بقية مبادئ المعاملات والأداب من القرآن العظيم . سلسلة متجددة

تقليص

عن الكاتب

تقليص

Saber Abbas مسلم اكتشف المزيد حول Saber Abbas
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #61
    بسم الله الرحمن الرحيم

    مع الجزء الثلاثون
    (29)
    وبعض آيات من سورة العاديات

    المال ودوره الحقيقي في المعاملات

    إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ – 6 وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ – 7 وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ – 8 أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ – 9 وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ – 10 إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ – 11

    إن الإنسان ليجحد نعمة ربه , وينكر جزيل فضله . ويتمثل كنوده وجحوده في مظاهر شتى تبدو منه أفعالا وأقوالا , فتقوم عليه مقام الشاهد الذي يقرر هذه الحقيقة . وكأنه يشهد على نفسه بها . أو لعله يشهد على نفسه يوم القيامة بالكنود والجحود : ( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ). . يوم ينطق بالحق على نفسه حيث لا جدال ولا إنكار ..


    ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) أي لحب المال وهذه فطرته . وهذا طبعه . ما لم يخالط الإيمان قلبه . فيغير من تصوراته وقيمه وموازينه واهتماماته . ويحيل كنوده وجحوده اعترافا بفضل الله وشكرانا . كما يبدل أثرته وشحه إيثارا ورحمة . ويريه القيم الحقيقية التي تستحق الحرص والتنافس والكد والكدح . وهي قيم أعلى من المال والسلطة والمتاع الحيواني بأعراض الحياة الدنيا...

    إن الإنسان - بغير إيمان - صغير الاهتمامات . ومهما كبرت أطماعه . واشتد طموحه , وتعالت أهدافه , فإنه يظل مرتكسا في حمأة الأرض , مقيدا بحدود العمر , سجينا في سجن الذات . . لا يطلقه ولا يرفعه إلا الاتصال بخالقه ( الله رب العالمين ) الذي يدعوه لدار السلام .

    ******
    إن تحصيل الأموال يتم من خلال العمل وبذلك تتكامل مصالح وإحتياجات البشر ...فالعامل يجتهد في عمله لكي يحصل على المال الذي به يلبي حاجاته من مسكن ومأكل وتلبية حاجات أهله وأولاده.. وبالمثل جميع التخصصات ... فالكل يسعى للحصول على المال ليعيش كريما بين الناس.. وهذا أمر شرعي لكل إنسان ذو قوة وموهبة من الله تعالى ..

    قال تعالى في سورة الملك :

    هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ – 15

    أي: هو الذي سخر لكم الأرض وذللها، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم، من غرس وبناء وحرث، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة ، ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾ أي : لطلب الرزق والمكاسب.

    وقال تعالى في سورة هود :

    ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا

    أي: طلب منكم إعمارها، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون ثرواتها فيما يسعدكم في الدنيا ويكون سبيلا لإسعادكم في الأخرة...

    وفي الحديث الشريف :

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أكل أحد طعاما قط ، خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده
    الراوي: المقدام بن معد يكرب - المصدر: صحيح البخاري -
    خلاصة حكم المحدث: صحيح




    ******
    المال ضروري في جميع معاملات الإنسان

    ولذلك أمرنا الله تعالى بالحفاظ عليه وعدم إهداره وتبذيره, وفي نفس الوقت عدم البخل به , وبذله في مشاريع الخير التي تعود على الإنسانية...

    قال تعالى في سورة الإسراء :

    وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا – 26 إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا – 27 وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا – 28
    وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا – 29
    إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا – 30

    ****

    فالمؤمن يتعامل مع المال بتوازن ويعلم أنه وسيلة وليس هدفا..

    قال تعالى في سورة الفرقان :

    وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً - 67

    والذين إذا أنفقوا من أموالهم لم يتجاوزوا الحد في العطاء، ولم يضيِّقوا في النفقة، وكان إنفاقهم وسطًا بين التبذير والتضييق...

    ******

    أما في حالة طغيان الحب للمال بحيث يصبح هدف وليس وسيلة - فيدمر حياة الإنسان ويحطم نفسيته ولا يقنع ولو ملك الأرض جميعا..

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
    لو أن ابن آدم أعطي واديا ملأى من ذهب أحب إليه ثانيا ، ولو أعطي ثانيا أحب إليه ثالثا ، ولا يسد جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب...
    الراوي: سهل بن سعد الساعدي - المصدر: صحيح البخاري
    خلاصة حكم المحدث: صحيح


    وهناك نماذج ممن جمع المال فكان وبالا عليه في الدنيا والأخرة..ومن هذه النماذج ( قارون ) و ( فرعون ) ومن النماذج الحديثة ما يعرفه الجميع - زالوا وزالت أموالهم فلم تنفعهم الأموال الطائلة بل كانت وبالا عليهم...


    ومن ثم تجيء اللفتة الأخيرة في السورة لعلاج الكنود والجحود والأثرة والشح , لتحطيم قيد النفس وإطلاقها منه . مع عرض مشهد البعث والحشر في صورة تنسي حب الخير , وتوقظ من غفلة البطر...

    أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ – 9وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ – 10 إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ – 11

    وهو مشهد عنيف مثير . بعثرة لما في القبور ...وتحصيل لأسرار الصدور التي ضنت بها وخبأتها بعيدا عن العيون .


    إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ– 11


    *******

    وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

    تعليق


    • #62

      بسم الله الرحمن الرحيم

      مع الجزء الثلاثون
      (30)
      وبعض آيات من سورة القارعة

      ميزان العدل يوم القيامة
      وأثره في المعاملات


      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
      أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي ، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا . فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته . فإن فنيت حسناته ، قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه . ثم طرح في النار
      الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم
      خلاصة حكم المحدث: صحيح


      جميع المعاملات تسطر صفحات الإنسان يوم القيامة حتى الكلمات التي يتكلمها الإنسان دون أن يدري لها بالا..

      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
      إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ، لا يلقي لها بالا ، يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ، لا يلقي لها بالا ، يهوي بها في جهنم..
      الراوي: أبو هريرة - المصدر: صحيح البخاري.
      خلاصة حكم المحدث: صحيح


      *******

      فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ – 6 فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ – 7 وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ – 8 فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ – 9 وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ – 10 نَارٌ حَامِيَةٌ - 11

      ( فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) في اعتبار الله وتقويمه ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ). .راضية برضاء الله عليهم , راضية بالنعيم الأبدي الذي لا موت بعده...
      عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ "إذا دخل أهل الجنة - الجنة- ينادي مناد‏:‏ إن لكم أن تحيوا، فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا، فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا، فلا تبأسوا أبداً‏"‏.
      ‏(‏‏(‏رواه مسلم‏)‏‏)‏‏.‏

      وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن في الجنة سوقاً يأتونها كل جمعة‏.‏ فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم، وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم‏:‏ والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً‏!‏ فيقولون‏:‏ وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً‏!........... .
      ‏‏"‏ ‏(‏‏(‏رواه مسلم‏)‏‏)‏‏.‏

      وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة‏:‏ يا أهل الجنة، فيقولون ‏:‏ لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك فيقول‏:‏ هل رضيتم‏ ؟‏
      فيقولون‏:‏ وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا مالم تعط أحداً من خلقك‏!‏
      فيقول‏:‏ ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون‏:‏ وأي شيء أفضل من ذلك‏؟‏
      فيقول‏:‏ أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا.

