جبل عرفات في الكتاب المقدس ووظيفته في العهد الإبراهيمي

تقليص

عن الكاتب

تقليص

وليد المسلم مسلم اكتشف المزيد حول وليد المسلم
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جبل عرفات في الكتاب المقدس ووظيفته في العهد الإبراهيمي

    جبل عرفات في الكتاب المقدس ووظيفته في العهد الإبراهيمي
    سؤال بسيط
    الفقرة التي تتحدث عن قصة إبراهيم مع إبنه وردت في سفر التكوين، وهذا نصها:
    "1 وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال له يا إبراهيم فقال هانذا 2 فقال خذ إبنك وحيدك الذي تحبه إسحق واذهب إلى أرض الموريّا واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك 3 فبكر إبراهيم صباحا وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحق ابنه وشقق حطبا لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله 4 وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد 5 فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما ههنا مع الحمار وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما 6 فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحق ابنه وأخذ بيده النار والسكين فذهبا كلاهما معا 7 وكلم إسحق إبراهيم أباه وقال: يا أبي فقال: هاأنذا يا ابني، فقال: هوذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة 8 فقال إبراهيم: الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني فذهبا كلاهما معا 9 فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله بنى هناك إبراهيم المذبح ورتب الحطب وربط إسحق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب 10 ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه 11فناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم إبراهيم فقال هانذا 12 فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك إبنك وحيدك عني 13 فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه 14 فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع: (يهوه يرأه) حتى أنه يقال اليوم في جبل (الرب يُرى) 15 ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء 16 وقال بذاتي أقسمت يقول الرب أني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك إبنك وحيدك*17أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر ويرث نسلك باب أعدائه" (تكوين22/1-17)
    أما السؤال فهو: أين ذلك الجبل المسمى (يهوة يرأة) أو (الرب يرى) والوارد في الآية الرابعة عشر في الفقرة السابقة؟ علما بأن وجود إجابة واضحة هو أمر ضروري نظرا لأهمية واقعة الفداء والعهد بالنسبة لبني إسرائيل، إذ لا يعرفون لوجودهم معنى إلا من خلالها، مع ما عرف عنهم دينيا وتاريخيا من ضرورة تقصي وإقامة شواهد لكل فعاليات العهد الإبراهيمي عبر الزمان، ذلك الحرص الذي يبدو واضحا في النص التالي من سفر التكوين:
    "11فصادف _ أي يعقوب_ موضعا قضى فيه ليلته لأن الشمس كانت قد غابت، فأخذ بعض حجارة الموضع وتوسدها وبات هناك 12ورأى حلما شاهد فيه سلما قائمة على الأرض ورأسها يمس السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها، 13والرب نفسه واقف فوقها يقول: «أنا هو الرب إله أبيك إبراهيم وإله إسحق. إن الأرض التي ترقد عليها الآن أعطيها لك ولذريتك، 14التي ستكون كتراب الأرض، وتمتد غربا وشرقا، وشمالا وجنوبا، وتتبارك بك وبذريتك جميع شعوب الأرض. 15ها أنا معك وأرعاك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض. ولن أتركك إلى أن أفي بكل ما وعدتك به 16ثم أفاق يعقوب من نومه وقال: حقا إن الرب في هذا الموضع وأنا لم أعلم! 17واعتراه خوف وقال: ما أرهب هذا المكان! ما هذا سوى بيت الله وهذا هو باب السماء 18ثم بكر يعقوب في الصباح، وأخذ الحجر الذي توسده ونصبه عمودا وصب عليه زيتا،19ودعا المكان بيت إيل" (تكوين 28/ 11-19)
    واقعة الخروج من مصر أيضا لم تترك، نُصب لها شاهد زماني تخليدا وتذكيرا بعهد إبراهيم، فيما عرف بعيد الفصح:
    "فيكون هذا فصحا للرب 12ففي هذه الليلة أجتاز في بلاد مصر وأقتل كل بكر فيها من الناس والبهائم وأجري قضاء على كل آلهة المصريين أنا هو الرب 13أما أنتم فإن الدم الذي على بيوتكم المقيمين فيها يكون العلامة التي تميزكم، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا تنزل بكم بلية الهلاك حين أبتلي بها أرض مصر 14ويكون لكم هذا اليوم تذكارا تحتفلون به عيدا للرب، فريضة أبدية تحتفلون به في أجيالكم". (خروج112/11-14)
    وأيضا يوم الغفران، أي غفران الله لهم خطيئة عبادتهم للعجل وتجديد عهده معهم:
    "إن حظيت برضاك أيها السيد - يقول موسى مخاطبا الرب - فليرافقنا الرب في مسيرنا. ومع أن هذا الشعب متصلب القلب. لكن اصفح عن إثمنا وخطيئتنا واتخذنا خاصة لك 10فأجاب الرب: ها أنا أبرم معك ميثاقا، فأجري أمام جميع شعبك معجزات لم يجر مثيلها في جميع أمم الأرض كلها".(خروج34/ 9-11)
    ولكي نتخيل الأهمية المفترضة للشاهد المكاني لعهد الله مع إبراهيم، وهو جبل (الرب يرى)، ليس علينا سوى أن نتذكر أن هيكل سليمان بكل ما حوله من قداسة، ليس سوى أحد آثار ذلك العهد، وعلى ذلك تكون الإجابة التي نتوقعها هي تعيين جبل اسمه (يهوة يرأة) في فلسطين، محاطا بهالة من القداسة تفوق نظيرتها التي أحيط بها هيكل سليمان. بل سنتنزل ونطالب فقط بمكان معلوم بهذا الإسم وبتلك الصفة ولو كان مهملا.
    محاولات لتعيين مكان جبل الرب يرى
    الحقيقة أن هيكل سليمان عادة ما يتم استغلاله للادعاء بمعلومية مكان واقعة الفداء والعهد والقول بأنه هو ذاته موضع الهيكل، ونظرا لأن هذا الادعاء لا يستند إلى أساس خبري نصي واضح، أو حتى غامض، فعادة ما يطرح كافتراض يعتمد في تصديقه على أن يدور في ذهن القارئ: "لا بد أن ثمة قداسة معينة لذلك المكان حتى يختاره الله موضعا لبناء الهيكل، ولا بد أن سبب هذه القداسة هي واقعة الفداء"، وقاموس الكتاب المقدس هو نموذج لتلك المحاولة، حيث يذكر:
    "يَهْوه يِرأة، اسم عبري معناه "يهوه يُرى" وهو اسم أعطاه إبراهيم للموضع الذي فيه أمره الله أن يقدم إسحق ذبيحة. ويرجح أنه على جبل موريا في أورشليم، حيث الحرم الشريف اليوم".
    وبعيدا عن الجدل الدائر حول ذلك الهيكل، فواقعة بنائه نفسها تحتفظ داخلها بسبب اختيار مكان البناء، وليست في حاجة إلى التماس مبرر آخر، فبحسب النص التوراتي:
    "15وأمر الرب ملاكه بإهلاك أورشليم. وفيما هو يقوم بالقضاء عليها رأى الرب ما يصيبها، فأشفق عليها بسبب ما حل بها من شر، وقال للملاك المهلك: "كف يدك عنها"، وكان ملاك الرب واقفا آنئذ عند بيدر أرنان اليبوسي 16وتلفت داود حوله فرأى ملاك الرب منتصبا بين الأرض والسماء، وقد شهر سيفه بيده ومده نحو أورشليم. فارتدى هو والشيوخ المسوح وسجدوا بوجوههم إلى الأرض 17وقال داود لله: ألست أنا الذي أمر بإحصاء الرجال الصالحين للتجنيد؟ إنني أنا الذي أخطأ وأساء، أما الرعية فأي ذنب جنت؟ أيها الرب إلهي عاقبني وعاقب بيت أبي واعف عن شعبك. 18فأوعز ملاك الرب لجاد أن يطلب من داود أن يصعد ليبني مذبحا للرب في بيدر أرنان اليبوسي" (أخبار الأيام الأول 21/15-18).
    أي أن القصة تتلخص، حسب رواية التوراة، في أن داوود قد توسل إلى الله برفع العذاب عن أورشليم، واتفق أن الملاك الذي كان يقوم بإهلاك أورشليم كان في لحظة أن استجاب الله لتوسلات داوود في مكان اسمه أرنان اليوبوسي، فأمر الله داوود بإقامة مذبح كشاهد على العفو الإلهي، فأصبح مكانا مقدسا منذ هذه اللحظة وبسببها، وعندما أمر الله سليمان ببناء الهيكل أمره أن يتحرى الموضع في أرض الموريّا والمسمى أرنان اليبوسي لأنه المكان الذي تراءى فيه الله لداوود:
    "وَشَرَعَ سُلَيْمَانُ فِي بِنَاءِ بَيْتِ الرَّبِّ فِي أُورُشَلِيمَ، فِي جَبَلِ الموريّا حَيْثُ تَرَاءَى لِدَاوُدَ أَبِيهِ، حَيْثُ هَيَّأَ دَاوُدُ مَكَانًا فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ" (أخبار الأيام الثاني 3/1)
    ولا نجد أي إشعار نصي بأن هذا المكان كان مقدسا قبل ذلك، أي منذ إبراهيم، رغم أنه من عادة الله مع بني إسرائيل تذكيرهم بهذا العهد دائما، فمن غير المنطقي أن تمر هذه الواقعة في نفس مكان واقعة العهد دون أي ذكر، وما ذهب إليه البعض من أن اسم (أرنان اليبوسي) هذا هو الاسم الذي أطلقه اليبوسيين على جبل (يهوة يِرأة) لا دليل عليه أو حتى شبه دليل، بل مجرد مقاربة مختلقة تنفيها عدم إمكانية تعدد الشواهد في مكان واحد.
    * * *
    أما تلك القفزة الفاشلة على مشكلة موضع جبل (يهوة يِرأة) في أرض الموريّا، والزعم بأنه جبل (يهوة يِرأة) هو نفسه (جبل الموريّا)، والتي تعتمد على الخلط بين كلمة (موريا) الواردة في الآية الثانية من فقرة سفر التكوين: "خذ إبنك وحيدك الذي تحبه إسحق واذهب إلى أرض الموريّا واصعده هناك محرقة"، وبين كلمة (يهوة يِرأة) الواردة في الآية الرابعة عشر: "فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع يهوه يرأه حتى انه يقال اليوم في جبل الرب يُرى"، في تشبث مستميت بأهداف حرف الراء المتكرر في كلمتي: (موريّا) و"يِرأة"، فهي قفزة قصيرة ليس مقدرا أن يكتب لها النجاح عند الفحص.
