التشريع الغذائي في القرآن والسنة وجه آخر من الإعجاز العلمي في القرآن والسنة

تقليص

عن الكاتب

تقليص

مسلم ولو قطعوني مسلم اكتشف المزيد حول مسلم ولو قطعوني
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التشريع الغذائي في القرآن والسنة وجه آخر من الإعجاز العلمي في القرآن والسنة

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    لقد قرأت موضوعا قد كتبه الدكتور محود فائد في الاعجاز العلمي وقد أعجبني وأحببت أن أنقله لكم
    من موقعه الرسمي http://www.mfaid.com/cv-ar.htm
    التشريع الغذائي في القرآن والسنة

    وجه آخر من الإعجاز العلمي في القرآن والسنة يشمل علم الاجتماع وعلم التغذية
    تقديم
    بعد مرور أزيد من أربعة عشر قرنا على القرآن، لم نتمكن إلى حد الآن من تناوله بالدراسة العلمية، ليس الجانب العلمي المحض الذي يخص العلوم الحقة، أو العلوم الكونية، أو العلوم الحسية، ولكن العلوم التربوية والاجتماعية والإنسانية، وهذا هو وجه الإعجاز للقرآن، لأنه ليس هناك مستوى نابغ لهذه العلوم، لنتناول بالدراسة والبحث، ما جاء في القرآن بخصوص هذه العلوم. ولنا أن نقارب بين الظروف التي نزل فيها القرآن، إذ كانت البشرية على جاهليتها، لكن كانت على عصبيتها وتحيزها وتميزها، وكانت على وجاهتها اللغوية والعرفية والقبلية. وقد تمكن الإسلام من احتواء هذا الوضع بسهولة، وبدون عنف، وبدون عصبية، وهو الأمر الذي يخالف كل الطروحات التي نسبت العنف للإسلام، وأنه ظهر بالسيف، بل العكس هو الصحيح، فالإسلام رد السيوف إلى أغمدتها، وأمن الضعيف ونصف المظلوم كما سنرى بالتحليل. وأول ما بدأ به القرآن الإعجاز اللغوي، لأن العرب أصحاب فصاحة وبلاغة وأصحاب شعر، ولم تكن الكتابة ذات أهمية، بل كان الحفظ هو الأصل، وكانت تلقائية الشعر في شفويته وعفويته، فانبهر الشعراء للتعبير القرآني، وانبهر أصحاب الأعراف والجاه لتربية القرآن، وانبهر رجال الدين للتشريع القرآني، وانبهر المؤرخون لسرد الأحداث في القرآن. وكل هذه الأشياء بسهولة وليونة، ودون تعصب، ولا عنف، وبدون قوة، لأن الخطاب بدأ بتربية النفس، وبدأ بصرف الأنظار إلى الآخرة، وركز القرآن على الآخرة وهو يصفها بمشاهد تتلاءم مع عقول الناس، ومع لغاتهم، وما اعتادوا في حياتهم اليومية. وهو يعلمهم بتدرج وسهولة وبعقل وبحكمة، دون أن يعيب عليهم أفعالهم بالسخرية، وإنما كان هناك أسلوب ومنهاج، جعل هذا الإنسان يصحى وينتبه ويستخدم عقله، وهي النقطة التربوية المهمة، التي تحداها القرآن في المرحلة المكية، وقد كان الوقع شديدا على عرب قريش، وهم سادة شبه الجزيرة وأصحاب عصبية، لأنهم حول الكعبة التي كان يحج إليها الناس من كل مكان.

    وقبل أن نتطرق إلى النصوص المتعلقة بالتحريم، وهي النصوص اللفظية التي جاءت في سورة المائدة، لابد أن نتطرق إلى الجانب التربوي. ففي كل المشاهد التي يصف فيها القرآن الشرع الإلهي، الذي سيبقى مع البشر إلى يوم القيامة، نجد الإعداد النفسي لهذا الشرع، فيتدخل الطب النفسي، ليجعل هذا الإنسان العادي الجاهل ينهض ويتعلم ويتقوى، بعدما أضنته الجاهلية، وحطمت معنوياته بظلمها. وفي هذه الآية التي جاءت ضمن القرآن المكي، وهو قرآن المبادئ والأسس التي ستؤدي إلى شخصية قوية واعية صحيحة، هذه الشخصية التي كانت مدمنة على الفساد، تستيقظ وتعي كل الوعي حقيقة الأمور، فيبدأ القرآن بالدرس الأول، درس القيم والوعي، فيعرف القياس الذي يفرق بين ما تقبله النفس بالفطرة وما ترفضه بين الحسن والقبيح، أو بين الخبيث والطيب لقوله تعالى في سورة الأعراف: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

    وهذه الخصال التي جاءت في هذه الآية هي من باب التربية والتحسيس، وجاءت بأشياء أصلية وفطرية، تقبلها النفس بالفطرة، وأخرى ترفضها النفس كذلك بالفطرة، فالخطاب في الآية "يحرم عليهم الخبائث ويحل لهم الطيبات"، يعيد الأمور إلى نصابها، فاقتران الخبيث بالتحريم مقبول للعلة والفطرة، وإحلال الطيب مقبول كذلك للعلة والفطرة. والمنطق والموضوعية سيجعلان الشرع الذي سيأتي بالتحريم فيما بعد مقبولا ومعمولا به، فالإنسان الذي تعلم وعرف الخبيث والطيب، سيختار لنفسه الطيب، وسيحرم هو على نفسه الخبيث.

    هكذا جاء الإسلام معجزا في كل أساليبه، وفي كل تعاليمه، وفي كل أحكامه. فهل هناك من الحضارات السابقة للإسلام من نهجت هذا النهج بدون تعصب؟ كلا ! فالإسلام هو النظام الوحيد الذي رسخ أسسه بالتربية، وعلى أمد طويل، استغرق 23 سنة، وليس يوما أو شهرا، ورسخ الشرع بطريقة تربوية، بعدما بدأ بالتشخيص السايكلوجي، وبعدما أدخل البشرية إلى عيادة الطب النفسي لمدة 13 سنة، تلقى فيها المجتمع أحسن وألطف علاج، لعدة شوائب وأمراض اجتماعية كانت قد أصبحت في ذلك الوقت هي الأصل، وأنقذه من الهلاك، وأخرجه من الضلال.

