تفسير من أنوار القرآن الكريم

تقليص

عن الكاتب

تقليص

يوسف كمال محمد مسلم اكتشف المزيد حول يوسف كمال محمد
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تفسير من أنوار القرآن الكريم

    العنوان: تفسير من أنوار القرآن الكريم
    القسم الإسلامي العام


    بسم الله الرحمن الرحيم

    مقدمة
    نوه الله تعالي بالعقل والحس كوسيلة للتفكر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض ، لمعرفة حقيقة الخلق والأمر ، والقيام بالأعمار والإصلاح .
    يقول تعالي : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ (46). [الحج : 46 ]
    وذكر القرآن بالتحديد مفردات القوة الحسية من السمع والبصر ، وعبر بالجلود عن اللمس والشم والذوق . وذلك في سياق شهادتهم علي أعمال الإنسان يوم الحساب .
    يقول تعالي: ومَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ولا أَبْصَارُكُمْ ولا جُلُودُكُمْ ولَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الخَاسِرِينَ (23) .[سورة فصلت : 22-23]
    ولا ينكر أحد أن هناك حدودا لهذه القدرات العقلية والحسية في إدراك الظواهر الحياتية والكونية . ومن المسلم به أن كثيرا منها لازالت غيبا والمعرفة عنها ظن لا يقين فيه . نشاهد ذلك في أصغر جزء وهو مكونات الذرة ، وفي أكبر جزء وهو المجرات في الفضاء السحيق . ومن ثم كان الحديث عنها محفوف بمخاطر التخمين والخطأ . وبالطبع فإن الأمر يزداد وعورة عند تصور حقيقة الخلق والأمر في سنن الكون والحياة ، وحقيقة المبدأ والمعاد في مسيرة الكون والتاريخ . وكلها مستحيلة الإدراك بوسائل المعرفة التي يطيقها الإنسان ، فهي غيب يحتاج إلي مصادر أخرى يقينية لإدراكها والتعامل معها .
    ومن هنا كان استخدام وسائل المعرفة الممكنة للإنسان في إدراك الغيب له نتائج وخيمة علي الفكر الإنساني وعلي السلوك البشرى وعلي مسيرة التاريخ والحضارات . ومن ثم كان علي الإنسان الراشد أن يعرف حدوده ، فلا يقع في أساليب من المعرفة تنتهي به إلي الجهل والضياع . ويصل إلي موقف علمي وأخلاقي مهين ، لأنه عطل ما أكرمه الله به من نعمة التفكر والتدبر ، وتحدث في سذاجة تثير السخرية والازدراء .
    يقول تعالي : ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) سورة الإسراء آية 36]


    ومن هذه الوسائل الخاطئة :

    1- الظن :

    إذا تعامل الإنسان مع الغيب بالعقل بني علمه علي الظن والخرص . ولأنه لابد أن يتعامل مع هذا الغيب فإن معرفته الظنية ستؤدى به إلي سبل ضالة وحياة شقية ، ولا يستحق من الراشدين إلا الإعراض عنه ، والتسفيه لما عنده من علم .
    يقول تعالي: إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ولَمْ يُرِدْ إلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ سورة النجم آية 28 - 30
    والراشدون من بني آدم ينزهون عقولهم عن الاستماع إلي أباطيل الذين يزعمون أنهم يمكنهم أن يدركوا هذه الحقائق المطلقة بالتخمين . وللأسف الشديد فإن كثيرا من الفلسفات التي عصفت بالإنسانية كانت من هذا النوع المبني علي الضلال ، والذى يفضي إلي العذاب .
    والتاريخ الإنساني شاهد علي هذا الزيغ . فمن القدماء من عبد الطبيعة ، فقدس الشمس والنجوم ، بل حتي عبد الحيوانات . ومن المحدثين من عبد الدنيا صراحة ممثلة في الآلات ،كما فعل الشيوعيون حين أعطوها صفة الخلق والتطوير . وضل لنفس السبب حتي من اعتمد في معرفة حقيقة الخلق والأمر علي المجاهدة الذاتية دون الاسترشاد ببيان من عليم حكيم .
    يقول تعالي: وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ (116) [ الأنعام: 116 ].

    2- الهوى :

    وكثيرا ما يجنح الإنسان إلي الحقائق ، ليتناسب مذهبه مع رغباته الحسية وشهواته النفسية . فما يشبع هواه فهو الحق الذى يلتمس له كل منطق ، ويلبسه ثوب المصلحة لمناسبته للواقع وعدم مصادماته للرغبات ، وكما يحدث لمن يشغل موقعا يدر عليه مالا ، أو موقعا يحقق له سلطانا ، و يخشي من الحق أن يذهب بهما ، كما يخشي المعارض للمنكر علي حياته وماله وجاهه ، فيرسخ بذلك الجهل والخرافة في المعتقدات ، وتسن القوانين التي تحمي مصالح الطغاة وبطانتهم . ويغيرونها كما يريدون وفي أى وقت يشاءون .
    والهوى لايمكن أن يكون هاديا ، لما في طبيعة الإنسان من ضعف ، إن الهوى رغبة وليس قيمة ، وحاجة وليس خلقا ، والهوى انفعال وليس تقديرا ، والهوى نقص يسعي للتعويض ، والحقيقة غاية لا تنتقص . ولذا لا يمكن للهوى أن يكون طريقا للحق أو الهدى .
    يقول تعالي : ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [القصص : 50]
    وحين يخضع الإنسان لهواه يصير عبدا لكل من يحقق له رغباته . وتضمر في نفسه كل معاني الحرية والأنفة والكرامة . ولا مكان للفكر أو العلم أو التعرف إلي الحق ، بل يغطيها ويزيفها ويضل بها الناس ضلالا بعيداً .
    يقول تعالي: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [ الجاثية: 23 ]
    ويحذر الله عباده من هؤلاء المغرضين ، الذين انفرطت أخلاقهم وتبلدت مشاعرهم ، ويأمر بمخالفتهم والبعد عن مسارهم .
    يقول تعالي : ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) [ الكهف: 28 ].ٍ
    ***
    وغالبا ما يجتمع الظن والهوى في تزييف الحقائق ، وفي تبرير الانحراف، وتزيين الجهل والظلم والشهوات . وذلك كما يفعل علماء السوء مع السلاطين ، وما فعله سلاطين الظلم مع الشعوب . يقول ابن تيمية في تفسير قوله تعالي: فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاقِهِمْ وخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ (69) [ التوبة : 69 ].
    " جمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاقة وبين الخوض ، لأن فساد الدين إما يقع :
    1- بالاعتقاد الباطل في بدع العمل .. وهذا من جهة الشبهات .
    2- من جهة الشهوات .
    وبالصبر تترك الشهوات ، وباليقين تدفع الشبهات ."[1]
    يقول تعالي: قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إلَى الحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) ومَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلاَّ ظَناً إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) [ يونس: 35 - 36].
    وينصرف الخلق عن إدراك الحق لأسباب أخرى ، يبينها الحق تعالي في كتابه العزيز ، ونوجز منها سببين :



    [1] ابن تيمية ، اقتضاء الصراط المستقيم ص 85 ، مطبعة القاهرة 1957م.