      متفق عليه‏)‏‏)‏‏.‏

      *******

      ( وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) في اعتبار الله وتقويمه ( فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ) والأم هي مرجع الطفل وملاذه . فمرجع القوم وملاذهم يومئذ هو الهاوية
      وما أدراك ما هيه ؟؟
      سؤال التجهيل والتهويل المعهود في القرآن , لإخراج الأمر عن حدود التصور وحيز الإدراك...
      ثم يجيء الجواب
      نَارٌ حَامِيَةٌ - 11

      هذه هي أم الذي خفت موازينه ! أمه التي يفيء إليها ويأوي...والأم عندها الأمن والراحة . فماذا هو واجد عند أمه هذه - الهاوية النار الحامية...
      أعاذنا الله وإياكم وسائر المؤمنين...

      *****

      هل أدركنا أهمية الحسنات التي يحصلها الإنسان المؤمن ..؟؟

      وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الأمر.

      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

      كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم.
      الراوي : أبو هريرة - المصدر: صحيح البخاري
      خلاصة حكم المحدث: صحيح


      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

      من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة ، والحسنة بعشرة أمثالها ، لا أقول الم حرف ، ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف...
      الراوي : عبدالله بن مسعود
      المصدر : الأحكام الصغرى - صحيح الإسناد


      وقال تعالى في أخر سورة هود :

      وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ – 114 وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ – 115

      ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾

      أي: فهذه الصلوات الخمس، وما ألحق بها من التطوعات من أكبر الحسنات، وهي: مع أنها حسنات تقرب إلى الله، وتوجب الثواب، فإنها تذهب السيئات وتمحوها، والمراد بذلك : الصغائر، كما قيدتها الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"، بل كما قيدتها الآية التي في سورة النساء، وهي قوله تعالى :

      ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾

      وهكذا فإن جميع معاملات المؤمن تنضبط إذا وضع نصب عينيه صحيفته والميزان ...

      ففي الحديث القدسي الذي رواه مسلم يقول الله تعالى :

      يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

      ******

      فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ – 6 فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ – 7 وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ – 8 فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ – 9 وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ – 10 نَارٌ حَامِيَةٌ - 11

      ******

      وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

      تعليق


      • #63
        بسم الله الرحمن الرحيم

        مع الجزء الثلاثون
        (31)
        وبعض آيات من سورة التكاثر


        علم اليقين


        أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ – 1 حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ – 2 كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ – 3 ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ – 4 كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ – 5 لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ – 6 ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ – 7 ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ – 8

        *******

        تحدثنا في اللقاء السابق عن ميزان العدل يوم القيامة وأثر الإيمان به في معاملات الإنسان...ولكن هناك فئة من البشر لا يؤمنون بذلك اليوم.

        يقول تعالى موبخًا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته وحده لا شريك له ، ومعرفته ، والإنابة إليه ، وتقديم محبته على كل شيء :

        ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ ولم يذكر المتكاثر به، ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون، ويفتخر به المفتخرون، من التكاثر في الأموال، والأولاد، والأنصار، والجنود، والخدم، والجاه، وغير ذلك من الأعراض..

        فاستمرت غفلتكم وتشاغلكم ﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ فانكشف لكم حينئذ الغطاء ، ولكن بعد ما تعذر عليكم استئنافه.


        قال تعالى في سورة ق :
        وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ – 19 وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ – 20 وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ – 21 لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ – 22

        أي ﴿ وَجَاءَتْ ﴾ هذا الغافل المكذب بآيات الله ﴿ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ﴾ الذي لا مرد له ولا مناص، ﴿ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ أي: تتأخر وتنكص عنه.
        ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴾ أي : اليوم الذي يلحق الظالمين ما أوعدهم الله به من العقاب، والمؤمنين ما وعدهم به من الثواب.

        ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ ﴾ يسوقها إلى موقف القيامة، فلا يمكنها أن تتأخر عنه ، ﴿ وَشَهِيدٌ ﴾ يشهد عليها بأعمالها، خيرها وشرها، وهذا يدل على اعتناء الله بالعباد، وحفظه لأعمالهم ، ومجازاته لهم بالعدل .

        فهذا الأمر، مما يجب أن يجعله العبد منه على بال...
        ولكن أكثر الناس غافلون، ولهذا قال : ﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ﴾ أي : يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا الكلام ، توبيخًا ، ولومًا وتعنيفًا أي: لقد كنت مكذبًا بهذا، تاركًا للعمل له فالآن ﴿ كشفنا عَنْكَ غِطَاءَكَ ﴾ الذي غطى قلبك ، فكثر نومك ، واستمر إعراضك ، ﴿ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ ينظر ما يزعجه ويروعه، من أنواع العذاب والنكال.

        أو هذا خطاب من الله للعبد ، فإنه في الدنيا ، في غفلة عما خلق له ، ولكنه يوم القيامة ، ينتبه ..
        ولكنه في وقت لا يمكنه أن يتدارك الفارط ، ولا يستدرك الفائت ، وهذا كله تخويف من الله للعباد ، وترهيب، بذكر ما يكون على المكذبين، في ذلك اليوم العظيم.

        ******

        ودل قوله: ﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ أن البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية ، أن الله سماهم زائرين، ولم يسمهم مقيمين.

        فدل ذلك على البعث والجزاء بالأعمال في دار باقية غير فانية، ولهذا توعدهم بقوله : ﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾ أي: لو تعلمون ما أمامكم علمًا يصل إلى القلوب، لما ألهاكم التكاثر، ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة...

        ولكن عدم العلم الحقيقي ، صيركم إلى ما ترون، ﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾ أي : لتردن القيامة ، فلترون الجحيم التي أعدها الله للكافرين.

        ﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ أي : رؤية بصرية ، كما قال تعالى في سورة الكهف : ﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا -53 ﴾ .
        ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ الذي تنعمتم به في دار الدنيا ، هل قمتم بشكره ، وأديتم حق الله فيه ، ولم تستعينوا به ، على معاصيه ، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل...
        أم اغتررتم به ، ولم تقوموا بشكره ؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله فيعاقبكم على ذلك ، قال تعالى في سورة الأحقاف : ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ - 20 ﴾...

        وقال تعالى في نفس السورة :

        وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ – 34 فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ – 35 الأحقاف

        إن الإيمان باليوم الأخر من ضرورات الإيمان بالله تعالى .. وإن المؤمنون يوقنون باليوم الأخر كأنه واقع أمامهم...

        قال تعالى في أول سورة البقرة :
        وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ – 3

        ﴿ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾

        و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت .. لأن الإيمان باليوم الآخر, أحد أركان الإيمان... ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل...
        و " اليقين " هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك, الموجب للعمل وفعل الخيرات وتركت المنكرات والباعث الحقيقي لكل المعاملات الصالحة للإنسان..

        *******

        وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

        تعليق


        • #64
          بسم الله الرحمن الرحيم

          مع الجزء الثلاثون
          (32)
          وبعض آيات من سورة العصر


          الإنسان بين الحاضر والمصير


          وَالْعَصْرِ -1 إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ -2 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ -3


          العصر : ويعني الزمان بتوالي الليل والنهار , فهو محل أفعال العباد وأعمالهم...
          ومن هنا ندرك أهمية الوقت في الإسلام ..فالوقت يمثل عمر الإنسان..فإن اليوم يقول للإنسان أنا يوم جديد على عملك شهيد فاغتنمني فإني إذا ذهبت لا أعود إلي يوم القيامة..

          إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار , وامتداد الإنسان في جميع الأدهار , ليس هنالك إلا منهج واحد رابح , وطريق واحد ناج . هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده , وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه ( طريق الإيمان ).. وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار . .

          وبهذا الإعجاز تلخص سورة العصر كل معالم الحياة على وجه الأرض..في ثلاث أيات ..نقف بين أنوارها مدهوشين من أين نبدأ وكيف نأتي بالمجلدات لتفسير تلك المعاني الكبيرة التي تشمل الحياة من أولها إلى أخرها والمصير الذي ينتظر الإنسان يوم القيامة..

          ******

          الإنسان والإيمان

          ولكي ندرك أهمية الإيمان للإنسان يجب عقد مقارنة بين الإنسان المؤمن والإنسان الغير مؤمن...

          1- فالمؤمن واسع الأفق لأنه يؤمن بالله خالق السماوات والأرض
          رب العالمين , فهو لا يستغرب شيئا بعد هذا الإيمان ...

          2 - والمؤمن عزيز النفس فهو يعلم أنه لا ضار ولا نافع إلا هو سبحانه,
          بينما غير المؤمن والمشرك والملحد والكافر يطأطئ رأسه لمخلوق مثله .

          3 - والمؤمن مع عزة نفسه متواضع لأنه يعلم أن الكبرياء لله تعالى وحده, بينما ترى المشرك متكبر بغير الحق ...

          4 - والمؤمن حريص على تزكية نفسه بالصالحات لأنه يعلم أن الإيمان
          ليس بالتمني ولكن بالعمل الصالح , فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
          ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
          بينما الكافر والمشرك يمني نفسه بالأماني الكاذبة ....

          5 - والمؤمن لا يتسرب الى قلبه اليأس فهو يعلم أن الله له ملك السماوات والأرض , فهو يبذل الجهد متوكلا على الله الواحد الذي بيده خزائن السماوات والأرض .
          بينما المشرك والملحد سرعان مايتسرب اليأس إلي قلبه, فتتحطم نفسيته وقد يقدم على الإنتحار ...

          6 - والمؤمن ثابت العزم قوي الإرادة ليقينه بأنه يعتمد على مالك الملك .
          وليس لغير المؤمن والمشرك هذا اليقين ...

          7 - والمؤمن لا يلوث نفسه بالطمع والدناءة وقبيح الأعمال ,
          لأنه يعلم أن الأمر كله لله يرزق من يشاء بغير حساب .
          بينما المشرك والكافر لا يعبأ من أي شئ يحصل على المال .

          8 - والمؤمن يسير حياته وفق شريعة الله التي تحدد له الحلال والحرام
          فهو أمن في الدنيا والأخرة بإذن الله تعالى .
          بينما الغير مؤمن والمشرك منفلت لشهواته ورغباته لا يخاف إلا من الشرطي.
          وبهذه المقارنة السريعة نلاحظ قيمة الإيمان في حياة الإنسان..


          وَالْعَصْرِ -1 إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ -2 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ -3




          إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة . . .
          التعبد لإله واحد , يرفع الإنسان عن العبودية لسواه , ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد , فلا يذل لأحد , ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار . .
          ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان . الانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود . إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد . فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقا ذاتيا , لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد .

          إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني , وتناسقه مع فطرة الكون كله , ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله . فهو يعيش في هذا الكون , وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب .
          ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان , بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق .
          فإذا فقد الإنسان هذا التجاوب أو تعطل , كان هذا بذاته دليلا على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى , وهو هذا الكيان الإنساني . وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا الخسران . ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح ...
          قال تعالى:
          مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ -18 إبراهيم

          يخبر تعالى عن أعمال الكفار التي عملوها: بالرماد، الذي هو أدق الأشياء وأخفها، إذا اشتدت به الريح في يوم عاصف شديد الهبوب، فإنه لا يبقى منه شيئا، ولا يقدر منه على شيء يذهب ويضمحل.....

          والإيمان المطلوب في الإسلام هو المقترن بالعمل الصالح
          وهذا ما نتحدث عنه في اللقاء القادم إن شاء الله تعالى

          ******
          وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

          تعليق


          • #65
            بسم الله الرحمن الرحيم

            مع الجزء الثلاثون
            (33)
            وبعض آيات من سورة العصر


            العمل الصالح
            ثمرة الإيمان


            وَالْعَصْرِ -1 إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ -2 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ -3



            العمل الصالح وهو الثمرة الحقيقية للإيمان , والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب .

            فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة . ما أن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح...

            هذا هو الإيمان الإسلامي . . لا يمكن أن يظل خامدا لا يتحرك , كامنا لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن . . فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت . شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها . فهو ينبعث منها انبعاثا طبيعيا . وإلا فهو غير موجود....

            ومن هنا قيمة الإيمان . . إنه حركة وعمل وبناء وتعمير . . يتجه إلى الله . إنه ليس انكماشا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير . وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء كبرى في صميم الحياة ......

            والمتتبع لآيات القرآن العظيم يلاحظ إقتران الإيمان بالعمل الصالح من أوله إلى أخره ولم يذكر الإيمان مجرد من العمل قط ...
            مما يدلك على أهمية العمل الصالح في الإسلام...وأن الأمر ليس بالأماني..

            قال تعالى في سورة النساء :


            لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا – 123 وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا – 124


            والأماني : أحاديث النفس المجردة عن العمل لا تفيد صاحبها وهذا عامّ في كل أمر، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية...؟؟؟

            فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان ، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه ، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها....

            فمن كان عمله صالحا ، وهو مستقيم في غالب أحواله، وصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والأذى و بعض الآلام في بدنه أو قلبه أو ماله ونحو ذلك - فإنها مكفرات للذنوب...

            ****
            إن الندم يوم القيامة وتمني الرجوع إلى الدنيا يكون من أجل العمل الصالح ...

            قال تعالى في سورة السجدة : وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ– 12


            وهذا الطلب غير مجاب، لأنه قد مضى وقت الإمهال...فالدنيا هي الفرصة الوحيدة أمام الإنسان للعمل الصالح مع الإيمان..

            والصورة المقابلة للمؤمنين ...قال تعالى : فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ– 17


            وفي الحديث الشريف : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
            أفضل الأعمال ( أو العمل ) الصلاة لوقتها ، وبر الوالدين...
            الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 85 خلاصة حكم المحدث: صحيح

            قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
            ما أكل أحد طعاما قط ، خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده...
            الراوي: المقدام بن معد يكرب المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 2072
            خلاصة حكم المحدث: صحيح



            وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم يقول الله تعالى :

            يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

            ******
            ومازلنا مع بعض معاني سورة العصر..

            *******
            وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

            تعليق


            • #66

              بسم الله الرحمن الرحيم

              مع الجزء الثلاثون
              (34)
              وبعض آيات من سورة العصر

              التواصي بالحق والتواصي بالصبر
              وخصائص الأمة


              وَالْعَصْرِ -1 إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ -2 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ -3

              مازلنا في أنوار سورة العصر ويحضرني كلمات للأستاذ الندوي رحمه الله.

              يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ? " . . عن القيادة الإسلامية الخيرة الفذة في التاريخ كله , وتحت عنوان "عهد القيادة الإسلامية "

              الأئمة المسلمون وخصائصهم

              ظهر المسلمون , وتزعموا العالم , وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ,وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا عادلا , وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم , وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم .

              أولا : أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية.

              فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم . لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم , ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء , وقد جعل الله لهم نورا يمشون به في الناس , وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس قال تعالى في سورة الأنعام : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ? - 122 ) وقد قال الله تعالى في السورة المائدة : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط , ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون – 8 ).


              ثانيا : التربية الخلقية وتزكية نفس.

              إرتكزت القيادة الإسلامية على التربية الخلقية وتزكية نفس , بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر , بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإشرافه الدقيق , يزكيهم ويؤدبهم , ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله , وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها .
              قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
              إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله , أو أحدا حرص عليه .

              قال تعالى في سورة القصص : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين – 83 ) . . فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب , فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة , ويزكوا أنفسهم , وينشروا دعاية لها , وينفقوا الأموال سعيا وراءها .

              فإذا تولوا شيئا من أمور الناس لم يعدوه مغنما أو طعمة أو ثمنا لما أنفقوا من مال أو جهد ; بل أعتبروه أمانة في عنقهم , وامتحانا من الله تعالى

              وتذكروا دائما قول الله تعالى في سورة النساء : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها , وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . .- 58

              ثالثا عدم العنصرية.

              إنهم لم يكونوا خدمة جنس , أو شعب , يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده , ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان .
              ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها , ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها , ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم ..
              إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده . كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ومن ضيق الدنيا إلى سعتها , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .

              فالأمم عندهم سواء , والناس عندهم سواء . الناس كلهم من آدم , وآدم من تراب . لا فضل لعربي على عجمي , ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى قالى تعالى في سورة الحجرات : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا , إن أكرمكم عند الله أتقاكم – 13 )....

              في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب - حتى المضطهدة منها في القديم - أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة , وأن تساهم مع العرب في بناء العالم الجديد , بل إن كثيرا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل , وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين . .

              رابعا ضرورة الإيمان للقيادة الحكيمة العادلة.

              إن الإنسان جسم وروح , وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح , لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقيا متزنا عادلا حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نموا متناسبا لائقا بها , ويتغذى غذاء صالحا , ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني .

              وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة , ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية , وأصحاب عقول سليمة راجحة , وعلوم صحيحة نافعة ..
              هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع "سورة العصر" قواعده , وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .

              وَالْعَصْرِ -1 إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ -2 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ -3

              *******
              وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

              تعليق


              • #67

                بسم الله الرحمن الرحيم

                مع الجزء الثلاثون
                (35)
                وبعض آيات من سورة الهمزة

                عبدة المال


                وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ – 1 الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ – 2 يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ – 3 كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ – 4 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ – 5 نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ – 6 الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ – 7 إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ – 8 فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ – 9

                للأسف يعمد فريق من الناس إلى جمع المال ليس لهدف إلا لتكثيره إلى مليارات لا حد لها ليفوق - بهذا الكم الهائل من المال - عمره بمئات الأضعاف وهو يظن أن المال الذي يجمعه يشتري له الخلود في الدنيا..

                وفي المقابل يوجد الاف الفقراء لا يجدون ما يسد جوعهم ودواءهم وتعليمهم..

                ولا يكتفي جامع المال بذلك بل يسخر بالهمز واللمز من الفقراء..
                ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال يعده ويستلذ تعداده .. وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة , تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس وكراماتهم . ولمزهم وهمزهم . . يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته . سواء بحكاية حركاتهم وأصواتهم , أو بتحقير صفاتهم وسماتهم . . بالقول والإشارة . بالغمز واللمز . باللفتة الساخرة والحركة الهازئة ...

                ولكن خالق الكون مطلع على الجميع يسمع ويرى..


                ﴿ وَيْلٌ ﴾ أي : وعيد، ووبال، وشدة عذاب ﴿ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ الذي يهمز الناس بفعله ، ويلمزهم بقوله .

                فالهماز: الذي يعيب الناس، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل،

                واللماز: الذي يعيبهم بقوله.

                ومن صفة هذا الهماز اللماز، أنه لا هم له سوى جمع المال وتعديده والغبطة به..
                وليس له رغبة في إنفاقه في طرق الخيرات وصلة الأرحام، ونحو ذلك،


                ﴿ يَحْسَبُ ﴾ بجهله ﴿ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴾ في الدنيا . وفي الحديث الصحيح : تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ...
                المصدر: مجموع الفتاوى - الصفحة أو الرقم: 28/35

                يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ..

                فلذلك كان كده وسعيه كله في تنمية ماله، الذي يظن أنه ينمي عمره ، ولم يدر أن البخل يقصف الأعمار ، ويخرب الديار، وأن البر يزيد في العمر .

                صورة هذا المتعالي الساخر المستقوي بالمال , تقابلها صورة " المنبوذ " المهمل المتردي في ( الحطمة ) التي تحطم كل ما يلقى إليها , فتحطم كيانه وكبرياءه . وهي ( نار الله الموقدة ) وإضافتها لله وتخصيصها هكذا يوحي بأنها نار فذة , غير معهودة , ويخلع عليها رهبة مفزعة رعيبة .

                ﴿ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ ﴾ أي: ليطرحن ﴿ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ﴾ تعظيم لها، وتهويل لشأنها....

                ثم فسرها بقوله: ﴿ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ﴾ التي وقودها الناس والحجارة ﴿ الَّتِي ﴾ من شدتها ﴿ تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴾ أي : تنفذ من الأجسام إلى القلوب.

                ومع هذه الحرارة البليغة هم محبوسون فيها ، قد أيسوا من الخروج منها ، ولهذا قال: ﴿ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ﴾ أي : مغلقة ﴿ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ﴾ لئلا يخرجوا منها... قال تعالى : ﴿ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا...20 السجدة ﴾ .

                *****

                هل أدركنا أن المال وسيلة لإدارة مصالح الناس ؟ وأنه ليس هدفا في حد ذاته ليجمع ويعدد ويحرم منه الفقراء..

                وإنا لنرى في عناية الله سبحانه بالرد على هذه الصورة معنيين كبيرين:

                الأول : تقبيح الهبوط الأخلاقي وتبشيع هذه الصورة الهابطة من النفوس .
                والثاني : المنافحة عن المؤمنين وحفظ نفوسهم من أن تتسرب إليها مهانة الإهانة , وإشعارهم بأن الله يرى ما يقع عليهم , ويعاقب عليه . .

                وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ – 1 الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ – 2 يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ – 3 كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ – 4 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ – 5 نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ – 6 الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ – 7 إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ – 8 فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ – 9



                ******

                وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

                تعليق


                • #68
                  معك حق ، نحتاج ايضا لعباد المصالح والاهواء وعبيد الاستعمار الاعلامي

                  شكرا جزيلا اخي الكريم Saber Abbas / أ.صابر عباس ...
                  شموس في العالم تتجلى = وأنهار التأمور تتمارى , فقلوب أصلد من حجر = وأنفاس تخنق بالمجرى , مجرى زمان يقبر في مهل = أرواح وحناجر ظمئى , وأفئدة تسامت فتجلت = كشموس تفانت وجلى

                  سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا اله الا انت نستغفرك ونتوب اليك ،،، ولا اله الا انت سبحانك إنا جميعا كنا من الظالمين نستغفرك ونتوب إليك
                  حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ
                  ،،،
                  يكشف عنا الكروب ،، يزيل عنا الخطوب ،، يغفر لنا الذنوب ،، يصلح لنا القلوب ،، يذهب عنا العيوب
                  وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد
                  وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم إنك حميد مجيد
                  عدد ما خلق الله - وملئ ما خلق - وعدد ما في السماوات وما في الأرض وعدد ما احصى كتابه وملئ ما احصى كتابه - وعدد كل شيء وملئ كل شيء
                  وعدد ما كان وعدد ما يكون - وعدد الحركات و السكون - وعدد خلقه وزنة عرشه ومداد كلماته




                  أحمد .. مسلم

                  تعليق


                  • #69

                    بسم الله الرحمن الرحيم

                    مع الجزء الثلاثون
                    (36)
                    وبعض آيات من سورة الفيل

                    مصير المعتدين


                    أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ – 1 أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ – 2 وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ – 3 تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ – 4 فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ – 5


                    قرر أبرهة هدم الكعبة قبلة العرب وبناء بيت في اليمن يحج إليه الناس..
                    ولكن الواقع أن الكعبة هي بيت الله الحرام الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل...وأنه قبلة الإسلام أخر رسالات الله تعالى إلى أهل الأرض..

                    استطاع إبرهة حصار مكة وأخذ أموالهم مستعينا بذلك بجيش كبير وفيل ضخم...

                    قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب ( جد النبي صلى الله عليه وسلم ) أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم . فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه , وأكرمه عن أن يجلسه تحته , وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه . فنزل أبرهة عن سريره , فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه . ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ? فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي .
                    فلما قال ذلك , قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك , ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ! أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ? قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل . وإن للبيت رب سيمنعه .
                    قال أبرهة : ما كان ليمتنع مني . قال عبد المطلب : أنت وذاك ! . . فرد عليه إبله...

                    ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر , وأمرهم بالخروج من مكة , والتحرز في شعف الجبال . ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة , وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه .

                    فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له .
                    فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها , وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا .

                    ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده , فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر , فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة . كما يحكي عنهم القرآن الكريم . . وأصيب أبرهة في جسده ,وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة , حتى قدموا به صنعاء , فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات.... . .

                    *****

                    وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة , فقالوا : خلأت القصواء ...فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خلأت القصواء , وما ذاك لها بخلق , ولكن حبسها حابس الفيل .

                    *******

                    فلله جند من كل شيء ..

                    وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ....


                    وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته .

                    فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت , أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة , فأهلكته وأهلكت قومه , قبل أن يدخل مكة .
                    وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه - حفظا لبيته , حتى يرسل من يحميه بقوة دينه - صلى الله عليه وسلم - ..

                    فقد كان الله - سبحانه - يريد بهذا البيت أمرا . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا ; وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة , في أرض حرة طليقة , لا يهيمن عليها أحد من خارجها , ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال ...

                    *******


                    فالحادث كان معروفا للعرب ومشهورا عندهم , حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل , وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين , وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . .
                    والمشهور أن مولد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة...

                    وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها , إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه , المقصود به ما وراء هذا التذكير ....

                    أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ – 1

                    ثم أكمل القصة بعد هذا المطلع في صورة الاستفهام التقريري كذلك
                    أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ – 2
                    . . أي ألم يضل مكرهم فلا يبلغ هدفه وغايته , شأن من يضل الطريق فلا يصل إلى ما يبتغيه . .
                    ولعله كان بهذا يذكر قريشا بنعمته عليهم في حماية هذا البيت وصيانته , في الوقت الذي عجزوا هم عن الوقوف في وجه أصحاب الفيل الأقوياء .

                    ******

                    ونصر الله تعالى لرسوله وللمؤمنين كان إمتدادا لحماية البيت وعقيدة التوحيد إلى قيام الساعة ..
                    قال تعالى في سورة التوبة :

                    إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - 40

                    *******

                    قال تعالى في سورة الفتح :
                    وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا – 7

                    *******

                    وجنود الله كثيرة منها الرياح ومنها الصاعقة ومنها الملائكة ومنها الطير الأبابيل ومنها الميكروبات ..ومهما حاولنا أن نحصي لم نصل إلى حصر..
                    قال تعالى في سورة المدثر :

                    وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ...31

                    قال تعالى في سورة العنكبوت :
                    فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ - 40


                    ******

                    وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

                    تعليق


                    • #70
                      بسم الله الرحمن الرحيم

                      مع الجزء الثلاثون
                      (37)
                      وبعض آيات من سورة قريش

                      نعمة القوت والأمن

                      لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ – 1 إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ – 2 فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ – 3 الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ – 4

                      كان حديثنا في اللقاء السابق عن هلاك المعتدين على الكعبة المشرفة التي حماها الله تعالى لتكون القبلة الدائمة لخير أمة أخرجت للناس...

                      لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ – 1 إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ – 2

                      قال كثير من المفسرين: إن الجار والمجرور متعلق بالسورة التي قبلها أي: فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل لأجل قريش وأمنهم، واستقامة مصالحهم، وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن، والصيف للشام، لأجل التجارة والمكاسب.
                      فأهلك الله أصحاب الفيل ، وعظم أمر الحرم وأهله في قلوب العرب، حتى احترموا قريش ، ولم يعترضوا لهم في أي: سفر أرادوا .

                      ولهذا أمرهم الله بالشكر، فقال: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ﴾ أي: ليوحدوه ويخلصوا له العبادة، ﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ فرغد الرزق والأمن من المخاوف، من أكبر النعم الدنيوية، الموجبة لشكر الله تعالى.
                      فلك اللهم الحمد والشكر على نعمك الظاهرة والباطنة...

                      ********


                      وفي الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
                      من أصبح منكم آمنا في سربه ، معافى في جسده ، عنده ، قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها..
                      الراوي: عبدالله بن محصن و أبو الدرداء و عبدالله بن عمر - المصدر: صحيح الجامع

                      فنعمة الأطعام مكفولة لكل البشر, ولكن بسب طغاة البشر يعم الفقر على البلدان الفقيرة .
                      إن جشع التجار والمحتكرين يحول بين وصول السلع رخيصة لأيدي الفقراء ..فإن المحتكر يفضل إلقاء السلعة في البحر ولا يستفيد بها الفقراء..

                      ولذلك حرم الإحتكار في الإسلام ...ففي الأثر..
                      من احتكر القمح أربعين يوما سمي محتكراً ولو تصدق به ما تقبل منه...
                      وحين يعم الرخاء على بلد ما فإن ذلك يعد من أعظم النعم بعد الإيمان بالله تعالى..

                      أما نعمة الأمن فهي سعادة لا يدركها إلا من حرم الأمن ..فكل يوم نسمع ونرى القتلى للأطفال والنساء والشيوخ والشباب في بلدان ساد فيها الطغاة وتسلطوا على شعوبهم بالفقر والجهل ومن يرفع الرأس منهم يأخذ بالقمع والإعتقالات.
                      وحين يعم الأمن والعدل والاستقرار بين أمة ما..فإن ذلك يعد من أعظم النعم بعد الإيمان ونعمة الإكتفاء في المطعم والمشرب ..