    وتعتبر هذه الآية من سورة الأعراف، قاعدة عامة لكل حلال أو حرام، قبل أن نصل إلى الآيات التي تفيد التفصيل، وتزكي كل العلل التي يحرم من أجلها حرام، أو يحل من أجلها حلال، وتعتبر كذلك هذه الآية علمية من حيث المقصود والغاية، لأن القواعد الصحية الحديثة تمنع كل ما يؤدي الجسم وتصنفه خبيثا، وتوصي بكل ما ينفع الجسم وهو الطيب. وإذا انطلقنا من هذه القاعدة، فلا نختلف في الحلال والحرام من حيث العلل، إذا كان من الممكن أن تبين العلوم ذلك، وإلا فيجب أن نأخذ بالشرع في الحلال والحرام، لتعذر الأمر على العلوم، ونقصها وضعفها وعجزها، على تبيان الضرر والمنفعة في المواد الغذائية والمشروبات. وقد تكون النتائج العلمية غير واضحة في بعض الوقائع، ولذلك فالمسلم يطمئن لشرع الله، ويمتثل لأمره سبحانه، فلا يقرب الحرام لأنه خبيث ومضر، ولا يقرب إلا الحلال لأنه طيب، ولا يسأل عن هذه الأشياء لأن الامتثال طاعة لله ورسوله ، والطاعة درجة عالية في العبادة.

    نقض الشرع الجاهلي
    إن بعضا من الأنعام كان محرما في الجاهلية بزعم الكفار، وكان هذا التحريم حسب شرع الإنسان وهواه، وليس من عند الله. ونجد أن هذا الموضوع، الذي يهتم بتحريم الحلال وإباحة الحرام، يتناوله القرآن من ناحيته العضوية، وكذلك من ناحيته النفسية، أو الاجتماعية، حيث يرفع الله سبحانه وتعالى التحريم عن الأنواع التي حرمها الشارع الجاهلي بزعمه وظنه ووهمه. ومن المعجزات الكبيرة للقرآن، صحة علمه، وبيان حجته، من حيث تظل الحقيقة القرآنية ثابتة، والتي تظهر عبر العصور، وعبر التقدم العلمي والكشوفات، ولو يطول الأمد. وكلما ظهرت حقيقة علمية زادت حجة القرآن، وتأكدت صحته، مما يجعل المضللين في حرج. ونرى الآن أن هذه الاكتشافات العلمية الحديثة أخذت تزيح الضباب عن الحقيقة القرآنية، وبعدما استخدم المضللون والملحدون العلوم لضرب الدين، فإن هذه العلوم نفسها هي التي تقود الآن الدعوة إلى الله، و هذا المكر قد رجع لأصحابه، فهل ستخالف العلوم سنة الله يوما؟ كلا !

    فبدأ القرآن بإخراج الإنسان من التضليلات البشرية، وتصحيح ما كان يعيش فيه وعليه من افتراء رجال الدين، فتناول الأشياء التي يسهل قبولها، والتي كان يحس المرء فيها بشيء من الظلم، ومن التلاعب والاستهتار البشري. وهذا الظلم والجور كان يمارس باسم الدين، وليس فيه أي شيء يذكر بالله، بل كل هذه الأحكام كانت مادية تتعلق بالحرث والكسب، وهي الأشياء التي كانت تمثل أسباب العيش آنذاك، ولم تكن لهذه الأشياء مبررات دينية، كوصفها بالزكاة، لأنها كانت تؤخذ من الفقراء للأغنياء، وتمنع على النساء والأطفال، بل حتى حق الشركاء كان يسرق. ولنتتبع هذا الشرع الجاهلي من خلال ما جاء في سورة الأنعام لقوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ

    لآيمكن لهذا الخطاب ألا يلقى قبولا من لدن المجتمع الذي كان يعاني من الظلم التشريعي، ولذلك كان للخطاب القرآني صدى، وقد تطرق إلى الواقع الذي يعيشه المجتمع، وهو واقع مر يطبعه القهر والظلم. فكانت الحاجة ماسة إلى أي تدخل يعالج هذه الآفات الاجتماعية، التي كانت جائرة تمارس من لدن رجال الدين باسم الشرع الإلهي، وهي أمور كان المجتمع الجاهلي يعيشها ، ويعيشها الإنسان الضعيف، الذي لا حول له ولا قوة، فكيف لا يقبل تصحيحها وتغييرها، وهي حقيقة يراها ويلمسها، ولا تحتاج إلى مبرر، فكان الخطاب سهل الوقع والقبول. وهكذا يبدأ القرآن في إعداد الشخصية وتربيتها، وإيقاظها من نومها، وإخراجها من ظلامها، وجعلها ترفض الظلم وتتنكر له.

    وهذا المشهد الجائر الذي يفضحه الله في هذه الآية، ينقضه ويحطمه بسهولة، ويوقفه عبر التربية، من حيث يجعل الذي يمارس هذا الجور يتراجع، لأنه قد علم أن الذي يمارس عليه سيقوم ضده، وسيترتب عن هذا النقض بديل آخر يجعل كلي الجانبين يقبلان بهذا البديل، الجانب الأول يتمثل في الضعيف المظلوم، لأنه على تأهب، ولأنه يعاني من هذا التجاوز القاهر، والجانب الثاني يتمثل في القوي الذي فرض هذا الشرع ، لأنه افتضح أمره فإن لم يتراجع عن هذا الظلم، فمصيره الإقصاء معنويا والحساب ماديا. وهذا الموقف لا يحتمل التمادي ولا تنفع معه القوة والقهر.