  • #2
    تم طرح المووضع في قسم اكثر مناسبة ان شاء الله

    شكرا جزيلا على الموضوع المتميز ..
    شموس في العالم تتجلى = وأنهار التأمور تتمارى , فقلوب أصلد من حجر = وأنفاس تخنق بالمجرى , مجرى زمان يقبر في مهل = أرواح وحناجر ظمئى , وأفئدة تسامت فتجلت = كشموس تفانت وجلى

    سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا اله الا انت نستغفرك ونتوب اليك ،،، ولا اله الا انت سبحانك إنا جميعا كنا من الظالمين نستغفرك ونتوب إليك
    حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ
    ،،،
    يكشف عنا الكروب ،، يزيل عنا الخطوب ،، يغفر لنا الذنوب ،، يصلح لنا القلوب ،، يذهب عنا العيوب
    وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد
    وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم إنك حميد مجيد
    عدد ما خلق الله - وملئ ما خلق - وعدد ما في السماوات وما في الأرض وعدد ما احصى كتابه وملئ ما احصى كتابه - وعدد كل شيء وملئ كل شيء
    وعدد ما كان وعدد ما يكون - وعدد الحركات و السكون - وعدد خلقه وزنة عرشه ومداد كلماته




    أحمد .. مسلم

    تعليق


    • #3
      المشاركة الأصلية بواسطة محب المصطفى مشاهدة المشاركة
      تم طرح المووضع في قسم اكثر مناسبة ان شاء الله

      شكرا جزيلا على الموضوع المتميز ..

      جزاكم الله خيرا

      تعليق


      • #4
        1- لهو الحديث :

        فنرى اليوم نتيجة طغيان الفكر الغربي علي العقول ، تفشي سموم تنعكس علي فكرنا وحياتنا بالسلبيات ، سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه ، خصوصا ونحن نلتزم بمنطلقات الغرب ومصطلحاته وقيمه ، دون فحص أو مراجعة ، منبهرين بما قدمه من مساهمات في واقع الحياة الدنيا ، متجاوزين عما أفرزه من مصائب دمرت الإنسان وحطمت الأسرة ومزقت المجتمع وأشقت العالم . كل ذلك جعل علاقتنا بالقرآن الكريم سطحية ، لم يبق من تأثيره إلا مجرد همهمة تتلي في الميتم والمفرح ، وتعويذة تستخدم في المصائب والكروب .
        وهكذا ردّدنا وراءهم ببلاهة أن الكون ونظامه ليس له من تفسير إلا الصدفة ، والتاريخ وعبره ليس له من تفسير إلا الصراع ، والحياة ليس لها من غاية إلا المتعة الحسية . وهو جهل بكافة المقاييس ، حتي العقلية والتجريبية منها ، وتبسيط مخل في تفسير الكون والحياة يعتمد علي الجهل والغباء.
        يقول تعالي: ومِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6) وإذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) [ لقمان 6-7 ]

        2- الإلف :

        الإلف سم يتلف أنسجة الوعي في الإنسان ، ومن ثم يحتاج إلي التنبيه عن طريق الذكر . والذكر يحتاج إلي تدبر في حكمة الكون : كتاب الله المنظور ، تدبر واع كالسائح الذى يرتاد مكانا لأول مرة . كذلك يحتاج إلي كتاب الله المقروء ، كالسامع الذى يتلقاه لأول مرة ،كأن لم
        يسمعه من قبل .
        وبدون هذا الذكر يستغرق الإنسان في الأكل والمتاع ، ولن يكون هناك امتداد إلا في آمال متقطعة من زينة الدنيا والأماني الزائفة والاهتمامات الصغيرة . ولن تجد علي مستوى الجماعات هدف سامي ولا مواساة لآلام البشر ، وإنما ظلم واستبداد وطمع واستغلال وحروب ومؤامرات .
        يقول تعالي: وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ (170) ومَثَلُ الَذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاَّ دُعَاءً ونِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) [البقرة آية 170-171]
        إن الصورة المخزية للجهل والتأخر لن تولد إلا الضعف والهزيمة ، وهذا ماحدث للمسلمين حيث فقدوا العزة في أوطانهم والأمن في حياتهم ، وحرمت الدنيا من رحمة الإسلام وإنقاذه للمستضعفين في الأرض .
        إن القرآن رواده المفكرون ، الذين يدركون عن فهم آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، فيعلمون أنه الحق من ربهم .
        يقول تعالي: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:آية 29]

