوحيد لهذا الاحتفال يتعلق بالطريقة التي كان اليهود يعبرون بها عن مواقيتهم- وهي الطريقة ذاتها التي يعبر بها اليهود المعاصرون عن التوقيت. فحتى اليوم يوم السبت هو نفسه يوم «السبَّاث» لكنه يبدأ من يوم الجمعة ليلا، حينما يبدأ الكون في الإظلام. وهذا لأن اليوم الجديد في الديانة اليهودية التقليدية يبدأ عند غروب الشمس، أي عند المساء( ولهذا السبب قيل لنا في سفر التكوين حينما خلق الله السماوات والأرض:« وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ ، اليوم الأول » فاليوم كان يتكون من مساء وصباح وليس من صباح ومساء.) وهكذا يبدأ السبت يوم الجمعة مساءً- وكل الأيام في حقيقة الأمر يبدأ على هذا النحو، أي من لحظة الغروب.

                وهكذا، في يوم الاستعداد ذبح الخروف وأعدت الوجبة في وقت العصر. وأكلت الوجبة في هذه الليلة والتي هي في حقيقة الأمر بداية اليوم التالي: أعني يوم الفصح. كانت الوجبة تتكون من عدد من الأكلات التي تمثل شكلا من الرموز : فهناك الخروف وهو يرمز إلى الاحتفال بذكرى الذبح الأول للخراف أثناء الخروج؛ وهناك الأعشاب المرة التي تذكر اليهود بمرارة العبودية التي قاسوها في مصر؛ وأما خبز الفطير( وهو خبز يصنع بدون أن يختمر العجين)فيذكرهم بأنه كان لزاما على اليهود أن يهربوا من مصر بدون سابق إنذار حتى إنهم لم يستطيعوا أن ينتظروا أن يختمر الخبز؛ وهناك أخيرا كؤوس متعددة من النبيذ. يوم الفصح إذن كان يبدأ بوجبة المساء ويستمر لما يقارب الأربع والعشرين ساعة خلال نهار اليوم التالي وعصره والذي يأتي بعده اليوم التالي ليوم الفصح.
                الآن يمكننا الرجوع إلى رواية مرقس عن موت المسيح. لقد حج يسوع وتلاميذه إلى أورشليم للاحتفال بيوم الفصح. في العدد 14 : 12 من إنجيل مرقس، يسأل التلاميذ يسوع عن المكان الذي يفترض بهم أن يعدوا وجبة الفصح لهذا المساء. أي أن هذا، إذا أردنا صياغتها بطريقة أخرى، كان في يوم الاستعداد للفصح. فيعطيهم يسوع توجيهاته. يقومون بانهاء الاستعدادات وحينما يحل المساء- أي بداية يوم الفصح- يتناولون وجبة الفصح. لا شك أنها وجبة مميزة. يتناول يسوع الأطعمة المشحونة بالمعاني الرمزية ويضفي عليها فوق رمزيتها المزيد من المعاني الرمزية الجديدة. يتناول خبز الفطير، يكسره، ويقول:«هذا جسدي.» ضمنيا هذا يعني أن جسده لابد أن يكسر من أجل الخلاص. ثم بعد العشاء يتناول كأس النبيذ ويقول:« هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ.»(مرقس 14 : 22 – 25)، قاصدا أن دمه لابد أن يراق.
                وبعد أن يأكل التلاميذ طعام الفصح يخرجون إلى ضيعة جَثْسَيْمَانِي من أجل الصلاة. ويجلب يهوذا الإسخريوطي الجنود ويقترف صنيع خيانته. فيؤخذ يسوع ليقف أمام المحكمة قضاتها قادة الشعب اليهودي. يقضي الليلة في السجن وفي الصباح التالي يوقفوه ليحاكم أمام الوالي الروماني بيلاطس البنطي الذي يجده مذنبا ويحكم عليه بالموت صلبا. ثم يقال لنا إنه صلب في اليوم نفسه في الساعة التاسعة صباحا(مرقس 15 : 25). فموت يسوع إذن قد وقع في يوم الفصح، وتحديدا في أول صباح بعد تناوله طعام الفصح.

                كل هذه الأمور واضحة وتحكى بطريقة مباشرة لا اعوجاج فيها في إنجيل مرقس، لكن رغم بعض أوجه الشبه الأساسية، فهي تقف على خلاف مع قصة موت المسيح التي يحكيها لنا إنجيل يوحنا والتي تتسم هي الأخرى بالوضوح والمباشَرة. فهنا يذهب كذلك إلى أورشليم في الأسبوع الأخير من حياته ليحتفل بيوم الفصح وهنا كذلك هناك عشاء أخير وخيانة ومحاكمة أمام بيلاطس وأخيرا هناك صلب.

                لكن المثير للصدمة في رواية يوحنا أنه في بداية الرواية، وعلى خلاف في ذلك مع ما يقوله مرقس، لا يسأل التلاميذ يسوع عن مكان «إعداد الفصح.» وبناءً على ذلك لا يعطيهم يسوع أي توجيهات فيما يتعلق بإعداد طعام الفصح. صحيح أنهم يتناولون العشاء الأخير معا، لكن يسوع في إنجيل يوحنا لا يذكر أي شئ عن كون الخبز يرمز إلى جسده أو أن الكأس يمثل دمه. بدلا من ذلك يعسل يسوع أقدام تلاميذه وهي القصة التي لا نعثر لها على مثيل في أي إنجيل آخر(يوحنا 13 : 1 – 20 ).

                بعد انتهائهم من تناول العشاء ينطلقون للخارج. ويخون يهوذا يسوع، ويظهر أمام السلطات اليهودية ويقضي الليلة في السجن ويوقفونه أمام محكمة قاضيها بيلاطس البنطي الذي يجده مذنبا ويحكم عليه بالموت صلبا. ويقال لنا تحديدا حينما يرفع بيلاطس صوته ناطقا بالحكم:« وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الْفِصْحِ وَنَحْوُ الظهيرة. »(يو 19 : 14 ).

                الظهيرة؟! في ويوم الاستعداد للفصح؟ أي في اليوم الذي ذبح فيه الخروف؟ كيف يصح هذا؟

                في إنجيل مرقس اجتاز يسوع هذا اليوم وهو حي يرزق وأعد تلامذته طعام الفصح وتناوله معهم قبل أن يلقى القبض عليه، وقبل أن يؤخذ إلى السجن ليقبع فيه مدة ليلة وقبل أن يحاكم في الصباح التالي ويعدم في تمام التاسعة صباحا من يوم الفصح.
                لكن هذا لا ينطبق على إنجيل يوحنا. ففي يوحنا يموت يسوع قبل يوم من كل هذه الأحداث، أي في يوم الاستعداد للفصح في وقت ما بعد الظهيرة.
                لا أعتقد أن هذا الاضطراب هو من النوع الذي يمكن دفعه. لقد حاول الناس عبر سنوات بطبيعة الحال أن يفعلوا ذلك. فأشار بعضهم إلى أن مرقس أشار هو الآخر إلى أن يسوع مات في يوم سماه « يوم الاستعداد»(مرقس 15 : 42 ). وهذا الزعم صحيح تماما- لكن ما أخفق هؤلاء القراء في الانتباه إليه هو أن مرقس يخبرنا بما يقصده من هذه الجملة: إنه يوم الاستعداد للـ«سبت»( وليس الاستعداد للفصح). في مرقس بطريقة أخرى هذا الأمر لم يحدث في اليوم السابق ليوم تناول طعام الفصح بل في اليوم السابق ليوم السبت؛ ويطلق على هذا اليوم يوم«الاستعداد» لأن المرء كان عليه أن يعد الأطعمة ليوم السبت في يوم الجمعة بعد الظهر.
                وهكذا يظل التناقض قائما: في مرقس يتناول يسوع طعام الفصح(الخميس ليلا) ويجري صلبه في الصباح التالي. أما في يوحنا فلا يتناول يسوع طعام الفصح بل يصلب في اليوم السابق ليوم تناول طعام الفصح.[4]

                أضف إلى ذلك أن يسوع في إنجيل مرقس يتم تسميره إلى الصليب في التاسعة في الصباح؛ لكنه في يوحنا لا يتم الحكم بإدانته قبل الظهيرة، ويؤخذ حينها خارجا يوتم صلبه.

                بعض العلماء جادل قائلا إن هذا الاختلاف بين الأناجيل حدث لأن هناك طوائف يهودية مختلفة من اليهود تحتفل بيوم الفصح في أيام مختلفة من أيام الأسبوع. هذا النوع من التفسيرات هو من ذلك النوع الذي يبدو مقبولا ظاهريا إلى أن تفتش وراءه وتتأمله قليلا. صحيح أن ثمة طوائف لم يكن لها علاقة بهيكل في أورشليم كانوا يعتقدون أن سلطات الهيكل تتبع تقويما جرى حسابه على نحو غير صحيح. لكن يسوع في إنجيلي مرقس ويوحنا لا يتم تصويره كعضو في طائفة يهودية خارج أورشليم: لقد كان في أورشليم حيث يذبح الخروف. وفي أورشليم كان ثمة يوم فصح واحد في العام. والكهنة في أورشليم لم يكونوا ليعدلوا تقويمهم وفقا لتقويمات شاذة لمجموعات هامشية ضيقة الأفق وقليلة العدد.

                ماذا بمقدور المرء أن يصنع تجاه مثل هذا التناقض؟ مرة أخرى أقول إنها من ناحية قد تبدو كما لو كانت قضية ثانوية تافهة. أعني أنه من يهتم بالفعل إذا كان هذا الحدث قد وقع في أحد الأيام أو في اليوم الذي يليه؟ فالقضية الأكثر أهمية هي أن يسوع قد صلب، أليس كذلك؟
                حسنا، هذا الأمر صحيح وغير صحيح في الآن ذاته.

                سؤال آخر ينبغي أن يسأل لكنه ليس التالي:«هل صلب يسوع؟» بل كذلك:«ماذا يعني قولنا إن المسيح قد صلب؟»
                وللإجابة على هذا السؤال، تفاصيل قليلة مثل قضية التوقيت ويوم وقوع الصلب لها أهمية كبيرة في واقع الأمر.

                المثال التالي هو الذي أستعمله دائما لكي أوضح لطلابي أهمية تلك التفاصيل: عندما تقع جريمة قتل في عصرنا هذا، يصل أفراد المباحث إلى موقع الجريمة ويشرعون في البحث عن أجزاء الدليل بالغة الصغر، فيبحثون عن آثار أو بصمات الأصابع أو ضفائر شعر على أرضية الموقع.
                ربما ينظر أحد الناس مصطنعا العقلانية إلى ما يقومون به ويبدأ في القول:« ماذا دهاكم؟ أتعجزون عن رؤية الجثة راقدة على أرضية المكان؟ لماذا تفتشون المكان بحثا عن البصمات؟» وذلك رغم أن أبسط الأدلة بمقدورها في كثير من الأحيان أن تكون السبيل إلى حل القضية: لماذا قتل هذا الشخص ومن قتله؟ والأمر نفسه يصدق على الأناجيل. في كثير من الأحيان يمكن لأقل الأدلة أهمية أن تمنحنا مفاتيح بالغة الأهمية تعيننا على معرفة الفكرة التي كانت تدور في عقل المؤلف في واقعة الأمر.

                لا يسعني أن أضع تحليلا كاملا لهذا الأمر في موضعنا هذا من الكتاب، لكني سأشير إلى سمة بالغة الأهمية ينفرد بها إنجيل يوحنا الذي هو آخر الأناجيل تدوينا، فقد دوِّن على الأرجح بعد حوالي خمس وعشرين سنة من لحظة تأليف إنجيل مرقس.
                إن إنجيل يوحنا هو الإنجيل الوحيد الذي يشير إلى أن يسوع هو«...حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ(1: 29)ويكررها مرة أخرى بعد هذا العدد بسبع أعداد(يوحنا 1: 36). فلماذا إذن يُقْدِم يوحنا- آخر أناجيلنا تدوينا- على أن يغير اليوم والتوقيت الذي مات فيه يسوع؟ لعل السبب في ذلك هو أن يسوع في إنجيل يوحنا هو خروف الفصح الذي تجلب التضحية به الخلاص من الخطايا. فكون يسوع مثل خروف الفصح حذو القذة بالقذة، كان لزاما عليه أن يموت في اليوم(أعني يوم الاستعداد) والتوقيت(في لحظة ما بعد الظهيرة) الذي يذبح فيه خروف الفصح في الهيكل.
                فيوحنا، إذا صغناها بطريقة أخرى، أدخل تغييرات على المعطى التاريخي لكي يرسخ قضية لاهوتية ألا وهي أن يسوع هو حمل الفصح. ولكي يوصل لنا هذه المسألة اللاهوتية، كان على يوحنا أن يخلق بيده تناقضا بين روايته وبين روايات الآخرين.

                هذه الدراسة التمهيدية لتناقض واحد فحسب وقليل الأهمية يمكنه أن يقود خطانا إلى العديد من الاستنتاجات التي سأوردها على نحو أكثر تفصيلا في نهاية هذا الفصل.
                1- هناك تناقضات بين أسفار العهد الجديد
                2- بعض هذه التناقضات لا يمكن التوفيق بينها
                3- من المستحيل أن تكون روايتا مرقس ويوحنا كلتاهما دقيقتين من الناحية التاريخية، حيث تتناقض إحداهما مع الأخرى حول قضية توقيت موت يسوع.

                لكي نفهم ما كان كل مؤلف منهما يرمي إلى قوله، علينا أن نمعن النظر في تفاصيل كل رواية – وأن لا نتعامل مع أي رواية منهما مطلقا باعتبارها تقول الشيء نفسه الذي تقوله الرواية الأخرى. فيوحنا مختلف تمام الاختلاف عن مرقس في قضية محورية، وإن بدت تافهة ظاهريا. إذا كنا نريد أن نفهم ما يقوله يوحنا عن يسوع على حقيقته، لا يمكننا أن نوفق بين التناقض وإلا ضاعت علينا فرصة فهم مقصده.

                [/CENTER]
                تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


                تعليق


                • #9
                  الفصل الثاني(ج3)

                  [align=justify]

                  تناقضات في روايات ميلاد المسيح وحياته


                  يمكننا الآن أن نتناول بالدراسة عددا من التناقضات بين روايات الأناجيل فيما يتعلق بحياة يسوع التي تبدأ من لحظة الميلاد. لقد قسمت هذه التناقضات تقسيما اعتباطيا إلى حد ما ليظهر أمامنا نوعان من الاختلافات: اختلافات تصيب المرء بالدهشة باعتبارها ذات أهمية خاصة وأخرى قد تبدو نسبيا غير ذات أهمية أو مثيرة للفضول. مرة أخرى أجد نفسي ملزما بالتشديد على أنني لن أتناول كل أمثلة التناقضات التي يمكن رصدها، فهذا يستدعي تأليف كتاب يفوق كثيرا حجم كتابي هذا.


                  ميلاد المسيح




                  لدينا روايتان فحسب عن ميلاد المسيح بين دفتي العهد الجديد وهما يتشكلان من الإصحاحات الافتتاحية لإنجيلي متى ولوقا. أما مرقس ويوحنا فيلتزمان الصمت تجاه هذه المسألة(أعني الميلاد من عذراء وأن بيت لحم هي مسقط رأسه وعناصر أخرى من تلك التي تشتمل عليها قصة ميلاد المسيح)؛ في مرقس ويوحنا يطل علينا يسوع كشابِّ يافع. كما لم تُذْكَرْ تفاصيل ميلاده في أي من كتابات بولس أو كتابات المؤلفين الآخرين لأسفار العهد الجديد. من أجل ذلك ما يعرفه الناس عن قصة عيد الميلاد، أو ما يظنون بالأحرى أنهم يعرفونه عنها، مصدره على وجه الحصر إنجيلا متى ولوقا. والقصة التي يتواصل سردها في شهر ديسمبر من كل عام هي في حقيقة الأمر مزيج من الروايتين اللتين وردتا في هذين الإنجيلين، أي أنها توليفة تجمع تفاصيل ذكرت في الإنجيل الأول مع تفاصيل أخرى من الإنجيل الآخر، والهدف من هذا الصنيع هو خلق إنجيل أكبر يحمل بين طياته رواية محكمة متناغمة. وفي الحقيقة، هذه الروايات بحد ذاتها ليست متناغمة على الإطلاق. فهي لا تقدم فحسب قصصا مختلفة تمام الاختلاف عن كيفية ميلاد يسوع، بل إن بعضا من هذه الاختلافات تبدو متناقضة(والبعض الآخر لا يجتاز اختبار المصداقية التاريخية كذلك، لكن هذه قضية أخرى).

                  أيسر السبل لتوضيح الاختلافات الواقعة بين الروايات هو أن تضعهما في صورة مختصرة. فالأعداد من 1: 18 إلى 2 : 23 من إنجيل متَّى تسير فيها أحداث الرواية كالتالي: مريم ويوسف مخطوبان وفي سبيلهما للزواج وفي هذا الوقت تُرَى مريم حبلى. يوسف الذي يفترض أسوأ الافتراضات يخطط لتطليقها لكن يوحى إليه في حلم أن مريم حبلى من الروح القدس. ثم يتزوجان ويولد المسيح. بعد ذلك يصل الرجل الحكماء من الشرق مقتفين أثر نجم قاد خطاهم إلى أورشليم حيث يسألون عن مكان ملك اليهود المزمع أن يولد. يستوضح الملك هيرودس الأمر فيخبره العلماء اليهود أن ثمة نبوء بظهور ملك يولد في بيت لحم. يخبر الملك هيرودس الرجال الحكماء الذين وصلوا إلى بيت لحم ومرة أخرى يقودهم نجم، هذا النجم يتوقف فوق البيت الذي يسكنه آل يسوع. يقدم الحكماء هدايا من أجله ثم يحذرون في حلم من العودة إلى الملك هيرودس كما قد طلب منهم، بل ليسلكوا سبيلا آخر في طريق عودتهم إلى وطنهم. هيرودس، لأنه الملك، يصيبه هذا الذي سيولد ليصير ملكا بالرعب فيرسل جنوده ليذبحوا كل طفل ذكر من سن عامين فما يزيد في بيت لحم وما حولها. لكن الملائكة تنذر يوسف في حلم رآه. فيهرب ومريم ومعهما يسوع من المدينة قبل أن تبدأ المذبحة ويسافرون إلى مصر. ويبلغ يوسف فيما بعد وهو في مصر في حلم أن هيرودس قد وافته المنية وأن بمقدورهم العودة. لكنهم حينما يكتشفون أن أرخيلاوس، ابن هيرودس، هو الحاكم على اليهودية، يقرران ألا يعودوا، بل أن يذهبوا عوضا عن ذلك إلى الجهة الشمالية من الجليل، إلى مدينة تدعى الناصرة. وهناك في هذه المدينة يترعرع يسوع.

