القول بالوحدة بين العبد والرب أصل كل شرك وضلال في العالم

تقليص

عن الكاتب

تقليص

مجد الدين بن أحمد مسلم اكتشف المزيد حول مجد الدين بن أحمد
هذا الموضوع مغلق.
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القول بالوحدة بين العبد والرب أصل كل شرك وضلال في العالم

    بسم الله الرحمن الرحيم


    ( القول بالوحدة بين العبد والرب أصل كل شرك وضلال في العالم )

    يدرك العقل في معارفه المختلفة معاني متباينة يميز بينها ، ويخص كل منها بما يختص به من هذه المعارف ، بل إن قوة إدراك هذه المعاني والتمييز بينها وتخصيصها قوة أساسية أولية لا تقل عن قوة إدراك المحسوسات ذاتها والتمييز بينها .


    وهذه القوة هبة إلهية من الله عز وجل للإنسان يستعين بها على وظائف حياته ، وأولها وأجلها معرفة الله عز وجل ، قال تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )) [سورة الذاريات : 56] ولا شك أن أول الطريق إلى ذلك معرفته تعالى ، وأول معرفة الحق تمييزه من الخلق في ذاته وصفاته وأفعاله .


    بل قد وهب الله عز وجل قدراً من نعمة إدراك ما في المحسوسات من المعاني لغير الناطق من الحيوان يحفظ به حياته وبقائه ، فالكبش ـ على سبيل المثال ـ يدرك في الذئب معنى يختص به غير المعنى الذي يدركه في النعجة ، فيحرك الأول فيه داعي الخوف والتحفز ، وبينما تحرك فيه النعجة داعي الأنس والشهوة .

    في هذا دلالة على مقام تنحط فيه رتبة الإنسان عن رتبة الحيوان ، قد وصفه الله عز وجل بقوله : (( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَو ْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً )) [الفرقان : 44] .
    فإذا ما انتفع الحيوان بحواسه ، وبهبة الله عز وجل في تمييز ما في المحسوسات المختلفة من المعاني المتباينة فيما خلق له من حفظ حياته وبقائه ، وضل الإنسان عن استعمال هبة الله التي وهبها إياه ووسع عليه فيها ، فلم ينتفع بها فيما خلق له من التمييز بين عبادة الحق وعبادة الخلق ، كان هذا الإنسان أضل من الحيوان .


    إن هذا الوصف (( كَالأَنْعَام ِبَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)) هو وصف الله عز وجل للعربي الذي خلط فلم يميز بين عبادة الحجر المنحوت في هذه الساعة وبين عبادة رب العالمين ، مع أن هذا العربي لم يخلط بين الذوات ، فميز ذات الباري عز وجل باسمه وصفته وفعله ـ الخلق ـ عن حجره الذي نحته .
    قال تعالى : (( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [سورة الزخرف : 87] .
    وقال تعالى : (( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَات ِوَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )) [سورة العنكبوت : 61 ] .
    وقال تعالى : (( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَات ِوَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنّ َالْعَزِيزُ الْعَلِيمُ )) [سورة الزخرف : 9] .


    ومن هذه الزاوية ـ تمييز الذوات ـ فإن ضلال هذا العربي أهون من ضلال من اعتقد أن هذا الطفل المولود في ساعة معينة هو خالق والدته والأرض والسماوات وسيد الخليقة ؛ فإن أول المعرفة تمييز الحق تعالى بإفراده ومباينته للخلق في ذاته تعالى وصفاته وأفعاله .
    أما باعتبار الجملة فإن الضلال في عبادة المخلوق الحي ، أهون من الضلال في عبادة الحجر المنحوت ، والكل داخل دخولاً أولياً في الانحطاط عن رتبة البهائم .

    إن هذا الانحطاط هو سهم الكنيسة المسموم الذي أرسلته للبشرية باسم الدين وتتمة ناموس الأنبياء في توحيد رب العالمين ؛ فقد زعموا أن جميع الأنبياء تنبئوا عن المسيح ـ عليه السلام ـ ؛ فإذا كان هذا الكبش الذي انتفع بحواسه ، وما ركب الله فيه من قوى التخيل والتذكر في حفظ ما خلق له ؛ فميز بين غذائه ونعجته وذئبه ، وضيعت الكنيسة أول ما خلق له المكلف فخلطت عليه العبد بالرب في ذاته وصفاته وأفعاله ؛ فوصفت الرب بأهون ما يختص به العبد ، فالكنيسة بلاشك أضل من هذا الكبش .!