                      فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ – 3 الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ – 4

                      هل أدركنا قيمة النعم وعلى رأسها نعمة الأطعام ونعمة الأمن..
                      وكيف سخر الله تعالى الكون من حولنا لخدمة الإنسان , فمنذ ملايين السنين والشمس مسخرة لخدمة الأرض ومن عليها , وكذلك الأرض تخرج خيراتها منذ ملايين السنين بإذن ربها إلى يوم القيامة.

                      فسبحان ربي العظيم.

                      اللهم لك الحمد على ما أنعمت به وأوليت..

                      *******
                      وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

                      تعليق


                      • #71
                        بسم الله الرحمن الرحيم

                        مع الجزء الثلاثون
                        (38)
                        وبعض آيات من سورة الماعون

                        من المكذب بالدين ؟

                        أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ – 1 فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ – 2 وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ – 3 فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ – 4 الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ – 5 الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ – 6 وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ – 7


                        حقيقة الإسلام هي الرحمة والعطاء والبذل والتضحية والفداء والشهامة والكرامة والعزة في الحق..
                        وهذا منطقي مقابل نعم الله التي لا تعد ولا تحصى على الإنسان.

                        فالإنسان يهلك بدون عطاء الله المستمر له , وعطاء الله تعالى لا ينقطع عن الإنسان ..فمنذ أن كان في بطن أمه ويأتيه المدد من الله تعالى وبعد أن نزل إلى الدنيا مازال المدد ينزل إليه والنعم تحيطه من كل جانب...

                        فالمؤمن إذا إستشعر ذلك إنعكس على سلوكه في البذل والعطاء وخاصة على اليتامى والمساكين.. وكلما زاد في العطاء كلما أعطاه الله وبارك له في ماله وعمره وولده..
                        قال تعالى في سورة إبراهيم :


                        وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ – 7


                        والشكر: هو اعتراف القلب بنعم الله والثناء على الله بها وصرفها في مرضاة الله تعالى... وكفر النعمة ضد ذلك.


                        وفي الحديث الشريف : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :


                        ما نقص مال من صدقة , ولا زاد الله عبدا يعفو إلا عزا, ومن تواضع لله رفعه الله...
                        المصدر: تفسير القرآن لإبن كثير- خلاصة حكم المحدث: صحيح



                        وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :


                        أنا و كافل اليتيم له أو لغيره في الجنة ، و الساعي على الأرملة و المسكين ، كالمجاهد في سبيل الله..
                        الراوي: عائشة و أبو هريرة - خلاصة حكم المحدث: صحيح
                        المصدر: صحيح الجامع للالألباني - الصفحة أو الرقم: 1476


                        هذا هو دين الإسلام

                        أما القسوة على الضعفاء واليتامى والفساد والبخل ومنع الخير عن الناس , وإضاعة الصلاة كل ذلك تكذيب بالدين وتكذيب بيوم الحساب فكل ذلك ليس من الدين.


                        وتوضح سورة الماعون هذه الصور السيئة للمنافقين.

                        يقول تعالى ذامًا لمن ترك حقوقه وحقوق عبادة: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴾ أي : بالبعث والجزاء ، فلا يؤمن بما جاءت به الرسل .
                        ﴿ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾ أي : يدفعه بعنف وشدة ، ولا يرحمه لقساوة قلبه، ولأنه لا يرجو ثوابًا ، ولا يخشى عقابًا .
                        ﴿ وَلَا يَحُضُّ ﴾ غيره ﴿ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ ومن باب أولى أنه بنفسه لا يطعم المسكين...
                        ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ﴾ أي : الملتزمون لإقامة الصلاة ، ولكنهم ﴿ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ أي : مضيعون لما تنهى عنه الصلاة – قال تعالى في سورة العنكبوت : ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ - 45 ﴾ .. والتاركون لوقتها ، والمفوتون لأركانها وهذا لعدم اهتمامهم بأمر الله حيث ضيعوا الصلاة ، التي هي أهم الطاعات وأفضل القربات..


                        ولهذا وصف الله هؤلاء بالرياء والقسوة وعدم الرحمة، فقال: ﴿ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴾ أي يعملون الأعمال لأجل رئاء الناس.
                        ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ أي : يمنعون إعطاء الشيء، الذي لا يضر إعطاؤه على وجه العارية، أو الهبة، كالإناء، والدلو، والفأس، ونحو ذلك، مما جرت العادة ببذلها والسماحة به .
                        فهؤلاء - لشدة حرصهم وبخلهم - يمنعون الماعون ، فكيف بما هو أكثر منه. فلا تستقيم الحياة بهذا السلوك المانع للخير ,
                        ولكن تستقيم الحياة بالإخلاص لله في جميع الأعمال وخاصة العبادات وعلى رأسها الصلاة . والزكاة . مع الرحمة باليتامى والسعي على الأرملة والمساكين..

                        *******
                        وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

                        تعليق


                        • #72
                          بسم الله الرحمن الرحيم

                          مع الجزء الثلاثون
                          (39)
                          وبعض آيات من سورة الكوثر

                          الْكَوْثَر

                          إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ – 1 فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ – 2 إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ – 3

                          تحدثنا في اللقاء السابق عن الذين يراءون ويمنعون الماعون. ونتحدث اليوم بعون الله عن الإخلاص - فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ - , وهذا الترتيب المعجز في القرآن العظيم نلاحظه كثيرا من أول سورة في المصحف الشريف إلى أخر سورة.


                          والإخلاص هو الشرط الأساسي لقبول العمل عند الله تعالى..وهو أساس كل معاملات المؤمن ..

                          والآيات تتحدث عن صلاة عيد الآضحى , ثم ذبح الأضحية . وهي من أوقات الحج ..

                          روي مسلم عن جندب بن عبدالله قال:

                          شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما قضى صلاته بالناس ، نظر إلى غنم قد ذبحت . فقال : ( من ذبح قبل الصلاة ، فليذبح شاة مكانها . ومن لم يكن ذبح ، فليذبح على اسم الله ) .

                          الراوي: جندب بن عبدالله - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 1960
                          خلاصة حكم المحدث: صحيح



                          والتأكيد على الإخلاص في فريضة الحج جاء في سورة البقرة ثانية سور القرآن العظيم في الترتيب ..
                          قال تعالى :

                          وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ,


                          فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ, فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ, فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ, وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ – 196

                          يستدل بقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ,

                          بوجوب الإخلاص لله تعالى في أداء الحج والعمرة, حيث يعود الحاج إلى دياره بعد أداء المناسك كيوم ولدته أمه..خاليا من الذنوب...

                          ******

                          يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ممتنا عليه : ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ أي: الخير الكثير، والفضل الغزير، الذي من جملته، ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، من النهر الذي يقال له ﴿ الكوثر ﴾ ومن الحوض..

                          فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور .

                          هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير , والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله ?

                          وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه . وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته , وينبوع لا نهاية لفيضه وغزارته..
                          وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه , ويصلي على من يصلي عليه في الأرض , حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء .

                          وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون , في أرجاء الأرض . وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره , وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه , وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة .

                          وهو واجده في الخير الكثير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه . سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به , ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض ..