                  واحدة من الميزات التي ينفرد بها متَّى، والتي تجعله متميزا عن لوقا هي الطريقة التي يؤكد بها المؤلف باستمرار على أن كثيرا من الحوادث قد وقعت «لكي يتم ما قيل بالأنبياء»(الأعداد 1: 22 ، 2 : 6 ، 2 : 18 ، 2 : 23 ).
                  هذا يعني أن ميلاد يسوع كان تحقيقا لنبوءات الكتاب المقدس. لم يكن لوقا على الأرجح لينكر هذا، لكنه لاذ بالصمت فيما يتعلق به. فثمة مسألتان لم يتفق عليهما لوقا مع متَّى: أن مريم كانت عذراء وأن يسوع ولد في بيت لحم. لكن المثير للدهشة هو تلك الكيفية بدت عبرها رواية لوقا مختلفة عن رواية متى في الطريقة التي أظهر بها هاتين النقطتين.

                  النسخة الأكثر إسهابا من رواية الميلاد التي للوقا(لوقا 1 : 4 – 2 : 40) تبدأ برواية مطنبة عن إعلان الملاك للمرأة العاقر إليصابات أنه ستلد يوحنا المعمدان الذي هو، وفقا لما ورد في لوقا، أحد أقرباء يسوع(فإليصابات ومريم تربطهما علاقة قرابة ولوقا هو المؤلف الوحيد في العهد الجديد الذي أشار لهذا). يقول لوقا إن مريم هي عذراء مخطوبة ليوسف. فيما بعد سيظهر ملاك لها ليخبرها أنها، كذلك، ستحبل بالروح القدس وستنجب ابن الله. تقوم مريم بزيارة إليصابات التي مضى على حملها ستة شهور والتي يقفز جنينها في رحمها فرحا بزيارة «أم [الـ]سيد.» فتبدأ مريم في ترنيم الرب بطريقة عفوية. ويولد يوحنا ويبدأ أبوه زكريا بعفوية أيضًا في التنبوء. وبعيد ذلك تبدأ قصة ميلاد يسوع في البروز أمامنا.
                  ويصدر قرار من قِبَل الإمبراطور الروماني أغسطس بوجوب أن يتقدم كل فرد في الإمبراطورية للاكتتاب العام من أجل التعداد ؛ يقال لنا إن هَذَا الاِكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. وكان على كل فرد أن يعود إلى وطنه الأصلي لكي يتم الاكتتاب. ولأن أجداد يوسف كانوا من بيت لحم(فهو ينحدر من نسل الملك داوود الذي كان قد ولد هنا)، يسافر إلى هناك برفقة مريم خطيبته. وبينما هي هناك تلد يسوع فتقمطه بقطع من الأقمشة وأضجعته في مزود« إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي النزل». وفي أحد الحقول تزور الرعاةَ جمهرة ملائكية تخبرهم أن المسيح قد ولد في بيت لحم؛ فيذهبون ويسجدون للطفل الوليد. بعد ذلك بثمانية أيام يختن يسوع. وبعدها يقدم يسوع إلى الرب في الهيكل ويقدم والداه الأضحية التي عينتها الشريعة الموسوية من أجل هذه المناسبة. وهناك يتعرف عليه باعتباره المسيح أحدُ الرجالِ الأتقياء الصالحين واسمه سمعان وامرأةٌ طاعنة في السن تقية اسمها حنَّة. وعندما أديا، مريم ويوسف، كل ما طلبته منهما شريعة الرب فيما يتعلق بميلاد الابن البكر، يعودان للناصرة حيث سيتربى يسوع.

                  «شريعة الرب» التي تتكرر الإشارة إليها طوال هذه الرواية هي سفر اللاويين الإصحاح 12 والذي ينص على أن التقدمات التي تساق إلى الهيكل ينبغي تقديمها بعد ميلاد الطفل بثلاثة وثلاثين يوما.
                  قبل أن أفحص الاختلافات الموجودة بين الروايتين، لابد أن أشير إلى أن الناقد التاريخي يجد صعوبات حقيقية في الروايتين كلتيهما. في متَّى، على سبيل المثال، ماذا يعني قول البشير إن نجما دل الرجال الحكماء وإن هذا النجم يتوقف فوق أورشليم، ثم ينطلق ثانية ويقودهم إلى بيت لحم، ويقف مرة ثانية فوق البيت المقصود بعينه والذي يعيش فيه يسوع؟ أي نوع من النجوم يفعل هذا بالضبط؟
                  أهو نجم يتحرك حركة بطيئة لدرجة تكفي لأن يقتفي أثره الرجال الحكماء الماشين على أقدامهم أو الممتطين ظهر بعير لهم ثم يتوقف ليبدأ من جديد، ثم يتوقف ثانية؟ وكيف تحديدا يقف النجم فوق بيت؟ أقول عادة لطلابي أن يخرجوا في بعض الليالي التي تكون فيها النجوم ظاهرة وأن يختاروا واحدًا من أكبر النجوم حجما في السماء وأن يتخيلوا أي بيوت الحي الذي يعيشون فيه سيقف فوقه هذا النجم. جلي أن ما يجري سرده هنا هو حادث إعجازي، ومع ذلك فيصعب جدا استيعاب ما كان يقصده المؤلف من هذا الكلام. لا يبدو أنه نجم حقيقي أو نجم مستعر أو مذنب أو أي ظاهرة فلكية يعرفها الناس من قبل.

                  من حيث التسجيل التاريخي، لابد أن أشير كذلك إلى أنه ليس ثمة رواية في أي مصدر عتيق من أي نوع تحدثت عن الملك هيرودس وقيامه بقتل الأطفال في بيت لحم أو فيما حولها أو في أي مكان آخر. وليس هناك مؤلف آخر، سواء أكان كتابه جزءًا من الكتاب المقدس أو لم يكن، يذكر هذه الحادثة. فهل هي، مثل رواية وفاة يسوع بحسب يوحنا، عنصر في القصة اختلقه متَّى اختلاقا لكي يثبت قضية لاهوتية ما؟

                  إن المشكلات التاريخية التي نصطدم بها في إنجيل لوقا هي أكثر وضوحا من هذه. فأولا لدينا سجلات جيدة نسبيا لفترة حكم قيصر أغسطس وليس هناك ذكر في أي مكان من أي تسجيل منها لتعداد للسكان يشمل الإمبراطورية جمعاء فرض لإتمامه على جميع الأفراد أن يتقدموا للاكتتاب العام من خلال العودة لأوطانهم الأصلية. وكيف يمكن لأمر كهذا أن يتصوره عقل؟ أعني أن يعود يوسف إلى بيت لحم لأن جده الأعلى داوود كان قد ولد هناك. لقد عاش داوود قبل ميلاد يوسف بألف عام. أعلينا أن نتصور أنه كان على كل مواطن في الإمبراطورية الرومانية أن يعود إلى وطن أجداده الذين عاشوا منذ آلاف السنين؟ لو أن تعدادًا سكانيا يشمل سكان الكرة الأرضية جرى تنظيمه اليوم وكان لزاما علينا أن يعود كل منا إلى المدن التي عاش فيها أجداده منذ ألف سنة، فأين كنت ستذهب؟ هل يمكنك أن تتخيل الارتباك الشامل الذي سيضرب الحياة الإنسانية الذي سيفرضه هذا النوع من الهجرة الكونية؟ وهل يمكنك أن تتصور أن لا يرد لمثل هذا المشروع ذكر في أي جريدة من الجرائد؟ ليس ثمة أي إشارة وحيدة فريدة لأي تعداد في أي مصدر قديم، باستثناء إنجيل لوقا. فلماذا إذن يقول لوقا إنه كان ثمة تعداد؟ ربما تبدو لك الإجابة واضحة وضوح شمس الضحى في كبد السماء. لقد أراد أن يستولد المسيح في بيت لحم مع أنه على يقين من أن الناصرة هي موطنه. لقد فعل متى الشيء ذاته، لكنه فعله بطريقة مختلفة.

                  والفروق التي بين الروايتين صادمة للغاية. فكل شيء في الواقع كان قد قيل في متَّى لا نجد له ذكرًا في لوقا، وكل القصص التي رواها لوقا، لا نعثر لها على وجود في متَّى. يذكر متَّى الأحلام التي رآها يوسف والتي لا نجد لها مثيلا في لوقا؛ ولوقا يذكر زيارات الملائكة لإليصابات ومريم والتي نجدها غائبة في إنجيل متَّى. أما متى فينفرد بذكر قصة الرجال الحكماء، وذبح هيرودس للأطفال، والرحلة إلى مصر، وتخطي العائلة المقدسة لليهودية في طريق عودتهم إلى الناصرة- كل هذه القصص مفقودة في لوقا. أما لوقا فقد انفرد بذكر ميلاد يوحنا المعمدان والتعداد الذي نظمه قيصر والرحلة إلى بيت لحم والمزود والنُزُل والرعاة والختان وتقديم الطفل يسوع في الهيكل ثم أخيرا العودة إلى الوطن مباشرة- كل هذه الأمور مفقودة في إنجيل متَّى. ربما متى الآن يقصد ببساطة أن يحكي طرفا من القصة ولوقا يرمي إلى سرد بقيتها حتى إذا حل ديسمبر من كل عام يكون لدينا مبررنا في دمج الروايتين لتكون النتيجة موكب عيد الميلاد ترى فيه الرعاة والرجال الحكماء جنبا إلى جنب ومعهما الرحلة من الناصرة والهروب إلى مصر كلاهما. المعضلة تكمن في أنك لو تنظر إلى الروايات عن كثب، فستجد أمامك اختلافات في وجهات النظر وتناقضات يصعب، بل يستحيل، أن تبعث في أرجائها التناغم.

                  لو أن الأناجيل كانت على صواب حين صرحت بأن ميلاد يسوع حدث في فترة حكم هيرودس، فإن لوقا لا يمكن أن يكون مصيبا هو الآخر حين زعم أن الميلاد قد وقع حينما كان كيرينيوس واليا على سورية. فنحن نعلم من عدد من المصادر التاريخية الأخرى، من بينها تاسيتوس المؤرخ الروماني ويوسيفوس المؤرخ اليهودي إلى جانب العديد من النقوش القديمة، أن كيرينيوس لم يعتل سدة الولاية في سورية قبل عام 6 ميلاديا، أي بعد وفاة هيرودس بعشر سنوات.

                  إن مقارنة دقيقة بين الروايتين تظهر كذلك وجود تناقضات داخلية بينهما. إحدى طرق استيعاب حقيقة المشكلة تتمثل في توجيه السؤال التالي: وفقا لإنجيل متَّى، أي مدينة على وجه التحديد كانت هي مسقط رأس الزوجين مريم ويوسف؟ إجابتك التلقائية هي أن «الناصرة» هي تلك المدينة. لكن لوقا وحده ينفرد بهذا القول. لا يذكر متى أي شيء بهذا الصدد. فهو يذكر يوسف ومريم للمرة الأولى لا فيما يتصل بالناصرة، بل ببيت لحم. فالحكماء الذين تبعوا النجم( من المفترض أن هذا حدث في وقت ما)، يأتون إلى بيت لحم ليسجدوا ليسوع في بيته. يبدو جليا أن يوسف ومريم يعيشان هنا. فليس هناك أي ذكر لنُزُل أو لمزود في متى. أضف إلى ذلك أن هيرودس حينما يأمر بذبح الأطفال، يصدر أوامره لجنوده بأن يذبحوا كل ذكر من عمر سنتين فما تحت. لابد أن يشير هذا إلى أن يسوع كان قد ولد قبل مدة من ظهور الرجال الحكماء. وإلا فلن يكون لهذه الأوامر أي معنى: فحتى الجنود الرومان كان بمقدورهم يقينا أن يعرفوا أن طفلا لم يتعلم المشي بعد يتسكع حول ملعب من الملاعب ليس طفلا ولد في وقت ما خلال الأسبوع المنصرم. إذن مريم ويوسف ما يزالان منذ شهور أو حتى عام أو أكثر من عام من بعد ميلاد يسوع يعيشان في بيت لحم. فكيف إذن يكون لوقا مصيبا عندما يقول إنهم من الناصرة وقد عادوا إليها فحسب منذ شهر تقريبا بعد ميلاد يسوع؟ فوق ذلك تخطط العائلة، وفقا لمتى، وبعد هروبها إلى مصر ثم عودتها عند هلاك هيرودس، في البداية للعودة إلى اليهودية حيث تقع مدينة بيت لحم. لكنهم يعجزون عن فعل هذا، مع ذلك، لأن أرخيلاوس هو الآن من يعتلي سدة الحكم، ولهذا يرحلون مرة أخرى إلى الناصرة. في رواية متَّى، لا يعود أصلهم من الأساس إلى الناصرة، بل إلى بيت لحم.

                  والأمر الأكثر وضوحا مع ذلك هو ذلك التناقض المتعلق بالأحداث التي جرت بعيد ميلاد يسوع. ولو كانت رواية متىَّ عن هروب العائلة المقدسة إلى مصر صحيحة تاريخيا، فكيف تكون رواية لوقا عن عودتهم إلى الناصرة بطريقة مباشرة صحيحة من المنظور نفسه؟
                  هناك مشكلات كبيرة، إذا قصدنا إلى الاختصار، تتعلق بروايات ميلاد يسوع حينما تفحصها من منظور علم النقد التاريخي. وهناك أمور غير جديرة بالتصديق من الناحية التاريخية وتناقضات يمكن بالكاد التأليف بينها. ولماذا نجد هذه التناقضات؟ ربما بدت الإجابة بديهية لبعض القراء. فما ظل النقاد يطرحونه من أقوال لآماد متطاولة عن هذه الروايات الإنجيلية هو أن الروايتين كلتيهما تحاولان التأكيد على القضيتين نفسيهما: أن أم يسوع كانت عذراء وأنه ولد في بيت لحم. ولماذا ولد في بيت لحم؟ لقد كان متى يعلم من أين تؤكل الكتف: فهناك نبوءة في سفر ميخا في العهد القديم تنص على ظهور مخلِّص في بيت لحم. فماذا كان هؤلاء الكتاب سيفعلون وهم يعلمون حقيقة أنه كان معروف على نطاق واسع أن مسقط رأس عائلة يسوع هي الناصرة؟ لقد كان لزاما عليهم أن يوجدوا رواية تفسر الطريقة التي جاءت بيسوع من الناصرة الواقعة جغرافيا في الجليل تلك المدينة المحدودة جدا من ناحية المساحة الجغرافية والتي لم يسمع بها أحد من قبل، مع أنه في الأساس كان قد ولد في بيت لحم موطن الملك داود الجد الملكي للمسيح. ولكي يرسخ متى ولوقا الاعتقاد بأن يسوع قد ولد في بيت لحم ورُبِّي في الناصرة، يجد كل منهما على حدى حلولا لا شك في أنها تطعن في مصداقية كل منهما في الصميم. لكن المؤرخ بمقدوره أن يكتشف المشكلات التي تشتمل عليها كل رواية على حدى، والقارئ الواعي بمستطاعه أن يرى أنه عندما نوضع هذه الروايات جنبا إلى جنب( أي تقرأ قراءة أفقية)، تبدو كل واحدة منهما مخالفة للأخرى حول العديد من القضايا المحورية.
                  [/CENTER]
                  تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


                  تعليق


                  • #10
                    سلسلة نسب يسوع

                    [align=justify]الفقرات التي تضم سلاسل النسب ليست دائما موضع تفضيل لدى قراء الكتاب المقدس. يبدي تلامذتي في كثير من الأحيان تذمرهم حينما أجبرهم على قراءة سلسلتي نسب يسوع في إنجيلي متى ولوقا. فإذا رأيت أنهم يعتبرون أمري لهم بالقيام بهذا شيئا سيئا، أسدي لهم نصيحة بأن يقرأوا سفر أخبار الأيام الأول. فمساحة هذا السفر تغطي تسعة إصحاحات كاملة، إصحاحا وراء آخر. فعند المقارنة، تبدو سلسلتا نسب يسوع في إنجيلي لوقا ومتى أقصر طولا وألطف وقعا. لكن المشكلة هي فيما بينهما من اختلافات. [/CENTER][align=justify]
                    مرة أخرى أكرر أن متى ولوقا هما إنجيلانا الوحيدان اللذان يمنحاننا نسب عائلة يسوع. هذا في حد ذاته يخلق مشكلة محيرة. فكما رأينا يصر متى ولوقا كلاهما عن قصد على أن أم يسوع كانت عذراء: لقد وجدت حبلى من الروح القدس، ويوسف ليس أبا ليسوع. لكن هذا يخلق مشكلة بديهية. إذا لم تكن ثمة علاقة دم تربط يسوع بيوسف ، فلماذا يتعقب متى ولوقا نسب يسوع عبر يوسف بهذا القدر من العناية؟ هذا سؤال لا يجيب عليه أي من المؤلفين: فالروايتان كلتاهما يعطياننا نسبا لا يمكن أن يكون ليسوع، حيث إن نسبه الحقيقي وعلاقة الدم الوحيدة التي له لا تمر إلا عبر مريم التي لا يذكر أي منهما أي معلومات عن نسبها.
                    بعيدا عن هذه المشكلة التي تتسم بعموميتها، هناك اختلافات عديدة وبديهية في وضوحها بين النسبين الواردين في الإصحاح الأول من متَّى والثالث من لوقا. بعضها لا يمثل تناقضا بحد ذاته؛ بل مجرد اختلافات عادية. فمتَّى، على سبيل المثال، يعطينا سلسلة النسب في مستهل إنجيله، أعني في أعداد إنجيله الأولى؛ أما لوقا فيعطينا سلسلته بعد معمودية يسوع في الإصحاح الثالث( الذي هو موضع شاذ لأن تذكر فيه سلسلة نسب، فالعهد بسلاسل النسب أن تكون ذات علاقة بيوم ميلادك، وليس بيوم معموديتك وأنت في سن الثلاثين. لكن ربما كان للوقا أسبابه في أن يضعها في هذا المكان الذي وضعها فيه). فأما النسب كما يورده متَّى فيتعقب نسب يوسف عبر الملك داوود جد المسيح وصولا إلى إبراهيم أب اليهود. وأما النسب اللوقاوي فيعود لما هو أبعد من ذلك متعقبا السلسلة حتى آدم أبي الجنس البشري.