    ولقد طعنت الكنيسة في قاعدة العقل إلى جميع المعارف وهي " مكنة التمييز بين المعارف الأولية وما فيها من المعاني الأساسية " إذ تفردت ـ الكنيسة ـ بصور محسوسة للإله يدرك العقل فيها إدراكاً أولياً أساسياً ـ على البديهة ـ معانٍ تناقض المعاني التي يدركها على وجه البداهة عن الربوبية والإلوهية .


    إذ لم تكتف الكنيسة بالإله الذي يتقلب في رحم أمه ، ويخرج منه إلى الوجود مختلطاً بالدم والمشيمة ، ثم يفتقر إلى من يغذيه باللبن ليعيش ، ويحتاج من ينظفه من بوله وغائطه ، ويلفه في القمط ، لم تكتف بكل هذا حتى أسلمت الإله إلى أعدائه فعروه كما ولدته أمه ، وصفعوه ، وضربوه بالحذاء على مؤخرته ، وإمعاناً في إذلاله ألبسوه قميصاً قرمزياً يختص بالنساء ، وإكليلاً من الشوك في رأسه ، ثم سمروه بالمسامير على الخشبة ليموت الإله على الصليب .


    نعم لقد قالوا بموت الإله على الصليب ، وهذا بنص قانون الإيمان النيقوي ، الذي كتبه لهم أثناسيوس في مجمع نيقية عام 325 م فصدقوا وصادقوا عليه ، وفيه : " نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد , المولود من الأب قبل كل الدهور. نور من نور , إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق , مساو الآب في الجوهر , الذي به كان كل شئ . هذا الذي من أجل خلاصنا ، نزل من السماء وتجسد من الروح القدس , ومن مريم العذراء تأنس وصلب " عنا " علي عهد بيلاطس البنطي ، تألم وقُبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث , كما في الكتب . وصعد إلي السموات . وجلس عن يمين أبيه وأيضاً يأتي في مجده ، ليدين الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء )(1)!!


    إذن فالذي تألم ومات على الصليب وقبر بعد موته ـ بزعمهم ـ كان هو عيسى ذاته رب العالمين وليس ناسوت عيسى ، وهذا بلا خلاف بين أصحاب الوحدة بين الطبيعتين ، فإن الاتحاد ، أو الوحدة ، أو التجسد ، قائم على هذا .
    يقول شنودة بابا الكنيسة في كتابه طبيعة المسيح : " والسيد المسيح نفسه حينما ظهر ليوحنا الرائي قال له: " أنا هو الأول والآ خر والحي وكنت ميتاً". " وها أنا حي إلى أبد الآبدين آمين. ولى مفاتيح الهاوية والموت" (رؤ1: 17،18).
    فهذا الذي كان ميتاً هو الأول والآخر، وبيده مفاتيح الهاوية والموت .
    وهكذا لم يفصل لاهوته عن ناسوته هنا وهو يتحدث عن موته .
    إذن فالذي مات هو رب المجد، ورئيس الحياة، ورئيس الخلاص، هو أيضاً الأول والآخر" (2) اهـ.


    قلت : التجسد هذا هو أصل عقيدتهم ومع ذلك لم يأت له ذكر في كتابهم الذي بين أيديهم لا بلفظ صريح ولا بلفظ يحتمل التأويل ولو مرجوحاً ، هذا على وفق قانون تأويل الألفاظ لا التوهم والتخيل ، فانظر به يتشبث بسفر الرؤية ، وسفر الرؤية هذا مشكوك في نسبته ليوحنا، وهو في الأصل منام ونحن لا نشك أنه حلم شيطاني ، هذا إن ثبت ، ونحن نريد أن نشير هنا إلى قضية قواعد الإثبات عند هؤلاء الناس ، فانظر كيف يعارضون بدائه العقل بمنام !؛ وتأمل كيف أثبتوا بحلم موت الإله رب العالمين رب المجد ورئيس الحياة ، ورئيس الخلاص ، الأول والآخر .! ، فكيف والحلم ذاته مشكوك فيه ، ظلمات بعضها فوق بعض ؛ ألا ترى في هذا ما يدل على أن الشيطان قد باض وفرخ في عقول هؤلاء الناس !؟.