                          *****

                          ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ خص هاتين العبادتين بالذكر، لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات.
                          ولأن الصلاة تتضمن الخضوع في القلب والجوارح لله، وتنقلها في أنواع العبودية ، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به.

                          ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ ﴾ أي: مبغضك وذامك ومنتقصك ﴿ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ أي: المقطوع من كل خير، مقطوع العمل، مقطوع الذكر.
                          ولقد صدق فيهم وعيد الله . فقد انقطع ذكرهم وانطوى . بينما امتد وعلا ذكر نبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
                          ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم , في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهدوه سامعوه الأولون ...

                          إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر . فهو ممتد الفروع عميق الجذور . وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر . .

                          وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الكامل حقًا، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق، من رفع الذكر، وكثرة الأنصار، والأتباع صلى الله عليه وسلم .


                          ********
                          وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

                          تعليق


                          • #73
                            بسم الله الرحمن الرحيم

                            مع الجزء الثلاثون
                            (40)
                            وبعض آيات من سورة الكافرون

                            الحرية

                            الحرية هي الركيزة الأولى والأهم في الإسلام
                            وندرك ذلك من أول آيات القرآن العظيم إلى أخرها.

                            قال تعالى في سورة البقرة :


                            لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 256


                            يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر غامض وبغيض..
                            وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي ..

                            ولعل المتتبع لهذه السلسلة يدرك ذلك..

                            فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا...

                            فالإنسان خلق حرا في إختيار العقيدة..وفي مقابل هذه الحرية يكون الحساب يوم الدين..

                            فالمسلمون أحرار في تطبيق شريعة الله التي فرضها عليهم وهم أحرار في التزام العدل والحق ومكافحة الفساد ..وهم أحرار في أداء شعائر دينهم..


                            ولكن وجد من البشر من يتصدى لدعوة الإسلام في مهدها ..إلى أن نصر الله تعالى دولة الإسلام ومكن للمؤمنين حكم دولتهم ونشر الحرية في العقيدة والعدل في الحكم بين الناس.

                            قال تعالى في سورة الممتحنة :


                            لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - 8 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - 9

                            ******

                            قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ – 1 لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ - 2 وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ -3 وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ – 4 وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ - 5 لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ – 6

                            قل للكافرين معلنا ومصرحًا ﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ أي: تبرأ مما يعبدون من دون الله،في الحاضر ظاهرًا وباطنًا.

                            ﴿ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ فعبادتكم لغير الله لا تتفق مع عبادتي لله تعالى خالق الكون ..

                            ( وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ) وأيضا لا أعبد ما عبدتم في الماضي من دون الله..- فعقائد الشرك كثيرة ومختلفة عبر العصور , فمنهم من عبد الكواكب , ومنهم من عبد النجوم , ومنهم من عبد العجل, ومنهم من عبد الأصنام , ومنهم من عبد الصالحون , ومنهم من عبد الأنبياء..

                            وهكذا فإن عقائد الشرك مختلفة ومتنوعة .. فالمؤمن لا يعبد ما عبد المشركون في الماضي ولا يعبد ما يستحدث من أوثان في المستقبل..

                            وهكذا كان طريق الإيمان واضح المعالم لا لبس فيه..

                            ( وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) فعبادتي لله تعالى خالق الكون واحدة وثابتة لا تتغير - فعقيدة التوحيد من لدن أدم وعبر جميع الأنبياء إلى نبينا صلوات ربي وسلامه عليهم هي ( لا إله إلا الله )

                            ولهذا ميز الله تعالى بين الفريقين، وفصل بين الطائفتين، فقال : ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ

                            كما قال تعالى في سورة الإسراء :

                            ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا – 84

                            أي: يعمل على ما يليق به من الأحوال، إن كان من الصفوة الأبرار، يعمل مخلصا لرب العالمين.
                            ومن كان من غيرهم ، لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين ، ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم .

                            وقال تعالى في سورة يونس :

                            ( وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ,
                            أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ – 41 )


                            وقال تعالى في سورة الحجرات :

                            ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ – 13 )

                            ويظهر الحق جليا في ظل هذه المبادئ الرفيعة في الحوار , تحميها قوة العدل والحرية والمساواة.. رغم الأختلاف في العقائد والمبادئ.

                            ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾


                            *******

                            وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

                            تعليق


                            • #74
                              بسم الله الرحمن الرحيم

                              مع الجزء الثلاثون
                              (41)
                              وبعض آيات من سورة النصر


                              إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - 1
                              وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - 2
                              فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا – 3



                              هذه السورة تحمل البشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا.. والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار . .

                              ثم تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج , ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص , والانطلاق والتحرر .


                              وبناء على هذا الإيحاء يتحدد شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه بإزاء تكريم الله لهم , وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم .
                              إن شأنه صلى الله عليه وسلم - ومن معه - ومن تبعهم إلى يوم الدين - هو الإتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار .

                              التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه . وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه , وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم , بعد العمى والضلال والخسران .


                              وهذا كان أدب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حياته كلها , وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له . . انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة . مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة . . فلما أن جاءه نصر الله والفتح , نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر , وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه , وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار .

                              وفي الحديث الشريف :

                              قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله : " سبحان الله وبحمده , أستغفر الله وأتوب إليه " وقال : " إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي , وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا ; فقد رأيتها "...
                              رواه أحمد ومسلم في صحيحه..

                              وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده , رضي الله عنهم أجمعين .
                              وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله , وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت , وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق . .

                              ولعلنا نلاحظ اليوم تفوق الإسلامين حين تحررت الإرادة الشعبية من التسلط والفساد , فبعد أن كانوا رهن الإعتقالات والسجون والتعذيب والتهميش , من الله عليهم بالنصر وأيدهم بنصره وبالشعوب المتعطشة للحرية والعدالة والتنمية ..
                              فهل نستطيع أن نحمل المسؤلية كما حملها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . حيث سادوا العالم تفوقا وحضارة وأخلاقا..؟؟

                              إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - 1
                              وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - 2
                              فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا – 3

                              ********

                              وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

                              تعليق


                              • #75
                                بسم الله الرحمن الرحيم

                                مع الجزء الثلاثون
                                (42)
                                وبعض آيات من سورة المسد

                                تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ – 1 مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ – 2 سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ – 3 وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ – 4 فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ – 5

                                كان اللقاء السابق مع أنوار أواخر مانزل من القرآن العظيم وهي سورة النصر وهي تبشر رسولنا الكريم - صلوات ربي وسلامه عليه - بنصر الله وفتحه ودخول الناس في دين الله أفواجا.. بعد طول عناء وجهاد طويل منذ أن نزل عليه الوحي.

                                واليوم نواصل بعون الله تعالى مع أوائل ما نزل من الوحي ليلتقيا ويتبين لنا الإعجاز الترتيبي لسور القرآن العظيم .

                                فقد حكمت الآيات في مصير أبي لهب وامرأته أمام أهل مكة والناس جميعا , وكان في إمكان أبي لهب أن يقول ولو نفاقا أمنت .. ويطعن في الرسالة ولكن قدرة الله العظيم وعلمه بما كان وما سيكون , أكبر من هذا الكائن الإنساني الضعيف المتكبر على الحق الرافض لرسالة الله .
                                فكان الجزاء من جنس العمل..وهذا من إعجاز القرآن العظيم.