                    لي عمة متخصصة في علم الأنساب تتفاخر بأنها تعقبت نسب عائلتنا ليصل بها النسب إلى أحد المسافرين على متن السفينة«مايفلاور». مع ذلك فما لدينا هنا هو نسب يعود إلى أيام آدم، آدم وحواء أبا البشرية. يا له من نسب مثير للدهشة!

                    ربما يتساءل المرء عما قد يدفع المؤلفين لوضع نهايتين مختلفتين لسلسلتي النسب في إنجيليهما. عادة ما يظن البعض أن متَّى، ذلك الإنجيل الذي يعنيه كثيرا إظهار انتماء يسوع لليهودية، يريد أن يشدد على علاقةيسوع بملك اليهود الأعظم داوود، وبأبي اليهود إبراهيم. أما لوقا، في الجهة الأخرى، فهو معنيٌّ على نحو أكبر بإظهار يسوع كصاحب رسالة خلاص لكل البشرية، اليهودي منهم والأممي، وهو ما نراه في سفر أعمالالرسل الذي يمثل الجزء الثاني من إنجيل لوقا والذي نرى فيه الأمم وقد قُبِلُوا كأعضاء في الكنيسة. ولذلك يظهر لوقا يسوع كقريب لنا جميعا من جهة آدم.
                    اختلاف آخر بين سلسلتي النسب يتمثل في أن متى في بداية إنجيله يبتدئ بإبراهيم ثم ينزل بالنسب جيلا وراء آخر وصولا إلى يوسف؛ أما لوقا فيتجه اتجاها مغايرا فيبدأ بيوسف ويصعد به جيلا بعد آخر حتى يعودإلى آدم.

                    هذه إذن ببساطة هي بعض الاختلافات بين الروايتين. المشكلة الحقيقية التي تطرحها هذه الاختلافات، مع ذلك، هو أن النسبين في الواقع متباينين. وأيسر السبل لتبيُّنِ هذه الفروق هو أن نوجه السؤال البسيط التالي: من أبو يوسف في كل نسب على حدى، ومن جدُّه من جهة أبيه ومن أبو جده؟ في متى يبتدئ النسب بيوسف فيعقوب فمتَّان فأليعازر فأليود ويستمر هكذا موغلا فيما مضى من زمان. أما في لوقا فيسير النسب منيوسف إلى هالي ومنه لمتثات ثم إلى لاوي فملاخي. ثم يصيرا متشابهين في النهاية حينما يصلان إلى الملك داوود(مع أن هناك مشكلات أخرى كما سنرى)، لكنهما يعودا فيضطربان من داوود وحتى يوسف.

                    كيف يحل المرء هذه المعضلة؟ ثمة افتراض نمطي يتمثل في القول بأن النسب الذي أورده متى هو نسب يوسف حيث يركز فيه متى على يوسف في روايات الميلاد تركيزا أكبر، وفي القول إن النسب الذي للوقا هونسب مريم التي يركز عليها لوقا أكثر من تركيزه على يوسف في روايته عن الميلاد. وهو حل جذاب إلا أنه يتضمن عيبا قاتلا. فلوقا يشير بوضوح إلى أن نسب الأسرة هو ذاك الذي ليوسف، وليس لمريم(لوقا 1 : 23 ؛ وكذلك متَّى 1 : 16 )[1]

                    وهناك مشكلات أخرى. تعد سلسلة النسب التي ذكرها متى هي، من بعض النواحي، الأكثر لفتا للنظر لأنه يشدد فيها على الأهمية العددية لنسب يسوع. فمن إبراهيم وصولا لداوود، ملك إسرائيل الأعظم، هناك أربعةعشر جيلا؛ ومن داوود وإلى دمار مملكة يهوذا على يد البابليين، أو أعظم كارثة في تاريخ شعب إسرائيل، هناك أربعة عشر جيلا مثلها؛ ومن الكارثة البابلية حتى ميلاد يسوع هناك أربعة عشر جيلا(1 : 17 ). أربعةعشر وأربعة عشر وأربعة عشر ثالثة: وكأن الله في الغالب هو من خطط أن يسير الأمر على هذا المنوال. وفي الحقيقة هذا ما يعنيه متى بالفعل. فبعد كل أربعة عشر جيلا يقع حادث ذو شأن. وهذا يعني بالضرورة أنيسوع، أو الجيل الرابع عشر، هو شخص له عند الله منزلة عظيمة.

                    المشكلة هي أن الرسم البياني المكون من «ثلاثة أربعة عشر» ليس دقيقا. فلو أنك قرأت ما بين الأسماء بعناية، سترى أن المجموعة الثالثة منها لا تحتوي في الحقيقة سوى على ثلاثة عشر اسما فحسب. أضف إلى ذلك أنه من اليسير نسبيا أن تخضع النسب الوارد في متى للمقارنة مع المصدر الذي استقى منه متى نسبه والذي هو الكتاب المقدس العبري نفسه الذي كان مصدرا استقى منه متّى الأسماء الواردة في سلسلة نسبه. فإذافعلنا هذا، يتضح لنا أن متى قد حذف بعض الأسماء من الأجيال الأربعة عشر من داوود وحتى الكارثة البابلية. ففي العدد 1 : 8 يشير متى إلى يورام باعتباره أبا لعُزِّيا. لكننا نعرف من سفر أخبار الأيام الأول الإصحاحالثالث والأعداد 10 – 12 أن يورام لم يكن أباه، بل جد جده.(8) أي أن متَّى، بطريقة أخرى، أسقط ثلاثة أجيال من سلسلة نسبه. ولماذا فعل ذلك؟ لابد أن جواب هذا السؤال بديهي, فلو أن متى ذكر الأجيال جميعها، فلنيكون بوسعه أن يزعم أن شيئا ذا بال وقع على رأس كل أربعة عشر جيلا.

                    مع ذلك فلماذا يشدد متى على العدد أربعة عشر تحديدًا؟ لماذا ليس سبعة عشر أو أحد عشر؟ ذكر العلماء عددا من التفسيرات عبر السنين. فبعضهم أشار إلى أن العدد سبعة في الكتاب المقدس هو الرقم المثالي. فإنصح هذا، فما علاقة هذا بالرقم أربعة عشر؟ علاقته به إنه يمثل ضعف الرقم سبعة. ومن هنا فهذا يحعل نسب المسيح نسبا «مثاليا على نحو مضاعف». نظرية أخرى، وربما تبدو أكثر إقناعا، هو أن النسب قد صيغتحديدا لكي يشدد على أن يسوع هو المسيا. فالمسيا لابد أن يكون «ابنا لداوود»، أي منحدرا من نسل أعظم ملوك بني إسرائيل. من المهم أن نعرف في هذا المقام أن الحروف الأبجدية في اللغات القديمة كانت لهاوظيفة أخرى وهي أنها حروف وفي الوقت نفسه أرقام، ولذلك فالحرف «أَلِف» العبري هو نفسه الرقم واحد كذلك، وأما الحرف الثاني، «بيت»، فيساوي الرقم اثنين، والثالث، «جيمل»، يساوي الرقم 3 وهلم جرًّا. وهناك أمر آخر فيما يتعلق بالعبرية القديمة وهو أنها لم تكن تستعمل حروف العلة. ولهذا فالاسم داوود كان يجري كتابته كالتالي: «د.ڤ.د». فأما الحرف «د»(واسمه «داليت») فيساوي الرقم 4، وأما الحرف«ڤ»(وينطق « ڤاڤ») فيساوي العدد 6 . فإذا جمعت الحروف المكونة لاسم داوود، ستجدها مساوية للعدد 14 . ولعل هذا هو السبب الذي أراد متى من أجله أن يكون ثمَّة في نسب يسوع المسيح ابن داوود ثلاث مجموعات كل مجموعة منها تتضمن أربعة عشر جيلا.

                    لسوء الحظ، كان عليه، لكي يجعل الأرقام تؤتي أكلها وتحقق الغرض المرجو منها، أن يحذف بعض الأسماء. ربما سأشير كذلك إلى أن متى لو كان محقا في رسمه البياني المشتمل على ثلاثة «أربعة عشر» اسما، كناسنجد 42 اسما بين إبراهيم ويسوع. أما النسب عند لوقا، مع ذلك، فيمنحنا 57 اسما. فهذان إذن نسبان مختلفان.

                    وما هو السبب في هذا التناقض؟ السبب أن كل مؤلف من هذين الاثنين كان له غرضه من إقحام سلسلة النسب في إنجيله- أو كان عندهما بالأحرى العديد من الأغراض: أعني إبراز ما بين يسوع وأبي اليهود إبراهيم(وأخص متى في هذا المقام بالذكر) وداوود أعظم ملوك إسرائيل(عند متَّى كذلك) ، والجنس البشري ككل (عند لوقا)من نسب وصلة. من المحتمل جدا أن المؤلفين كانا ينقلان عن غيرهما سلسلتي النسب هاتين، أو ربما اختلقاهما اختلاقا. وكلاهما بطبيعة الحال لم يكن ليدور بمخيلته أن ما يكتبه سيعين كجزء من «العهد الجديد» أو أن نقاد المنهج التاريخي الذين سيولدون بعد ذلك بألفي عام سيعقدون مقارنة دقيقة بين وبين غيره. ويقينا لم يستشر أحد الرجلين صاحبه في سبيل الخروج بنص متناغم ومتوافق لما ذكراه من حقائق. فكل واحد منهما ذكر روايته بأمثل الطرق التي استطاعها، لكن روايتيهما انتهى بهما الحال إلى أن صارا منضاربين.
                    [1][/CENTER]
                    تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