    ويقول شنودة : " إنها خطورة كبيرة على خلاصنا أن نفصل ما بين الطبيعتين أثناء الحديث عن موضوع الخلاص ، ولعل البعض يقول: ومن هذا الذي فصل؟! أليس مجمع خلقيدونية يقول بطبيعتين متحدتين؟!
    نعم [يقصد بلى] يقول هذا . ويقول معه طومس لاون أيضاً: إن المسيح اثنان إله وإنسان، الواحد يبهر العجائب، والثاني ملقى للإهانات والآلام..!
    فإن كان هذا الإنسان وحده هو الملقى للآلام، فأي خلاص إذن نكون قد أخذناه؟! " (3)اهـ.

    قلت : كنيسة الاسكندرية رفضت قرارات مجمع خلقيدونية ، وفي عرض شنودة لقول طومس " الملقى للآلام " أسقط منه لفظ " للإهانات " فطومس قال " للإهانات والآلام " وكأنه راعى حال خرافه لما في اللفظ من الشناعة ، مع أنه لفظ مهذب في وصف ما يعتقده في إلهه من الضرب بالحذاء على مؤخرته وإلباسه قميصاً نسائياً قرمزياً .



    والمقصود أن الذي تعرض لكل ما كان بزعمهم من الحمل إلى الولادة إلى الضرب والصفع والقميص القرموزي إلى الصلب إلى الموت هو ذاته رب العالمين وليس ناسوته .
    ويؤكد شنودة هذا المعنى فيقول : " ونحن في التعبيرات العادية نقول فلان مات، ولا نقول أن جسده فقط قد مات، إن كانت روحه على صورة الله وهبها الله نعمة الخلود.. والروح لا تموت ".
    إذن ففلان الذي مات هنا ـ بزعمه ـ هو المسيح رب العالمين .

    والذي يدلك على أن ذكر الناسوت هنا نوع من الاحتياط وإن شئت قل الاحتيال أن القائلين بالوحدة بين العبد والرب لا يثبتون وجوداً خاصاً للمخلوق ، فإن هذا الموجود المشاهد هو عين وجود الرب ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ ويقول الأنبا غريغريوس في موسوعته (ص230) : " قد نتكلم احيانا عن الطبيعه اللاهوتيهوالطبيعه الناسوتيه , لكن هذه التفرقه ذهنيه بحته لا وجود لها في الواقع بالنسبه للسيد المسيح الاله المتانس ذلك انه لم يحدث بتاتاً أن نقول الناسوت واللاهوت كانا منفصلين او متفرقين في الخارج ثم اتحدا معاً بعد ذلك ..." (4) اهـ.

    إذن فالتفرقة ذهنية بحتة لا وجود لها ـ عندهم ـ في الواقع ، والطبيعتان لم ينفصلا قط في الواقع حتى يتحدا ، هذا نص كلامه ، وهو يدلك على أن مقصودهم بالوحدة إلغاء الوجود الخاص للمخلوق أو الناسوت ، لكن مع ذلك لابد من الإبقاء على ذكر الناسوت للمواقف الصعبة والاسئلة التي يستحي من جوابها العاقل وغير العاقل ، لاسيما أن بولس ( شاؤول اليهودي ) المؤسس الأول لهذه الديانة أباح الكذب لزيادة مجد الله ، قال : " إذا كان مجد الله يزداد بكذبي فلماذا أدان أنا بعد كخاطئ " روميه 3 - 7.