        الأساس العقيدى في القرآني
        إن أهم ما يشغل الإنسان الراشد هو معرفة سر الكون والحياة . لهذا كان في حاجة مستمرة إلي من يجيب له عن الأسئلة التي تتردد بين جنباته عن حقيقة الوجود وغاية الإنسانية .
        وليس إلا الله قادر علي بيان الغيب ، ومن ثم ليس هناك من طريق للرشاد إلا الاستماع إليه سبحانه وهو يهدى إلي الحق.
        ومع الرسل أنزل الله الكتب ، فيها البيان الشافي عن حقيقة الكون والحياة ، وفيها شرعة الحياة ومنهاجها الذى يهدى به الله عباده إلي سبل السلام.
        وليس هناك من يقدر علي التعرف علي هذا الحق وحده ، وليس هناك مصدر غير الوحي يمكن الرجوع إليه في معرفته.
        يقول تعالي : تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ وأَجَلٍ مُّسَمًّى والَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4) [ الأحقاف: 1-4 ]
        فمن رحمة الله بعباده أن أرسل الرسل بين الحين والحين بالهدى حتي يتبين للناس الحق فلا يضلون ، وحتي يعرفوا الصراط المستقيم فلا يشقون .
        يقول تعالي: وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى (2) ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [ النجم: 1 -11 ]
        وختمت هذه الرسالات بمحمد صلي الله عليه وسلم وختم الوحي بالقرآن الكريم حيث حفظ الله كتابه ، الذى أوحي به إلي رسوله.
        يقول تعالي: وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) [ المائدة: 48 ]
        والإنسان في حاجة مستمرة إلي من يجيب له عن الأسئلة التي تتردد بين جنباته عن حقيقة الوجود وعن غاية الإنسانية .
        ومن ثم من الممكن أن ندرك الاهتمام الكبير الذى أولاه القرآن لتبيان حقيقة الألوهية وأحوال اليوم الآخر ، وعلي هذه القاعدة الإيمانية يقدم منهاج العمل الصالح الذى يصلح به الكون والحياة .
        فالإيمان بالله قاعدة كل علم حق وأساس كل عمل صالح ، فالله وحده الذى خلق الوجود ويسيره، وهو الذى خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه .
        لهذا من عرف الله تبين له الحق ، وهدى إلي الرشد ، ومن لم يعرف الله كان علمه ناقصا مبتورا ، لأنه يتعامل مع الظاهر ، ولا يدرك الأمور علي حقيقتها .
        وبالإيمان ينطلق الإنسان من حدود ذاته المحدودة إلي رحاب الكون الكبير، ومن حدود عمره القصير إلي امتداد الزمان الذى لا يعلمه إلا الله.
        لهذا نجد في القرآن الكريم الايات المبينة للوجود والتاريخ ترتبط بعلم الله وحكمته معلنة في نهايتها حقيقة القوى الخالقة والآمرة .
        يقول تعالي لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ (26) ولَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ والْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ ولا بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ويُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ البَاطِلُ وأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ (30) [ لقمان آية 26- 30 ]
        يقول ابن قيم الجوزيه : " وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له كلمة قامت بها الأرض والسماوات ، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات ، وبها أرسل الله رسله، وأنزل كتبه وشرع شرائعه ، ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين . وقام سوق الجنة والنار ، وبها تقاسمت الخليقة إلي المؤمنين والكفار والأبرار والفجار ، فهي منشأ الخلق، والأمر والثواب والعقاب، وهي الحق الذى خلقت له الخليقة . وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب ، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة ، وعليها أسست الملة ، ولأجلها جردت سيوف الجهاد ، وهي حق الله علي جميع العباد، فهي كلمة الإسلام ودار السلام ، وعنها يسأل الأولون والآخرون ، فلا تزول قدم للعبد بين يد الله حتي يسأل عن مسألتين : ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ فجواب الأولي بتحقيق لاإله إلا الله معرفة وإقرارا وعملا ، وجواب الثانية بتحقيق أن محمدا رسول الله معرفة وإقرارا وانقيادا وطاعة." [1]
        والإيمان بالله يستلزم الإيمان بالآخرة فهي الامتداد الحقيقي للدنيا ، وفيها الجزاء والبقاء، وذكرت قرين الإيمان بالله. فحقيقة الإيمان بالرابطة بين هذا الوجود وخالقه لا يمكن أن تؤدى دورها إلا إذا أكملت بالإيمان بالرابطة بين عمل الإنسان وجزائه . فهي مقتضي حكمة الله سبحانه وتعالي في خلق الكون والحياة .
        يقول تعالى : وإن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) [الرعد: 5 ].
        لهذا كان أى علم لا يقوم علي هذه الحقيقة علم ناقص ، يقول تعالي عن أصحابه:
        وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) الروم آية 6-7
        وأى عمل لا يستند علي هذه الحقيقة ويرتبط بغايتها عمل حابط ، نتائجه صراع وخسران وشقاء .
        يقول تعالي : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُوْلَئِكَ الَذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ولِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وزْناً (105)الكهف آية 103-105
        ومن ثم كان تبيان حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر هو لحمة القرآن وسداه ، تصادفك في عرض الآيات الكونية من أعماق الذرة حتي مواقع النجوم ، ومن بدأ الخليقة حتي يرث الله الأرض ومن عليها .
        وصفات الله العلية وأحوال الحياة الأخروية ، يقدم القرآن حقائقها لتتلقاها بالتسليم ، بعد أن أعملت قواك العقلية والحسية في الإدراك اليقيني بالله ، والفهم الصحيح لأسمائه الحسني ، والإدراك الواعي لضرورة الجزاء والحساب .
        يقول الله تعالي: ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ومَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) آل عمران


        [1] زاد المعاد ج1 ص403

        تعليق


        • #5
          وشرعة الحياة التي تحدد للإنسان رسالته ، والعمل الصالح الذى يضع أقدامه علي الطريق المستقيم ، يصعب إدراكه في كون مهول لا تعرف حدوده ، وفي واقع متشابك يتأثر ببعضه البعض إلي أقصي الحدود ، وزمان يمتد من ماض سحيق إلي مستقبل مغيب ، ويتصل بنفس إنسانية يستعصي فهمها علي مناهج البحث وأدوات التحليل . ولهذا كان الكشف عنها يحتاج إلي من خلق الكون وقدره ، وأنطق الإنسان وهيأه .
          " فطبيعة الموضوعات التي تعالجها العلوم الإنسانية ... لا تحتمل مناهج التجربة ، هذا بالإضافة إلي أن الإرادة البشرية تتدخل في سير الظواهر الإنسانية ، خلقية وغير خلقية ، وتتكفل بتغيير مجراها تغييرا يجعل من العسير إخضاعها لقانون علمي ثابت ، ويتعذر مع هذا إجراء التجارب في الموضوعات الإنسانية ، إلا في نطاق ضيق محدود ، لا يبرر جعل المنهج التجريبي أساسا لدراستها . بينما يتعذر كشف قوانين العلوم الطبيعية بغير مناهج التجربة ، لأن من أظهر خصائص البحث في هذه العلوم أن يكون موضوعيا غير ذاتي ، ونزيها لا تتدخل فيه عواطف الباحث وميوله . أما مقررات العلوم الإنسانية فمتأثرة لا محالة بعقيدة الباحث وثقافته ، وتقاليد وطنه ونحوها من عوامل تكوينه . وإذا كانت الظواهر الطبيعية تنشأ عن علة أو علل يسهل تحديدها إلي جانب أنها تطرد علي غرار واحد ، فإن الظواهر الإنسانية ، خلقية أو نفسيه أو اجتماعية أو غيرها ، تستثيرها وتتدخل في توجيهها عوامل كثيرة متشابكة ، يرتد بعضها إلي حرية الفرد وخبراته الثقافية والاجتماعية بوجه عام ويرجع بعضها إلي البيئة التي تكتنفه وتؤثر في توجيهه . وهذه العوامل من التفاعل والتشابك بحيث يصعب ـ إن لم يتعذر ـ حصرها وتحديد نصيب كل منها في الظاهرة التي ندرسها ."[1]
          ومن هنا كانت معرفة حقيقة الألوهية واليوم الآخر ، والعمل الصالح الذى ارتضاه الله لعباده في مهمتهم في الأرض (الشريعة) ، تؤخذ من الله وحده الذى خلق فسوى وقدر فهدى . وهذه هي حقيقة الإيمان والإسلام التي أرسل الله بها الرسل وأنزل بها الكتب ، هدى من لدنه ورحمة بعباده.
          يقول تعالي: إنَّ الَذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا والنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) البقرة آية 62