                    تعليق


                    • #11
                      [align=justify]
                      تناقضات أخرى من حياة يسوع
                      بمقدوري الآن، بما أننا قد تناولنا بشيء من التفصيل بعضًا من التناقضات الملفتة للنظر بين الروايات الإنجيلية، أن أتطرق إلى بعضها الآخر تطرقا سريعا. في أغلب الحالات سيكون بمقدوركم أن تفحصوا هذه التناقضات بأنفسكم إذا أحببتم. ويمكنكم أن تعثروا على وفرة من النماذج الأخرى، إذا اتخذتم القراءة الأفقية ببساطة وسيلتكم إلى قراءة ما جاء في الأناجيل قصة وراء أخرى.
                      يمكننا أن نتناول بعضا من هذه التناقضات عبر إثارة عدد من الأسئلة البسيطة. سأقتصر في هذا المقام على ذكر خمسة نماذج.
                      ماذا قال الصوت الذي سُمِعَ أثناء معمودية المسيح؟
                      إجابة هذا السؤال تعتمد على هوية الرواية التي تقرؤها. لم ينفرد يوحنا بذكر قصة المعمودية، بل إننا بالفعل نجدها في روايات متى ومرقس ولوقا، وجميعها تتشابه تشابها كبيرًا. وما يلي هو ما يتوقع المرء أن يجده: أدرك العلماء منذ زمن طويل أن متَّى ولوقا قد استقيا عددًا من قصصهم من إنجيل مرقس والذي يعد واحدًا من مصادرهم الرئيسة الهامة؛ وهنا يكمن السبب في توفر حالات كثيرة من التوافق الحرفي بينهم. ومع ذلك فثمة اختلافات بينهم سببها أن متى ولوقا قد أدخلا تغييرات في الصياغة على مصدرهما في عدد من المواضع. عموما، في الروايات الثلاث التي حكت حادثة معمودية يسوع، حينما يصعد من الماء وتنفتح السماء، ينزل الروح على هيئة حمامة ويأتي صوت من جهة السماء. ولكن ماذا يقول هذا الصوت؟ أما متى، فيقول الصوت فيه : «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ.» يبدو الصوت وكأنه يتحدث إلى الناس الواقفين حول يسوع،أو ربما إلى يوحنا المعمدان ليخبرهم بحقيقة شخصية يسوع. أما في مرقس فيقول الصوت:«أَنْتَ ابْنِي الْذِيْ بِهِ سُرِرْتُ.» في هذه الحالة يبدو الصوت وكأنه يتحدث مباشرة إلى يسوع، مخبرًا إياه، أو مؤكدًا له، بحقيقة ذاته. في لوقا لدينا شيء مختلف(هذا الاختلاف معقد قليلا لأن المخطوطات المختلفة لإنجيل لوقا تضع على لسان الصوت النازل كلمات مختلفة. في هذا الكتاب سأقتصر على إيراد الصيغة الأصلية للعدد على حالتها التي هي عليها كما نجدها في بعض مخطوطات الكتاب المقدس الأقدم عمرا، على الرغم من أنها مفقودة في غالبية الترجمات الإنجليزية).(9) ها هنا يقول الصوت مقتبسا كلمات «مزمور 2 : 7» :«أنت ابني، أنااليوم ولدتك»(3 : 22 ).
                      كل رواية تحاول أن تحقق من الصوت شيئا يختلف عن مثيله في الروايات الأخرى. أعني أن الكلمات المختلفة تعني أشياء مختلفة وتقوم بوظائف مختلفة: ففي متَّى تقوم الكلمات بتعريف يوحنا والجماهير بهوية يسوع؛ أما في مرقس فدورها هو تأكيد هوية يسوع لذاته تأكيدًا مباشرًا؛ وفي لوقا تعلن هذه الكلمات أن المعمودية جعلته ابن الله الفريد(أو لعلها صدقت على ذلك وأكدته؟) ولكن يبقى السؤال مطروحا: ماذا قال الصوت فعليًّا؟ مسيحيو العصور المبكرة أشعرتهم هذه الإشكالية بالحيرة إلى درجة أن إنجيلا متأخرًا يدعى إنجيل الأبيونيين أوجد للمشكلة حلا بإشارته إلى أن الصوت جاء من السماء في ثلاثة مواقف متفرقة. فقد أورد هذاالإنجيل ابتداءً كلمات يسوع كما رواها مرقس، والتي جرى توجيه الخطاب فيها إلى يسوع؛ ثم ذكرت الكلمات التي رواها متَّى مخاطبة ليوحنا المعمدان والحشود؛ وأخيرا يذكر الكلمات كما حكاها لوقا. مع ذلك، إذا لم يتوفر شخص تسيطر عليه الرغبة في إعادة كتابة الأناجيل الثلاثة من جديد، فالحقيقة هو أن هذه الأناجيل الثلاثة تشير إلى أن الصوت نطق أشياءً مختلفة.
                      أين كان يسوع في اليوم التالي لحادثة المعمودية؟
                      أما الأناجيل الإزائية، متَّى ولوقا ومرقس، فيغادر فيها يسوع بعد إجرائه للمعمودية إلى البرية حيث سيعرضه الشيطان للتجربة.(10) مرقس تحديدا هو الأكثر وضوحا في هذا الشأن لأنه يصرح، بعد أن يحكي حادثةالمعمودية، أن يسوع غادرهم سريعا إلى البرية. وماذا عن إنجيل يوحنا؟ ليس في يوحنا ذكر ليسوع وتعرضه للإغواء على يد الشيطان في البرية. ففي اليوم التالي لمعاينة يوحنا المعمدان للروح نازلا على يسوع في هيئة حمامة أثناء المعمودية(يوحنا 1 : 29 – 34 )، يرى يسوع مرة أخرى ويعلن أنه حمل الله( كان يوحنا واضحا في هذه النقطة فيصرح بأن هذا قد وقع في «اليوم التالي»). وحينئذ يبدأ يسوع في جمع تلامذته حوله(1 : 35 – 52 ) ويستهل خدمته العلنية بمعجزة أجراها حوَّل فيها الماء إلى نبيذ( 2 : 1 – 11 ). إذن أين كان يسوع في اليوم التالي للمعمودية؟ يعتمد هذا على أي الأناجيل تقرأ.
                      هل كانت ابنة يايرس ميتة بالفعل؟
                      لكي أشرح ما أبغي شرحه من أن اختلافات غير ذات أهمية ولا يمكن التوفيق بينها يمكننا أن نعثر عليها بين سطور الأناجيل، اخترت فقط نموذجا وحيدا بسيطا من خدمة يسوع الشفائية. في مرقس، إنجيلنا الأقدم،يقترب زعيم من زعماء الهيكل يسمى يايرس إلى يسوع ويتوسل إليه أن يسرع معه إلى بيته، لأن ابنته مريضة جدا وهو يريد من يسوع أن يأتي ليشفيها. وقبل أن يبدأا في التحرك في طريقهما، تعترض امرأةٌ نازفة طريقه فيعالجها. ثم يصل عدد من الخدم في منزل يايرس ليخبروه أن الوقت قد فات وأن الفتاة قد ماتت. فيخبرهم يسوع ألا يجزعوا؛ ويذهب إلى البيت ويحييها من بين الأموات(مرقس 5 : 18 0 26 )، ولكن مع وجود اختلاف هام في القصة. في رواية مرقس للقصة يأتي يايرس إلى يسوع لأن ابنته كانت قد ماتت بالفعل. وهو يريد أن يأتي يسوع لا لكي يعالجها، بل ليقيمها بالفعل من بين الأموات. وهو ما يفعله يسوع بالفعل. ربما يبدو الاختلاف هنا تافها، لكنه من الممكن أن يرى كاختلاف بالغ الأهمية، فهو في الأخير مسألة حياة أو موت.
                      من مع يسوع ومن ضده؟
                      بعض أقوال المسيح تترجم بطرق متشابهة على الرغم من ما بينها من تناقض. واحدة من النماذج التي أفضلها لهذه الظاهرة هما المقولتان المتصلتان في إنجيلي متَّى(12 : 30 ) و مرقس(9 : 40 ). في متى يعلن يسوع أنه:«من ليس معي فهو ضدي.» أما في مرقس، فيقول:«من ليس ضدنا فهو معنا.» فهل قال يسوع الجملتين معا؟ وهل بمقدوره أن يقصد المعنيين معًا؟ وكيف للمقولتين أن تكونا صحيحتين في الآن نفسه؟ أم هل يمكن أن يكون مؤلف أحد الإنجيلين قد وضع مقولته الخاصة بدلا من المقولة الأخرى؟
                      لكم من الزمان دامت خدمة يسوع التبشيرية؟
                      إنجيلنا الأقدم، إنجيل مرقس، لم يشر صراحة إلى الفترة الزمنية التي استغرقتها خدمة يسوع العلنية، لكنه أعطانا بعض الملاحظات الموحية. ففي مستهل خدمة يسوع التبشرية، في الإصحاح الثاني، يخترق تلاميذه حقول القمح ويأكلون من سنابلها، وهو ما أثار الفريسيين الذي يعتقدون أنهم يدنسون حرمة يوم السبت. لابد أن هذه الحادثة قد وقعت إذن في فصل الخريف الذي هو وقت الحصاد. بعد هذه الحادثة يتحرك خط سيرالأحداث بخطوات سريعة: واحدة من الكلمات التي يفضلها مرقس هي كلمة «εὐθύς» والتي تترجم بـ«وللوقت» أو«وفي التو»- «وللوقت» فعل يسوع كذا، أو «للوقت» فعل كذا. قريبا من الإصحاح 11، وبعد كثيرمن«وللوقت» نصل إلى الأسبوع الأخير من حياة يسوع وهو الموافق لعيد الفصح في أورشليم. فأما الفصح، فموعده في الربيع والانطباع الواضح الذي نخرج به من هذا هو أن خدمة يسوع التبشيرية قد استمرت عددًا قليلا من الشهور وهي المدة الواقعة بين موسم الحصاد وبين وقت الربيع.
                      شهورا قليلة؟! ألا يعلم الجميع أن فترة الخدمة اليسوعية قد استمرت لثلاث سنوات؟
                      في الواقع هذه الفكرة الخاصة بأن فترة الخدمة كانت مدتها ثلاث سنوات لا نجدها في الأناجيل المتوازية –مرقس ومتى ولوقا- بل في إنجيل يوحنا، أي الإنجيل الأخير. في ثلاثة مناسبات منفصلة يشير يوحنا إلى احتفالات متفرقة بيوم الفصح وبما أن هذا الاحتفالات يقام كل منها في عام منفصل، فهذا ربما يشير إلى أن خدمة يسوع التبشيرية لا مفر من أنها قد دامت على الأقل لأكثر من عامين، ولا تزيد عن الثلاثة. ولكن أيها هو المقصود، ستة أشهر أم ثلاثة أعوام ؟ كنت سأقول إن هذه القضية لا تمثل من الناحية الفنية تناقضا من التناقضات، لكن من العسير أن يعرف المرء ماذا عليه أن يفهم من كل هذه التعبيرات التي يذكر فيها مرقس كلمته المفضلة«للوقت» لو لم يكن يقصد معناها حقيقةً.
                      بمقدور القارئ أن يعثر على تناقضات أخرى في الروايات التي تتحدث عن فترة الخدمة التبشيرية ليسوع إذا كان ميالا إلى تعقب أثر هذه التناقضات جميعا. مع ذلك، أرى أن نتنكب هذا السبيل ، فأنا أريد في هذه اللحظة أن نمضي قدما لنتحدث عن التناقضات التي بمقدورنا ملاحظتها في روايات عيد الفصح- وهي الروايات التي تتحدث عن موت يسوع وقيامته. بعض من هذه التناقضات هي الأخرى ذات أهمية بالغة.
                      تناقضات في روايات الفصح
                      تحدثنا من قبل بالفعل عن تناقضين اثنين بين إنجيلي مرقس ويوحنا فيما يتعلق بروايات الفصح وهما الحديث عن تطهير الهيكل(مرقس 11؛ ويوحنا 2 ) وعن يوم وفاة يسوع ووقت الوفاة(مرقس 14 – 15 ؛ويوحنا 18 – 19 ). إلا أن هذين ليسا وحدهما ما تشتمل عليه أناجيلنا من تناقضات فيما يتعلق بروايات موت يسوع وقيامته. سأتحدث في هذا الباب عن ثلاث اختلافات مهمة إلى حدٍّ ما ثم سأذكر خلاصة مختصرة لعددمن النماذج الأخرى.
                      المحاكمة في حضرة بيلاطس
                      نبدأ بعقد مقارنة بين مرقس، أقدم الأناجيل القانونية التي نملكها، ويوحنا آخرها. في الروايتين كلتيهما يقف يسوع أمام الوالي الروماني بيلاطس البنطي ويحكم عليه بالموت لإطلاقه على نفسه لقب «ملكاليهود». مع ذلك فها هنا بعض الفروق بالغة الطرافة بين روايات مرقس ويوحنا عن مسار المحاكمة.
                      تتسم رواية مرقس بكونها قصيرة ودقيقة. ففي الصباح الباكر يحضر زعماء اليهودي يسوع أمام بيلاطس الذي يسأله ما إذا كان هو بالفعل ملك اليهود. يجيبه يسوع بكلمتين لا ثالث لهما:« su legeis» أي:أَنْتَ تَقُولُ.» لقد اتهمه الكهنة اليهود بأشياء كثر، لكن بيلاطس يصاب بالدهشة جراء سكوت يسوع عن الدفاع عن نفسه. ثم ثقال لنا أن بيلاطس كان له عادة أن يطلق سجينا للشعب اليهودي أثناء عيد الفصح ويسأل بيلاطس الجموع المحتشدة ما إذا كانوا يريدون منه أن يطلق سراح «ملك اليهود.» فيتدخل الكاهن الأكبر ليستثير الجموع على أن يطلبوا فك أسر مجرم يدعى باراباس بدلا من إطلاق يسوع. فيسأل بيلاطس الجماهير عن العقوبة التي يريدون إنزالها بيسوع: ما هي؟ فيجيبونه قائلين أنه مستوجب للموت صلبا. و«لكي يرضي الجموع» يفعل بيلاطس ما طلبوه منه: فيطلق باراباس ويأمر بجلد يسوع ويسلمه للجنودليصلبوه.
                      لو كان شاهدنا الوحيد على وقائع المحاكمة هو الرواية المرقسية، لكان الانطباع الذي سيترسخ في أذهاننا هو أنها كانت محاكمة سريعة جدا؛ وأن يسوع لم يقل تقريبا أي شئ(كلمتين تحديدًا)؛ وأن بيلاطس والزعماء اليهود الذين لفقوا التهم ليسوع ومعهم الجموع ويسوع نفسه كانوا جميعا في مكان واحد يتبادلون وجهات النظر.
                      لكن الأعداد (18 : 28 – 19 : 14 ) من إنجيل يوحنا ترد فيها رواية أخرى مختلفة تماما. ففي يوحنا يأخذ الزعماء اليهود يسوع إلى مقر بيلاطس لكنهم يرفضون أن يدخلوا إلى مقر الولاية لأنهم يريدون «ألا يتنجسوا» حتى يستطيعوا «أن يأكلوا الفصح» هذا المساء (18 : 28 ؛ تذكروا أنهم، وفقا لمرقس، كانوا قد تناولوا بالفعل وجبة الفصح في الليلة السابقة). لم يقل لنا يوحنا لماذا سيتنجسون إذا دخلوا إلى مقر الولاية. ألأنه كان مكانا وثنيا؟ أم لأنه بني على مقبرة؟ أم لشيء آخر؟ لكن المحصلة هي أن وقائع المحاكمة تتم بالأحرى على نحو غريب. فيسوع داخل مقر الولاية مع بيلاطس، والزعماء اليهود الذين يتهمونه بالخارج ومعهم الحشود اليهودية وبيلاطس يدخل ثم يخرج متنقلا بين المتهم والمدعين عليه، فيتحدث مرة إلى الطرف الأول ومرة أخرى إلى الطرف الآخر. يدخل بيلاطس مقر الولاية ثم يغادره لمرات ست أثناء مداولات المحاكمة ويعقد مناقشات مع الطرفين، يسوع والمدعين عليه- يتجادل معهم، ثم يستعطفهم محاولا إجبارهم على الإنصات إلى صوت العقل.
                      بمقدورك أن تجد العديد من التناقضات الأخرى بين الروايتين لو قرأتهما قراءة أفقية. سأذكر هنا ثلاثة منها وسأشير إلى مكامن الأهمية فيها. أولا كان لدى يسوع قدرًا أكبر مما يمكن قوله في رواية يوحنا مقارنة بما جاء في مرقس. لقد دخل، في الواقع، في حوارات مع بيلاطس متحدثا فيها عن «مملكته التي ليست من هذا العالم»(18 : 36 )، وأشار إلى أنه قد جاء للعالم لكي يشهد للحقيقة(18 : 37 )، وأعلن أن بيلاطس ليس له سلطان مطلق عليه إلا ما قد أعطاه له الرب(19 : 11 ). هذه الحوارات المطولة تتوافق توافقا حسنا مع ما ستجده في أنحاء الإنجيل وفقا ليوحنا، فهناك يشترك يسوع في خطب مطولة جدا تختلف تماما مع سلسلة الحكم والأمثال والأقوال المأثورة ذات الجملة الواحدة التي تصطدم بها عيناك مرارا وتكرارا في الأناجيل الإزائية.
                      أما التناقض الثاني، فبدلا من أن يجلد يسوع بعد انتهاء المحاكمة وإعلان منطوق الحكم- وهي التي ربما يظن المرء أنها اللحظة المنطقية لتنفيذ الحكم- في إنجيل يوحنا، يأمر بيلاطس بجلد يسوع في وسط المداولات(19 : 1 ). قدمت تفسيرات متنوعة لما أحدثه يوحنا من تغيير في التفاصيل؛ فربما كان سبب ذلك ما سوف يحدث فيما بعد: فبيلاطس يخرج يسوع من مقر الولاية ليعرضه أمام الشعب اليهودي مضروبامدميا مرتديا ثوبا أرجوانيا ويقول لهم:«هو ذا الإنسان.» إن يسوع بالنسبة لمؤلف إنجيل يوحنا هو أكثر من مجرد إنسان لكن بيلاطس والحشود اليهودية لا يعترفون بذلك. وهاهم أولاء بيلاطس وجنوده يسخرونمن يسوع بإلباسه أشواكا ملكية وملابس أرجوانية معلنين:«رحبوا بملك اليهود.» لم يحد ما أعلنوه، في واقع الأمر، عن الحق قيد أنملة وإن جهلوه. فيسوع، في أعين يوحنا، هو الملك في الحقيقة على الرغم من كل المظاهر.
                      وأخيرًا: الأمر المهم في إنجيل يوحنا هو أن بيلاطس، في ثلاث مناسبات مختلفة، يعلن بكل وضوح أن يسوع برئ وأنه لا يستحق العقوبة وأن إطلاق سراحه كان هو الواجب(صراحة في العددين 18 : 38 ؛ 19 : 6 ؛ وضمنيا في 19 : 12 ). أما في مرقس، فلا يعلن بيلاطس أبدا براءة يسوع. فما السبب في هذا التأكيد الزائد في إنجيل يوحنا؟ كان العلماء قد لاحظوا لفترة طويلة أن يوحنا ببراهين كثيرة هو أكثر الأناجيل قسوة في معاداته لليهود بين ما لدينا من أناجيل( انظر يوحنا 8 : 42 – 44 حيث يعلن يسوع أن اليهود ليسوا أبناء الله، بل «أبناء الشيطان»). في هذا السياق، لماذا إذن يروي يوحنا وقائع المحاكمة على هذا النحو الذي يصر فيه الوالي الروماني مرارا وتكرارا على براءة يسوع؟ سلْ نفسك: لو كانت المسئولية على قتل يسوع لا تقع على الرومان، فعلى من؟ على اليهود. وهكذا كان حالهم فيما يرى يوحنا. ففي العدد 19 : 16 يقال لنا إن بيلاطس قد سلم يسوع إلى كبار الكهنة اليهود لكي يكون بمقدورهم أن يصلبوه.
                      [/CENTER]
                      تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


                      تعليق


                      • #12
                        [align=justify]
                        موت يهوذا
                        في الأناجيل الأربعة جميعها يقال إن يهوذا الإسخريوطي هو من خان يسوع وأسلمه للسلطات وقادهم للقبض عليه. فيما تختلف الروايات الأربع في الأسباب التي نحت بيهوذا أن يقترف هذا الصنيع الأحمق. ففي إنجيل مرقس، بالرغم من أنه يقال لنا إنه قد تلقى أموالا مقابل صنيعه، فالسبب لذلك يحتمل أن يكون مرده إلى الطمع(14 : 10 – 11 ). أما متى ( 26 : 14 ) فيصرح بكل وضوح أنه فعل ذلك من أجل المال. لوقا، على الجانب الآخر، يشير إلى أن يهوذا فعلها لأن «الشيطان دخل إلى يهوذا»(22: 3). أو بكلمات أُخَر، الشيطان هو من أومأ له بذلك. أما في يوحنا فقد دعي يهوذا نفسه ب«الشيطان»(6 : 70 – 71 )، ولذا فمن المحتمل أنه قد خان سيده لأن في شخصيته نزعة شريرة.
                        الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو ما حدث ليهوذا بعد قيامه بصنيعه الخياني. لا يقول مرقس ولا يوحنا شيئا في هذا الصدد: فيهوذا يختفي بكل بساطة من مشهد الأحداث. والأمر نفسه ينطبق على إنجيل لوقا، إلا أن هذا الأخير كان قد كتب مجلدا آخر من إنجيله ألا وهو سفر أعمال الرسل.(11) يورد سفر أعمال الرسل رواية لما وقع ليهوذا بعد خيانته، والأمر نفسه ينطبق على إنجيل متى، لكن المثير للصدمة هو أن الروايتين يضطربان فيما بينهما اضطرابا صريحا في عدد من النقاط.
                        الرواية الأكثر شيوعا والتي تقول إن يهوذا قد خرج و«شنق نفسه» أصلها إنجيل متى(27 : 3 – 10 ). فبعد أن يرى يهوذا كيف أن خيانته قد أودت بيسوع إلى المحاكمة، يشعر بتأنيب الضمير ويحاول أن يعيد القطع الثلاثين من الفضة التي حصل عليها إلى زعماء الكهنة اليهود، قائلا لهم إنه«قد أخطأ إذ سلم دمًا بريئا.» فيرفضون قبول المال ولذلك يطرح المال في الهيكل ويمضي فيشنق نفسه. يجمع كبار الكهنة المال ويقررون أنهم لا يحل لهم أن يعيدوه إلى خزينة الهيكل لأنها «ثمن دم»: أي مال ملطخ بدم إنسان برئ. ولذلك يقررون أن يستخدموه استخداما حسنا وأن يشتروا به «حقل الفخاري» الذي من المحتمل أن صناع الفخار كانوا يحصلون منه على الصلصال محولين إياه إلى مكان لدفن الغرباء الذين ماتوا في أورشيلم. ولأنه كان قد اشتري بمال الدم الذي ليهوذا، يقال لنا إن هذا المكان «يسمي حقل الدم إلى هذا اليوم». هناك بعض القضايا المشابهة لدى لوقا في روايته: فموت يهوذا مرتبط بشراء حقل يسمى «حقل الدم.» لكن التفاصيل بها تباين واضح، بل حتى تناقض، مع القصة التي يرويها متَّى. ففي سفر الأعمال (1: 18 – 19 ) يقال لنا إن يهوذا نفسه، وليس الكهنة اليهود، هو من اشترى الحقل «من أجرة الظلم»، أي المال الذي اكتسبه جراء خيانته. ولا يقال إنه قد شنق نفسه. فبدلا من ذلك يعلمنا لوقا أنه سقط «على وجهه» و«انشق من الوسط» ولذا فقد «انسكبت أحشاؤه.» بالنسبة للوقا السبب الذي جعل هذا الحقل يدعى حقل الدماء هو أن يهوذا قد نزف دما على أرضه.
                        لقد حاول القراء على مرِّ السنين أن يوفقوا بين هاتين الروايتين عن موت يهوذا. كيف يحدث لها الأمران كلاهما: أن يشنق نفسه وأن «يسقط على وجهه» حتى تنشق بطنه وتنسكب أمعاؤه على جميع أرض الحقل؟ المفسرون البارعون، ممن يبتغون التوليف بين هاتين الروايتين ليخرجوا برواية واحدة صحيحة، كان لهم مع هذا الموضع يوم مشهود. فربما كانت الحقيقة أن يهوذا قد شنق نفسه فانقطع الحبل وسقط على الأرض فلامست رأسه الأرض أولا ثم انشقت بطنه من الوسط. أو لعله شنق نفسه فلم ينجح الأمر فلذلك اعتلى صخرة شاهقة وقفز قفزة الأوز العراقي إلى الأسفل تجاه الحقل. أو لعله...حسنا، لعله خيار غير ذلك.
                        القضية تظل رغم هذه المحاولات على أن الروايتين كلتيهما تعطياننا صورة مغايرة عن الكيفية التي مات بها يهوذا. وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف القول بأنه سقط على وجهه فانشقت بطنه وخرجت أحشاؤه، فإنه في الأخير لم «يشنق» نفسه. والروايتان يتناقضان بوضوح من وجهين: من اشترى الحقل( الكهنة، كما هو الحال عند متى، أم يهوذا، كما ينقل لنا سفر الأعمال؟) ولماذا دعي الحقل «حقل الدم»( ألأنه قد اقتني بأجرة دم، كما يقول متى، أم لأن يهوذا نزف داخله، كما يقول سفر الأعمال؟).