    وقاموس سترونج الكتابي يقدم نموذج لتلك المحاولة، ففي تعريفه لكلمة "يهوة يرى" نجد:
    Jehovah will see (to it); Jehovah-Jireh a symbolical name for Mt. Moriah
    أي: ("يهوه يري" هو اسم للتعبير عن جبل الموريّا)
    والواقع أن الربط بين الكلمتين: (موريّا) و"يِرأة"، ليس له أي أساس من الصحة، بل تنفيه أربعة أدلة:
    الأول تاريخي، فاسم (يهوة يِرأة) هو اسم أطلقه إبراهيم على ذلك الموضع بمناسبة الذبح، "فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع يهوة يِرأة، حتى أنه يقال اليوم في جبل الرب يرى"، في حين أن اسم (موريّا) معروف قبل إبراهيم بقرون، وهو موجود في النص كإسم لأرض سيتوجه إبراهيم نحوها: "*2فقال خذ إبنك وحيدك الذي تحبه إسحق واذهب إلى أرض الموريّا واصعده هناك محرقة على احد الجبال الذي اقول لك"، فاسم الجبل لم يتعين بعد في الوقت الذي كانت أرض الموريّا معروفة كوجهة لإبراهيم حسب أمر الله.
    الدليل الثاني: اشتقاقي، فكلمة (يهوة يِرأة) יְהוָהיִרְאֶה مشتقة من فعل الرؤية، وهو من المتقاربات اللفظية بين العبرية والعربية، والنص نفسه يفسرها بكلمة (الرب يرى)، في حين أن كلمة (موريّا) تعود في أصلها إلى الموريين الذين سكنوا تلك المنطقة منذ نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، آتين إليها من بلاد الرافدين، وأصل كلمة الموريين تلك التي انتقلت من ساكني البقعة إلى اسم الأرض، هو أن كلمة "أمورو" تعني بلغة العراق وقتها: "الغرب"، وهم قد توجهوا من بلاد الرافدين إلى فلسطين فصاروا: "الغربيين" أي "الأموريين"، وصارت أرضهم هي أرض الموريّا، (أنظر ويكيبيديا: أموريين).
    والدليل الثالث وصفي، ويتعلق بجبل (يهوة يِرأة) بوصفه مشارا إليه على الدوام، وحسب النص التوراتي، بصفته المكان الذي ارتبط بموقف إبراهيم الأول مع الله: "حتى أنه يقال اليوم في جبل الرب يَرى" (تكوين22/14)، وفي موضع آخر نجد صيغة أخرى لوضعية جبل (الرب يرى) كشاهد معروف: "يكون في آخر الأيام بيت الرب مبنياً على قلل الجبال، وفي أرفع رؤوس العوالي يأتين جميع الأمم، ويقولون: تعالوا نطلع إلى جبل الرب" (ميخا 4/1-2)، في حين أن هضبة الموريّا لا يشار إليها اليوم، ولم يشر إليها قبل اليوم، بهذه الصفة، بل قد انحصرت علاقتها بالموضوع في أنها مجرد اقتراح بأنه هي المقصودة بكلمة (يِرأة) الواردة في النص.
    أما الدليل الرابع، وهو وصفي أيضا، فيتعلق بأرض الموريّا نفسها، فهي مساحة فضفاضة لا تصلح كشاهد على (موضع الفداء)، حتى أن الكتاب المقدس أطلق عليها "بلاد الأموريين الجبلية": "فَقُلْتُ لَكُمْ: هَا قَدْ جِئْتُمْ إِلَى بِلاَدِ الأَمُورِيِّينَ الْجَبَلِيَّةِ الَّتِي وَهَبَهَا لَنَا الرَّبُّ إِلَهُنَا" (تث1/20)، وهكذا نجد أن أرض الموريّا موصوفة في الكتاب المقدس مرة بأنها (أرض موريا) ومرة بأنها (بلاد موريا)، أما استبدالها بكلمة (جبل موريا) في المعاجم الكتابية فيهدف إلى تضمينها بالإكراه في (جبل الرب يرى).
    * * *
    محاولة أخرى لإقحام جبل (يهوة يِرأة) في فلسطين لجأ أصحابها إلى تبني مزاعم طائفة يهودية منبوذة من سائر اليهود، وهم السامريين، في أن جبل (الرب يرى) هو جبل (جرزيم) المقدس لدى هذه الطائفة والكائن بجنوب نابلس، ونموذج تلك المحاولة هو ما قام به شخص متخصص في اللاهوت الدفاعي معروف على الشبكة باسم (الدكتور هولي بايبل) حيث ذكر، على استحياء، ما يقوله طائفة السامريين من أن جبل جرزيم، هو جبل (يهوة يِرأة)، بل ووجد لسخافته متسع ليضيف بأن كلمة جرزيم تعني (الرؤيا) لتكتمل له مقارنتها بكلمة (الرب يرى).
    وهي محاولة لا تصدر عن صدق مع النفس، إذ تتنكر، بغرض تكتيكي، لهيكل سليمان المعتمد كهيكل مقدس على مستوى العهد القديم والجديد على حد سواء، بخلاف هيكل يهود السامرة (المزعوم والموجود على جبل جرزيم)، لكن رغم ذلك، ورغم أن تلك الطائفة منبوذة وملعونة من سائر اليهود، إلا أن ادعائهم بأن جبل جرزيم هو جبل (يهوة يِرأة) قد لقي ما يشبه الترحيب عند صاحبنا (دكتور هولي بايبل)، أساسه الشعور بضرورة وجود مخرج بأي شكل من الأشكال، بحيث يرتمي في أي مكان في فلسطين يشار إليه كـ(بيت الرب) أو جبل العهد. وهو نموذج مسيحي متكرر لتزييف الحقائق لحساب المعتقد الموروث، حتى أن هذه الجرأة قد انتقلت عند صاحبنا من مجال الأفكار إلى مجال اللغة وأسماء الأعلام أيضا، فذكر أن معنى كلمة (جرزيم) هو (الرؤيا)، وذلك لتأكيد مزاعم لا أصل لها.
    جبل (جرزيم) ليس هو جبل (الرب يرى)، ببساطة، لأن اسمه ليس جبل (الرب يرى)، وليس لاسم جرزيم أي علاقة بمعنى "الرؤيا" كما يزعم هذا الرجل، بل يعود، مثله مثل (أرض الموريّا)، إلى أقدم الشعوب في المنطقة، وهم الجرزيين، وهم معروفين حتى في الكتاب المقدس بنفس هذا الإسم أيضا: "وَانْطَلَقَ دَاوُدُ وَرِجَالُهُ يَشُنُّونَ الْغَارَاتِ عَلَى الْجَشُورِيِّينَ وَالْجَرِزِّيِّينَ وَالْعَمَالِقَةِ الَّذِينَ اسْتَوْطَنُوا مِنْ قَدِيمٍ الأَرْضَ الْمُمْتَدَّةَ مِنْ حُدُودِ شُورٍ إِلَى تُخُومِ مِصْرَ." (صمويل أول 27/8)، والمطابقة بين "جرزيم" و"جرزيين" ستتضح حين نحذف الزائدة (ـيم) من كلمة "جرزيم"، والدالة على الجمع في العبرية، والزائدة (ـين) من "جرزيين"، الدالة على الجمع في العربية، فيتضح أنهما كلمة واحدة.
    وقلة يهود السامرة من الناحية العددية تُبقي ادعائهم باحتكار معرفة مكان "جبل الرب" تحت وصف الادعاء، إذ لا يعقل أن يتفردوا دون سبب معقول بمعرفة مكان يخص جميع بني إسرائيل هو مكان واقعة العهد، وليس سوى خلط متعمد بين تلك الواقعة وبين واقعة أخرى ليس له أي علاقة به، ملخصها أن يشوع لما خلف موسى في قيادة بني إسرائيل، وسار بهم نحو الأردن، ومر على مدينة عاي، ودمرها تماما، وبنى مذبحا ثم جمع بني إسرائيل إلى فئتين نصفين وقف الأول إلى جهة جبل جرزيم، ووقف الآخر إلى جهة جبل عيبال، بحيث يشهد من على جبل جرزيم على لمباركة الشعب، ويشهد من على جبل عيبال على الأفعال الملعونة، وإليكم النص الذي وردت فيه قصة جبل جرزيم:
    "هَذِهِ هِيَ الأَسْبَاطُ الَّتِي تَقِفُ عَلَى جَبَلِ جِرِزِّيمَ لِيُبَارِكُوا الشَّعْبَ بَعْدَ عُبُورِكُمْ نَهْرَ الأُرْدُنِّ: أَسْبَاطُ شِمْعُونَ وَلاَوِي وَيَهُوذَا وَيَسَّاكَرَ وَيُوسُفَ وَبَنْيَامِينَ. 13أَمَّا الأَسْبَاطُ الَّتِي تَقِفُ عَلَى جَبَلِ عِيبَالَ لإِعْلاَنِ اللَّعْنَةِ فَهِيَ أَسْبَاطُ رَأُوبَيْنَ وَجَادٍ وَأَشِيرَ وَزَبُولُونَ وَدَانٍ وَنَفْتَالِي. 14 فَيَقُولُ اللاَّوِيُّونَ بِصَوْتٍ عَالٍ لِجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ 15مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي يَصْنَعُ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً أَوْ مَسْبُوكاً مِمَّا تَصْنَعُهُ يَدَا نَحَّاتٍ، وَتَنْصِبُهُ لِلْعِبَادَةِ فِي الْخَفَاءِ، لأَنَّ ذَلِكَ رِجْسٌ لَدَى الرَّبِّ. وَيُجِيبُ جَمِيعُ الشَّعْبِ قَائِلِينَ: آمِينَ. 16مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يَسْتَخِفُّ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين. 17مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يَعْبَثُ بِحُدُودِ أَرْضِ جَارِهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين. 18مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يُضِلُّ الْكَفِيفَ عَنْ طَرِيقِهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين.19مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يَجُورُ عَلَى حَقِّ الْغَرِيبِ وَالْيَتِيمِ وَالأَرْمَلَةِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين. 20مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يُضَاجِعُ امْرَأَةَ أَبِيهِ، لأَنَّهُ يَكْشِفُ سِتْرَ أَبِيهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين.21مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يُضَاجِعُ بَهِيمَةً مَا. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين. 22مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يُضَاجِعُ أُخْتَهُ ابْنَةَ أُمِّهِ أَوِ ابْنَةَ أَبِيهِ. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين. 23 مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يُضَاجِعُ حَمَاتَهُ. فَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين. 24مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُ صَاحِبَهُ فِي الْخَفَاءِ. فَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين. 25 مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ يَأْخُذُ رِشْوَةً لِيَقْتُلَ نَفْساً بَرِيئَةً. فَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين. 26 مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يُطِيعُ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا. فَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ: آمِين. "
    فارتبط جبل جرزيم بالبركة، وتلك قصته ليس فيها ما يشير إلى واقعة الفداء والعهد.