          [1] د. توفيق الطويل ، الفلسفة الأخلاقية ، نشأتها وتطورها ص 348 دار النهضة 1967م

          تعليق


          • #6
            القرآن والعصر

            تُشن اليوم حملة على القرآن يخطط لها جماعات أمريكية وأوربية متعددة، وتتلقى هذه الجماعات دعماً من عدد من رجال الأعمال اليهود، من هذه الجماعات جماعة الحضارة الإنسانية ومنظمة إدوارد كارسل ومنظمة ساريث بالي التي يطلق عليها اسم منظمة الحق الواحد.
            ويتساءل البعض معترضين عن مناقشة شبهات هؤلاء ونحن في معرض تدبرنا للقرآن، والمواجهة هنا إما أن نرفع العصر إلى مستوى القرآن، وهذا يحتاج إلى علم ودراية، وإما أن نرفض بعناد دون حجة أو برهان، وإما نفعل كما فعلت المسيحية في أوروبا فنطوع الدين كما فعل رجال الكنيسة لأهواء العصر. وقد اخترنا الطريق الأول لما يلي:
            ا- ما حققه البشر من إنجازات في النواحي الدنيوية تراكمات ساهم فيها البشر وتسلمها الغرب من المسلمين. ولا يكفي في هذه المواجهة مجرد الرفض للرأي الآخر، فالتقدم في العلم الدنيوي بضاعتنا ردت إلينا. ولا حرج أن نستشهد بأمر وصل إلى درجة اليقين علمياً، أو نذكر قولاً صحيحا لرجل غير مسلم لنحتج به عليه، خصوصاً وأن فطرة الإنسان لا تستنفد كلها وعلى الأقل عند بعض الناس. أما ما يتعلق بالغيب أو التشريع أو الأخلاق فلا يتلقى إلا من الله.
            2- أننا نعيش واقعا دنيوياً عصرياً، له أدواته ومؤسساته، وهي في غالبيتها أدوات محايدة، ونحتاج إلى توجيه القرآن في التعامل معها، وإلا لحدث فصام بيننا وبين مسيرة الحياة، وهذا معناه أن يقتصر نطاق العمل بالإسلام إلى مجرد الشعائر، ومن ثم يغلق علينا باب فهم القرآن، لأن له مصطلحاته التي يجب أن تصبغ المعاملات، وقيمه وأهدافه التي لابد أن تشكل السلوكيات. وهنا فقط نحس بالقرآن يغطي مساحة الحياة كلها، ونستمع إليه وكأننا نستمعه لأول مرة بعد رفع حجاب الإلف وقصور الهمة.
            3- أن الإيمان الفطري والتسليم دون بحث، يصلح في ظل واقع يكون فيه المعروف أصلاً والمنكر مطاردا، تحرسه دولة ويدفع عنه علماء. أما حين تختلط الأمور وتتشابه الحقائق، فإن التبيين ضروري في كل مجال ولازم على كل حال؟ للتحذير والإنذار من غزو الأعداء على مستوى الثقافة ونظام الحياة. ويكفي أن يلقي العدو الماكر شبهه على أبنائنا، فتتفاعل داخلهم دون رد شاف؟ فتنال من إيمانهم.
            4- إن فكر الغرب ونظام حياته أصبح وثناً يُعبد من دون الله، ليس في الغرب وحده وإنما عند بعض المسلمين الذين تربوا عليه ولا يعرفون شيئا سواه، فلا بد من بذل الجهد لهدم ذلك الصنم في داخل الناس أولاً ليتهيأ العقل لقبول الحق، ويصلح الواقع لإقامة البناء.
            ولهذا كان من الضروري أن نسقط أنوار القرآن على ظلمات العصر الفكرية والعملية، وكانت مقدمة السورة التي تطرح موضوعها، تهتم بتوضيح سلبيات العصر المتصلة بالموضوع والارتفاع بها إلى أفق النص.
            يقول أحد علماء الأمة القدامى: فما صد أكثر هذه الأمة عن فهم القرآن ظنهم أن الذي فيه من قصص ا لأولين وأخبار المثابين والمعاقبين، من أهل الأديان أجمعين، أن ذلك مقصوده الأخبار والقصص فقط، كلا، وليس كذلك. إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحوال والآثار، حتى يسمع السامع جميع القرآن، من أوله إلى خاتمته، منطبقاً على هذه الأمة وأئمتها، هداتها وضلالها. فحينئذ ينفتح له باب الفهم، ويضئ له نور العلم، ويتجه له حال الخشية، ويرى في أصناف هذه الأمة ما سمع من أحوال القرون الماضية... فيترقى سمعه إلى أن يجد جميع كلية القرآن، المنطبق على كلية الأمة، منطبقاً على ذاته في أحوال نفسه، وتقلباته وتصرفات أفعاله، وازدحام خواطره، حتى يسمع القرآن منطبقاً عليه، فينتفع بسماع جميعه، ويعتبر بأي آية سمعها منه، فيطلب موقعها في نفسه فيجدها بوجه ما، رغبة كانت أو رهبة، تقريباً كانت أو تبعيداً، إلى أرفع الغايات أو إلى أنزل الدركات...
            يقول تعالى: كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وأَكْثَرَ أَمْوَالاً وأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاقِهِمْ وخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ (69) [التوبة: 69].
            فما من آية نزلت في المشركين تذكر أحوالهم وتبين ضلالهم وتفاصيل سرهم وإعلانهم إلا وهي منطبقة على كل مفتون... فمن وجد في هذا مسة، فليسمع جميع ما أنزل في المشركين من القرآن منطبقا عليه ومنزلاً إليه وحافا به حتى يخلصه الله من خاص شركه، كما خلص من أخرجه من الظلمات إلى النور من الأولين...
            كان لأهل الجاهلية سدرة يعظمونها ويجتمعون عندها وينيطون بها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط، قالوا: يا رسول الله، اجعل لنا هذه السدرة ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال (صلي الله علية وسلم ): قلتموها ورب الكعبة، كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، إنها الستن. ([1])
            وقوى وكثر في هذه الأمة حال الملتين اليهودية والنصرانية، لما آتاهما الله من الكتاب والعلم والحكمة فاختلفوا فيها بالأغراض والأهواء وإيثار عرض الدنيا، وسامحوا الملوك والولاة، وحللوا لهم ما حرم الله وحرموا لهم ما حلل الله، وتوصلوا بهم إلى أغراضهم في الاعتداء على من حسدوه من أهل الصدق والتقوى، وكثر البغي بينهم فاستقر حالهم على مثل حالهم...
            يقول رسول الله (صلي الله علية وسلم ): لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا، بشبر أو ذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن. ([2])




            [1] رواه الترمذي، وقال حسن صحيح. رجاله رجال البخارى ومسلم و اسناده متصل وصححه الشيخ الأرناؤوط في جامع الأصول، ج 10 ص 7402.