    ويستمر الوحي بإصلاح الخلل عبر الاقتناع، والإقلاع الذاتي عن كل سلوك منحرف، بطريقة تربوية، تتكون فيها الشخصية المسلمة الصالحة، والتي ستقود المجتمع والبشرية جمعاء، لأنها ستقدر على تجاوز الظلم والجور، وستقدر على تفادي الشوائب، التي من شأنها أن تفسد المجتمع، وتقوض صرحه. ولنقف على هذه القوانين، التي شرعها هؤلاء وفرضوها على الناس، فلنتأمل سخافة التشريع البشري الذي ساد في العصر الجاهلي قبل مجيء الإسلام، وهو لا يقل سخافة عن التشريع الوضعي في عصرنا الحاضر. ولنرجع إلى ما جاء في القرآن الكريم بشأن هذه التشريعات التي وضعت من لدن رجال الدين أنفسهم ليقهروا عباد الله، ثم لنتمعن جيدا في هذه التشريعات التي كانت هي قوانين ذلك العصر، لنستفيد من الوحي ولنأخذ بالمرجع الصحيح الذي لا يمكن أن تفنده الكتابات التاريخية التي ترجع كل القوانين المنظمة للبشر تاريخيا إلى مراجع مغلوطة ومكذوبة كالفلسفة اليونانية، ومن جملة هذه القوانين ما وصفه العزيز الحكيم في سورة الأنعام لقوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ.


    فهل هذا لا يجعل الإنسان يهزأ من هذه الأحكام؟ فبعدما حكموا وأقروا وهم الذين جعلوا النصيب لله والنصيب للشركاء، يعودون ليخالفوا الحكم الذي أقروه، فيأخذون نصيب الله إذا اختلط مع نصيب الشركاء، ولا يأخذون نصيب الشركاء إذا اختلط مع نصيب الله. أليس هذا الحكم ضحكا على البشرية وسخافة من لدن أصحاب الولاية، وهم رجال الدين. والشركاء في الآية حسب كتب التفسير)الجامع لأحكام القرآن للقرطبي( هم الآلهة، لكن ما يحظى بكل ما يعطى للآلهة هم رجال الدين. وأخيرا فنصيب الشركاء، لا يكون إلا نصيب رجال الدين من كهنة ورهبان وسدنة وما إلى ذلك وقد كانوا هم الحكام أنفسهم.

    وقد وصلت بهم الجرأة إلى قتل أولادهم خوفا من أن يقتسموا معهم هذه الأشياء، وهو ما يجعل هذا الإنسان حقيرا مهينا همجيا. فبعد معضلة استيلاء رجال الدين والحكام على أموال الناس، ومصادرة حقوقهم، يتطرق القرآن إلى معضلة أخرى هي قتل الأولاد، وكان أشهرها في الجاهلية الوأد للبنات وقتل النذر. وهذا الوجه كذلك يبين الظلم الاجتماعي، لأن الوأد وصل في ذلك الوقت إلى أن أصبح عرفا اجتماعيا قاهرا لا مفر منه، وقد أثر في نفسية هذا الإنسان، الذي لم يكن ليقتل ابنه أو ابنته، ولكن الظروف الاجتماعية فرضت عليه هذه الجريمة، وقد زينت وبررت بتفادي العار، وقد يكون المبرر ماديا محضا، لأن الأولاد شركاء في النصيب، فإذا قتلوا خلا الجو، وبقي النصيب كله للأب، وطبعا فإن هذه الأشياء تضفى عليها الصبغة الدينية لتصبح إلزامية، ولتصبح عملا صالحا، يجزى عليه من قبل الله أو الآلهة، وهو ما جاء في الآية لقوله تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ

    نعم إنه لبس وغموض، لأنه ليس من الدين، ولو كان من الدين، لكان واضحا ومقبولا فطرة وعدلا، لأن الله عادل، ولا يمكن أن يفرض ظلما على العباد، فكيف تنسب إليه هذه الأشياء ؟ وتمارس باسمه. ربما يصل ظلم البشرية إلى أبشع حد، وليس هناك أبشع من القتل، لكنه لما يصل إلى قتل الأولاد فقد فات الحد الذي يمكن أن يتصوره البشر. وإذا كان وأد البنات لسبب معنوي فرضه المجتمع وهو العار حسب زعمهم، فإن قتل الأولاد الذكور يبقى ماديا محضا مخافة أن يضايقوهم في النصيب، وهذا اللبس كما جاء في الآية يبين ويعكس حقيقة المجتمع الفوضوي لأن الدين هو ما كان يحتمي به الناس فإذا أصبح أصحابه هم الظلام فكيف يكون هذا المجتمع.

    ثم يسرد القرآن الحالة الثالثة، التي كان الإنسان العادي البسيط يعيشها، ويعلم جورها وظلمها. لانعدام العلة، ولفرض شرع القوي على الضعيف، خصوصا لما يكون باسم الدين. ويعرض الله في الآية الثالثة افتراء الشرع الجاهلي، والتلاعب والاستبداد والاستخفاف، وهو ما جاء في قوله تعالى: وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعم حرمت ظهورها وأنعم لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون

    وهذه الحالة التي يتعرض فيها الإنسان إلى قوانين القوي، التي تفرض عليه باسم الدين، جعلته ينتظر بفارغ الصبر كل ما ينبذها وينقضها ويلغيها، لأنه هو الذي يعلمها ويعيشها، ولذلك تناولها القرآن، ليكون أول ما يبدأ به سهلا منطقيا مقبولا، ولأن الإحساس بالظلم يجعل الإنسان في حالة تأهب، كما أن حالته النفسية تكون على أتم استعداد لرفع الحيف والجور، وكل هذه الأعراف الجاهلية الجائرة، كانت تمارس من قبل من لهم القدرة على ممارستها، وهم الكهنة والسدنة من رجال الدين والأعيان والحكام، وهو الوجه الأعلى للقهر. والإنسان بطبعه الاجتماعي، لا يكون إلا حاكما أو محكوما، وليس هناك طبقة ثالثة، وما كان يجمع الناس على الأرض للعيش هو الحرث والأنعام، وهي مصادر وأسباب العيش، التي درأ الناس عليها قبل نزول القرآن.

    فأصبح المجتمع مريضا فاسدا، تتفشى فيه كل أسباب الانحلال، رغم أنه لم يكن بحاجة إلى ذلك، نظرا لقلة العدد وتوفر أسباب العيش، وهذا الجور في التشريع البشري لا يختلف عن التشريع في العصر الحاضر، كما أنه سيكون أشر من حكم الجاهلية، فالمشرعون الذين جعلوا لله نصيبا، والذين قتلوا أولادهم، والذين جعلوا الأنعام والحرث حجرا، هم أقل شراسة من الذين يحاولون فرض العولمة في العصر الحاضر، وسيعود الشرع نفسه الذي سيفرض على الضعيف من لدن القوي إلا أن هذه المرة لن يكون الظلم والقهر باسم الدين وإنما باسم العلم.