    ومن أمثلة ما قد يأتي منه الحرج ما احتج به نسطور على كيرلس وعايره به فقال له " إذن أنت تؤلم الله !؟" يعني أنت تجيز قدرة الإنسان على إيلام ربه وخالقه ولا ترى استحالة ذلك .
    رد عليه كيرلس في الرسالة الرابعة قائلاً : " نحن يا سادة نؤمن بان الإتحاد بين الكلمة والناسوت، ونرى أن الآلام تخص الناسوت، ولكنه غير قابل للآلام كإله. وإن كان قد تجسَّد وصار مثلنا إلاَّ إننا نعترف بألوهيته ومجده الفائق وعطاياه الإلهية. ونحن نضع الإتحاد كأساس للإيمان. ونعترف بأنه تألم في الجسد ولكنه ظل فوق الآلام لأن عدم التألم من طبيعته. وعلينا الإحتراس من فصل اللاهوت عن الناسوت، ومن التقسيم إلى طبيعتين أو فصل كل طبيعة عن الأخرى.. هو نفسه إله متأنس، والآلام تخص الناسوت أي تخصه هو، لكن من حيث هو إله غير قابل للآلام " (5)اهـ.

    تأمل هذه القطعة الفريدة من التناقض الخالص للهروب من السؤال والحيدة منه :
    فقوله : " فالآلام تخص الناسوت واللاهوت غير قابل للألم " يساوي عند العقلاء الفصل بين الطبيعتين بدلالة اختصاص طبيعة بالتألم دون الثانية .
    ولكن لما كان هذا الفصل كفر أحمر عند كيرلس رجع فقال : " ونحن نضع الإتحاد كأساس للإيمان. ونعترف بأنه تألم في الجسد ولكنه ظل فوق الآلام لأن عدم التألم من طبيعته " .
    تأمل قوله " فهو تألم في الجسد "
    والسؤال : من الذي تألم !؟
    ثم رجع فقال : " ولكنه ظل فوق الآلام لأن عدم التألم من طبيعته ! "
    والسؤال : من الذي لم يتألم لأن عدم التألم من طبيعته !؟
    لاشك أن الضمير في الفعل " تألم " ونقيضه " لم يتألم " يعود على مذكور واحد فمن هو !؟


    ثم رجع كيرلس فقال : " والآلام تخص الناسوت " وهذا بالتأكيد رجوع إلى الفصل بين الطبيعتين ، وهذا مقتضى كلمة " تخص " .
    ثم قال " تخصه هو " والضمير (هو) هنا يرجع بلا شك على الرب ، إذن فالآلام تخص الرب ، مع أنها كانت تخص الناسوت لا الرب .
    ثم رجع فقال : " لكن من حيث هو إله غير قابل للآلام " .
    إن كيرلس يقول " إنه تألم مع أنه لم يتألم " هذا الكذب الذي يزداد به مجد رب كيرلس ، أما ما في رأسه فعلاً " مع أنه لا يتألم فقد تألم " ، وكلاهما فضيحة مستقلة .



    وفي كتاب حتمية التجسد الإلهي نقلٌ عن البابا الكسندروس أكثر صراحة ووضوح ، فقد وقف يسجع متعجباً يقول " الديان دانوه، والذي يحل رباط الموت ربطوه، والذي يضبط العالم ضبطوه، والذي يعطي الحياة للبشر أطعموه مرارة، ومات المحيي وقبروا الذي يُقيم الموتى، تعجبت قوات السموات في ذلك الزمان، وبهتت الملائكة وفزعت الاستقصات (العناصر) وتعجبت الخليقة كلها، وقالت هوذا الديان يُدان وهو ساكت، والغير مرئي يُرى ولا يُسأل.. والغير متألم تألم ولم ينتقم، والغير مائت مات وهو صابر" (6).


    قلت : لقد أجمل هذا الكاهن بقوله " أطعموه المرارة " أشياء كثيرة لو فصلنا بعضها ـ بزعمه ـ فمضينا نسجع ورائه لقلنا : " وكما ولدته أمه عروه ، وقميصاً قرموزياً نسائياً ألبسوه ، وعلى مؤخرته بالحذاء ضربوه ، وصفعوه ، ولعنوه ، وبالشوك في رأسه كللوه ، وبالمسامير على الصليب سمروه " .
    هذا إذا تغضينا عما كان لإلهه ـ بزعمهم ـ في بطن أمه وصفة خروجه وما كان بعد هذا الخروج .