    أما تأكيد يهود السامرة، دون سائر اليهود، أنهم على علم بمكان جبل العهد، وأن قبلتهم المقدسة هي ذلك الجبل، وأنهم على دراية تامة حتى بمكان صخرة الفداء نفسها، هذا التأكيد لا يفهم إلا من خلال وضعهم كأقلية تحاول التماس صلة بينهم وبين أصل وجودهم من الناحية الدينية، ليس من المصادفة أن يكون يهود السامرة هم أكثر فئات اليهود عزلة، وأكثرهم يقينا وادعاء بارتباطهم بجبل العهد، ألا يدعي اليهود المعاصرين أنهم بناة الأهرامات؟ يهود السامرة مارسوا نفس الحيلة داخل الإطار اليهودي ذاته.
    * * *
    بعض وجهات النظر الحذرة تتخفف من عبء تعيين مكان جبل العهد على أرض الموريّا، وتكتفي بنفي وجوده في مكان آخر خارج تلك البقعة، والمقصود طبعا من هذا (المكان الآخر): مكة، وتستند وجهة النظر تلك إلى أن النص واضح في دلالته على أرض الموريّا، فهو يدل عليها ولو لم تستقر الآراء على موضع الواقعة تحديدا. وهذا مصادرة، لأن خلو أرض الموريّا من مكان معروف كأهم نقطة في حياة إبراهيم، يجعل وجود اسم الموريّا في النص موضع تساؤل، ويسلب منها صلاحيتها كدليل، خاصة وأن تلك الكلمة ليست موضع إجماع من جميع الترجمات، بل لقد حلت محلها في الترجمة السامرية كلمة أخرى هي (الأرض المرشدة)، وإليكم نص الترجمة السامرية:
    "1وكان بعد الخطوب هذه، امتحن الله إبراهيم، وقال له يا إبراهيم، فقال لبيك، 2فقال خذ الآن إبنك خصيصك الذي أحببت إسحاق، وسر ذاهبا إلى الأرض المرشدة، وأصعده هناك صعيدة على أخص الجبال، الذي قلت لك" (تكوين22/1-2) (التوراة السامرية، ترجمة الكاهن أبو إسحاق الصوري).
    واستخدام السامرية لكلمة (الأرض المرشدة) ليس فقط ينفي الإجماع على كلمة (أرض الموريّا)، ويضعها موضع التساؤل، بل يدل كذلك على (مكة) باعتبار أن المصادفة وحدها لا تفسر التقارب الواضح دلاليا بين كلمة (الأرض المرشدة) وبين أحد أسماء مكة في القرآن وهو: (أم القرى)، والأم والإمامة في العربية من جذر واحد تدور معانيه حول معنى القيادة والإرشاد. طبعا ستضاف الترجمة السامرية إلى مجموعة النصوص التي يفترض أن النبي كان يعرفها حين كتب القرآن، أو ربما سيكتفي عقلاؤهم بإدراج ذلك التشابه في تلك القائمة الطويلة من "المصادفات" المتعلقة بظهور الإسلام.
    انقطاع الصلة الزمانية بين الله وبين أهل الكتاب
    تحديد الشاهد الزماني على واقعة الفداء والعهد، أي يوم الواقعة، مستحيل أيضا على أهل الكتاب، ليس هذا اليوم تحديدا، بل أصل الصلة الزمانية بين الله وبين أهل الكتاب مقطوعة تماما، بحيث أن ما يفترضونه من يوم الفداء (عهد الله مع إبراهيم) والذي يفترض البعض بأنه يوم (روش هشناه)، أو (رأس السنة)، وما ارتبط به من شواهد فرعية مثل يوم الفصح (تجديد العهد بإخراج بني إسرائيل من مصر)، ويوم الغفران (تجديد العهد بغفران الله لبني إسرائيل عبادتهم للعجل)، وما أضيف إلى تلك الأيام في المسيحية من يوم القيامة (رفع المسيح إلى السماء، وما يعتبرونه قيامه من بين الأموات)، هذه الأيام ليست هي نفس الأيام التي يعتبرها الله في الزمان كشواهد زمنية دالة على الأفعال الإلهية المذكورة.
    وأساس القول بانقطاع الصلة الزمنية بين أهل الكتاب وبين الله هو تخليهم عن مبدأ التشارك الضروري مع الله في تعيين الشواهد الزمنية للعهد، ذلك التشارك الذي يعود أساسا إلى طبيعة العهد نفسه والتي تفترض طرفين يشهدان معا موضوعا مشتركا بينهما ومتعلقا بموضوع العهد، ويكون في شهود ذلك الموضوع المشترك إعلانا باستمرار العهد.
    ومعنى التشارك مع الله في رؤية الزمان هو التزام مبدأ معين تنتظم فيه الأيام بشكل دوري بحيث يمكن إلحاق معنى معين بيوم معين، ثم مثول هذا اليوم بشكل دوري أمام الله والإنسان بحيث أن هذا المثول الدوري يكون أمام الله والإنسان في زمان واحد.
    وينفي معنى التشارك الزماني مع الله تماما أن يعتمد الإنسان على نظام في حساب دوران الأيام يختلف عما كان مقصودا من الله عند إلحاقه ذلك المعنى المشهود بذلك اليوم المشهود وتهيئته لمثوله المشترك أمام الله والإنسان.
    فمثلا: لو ألحق الله سبحانه معنى معين هو عهده مع الإنسان في يوم ما، وعينه الله تعالى في موضعه من الأيام بحسب نظام القمر، وهو الأول من محرم، أي اليوم الأول من السنة القمرية، وكان قد اتفق أن هذا اليوم يوافق الأول من السنة الشمسية أي الأول من يناير، فلو اعتمد الإنسان نظام دورة الشمس لتعيين ذلك اليوم سنويا، واعتبر، دون تصريح من الله، أن هذا المعنى المشهود ألحق بذلك اليوم لأجل مكانه من دورة الأيام بحسب نظام الشمس، وكان الله سبحانه قد ألحق هذا المعنى بذلك اليوم لأجل مكانه من دورة الأيام بحسب نظام القمر، فإن ما يحدث، كنتيجة لاستقلال الإنسان عن الله بتعيين نظام الأيام كإطار للمعنى المشهود، هو أن اليوم الذي يشهده الله في العام المقبل وبتخذ له تدابير معينة خاصة بذلك الشهود، سيكون هو الأول من محرم (مثلا)، وأن اليوم الذي يشهده الإنسان في العام المقبل كعلامة لنفس العهد أيضا، بحسب قصده، ويتخذ له تدابير معينة خاصة بذلك الشهود، سيكون هو الأول من يناير.
    ولكن في هذا العام لن يكون الأول من محرم هو نفسه الأول من يناير، بل سيكون هناك يومان مختلفان بينهما مسافة زمنية هي أحدى عشر يوما، هي الفرق بين النظامين الشمسي والقمري، وسيكتفي الإنسان بأن يشهد وحده شاهدا مزيفا على ما كان بينه وبين الله من عهد، بعد أن ضرب بعرض الحائط مبدأ ضرورة التوافق مع الله في حساب الأيام، أما الله سبحانه فسيشهد اليوم الحقيقي لعهده مع الإنسان وقد أعرض الإنسان عن ذلك اليوم، أي سيختفي مبدأ التشارك في الشاهد، ذلك التشارك الذي هو أساس فكرة العهد وفكرة الشاهد.
    وإن كنا قد علمنا أن الله قد ألزمنا باعتماد النظام القمري في حساب الأيام، "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ" (التوبة:36)، فليكن معلوما لنا أن الله قد ألزم أهل الكتاب أيضا بذلك، والنص التالي واضح الدلالة بهذا الشأن: "والقمر بجميع أحواله الموقتة هو نبا الازمنة و علامة الدهر 7 من القمر علامة العيد هو نير ينقص عند التمام 8 باسمه سمي الشهر و في تغيره يزداد زيادة عجيبة"(سيراخ43/5-8)، والنص التالي أيضا: "صنع القمر للمواقيت الشمس تعرف مغربها"(مزمور104/19)، وأيضا: "وخاطب الرب موسى وهرون في أرض مصر قائلا منذ الآن يكون لكم هذا الشهر رأس الشهور وأول شهور السنة" (الخروج12/1-2). وهو ما كان معمولا به لدى اليهود في الشام حتى القرن الأول الميلادي، وظل معمولا به لدى يهود الجزيرة حتى ظهور الإسلام.
    * * *
    في هذا المقام قد نسمع قصائد غزلية في النظام الشمسي وضرورة اعتماده، ولا شك أن النظام الشمسي يصلح لترتيب الأحداث ورصد وقائع التاريخ، بل وأي نظام لحساب الأيام يصلح لهذا الغرض طالما كان ثابتا ومتفقا عليه في مجموعة ما، لكن الأمر في موضوع الشاهد على العهد ليس في رصد الواقعة من الناحية التاريخية، بل الوفاق بين طرفين العهد في شهود ذلك الشاهد كتعبير عن الالتزام تجاهه.
    بمعنى أن مبدأ التشارك ينتفي بمجرد الاختلاف نظام الأيام، وحتى دون سماع وجهة نظر الإنسان في النظام البديل، لأن الشهود لا يتحقق بقناعة الإنسان بنظام قد اقترحه بمعزل عن الله، ولكن يتحقق بالتزام إرادة الطرف الأعلى في العهد والذي هو الله. الإنسان حين يعمد إلى نظام تقويمي غير متفق عليه مع الله بدعوى أنه نظام مناسب هو كجحا حين عمد إلى البحث عن ضالته في مكان منير رغم أنها ضاعت منه في المكان المظلم بحجة أنه مكان مناسب للبحث.
    ورغم ذلك، فالنظام القمري ليس بحثا في الظلام، لكننا نقطع بهذا المثال الطريق أمام تبرير الاختلاف مع الله في رؤيته للأيام. بل هو أكثر دقة ومناسبة لغرض تعيين يوم معين في شهر معين في سنة ما، إذ يتحدد فيه أول الشهر وآخره وموضع كل يوم فيه فلكيا وبصورة ظاهرة علامتها شكل القمر، في حين أن الحساب الشمسي لا يتحدد فيه فلكيا سوى عدد أيام السنة، أما ما سوى ذلك من بداية السنة وعدد الشهور فيها وعدد أيام كل شهر وأول كل شهر وآخره، فمتروك للاصطلاح البشري لخلوه من أي أساس فلكي، وتصلح له كل الاحتمالات طالما كان ناتج جمع كل الشهور مساويا للعدد الإجمالي لأيام السنة، وسبب الاختلاف بين تقويم شمسي وآخر هو في درجة الدقة في تعيين عدد أيام السنة، ثم في طريقة تقسيم تلك الأيام داخليا، ثم في تحديد نقطة البداية لها، وعادة ما يكون لهذا الوضع أساس وثني أو أساس سياسي، فبعض الأباطرة مثلا قبل استقرار أحوال التقويم، كان يجعل الشهر المسمي باسمه هو من الشهور الكبيرة في العدد، وهكذا. أما سبب اتفاق معظم التقويمات الشمسية على عدد اثنا عشر للشهور فيعود إلى الشهر القمري الذي يتكرر كل اثنا عشر مرة في كل دورة شمسية، أو أن فكرة العام في النظام القمري مأخوذة من أن كل اثني عشر شهرا يضمهم تقريبا دورة شمسية واحدة.