    ونقف عند سخافة التشريع البشري، وحماقته واستهتاره واستهزائه بالناس. لنرى كيف تعامل القرآن مع الشوائب الاجتماعية التي كانت سائدة، وليس من سبيل لتغييرها حتى أوشكت أن تهلك الإنسانية، ولذلك لما نزل القرآن كان ضروريا ومنطقيا أن يرد النصاب، وأن يغير من هذا المجتمع الظالم. ولذلك بدأ بطرح القضايا التي أضنت البشرية وأصبحت ظاهرة في أعين الناس أنها ظالمة. وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءا عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون.

    إنه شيء مضحك حقا أن يجرأ الناس على الناس، فيجعلون الحرام والحلال على هواهم، ويحرمون ركوب بعض الأنعام على غيرهم، ويجعلون الأنعام والحرث حجر على بعض الناس، أو على كل الناس إلا لهم، وهم بهذا وصلوا إلى أعلى مستوى من الظلم. هكذا تناول القرآن هذه الحالات النفسية، التي جعلها من أهم المراحل، لترسيخ الشرع الإلهي الحق، فبدأ يعالج الأمراض النفسية قبل الأمراض العضوية، ويبدأ بحقائق معلومة ومألوفة، أهلكت البشرية وقتلتها، وقد استعرض جل الأوجه التي كانت سائدة. فجاءت هذه الآيات بحقيقة ظاهرة ومعروفة لدى عامة الناس وتخص المجتمع، وفضحت ظلم من كان يتكلف بتسيير هذا المجتمع، ولم يكونوا عادلون حتى مع أزواجهم. وهو كذلك مشهد آخر كان ساريا في الجاهلية ومعروفا لدى كل المجتمع.

    وبعد استعراض الظلم المتفشي في المجتمع عامة، تطرق القرآن إلى الأولاد ليتناول هذه الحالات، حالة بعد حالة، ثم بعد الأولاد يتطرق إلى الأسرة، وأحد طرفيها المرأة، ليجعل كل المظلومين، من أبناء وبنات وأزواج، يقفون في وجه هذا الجور، وليفتضح أمر الذين يمارسون هذا الظلم، وإلا فما الغاية من نزول الوحي إن لم يكن لصالح البشر. وإن لم يكن لتربية المجتمع وتوحيده، ودرأ الظلم والفساد، وعبادة الخالق، والإقلاع عن عبادة المخلوق. فبعد ظلم الأولاد يأتي ظلم المرأة كما جاء في الآية لقوله. وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.

    فهل يقبل إنسان هذا الشرع الجاهلي؟ كلا !فعند قراءته يحس المرء بسخافة وحماقة لا مثيل لهما، وعند نزول الوحي كان الناس على هذه الشرائع، وكانوا لا يزالون على هذه الافتراءات والتخمينات البشرية، وهي لا تختلف عن التخمينات البشرية المعاصرة فيما يخص التشريع. وكل واضعي القوانين يعلمون أنفسهم، أن القواعد القانونية البشرية تظل ضعيفة ومذبذبة، وتوضع على هوى الشخص، فإن كان غنيا فهي ضد الفقير، وإن كان قويا فهي ضد الضعيف، ويزكونها بالشمولية والتجريدية، وهي صفات قلما توجد في نص قانوني على وجه الأرض.

    فلا يزال السياق في الإقرار الفكري والتربوي، قبل أن يصل إلى الأمور العلمية المحضة أو العلوم الحقة، ومما يميز الرسالة الأخيرة عن الرسالات السابقة، هو الإتيان بالحل والوضوح والتدقيق والتدرج، والاعتناء بالجانب النفسي قبل الجانب العضوي. فهذا الوصف الذي نحن بصدده في سورة الأنعام، فيما يخص التشريع حول الأنعام والحرث، جاء متكاملا، ووصف الحالات بالتدقيق، وتطرق إلى الجانب المعاش، فلا يمكن أن يكذبه أحد، ولا يمكن أن ينكره أحد، وهو يصف لهم الحقائق، أمام أعينهم لا تحتاج إلى توضيح بل كانوا يعلمونها يقين العلم، ويعلمون ما فيها من الخلل. فكانت هذه المواضيع من جملة ما جعلت الإصلاح يأخذ طريقه بسهولة وتلقائية، لأن التأييد والقبول الجماعي، يجعل أصحاب هذه الافتراءات ينخلعون بأنفسهم، ويجعلهم يفرون من الحقيقة، ويتميز الإسلام على غيره من الديانات السابقة بالإقرار المعنوي أو النفسي والاجتماعي أكثر من الأثر المادي، ولا ينهج طريقة العقوبة أو الردع، إلا لما يستنفد جميع الطرق خصوصا بالنسبة لبعض الحالات الشاذة، التي لا ينفع معها المنهاج التربوي أو النفسي.

    وهكذا نقض القرآن الشرع الجاهلي، والذي فرض باسم الدين، ونسب إلى الله سبحانه. ويجعل أصحاب هذه الافتراءات في حرج، فيعود إلى الأشياء التي حرموها بزعمهم، ليسألهم أمام الناس، وهنا سيفضح هذه الأكاذيب البشرية، هذه الأسئلة حول الأنعام ستكون مباشرة، وسيطلب الله الجواب فلا يجد من يجيبه، ولنحضر هذه المناظرة التي يناظر فيها الله أصحاب الشرع، الذين يحكمون باسمه، والذين كذبوا عليه، بنسب هذه الافتراءات إلى الدين، وهي ليست في التوراة ولا الإنجيل. فلنستمع إلى هذه المناظرة المباشرة، ويبدأ الله بالسؤال حول الأنعام التي كانت تحت الشرع الكاذب بقوله تعالى: ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنتيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين.