    لكن الكسندروس هذا نسي وهو يُسَوِق هذه المتناقضات المسمومة للمساكين بهذا السجع أن يسأل عن المعاني الأولية الأساسية في : " دانوه ، وربطوه ، وضبطوه ، أطعموه المرارة ، وقبروه " ! ، وموقف العقل من وصف رب العالمين بها .
    إنه ـ بلا ريب ـ نوع فريد من الخبل ، فلو قيل لأحد أن يصف الخروج على العقل ومناقضة وبطلان وظيفة التعقل بالكلية لما وجد أدل عليه من هذا السجع ؛ فلو قيل أن الفوق هو التحت ، والتحت هو الفوق ، وأن السماء هي الأرض ، والأرض هي السماء ، وعن الظلام نور ، والنور هو عين الظلام ، .... لو قيل كل هذا وأضعافه بل مهما قيل من المتناقضات التي لا يصح معها في العقول شيء ، لكانت أهون من هذا التناقض المسجوع في وصف رب العالمين .


    ثم لم يسأل هذا الكاهن نفسه وهو يصف تعجب الخليقة من " دانوه ، وربطوه ، وضبطوه ، وأطعموه المرارة ، وقبروه " كيف بقيت هذه الخليقة لتعجب من موت منشئها وخالقها الذي لا قيام لها ولا بقاء إلا به !؟
    قال تعالى : ((اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّهُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَنَوْمٌ)) [ سورة البقرة : 255] )) ، وقال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِه ِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )) [سورة فاطر : 41 ] .


    أم أن هذا الكاهن دهري ملحد يرى أن الله خلق الكون ثم لم يُبْقِ له هذا الكون من سلطان عليه ، بل استقل بنفسه ، وقام بنفسه على شأنه ، بل قد امتد سلطانه إلى ربه وخالقه فدانه ، وربطه ، وضبطه ، وأطعمه المرارة ، وقبره .

    إن هذا السجع مع ما فيه من الكفر بالله عز وجل إهانة للعقل البشري واحتقار له ، لكن كيف مرت هذه الطبخة التي جمعت كل سموم العالم وسرت في أطراف الأرض!؟
    في البدء كان السيف ، سيف الامبراطور الروماني الوثني قسطنيطن ، الذي رفع راية المسيح على خلفية صراعه السياسي والعسكري مع خصمه " ماكسنتيوس " ليفسد على خصمه بعض قواده وجنوده من المسيحيين .
    ثم رد الامبراطور الجميل فحمى وحمل هذه الانتكاسة العقلية إلى أطراف الامبراطورية الرومانية ، بعد أن كان أهلها شراذم مشردة تستخفي ببدعتها التي ابتدعت ، ينظر الناس إليهم على أنهم أصحاب خرافة ، وهكذا ورثت هذه البدعة امبراطورية بأكملها .
    ثم عمل سحر التقليد عمله ، وسحره أضر على العقل من سحر الجنون ، ودونك عباد البقر وبوذا والشجر والحجر شعوباً بأسرها .


    وبمناسبة سجع هذا الكاهن الكسندروس الذي نقله شنودة نفسه ، أحب أن أقف هنا أمام كلمة له عرض فيها باللغة ؛ إذ يقول تحت عنوان " عقيدة كنيستنا " في كتابه طبيعة المسيح ص 7 : " "السيد المسيح هو الإله الكلمة المتجسد , له لاهوت كامل وناسوت كامل , ولاهوته متحد بناسوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير , اتحاداً كاملاً أقنومياً جوهرياً , تعجز اللغة أن تعبر عنه ..!! حتى قيل عنه إنه سر عظيم ... " (7)(انتهى).

    أريد أن نقف هنا قليلاً أمام قوله " تعجز اللغة أن تعبر عنه " هذه الكذبة الكبيرة ، وانظر إلى سجع هذا الكاهن تعرف ، فإن اللغة كانت في غاية السخاء معه وهي تمده بمفردات وافية بما يريد وصفه ، حتى نقلت صورة صافية لما في ذهنه ، حتى كأن عقله أمام مرآة مصقولة ؛ إذن فلم تعجز اللغة بل جادت ولم تبخل ، ولكن المشكلة الحقيقة بل المأساة في هذا العقل ، والذي صورت لنا اللغة ما يحمله من التناقض ومعاندة البديهة والخلط بين المعارف الأساسية وما يتعلق بها من المعاني الأولية . هذه هي المشكلة .