            [2] رواة مسلم ، صحيح الجامع الصغير السيوطي تحقيق الألباني، ج 2 ص 903.المكتب الإسلامي سنه1406
            البقاعي، نظم الدرر، ج 3 ص 355-356.

            تعليق


            • #7
              تدبر القرآن :
              يقول الشاطبي : إعمال الرأى في القرآن جاء ذمه ، وجاء أيضا مايقتضي إعماله . وحسبك من ذلك ما نقل عن الصديق ، فإنه نقل عنه أنه قال وقد سئل في شئ من القرآن : أى سماء تظلني وأى أرض تقلنى إن أنا قلت في كتاب الله بما لا أعلم ؟
              فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأى وتركه فى القرآن ، وهما لا يجتمعان ، والقول فيه : أن الرأى ضربان :
              أحدهما : جار علي موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة ، فهذا لايمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور:
              1- أن الكتاب لابد من القول فيه ببيان معني ، واستنباط حكم ، وتفسير لفظ ، وفهم مراد ، ولم يأت جميع ذلك عمّن تقدم . فإما أن يتوقف دون ذلك ، فتعطل الأحكام كلها أو أكثرها ، وذلك غير ممكن ، فلا بد من القول فيه بما يليق .
              2- أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلي الله عليه وسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف ، فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول . والمعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك . فدل علي أنه لم يكلف به علي ذلك الوجه ، بل بين منه مالا يوصل إلي علمه إلا به . وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم ، فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف .
              3- أن الصحابة كانوا أولي بهذا الاحتياط من غيرهم ، وقد علم أنهم فسروا القرآن علي مافهموا ، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه . والتوقيف ينافي هذا ، فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأى لايصح .
              4- أن هذا الفرض لايمكن ، لأن النظر في القرآن من جهتين :
              أ- من جهة الأمور الشرعية ، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأى والنظر جدلا .
              ب - ومن جهة المآخذ العربية ، وهذا لا يمكن فيه التوقيف ، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين ، وهو باطل ، فاللازم عنه مثله ، وبالجملة فهو أوضح عن إطناب فيه .
              والثاني :أما الرأى غير الجارى علي موافقة العربية أو الجارى علي الأدلة الشرعية ، فهذا هو الرأى المذموم من غير إشكال . كما كان مذموما في القياس أيضا ، حسبما هو مذكور في كتب القياس ، لأنه تقوّل علي الله بغير برهان ، فيرجع إلي الكذب علي الله تعالي.
              وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأى في القرآن ماجاء.[1]
              وفي تفسير ابن كثير :" قال ابن عباس: التفسير علي أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لايعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لايعلمه أحد إلا الله ."[2]


              [1] الشاطبي ، الموافقات ج3 ص 285، 286

              [2] ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ج1 ص 6 دار المعرفة 1400هـ

              تعليق


              • #8
                ومن هنا نعلم:

                1- أن المتشابه نسلم إلي الله علمه ، ونتلقاه توقيفا .
                2- اللغة تعرف من علمائها ، والشريعة يسأل عنها أهلها ، ممن تتوفر لهم أدواتها .
                3- الباقي لايعذر مؤمن بجهالته ، وهو المحكم الذى وضحت لغته ووضح مفهومه . فهو صلة مباشرة بين الله وعباده ، يحدث الله به عباده جميعا ، فتشرق في نفوسهم أنوار الهداية الربانية ، وتهدأ نفوسهم بما يحيطهم الله به من رحمة ورعاية . ييسره الله للذكر ليعرفه عباده فيطيعوه ويتخلقوا بأخلاقه ، ويعقدوا به الصلة مع الكون الذى يسبح بحمد الله ، ومع التاريخ الذى يحمل راية لاإله إلا الله ، ومع الناس الذين يسعون بجهدهم إلي مرضاة الله .
                يقول تعالي: ﴿ ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17)﴾ القمر آية 17