    ويبدأ الخالق بالسؤال الأول حول الضأن والمعز، هل الذكرين من هذه الأنعام أم الأنثين هي الحرام، أم هل ما في بطونها من الأجنة هو الحرام، ويطلب سبحانه الجواب " نبؤوني بعلم إن كنتم صادقين ومن ينبأ الله بعلم حول هذه الأشياء، من يقدر أن يخبره، وهم يفترون على الناس هذه الأشياء من ثلقاء أنفسهم. فهنا يقف الناس على الحقيقة، التي لا يمكن تفنيدها ولا تكذيبها، وكيف لا نقول أن الإسلام نال قبول الناس لحجته ولحقائقه. وربما نذهب بعيدا في هذه الآية من حيث الإعجاز العضوي فيما يخص علم الجينات أو علم الوراثة لأصناف الأنعام الأربعة، لكن لنبقى مع الإعجاز التشريعي في الميدان الغذائي على أن نعود للإعجاز في ميدان علم الوراثة لاحقا إن شاء الله تعالى.

    ولما كانت الأنعام تشمل أربعة أنواع كان لا بد أن يكون الوحي متكاملا فيما يخص هذه الأنواع الأربعة وجمع سبحانه الضأن والمعز في سؤال وهو السؤال الذي جاء في الآية السابقة كما سيجمع الإبل والبقر في السؤال الثاني فيقول عز وجل في نفس السورة وفي الآية الموالية: ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟

    فالسؤال موجه لهؤلاء الذين يضللون الناس، ويتجرءون على البشر باسم الدين، ويتفضلون على عباد الله حول هذا الشرع، ليضع حدا لهذه الألاعيب، وهذه الافتراءات، ويقر شيئا يجعل كل الناس يفهمون أن هذه الأحكام، ليست من عنده، ولكن اختلقها بعض رجال الدين، ليقهروا الناس، ويدحض هذه التجاوزات ويبين كذبهم وافترائهم وظلمهم فينكر عليهم الشهادة، بقوله سبحانه وتعالى في الشطر الثاني من نفس الآية ليكملها بحجة أخرى أقوى من الحجة التي جاءت في الآية السابقة قوله تعالى: أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهذي القوم الظالمين


    فهل هناك من كان شاهدا حيث وصى الله بهذه الأشياء؟ إن لم يكونوا كذبوا على الله وهو ما حصل، ثم يشير إلى الضلال بغير علم. وإقرار الحجة بما هو ظاهر ومعروف ومتداول بين الناس جعل الطريقة الأدبية التي جاء بها القرآن طريقة سهلة ومقبولة ولذلك حظيت بتأييد الناس لها وقبولها. وكان هذا المشهد من أقوى المشاهد التي مهدت لاقتناع الناس بهذا الدين لأن هذه الفترة كانت حرجة في تاريخ البشرية فالقرآن جاء ليفصل الحق والباطل وكان عليه أن يجد الطريقة المناسبة التي لا يشك فيها الناس والتي توقظ النفوس وتفتح أعين الناس على الحقيقة. وليس هناك حقيقة ظاهرة أكثر من هذه الحقيقة وهي التشريع الموضوع على هوى البشر والقهر الذي كان يعيشه جل أفراد المجتمع تحت الوطأة القاهرة والقاضية لرجال الدين آنذاك. وزرع روح المساواة بهذه الطريقة دون نهج العنف يعتبر من أسمى طرق الإصلاح ومن أسمى طرق الضبط الاجتماعي في عصر الفوضى والجور وقد ظهرت كل أوجه الفساد في هذه الفترة وعانت منها البشرية حتى ضاقت بها الأرض بما رحبت.

    ونجد في الآية الأخيرة كلمات بسيطة لكنها قنابل بالنسبة لهؤلاء الذين نصبوا أنفسهم حماة المجتمع، وقوله تعالى أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا يوحي بقطع الصلة الكاذبة بين رجال الدين آنذاك والله سبحانه وتعالى وهي حقيقة بديهية لا يمكن أن لا يفهمها الناس، ولا ننسى أن الإنسان في هذه الفترة كان يفهم جيدا معاني الكلام، فالعصر كان عصر لغة وشعر ولذلك جاء التعبير بليغا فالحق سبحانه صاغ التعبير باللغة التي لا يخطئها أحد وبالوصف الكوني الذي لا يخطئه أحد وهو اختيار موضوع الأنعام والحرث، فهذا الموضوع كان يمثل جل الأنشطة التي كانت سائدة آنذاك ولم يبقى من نشاط إلا التجارة.

    وكلما سعينا إلى التغيير والإصلاح كلما كان علينا أن نبين الخلل فيما نريد إصلاحه ثم نأتي بالبديل وإلا كان النقض في غير محله، وربما نظلم الناس أكثر من هذا الظلم، إذا لم نبين الطريق الصحيح أو كيف يجب أن تكون الأمور. ونرى أن الله سبحانه وتعالى نقض الشرع الجاهلي ليهيئ لشرع بديل عادل وصحيح. وإذا تتبعنا السياق القرآني سنجد أن الآية التي ستأتي بعد بيان ونقض ما كانت عليه الجاهلية ستبين ما يجب أن تكون عليه الأمور. وستبيح كل ما حرمه الشارع البشري لأنه غير عادل ويتعارض مع الواقع، لكن في نفس الوقت ستقيد هذه الإباحة بتحريم الأشياء المضرة فقط. وهو وجه من أوجه الإعجاز في التشريع الغذائي لأن القرآن لا يأخذ بالقياسات الدولية لكنه يأخذ بالقياسات الشرعية. وقد انزلقت البشرية من جديد لتعود للقياسات البشرية أو المواصفات العلمية العالمية للمواد الحيوانية دون أن تأخذ بالشرع أولا. وفي هذه الآية سيبين سبحانه وتعالى الشرع الإلهي، الذي هو من عنده حقا، وبطريقة إلهية تقبلها النفس الزكية والفطرة. فيضع الأمر الذي كان عليه الناس في الجاهلية ويحرر الإنسان من هذه العبودية والقهر، فيبيح الحلال الذي حرمه رجال الدين، ويحرم الحرام الذي يجب أن لا يقربه الإنسان لعلته. يقول عز وجل بعدما أكمل إبطال الشرع الجاهلي: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم.