    مشكلة أخرى لهؤلاء مع اللغة ، أنها فاضحة ، فلأن اللغة أمينة في نقلها للعلاقة بين اللفظ ودلالته بأنواعها الثلاث : المطابقة والتضمن والالتزام فإنها قد وشت بهذا التناقض وتلك المعاندة وذلك الخلط ، فهي فاضحة لذلك اتهموها ، ولو كان لها أن تنطق لقالت له في أسى عن هذا الجحود " رمتني بدائها وانسلت " فإن كانت العامية لقالت : " دية آخرتها يا ... مجرجرني وراك في الهلاوس مش عارفة لك آب من ابن ، صحيح اللي اختشوا ماتوا " .


    وتعظم مشكلة هؤلاء كلما أراد أحدهم أن يشرح هذا المحال الممتنع في بداهة العقل ليجعل منه معقولاً ، وهذه ـ كما ترى ـ محنة أشق من نقل الجبال الرواسي ، فكلما تقدم المسكين شبراً بعد عن العقل ميلاً ، حتى يصدق عليه مثل العامة " جه يكحلها عماها " ، ثم يتحول هذا الشرح إلى مأساة إنسانية وفكرية يصبح فيها كل واحد من هؤلاء الشراح حالة إيمانية مستقلة بنفسها .


    خذ مثالاً قول شنودة السالف الذكر ، وهو يشرح معنى تجسد الإله الكلمة " له لاهوت كامل وناسوت كامل , ولاهوته متحد بناسوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير , اتحاداً كاملاً أقنومياً جوهرياً " اهـ.
    فإن كل عبارة من عباراته تأكل أختها ، فقوله " له لاهوت كامل وناسوت كامل " يأكل عبارته التالية " ولاهوته متحد بناسوت " فإنه إذا بقي اللاهوت ـ وهذه طبيعة ـ كاملاً بحاله ، وبقي الناسوت ـ وهذه طبيعة أخرى ـ كاملاً بحاله ، فكيف يكون اتحاد !
    إن هذه العبارة بعد تلك وصف مثالي لحال المسفسط المعاند بعد حكايته ما لم يتصوره ، إذ لا يقبل التصور بحال لا كلياً ولا جزئياً .

    وقوله " بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير " تأكيد للعبارة الأولى ببقاء كل طبيعة كاملة بحالها ، فهم يشرحونها بأن الناسوت احتفظ بكل خصائصه ، واللاهوت احتفظ بكل خصائصه(8) .
    ثم من باب عنز وإن طارت رجع مرة أخرى يقول " اتحاداً كاملاً " .


    ثم استدار للعامة من الناس ونطحهم بقوله " جوهرياً أقنومياً " وأقنومياً هذه مشكلة مستقلة ، فهي هنا من باب تفسير اللفظ بما لا يُعقل له معنى ، وأول من اخترع لهم هذا اللفظ هو أثناسيوس ، ولم يُدر له حتى الآن معنى محدد .
    وفي لحظة يأس استدار إلى اللغة فطعنها وأحال عليها فشله في شرح عقيدته في المحال الممتنع ـ التجسد ـ بأنها عاجزة عن وصف المطلوب .
    والحق أن شرح المحال بعبارات مستقيمة الدلالة محال ولن يثمر سوى مزيد من التناقض ، ولو أن هذا الرجل اختصر على نفسه كل هذا المتناقضات واكتفى بالتناقض الأعظم فقال: " المسيح هو الله رب العالمين " ثم تحمل تبعات ذلك بشجاعة هذا الكاهن صاحب " دانوه ، وربطوه ، وضبطوه ، وأطعموه المرارة ، وقبروه " لكان أرفق بحاله وحال القارئ .