                        أحداث القيامة
                        لم تكن التناقضات بين الأناجيل أكثر وضوحًا في موضع منها فيما يتعلق بروايات الأناجيل عن قيامة يسوع من بين الأموات. غالبا ما أجد طلابي في الصف الأول، كنوع من التدريب، يعقدون مقارنات يسجلون أثناءها في قائمة كل ما قيل في كل إنجيل من الأناجيل الأربعة عن الأحداث التي وقعت بين الوقت الذي يقع بين دفن يسوع وحتى نهاية الأناجيل. ليس ثمة ما هو أفضل هذا الأمر كمقدمة لفكرة القراءة الأفقية للأناجيل. هناك الكثير من الاختلافات بين الروايات الأربع وبعض هذه الاختلافات تعد تناقضات لا يمكن التوفيق بينها وبين الروايات الأخرى بسهولة (أو مطلقا). يجد الطلاب في هذا التمرين شيئا ذا بال لأنني لست مجرد شخص يخبرهم بوجود تناقضات بين الروايات: فها هم أولاء يكتشفون التناقضات بأنفسهم ويحاولون أن يعثروا على المنطق من ورائها.
                        وهنا اسمحوا لي أن أؤكد على فكرة بسطت الحديث عنها في كتابي«تحريف أقوال المسيح»: نحن لا نمتلك أيا من النسخ الأصلية لهذه الأناجيل، ما لدينا لا يعدو أن يكون مجرد نسخ كتبت في وقت تال، وفي أغلب الحالات يقدر هذا الوقت التالي بقرون كثيرة. هذه النسخ جميعا تختلف بعضها عن بعض، وكثيرا جدا ما تحدث هذه الاختلافات في روايات قيامة يسوع من الأموات. ويكون لزاما على العلماء أن يحددوا النص الأصلي الذي تصرح به النسخ الأصلية اعتمادا على هذه المخطوطات المتأخرة كتابتها زمنيا. في بعض المواضع تكون التحديدات دقيقة للغاية؛ وفي بعضها الآخر يكون ثمة كثير من الجدال.
                        في جانب من جوانب البحث في روايات القيامة هناك نزاع بين العلماء حول التالي: يبدو جليا أن الأعداد الاثنتي عشر الأخيرة من إنجيل مرقس ليست أصلية في إنجيل مرقس بل هي أعداد أضافها ناسخ من جيل تال. لقد ختم مرقس إنجيله عند ما نعرفه الآن بالعدد 16 : 8 الذي يُذْكَرُ فيه أن النسوة هربن من القبر ولم يخبرن أحدا بما كن قد رأينه. في تناولي لهذه القضية بالنقاش أتبنى إجماع العلماء حول أن الأعداد 16 : 9 – 21 هي إضافة متأخرة للإنجيل.(12)
                        إذا غضضنا الطرف عن هذه التفاصيل، ماذا يمكننا قوله عن أخبار قيامة المسيح من الأموات في روايات الأناجيل الأربعة المعترف بها؟ تتفق الأناجيل الأربعة بلا استثناء على أن مريم المجدلية ذهبت إلى القبر ووجدته فارغا وذلك في اليوم الثالث بعد صلب المسيح ودفنه. لكنه فعليا يختلفون في كل تفصيلة من تفاصيل القصة.
                        فمن ذهب بالفعل إلى القبر؟ هل كانت مريم بمفردها(يوحنا 20 : 1)؟ أم مريم ومريم الأخرى(متَّى 28 : 1) ؟ أم مريم ومريم أم يعقوب ومعهما سالومي(مرقس 16 : 1)؟ أم النسوة اللاتي صاحبن يسوع من الجليل إلى أورشليم- وهن احتمالا مريم المجدلية ويونا ومريم أم يعقوب و«المرأة الأخرى»(لوقا 24 : 1 ؛ انظر في ذلك العدد 22 : 55 )؟ هل كان الحجر بالفعل قد حرك بعيدا عن باب القبر(كما يقول مرقس 16 : 4) أم أن ملاكا حركه بعيدا عن الموضع المذكور أمام أعين النسوة؟ وهل كان ملاكا(متَّى 28 : 5 )؟ أم رجلا شابا(مرقس 16 : 5 )؟ أم رجلين اثنين(لوقا 24 : 4 )؟ أم لم يكن ثمة أحد(كما في رواية يوحنا)؟ وماذا قيل لهن؟ أن يخبرن التلاميذ أن «يذهبوا إلى الجليل» حيث سيقابلهم يسوع(مرقس 16 : 7 )؟ أم أن يتذكروا ما قاله لهم يسوع«حينما كان في الجليل» من أنه كان يجب أن يموت وأن يقوم مرة أخرى من بين الأموات(لوقا 24 : 7 )؟ ثمَّ، هل أخبرت النسوة التلاميذ بما سمعوه ورأوه(متَّى 28 : 8 )، أم لم يخبرن أحدا بشيء(مرقس 16 : 8 )؟ وإذا كن قد أخبرن أحدا ما بشيء، فمن هذا الشخص؟ هل هم التلاميذ الأحد عشر(متىَّ 28 : 8 )؟ أم الأحد عشر ومعهم أناسا آخرين(لوقا 24 : 8) أم كان هذا الشخص هو سمعان بطرس والتلميذ الآخر الذي يحبه يسوع والذي لا يذكر له اسم (يوحنا 20 : 2 )؟ وماذا فعل التلاميذ في المقابل؟ هل لم يحركوا ساكنا لأن يسوع نفسه يظهر لهم في التو(متى 20 : 9)؟ أم لم يصدقوا النسوة لما يبدو على القصة من سيماء«الهذيان»(لوقا 24 : 11)؟ أم هل ذهبوا إلى القبر ليروا بأنفسهم(يوحنا 20 : 3)؟
                        وتتزايد الأسئلة. بمقدورك أن تقرأ الكتاب أفقيا لكي تعقد بنفسك مقارنة متقاطعة بين الأناجيل عن ما يحدث فيما بعد: لمن يظهر يسوع(إن كان قد ظهر لأحد) ومتى وماذا قال لهم وبماذا ردوا عليه. في كل تفصيلة تجد إنجيلا واحدًا على الأقل يقف وحده في تناقض مع الأناجيل الأخرى.
                        نقطة واحدة على وجه الخصوص تبدو الروايات فيها مستعصية على التوفيق. في رواية مرقس يطلب من النسوة أن يخبرن التلاميذ أن يذهبوا إلى الجليل لكي يقابلوا يسوع، لكنهن من شدة الخوف لا ينبسن ببنت شفة لأي أحد عن هذا الأمر. في نسخة متى من القصة يقال للتلاميذ أن يذهبوا للجليل لكي يقابلوا يسوع فيفعلوا ما أمروا به في التو. ثم يظهر لهم يسوع ويعطيهم تعليماته الأخيرة. لكن التلاميذ في إنجيل لوقا لا يخبرهم أحد بالذهاب إلى الجليل. بل يقال لهم إن يسوع كان قد تنبأ بقيامته عندما كان في الجليل(أبَّان خدمته العلنية). ومن ثم لا يغادرون على الإطلاق أورشليم تلك المدينة التي تقع في الجانب الجنوبي من إسرائيل،و هي المنطقة التي تختلف تمام الاختلاف عن الجليل الواقعة في شمالها. في يوم القيامة يظهر يسوع لاثنين من تلامذته على «الطريق إلى عمواس»(24 : 13 – 35 )؛ في وقت متأخر من ذلك اليوم نفسه يخبر هذان التلميذان التلاميذ الآخرين بما رأوه وعندها يظهر يسوع لهم جميعا(24 : 36 – 39 )؛ ثم يصطحبهم إلى «بيثاني» الواقعة على مشارف أورشليم ويعطيهم تعاليمه ومن ثم يصعد إلى السماء. في المجلد التالي من إنجيل لوقا، أعني سفر الأعمال، يقال لنا إن يسوع بعد قيامته قد أخبر التلاميذ في الحقيقة وبكل وضوح ألا يغادروا أورشليم(أع 1 : 4 )، بل أمرهم أن يبقوا هناك حتى يتلقوا الروح القدس في يوم عيد الخمسين. وبعد انتهائه من إعطائهم تعليماته، يرتفع يسوع حينها إلى السماء. ويبقى التلاميذ بالفعل في أورشليم حتى يأتيهم الروح القدس(أع 2 ). وهكذا يتبلور التناقض: فلو كان متَّى محقًّا، في أن التلاميذ يذهبون مسرعين إلى الجليل ويرون يسوع يصعد من هناك، فكيف يكون الحق في جانب لوقا في زعمه أن التلاميذ يبقون في أورشليم طوال الوقت، ويرون يسوع يصعد من هناك ويستمرون في بقائهم هناك حتى حلول يوم الخمسين؟
                        [/CENTER]
                        تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


                        تعليق


                        • #13
                          [align=justify]تناقضات أخرى في قصة الآلام
                          هذه إذن بعض من التناقضات الهامة في الروايات التي تتناول الأسبوع الأخير من حياة يسوع، وموته وقيامته من بين الأموات. وهذه التناقضات ليست مجرد اختلافات على الإطلاق، ولكني بدلا من أن أعددهم جميعا سأشرح هنا قليلا من كثير من التناقضات المثيرة التي ستجدها إذا قمت بإجراء تحليل شامل. بوسعي أن أشرح هذه التناقضات في تتال متسارع عبر توجيه الأسئلة الخمس البسيطة التالية:
                          1- متى دخل يسوع أورشليم أثناء دخوله الظافر إليها، وكم حمارا امتطى؟ يبدو الأمر وكأنه ينبغي أن يكون ثمة جواب واضح لهذه الأسئلة: لقد امتطى حيوانا واحدا، حمارا أو جحشا. وهذا في الحقيقة هو ما جاء في ثلاثة أناجيل، بما في ذلك العدد 11 : 7 من إنجيل مرقس. في إنجيل متَّى، مع ذلك، هذا الحدث الانتصاري يقال إنه حقق إحدى النبوءات؛ فكما رأينا، يولي متى أهمية بالغة لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس، وفي العدد 21 : 5 يصرح، مقتبسا العدد 9 : 9 من سفر زكريا:«قُولُوا لاِبْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعاً رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ».
                          يعرف علماء الكتاب المقدس العبري هذا النوع من النبوءات الشعرية الذي يعيد السطر الثالث من النص ذكر ما قيل في السطر الثاني منه. وتعرف هذه التقنية ب«شبه التطابق المترادف» (synonymous parallelism) حيث يقول سطران من قصيدة الشيء ذاته على نحو جوهري ولكن بكلمات مختلفة. لكن متَّى من الواضح أنه لم يفهم هذا العرف الشعري في هذا الموضع ما قاده إلى هذه النتيجة بالغة الغرابة. في متَّى يقتني تلامذة يسوع حيوانين اثنين له، حمارا وجحشا؛ وبسطون أرديتهم على الاثنين ويسير يسوع راكبا إياهما معا إلى المدينة منفرجة ساقيه عليهما معا(متَّى 21 : 7) واضح أنه مشهد بالغ الغرابة لكن متى جعل يسوع يحقق النبوءة الكتابية تحقيقا بالغ الحَرْفِيَّة.
                          2- ماذا قال يسوع للكاهن الأعظم حينما كان يواجهه بالأسئلة أثناء خضوعه للمحاكمة؟ إحساسي الشخصي هو أنه من وجهة نظر تاريخية هذا شيء لن يكون بوسعنا أن نعرفه أبدا. لقد كان يسوع هناك، وهناك كان القادة اليهود كذلك، لكن أحدًا من تلاميذ يسوع لم يكن هناك حاضرا يدون ملاحظاته من أجل الأجيال التالية. مع ذلك، يعطينا مرقس رواية بالغة الوضوح. يسأل الكاهن الأعظم يسوع ما إذا كان هو «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟»(14 : 61 )، ويرد يسوع برد بالغ الصراحة:«أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً فِي سَحَابِ السَّمَاءِ»(مرقس 14 : 62 ). بكلمات أخرى، في المستقبل القريب سيقيم الرب محاكمة لأهل الأرض الكون ساحتها، تحقيقا لنبوءات العهد القديم(دانيال 7 : 13 – 14). وهذه المحاكمة، في الحقيقة، كانت من القرب بحيث يشهدها الكاهن الأعظم في حياته.
                          ماذا لو لم تقع النبوءة كما أخبر؟ ماذا لو مات الكاهن الأعظم قبل أن يصل ابن الإنسان؟ ألن يبطل هذا مزاعم يسوع؟ ربما. ولهذا السبب يغير لوقا، الذي بدأ تأليف إنجيله بعد 15 أو 20 عاما من لحظة كتابة مرقس لإنجيله ، إجابة يسوع. الآن، لا يذكر يسوع أي شئ عن بقاء كبير الكهنة على قيد الحياة حينما يصل ابن الإنسان للدينونة:«مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ»(لوقا 22 : 69).

                          3- لماذا يقتبس متَّى النبوءة غير الصحيحة؟ عندما يشير متَّى إلى خيانة يهوذا ليسوع من أجل القطع الفضية الثلاثين، يعلق(كما نتوقع منه الآن) أن هذا كان تحقيقا لنبوءة وردت في الكتاب المقدس:« حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ: وَأَخَذُوا الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ»(متى 27 : 9 – 10). المشكلة هنا هي أن هذه النبوءة لا نجدها في أرميا. بل هي فيما يبدو اقتباس غير دقيق من العدد 11 : 3 من سفر زكريا.
                          4- متى انشق حجاب الهيكل؟ يفصل الحجاب الذي في الهيكل أقدس المواضع به والمسمى«قدس الأقداس» عن أفنية الهيكل الأخرى. قدس الأقداس هذا هو الموضع الذي اختاره الله ليكون مسكنا له هنا على الأرض(فيما يهيمن في الوقت ذاته على السماء كذلك). يحرم على أي إنسان أن يدخل إلى هذه الغرفة الواقعة فيما وراء الحجاب ما عدا مرة واحدة يحل موعدها في يوم الغفران(يوم كيبُّور) حينما يسمح لكبير الكهنة أن يدخل إليه لكي يقدم الأضحية، لخطاياه الشخصية أولا، ولخطايا الشعب ثانيا. وفقا لإنجيل مرقس، ينشق الحجاب نصفين بعد أن يلفظ يسوع نفسه الأخير(15: 38 ). هذا الحدث جرى التعامل معه لزمن طويل باعتباره إعلانا رمزيا وليس حرفيا، فليس ثمة دليل تاريخي على تعرض حجاب الهيكل للتدمير يوما قبل أن يحترق الهيكل نفسه احتراقا تاما بعد ذلك بأربعين عاما في حرب مع الرومان. يرى مرقس أن موت المسيح يعني أن الحاجة إلى أضحيات الهيكل قد تلاشت. فالرب بموت ابنه أصبح الآن ربا لجميع الشعوب؛ لم يعد منفصلا عنهم بحجاب غليظ. موت يسوع بعث التوحد بين الله وبين الناس: فهو غفران للخطايا يتصالح به الرب وشعبه.
                          يشير إنجيل لوقا كذلك إلى أن حجاب الهيكل قد انشق إلى نصفين. الأمر البالغ الغرابة أن حجاب الهيكل لم ينشق لنصفين بعد موت يسوع بل قيل بوضوح إن انشقاقه كان وما يزال يسوع حيا ومعلقا على الصليب(23 : 45 – 46 ). سأتناول بالحديث الأهمية التي لهذا التناقض في الفصل التالي لأن هذا التغيير مرتبط ارتباطًا مباشرًا بفهم لوقا لموت يسوع.
                          5- ماذا قال قائد المائة حينما مات يسوع؟ مرة أخرى تبدو الإجابة بديهية، وخاصة لهذا الصنف من الناس الذين يتذكرون أحداث الفيلم الملحمي الرائع المستوحاة أحداثه من الكتاب المقدس والذي عرض على الشاشة الفضية «أحسن القصص التي حكيت»( The Greatest Story Ever Told) ويتذكرون الكلمات الخالدة التي قيلت على لسان قائد المائة والذي لعب دوره «جون واين»:«حَقّاً كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللَّهِ!» وهي الكلمات ذاتها التي قالها قائد المائة في إنجيل مرقس(15 : 39 ). لكن الأمر الجدير بالملاحظة هوأن لوقا قد أحدث تغييرا في هذه الكلمات. ففي نسخته من القصة يقول قائد المائة: «بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!»(23 : 47 ). كان ثمة على الدوام مفسرون ممن أصروا على أن هذا في النهاية يأتي بالنتيجة نفسها: فلو أنه كان ابن الله، فهو بلا شك بارٌ. لكن الكلمات مختلفة و تعني معاني مختلفة. لو أن مشتبها به بارتكاب جريمة حكم عليه بأنه «غير مذنب»، فهذا لا يساوي يقينا حكمنا عليه بأنه ابن الله. فهل قال قائد المائة القولين كليهما؟ بوسع المرء أن يجيب على هذا السؤال بالإيجاب إذا كان غرضه أن يبعث التناغم والتوافق بين جنبات الأناجيل، وبذلك يكون قد اخترع رواية ثالثة عن المشهد لا تشبه ما قاله مرقس ولا ما قاله لوقا. لكن ربما يكون السبيل الأفضل هو أن نمعن النظر والفكر في الأسباب التي حدت بلوقا الذي جاء في عصر تال لأن يغير هذه الكلمات. فمن وجهة نظر لوقا كان التشديد على أن يسوع كان بريئا تماما من التهمة التي وجهت إليه هو الأمر الأكثر أهمية. في يوحنا، على سبيل المثال، يحاول بيلاطس لثلاث مرات أن يطلق سراح يسوع بإعلانه براءته مما وجه إليه من التهم(وهو ما يتفق مع لوقا ويختلف مع مرقس). وفي النهاية فعل قائد المائة الأمر ذاته. لقد أجمع الرومان على براءة يسوع. فمن ذا الذي يتحمل إثم جريمة قتل يسوع إذن؟ ليس الرومان، بل الزعماء اليهود أو الشعب اليهودي ذاته.
                          [/CENTER]
                          تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


                          تعليق


                          • #14
                            [align=justify]
                            تناقضات فيما يتعلق بحياة بولس وكتاباته

                            في هذا الفصل حتى هذه اللحظة، تناولت بالبحث الأناجيل المعتمدة الأربعة ليس إلا، مؤكدًا على الحاجة إلى قراءة هذه الأناجيل قراءة أفقية إذا كنا نريد أن نكتسب رؤى جديدة حولها، رؤىلن تكون متاحة أمامنا لو اكتفينا بقراءتها قراءة رأسية، أي إنجيلا وراء آخر. لا أزعم أن القراءة الأفقية هي السبيل الأمثل أو الأوحد للتعامل مع هذه الكتب. فمن الواضح أن مؤلفي الأناجيل كانوايقصدون أن تقرأ كتبهم مثل أي كتاب آخر، من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة، ومن الواضح أن علماء النقد التاريخي ظلوا يعترفون طويلا بقيمة القراءة على هذا النحو كما ابتكروا عددمن المناهج المثيرة للاهتمام التي بمقوردها أن تمد يد العون لمن اختار من القراء أن يقرأ هذه الأناجيل بهذه الطريقة.(13)
                            كما لا أدعي أن الأناجيل هي الكتابات الوحيدة بين الكتب التي يضمها العهد الجديد التي تحتوي بين صفحاتها على تناقضات. فكما رأينا بالفعل من قبل، يبدو سفر أعمال الرسل، على سبيلالمثال،متناقضا مع ما تقوله الأناجيل فيما يخص موت يهوذا(يتناقض السفر م متَّى تحديدا)، أو فيما يخص رحلة التلاميذ إلى الشمال في الجليل بعد موت يسوع وقيامته بفترة وجيزة هل تمت أملا( مع متَّى كذلك!).