    وهكذا يحل الشرع الإلهي العادل، محل الشرع البشري الجاهلي الظالم، فالتحريم لا يهم الذكر، ولا الأنثى من النعم، ولا يخص فئة كالأزواج، ولا يخص الآلهة، وإنما يخص العلة التي من أجلها يحرم الحرام، وهي أشياء بدأ بها لتستيقظ الفطرة، فيبين الميتة والدم المسفوح، وهي أشياء لا تقبلها الفطرة السليمة للشخص، وهو إعداد للشرع الذي سيأتي في سورة المائدة، وبدأ التدرج بهذه الآية، ولذلك ذكر الميتة دون الحالات الأخرى، وذكر الدم بصفته التي حرم بها، وهو الدم المسفوح، ووصف لحم الخنزير بالرجس، وكذلك ما أهل لغير الله به بالفسق، فكل هذه الأشياء تناولها القرآن من الناحية النفسية أو الفطرية، ووصفها بأوصاف تشمئز منها النفس، لتبرير التحريم وجعله سهلا على الناس، وإقراره بالقبول، حتى يترسخ في نفوس الناس، وهو ما يتناوله علم النفس. والقبول والاقتناع بالشيء ليس كفرضه بالقوى والجبر، فالتربية النفسية تفوق بكثير البديل الزجري أو القسري، وهكذا يتطرق القرآن إلى تنظيم المجتمع، ويدفع عنه كل المحاولات التي تريد منه عقيدة دون نظام، فأي نظام تمكن من إصلاح المجتمع الجاهلي كالإسلام، وأي مجتمع سابق على المجتمع الإسلامي أو لاحق عليه تمكن من تنظيم البشرية، أو يقدر الآن على إعادة التنظيم غير الإسلام.

    ونتطرق كذلك إلى المراحل التي واكبت هذا الإصلاح عبر التكوين النفسي والتربوي، وبعد هذه المشاهد من سورة الأنعام، التي تبين الحالة التي نزل فيها القرآن، وكيف تعامل مع كل هذه الشوائب والأكاذيب، بدون عنف، ولا انقلاب فكري، أوسيكولوجي أكثر ما كان ماديا، ونقف عند هذه الحقيقة القرآنية التي نقضت كل شرع جاهلي لا علة له ولا أساس له، وكذبت كل قائل بأن هذه الأحكام من عند الله، ويقول تعالى في سورة آل عمران: كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل إلا ما حرم اسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين.

    وهذا الخطاب يجعل أصحاب التوراة، أو رجال الدين في حرج، بل يفضحهم ويتحداهم، إذا كانت هذه الأحكام في التوراة، ولم يكن فيها تحريم بشأن هذه المحرمات التي جاءت في سورة الأنعام، والتي تأتي في سورة المائدة كذلك، وقد نسبوا أشياء للتوراة وهي سابقة لها، وهو الطعام الذي حرمه سيدنا يعقوب، لنذر نذره لله، وتقبله منه، وهو تحريم لبن الإبل ولحمها، وكان أعز الطعام عنده، فجرى شرع بني إسرائيل أن يحرموا ما حرمه أنبيائهم، ولم يكن هذا في التوراة التي نزلت على سيدنا موسى. وهناك افتراءات أخرى كانت سارية في المجتمع الجاهلي قبل نزول القرآن.

    وكان أول شرع بشأن الحلال هو نقض الحرام الذي كان في الجاهلية، حيث أخذ الإنسان يشرع في الجاهلية على هواه، فحرم بعض الأغذية، وأحل أخرى، وجعل بعض القواعد البشرية، التي تشبه إلى حد كبير القواعد القانونية الحالية، تسري على الناس، وكان هذا الحيف والتحريف والتضليل، من لدن رجال الدين في الديانات السابقة على الإسلام، ولذلك كانت العصور قبل الإسلام تسمى بالجاهلية أو البدائية أو العصبية، حتى أشرق نور الإسلام، ومن ضمن ما حرم رجال الدين في الجاهلية، بعض الأنعام التي وصوفها أو أطلقوا عليها تسميات عديدة، منها السائبة والبحيرة والوصيلة والحام. وقد نقض الإسلام هذا التحريم، لأن العلة غير موجودة، ولأن البشر لا يعلم ما ينفع وما يضر، فجاء النقض في سورة المائدة حيث يقول الجليل جل جلاله: ماجعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لايعقلون

    وقد كان من جملة ما جعله أصحاب الدين، قبل مجيء الإسلام شرعا، تحريم بعض الحيوانات التي صنفها القرآن في أربع، وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. هكذا أخذ المبطلون يجعلون شرعا للناس، على غرار الشرع الإلهي. ونفى الإسلام أن يكون هذا الشرع من عند الله، لأن العلة في تحريمه لم تكن موجودة، كما هي موجودة في المحرمات، التي قصها الله في سورة المائدة.

    إن بعضا من الأنعام كان محرما في الجاهلية بزعم الكفار، وكان هذا التحريم حسب شرع الإنسان وهواه، وليس من عند الله. ونجد أن هذا الموضوع الذي يهتم بتحريم الحلال، وإباحة الحرام، يتناوله القرآن من ناحيته العضوية، وكذلك من ناحيته الروحية، أو الاجتماعية، حيث يرفع الله سبحانه وتعالى التحريم عن الأنواع، التي حرمها الشارع الجاهلي بزعمه وبظنه ووهمه. وكان لابد أن يطهر الله بيئة الإنسان من الدنائس والخبائث العضوية، التي لها انعكاسات على صحة الإنسان، فقال: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقودة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق....

    وأن يزيل الوساوس والدنائس والأوهام، التي لها تأثير على عقل الإنسان وسلوكه، بقوله: ما جعل الله من بحيرة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون

    ومن المعجزات الكبيرة للقرآن، صحة علمه وبيان حجته، من حيث تضل الحقيقة القرآنية ثابتة، والتي تظهر عبر العصور وعبر التقدم العلمي والكشوفات ولو يطول الأمد. وكلما ظهرت حقيقة علمية زادت حجة القرآن، وتأكدت صحته مما يجعل المضللين في حرج. ونرى الآن أن هذه الاكتشافات العلمية الحديثة، أخذت تزيح الضباب عن الحقيقة القرآنية، وبعدما استخدم المضللون والملحدون العلوم لضرب الدين، فإن هذه العلوم نفسها هي التي تقود الآن الدعوة إلى الله.