    ( التناقض وعدم التمييز ليس سراً يفوق العقل )

    لكن الكذبة الكبرى في كلام شنودة هنا هي قوله " حتى قيل عنه إنه سر عظيم " وهي الكذبة التي يتوارثها رجال الكنيسة جيلاً بعد جيل ، فهي مع التناقض وعدم التمييز رأس مال الكنيسة ، وفي هذا الباب يقول كيرلس في رسالته الرابعة إلى نسطور " فانه يوجد مسيح واحد وإبن واحد من الأثنين ـ يعني اللاهوت والناسوت ـ إن اختلاف الطبائع لم يبطل الإتحاد. بل بالحرى فان هذا الإتحاد الذي يفوق الفهم والوصف كوَّن لنا من اللاهوت والناسوت رباً واحداً يسوع المسيح وإبناً واحداً "(9) اهـ .

    هذه كله كذب لا تخطئه العين أبداً ؛ فإن وصف وحدة لا يتميز فيها صفة العبد من صفة الرب ، بحيث ينسب أهون ما يختص به المخلوق من الصفات والأفعال لرب العالمين ليس سراً فضلاً عن كونه فوق العقل ، وأنى له ذلك والعقل يقطع على البديهة ببطلانه وامتناعه ، بل ويعرف معدنه وأنه من عبث الشيطان ومغالطاته وتخييله غير المتناهي لما يمتنع وجوده .


    إن وساوس الشيطان وتخييله ليس بسر يفوق العقل ، ولقد وصف لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً من تخييل الشيطان للمؤمنين ووصف لنا سبيل مدافعته .
    عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله ؟ ))(10) .
    وفي رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل إني آمنت بالله ))(11) .
    وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء ناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ؟
    قال : وقد وجدتموه ؟
    قالوا : نعم .
    قال : (( ذلك صريح الإيمان )) (12) .
    ومن رواية ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني أحدث نفسي بالأمر لأن أكون حممة أحب الي من ان أتكلم به ؟
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة )) (13).



    قال الحافظ ـ رحمه الله ـ : " وقال الطيبي قوله : " نجد في أنفسنا الشيء " أي القبيح نحو ما تقدم في حديث أنس وأبي هريرة ، وقوله " يعظم ان نتكلم به " أي للعلم بأنه لا يليق أن نعتقده، وقوله (( ذاك صريح الإيمان )) أي علمكم بقبيح تلك الوساوس وامتناع قبولكم ، ووجودكم النفرة عنها ، دليل على خلوص إيمانكم ؛ فان الكافر يصر على ما في قلبه من المحال ، ولا ينفر عنه ....

    قال الحافظ في فتح الباري :" فان وقع شيء من ذلك فهو من وسوسة الشيطان ، وهي غير متناهية ؛ فمهما عورض بحجة يجد مسلكا آخر من المغالطة والاسترسال؛ فيضيع الوقت إن سلم من فتنته ، فلا تدبير في دفعه أقوى من الالتجاء إلى الله تعالى بالاستعاذة به كما قال تعالى : (( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَمِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌفَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) [سورة الأعراف : 200] " انتهى كلام الحافظ من فتح الباري .


    إن المحال المتناقض ليس بسر أصلاً حتى يفوق العقل ، فإن العقل يعرفه بما أودع الله فيه من المعارف الأساسية الأولية ، ويعرف معدن هذه الخيالات الممتنعة الوجود وأنه الشيطان الرجيم ، ويعرف الفرض فيه وهو الاستعاذة ، وخيالات الشيطان ليست سراً ، إنما السر ما خفي عن العقل مما لا يُعلم امتناعه وبطلانه ، كموضع الجناح الثالث في جسم الملك .


    قال تعالى : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَايَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) [سورة فاطر : 1] .
    وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : إَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ له ستمائة جَنَاحٍ )) (14) .
    إن موضع الجناح الثالث سر لا يحيط العقل به ، لماذا ؟
    لأن العقل لا يعلم امتناعه .
    ثم إن في العقل دليل جملي على إمكانه ؛ إذ هو نوع من الزيادة في الخلق ؛ فهو " شيء "(15) ؛ ومن ثم فيصح أن يتعلق به الخلق والقدرة والمشيئة وهذا قوله تعالى (( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَايَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) .
    وهناك دليل آخر مشاهد على الإمكان وهو خلق السماوات والأرض وهذا أعظم ، وقد أشار إليه تعالى في نفس الآية (( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )) .
    لكن أين موضع هذا الجناح !؟ هذا سر !! .