    * * *
    ودافع أهل الكتاب للتخلي عن التقويم (القمري/ الإثنى عشري) لحساب التقويم الشمسي هو أكثر قبحا من التخلي نفسه، فإنما كان ذلك بقصد محاكاة الأمم الوثنية التاريخية الكبرى التي اجمعت على اعتماد النظام الشمسي لارتباطه بأمر غير أمر الآخرة هو أمر الزراعة. وهو شيء لا يمت لعهد الله وميثاقه مع الإنسان بصلة.
    وهذا الاستلاب النفسي لأهل الكتاب تجاه الحضارات الوثنية الكبرى، والشعور بالوحدة معهم، هو أمر معلوم لنا من الوحي،
    فقد قال الله تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ" (المائدة/77)، وقال أيضا: "تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ" (المائدة/80)، وأخبر سبحانه أن دعوى البنوة لله عند اليهود والنصارى حين تلبسوا بها أنهم: "يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ" (التوبة/30).
    وما علمناه من الوحي قد وجدناه في التاريخ أيضا، وجدنا نموذج (الحامي الوثني للدين الكتابي) يتكرر في المسيحية واليهودية، قسطنطين ومجمع نيقية ليس سوى نسخة مكررة من الإمبراطور قورش الفارسي الذي أمر، (مع الله) بالبناء الثاني للهيكل (عزرا 6/14) حيث يذكر د. عبد الوهاب المسيري أن مدخل الهيكل هذه المرة كان مرسوما عليه خريطة لمدينة سوسة عاصمة الإمبراطورية الفارسية.
    أما الأستاذ الدكتور "سهيل زكار" فقد تحدث في مقدمته لكتاب "التلمود.. كتاب اليهود المقدس" للدكتور "أحمد أيبش" عن الأصل الفارسي الزرادشتي لكثير من المفردات اليهودية، على مستوى الأسماء مثل: يهوة (معبود الحامية الفارسية في مصر وفلسطين قبل وجود اليهود كأمة)، وكلمة (يهود) التي وجدت منقوشة على فخاريات فارسية قديمة، وكلمة (فريسيين) المشتقة من (فارس)، حتى على مستوى المأثور القصصي حيث يقارن د. زكار بين قصة خداع يعقوب لإسحاق واختلاس البركة منه بدلا من أخيه عيسو الذي كان محبوبا لإسحاق، وبين الأصل الزردشتي لها والذي يتحدث عن احتيال إله الشر (أهرمن) وشق بطن أمه وخرج قبل أخيه إله الخير (أهورمزد) ونال بركة أبيه (زروان) الذي كان يحب (أهورمزد).
    على أن فارس لم تكن وحدها سعيدة الحظ بالتبعية اليهودية، فمنذ إزاحة اليونانيين للفرس بدأ ولاء اليهود لهم في التنامي أيضا، يذكر د. نصراللّه عبدالرحمن أبوطالب في كتابه: "تباشير الإنجيل والتوارة بالإسلام" أن يوشع الكاهن الأكبر قد سعى إلى إلغاء الحكم الذاتي اليهودي بالتوراة في مقابل تمتع اليهود بميزات المدن اليونانية، وحتى أن خليفته مينيلاوس قد أطلق اسم "أنطاكية" (أنتيكوس) على القدس تخليدا لذكرى الإمبراطور اليوناني الذي نصبه، وكان تيار التغريب مستمر ومتصاعد ومستفز لقيام تيار مضاد هو تيار الإسينيين و(الغيورين_الزيلوتس) والمعروفين بحنقهم ومفاصلتهم لسائر اليهود براءة منهم لموالاتهم اليونانيين.
    وإنك تجد الآن مثلا، لو قارنت بين تمجيد بعض المسلمين للفراعنة وبين تمجيد الأقباط لهم، أن تمجيد بعض المسلمين للفراعنة لا يصدر إلا من فئة هامشية من الناحية الدينية، وفي سياقات ليست ذات طبيعة دينية، وأن هذه النزعة تتوارى كلما اقتربت من نقطة الوعي الديني، حيث تختزل الفرعونية فيها بين سوء الفعل وسوء المصير، وحيث يسود معنى بقاء الله بعد فناء مدعو الألوهية. في حين أنك تجد ظاهرة تمجيد الفراعنة عند الأقباط موغلا في العقل القبطي بكافة مستوياته، وبمختلف المظاهر، ودون أي شعور بتعارض هذا التمجيد مع الدافع الديني. بل وجدنا مقاربات بين شكل الصليب وشكل مفتاح الحياة، وبين كلمة (مسيح) وكلمة (تمساح) المعبود الفرعوني، وبين فكرة قيامة المسيح من بين الأموات وبين فكرة قيام الملك الإله بعد الموت وعودته إلى الشمس. حتى على مستوى أسماء الأعلام وجدنا في الأقباط (رمسيس) و(إيزيس) و(أبانوب)؛ "البطل الروماني" هو لقب أحد قديسيهم دمجت فيه الهالة الرومانية بالقداسة الدينية دون خجل.
    قارن أيضا على المستوى العالمي تعايش المسيحية واليهودية مع أفكار ذات أصول إلحادية، مثل فكرة مركزية الإنسان في العالم، ومركزية المرأة عند الإنسان، وذوبان الغرب الملحد مع الغرب المسيحي. في حين أنك تجد ممانعة إسلامية ملحوظة ومستمرة وواعية لكل ما هو غريب عن مفهوم الدين عموما ومفهوم الإسلام خصوصا.
    والذي يعنينا هنا هو مسألة التقويم... فكما ذكرنا، قد أجمعت الحضارات الكبرى على اعتماد التقويم الشمسي، فكان من أهل الكتاب أن تبعوهم في ذلك، وكان ذلك منهم على ضربين: فاليهود أدخلوا زيادات على السنة القمرية لتعويض قصرها عن الشمسية بأحد عشر يوما كل سنة، وذلك أنهم أضافوا شهرا قمريا للسنة الثالثة والسادسة والثامنة والحادية عشر والرابعة عشر والسابعة عشر والتاسعة عشر في دورة زمنية قدرها تسعة عشر عاما، وذلك بقصد الحفاظ على التزامن بين الأعياد المحسوبة قمريا وبين المواسم التابعة للنظام الشمسي.، ولذلك يعينون عيد الفصح مثلا بأنه عند اكتمال القمر الأول بعد الاعتدال الربيعي (20 أو 21مارس).
    وهذه الطريقة فيها مراعاة لوضع اليوم في الشهر، ولكنها تسقط من اعتبارها تماما الطبيعة الإثنى عشرية للعام كما هو عند الله، وهي جزء لا يتجزأ من دورية الأيام حسب نظام القمر، والتي يعرف منها وضع الشهر نفسه في العام، وبالتالي، تعيينه كل عام.
    هذا عن اليهود، أما عن النصارى، فقد تجاوزوا هذا التعقيد، وتخلوا تماما عن التقويم القمري، وتمسكوا تماما بالتقويم الشمسي للأحداث، فكانوا أبعد ضلالا من اليهود في هذا الأمر.
    ولم يقتصر الأمر عند أهل الكتاب على حساب يوم حقيقي بتقويم مزيف بقصد محاكاة الحضارات الوثنية، بل تجاوز ذلك أحيانا إلى تزييف اليوم نفسه أيضا، واعتماد يوم وثني معروف ليكون شاهدا على العهد الإلهي، فيوم الفصح مثلا، والذي يفترض أنه يوم الخروج من مصر، ويوم قيامة المسيح، هو في الحقيقة يوما سنويا يتعادل فيه الليل والنهار إيذانا ببدأ الربيع، في 21مارس، وهو يوم "نيان" الصيني (يحتفل به منذ 17 قرنا قبل الميلاد)، ويوم "النيروز" الفارسي (يحتفل به منذ 20 قرنا قبل الميلاد)، وهو يوم "شمو" المصري (يحتفل به منذ 30 قرنا قبل الميلاد)، فافترضوه علامة شمسية على أحد فاعليات عهد إبراهيم، وهو يوم الخروج من مصر، فكان التقويم مزيفا وكان اليوم الذي يحسب به التقويم مزيفا أيضا.
    * * *
    والذي يمكن استنتاجه في ضوء ما سبق، هو أن الشاهد على واقعة الفداء والعهد عند أهل الكتاب هو إما مجهول أو مختلق، زمانا ومكانا. ما يجعلنا نختبر الافتراض بأن مكان الواقعة الإبراهيمية الأولى ليس في أرض فلسطين أصلا.
    أولا: دائرة اللغة
    استنتاج دلالة كلمة (يهوة يِرأة) على كلمة (عرفات)، وكما هو واضح، ليس من طريق التقارب في مخارج الألفاظ، بل إلى الترادف والتداخل في الاستخدام بين أفعال الإدراك البصري، ومنها فعل الرؤية الذي اشتق منه اسم (يهوة يِرأة) وبين أفعال الإدراك المعنوي ومنها فعل المعرفة الذي اشتق منه "عرفات". فـ"الرأي" هو التصور الذهني المعروف، و"النظرية"، من النظر، هي النسق المعرفي المتكامل، و"البصيرة" النافذة هي المعرفة الثاقبة، وهكذا. قال بن سيدة: الرؤية: النظر بالعين والقلب.
    أيضا في الإنجليزية سنجد أن الفعل seeيعطي معنى المعرفة والفهم في سياقات معينة، " I see" يعبر بها المتكلم عن الفهم والتجاوب وليس الرؤية.
    بالإضافة إلى أن الصيغ المشتقة من فعل الرؤية، والتي وردت في النص التوراتي، في سياق القصة ليست غائبة تماما عن سياق نظيرتها في القرآن، فالنص التوراتي يخبر عن الله وهو "يُري" إبراهيم موضع الذبح: "خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّه، إِسحق، وآمضِ إِلى أَرضِ الموريّا وأَصعِدْه هُناكَ مُحرَقَةً على أَحَدِ الجِبالِ الَّذي أريكَ" ثم يخبر عن أن الله هو من يرى ذبيحته: "وَقَالَ إِسْحَاقُ لإِبْرَاهِيمَ أَبِيهِ: يَا أَبِي. فَقَالَ: هَئَنَذَا يَا ابْنِي. فَقَالَ: هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ وَلَكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي.". كذلك الصيغة القرآنية تتحدث عن "رؤيا" إبراهيم ذبح إبنه، ثم عن طلب إبراهيم من ابنه أن "يرى" رأيه: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى" (الصافات/102) ثم طلبهما معا من الله أن يرياهما كل ما يتعلق بمناسك الحج المرتبطة بواقعة الفداء: "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا" (البقرة128).