                                وأبو لهب - [ واسمه عبد العزى بن عبد المطلب ] هو عم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وإنما سمي أبو لهب لإشراق وجهه , وكان هو وامرأته "أم جميل" من أشد الناس إيذاء لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وللدعوة التي جاء بها . .

                                قال ابن اسحاق : " حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول : " إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يتبع القبائل , ووراءه رجل أحول , وضيء الوجه ذو جمة , يقف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على القبيلة فيقول : " يا بني فلان . إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا , وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به " وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان . هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقمس , إلى ما جاء به من البدعة والضلالة , فلا تسمعوا له , ولا تتبعوه . فقلت لأبي : من هذا ? قال عمه أبو لهب . [ ورواه الإمام أحمد والطبراني بهذا اللفظ ] .


                                فهذا نموذج من نماذج كيد أبي لهب للدعوة وللرسول [ صلى الله عليه وسلم ] , وكانت زوجته أم جميل في عونه في هذه الحملة الدائبة الظالمة . [ وهي أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان ] .

                                ولقد اتخذ أبو لهب موقفه هذا من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] منذ اليوم الأول للدعوة .

                                أخرج البخاري - بإسناده - عن ابن عباس , أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إلى البطحاء , فصعد الجبل فنادى: " يا صباحاه " فاجتمعت إليه قريش ,
                                فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ? أكنتم مصدقي ? قالوا : نعم .
                                قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " .

                                فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا ? تبا لك . فأنزل الله ( تبت يدا أبي لهب وتب . . .) الخ . وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول: تبا لك سائر اليوم . ألهذا جمعتنا ?! فأنزل الله السورة .

                                وهكذا دون تفكير رفض "إبو لهب" الإيمان والتدبر في الأمر من الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم..الذي أشهدهم على صدقه وبإعترافهم أنه الصادق الذي لم يجربوا عليه كذب قط .

                                وياليت كان من أبي لهب الرفض والسكوت ولكنه وامرأته ناصبا الرسول - صلى الله عليه وسلم – العداء والأذى وكأنهما شياطين الإنس توسوس في صدور الناس لتصدهم عن دعوة الحق حسدا من عند أنفسهم..

                                فالحق واضح لا يزيغ عنه إلا هالك .

                                أن للكون إله خالق مدبر يمده بمقومات حياته. وقدر سبحانه أن الدنيا دار إختبار ..وأن الموت مصير كل إنسان . وأن البعث حقيقة, كما أنشأكم أول مرة, وأن يوم الحساب أت ليجزى كل إنسان عن أعماله التي قدمها في دنياه في ظل عقيدة الإيمان بالله الواحد, وكتبه ورسله وملائكته وبالقدر خيره وشره.. وجميع فرائض الإيمان..


                                أما الجانب الأخر وهو الكفر والشرك , فلا بد من إلغاء عقله ليصدق أن الأصنام تضر أو تنفع ..أو أن الكون خلق نفسه ..أو أن أحدا من الناس هو الخالق ..أو أن النجوم أو الكواكب هي الخالقة..فيجب أن يكون الإنسان فاقدا للعقل حتى يصدق هذا..

                                فالتكبر على الحق والكفر والشرك طريق الهلاك في الدنيا والأخرة.

                                وتعالوا للنظر لبعض نماذج الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                فلما أجمع بنو هاشم بقيادة أبي طالب على حماية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولو لم يكونوا على دينه , تلبية لدافع العصبية القبلية , خرج أبو لهب على إخوته , وحالف عليهم قريشا , وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم وتجويعهم كي يسلموا لهم محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] .

                                وكان قد خطب بنتي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رقية وأم كلثوم لولديه قبل بعثة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما حتى يثقل كاهل محمد [ صلى الله عليه وسلم ] بهما !

                                وهكذا مضى أبو لهب هو وزوجته أم جميل يثيرانها حربا شعواء على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعلى الدعوة , لا هوادة فيها ولا هدنة .

                                وكان بيت أبي لهب قريبا من بيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فكان الأذى أشد .

                                وقد روي أن أم جميل كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي ; وقيل : إن حمل الحطب كناية عن سعيها بالأذى والفتنة والوقيعة .

                                فنزلت هذه السورة ترد على هذه الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته .

                                وتولى الله - سبحانه - عن رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أمر المعركة !

                                ( تبت يدا أبي لهب وتب ). . والتباب الهلاك والبوار والقطع . ( تبت ) الأولى دعاء . ( وتب ) الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء . ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق , وتنتهي المعركة ويسدل الستار !

                                فأما الذي يلي آية المطلع فهو تقرير ووصف لما كان .
                                ( ما أغنى عنه ماله وما كسب ). . لقد تبت يداه وهلكتا وتب هو وهلك . فلم يغن عنه ماله وسعيه ولم يدفع عنه الهلاك والدمار .

                                ذلك - كان - في الدنيا . أما في الآخرة فإنه : ( سيصلى نارا ذات لهب ). . ويذكر اللهب تصويرا وتشخيصا للنار وإيحاء بتوقدها وتلهبها .

                                ( وامرأته حمالة الحطب ). . وستصلاها معه امرأته حالة كونها حمالة للحطب . . وحالة كونها : ( في جيدها حبل من مسد ). . أي من ليف . . تشد هي به في النار . أو هي الحبل الذي تشد به الحطب . على المعنى الحقيقي إن كان المراد هو الشوك . أو المعنى المجازي إن كان حمل الحطب كناية عن حمل الشر والسعي بالأذى والوقيعة .

                                قال ابن إسحاق : فذكر لي أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن , أتت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو جالس في المسجد عند الكعبة , ومعه أبو بكر الصديق , وفي يدها فهر [ أي بمقدار ملء الكف ] من حجارة .
                                فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فلا ترى إلا أبا بكر . فقالت: يا أبا بكر . أين صاحبك ? قد بلغني أنه يهجوني . والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه . أما والله واني لشاعرة . ثم قالت: مذمما عصينا وأمره أبينا ..


                                ثم انصرفت . فقال أبو بكر: يا رسول الله , أما تراها رأتك ? فقال: ما رأتني , لقد أخذ الله ببصرها عني . .

                                وهكذا إن الله يدافع عن رسوله والذين أمنوا.

                                واليوم نرى ونسمع كثير من السفهاء يتطاولون بالأذى على خير الأنام صلى الله عليه وسلم ..
                                ونحذرهم بهذه الآيات ونقول لهم أنتم أهون من أبي لهب . فتداركوا أمركم وعودوا إلى المنطق والحق والعدل ودعوكم من التعصب الأعمى الذي يدل على عدم الإدراك للحق ولمكارم الأخلاق.

                                فنصر الله أت لدينه وعباده المؤمنين .

                                قال تعالى في سورة الصف :

                                يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ – 8 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ – 9


                                *********

                                وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى

                                تعليق

                                مواضيع ذات صلة

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 1 أغس, 2023, 06:55 م
                                ردود 0
                                19 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
                                ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 11 يول, 2023, 05:19 م
                                ردود 0
                                18 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة عطيه الدماطى  
                                ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 10 يول, 2023, 07:05 م
                                رد 1
                                20 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
                                ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 4 يول, 2023, 10:07 م
                                ردود 0
                                12 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة عطيه الدماطى  
                                ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 30 يون, 2023, 04:06 م
                                ردود 0
                                15 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة عطيه الدماطى  
                                يعمل...
                                X