                أسلوب القرآن :
                القرآن هو الحبل الذى يصل الإنسان بربه ، ولاغني للإنسان عن ربه في أى حال . لهذا كان فى القرآن ، الذى يتعبد به نهارا وليلا ، في الراحة والعمل ، في المسجد والمصنع ـ من الخصائص ما يتباين به عن أسلوب العصر . من هذه الخصائص :
                1- شمولية النظرة :
                لابد أن يتضح فى الأذهان أن القرآن الكريم ليس كتاب علم تجريبي ، وليس كتاب فقه فحسب ، وليس كتاب تاريخ ، فذلك لا يحتاج إليه إلا حين سؤاله عن قضية أو واقعة ، ولكنه كتاب عبادة ومناجاة ، وكتاب معرفة وبيان ، وكتاب تشريع وتربية ...
                يقول تعالي :﴿ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِـينَ (90) الَذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ (94)﴾ الحجر
                يقول الشيخ محمد الغزالي : " الأحكام الفقهية التشريعية ، والمعتقدات الإلهية ، والآيات التي تأمر بالنظر في الكون ، وآيات التربية ، وما إلي ذلك من تعاليم إسلامية .. متماسكة في عصارة واحدة تجمعها من أولها لآخرها . ومن المستحيل أن أنظر إلي القرآن النظرة الجزئية التي تجعلني أعيش في جانب منه وأنسي الجانب الآخر . كما لا يمكن أن يتكون الدم من كريات حمراء فقط ، وبيضاء فقط ، وبعض العناصر المعدنية فقط ، التي تميز الدم ولا يكون دما إلا بها .. كذلك لا يمكن إطلاقا أخذ جانب من القرآن وإهمال الجوانب الأخرى ، لأنها جوانب يجر بعضها بعضا ، متماسكا .
                فالنظرة الشاملة هي النظرة الصحيحة للدراسات القرآنية ، ولا يمكن الرضي بنظرة جزئية، .. والنظرة الجزئية عندما سادت الفكر الإسلامي ونشأ عنها مايشبه الجسم المشلول في بعض أطرافه ، أو في بعض أجهزته ، مع بقاء أجهزة أخرى حية .. فلا يستطيع أن يؤدى وظيفته مادام الشلل جمد بعض الأجهزة أو بعض الأعضاء .. فلابد من النظرة الشمولية للقرآن كله ."[1]
                ولقد عرفنا اليوم أنه كلما ازددنا قربا من الكون كشفا وبحثا ، تأكد لنا عمق هذه المعرفة التي لا تطال، وكذلك كلما اقتربنا من القرآن كشفا وبحثا ، بانت أسرار وانكشفت أحكام ، في تجدد لاينقطع . تماما كالجوهرة التي تسقط إشعاعاتها علي زوايا مختلفة ، تكشف حال عصر ثم عصر آخر ، ويأخذ كل عصر منه زادا ومتاعا ، مهما اختلف المكان وتتابع الزمان . لا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق علي كثرة الرد ، ولا تزيغ به الأهواء ، ولاتنقضي عجائبه . من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدى إلي صراط مستقيم .
                يقول السيوطي: " وبعد، فإن العلم بحر زخّار ، لايدرك له من قرار، وطود شامخ لايسلك إلي قمته الأبصار ، من أراد السبيل إلي استقصائه لم يبلغ إلي ذلك وصول، ومن رام الوصول إلي إحصائه لم يجد إلي ذلك سبيلا، كيف وقد قال تعالي مخاطبا لخلقه: ﴿ ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً ﴾الإسراء آية 85 ، وإن كتابنا القرآن لهو مفجر العلوم ومنبعها ، ودائرة شمسها ومطلعها، أودع فيه سبحانه وتعالي علم كل شيء، وأبان فيه كل هدى وغيّ ، فترى كل ذى فن منه يستمد ، وعليه يعمد ، فالفقيه يستنبط منه الأحكام، ويستخرج حكم الحلال والحرام ، والنحوىّ يبني منه قواعد إعرابه ، ويرجع إليه في معرفة خطأ القول من صوابه، والبيانيّ يهتدى به إلي حسن النظام، ويعتبر مسالك البلاغة في صوغ الكلام ، وفيه من القصص والأخبار مايذكر أولِي الأبصار ، ومن المواعظ والأمثال مايزدجر به أولو الفكر والاعتبار، إلي غير ذلك من العلوم ، لايقدر قدرها إلا من علم حصرها."[2]
                ومن هنا تتوزع الحقائق على امتداد الزاد اليومي للإنسان من القرآن ، ففى السورة الواحدة تتوزع حقيقة الألوهية وحقيقة الآخرة ، وتاريخ الإنسانية وأخذ العبرة منه، ويتحدد العمل الصالح المطلوب عمله، بعد أن تكون الحقائق الإيمانية قد أيقظت النفس وأوقفتها أمام الحقيقة والمسؤولية.
                2- خطاب العقل والقلب :
                النفس الإنسانية عالم من الإنفعالات تتعدد نوازعها وأشواقها ، وعالم من الإدراك فمنه الحسى ومنه العقلى ومنه القلبى ،لم يستطع العلم المعاصر أن يسبر حتى القليل من أغوارها ، وحسب اعتراف علمائه أنهم أصبحوا أغنياء فى علوم المادة ، فقراء فى معرفتهم عن الإنسان .


                [1] محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن ص 84-85 المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1991م

                [2] الإتقان في علوم القرآن ، السيوطي ج 1 ص 4,3

                تعليق


                • #9
                  والله وحده الذى خلق الإنسان، هو وحده العليم بما يصلحه ، الحكيم فيما يعلمه.فحين يتحدث القرآن للنفس الإنسانية يدخل عليها من كل أبواب إدراكها ، ما عرف منه وما لم يعرف، فهو يخاطب الحس والوجدان والعقل والفؤاد ،والجسد والروح، والفطرة والبديهة. وحين يتعامل مع النفس الإنسانية يتعامل معها من جميع جنباتها التى تستجيب لرغباتها المادية ولأشواقها الروحية. فيخاطبها من عالم الواقع واضعا أقدامها في عالم المثال ، ويشد انتباهها من جواذب الأرض إلي آفاق السماء ، وينير عقلها بعالم الغيب مع إدراكها لعالم الشهادة .
                  والإنسان مجموعة من الانفعالات الحسية والرغبات الروحية والمدركات العقلية ، كلها تتفاعل داخله ، وتؤدى وظائف متنوعة في رحلة الإنسان علي الأرض . فالتفكر والتدبر ضروريان لهداية الإنسان إلي الحق . ولكن الإرادة يحركها انفعال داخل النفس يعمل ويتصل بعواطفه وأشواقه . والعقل بدون إرادة فلسفة عابثة لا تأثير له في واقع الإنسان ولا فاعلية له في إحداث التغيير ، والإرادة بدون العقل قوة عمياء تحركها الغريزة والشهوة وتدوس علي كل قيم العدل والرحمة .
                  فالقرآن يخاطب الإنسان من كل جوانبه ، عاطفته بجانب عقله ، أشواقه بجانب غرائزه . ولو اقتصر علي الجانب العقلي لوجدنا موضوعا له مقدمات ونتائج مرتبة ترتيبا حسب أولوياتها . ولو كان موضوعا عاطفيا لشاهدناه فنا مؤثرا بالجرس والوزن والبلاغة والتصوير . والجمع بين الإثنين يعجز عنه أسلوب البشر ، ولايطيقه إلا رب الناس الذى خلقهم ويعلم مايصلحهم . فهو يخاطب النفس التي خلقها ، ويعلم سرائرها ، من كل جوانبها وزواياها . فنجد الأمر والنهي يثني بالقصة ويقرب بالمثل ، ويطعم بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، مما يهيئ النفس للتلقي المتفتح والتأثر الواعي .
                  يقول الدكتور دراز : " فمن لك إذا بهذا الكلام الواحد الذى يجئ من الحقيقة البرهانية الصارمة بمايرضي حتي أولئك الفلاسفة المتعمقين ، ومن المتعة الوجدانية الطيبة ، بما يرضي حتي هؤلاء الشعراء المرحين ؟ ذلك الله رب العالمين . فهو الذى لايشغله شأن عن شأن ، وهو القادر علي أن يخاطب العقل والقلب معا بلسان ، وأن يمزج الحق والجمال معا ، يلتقيان ولايبغيان ، وأن يخرج من بينهما شرابا خالصا سائغا للشاربين . هذا هو ماتجده في كتابه الكريم ، حيثما توجهت . ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لاينسي حق العقل من حكمة وعبرة . أو لاتراه في معمعة براهينه وأحكامه لاينسي حظ القلب من تشويق وترقيق ، وتحذير وتنفير ، وتهويل وتعجيب ، وتبكيت وتأنيب . يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها ." [1]


                  [1] د. محمد عبد الله دراز ، النبأ العظيم - نظرة جديدة في القرآن الكريم .ص 109-110 مطبعة السعادة 1969م