    والحقيقة أن الذي يجعلنا نميل إلى تضمين فعل المعرفة بفعل الرؤية الوارد في اسم جبل العهد، وترجيح جبل عرفات كمسمى لـ(الرب يرى)، هي تلك المقاربة التي تفرض نفسها بين وظيفة الجبل كـ"شاهد على العهد"، وبين فعل (الشهود) أو (المشاهدة) هو ثالث المجموعة: (الرؤية.. المعرفة.. المشاهدة)، والتي يتشارك معها في خاصية التداخل بين الأفعال الحسية الخاصة بحاسة البصر، وبين الأفعال المعنوية المتعلقة بالتصورات. حينها يكون بإمكاننا أن نصل إلى تفسير أكثر قبولا ومنطقية وهو ارتباط اسم الجبل بوظيفته بالنسبة للعهد.
    أما عن الاستفسار حول عدم صراحة مدلول كلمة (عرفات) في الدلالة على كلمة (شاهد) أو الكلمة المقابلة لها في النص التوراتي وهي كلمة (الرب يرى)، فهو مطلب يسقط من اعتباره ما يزيد على ألفي عام من تطور اللغة ودلالات الألفاظ، فنحن لا نعرف عن المقطع ( ـات) في نهاية الكلمة، كما لا نعرف على الجانب الآخر إن كان الإسم الوارد في النص قد ورد أصلا بصورته تلك أم أن اجتهادات المترجمين قد عملت فيه عملها، وكل ما يمكننا التأكيد عليه هو أن (عرفات) هو من فعل المعرفة، وأنه هذا الفعل هو من أقرب الأفعال القابلة للتضمين في فعل الرؤية، وأن كليهما ليس على مسافة بعيدة من فعل الشهود التي هي وظيفة الجبل أصلا بحسب النص.
    إننا ببساطة نعيد المعنى للإسم كما نعيد الإسم للمسمى، ولسنا مهتمين حاليا بالجزم أو بالتشكيك إن كان الإنحراف بفعل الرؤية إلى فعل التدبير (الرب يرى= الرب يدبر) في بعض الترجمات هو عمل مقصود لاخفاء جبل عرفات، إلا أن للقارئ أن يلاحظ هذا النص من ترجمة كتاب الحياة وما تضمنه من عبارة تفسيرية بين قوسين: (وَدَعَا إبراهيم اسْمَ ذَلِكَ الْمَكَانِ «يَهْوَهْ يِرْأَه» (وَمَعْنَاهُ: الرَّبُّ يُدَبِّرُ). وَلِذَلِكَ يُقَالُ حَتَّى الْيَوْمِ «فِي جَبَلِ الرَّبِّ الإِلَهِ يُرَى»)، أو الترجمة المشتركة التي أقحمت العبارة التفسيرية داخل النص نفسه: (وسمَّى إبراهيم ذلِكَ المَوضِعَ (الرّبُّ يُدَبِّر). فيُقالُ إلى اليومِ: هذا جبلُ الرّبِّ يدبرّ).
    * * *
    وبالمناسبة.. لفظ القفار أو البراري الوارد في (مزمور68/4_5) والمكتوب بالعبرية: בָּעֲרָבוֹת والمنطوق: "باعرافوه"، لا علاقة له بجبل عرفات، بحسب ما ذهبت إليه بعض الإجتهادات المشكورة وغير الموفقة، أما المعنى الحرفي لكلمة (باعرافو) فهو: (بيت العرب) حيث حذفت التاء من كلمة (بيت) وأبدلت الباء في كلمة (العرب) بالفاء، ومعناه اللغوي: (الصحراء)، وكلمة صحراء معروفة أيضا في الآرمية على نفس النحو، فهي كما يذكر (جواد علي) باعرابية Ba 'Arabaya أو "بيت عرباية" Beth 'Arb'aya وهي تطلق في الكتابات القديمة على ساكني الصحراء عموما من أي جنس. أما مسألة التردد في الترجمات بين كلمة سحاب أو غمام وبين كلمة صحراء أو براري، ومسألة ما إذا كانت كلمة (بيت العرب / باعرافوه / باعرابية) لها مدلول بشاري باعتبار جنس الرسالة المحمدية، أو أنها تتوقف في دلالتها عند حد الإشارة للصحراء، فأنا غير مؤهل بشكل كاف لحل مثل هذه الإشكالات.
    أيضا كلمة (موريا) الواردة في النص كوجهة لإبراهيم ليست لها علاقة بجبل (المروة) على ما ذهبت إليه بعض الاجتهادات المشكورة وغير الموفقة، بل هي منطقة جبلية معروفة غرب الأردن وشرق فلسطين كما ذكرنا، ومقحمة على النص بنفس الدافع الذي أقحمت به كلمة (إسحاق).
    * * *
    ثانيا: دائرة السياق التاريخي
    صحيح أن العلاقة بين المفردات اللفظية، سواء كانت ترادف أو تضمن أو تطابق، لا تصلح وحدها لاستنتاج دلالة نص كتابي معين على مسمى واقعي معين، لكن في الوقت ذاته دعونا لا نذهب بعيدا في هذا الاتجاه لدرجة إلغاء الطبيعة الدلالية للأسماء، صحيح أن المسألة اللغوية ليست كافية، لكنها كذلك ليست معدومة، وإنما هي إشارة ننتقل بها إلى دائرة أكثر ارتباطا بالواقع هي دائرة السياق التاريخي، فنحن حين نتحدث عن ذلك الجبل لا نتحدث عن جبل على كوكب آخر، بل نتحدث عن موضع لا تقوى المصادفة على تبني سياقه الذي يفرض نفسه بحكم المنطق كعنصر مكمل لمسألة اللغة. وأعني بالسياق التاريخي معنى فضفاض للكلمة يسمح بتناول الجغرافيا أيضا وما فيها من تكوين بشري سواء كان لغوي وثقافي وديني. نبي الله إبراهيم هو بداية فردية لأحداث ووقائع حدثت في الزمان والمكان، وجبل عرفات يدخل ضمن ذلك الإطار الذي رسمته تلك الأحداث.
    * * *
    ما نود قوله هو أن جبل عرفات لا يقف هناك وحده، بل يقع في مركب في وسط الجزيرة العربية يحتوي على الكعبة والحجر الأسود وبئر زمزم (وبئر الماء هو أحد العناصر البارزة في النص التوراتي أيضا) وجبلين آخرين هما الصفا والمروة، بالإضافة لجبل عرفات نفسه كجبل يحتفظ لنفسه باسم مرادف للإسم التوراتي وبعنصر الاستمرارية التاريخية الوارد في النص نفسه: "وَلِذَلِكَ يُقَالُ حَتَّى الْيَوْمِ: فِي جَبَلِ الرَّبِّ الإِلَهِ يُرَى"(تكوين22/14).
    يأتي العنصر البشري أيضا ليقدم التناسب بين الرمز والإنسان، حيث نشأت العرب المستعربة، وهم فئة مرتبطة بنبي الله إبراهيم وراثيا من طريق إسماعيل، وروحيا عن طريق شعائر دينية تدور حول تلك العناصر وتختصر الزمان بينهم وبين الوقائع التاريخية الخاصة بها والمتعلقة بنبي الله إبراهيم أيضا، وتتشابه مع طقوس أخرى ظهرت في ذرية إبراهيم الشمالية.
    ثم عنصرا آخر في ذلك (المركب المكي) لجبل عرفات، وهو ظهور رسالة توحيدية وسط هذه المجموعة البشرية التي هي العرب، بعد ما يقرب من ألفين وستمائة عام من حياة نبي الله إبراهيم، في سياق تاريخي مقبول منطقيا أيضا، وهو فشل ذرية إبراهيم من إسحاق في الاستمرار، وما كان يمثله رمزيا من خراب الهيكل، ثم حديث هذه الرسالة الجديدة عن رسالة نبي الله إبراهيم الأولى، وتوقيرها لأنبياء الفرع الآخر: إسحاق ويعقوب ويوسف وداوود وموسى عيسى، باعتبارهم شخصيات جديرة بالاحترام لما كان منها من استفراغ جهد من أجل استمرار الفرع الإسرائيلي دون طائل، كما تولي اهتماما خاصا لجبل عرفات.
    هذا هو سياق جبل عرفات التاريخي بما في ذلك السياق من مواضع ووقائع، وأعتقد أنه سياق يبرر لنا وضعه داخل نطاق الأحداث، والحديث عنه كموضع مقصود بعينه من النص التوراتي.
    وقد يتيسر لنا فيما بعد أن نتناول بالتفصيل تلك المقولات التي تتسكع في الطرقات المظلمة، والتي تحاول "تفكيك المركب المكي" إلى عناصر متفرقة يعود كل منها إلى سبب أرضي طبيعي، تعلمون بالطبع قصة قصي بن كلاب الذي أنشأ الحضارة الإسلامية بدهاء لم تألفه البشرية، ومجموعة المصادفات التي أعانته على ذلك بطريقة أرهقت قانون الصدفة، وذلك النيزك الذي سقط بقرب الكعبة فعبده العرب سكان الكهوف على أنه نازل من السماء، ومجموعة الخبراء في المخطوطات اللغات القديمة الذين أمدوا النبي بكل ما يحتاجه من معلومات واردة بحذافيرها في التوراة والإنجيل، وذلك الانهيار الفجائي للفرس والروم والذي بدا وكأنه بفعل غزوات أصحاب النبي.
    * * *
    ثالثا: دائرة الوحي
    تناولنا جبل عرفات، فيما يخص كونه هو جبل الفداء والعهد، من حيث اللغة، وأشرنا سريعا إلى بعض عناصر خاصة بالسياق التاريخي. والسؤال الآن ليس متعلقا باللغة أو بالتاريخ، بل بالوحي، أي البناء النظري للرسالة الحاضنة لجبل عرفات، هل يطرح التصور الإسلامي مفهوما أكثر تكاملا عن جبل عرفات؟ هل استطاعت تلك الرسالة التي احتضنت ذلك الجبل أن تعيد إليه، أو تعيده إلى، النسق الفكري الأكثر ملائمة لفكرة العهد؟
    احتفاظ الشاهد المكاني بالبعد الزماني له: (عرفة/ عرفات)
    أول ما نلاحظة من علامات التكامل داخل التصور الإسلامي بخصوص جبل عرفات، هو أن ذلك التصور يحتفظ للجبل، كشاهد مكاني، بالبعد الزماني له، وهو يوم عرفة. فهو اليوم الذي يتألق فيه جبل عرفات في أهم مناسك الحج وهو موقف الوقوف بجبل عرفات، مشهد بلغت أهميته أن أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو الحج نفسه: "الحج عرفة".