                            سفر أعمال الرسل على سبيل الإجمال هو رواية تتناول ما وقع لتلاميذه ولما شجر بينهم بعد ارتفاعه إلى السماء. لقد نشر التلاميذ العقيدة المسيحية، في البداية بين اليهود الذين عاشوا فيأورشليم ثم فيما بعد في مختلف الأماكن، ونقلوا رسالتهم إلى اليهود في الأجزاء الأخرى من الإمبراطورية ثم بعد ذلك، وهو الأمر الأكثر أهمية، إلى غير اليهود أو الأمميين الذي يعيشون فيالمراكز الحضرية المنتشرة حول البحر المتوسط. من بين المتحولين كثيري العدد إلى هذه الديانة الجديدة لم يكن أحد يزيد أهمية على شاول الطرسوسي الذي صار يعرف ببولس الرسول. مايقرب من ثلثي روايات سفر الأعمال تتركز حول بولس واعتناقه المسيحية بعد أن كان خصما شرسا للإيمان الجديد، وكذلك رحلاته التبشيرية لجذب الآخرين إلى حظيرة الإيمان بالمسيح،والقبض عليه وما تعرض له من محاكمات وسجنه سجنا مؤبدا في مدينة روما. لم يكن بولس بطلا لأحداث سفر أعمال الرسل فحسب، بل كان له أسفاره الخاصة التي ألفها بنفسه. فمن بينالأسفار السبعة والعشرين التي يتكون منها العهد الجديد، هناك ثلاثة عشر سفرًا يزعمون أن بولس هو من كتبها. وهناك سفر آخر، الرسالة إلى العبرانيين، جرى قبوله كجزء من القائمة الرسميةللعهد لأن الآباء الأوائل للكنيسة كانوا يؤمنون بأنه من تأليف بولس رغم أن الكتاب نفسه لا يزعم ذلك. علماء اليوم يوقنون إيمانا مبنيا على أدلة منطقية بأن بولس لم يكتبه في حقيقة الأمر. وبين الثلاث عشرة رسالة التي تحمل اسم بولس، هناك أسباب تحملنا على الشك في أنه قد كتب بالفعل ستًّا منها. وهذا الأمر سيكون موضوع فصل سيأتي في آخر الكتاب عندما نناقشالسؤال المهم:«من كتب الكتاب المقدس؟» أما الآن فيكفي أن نعرف أن بولس هو موضوع سفر الأعمال ومؤلف على الأقل لبعض الكتابات التي يشتمل عليها العهد الجديد. الرسالاتالسبع التي يجمع كل العلماء تقريبا على صحة نسبتها إلى بولس-أو ما يسمى الرسائل البوليسية غير المتنازع عليها- هي الرسالة إلى أهل رومية والرسالتان الأولى والثانية إلى أهل كورنثوسوالرسالة إلى أهل غلاطية والرسالة إلى أهل فليبِّي والرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي والرسالة إلى فيليمون.


                            وهكذا بمقدورنا أن نصنع نوعا من القراءة الأفقية لسفر الأعمال مقارنين إياه بالرسائل التي ألفها بولس. في بعض الأحيان يناقش سفر الأعمال حدثا وقع في حياة بولس ويكون بولس قد ذكرهبنفسه في رسائله. هذا يسمح لنا أن نرى كيف يتناقض الحدثان أحدهما مع الآخر. لقد اختلف علماء النقد التاريخي طويلا فيما بينهم فيما يتعلق بمدى مصداقية سفر الأعمال كوسيلة نفهم بهاحياة بولس وكتاباته. رأيي الشخصي الذي أؤمن به هو أن دقة سفر الأعمال في تناوله لشخصية بولس قريبة من دقة تناول الجزء الأول منه، أي إنجيل لوقا، لشخصية يسوع: فكثير منالمعلومات الأساسية هي معلومات ذات مصداقية على الأرجح، إلا أن كثيرا من التفاصيل جرى التلاعب بها.



                            أكثر علماء النقد يعتقدون أن سفر الأعمال قد كتب في وقت ما بعد زمن كتابة إنجيل لوقا، بين عامي 85 و 90 ميلاديا-أي بعد عشرين أو خمسة وعشرين عاما من وفاة بولس. فإن صحَّ هذا،فلن تكون مفاجئة أن نرى أن المعلومات التي ذكرت عنه في سفر الأعمال ربما لا تتسم بالدقة التامة من الناحية التاريخية. لكن السبيل الوحيد أمامنا للوصول إلى اليقين هو أن نقارن بين ما يقولهسفر الأعمال عن بولس وبين ما يقوله بولس عن نفسه، مبتغين من وراء ذلك أن نعرف ما إذا كانا متوافقين جوهريًّا أم بينهما تناقضات. سأورد الآن خمس أمثلة أصابتني شخصيا بالاندهاشباعتبارها أمثلة طريفة. بعض هذه الأمثلة لها أهميتها في فهم حياة بولس وتعاليمه؛ بعضها الآخر، وأقولها بصراحة، يمثل تناقضات ليست إلى حدٍّ ما بذات أهمية. لكنها معا تظهر أن سفر الأعماللا يمكن اعتماده كمصدر موثوق بها موثوقية تامة حينما يتعلق الأمر بسرد حياة بولس.



                            1- بعد اعتناقه المسيحية، هل ذهب بولس مباشرة إلى أورشليم لكي يتشاور مع الذين كانوا رسلا من قبله؟ كما ذكرنا، كان بولس مضطهدا للمسيحيين قبل أن يصير هو نفسه مسيحيامثلهم، ولهذا فلم يكن تلميذا ليسوع أثناء فترة خدمته الأرضية وعلى الأرجح لم يكن يعرفه حتى على الإطلاق. لقد كان بولس يعيش خارج فلسطين وكانت اليونانية، وليس الآرامية،لغته الأم. ولكنه في لحظة ما، ولسبب غير معروف، «أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ »(كما جاء في سفر الأعمال 9 : 3 حرفيًّا) ليتحول من عدو للعقيدة المسيحية إلى واحد من أعظم أنصارهاالمدافعين عنها. وماذا كان رد فعله حينها؟ يحكي لنا بولس بنفسه في الرسالة إلى أهل غلاطية 1 : 16 – 20 ما حدث بعد إيمانه:
                            «لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضاً إِلَى دِمَشْقَ. ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ،فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً. وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ.وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ.»
                            هذا التصريح الذي تعلوه هذه اللهجة التأكيدية من بولس لا يكذب لابد أن تكون لنا معها وقفة. فهو صريح تمام الصراحة. لم يستشر أيًّا من الآخرين بعد تحوله للمسيحية، ولم يلتق أيًّامن الرسل لثلاث سنوات، وحتى عندما حدث لقاء لم ير فيه سوى كيفاس(بطرس) ويعقوب أخا الرب.
                            هذا يجعل من الرواية الواردة في سفر الأعمال رواية مثيرة جدا للاهتمام بالفعل. فوفقا للأصحاح 9 من سفر الأعمال، قضى بولس بعد وقت قليل من تحوله للمسيحية بعض الوقت فيدمشق «مع التلاميذ» وعندما غادر المدينة، توجه مباشرة إلى أورشليم حيث التقى تلاميذ يسوع(أعمال 9 : 19 – 30 ). في كل الروايات يبدو سفر الأعمال متناقضا مع ما يقولهبولس. فهل قضى بعض الوقت مع المسيحيين الآخرين بعد وقت قليل من تحوله(كما يقول سفر الأعمال) أم لا(كما يقول بولس)؟ هل ذهب مباشرة إلى أورشليم(كما في سفرالأعمال) أم لم يفعل(كما لدى بولس)؟ هل التقى مع جماعة التلاميذ(كما في سفر الأعمال) أم مع بطرس ويعقوب فحسب(وفقا لبولس)؟
                            بالنسبة لهذا الصنف من الناس الملم بكتابات بولس وبسفر الأعمال، ليس من العسير فهم أسباب وجود مثل هذه التناقضات. ففي رسالة بولس لأهل غلاطية، كان راغبا في الإلحاحعلى أن رسالة الإنجيل جاءته من الله نفسه مجيئا مباشرًا عبر يسوع. فهو لم يحصل عليها من شخص آخر- ولو كان هذا الشخص هو التلاميذ الآخرين- ولذلك فمن يختلف معهبخصوص الإنجيل فهو في الحقيقة يخالف الله نفسه وليس بولس.
                            كاتب سفر الأعمال، من ناحية أخرى، لديه رغبته في أن يشدد على وجود اتصال من كل وجه بين كل تلامذة يسوع الحقيقيين، القدماء من ناحية وبولس من ناحية أخرى. فلقد تقابلواوتحادثوا وتوافقوا- ورد ذلك لمرات في سفر الأعمال. أما بولس نفسه، فما يعنيه هو أن سلطانه مستمد من الله بطريق مباشر. فهو لم يشاور الرسل ولم يلتق أيًّا منهم. لقد كان لكلمؤلف من المؤلفين أغراضه الخاصة ولهذا قص كل منهما القصة قصا مختلفا نتج عنه تناقضا طريفا لكنه مهم. فمن يجب أن نصدق؟ في هذه الحالة صوتي سيذهب لبولس الذي لايقتصر الأمر على أنه ينبغي أن يعرف ما كان يفعله بل وكذلك يقسم أمام الله أنه لا يكذب. من الصعب قليلا أنه كان يكذب.


                            2- هل كانت كنائس اليهودية تعرف من هو بولس؟ في هذا الصدد يبدو بولس مرة أخرى واضحا أتم الوضوح. ففي وقت ما بعد انتقاله إلى المسيحية، جال بعدد من الكنائس في مناطقتقع بسورية وكيليكيِّة، لكنه كان « غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ.»(غلاطية 1 : 21 – 22). غرابة هذا الأمر أصابت بعض العلماء بالدهشة. فوفقا لسفرالأعمال، حينما كان بولس قبل تحوله للمسيحية يضطهد الكنائس التي في المسيح، كانت هذه الكنائس هي تحديدًا الكنائس المسيحية التي في« اليهودية والسامرة»(أعمال 8 : 1 – 3؛ 9 : 1 – 2 ). فلماذا لا يعرف أولئك المسيحيون الذين كانوا معرضين للاضطهاد على يديه من قبل هيئته؟ ألم يكن له حضور جسدي بينهم باعتباره عدوهم السابق؟ بالنسبةلسفر الأعمال: الإجابة هي نعم، أما بالنسبة لبولس: فلا.

                            3- هل ذهب بولس إلى أثينا وحده؟ حينما كان يقوم برحلاته التبشيرية وذهب إلى أثينا لكي يبشر الوثنيين فيها بالإنجيل، هل ذهب بولس هناك وحيدًا بلا رفيق؟ هنا مرة ثالثة يبدو أن ثمةتناقضا. هذا التناقض ربما لا يبدو بهذه الأهمية الكبيرة، فيما عدا أن لوقا فيما يبدو قد حصل على بعض التفاصيل غير الدقيقة. حينما يكتب بولس رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي،يشير إلى أنه بعد أن جلبهم إلى حظيرة الإيمان وشرع في تدشين كنيسة فيما بينهم، سافر إلى أثينا. لكنه شعر بالاهتمام بكنيسته الجديدة الوليدة ولذلك أرسل رفيقه «تيموثاوس» إليهم لينظر كيف يعملون. بكلمات أخرى، رافق «تيموثاس» بولس إلى أثينا ثم عاد إلى تسالونيكي ليعين أهلها في تثبيت كنيستهم في الإيمان( 1 تسالونيكي 3 : 1 – 2). سفرالأعمال، مع ذلك، واضح هو الآخر بنسبة متساوية. فمؤلف السفر يخبرنا أن بولس، بعد أن أسس الكنيسة في تسالونيكي، أوجد هو وسيلا وتيموثاوس كنيسة في مدينة «بيرية»؛وحينئذ المسيحيون الذين في هذه المدينة « أَرْسَلَوا بُولُسَ لِلْوَقْتِ لِيَذْهَبَ إِلَى الساحل وَأَمَّا سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ فَبَقِيَا هُنَاكَ.»(17 : 14 – 15 ). عمد بولس إلى إرسال أوامره بأنيلتقي به سيلا وتيموثاوس في أسرع وقت ممكن. وسافر هو إلى أثينا وحده ولم يلتق رفيقيه إلا بعد مغادرته مدينة كورينثوس(17 : 16 - 18 : 5). هذا تناقض آخر يصعب إيجادحل له: فإما أن تيموثاوس سافر إلى أثينا مع بولس(1 تسالونيكي)، أو أنه لم يفعل(سفر الأعمال).


                            4- كم رحلة إلى أورشليم قام بها بولس؟ في الرسالة إلى أهل غلاطية يتعمد بولس أن يظهر أنه لم يتشاور مع الرسل في أورشليم لكي «يتعلم» الإنجيل. فهو بالفعل كان يعرف ما هوالإنجيل: فلقد سمعه بلا واسطة من المسيح في رؤية إلهية. وهو يريد على وجه الخصوص من أهل غلاطية أن يفهموا أنه عندما يكون ثمة نزاع حول رسالته، فهناك لقاء خاص فيأورشليم لمناقشة هذا النزاع. والسؤال الآن هو التالي: لو أن إنسانا غير يهودي تحول إلى تابع ليسوع، فهل عليه (أو عليها) أولا أن يصير (أو تصير) يهوديا؟ بولس يرفض هذا الأمررفضًا حاسمًا. فما على الرجل الأممي ، على الأخص، أن يختتن، وهي علامة العهد التي فرضها الله على اليهود، إذا أراد أن يصير تابعا للمسيح. مبشرون مسيحيون آخرون أخذواموقفا معارضا لوجهة النظر هذه، وكان هناك مجمع في أورشليم للبحث في هذه القضية. وفقا لما يرويه بولس، هذه كانت المرة الثانية فقط التي زار فيها أورشليم(غلاطية 1 : 18 ؛ 2 : 1 ). أما سفر الأعمال، فوفقا له، كانت هذه هي الزيارة الثالثة والمطولة إلى هناك(أعمال 9 ، 11 ، 15 ). مرة أخرى يبدو أن مؤلف سفر الأعمال قد أدخل بعض الارتباك علىبعض من يوميات الرحلات التي قام بها بولس- من المحتمل أن يكون هذا عن عمد، لأغراض المؤلف الخاصة.



                            5- هل كانت الرعويات التي أسسها بولس تضم بين أعضائها أفرادًا من الطائفتين اليهودية والأممية(غير اليهود)؟ إجابة هذا السؤال، وفقا لسفر أعمال الرسل، هي نعمواضحة لا مراء فيها. فعندما يبشر بولس في تسالونيكي، يؤمن اليهود المحتشدون في الكنيس اليهودي بالمسيح، والأمر نفسه يفعله غير اليهود من اليونانيين(أع 17 : 4 ). أما بولس فله رأي آخر. فعندما يكتب إلى هذه الكنيسة في تسالونيكي، يذكرهم بالكيفية التي حولهم بها إلى الإيمان بالمسيح ويتحدث عن الكيفية التي «رجعوابها عن الأوثان إلى الله الحي»(ا تسالونيكي 1: 9 ). إن الوثنيين وحدهم هم من يعبد الأوثان. لقد كان المتحولون إلى المسيحية على يد بولس في تسالونيكيوكورينثيا ( 1 كورينثوس 12 : 2 ) ممن كانوا يعبدون الأوثان في السابق. ولذلك كان بولس يدعو نفس «رسول الأمميين». وقد كان هناك بشيرون آخرون، وأخصبطرس بالذكر، ممن كان جل اهتمامهم منصبا على تبليغ الرسالة إلى اليهود(غلاطية 2 : 8 ). إذن فكنيستا تسالونيكي وكورينثيا تشكلتا (بحسب بولس)من الأمميين،وليس من اليهود والأمميين معا كما يزعم سفر الأعمال.
                            كانت هذه فحسب أمثلة قليلة من التناقضات التي بمقدور المرء أن يجدها عندما يقرأ سفر الأعمال قراءة أفقية مقارنة برسائل بولس. وهناك أمثلة أخرى أكثر بكثيريمكن اكتشافها. وما تميط هذه النماذج اللثام عنه هو أن سفر أعمال الرسل لا يمكن الاعتماد عليه للحصول على تفاصيل بالغة الدقة حينما يتعلق الأمر بقص الرحلاتالتبشيرية للرسل الأوائل مثل بولس.
                            هناك سبب وحيد يجعل أمر سفر الأعمال وما إذا كان ذا مصداقية فيما يورده من تفاصيل تاريخية أمر ذا أهمية وهو أن كثيرا من المعلومات التي «يعرفها» الناس عنبولس ليس لها مصدر سوى سفر الأعمال وسفر الأعمال وحده، حيث إن هذه الأجزاء من المعلومات لم يذكرها بولس في رسائله. بعض علماء النقد التاريخي أثارواشكوكا حول هذه القضايا، بما في ذلك ما يلي: أن طرسوس هي مسقط رأس بولس(أع 21 : 39 )، وأنه درس مع الحبر اليهودي غمالائيل في أورشليم(22 : 3)،وأنه كان مواطنا رومانيا( 22 : 27 )، وأنه كان «صانع خيام»(18 : 3 )، وكذا أنه عندما دخل إحدى المدن ليبشر فيها بالإنجيل، ذهب أولا إلى معبد اليهود فيهاليحاول تحويل اليهود إلى الإيمان(انظر 14 : 1 على سبيل المثال)، وأيضًا أنه اعتقل في أورشليم وقضى أعواما في السجن(الأصحاحات 21 -28)، وأنه رفع دعواهإلى قيصر لاستئناف محاكمته ولهذا انتهى به الحال في روما( 25 : 11 ).
                            الخاتمة
                            رأينا الكثير من التناقضات داخل العهد الجديد في هذا الفصل، بعضها تافه وليس له أي أهمية، والبعض الآخر مهم لفهم ما أراد المؤلفون المختلفون في الرأي أن يقولوا. بعض التناقضات ربما يمكنالتوفيق بينها لو توفرت البراعة التفسيرية الكافية؛ والبعض الآخر فيما يبدو يمثل تناقضات صريحة لا مراء فيها. وما ذكرناه هنا ليس معالجة شاملة للتناقضات، بل هو أنموذج تمثيلي ليس إلا. فلقدانتقيت بعضها الذي رأيته أكثرها طرافة.