    وقد جاء النفي في هذه الآية ليبين الله سبحانه أن هذه الحيوانات، لم تكن كما اتخذ فيها الإنسان الجاهلي شرعا من زعمه وظنه فعل بها رجال الدين قبل مجيء الإسلام وهو افتراء حقا لا يقوم على حجة ولا برهان.

    وقد نقضت هذه الآية، الشرع أو الظلم الجاهلي، فأحل الله سبحانه وتعالى الحيوانات التي لا علة في تحريمها. وبين سبحانه وتعالى هذه الأسامي التي كانوا يسمون بها الأنعام (البحيرة والسائبة والوصيلة والحام)، التي حرموها بزعمهم، انطلاقا من ظنهم ووهمهم. ونجد في كتب التفسير عدة أقوال في موضوع هذه التسميات، ولم نتوصل إلى ماذا كان كفار الجاهلية يعنون بها حقا، إلا بعض المعلومات القليلة والمترددة، بشأن المعنى الحقيقي لهذه التسميات. وكيفما كان الحال نأخذ بأغلب الكتب قولا ونقلا.

    جاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، أن البحيرة على قول الزهري، عن سعيد ابن المسيب، تكون من الإبل، وهي الأنثى التي يمنع درها أي لبنها ليعطى للطواغيت أو الآلهة، فلا يطعمها الناس العاديين. والسائبة هي التي يسيبونها لآلهتهم، فيتركونها تذهب حيث تشاء، فلا يعترض طريقها أحد، وإلا كان موضع العقاب من الآلهة. والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى، وتثني بالأنثى، فيسمونها الوصيلة، لكونها وصلت بين اثنين من جنس واحد، فكانت تعطى للطواغيت. والحام هو الفحل من الإبل إذا ضرب عددا من الضراب، فيحمى ظهره أي لا يركب، ولا يؤكل لحمه، ولا يمنع من المرعى أو المورد حيثما يذهب. ونلاحظ مدى الاستخفاف من لدن أصحاب هذا الشرع، بل يحس فيه المرء بتلاعب وبسخافة لا حد لها. ولازالت بعض العادات التي تشبه هذا الشرع جارية، وربما تأخذ شكلا أخطر من هذا بكثير.

    أما المعنى عند أصحاب اللغة، فيختلف عن هذه الأعراف الجاهلية، ويقال البحيرة هي الناقة التي تبحر بشق أذنها. وكانت تشق أذن كل ناقة نتجت خمسة أبطن، يكون آخرها ذكرا، فكانوا يحرمونها، فلا تركب، ولا يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها. والسائبة هي المخلاة السبيل أو المسيبة، أي تطلق هكذا تأكل حيثما أرادت، وتمشي حيثما أرادت. وتسبى السائبة لنذر أو لقسم فيقول الرجل، إذا خرجت من أزمتي فناقتي سائبة، أو إذا شفي ابني فناقتي سائبة. والسائبة كالبحيرة في التحريم والتخلية كما ذكرنا. والوصيلة فقد ذكر بعض أهل اللغة، أنها تكون من الغنم، حيث يجعلون الذكر للآلهة والأنثى لهم، فإذا ولدت ذكرا وأنثى، يقولون وصلت فلا يذبحوه. وهناك روايات متعددة في شأن هذه التسميات، ولا نعلم عنها شيئا، إلا أن ذكرها في القرآن فيه تنكر من الله لهده الأشياء، لأنه لم يجعل منها شيء في الكتب السابقة، وكل هذه التعريفات سواء من الناحية اللغوية أو العرفية، فهي أوهام من ظلام الوثنية، والجهل الذي كان يخيم على الإنسان قبل مجيء الإسلام.

    وحين تكون الأوهام والأهواء هي الحكم، فلا يمكن أن يكون هناك أي ضابط أو فاصل، ولا أي ميزان تقاس به الأشياء، أو ترجع إليه، وهكذا نجد العديد من هذه الطقوس، التي تنطلق من الوهم البشري، وما أكثرها، والتي أعطيت شحنة جديدة عبر الإعلام، لكن الغريب، هو أن هذا الضلال لا يروج له إلا في البلدان الإسلامية. وقد تصدى القرآن لعدة أنماط منها: الخبائث واجتناب الطاغوث، والظهار، والربى، وعبادة الأوثان والأزلام، والقرابين، والخمر والميسر، والزنى، والقذف، والنميمة، والسخرية، والعقوق، والوأد، والرق، والجاه، وما إلى ذلك من أوجه الحياة العامة للبشر. وشرع كل مستلزمات الحياة البشرية من مصدر إلهي لا يحتمل الخطأ أو النقصان.

    وهذه الأشياء التي لم نفهم حتى معناها في الآيات الكريمة من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام تتكرر عبر الزمان والمكان كلما تخلى الإنسان عن الشرع الإلهي ورجع إلى الهوى والوهم. ونلاحظ أن هناك بعض الحالات التي لا تختلف في جوهرها ومراميها عن الطقوس الجاهلية وتتنافى مع الشريعة الإسلامية. وربما نشاهد هذا الجانب الخرافي الوهمي في شتى الأقطار، ولو يختلف في الشكل فهو لا يختلف في الجوهر عن العصر الجاهلي. ويتجلى هذا الظلام في اتخاذ بعض القبور كمعابد يقصدها الناس لطلباتهم وتشد إليها الرحال وتذبح فيها الذبائح إما إهلالا أو على نصب. ولازالت البحيرة في عصرنا الحاضر ولو أن الشكل يختلف في العادة فتساق الناقة، بعدما تطوف في البلاد، ويتبرك منها الناس، ويعلقون عليها بعض الأشياء وبعدما يجمع أصحابها الأموال، تساق إلى قبر هناك في الجبل فتذبح، ويباع لحمها أو يؤكل وربما يستخدم لأغراض أخرى. ولا يختلف هذا الضلال عن الضلال الجاهلي، من حيث كل الممارسات ضالة كانت بالدافع الديني، وبنية حسنة أنها أعمال واجبة للتقرب من الله سبحانه وتعالى، ولم يكن هؤلاء يعبدون الأصنام إلا ليقربوهم إلى الله زلفى كما قال سبحانه وتعالى في سورة الزمر: ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار.