    لقد تحدثنا عن تفرد المسلمين بالتزام الرؤية الإلهية للأيام حسب النظام القمري، والتي على أساسها تحدد يوم عرفة، غير أن هناك ثغرة في مسألة تعيين يوم عرفة قد أرجأنا الحديث عنها، وهي تلك الفترة بين زمان الرسالة المحمدية وبين زمان واقعة العهد والفداء والتي تبلغ ما يقارب الألفين وستمائة عام، فانقطاع الهداية الإلهية عن العرب فترة ما قبل الرسالة تجعلهم صالحين من الناحية الحقوقية كوسطاء بين الله وبين الفئة المؤمنة التي أنشأتها تلك الرسالة في ما بينهما من عهد. وغير ذلك، فسلوكهم العابث في نظام الأيام يجزم باختلافهم مع الوضع الأول لها، الأمر الذي كان موضع ذم في القرآن: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ" (التوبة/37)، صحيح أن النظام القمري تتميز فيه كل أيام الشهر عن بعضها البعض، لكنه يخلو من علامة لتعيين وضع معين لشهر معين في العام، وعلى ذلك تكون فكرة التعاهد الزمني، وإن كانت تمتلك تقويما صالحا، إلا أنها مفتقدة لعنصر التواتر الذي يعمل به ذلك التقويم نظرا لما قدمناه من اعتبارات.
    فإذا كان الأمر على هذا النحو، فلا بد من مصادقة زمنية جديدة بين الله والإنسان، أو حالة تعود به إلى المصادقة بين الله وإبراهيم على يوم العهد، وإلا يكون العهد، في بعده الزماني، مفتقدا إلى شرط الاتفاق.
    وهذا ما قد كان من الله، إذ أخبر نبيه عنه عن الحالة الزمانية التي يتعاهد مع المسلمين على أساسها، والحديث الثالي له أبلغ الدلالة على ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا. قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة. قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا. قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس البلدة. قلنا: بلى، قال: فبأي يوم هذا. قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم - قال محمد: وأحسبه قال - وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم، فسيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه. فكان محمد إذا ذكره يقول: صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ألا هل بلغت. مرتين". (رواه البخاري).
    ونلاحظ هنا عنصر التأكيد على إشهاد الجماعة المؤمنة على ما قيل، لأنها هي عنصر الضبط بعد هذا التحديد الإلهي عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه".
    والمقصود هنا أن نشير إلى إحكام مسألة العهد في الرسالة المحمدية، وذلك ما تمثل في تكامل البعد الزماني مع البعد المكاني له، والاتساق داخل البعد الزماني نفسه بين الضرورة المنطقية للضبط الإلهي للزمان وبين الوجود الفعلي لهذا الضبط.
    يوم عرفة
    لقد تحدثنا عن دورية الزمان كأساس وشرط لإمكانية احتوائه على نقاط شهود للعهد، لأن معنى الثبات متضمن في العهد، ودورية الزمان تعني عودته بشكل ثابت منتظم.
    وليس في ذهني الآن ما يتعلق بالمعنى المجازي لفكرة عودة الزمان، مثل عودة أيام الرخاء أو عودة أيام المجد إلى آخر تلك المعاني، حيث نعبر بعودة الأيام عن عودة ظروف ووقائع شبيهة بنظيراتها في أيام أخرى، لكن أقصد المعنى الحقيقي لعودة الزمان، حيث تتبع الوقائع الإلهية زمان وجودها لأجل طبيعة معينة في ذلك الزمان متعلقة بتلك الوقائع، وحيث تتبع الوقائع الزمان في دورات تناسبها من حيث موضوعها أيضا، فالزمان يدور بالنسبة لوقائع معينة بشكل أسبوعي، وبالنسبة لوقائع أخرى بشكل شهري، وبالنسبة لوقائع ثالثة بشكل سنوي، وهذا ليس حصرا فالله أعلم بما خلق. يوم الجمعة مثلا، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت عليه الشمس، يوم الجمعة. فيه خلق آدم. وفيه أدخل الجنة. وفيه أخرج منها. ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة." (صحيح مسلم).
    وإننا في حاجة إلا فحص طبيعة الوقائع الخاصة باليوم، وتلك الخاصة بالأسبوع، والخاصة بالشهر، والخاصة بالعام. لكن ما نود قوله هنا، وهو ما يتعلق بيوم عرفة، وهو أنه إذا كانت حقيقة يوم عرفة ذاته من شأنها أن يتعلق بها عهد الله، فإن واقعة الفداء والعهد هي تابعة ليوم عرفة وليس العكس، بحيث أن يوم عرفة محتفظ بسمته تلك حتى قبل إبراهيم، بل يمتد في نشأته إلى يوم العهد مع الإنسان مطلقا، باعتبار أن عهد الله لإبراهيم هو شكل منه، فإن صح هذا، نكون أكثر فهما لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا { قال ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون }" (مسند أحمد / صححه أحمد شاكر).
    * * *
    تعدد مظاهر العهد بين الله والإنسان يعود إلى تعدد صورة الإنسان نفسه، وتغير مظاهر الشواهد على العهد تابع لتغير مظاهر العهد مع الله، وهذا التغير والتعدد في العهود وشواهدها هو أمر مضطرد في كافة الحقائق في العالم، إذ يتغير مظهرها بتغير النسب فيما بينها، لكن يبقى نوع من الارتباط بين الحقائق مهما تباينت أشكالها بقدر ما فيها من معنى مشترك، ومن ذلك، النبوة ويوم عرفة، والفرق بينهم هو فرق ما بين الإنسان والزمان، لكن الله يشهد على عهده ما يشاء ومن يشاء، فقد ذكر عن الأنبياء: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" (النساء/41)، وبذلك نفهم اقتران يوم عرفة بالأنبياء في ذلك الخبر: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك" (صحيح الجامع).
    * * *
    يوم عرفة هو أحد أربعة أشياء أقسم الله بها على نصرة المؤمنين يوم القيامة بالإنتقام من خصومهم في الدنيا طالما كانت خصومتهم لهم في الدنيا هي بسبب إيمانهم، قال تعالى: "وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)" (البروج/1-7). والمشهود في الآية هو يوم عرفة، هذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: "اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره الله لنا، وصلاة الوسطى صلاة العصر" (صحيح الجامع).
    * * *
    معروف أن يوم عاشوراء هو الشاهد على تجدد عهد الله مع بني إسرائيل بإنقاذهم من فرعون: "فيكون هذا فصحا للرب 12ففي هذه الليلة أجتاز في بلاد مصر وأقتل كل بكر فيها من الناس والبهائم وأجري قضاء على كل آلهة المصريين أنا هو الرب 13أما أنتم فإن الدم الذي على بيوتكم المقيمين فيها يكون العلامة التي تميزكم، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا تنزل بكم بلية الهلاك حين أبتلي بها أرض مصر 14ويكون لكم هذا اليوم تذكارا تحتفلون به عيدا للرب، فريضة أبدية تحتفلون به في أجيالكم". (خروج112/11-14)
    ومعروف لنا كمسلمين أن الله قد ضاعف لنا الجزاء مقارنة بأهل الكتاب: "إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس، ومثلكم ومثل اليهود والنصارى، كمثل رجل استعمل عمالا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط، فعملت اليهود، فقال: من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر، فعملت النصارى، ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين، قالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء، قال: هل ظلمتكم من حقكم؟ قالوا: لا، قال: فذاك فضلي أوتيه من شئت" (صحيح البخاري).
    وأثر ذلك في أحكام الجزاء مضطرد، وذلك مستفاد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوم عاشوراء كفارة سنة ، وصوم يوم عرفة كفارة سنتين ، سنة قبلها ماضية وسنة بعدها مستقبلة" (مسلم)، وذلك عملا لقاعدة الجزاء المضاعف بين الأمة المحمدية وبين أهل الكتاب والواردة في الخبر.
    * * *
    "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو يتجلى، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم"
    * * *
    تحليل مشهد الوقوف بعرفة
    لا يزال موقف عرفة يخبر من نفسه عن تكييفات لا تعود إلى الوقائع الخاصة بنبي الله إبراهيم بصلة. فنحن لا نكاد نعثر بين تلك الوقائع على ما نفسر به التكييف الزماني للموقف حيث يراعى فيه ضرورة الجمع بين الليل والنهار، حتى ما يمكن أن نقوله بصدد هذه الضرورة من أنها تقصد إلى إلحاق معنى (اليوم) بمشهد الوقوف، فلا يمنحنا هذا القول أي قدرة على تتبع العلاقة بين معنى (اليوم) وبين واقعة الفداء.
    وأيضا عنصر (الوقوف) نفسه لا يبدو لنا كطريقة للشهود السنوي للمكان بالمعنى الذي نفهم منها استقلال عنصر (المكان) عن عنصر (الوقوف)، بل يبدو كعنصرا داخلا في المشهد ذاته بالمعنى الذي نفهم منه أن الموضوع المشهود هو (المكان/ الإنسان الماثل فيه)، وذلك من حديث يزيد بن شيبان قال: "كنا وقوفا في مكان تباعده من الموقف فأتانا ابن مربع فقال أني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول كونوا على مشاعركم فإنكم اليوم على إرث من إرث إبراهيم" (صحيح ابن ماجة). والمقصود هنا هو الإشارة إلى التلازم بين خبر النبي وحال الجبل.
    وأيضا تكرار معنى (الجمع والتفرق)، في وصف الله لإتيان عرفة وللزوال عنه، ففي الإتيان يقول الله عز وجل: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" (الحج/27)، وفي الزوال يقول الله عز وجل: "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (البقرة/199)، والإفاضة هي الزوال من عرفة، وهي لفظة تختص في لغة العرب بمعنى التفرق والجمع، وذلك بحسب لسان العرب: " الإِفاضةُ: الزَّحْفُ والدَّفْعُ في السير بكثرة، ولا يكون إِلا عن تفرقٍ وجَمْعٍ"، وما قد يعترض به علينا هنا من أن الجمع بعد التفرق أو التفرق بعد الجمع ليست أحكاما شرعية، بل مظاهر حاصلة من التزام تلك الأحكام على المستوى الفردي، فإن كان القصد من هذا الاعتراض هو أن صاحب الشريعة ليس هو صاحب العالم الذي تبدو فيه تلك الشريعة كمظاهر، فليس بيدنا سوى ألا نوليه ذلك الاهتمام الذي يتوقعه منا صاحبه.
    التمييز بين موقف عرفة كرمز وبين جبل عرفات ويوم عرفة كشواهد
    بإمكاننا الاستمرار في البحث حول رمزية موقف عرفة باعتبار باعتبار ما يمثله مكانه وزمانه كشاهد على العهد، غير أن بحثنا سينتهي دون جدوى، لكن بإمكاننا التفكير بطريقة أخرى، فنفترض أن موقف عرفة متعلق لا بحقيقة الشهود، بل بمعنى آخر يطرأ على المكان في حال تلاقيه مع الشاهد الزماني وهو يوم عرفة، طبيعة متميزة عن حقيقة الشهود لاستقلالها بزمان معين، ومرتبطة به في الوقت ذاته لتواطؤ المكان. ونستطيع أن نتقدم أكثر فنقول أن تلك الطبيعة الطارئة يمكن تخمينها من طبيعة السياق الشعائري الذي يكون الجبل أهم عناصره في ذلك اليوم، فنقرر أن موقف عرفة هو رمز بين نسق رمزي، يختلف تماما عن جبل عرفة ويوم عرفة كشاهدين في المكان والزمان، اختلافا يتبع ذلك الاختلاف بين معنى الشاهد ومعنى الرمز عموما.