                            وما هي الاستنتاجات التي يمكن أن نستخلصها من هذه التناقضات؟ ثلاث نقاط هي التي صدمتني باعتبارها الأكثر أهمية:


                            1- أولا تعد التناقضات ذات أهمية لأنها تظهر أن رؤية الكتاب المقدس باعتباره معصوما تماما عن الأخطاء هي رؤية غير صحيحة فيما يبدو. هناك أخطاء لو أنك فحصت الكتاب المقدس علىقاعدة تاريخية. لو أن وصفين اثنين لحدث واحد (موت يسوع على سبيل المثال) تناقضا في التفاصيل، فلا يمكن أن يكون الوصفان كلاهما صحيحين من الناحية التاريخية. أحدهما غير صحيحتاريخيا، أو كلاهما غير صحيح، لكنهما معا لا يمكن أن يكونا صحيحين، على الأقل بالنظر إلى ما حدث في حقيقة الأمر. لكن هل هذا يعني أن الكتاب المقدس ينبغي أن يطرح جانبا، وأنيهجر باعتباره قطعة أخرى عتيقة ولا تستحق الاهتمام بها من الأعمال الأدبية؟ على الإطلاق. أدافع في الفصل الأخير من كتابي هذا عن أننا ينبغي أن نستمر في قراءة الكتاب المقدس وفيدراسته وتبجيله(لكن ليس باعتباره رواية تاريخية معصومة من الخطإ). هل يعني هذا أنه من المستحيل بالنسبة لشخص من الأشخاص أن يظل مسيحيا؟ دائما ما سيسأل المسيحيون من ذويالقناعات اليقينية – مثل الكثيرين ممن أعيش بينهم في الجنوب الأمريكي- مثل هذا السؤال. ولكن الإجابة مرة أخرى هي بلا جدال: لا. إن المسيحية التي تعتمد اعتمادا كليا على عصمةالكتاب المقدس ربما لا يمكنها التعايش مع حقيقة وقوع التناقضات فيه. إلا أن الإيمان المسيحي له الكثير من الأشكال، وكثير من هذه الأشكال لم تصبه حقيقة أن الكتاب المقدس ليس هوالكتاب الكامل من كل وجه بأي أذى. هذه المسألة سأتناولها بإطناب في الفصل الأخير من هذا الكتاب.



                            2- حيث إنه ثمة اختلافات بين يريد المؤلفون المختلفون قوله- أحيانا يكون الاختلاف تناقضا تافها وغير ذي أهمية وأحيانا أخرى يكون عظيم الشأن- فمن المهم أن ندع كل مؤلف يتحدث بالنيابةعن نفسه وألا نتظاهر بأنه يقول الشئ نفسه الذي يقوله المؤلف الآخر. ينبغي أن تعلمنا التناقضات أن وجهة نظر مرقس ليست هي نفسها وجهة نظر يوحنا، وأن يوحنا ليس كمتَّى، وأن متَّى لايتبنى وجهة النظر التي يتبناها بولس، وهكذا دواليك. إن كل مؤلف لابد أن يُقْرأَ لرسالته الشخصية، حتى إذا قرأت مرقس، لا تستدعي تعاليم متَّى. فلتقرأ مرقس لتتعرف على مرقس، ولتقرأ متَّىمن أجل متَّى. وهذه مشكلة سنتعرض لها بالبحث في الفصل التالي بشكل أوسع.
                            3- التناقضات التي تتعلق بالروايات التاريخية – ماذا قال يسوع أو بولس في الحقيقة، وماذا فعلا وما الذي اختبراه من تجارب؟- تجعل التثبت مما حدث بالفعل في حياة يسوع أو من تاريخ الكنيسة الأولى أمرا بالغ الصعوبة. ليس بمقدورك قراءة هذه الكتب باعتبارها روايات تاريخية نزيهة. ليس بينها ما هو على هذه الشاكلة. بماذا بوسعك أن تحكم كقاض في محكمة لديك شهادات متضاربة لشهود العيان؟ هناك شئ واحد لن تفعله يقينا وهو أن تفترض أن كل شاهد من هؤلاء الشهود هو صادق بنسبة مائة في المائة. شخص ما – أو ربما كلهم – يعطينا معلومات مغلوطة. وبراعة القاضي تكمن في اكتشاف من الصادق ومن الكاذب- لو افترضنا أن ثمة من هو صادق بينهم. الأمر نفسه ينطبق على الوثائق العتيقة مثل تلك التي يضمها العهد الجديد بين دفتيه. لو أن هناك شهادة متعارضة بخصوص بعض الحوادث التاريخية، فلا يمكن أن يكون كل الشهود من الناحية التاريخية على صواب، وعلينا أن نكتشف طرقا لتقرير ما وقع حقيقة في أفضل الاحتمالات. وهذه المهمة التي أضطلع بها في الفصل الخامس.[/CENTER]


                            نهاية الفصل الثاني:::تم بحمد الله
                            تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