    وهناك من يذبح الجدي أو الخروف على نصب قربانا لأحد القبور من الموتى وقد يشرب دمه. وهذه الممارسات العجيبة ينطلق أصحابها من الدين، وهم يظنون أنهم فعلوا عظيما واستوفوا عبادتهم. إن وجود هذه الشوائب في المجتمع الإسلامي شيء غريب، لأن الإسلام جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فكيف يستخدم لإخراج الناس من النور إلى الظلمات. وما جاء القرآن إلا لينير للناس طريقهم ويحفظهم من كل هذه الأوهام. ويخبرنا القرآن عن سبب اتخاذ الآلهة وعبادتها في الجاهلية، فقد كان أمرا طبيعيا وربما يظن أصحابه أنهم فعلوه للتقرب من الله سبحانه كما جاء في الآية الكريمة.

    ونلاحظ أنه رغم تبجح الإنسان المعاصر بالتقدم التكنولوجي والرقي المادي، فلا نرى بصيصا من التقدم الحضاري. ورغم الوصول إلى الفضاء ورغم محاولة الاتصال، وربط العلاقات البشرية عبر الأقمار الاصطناعية، فلا نرى أي وجه من التواصل البشري، وإنما هناك نفاق وكفر وحقد تماما كما كان على عصر الجاهلية، بل أبشع وأقوى مما كانت عليه الأمور في الجاهلية. وهذا التقدم الذي نتكلم عنه لن يقدر على ربط العلاقات، ولن يقدر على جمع الأمة كما جمعها الإسلام ووحدها بدون أقمار اصطناعية. وهنا يظهر جليا مدى أهمية العقيدة والفرق الشاسع بين شرع الله وشرع البشر.

    وجاء شرع الحلال والحرام من المأكولات والمشروبات مدققا في سورة المائدة ، ليؤكد أن الحلال هو ما أحله الله، وأن الحرام هو ما حرمه الله. والشرع لا يخضع للدراسة والبحث، ولا يقبل التشكيك، ولا يقبل المناقشة، لأنه ليس فكرا، وإنما وحيا من الذي يعلم السر وأخفى.

    بعدما كان الخطاب في القرآن المكي عاما وغير مخصصا وبعد سرد الأحكام الجاهلية التي كانت سارية لقهر العباد، أخذ يبين بعض الأحكام الشرعية العامة والتي استنبتت فيها حالات سيتناولها في القرآن المدني ليقر الشرع نهائيا. وقد جاءت آية تحمل معنى التحريم في سورة الأنعام لقوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم.

    التشريع الإسلامي
    وبعدما بين الله سبحانه وتعالى كل الإفتراءات والأكاذيب التي كانت موضوعة باسم الدين، يتغير الخطاب ليصبح موجها في سورة المائدة التي تشمل الحلال والحرام من المأكولات والمشروبات، إلى الذين قبلوا الإسلام دينا وعقيدة وشرعا، وهذا الخطاب سيأتي بالأمر القطعي، لأنه من الخالق القادر العليم، ولأنه موجه إلى المؤمنين، ولذا نجد كل الآيات التي تناولت هذا الشرع تبدأ ب " أيها الذين آمنوا ". لأن الكافر لا يلزمه الشرع، والمؤمن ما آمن حتى أقر واقتنع وقبل هذا الشرع، ولم ينزل قرآن الشرع فيما يخص التحريم إلا في الفترة الأخيرة، خصوصا بالنسبة للمأكولات وهي اللحوم والذبائح وشراب واحد هو الخمر، ومن العلماء من قالوا أن الآية التي جاء فيها التحريم في سورة المائدة هي آخر ما نزل من القرآن، لأنها فيها قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.

    والشرع الإلهي لم يشمل المحرمات التي كان يحرمها رجال الدين، وإنما نقض هذا التحريم لأنه لا يرتكز على دليل عامي، ولا يحمل علة. وحرم من المأكلوت بعض أنواع اللحوم والدم لعلتها ومن الأشربة حرم الخمور كذلك لعلتها.

    التشريع فيما يخص اللحوم أنقر هنا
    التشريع فيما يخص الخمر أنقر هنا

    وقد سادت هذه الأحكام في الجاهلية لكنها بادت واندثرت مع بزوغ شمس الإسلام، وبقي الناس على هذا الشرع الإلهي، وتأثر العالم من هذه الأحكام الطاهرة، ولا نلاحظ أكل الدم في الوقت الحاضر، كما كان الشأن في الجاهلية، ولو أن الدم الآن في المجتمع الغير المسلم يستهلك بطريقة أخرى، وهي عدم ذبح الحيوان بحجة أنه يعذب، وهي تخمينات تشبه تخمينات الجاهلية. والغريب في الأمر أ ن علماء الميدان يعرفون جيدا الفرق بين اللحم المذكى واللحم الغير مذكى. وسترجع البشرية لإلى الصواب لتطبق الشرع الإلهي، لأن ليس هناك ما ينوب عن الشرع الإلهي في العلوم الحديثة والعلوم لا تقدر على الدين.


    المصدر : http://www.mfaid.com/foodregula.htm موقع الدكتور محمود فايد

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة Islam soldier, 12 أكت, 2023, 07:10 م
ردود 3
64 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Islam soldier
بواسطة Islam soldier
 
ابتدأ بواسطة Islam soldier, 10 أغس, 2023, 04:28 ص
رد 1
81 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Islam soldier
بواسطة Islam soldier
 
ابتدأ بواسطة لخديم, 4 مار, 2023, 05:02 م
ردود 0
32 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة لخديم
بواسطة لخديم
 
ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 3 أكت, 2022, 01:26 ص
ردود 0
84 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
 
ابتدأ بواسطة د. أحمد نصر الدين, 23 مار, 2022, 12:53 م
ردود 0
1,565 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة د. أحمد نصر الدين  
يعمل...
X