    وإننا نجد أن ذلك الاختلاف عميقا بحيث نتوقع تغيرا في نتائج البحث بمراعاته، فالرمز هو: نسبة بين حقيقتين تقتصر وظيفة إحداهما في الدلالة على الأخرى بما تحتويه تصويريا من حسيات مقابلة، ومجاله هو الحقائق جميعها من حيث غيابها عن مجال الرمز. أما الشاهد فموضوعه محصور في العهد، وبنيته هي ملابسات العهد الزمانية أو المكانية.
    وأول ما نفيده من هذا التحول من معنى الشهود لمعنى الرمزية، هو إفساح مجال الحقائق التي نتوقع وجود مقابلات رموز الحج فيها، فبدلا من أن تكون هي تلك الوقائع الخاصة بنبي الله إبراهيم، فبمعونة من استقراء الرموز الخاصة بالحج، سنجد أن بعض مناسك الحج تعود إلى حقائق ملكوتية عامة مستقلة عن تلك الوقائع، فإذا كان الطواف بالكعبة يعود إلى رفع إبراهيم لقواعدها مع إسماعيل، فإن المسألة تنتهي بعد ذلك إلى نقطة أبعد من ذلك، إلى البيت المعمور نفسه في السماء السابعة، وفي الأثر أن رجلا قال لعلي رضي الله عنه: "ما البيت المعمور؟" قال: "بيت في السماء يقال له: الضراح وهو بحيال الكعبة من فوقها حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ولا يعودون فيه أبدا" (السلسلة الصحيحة للألباني)، وحيالية البيت المعمور للكعبة هو حقيقة لازمة للبيت المعمور نفسه، فـ"الضراح"، فقد تحدث ابن منظور عن لفظ "الضراح" فقال: "وفي الحديث: الضُّراحُ بيت في السماء حِيالَ الكعبة؛ ويروى الضَّرِيح، وهو البيت المعمور من المُضارَحة، وهي المقابلة والمُضارَعة"
    وأيضا يوم عرفة،، وقد أسلفنا القول بأنه وإن كان يمر في أحد أطواره بعلاقة مع نبي الله إبراهيم، إلا أنه يستقر في النهاية عند حقيقة كونية أخرى هي يوم العهد الإلهي بين الله وبين ذرية آدم.
    وطالما أن مناسك الحج تعود في تفسيرها إلى حقائق كونية عامة، فإنه يسوغ لنا أن نعتقد أن موقف عرفة كذلك مستقل إلى حد بعيد عن واقعة الفداء، ولم يبق لنا سوى أن نحدد مجال تلك الحقائق العامة كي نصل إلى المغزى من ذلك اليوم.
    غير أننا لا نعني من عودة مناسك الحج إلى حقائق كونية مستقلة عن وقائع إبراهيم، أننا نعزل تلك الوقائع عن المسألة، والحقيقة أننا لسنا أصلا في مقام الاختيار بين الوقائع الإبراهيمية وبين الوقائع الكونية، فيوم عرفة ذو طبيعة كونية، لكنه مر على نبي الله إبراهيم، والبيت المعمور ذو طبيعة كونية، ومع ذلك فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم نبي الله إبراهيم في حديث الإسراء والمعراج مسندا ظهره للبيت المعمور: "ثم عرج إلى السماء السابعة. فاستفتح جبريل. فقيل: من هذا ؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل. وقد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا. فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم، مسندا ظهره إلى البيت المعمور. وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه" (صحيح الجامع)، وكل ما هنالك هو أننا نحاذر من الاكتفاء بتلك الوقائع الإبراهيمية المباشرة: السعي/ الطواف/ الوقوف بعرفة/ النحر، فنسيء إلى أنفسنا بعدم النظر في أبعادها الأخرى.
    موضوع الرمزية في مناسك الحج هي الأمة المحمدية من حيث هي وارثة لعهد إبراهيم
    وفكرة الرمز نفسها كما أنها أفسحت لنا مجال النظر، فهي تحدد لنا في ذلك المجال أيضا "حدود النظر" بحيث لا يكون المجال فسيحا لدرجة مربكة، وذلك أن الرمز بشكل عام، يعود، من حيث موضوعه، إلى رائيه (أو فاعله)، فإذا تقرر أن الأمة المحمدية هي الحائزة على النسق الرمزي لمناسك الحج كرؤية (وكفعل)، تقرر أيضا مع ذلك أن موضوع الرمز في مناسك الحج هو الأمة المحمدية، وأن تلك الحقائق الكونية العامة ذات المقابل الرمزي في الحج هي حقائق وجود الأمة المحمدية دون غيرها من الحقائق.
    لكن التواطؤ الزماني والمكاني بين موقف عرفة (الرمز) من جهة وبين يوم عرفة (الشاهد الزماني) وجبل عرفات (الشاهد المكاني)، كما ذكرنا، يدل بوضوح على أنه رغم استقلال فكرة الرمز عن فكرة الشاهد، إلا أن رمزية موقف عرفة تؤول في النهاية لمسألة العهد، أو أن موضوع رمزيتها هو العهد.
    وما نفيده من هذا التواطؤ، هو أن الحقيقة الكونية التي يدل عليها موقف عرفة بما أنها تتعلق بالأمة المحمدية من حيث كونها رمزا، وتتعلق بمسألة العهد بين الله والإنسان من حيث كون ذلك الرمز متواطئ زمانيا ومكانيا مع شاهد العهد، فإنها مرتبطة بالأمة المحمدية من حيث هي وارثة لعهد الله مع الإنسان.
    والصيغة الوحيدة التي يمكن بها التعبير عن وراثة الأمة المحمدية لعهد الله مع الإنسان وشهودها عليه، هي شهود الأمة المحمدية على الناس كافة، وهي حقيقة لا تخرج عن وقائع نبي الله إبراهيم بحال: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" (الحج/78) وخبر في القرآن أيضا يأتي مقترنا بالكعبة كقبلة: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ"(البقرة/143)
    حصر رمزية موقف عرفة في وضعية الشهود الأخروي للأمة المحمدية
    غير أن هناك مبدأ يحكم فكرة الرمزية عموما، ورمزية مناسك الحج خصوصا، وهو مبدأ قد أرجأنا الحديث عنه عمدا إلى هذا الحين، وله الآن الدور الحاسم في إجراء تحديد لهذا المفهوم الفضفاض والذي هو "شهود الأمة المحمدية على الناس كافة"، وأعني به ما لاحظناه من اضطراد سمة (الغياب) للحقائق عند ظهور (رموزها) أو (أمثلتها الحسية)، وكل مناسك الحج تصلح للنظر في هذا المبدأ من خلالها، غير أن أبرزها هو (تغييب) عنصر القتال في الأشهر الحرم لـ (إظهار) مثاله الحسي والذي هو رمي الجمرات، ما جعلنا نفترض أن غياب وقائع نبي الله إبراهيم ليست أمرا عارضا بالنسبة لظهور رموزها في مناسك الحج، بل هي كذلك باعتبارها تحقق شرط التعلق بالأمة المحمدية، وشرط الغياب عنها أيضا باعتبار سبقها للأمة في الزمان.
    واضطراد التلازم في الحقائق بين (الطبيعة الرمزية) وبين حالة (الغياب) تبدو جلية أيضا ليس في تغييب الحقائق لتظهر رموزها، بل في (تبديل الأدوار) بين الرمز والحقيقة الغائبة المعبر عنها، أي مراعاة نسبية مفهوم الغياب في خلق الرمز، فالأمة المحمدية تدرك الحقائق الخاصة بنبي الله إبراهيم كرموز باعتبارها غيبا، كذلك نبي الله إبراهيم يرى الحقائق المتعلقة بالأمة المحمدية كرموز باعتبارها غيبا بالنسبة إليه أيضا، لذلك جاء الأمر بذبح اسماعيل على هيئة "رؤيا"، لأن إسماعيل هو مجرد بداية لأمر لم يتحقق بعد، هو أمر البعثة المحمدية، تماما كما رأى يوسف سجود الشمس والقمر والنجوم في وقت لم يتحقق فيه ذلك بعد؛ ومسألة الصيغة الرمزية للأمر الإلهي لإبراهيم هي إحدى نقاط التفوق القرآني على النصوص التوراتية التي يجعل كاتبوها تماما حتمية تلك الصيغة.
    أما ما نفيده من قاعدة "غياب الحقيقة لظهور مثالها" في تهيئة حقيقة "شهود الأمة المحمدية على عموم الناس" لتصلح كمقابل ليوم عرفة كرمز، فإننا بتلك القاعدة نحصر هذا الشهود العام في المشهد الختامي للعهد والذي هو يوم القيامة، ونستبعد أي علاقة بموقف عرفة بشهود الأمة في الدنيا على الناس.
    خلاصة التحليل السابق.. موقف عرفة تمثيل حسي لموقف الأعراف
    لقد استبدلنا، في محاولتنا تحليل موقف عرفة، بمفهوم الشهود وواقعة الفداء مفهوم الرمز، وبعد هذا التمييز حصرنا مجال الرمزية في الحقائق الخاصة بوجود الأمة المحمدية الفاعلة للرمز، وفي حصر آخر أرجعنا حقائق الأمة المحمدية المتعلقة بمناسك الحج إلى تلك الحقائق الخاصة بالأمة من حيث هي شاهدة على العهد الإلهي، وفي حصر ثالث افترضنا أن تلك النسبة بين موقف عرفة وبين شهود الأمة المحمدية على الناس لا تتعلق إلا بذلك الشهود الأخروي، وأعتقد أنه يسوغ لنا أن نقارن الآن بين موقف عرفة وبين (أهل الأعراف)، وأن نعتبر دون تردد أن ذلك الموقف الشعائري هو مثال حسي لذلك الموقف الأخروي، وأن التشابه اللفظي بين عرفة وعرفات لا تعرف المصادفات إليه سبيلا.