                            تعليق


                            • #15
                              الفصل الثالث: حشد من الآراء المتنوعة

                              [align=justify]
                              حشد من الرؤى المتنوعة
                              في منتصف التسعينات طلبت مني مؤسسة «أكسفورد يونيفيرسيتي برِسّ» أن أكتب كتابا مدرسيا يكون موضوعه العهد الجديد لمستوى طلبة الجامعة. لم أكن على يقين من أن هذا سيمثل نقلة نوعية لي في ميدان العمل الوظيفي: لم أكن قد وليت أي منصب حينها بعدُ، وأحيانا تنظر اللجان الجامعية المخولة بالتعيين بارتياب إلى كتب المناهج الدراسية باعتبارها لا تمثل أبحاثا علمية حقيقية. وتساءلت في نفسي: أي تهلكة سأوقع نفسي فيها بمحاولتي تقديم دراسات علمية مبنية وفقا لمنهج النقد التاريخي إلى أغرار في سن التاسعة عشر هذه الأمور بالنسبة إليهم ستكون بدعا من القول لم يسمعوا به من قبل. قررت أن أتصل بعدد من أصدقائي في هذا الميدان لأسمع رأيهم بهذا الشأن. هل يحسن بي أن أمضي في هذا السبيل؟ وإن حسُن، فما المشاكل التي سأقابلها عند محاولتي تعليم مجموعة من الأطفال ما يزالون حديثي التخرج من المدرسة الثانوية مادةً علميةً كتابيةً(biblical)صارمة؟ ولقد بذل هؤلاء الكثير من النصائح والإرشادات المفيدة، ولكن أكثر هذه النصائح حكمة بحسب رأيي هي التي أمدني بها صديقي«تشارلي كوسجروف» الذي كان معوانا لي قبل ذلك بسنوات في النجاح في المعهد العالي(كان قد سبقني إلى معهد برينستون اللاهوتي بعامين كاملين وقد دلني على أسرار النجاح). «الأمر الأكثر صعوبة هو تحديد الأشياء التي لن تدرجها في كتابك» هذا ما قاله لي تشارلي عن كتاب المنهج الدراسي.
                              انتهيت من تأليف الكتاب وكان «تشارلي» على حق. كان من السهل جدا أن أحدد المادة التي سأدرجها في كتاب يتحدث عن العهد الجديد لأن هناك الكثير جدا مما يمكنني أن أدرجه. لكن لكي أحتفظ بكتابي سهلا وذا سعر في متناول الطلاب، كان علي أن أحذف عددا من الموضوعات الهامة والمحببة إلى قلبي. وحذف الموضوعات القريبة والعزيزة على نفسك أمر بالغ الإيلام.
                              التجربة نفسها مررت بها مع كتابنا هذا. فحينما أتحدث عن تناقضات الكتاب المقدس، أشعر برغبة في الحديث بلا نهاية- فهناك الكثير جدًا من التناقضات التي تتسم بسمتين: أنها طريفة من جهة وأنها بالغة الأهمية من جهة أخرى. لكني نجحت في كبح جماح نفسي وحصرت نقاشي لهذه القضية في فصل واحد فحسب وهو الفصل السابق. ومع ذلك فالمشكلة ذاتها أواجهها مع الفصل الحالي من الكتاب. لقد كان بمقدوري- وبمقدور أي عالم من علماء النقد التاريخي- أن أخصص كتابا كاملا بكل بساطة لتناول الموضوع الذي قررت أن أتناوله في هذا الفصل ولكني ألجمت نفسي واكتفيت بفصل واحد.
                              كما رأينا في الفصل السابق، لهذه التناقضات التي يحويها الكتاب المقدس أهمية بالغة إلى حدٍّ ما وذلك لأنها تجبرنا إجبارا على أن نأخذ أغراض كل مؤلف على حدى أخذًا جَدِّيًّا. فما يقوله مرقس لا يمكن على الإطلاق أن يكون هو نفسه ما يقوله لوقا؛ وقد يخالف متَّى يوحنا، وربما يقف كلاهما موقف الخصم مما يقوله بولس. لكننا حينما ننظر إلى المضامين المتضاربة لمؤلفي الكتاب المقدس المختلفين، نجد أن هناك ما هو أكثر تعقيدا من أشكال التفاصيل المهمة والتفاصيل الأخرى قليلة الأهمية التي تناولناها في الفصل الثاني. هناك اختلافات أكثر عمقا بين هؤلاء المؤلفين وهذه الأسفار(خلافات ليس حول تفصيلة هنا أو هنالك، أو حول تاريخ حدث، أو يوميات رحلة، أو من فعل ماذا ومن كان برفقته. فكثير من الاختلافات الحادثة بين مؤلفي العهد الكتاب المقدس موضوعها هو مضمون رسالة كل واحد منهم. ففي بعض الأحيان يكون مفهوم مؤلف ما عن قضية محورية هو على التضاد مع ما يفهمه الآخر منها، وذلك في قضايا حيوية مثل من هو المسيح وكيف نحصل على الخلاص وأي نمط أخلاقي ينبغي على أتباع المسيح أن يسيروا وفقه.
                              خلافات على هذا القدر من الأهمية ليس له علاقة بتناقض بسيط هنا أو هنالك، بل بتصورات مختلفة لها أهميتها القصوى. من المستحيل أن نعلم هذه التصورات المختلفة لو لم نسمح لكل مؤلف أن يعبر عن نفسه. غالبية الناس لا يقرأون الكتاب المقدس وفقا لهذا المنهج. فهم يفترضون أن كل مؤلف يقول الشئ ذاته على نحو أساسي، ما دامت كل الأسفار التي يتكون منها الكتاب المقدس موضوعة بين جلدتي كتاب واحد. وهم يعتقدون أن متَّى يمكن استعماله كوسيلة تعين على فهم يوحنا، وأن يوحنا يوفر نظرة ثاقبة لمضمون رسائل بولس، وأن قراءة رسائل بولس تعيننا على تفسير رسالة يعقوب، وهكذا دواليك. هذا المنهج التناغمي في تفسير الكتاب المقدس، والذي يعد قاعدة لقراءة أكثر تدينا له، يتميز بمساعدته للقراء على أن يروا الموضوعات الموحدة للكتاب المقدس، لكنه كذلك له عيوبه بالغة الخطورة والتي تتمثل في أنه كثيرا ما يختلق توحُّدًا في الأفكار وفي المعتقدات ليس له أي وجود في حقيقة الأمر. فمؤلفوا الكتاب المقدس لم يتفقوا على كل شئ تناولوه بالنقاش؛ بل إن خلافاتهم في بعض الأحيان تكون من الأهمية والرسوخ بمكان.
                              أما المنهج النقدي التاريخي للتعامل مع الكتاب المقدس فلا يفترض أن كل مؤلف يبشر بالمضمون ذاته. فهو يضع في اعتباره إمكانية أن يكون لكل مؤلف منظوره الشخصي، ورؤيته الذاتية الخاصة، ومفاهيمه لكُنْهِ العقيدة المسيحية وما ينبغي أن تكون عليه. إن التناقضات التي ألقينا عليها الضوء بالفعل هي من الخطورة بحيث تظهر لنا أن ثمة خلافات في الرؤى بين مؤلفي الكتاب المقدس. أما الفروق الأساسية التي نحن بصدد تناولها فينبغي أن تجبرنا على الاعتراف بأن التناقضات ليست مجرد قضية تفاصيل هامشية، بل قضايا عظيمة الأهمية.
                              لست مصرًا على أن منهج النقد التاريخي هو السبيل الأوحد لقراءة الكتاب المقدس. فعلماء اللاهوت «المحنكون» الذين يعون المشكلات النقدية التاريخية التي يعاني منها الكتاب المقدس تمام الوعي قد ابتكروا سبلا للتعامل مع الكتاب المقدس باعتباره «مقدسًا» رغم أنه يغص بالتناقضات. وهذا الموضوع لدي عنه الكثير لقوله ولكني سأفرد الفصل الثامن من هذا الكتاب بالحديث عن هذا الأمر. أما في هذا الفصل، فمن المهم جدًا أن نصل إلى استيعاب ماهية المنهج النقدي التاريخي وكنهه وكيف يمكنه أن يؤثر على فهمنا للكتاب المقدس.
                              هذا المنهج يعتمد، إلى حد ما، على فكرة أن «القائمة الرسمية» لأسفار الكتاب المقدس، والتي هي مجموعة من الأسفار المجموعة في كتاب واحد والتي ينظر إليها المؤمنون من بعض النواحي على أنها أسفار معترف رسميا بأنها ذات قداسة، لا تمثل الشكل الأصلي الذي ظهرت عليه أسفار الكتاب المقدس في البداية. فعندما كتب بولس رسائله إلى الكنائس التي قام بتأسيسها، لم يدر بخلده أنه يكتب الكتاب المقدس. كل ما كان يدور بعقله هو أنه يكتب رسائل تتعامل مع الحاجات الفردية كلما ظهرت، معتمدًا على ما كان يدور بفكره وما يؤمن به وما كان يبشر به حينها. في وقت لاحق فحسب بدى لشخص ما أن يضع هذه الرسائل في كتاب واحد وأن ينظر إليها باعتبارها وحي من الله. والأمر ذاته حدث مع الأناجيل. فمرقس، مهما كان اسمه الحقيقي، لم يكن يظن أن كتابه سيوضع ضمن مجموعة تضم ثلاثة كتب أخرى وأنهم معا سيخلع عليهم لقب «الأسفار المقدسة»؛ وهو بالتأكيد لم يكن يظن أن كتابه ينبغي أن يجري تفسيره في ضوء ما سيكتبه مسيحي آخر بعد ذلك بثلاثين سنة في بلد أخرى وفي سياق تاريخي آخر. لا شك في أن مرقس كان معنيا بأن يقرأ الناس كتابه وأن يفهموه بمعزل عن الكتابات الأخرى، والأمر نفسه كان معنيا به متَّى ولوقا ويوحنا وبقية مؤلفي العهد الجديد.
                              يؤكد منهج النقد التاريخي على أننا عرضة لخطر القراءة غير السليمة لكتاب ما إذا لم ننجح في أن نعطي مؤلفه الحرية في أن يعبر عن نفسه بطريقته، وإذا أكرهنا رسالته على أن تتوافق تمام التوافق مع رسالة مؤلف آخر، وإذا كنا نصر على قراءة كل كتب العهد الجديد باعتبارها كتابا واحدًا لا سبعة وعشرين. هذه الكتب ألفت في أزمنة مختلفة وأماكن مختلفة وتحت ظروف مختلفة لتتعامل مع مشكلات مختلفة؛ وقد كتبها مؤلفون مختلفون لهم منظوراتهم المختلفة ومعتقداتهم المختلفة وافتراضاتهم المختلفة وتقاليدهم بل ومصادرهم المختلفة. وهم أحيانا يعبرون عن وجهات نظر مختلفة تجاه قضايا محورية.[1]
                              بيان افتتاحي: موت يسوع بين إنجيلي مرقس ولوقا
                              بوسعي أن أبدأ مقارنتي للنصوص بمناقشة مثالا يصيبني عادة بالدهشة لوضوحه التام وسهولة ملاحظته. يفما يتعلق بالتناقضات المفصلة التي ناقشناها في الفصل الثاني، هذا النوع من الاختلافات يمكننا رصده فقط إذا اعتمدنا القراءة الأفقية الحذرة للفقرات؛ هذه المرة، بدلا من أن نفتش عن الاختلافات الدقيقة للغاية في هذا الموضع أو ذاك، ها نحن أولاء نبحث عن موضوعات أكثر رحابةً، وعن اختلافات أساسية في الطريقة التي تحكى بها قصة ما. إن ثمة قصة واحدة من قصص الأناجيل حكيت على نحو مختلف تماما هي أكثر هذه القصص أهمية: وأعني بها قصة صلب يسوع. ربما تكون أيها القارئ ممن يعتقدون أن الرسالة التي تبعث بها كل الأناجيل فيما يتعلق بقضية الصلب هي رسالة واحدة، وأن الاختلافات فيما بينها إنما تعكس بكل بساطة القليل من التغييرات في وجهات النظر، يبرز في ظلها أحد المؤلفين شيئا ما ويبرز المؤلف الآخر شيئا آخر مختلفا. لكن الاختلافات بينهم هي في حقيقة الأمر أوسع بكثير وأكثر جذريةً مما تعتقد. وهذا لا يبدو واضحا مثل الشمس في رابعة النهار في موضع كما هو الحال في روايات موت يسوع الواردة في إنجيلي مرقس ولوقا.
                              لقد اعترف العلماء منذ مطلع القرن التاسع عشر بأن مرقس هو أقدم الأناجيل كتابةً، فلقد كتب بين عامي 65 و 70 ميلاديا. ومتَّى ولوقا، كونهما بدأا كتابة إنجيليهما بعد ذلك بخمسة عشر أو عشرين عاما. ولهذا السبب نجد كل القصص التي يرويها مرقس تقريبا متضمنة في إنجيلي متَّى ولوقا، ولهذا السبب كذلك تتفق هذه الأناجيل الثلاثة أحيانا تماما في الطريقة التي يحكون بها القصص. وأحيانا يتفق اثنان فقط في المحتوى ويخالفهما الثالث، وذلك لأن واحدًا من الإنجيلين الأحدث قد غير القصة التي رواها مرقس. هذا يعني أنه لو أننا لدينا القصة نفسها في مرقس ولوقا، مثلا، وهناك اختلافات، فإن هذه الاختلافات وجدت تحديدًا لأن لوقا قام في الحقيقة بإدخال تعديلات على الكلمات التي استقاها من مصدره، أو قام بحذف كلمات وجمل، وأحيانا أضاف بعض المعلومات، بل وحتى سلسلة من الأحداث، وأحيانا قام بتحريف طريقة الصياغة التي وضع مرقس الجملة عليها. ولن نكون مخطئين على الأرجح إذا افترضنا أن لوقا لو أدخل تعديلات على ما قاله مرقس، فإنه يكون قد فعل ذلك لرغبته في أن يقولها بطريقة مختلفة. وهذه الاختلافات في بعض الأحيان تكون مجرد تغييرات محدودة في طريقة الصياغة، إلا أنها في أحيان أخرى تؤثر بطرق بالغة الأهمية على الطريقة التي تحكى بها القصة كلها. وهذا فيما يبدو ينطبق تماما على الطريقة التي صور بها يسوع وهو سائر إلى حتفه.
                              وفاة يسوع في إنجيل مرقس
                              في نسخة مرقس من هذه القصة(مر 15 : 16 – 39)، يحكم بيلاطس البنطي على يسوع بالموت ويسخر منه الجنود الرومان ويضربونه ويسحبونه إلى الصليب ليعلق عليه. وهناك سمعان القيرواني يحمل صليبه. فيما لا ينبس يسوع ببنت شفة طوال الوقت. يصلب الجنود يسوع وهو ما يزال مصرًّا على صمته. ويسخر منه اللصان المصلوبان معه كلاهما. وهؤلاء الذين يمرون على مقربة من موقع الصلب يسخرون أيضًا منه. ويهزأ به زعماء اليهود. ويسوع محتفظ بصمته حتى قبل النهاية بلحظات، وعندها يلفظ كلمات صرخته البائسة:« إلوي إلوي لما شبقتني» ةالتي يترجمها مرقس من الآرامية لمصلحة قرائه:«إلهي، إلهي لما تركتني؟» وشخص ما يقدم ليسوع إسفنجة ممتلئة بالخل لكي يشرب. ويتنفس نفسه الأخير ويسلم الروح. وعلى الفور تقع حادثتان: ينشق حجاب الهيكل إلى نصفين، وقائد المائة الذي كان يراقب المشهد يعترف:« حَقّاً كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللَّهِ!»
                              ياله من مشهد قوي محرك لمشاعر مفعم بالمشاعر والأحزان. يسوع صامت طوال الوقت، كما لو كان الصدمة تيسطر عليه، حتى يصرخ صرخته النهائية مرددًا كلمات المزمور 22 .وأنا أوجه السؤال ذاته إلى الرب باعتباره سؤالا منطقيا.ها هو يسوع يريد عن حق أن يعرف لماذا خذله الله على هذا النحو. هناك تفسير شائع جدا لهذه الفقرة وهو أن يسوع كان في الحقيقة يفكر في أن ينتهي به الحال كما انتهى المزمور 22 بتدخل الرب وبتخليصه لناظم المزمور من معاناته، ولذلك يقتبس العدد 1 من المزمور 22. رأيي أن هذا التفسير هي طريقة لقراءة الفقرة تحتوي على كثير من المبالغة وأنه تسلب «صرخة الهجران» كما يسمونها من كل ما بها من عظمة. وحقيقة الأمر هو أن يسوع قد رفضه الجميع: فلقد خانه واحد من خاصته وأنكره أقرب أتباعه إلى قلبه ثلاث مرات، وانفض عنه جميع تلاميذه، ورفضه الزعماء اليهود، وأدانته السلطات الرومانية، وسخر منه الكهنة والمارَّة، بل وحتى المصلوبان إلى جواره. وفي النهاية يشعر أن الله نفسه حتى قد تخلى عنه. لقد غرق يسوع تماما في أعماق اليأس وسيطرت عليه آلام قلبه المتوجع، وهكذا يموت. يحاول مرقس أن يوصل معنى عبر ريشته التي رسمت هذا المشهد. فهو لا يريد أن يمنح قراءه عزاءً مصدره أن الله كان بالفعل هناك يمد يسوع براحة جسدية. يسوع بحسب مرقس يموت في عذاباته، ليس على يقين من السبب الذي يوجب عليه الموت.
                              لكن القارئ على يقين من السبب. فعلى الفور بعد أن يموت يسوع ينشق حجاب الهيكل لنصفين ويعلن قائد المائة إيمانه. انشقاق الحجاب إلى نصفين يعلن أنه بموت يسوع يصبح الرب متاحا لشعبه مباشرة من غير أن تكون ذبائح الكهنة اليهود في الهيكل واسطة بين الله وشعبه. لقد جلب موت يسوع تكفيرا عن الخطايا(أنظر مر 10 : 45 ). وهناك شخص ما يدرك هذه الحقيقة على الفور: وهو جندي وثني لم يمض وقت طويل على صلبه ليسوع، وليس تلامذته المقربون ولا المشاهدون اليهود. لقد جلب موت يسوع الخلاص، والأمميون هم من سيدركون هذا. ليست هذه مجرد رواية منزهة عن الأغراض لما قد وقع «بالفعل»حينما مات يسوع. بل إنه درس لاهوتي وضع في شكل حكاية.
                              لقد اعتقد علماء التاريخ طويلا أن مرقس لم يكن يشرح أهمية موت يسوع في روايته هذه، بل إنه من المحتمل أن مرقس كان يكتب وفي مخيلته جمهور محدد من القراء، إنه جمهور يتشكل من أتباع يسوع المتأخرين عنه زمنيا الذين عانوا هم كذلك عذابات واضطهادات على أيدي السلطات التي كان رجالها مناوئين للرب. فالأتباع، مثل يسوع، ربما لا يدركون السبب الذي من أجله يعانون مثل هذه الآلام ومثل هذا البؤس. إلا أن مرقس يقول لهؤلاء المسيحيين أن يطمئنوا: فعلى الرغم من أنهم قد لا يدركون سبب معاناتهم، فالله يعرف، وهو يعمل من وراء الحجاب لكي يجعل لمعاناتهم قيمة تكفيرية. فمقاصد الله نافذة عبر اختبار الآلام تحديدا، وليس عبر تجنبها، وحتى لو لم تكن هذه الأغراض واضحة في ذات اللحظة. إن النسخة المرقسية من موت يسوع على هذا النحو إنما تمدنا بمثال به نفهم ما يقع للمسيحيين من اضطهادات.
                              موت يسوع بحسب لوقا
                              الرواية التي يسردها لوقه تتسم هي الأخرى بطرافتها وعمق رؤيتها وتحريكها للمشاعر، لكنها بالطبع مختلفة تمام الاختلاف عن التي لمرقس(انظر لوقا 23 : 26 – 49 ). لا يقتصر الأمر على أن ثمة تناقضات في بعض التفاصيل التي وردت في الإنجيلين،؛ فما بينهما من فروق أكبر من هذا. فالفروق التي بينهما تؤثر على الطريقة نفسها التي تحكى بها القصة و كمحصلة نهائية على الطريقة التي ستفَسَّرُ بها القصة.
                              في لوقا كما في مرقس، يخون يهوذا معلمه يسوع وينكره بطرس ويرفضه القادة اليهود ويحكم عليه بيلاطس البنطي بالموت صلبا، لكن جنود بيلاطس لا يسخرون منه ها هنا ولا يوسعونه ضربا. لوقا يحكي القصة مقتصرة على بيلاطس وهو يحاول أن يورط الملك هيرودس الجليلي – ابن الملك هيرودس الوارد ذكره في قصة الميلاد- في النظر في قضية يسوع، وجنود هيرودس هم من يسخرون من قبل أن يصدر بيلاطس حكمه عليه بالإدانة. ولا شك في أن هذا تناقض، لكنه لا يؤثر على القراءة الشمولية للفرق بين الروايتين الذي أقوم هنا بتوضيحه.
                              في لوقا يسحب يسوع لكي ينفذ فيه الحكم ويتم إجبار سمعان القيرواني على أن يحمل الصليب عن يسوع. لكن يسوع لا يقف أخرص اللسان طوال طريقه للصلب. ففي الطريق يرى يسوع عددًا من النسوة ينتحبن حزنا على ما آل إليه مصيره، فيتحول إليهن قائلا:« يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ»(لو 23 : 28 ). ثم يواصل حديثه إلى حدِّ التنبوء بالدمار القادم الذين سيلاقينه. لا يبدو يسوع مصدوما لما يقع له. فهو معني بالآخرين المحيطين به أكثر من اعتنائه بمصيره الشخصي.
                              فوق ذلك لا يلتزم يسوع الصمت بينما يجري تثبيته بالمسامير على الصليب، كما هو الحال في مرقس. بل يصلي بدلا من ذلك قائلا: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ»(لو 23 : 34 )[2] يبدو يسوع وكأن بينه وبين الله صلة حميمة وهو معني أكثر بأمر من يصنعون به هذا الصنيع أكثر من اعتنائه بأمر نفسه. لقد تعرض يسوع للسخرية والامتهان على يد القادة اليهود والجنود الرومان، لكن زميلي الصلب لم يسخرا منه كلاهما كما ذكر مرقس. بل يسخر منه واحد منهما فحسب بدلا من ذلك فيوبخه الآخر على صنيعه هذا وهو يصر على أنهما يستحقان العقوبة التي حاقت بهما فيما لم يرتكب يسوع سوءًا يستحق عليه العقاب( لا تنسوا أن لوقا يشدد على براءة يسوع التامة). ثم يتوجه هذا الأخير ليسوع بطلب قائلا له:«اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». فيجيبه يسوع بالجواب اللازم: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» (لو 23 : 42 – 43 ). في هذه الرواية لا تبدو على يسوع سيماء القلق على الإطلاق فيما يتعلق بما يحدث له أو بأسبابه. فهو هادئ تماما ومسيطر على الموقف؛ وهو يعرف ما هو مزمع أن يقع ويعرف ما سيقع له بعد ذلك: فهو سيقوم من موتته في الفردوس وهذا المجرم سيكون برفقته هناك. وبين هذه الصورة التي يرسمها لوقا ليسوع وبين الصورة المرقسية، التي يشعر فيها يسوع بالخذلان حتى النهاية، بعد المشرقين اختلافا.
                              وتقع ظلمة فوق المدينة وينقسم حجاب الهيكل نصفين بينما يسوع ما يزال حيا وهو ما يتناقض مع ما ذكره مرقس. ها هنا لا ينبغي أن يكون انقسام حجاب الهيكل إشارة إلى أن موت يسوع هو الجالب للخلاص وذلك أنه لم يمت بعد. بل إنه يبرز بدلا من ذلك أن موته هو «ساعة الظلمة» كما يقول في موضع سابق من الإنجيل (23 : 53 )، وهذا يرمز إلى دينونة الله ضد الشعب اليهودي. أما انشقاق حجاب الهيكل ها هنا فهو يشير فيما يبدو إلى أن الله يرفض نظام العبادة اليهودي والذي يرمز له هنا بالهيكل.
                              الأمر الأكثر أهمية هنا هو أن يسوع بدلا من أن يصرخ صرخته التي تعبر عن معنى الشعور التام من جانبه بخذلان الله له في النهاية(«لماذا تركتني؟»)، يصلي يسوع، بحسب ما يورده لوقا، بصوت عال قائلا:« يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي»( 23 : 46 ). ليس هذا هو يسوع الذي يشعر بخذلان الله له والذي يتساءل عن أسباب مروره بآلام الخذلان والموت تلك. بل هو يسوع آخر يشعر بالحضور الإلهي يرافقه وتسليه عن آلامه حقيقة أن الله في جانبه يعينه. وهو على وعي تام بما يحدث له ولأسبابه، وهو يستسلم أمام عناية أبيه السماوي العطوفة، كما أنه على يقين تام بما سيقع له في قابل اللحظات. وقائد المائة يؤكد حينئذ على ما كان يعلمه يسوع تمام العلم:« بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!».
                              من العسير أن يبرز المرء الفروق بين هذين الوصفين لحادثة وفاة يسوع إبرازًا كافيًا. لقد أشرت في موضع سابق من هذا الكتاب إلى أن افترضوا في بعض الأحيان أن رواية مرقس كتبت جزئيا لكي تمنح الذين يعانون الاضطهاد رجاءً، ولكي تسمح لهم بأن يعرفوا أنه على الرغم من المظاهر التي تشي بغير ذلك، فإن الله هو المسبب لما يعانونه من آلام تحقيقا لأغراض خلاصية. فما الغرض الذي كان يخطط له لوقا والذي من أجله أدخل تعديلات على رواية مرقس لكي لا يموت يسوع متألمًا وبائسًا؟
                              بعض المفسرين من علماء النقد التاريخي افترضوا أن لوقا ربما كان يكتب هو الآخر للمسيحيين المضطهدين، لكن رسالته التي يبعث بها لهؤلاء المضطهدين لأجل الإيمان تختلف عن رسالة مرقس. فبدلا من أن يشدد على أن الله يعمل من خلف الستار، وعلى الرغم من أن الأمر لا يبدو على هذا النحو، فلوقا ربما يحاول أن يقدم للمسيحيين مثلا أعلى يقتدون به بينما يضطهدون- مثل يسوع، الشهيد المثالي الذي يسير نحو حتفه واثقا من براءته موقنا من الوجود الإلهي الحسي في حياته، هادئا ومسيطرا على الموقف، عالما بأن معاناته ضرورية لنيل ثواب الفردوس وأن معاناته قريبا ستزول وستقوده إلى وجود مبارك في الحياة الآخرة. المؤلفان كلاهما ربما يواجهان موقفين متشابهين، لكنهما ينقلان رسالة مختلفة تمام الاختلاف، وكلاهما عن موت يسوع وكيف كان وكيف على أتباعه أن يواجهوا الاضطهاد.
                              النتيجة الحاسمة
                              تنشأ المشكلات حينما يأخذ القارئ هاتين الروايتين ويؤلف بينهما مستخرجا رواية واحدة شاملة يقول فيها يسوع ويفعل ويختبر كل شئ ذكر في الإنجيلين كليهما. فلا يعود يسوع يشعر بالكرب العميق بعدُ كما يذكر مرقس(وذلك لأنه بدى رابط الجأش كما يذكر لوقا)، ولا يعود يسيطر عليه الهدوء ويسيطر هو على الموقف كما يذكر لوقا( حيث يصوره مرقس خائر العزيمة). فهو بطريقة أو بأخرى متصف بتلك الصفات جميعا في آن معًا. وكلماته هي الأخرى لها معنى مختلف الآن فهو يتفوه بالكلمات التي ذكرها مرقس ولوقا كلاهما. وحينما يضيف القارئ ما ذكره كل من متَّى ويوحنا إلى هذا الخليط، يتحول هذا الخليط إلى صورة أكثر اضطرابا وأكثر تركيبا من يسوع، متصورًا على سبيل الخطأ أنه قد ركب الأحداث كما وقعت في الحقيقة. والتعامل مع القصصة على هذا النحو هو سبيل لسلب كل مؤلف تفرده باعتباره مؤلفًا وسبيل لحرمانه من توصيل المعنى الذي يريد توصيله عبر قصته.
                              هكذا تعامل القراء عبر السنين مع «السبع كلمات الأخيرة ليسوع المحتضر» ذائعة الصيت- أعني عبر جمعهم ما يقوله يسوع عند موته من الأناجيل الأربعة وخلطهم لها معًا وتصورهم أنهم بما نتج لديهم من مزيج قد تجمعت لهم أطراف القصة كاملة. أقول إن هذه الحركة التفسيرية لا تتيح لنا معرفة القصة كاملة. بل تمدنا بقصة خامسة، قصة لا تشبهها أي قصة أخرى وردت في الأناجيل المعترف بقانونيتها، قصة خامسة هي في الواقع تعيد كتابة الأناجيل، وتؤلف إنجيلا خامسًا. وهذا رائع جدًا لك أن تفعله أيها إذا كان هذا ما تريده، فأمريكا بلاد حرة، وليس بوسع أحد أن يردعك عن فعل ما تريد. لكن هذه ليست السبيل المثلى بالنسبة للناقد التاريخي للتعامل مع الأناجيل.
                              فكرتي الشاملة هي أن الأناجيل، وكل أسفار الكتاب المقدس، هي كتب متفردة بعضها عن بعض وأنه لا ينبغي أن تجري قراءتها كما لو كانت تقول الشئ ذاته. فهي عن عمد لا تقول الشئ ذاته- حتى عندما يتوحد الموضوع الذي يدور حول الحديث فيما بينها(موت يسوع على سبيل المثال). فمرقس مختلف عن لوقا وما في متى مغاير تماما لما في يوحنا، كما يمكننا مشاهدته عبر القراءة الأفقية لقصصهم الشخصية التي ذكروها عن مسألة الصلب. إن المنهج التاريخي للتعامل مع الأناجيل يسمح لصوت كل مؤلف أن يكون مسموعًا ويرفض أن تمزج هذه الأصوات لينتج شئ شبيه بإنجيل كبير يسحق الفروق التي يؤكد عليها كل واحد منهم.

                              [1]

                              [2]

                              يتبــــع
                              [/CENTER]
                              تفضلوا بزيارة مدونتي الشخصية على


                              تعليق

                              مواضيع ذات صلة

                              تقليص

                              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                              ابتدأ بواسطة زين الراكعين, منذ أسبوع واحد
                              ردود 0
                              17 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة زين الراكعين  
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ أسبوع واحد
                              ردود 0
                              1 مشاهدة
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة زين الراكعين, منذ أسبوع واحد
                              ردود 0
                              23 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة زين الراكعين  
                              ابتدأ بواسطة زين الراكعين, منذ أسبوع واحد
                              ردود 0
                              6 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة زين الراكعين  
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ 3 أسابيع
                              ردود 0
                              11 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              يعمل...
                              X