    وعلى هذا فقس في الفرق بين محالات العقول ، ومحارات العقول ، فالأول من تخييل الشيطان ومغالطاته التي لا يكف عنها ، أما الثاني فموجود فيما أخبر به الرسل أقوامهم .
    أما الأول ـ محالات العقول ـ ففي العقل قوة أساسية من المعارف الأولية ومكنة التمييز بينها ترده وتدفعه ، وتقضي ببطلانه على وجه البداهة .
    أما الثاني ففي العقل طرق للدلالة على إمكانه .


    إننا نقبل من النصارى أن يقولوا : إن إيماننا مناقض لبدائه العقل معاند لضروراته والمعاني المتعلقة بمعارفه الأولية ، نحن نقبل منهم هذا ولكن لا نقبل منهم أبداً أن يقولوا بأن إيمانهم سر يفوق العقل ؛ فإن هذا كذب محض ؛ فإن العقل يدرك فساد هذا الاعتقاد وأنه نوع فريد من مغالطات الشيطان للإنسان .

    ونرده أيضاً بأن الله عز وجل إنما كلفنا معرفته بهذا العقل لا بغيره ، وبنظامه في تلقي العلوم والمعارف لا بشيء آخر ، ومن ثم فالإحالة في معرفته إلى سر يفوق العقل ، والفرض أنه تعالى كلفنا معرفته بهذا العقل ، فيه نسبة له تعالى إلى العبث بالمكلفين وهذا محال يتنزه عنه الباري سبحانه .

    والحاصل إذا كان أول المعرفة بالله عز وجل تمييز الحق من الخلق في ذاته وصفاته وأفعاله ، فإن إسقاط هذا التمييز بوحدة بين العبد والرب ، ينسب فيها أهون صفة العبد إلى الرب ، يحط بالإنسان عن رتبه هذا الكبش الذي وصفنا لك حاله في أول مقالنا ، ويجعل لهذا الإنسان نصيباً وافراً من قوله تعالى : (( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَو ْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً )) [الفرقان : 44] . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) انظر كتاب الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة صـ183 "
    (2) طبيعة المسيح لشنودة ص 19.
    (3) المصدر السابق ص 20.
    (4) ص 230.
    (5) حتمية التجسد " 43 ـ هل اتحاد الطبيعتين ألغى خواص إحدى الطبيعتين " .
    (6) المصدر السابق .
    (7) طبيعة المسيح ص 7.
    (8) المصدر السابق .
    (9) المصدر السابق .
    (10) البخاري (ح/6866) ، ومسلم (ح/136) .
    (11) صحيح مسلم (ح/134) .
    (12) مسلم (ح/132) .
    (13) النسائي في الكبرى (ح/10503ـ 10505) ، وصحيح ابن حبان (ح/6188) .
    (14) البخاري (ح/4576) ، ومسلم (ح/174) .
    (15) انظر معنى الشيء في المقالة الرابعة " انتكاسة عقلية كبيرة في تاريخ البشرية " .
    مدونتي
    لواء الإسلام

  • #2
    جزاكم الله خيراً

    تعليق

    مواضيع ذات صلة

    تقليص

    المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
    ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ أسبوع واحد
    ردود 3
    28 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة *اسلامي عزي*
    بواسطة *اسلامي عزي*
     
    ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 9 فبر, 2024, 12:51 ص
    ردود 0
    22 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة *اسلامي عزي*
    بواسطة *اسلامي عزي*
     
    ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 6 فبر, 2024, 01:30 ص
    ردود 0
    15 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة *اسلامي عزي*
    بواسطة *اسلامي عزي*
     
    ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 2 فبر, 2024, 12:56 ص
    ردود 0
    9 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة *اسلامي عزي*
    بواسطة *اسلامي عزي*
     
    ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 22 ينا, 2024, 01:47 ص
    ردود 2
    20 مشاهدات
    0 معجبون
    آخر مشاركة *اسلامي عزي*
    بواسطة *اسلامي عزي*
     
    يعمل...
    X