    ولمن لا يعرف موضوع الأعراف، فهو مكان بين الجنة والنار يدور فيه حوار ذكر في القرآن في قوله تعالى: "وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)" (الأعراف/44-51)
    أما ما اقترحه الكثير من المفسرين، أو ما نسب إليهم من أن (أهل الأعراف) هم حالة إيمانية بينية تقع بين أهل الجنة وأهل النار، أو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، إلى آخر ذلك من الكلام، فلا نجد أي حجة تدعمه، بل إننا نشك في نسبة هذا القول إليهم، ونميل إلى أن القول الأكثر وجاهة هو ما يتحدث عن فضلهم وشرفهم وعلو مقامهم على اختلاف التفصيل في ذلك، ومنها قول مجاهد، وقد نسب إليه القول الآخر أيضا: أنهم: "قوم صالحون فقهاء علماء"، وقول للحسن البصري حين قيل له: "هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم"، فضرب على فخذيه ثم قال: "هم قوم جعلهم الله تعالى على تعرف أهل الجنة وأهل النار يميزون البعض من البعض، والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا"، وقول أبي إسحاق الزجاج أنهم: "قوم أنبياء"، وقول القشيري أنهم: "فضلاء المؤمنين والشهداء، فرغوا من شغل أنفسهم، وتفرغوا لمطالعة حال الناس"، وقول أبي حفص الزهراوي أنهم: "عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وهم في كل أمة"، وقد علق أبو جعفر النحاس على قول أبي حفص الزهراوي فقال: " هذا، أي قول الزهراوي، من أحسن ما قيل فيه، فهم على السور بين الجنة والنار"، حتى أن بعض المفسرين مثل العالم البصري أبي مجلز قد ذهب إلى أنهم الملائكة.
    وعلى أي حال فالأسماء لا تحسم المسائل العلمية، لكننا نميل بوثوق إلى ذلك الرأي الذي يدور حول فضل أهل الأعراف وعلو مقامهم، لأن كلمة رجال الموصوفين بها في الآية: "وعلى الأعراف رجال" لا تخرج إلا مخرج المدح، وأيضا فحال فراغهم لشهود الناس لا يناسب موقف المترقب لمصيره، وأيضا فالمعرفة كمال، وقد وصفوا بأنهم يعرفون أهل الجنة وأهل النار بسيماهم، وقد ذكر الرازي أنهم يعرفونهم في الدنيا لأن أهل الأعراف غير مختصين بهذه المعرفة في الآخرة.
    وأيضا.. وهو الأمر الأكثر تعلقا بموضوعنا، فاشتقاق اسم المكان الذي يقفون فيه من صفة معرفتهم لأهل الجنة وأهل النار "وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم"، هذا الاشتقاق يقطع بأنهم ما أوقفوا هذا الموقف إلا لهذا الغرض، وهو موقف الشهود.
    وأيضا فلقد تسمت السورة باسم الأعراف، وموضوعها مناسب لعهد الله مع الإنسان ولشهود ذلك العهد، وهي السورة التي ذكر فيها قول الله عز وجل: "فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَنْ قَالُوا أنا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)" (الأعراف/5-6)، أي سنسأل الشهداء والمشهود عليهم، ثم ذكر فيها قصص الأنبياء مع أقوامهم واحدا بعد الآخر، ثم ذكر فيها قصة موسى مع بني إسرائيل كاملة، وفي أثنائها ذكر الله سبحانه أنه سيغفر للموفون بعهدهم من بني إسرائيل ولمن يتبع النبي محمد المكتوب في التوراة، أي بصفته وارث العهد الإبراهيمي، قال تعالى: "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أخذتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ أنا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157)" (الأعراف/155-157)، وفيها، أي السورة، عوتب فيها بني إسرائيل على نقضهم عهد السبت: "وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)" (الأعراف/163-164)، وفيها ذكرت آية ميثاق الفطرة بعد قصة بني إسرائيل ونقضهم للعهد: "وَإِذْ أخذ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ"(الأعراف/172).
    بل إننا نستطيع أن نخمن سبب شيوع القول ببينية الحالة الإيمانية لأهل الأعراف وأن نرجح أنه خلط قد حدث بين الخبر عنهم في القرآن وبين خبر النبي عن فئة أخرى، هم أقل أهل الإيمان إيمانا، وذلك في حديث: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يقول الله: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجو ه، فيخرجون قد امتحشوا وعادوا حمما، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، أو قال: حمية السيل" (البخاري). والواضح أن هناك اختلاف كبير، رغم وجود إمكانية للخلط، بين فئة ستكون (بين النار والجنة) وبين فئة (ستنتقل من النار إلى الجنة).
    العودة لموقف عرفة من خلال موقف الأعراف
    الإمكانية التفسيرية بين موقف عرفة وبين موقف الأعراف هي إمكانية متبادلة، فإن كنا نفسر كلمة (الأعراف) وما هو مقترن بها من فعل الشهود من خلال موقف عرفة وحيثيته المرتبطة بشاهدي العهد، يوم عرفة وجبل عرفات، فإنه من الميسور لنا أيضا العودة لموقف عرفة لتفسير تلك الخصائص المتروكة والتي عجزنا عن تفسيرها من خلال حقيقة الشهود، فالقصد التشريعي من الجمع بين الليل والنهار في موقف عرفة، قد فسرناه سابقا بأنه قصد إلى إلحاق معنى اليوم بالمشهد، ونستطيع الآن مواصلة الوصل بين موقف عرفة كيوم، وبين (يوم) القيامة، الذي يكون فيه موقف الأعراف.
    أما مظهر الجمع والتفرق في إتيان موقف عرفة وفي الزوال عنه، فهو تمثيل ليوم القيامة من حيث هو يوم اقترنت فيه سمة الجمع بسمة الشهود: "ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ" (هود/103)، ثم جمع الرسل أيضا: "يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" (المائدة/109).
    مناسبة يوم القيامة لفعل الشهود
    وشهود الأمة المحمدية على عموم الناس يوم العرض الأكبر ليس مشهدا شاذا عن الموقف، إذ تبدو فكرة "الشهود" مسيطرة في ذلك اليوم، إن نهاية يوم الحساب هي نهاية عهد الله مع الإنسان، وليس لذلك اليوم أن يمر دون اكتمال فعاليات ذلك العهد، وأهمها شهود الإنسان على نفسه باعتباره الطرف المتلقي للجزاء بحسب العهد، فمن أجل تلك الشهادة كان خلق السماوات والأرض، لدرجة أن الشهادة قد اشتق منها اسم لذلك اليوم، "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ"(هود/103).
    وهذه الشهادة الأخيرة للإنسان على نفسه ليست متداخلة أو عامة أو هيولية، بل محكمة بإحكام التجليات المتعددة للعهد نفسه في الدنيا وتعين موضوعاته وحدوده، بحيث أن كل فعل شهود يوم القيامة إنما هو امتداد لفعل تعاهد كان في الدنيا. بدءا من الإنسان الفرد: "وجائت كل نفس معها سائق وشهيد" (ق/21)، وحتى على مستوى الجسد، قال تعالى: "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون" (النور/24)، ثم الأنبياء مع أقوامهم قال تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا"، و: "إنا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ". "إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ"، وقال: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (هود/18).
    وشهادة عيسى بن مريم أيضا ستكون عنصرا من عناصر المشهد أيضا فبعد أن كان شاهدا على قومه في الدنيا: "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (آل عمران/52)، فإذا هو الآن متمما لشهادته في الآخرة: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" (المائدة/116).
    حتى شهادة الكافرين على أنفسهم: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ" (الأنعام/130).
    أساس فكرة الأمثلة الحسية للحقائق
    تبقى مسألة الترميز نفسها موضوعا للسؤال أو ربما الفضول العلمي، أعني الحديث لا عن مدى النجاح في إحالة موقف عرفة إلى موقف الأعراف، بل عن فكرة الإحالة، أو مبدأ الترميز نفسه.
    الحقيقة أن المقارنة بين الكعبة وبين البيت المعمور، كنقطة بداية للتفكير في مبدأ الرمزية، رغم أنها مقارنة معلومة من النص نفسه، إلا أن الظاهرة بحاجة لـ"مبدأ مفسر" قابل للنظر واستقراء مزيد من الوقائع، وهو المبدأ الذي صاغه الشيخ "رفاعي سرور" في كتابه: "قدر الدعوة" فيما أطلق عليه: "الأمثلة الكونية للحقائق الاعتقادية"، حيث أدرج عدة ظواهر تحت نفس المبدأ، منها التماثل بين المسيح الدجال وبين ابن صياد، والتماثل بين المؤمن والنحلة، والتماثل الوارد في حديث الجرو الذي نبح في بطن أمه: "ضاف ضيف رجلا من بني أسرائيل وفي داره كلبه مجح فقالت الكلبة: والله لا أنبح ضيف أهلي. فعوي جروها في بطنها، قال: قيل ما هذا؟ فأوحي الله إلى رجل منهم: هذا مثل أمة تكون من بعدكم يقهر سفهاؤهم أحلامها" (صحيح مسند أحمد)، والتماثل بين ظاهرة عودة الدواب لأوطانها وبين مفهوم العودة للفطرة.
    وكان هذا المبدأ يندرج عند الشيخ تحت مفهوم أعم هو "مفهوم الإظهار" والذي يحكم علاقة العالم بالأسماء والصفات، حيث تحدث عن تعينات العالم وأنها لا تخرج عن قواعد ذلك قواعد ذلك الإظهار من حيث الأسماء الحسنى، أي أصل قيم الحق والعدل والاحسان والرحمة والخير، أو من حيث أصول الخلق، أي تجليات حقائق التنوع والتوازن والتقابل في العالم.
    وفي كتاب "علامات الساعة.. دراسة تحليلية"، انتقل الشيخ بمفهوم (العلامة) إلى علامات الساعة ليكشف عن أصل العلاقة بين بنية العلامة وبين وما تظهره من حقائق، ومن ثم يكشف عن العلة وراء ترتيب العلامات، وذلك بعد الحديث عن فكرة "علامات الساعة" مطلقا.
    ودافع الغيرة على مبدأ الحق الإسلامي في تفسير العالم هو الأبرز في هذين الكتابين، ويمثلان النموذج الملهم بالنسبة لي رغم ما تفرضه طبيعة التكامل الفكري من ضرورة الاستدراك على مسألة هنا أو هناك دون المساس يحظى بالموافقة من الشيخ في أغلب الأحوال، وهذا ما كان في كتابي "نظرية في الغيبيات" حيث أدمجت مسألة: "الأمثلة الكونية للحقائق الاعتقادية"، في نسق فكري شامل متعلق بالعلة من خلق العالم، وقد نلتقي فيه قريبا إن شاء الله.
    بقلم يحيى رفاعى

  • #2
    الكريم: وليد المسلم
    بارك الله فيك وجزاك الله كل خير.

    تعليق

    مواضيع ذات صلة

    تقليص

    المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
    ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ أسبوع واحد
    ردود 0
    23 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة *اسلامي عزي*
    بواسطة *اسلامي عزي*
     
    ابتدأ بواسطة زين الراكعين, منذ 3 أسابيع
    ردود 0
    24 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة زين الراكعين  
    ابتدأ بواسطة زين الراكعين, 9 مار, 2024, 05:43 م
    ردود 0
    58 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة زين الراكعين  
    ابتدأ بواسطة زين الراكعين, 5 مار, 2024, 10:20 ص
    ردود 3
    45 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة زين الراكعين  
    ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 23 ينا, 2024, 11:53 م
    ردود 0
    18 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة *اسلامي عزي*
    بواسطة *اسلامي عزي*
     
    يعمل...
    X