                  تعليق


                  • #10
                    3- تنوع الخطاب :

                    للقرآن أسلوبه البيان المتفرد في خطاب النفس الإنسانية ، وفي طريقة عرضه للأوامر والنواهي .
                    يقول الدكتور دراز :" ترى القرآن يعمد إلي الأضداد يجاور بينها فيخرج بذلك محاسنها ومساويها في أجلي مظاهرها ، ويعمد تارة أخرى إلي الأمور المختلفة في أنفسها من غير تضاد فيجعلها تتعاون في أحكامها ، يسوق بعضها إلي بعض مساق التنظير أو التفريع أو الاستشهاد أو الاستنباط أو التكميل أو الاحتراس ، إلي غير ذلك . وربما جعل اقتران معنيين في الوقوع التاريخي أو تجاور شيئين في الوضع المكاني دعامة لاقترانهما في النظم ، فيحسبه الجاهل بأسباب النزول وطبيعة المكان خروجا وماهو بخروج ، وإنما هو إجابة لحاجات النفوس التي تتداعي فيها تلك المعاني . فإن لم يكن بين المعنيين نسب ولا صهر بوجه من هذه الوجوه ونحوها ، رأيته يتلطف في الانتقال من أحدهما إلي الآخر ، إما بحسن التخلص والتمهيد ، وإما بإمالة الصيغ التركيبية علي وضع يتلاقي فيه المتباعدان ويتصافح ال*****ران ".[1]
                    ويقول الرازى : " اعلم أن عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع علي أحسن الوجوه ، وهو أنه يذكر شيئا من الأحكام ، ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب . ويخلط بها آيات دالة علي كبرياء الله وجلال قدرته وعظمة ألوهيته . ثم يعود مرة أخرى إلي بيان الأحكام . وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلي التأثير في القلوب . لأن التكليف بالأعمال الشاقة لايقع في موقع القبول إلا إذا كان مقرونا بالوعد والوعيد ، والوعد والوعيد لايؤثر في القلب إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد ، فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلي الدين الحق ...
                    وإذا كان الدليل الواحد دليلا علي مدلولات كثيرة ، فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به علي أحد تلك المدلولات . ثم يذكره مرة أخرى ليستدل به علي الثاني . ثم يذكره ثالثا ليستدل به علي المدلول الثالث . وهذه الإعادة أحسن وأولي من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة . لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن مايوجب العلم بالمدلول . فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأحلي . فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال . وأيضا فإذا أعدته ثلاث مرات وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله ، تنبه الذهن حينئذ لكون تخليق السموات والأرض دالاً على أسرار شريفة ومطالب جليلة ، فعند ذلك يجتهد الإنسان فى التفكر فيها ، والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى ، ولما كان الغرض الكلى من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق فى معرفة الله ،


                    [1] محمد عبد الله دراز ، المرجع السابق ، ص 110

                    تعليق


                    • #11
                      كان هذا التكرير مما يفيد فى حصول هذا المطلوب ويؤكده ، لا جرم كان فى غاية الحسن والكمال .
                      يقول سيد قطب : " فللقرآن أسلوبه الخاص من التنقل والمراوحة ، والتخول بالموعظة في تضاعيف القول ، والوقوف عند العبرة لتجليتها ، والحكمة إلي مغزاها .
                      والمعني بعرض القرآن ينتقل إلي الإحساس عن طريق الأسلوب الذى يحول اللفظ إلي صورة شاخصة منسجمة ، وحركة متجددة نشطة ، كأن الإنسان حاضر الواقعة يسمع ويرى ...
                      مرة تجد المشهد في الحياة الدنيا ونهايته في الآخرة دون توقف ، ومرة تجد الدنيا والآخرة معا كأنهما حاضران ، ومرة ينتقل من الخبر إلي الإنشاء ، ومن القصة إلي الحوار ، ومن الوصف إلي الأمر ، وكأنها الحياة بحيويتها وحركتها ، في ألفاظ وموسيقي تناسب المشهد ، فتطول حين تخاطب العقل ، وتقصر وتشتد حين تخاطب الحس . وفي وصف مشاهد النعيم والعذاب والبعث والحساب ، مجسما في هول يخلع النفس ويفزع الحس . إنه يشبه في سياقه موج البحر المتدافع تتلاحق فيه الموجات فتفتت الران والغفلة ، كما يفتت الماء الصخر ، ويجرف الران بتسلله إلي جوانب النفس ليزكيها ، فتعود إليه الحياة نشطة متيقظة للعبرة والعظة والوعد أو الوعيد ، في إيقاع تصويرى ، ونغم موسيقي ، وإبداع واقتناع ، يشعر من يقرأه بسلطانه ، فينسكب في حسه بمجرد استماعه إليه ، لأنه يتصل بالفطرة كما خلقها الله .
                      لقد عمد القرآن إلي لمس البداهة ، وإيقاظ الإحساس ، لينفذ منها مباشرة إلي البصيرة ، ويتخطاها إلي الوجدان ، وكانت مادته هي المشاهد المحسوسة ، والحوادث المنظورة ، والمشاهد المشخصة ، والمصائر المصورة ، كما كانت مادته هي الحقائق البدهية الخالدة ، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة ، وتدركها الفطرة المستقيمة ."[1]

                      عبرة التاريخ:

                      القصص وسيلة هامة لعرض الحقائق ، أكثر فاعلية من العرض المجرد ، ولهذا استخدمه القرآن فى تحقيق المقاصد التالية:
                      1-تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين لقى العنت والأذى ، وهو يبلغ رسالة ربه يقول تعالى : وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود: 120]
                      2-تربية الخلق وتهذيب السلوك ،فليس المقصود من القصص مجرد التسلية ، وقد اتفق علماء النفس
                      على أن القصص من أنجح الوسائل للتوجيه ،لأنه يقدم صورة تاريخية فى عرض شيق أو مخيف ،مما يحرك المشاعر ،ويؤدى إلى تأصيل العادات ،والسرد العادى لا يغذى إلا العقل ،والقصة تؤثر فى السلوك العملى عن طريق انفعال الوجدان.

                      [1] سيد قطب ، التصوير الفني في القرآن ص 229-230 دار الشروق 1988

                      تعليق


                      • #12

                        3-قصص أهل الكتاب تبين للمسلمين تجربة مليئة بالأحداث الهامة التى تقابلهم فى طريق الدعوة ،ومعرفة مداخلهم ،ينبه المسلمين إلى كثير من مكرهم ،والاعتبار بهم ينجى من كثير من المهالك التى وقعوا فيها ،خصوصا أن بنى إسرائيل واجهوا الأمة المسلمة منذ ظهورها حتى اليوم بالعداء ، فحرضوا المشركين واحتضنوا المنافقين، وقادوا حملات التشكيك والتحريف والشائعات، وكان تاريخهم طويلاً فى العناد وأكل المال بالباطل وقتل النبيين والذين يأمرون بالقسط من عباد الله، ولقد قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به، ولهذا نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه العبرة بقوله: "لتتبعن سنن من قبلكم، شبراً بشبر أو ذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قالوا: اليهود والنصارى؟قال:فمن؟"[1]
                        ولم يكن السرد التاريخى لمجرد الكشف عن وقائع أو توثيق حوادث، وإنما قصد إلى توضيح مغزى معين للتأثير به على سلوك الإنسان، ولهذا كثيراً ما نجد أسماء الأشخاص محذوفة والأماكن غير ملتفت إليها، وتختصر التفصيلات التى لا تمس هدف القصة.
                        كما أننا نرى من القصص ما يتكرر عرضه فى صور متنوعة، بعضها موجز وبعضها مفصل، وفى كل عرض تركيز على جانب معين يخدم موضوع السورة، وبعضها يضيف إلى القصة معنى جديداً فيستدعى القارىء أو السامع ما سبق عرضه من تفصيل، على سبيل المثال نجد قصة آدم عليه السلام لأول مرة فى سورة البقرة، فنرى التركيز على استخلاف الله له وأمره بطاعته ، وكيف كانت طاعته لإبليس سبباً لخروجه من الجنة، وفى سورة الأعراف تتحدث عن دور الشيطان فى كشف عورته ليريه سوأته، فتتشكل القصة لتخدم عالم السورة وموضوعها، وفى قصة سيدنا موسى، التى وردت فى ثلاثين موضعاً، نجد أن الحلقات الأساسية لم تتكرر تقريباً، وإذا كررت جاءت الحلقة بشىء جديد، عدا ستة مواضع كانت فيها إشارات قصيرة للقصة لمجرد استدعاء القصة وتذكر العبرة، مما يجعل المتدبر مستحضراً دائماً لجو القصة حتى وإن لم يشار إلى تفصيلاتها.
                        وفى الأبحاث المعاصرة، عادة ما يرغب الباحثون فى تكرار موضع التجربة، ذلك لأن الخصائص التى عرفت عنه تغنى الباحث عن استخدام شىء جديد يحتاج إلى جهد فى إدراك خصائصه.
                        وما دام الإنسان لم يتغير تكوينه، ولا غرائزه ولا أشواقه، فإن سلوكه ومداخل التأثير فيه وتحديد الصالح له، لا يختلف مهما اختلف الزمان أو تباعد المكان، لهذا كانت الأسوة بالصالحين والاعتبار بمصائر العاصين، ذخيرة ثرية من التجارب التى تفيد الإنسان فى مسيرة التاريخ.




                        [1] رواه مسلم، صحيح الجامع الصغير السيوطى، تحقيق الألبانى، ج2 ص903، المكتب الإسلامى سنة 1406ﻫ .

                        تعليق


                        • #13

                          موضوع السورة
                          إن تدبر القرآن لا يعنى استرواحا ذاتيا لجمال التعبير، أو إعجابا بدقة وصف، أو انفعالا بحكمة تشريع فحسب، بل هو يحتاج بدءاً إلى قناعة بأنه وحى من عند الله، ولعل من أهم المداخل إلى ذلك أن ترى الوحدة الموضوعية للسورة ومن الآيات ما يكون نزل مفرقا على مدى من الزمان، وارتباط موضوع السورة بالتى تليها فى تجاوب وتناسق، لتتجلى معجزة ما أنزل الله من أربعة عشر قرنا.
                          وتدبر الآية منفردة يفيد فى القضايا الجزئية والأبحاث اللغوية والفقهية، ومصدره بلا شك كثير من كتب التفسير، ولكنها لا تغنى بحال عن تدبر الوحدة العضوية للآيات فى السورة، والسورة مع قرينتها، للانفتاح على القرآن كله موضوعاً وحكمة وغاية.
                          لهذا كان العرض السابق كله عن أسلوب القرآن تمهيداً ضرورياً للوصول إلى فهم الوحدة العضوية بين آيات السورة، وبين سور القرآن. فالآيات تدور حول محور السورة كما تدور الكوا كب حول شمسها، وتتناغم السورة مع قرينتها كما يتناغم نجمان معاً فى الحركة عبر الآفاق. والسورة لغة معناها: الشرف أو الإحاطة، كما يحيط السور بالمدينة والسوار بالمعصم.
                          وقد ذكرنا أن الموضوعات العلوية فى القرآن، وهى حقيقة الألوهية وحقيقة اليوم الآخر، حق مطلق، من أجلها قامت السماوات والأرض، وعلى محورها يتحرك الوجود . وعلي أساسها العقيدى يدور ابتلاء الإنسان فى الأرض، ومن أجلها يسير التاريخ لغايته، وتتوالى الحضارات نمواً واندحاراً، وحول هذه الغاية يتحدث القرآن أمراً ونهياً، وترغيباً وترهيباً، ووعداً ووعيداً. وعليها يكون الخوف والرجاء، والحب والولاء، والكره والبراء، والمودة والعداء. وإليها يكون البعث والحساب والجزاء فى الجنة أو النار. هذه الموضوعات العلوية هى لحمة السورة وسداها، وهى التى تظهر للوهلة الأولى التشابه بينها، كما يتشابه الناس والأشياء، ثم بالتدبر والاقتراب يتبين التمايز والتفرد. على سبيل المثال: إذا نحن أردنا أن نرى الفرق بين إنسان وإنسان، نجد أنه يصعب التمييز للوهلة الأولى بين الناس، إذا كان التمييز فى الشكل العام والتقسيم الحيوى، وإنما يسعفنا التعرف إليه من خلال سلوكه وتاريخه، من روحه واهتماماته، ولو أردنا التمييز بين مدينة أوربية وأخرى آسيوية لن تسعفنا ابتداء التفرقة بينها فى المبانى والشوارع، ولكن يسعفنا التاريخ والقيم التى يعيش عليها أهلها، والسورة كذلك.
                          ولو جاز لنا أن نضرب المثال على هذا، لنتصور تقديم موضوع معين وليكن دراسة لحياة إنسان، إننا نبدأ فى تصويره من البيئة التى تحيط به والزمان الذى يعيش فيه، ثم نهبط إلى قومه فمدينته فشارعه فبيته، ثم نركز على شخصه، ونظل نتابع شخصه من خلال الزمان والمكان، فنتحرك معه من خلال مكان آخر وزمان آخر. وفى السورة نتحرك إلى موضوعها من خلال حشد هائل من ملكوت السموات والأرض من ناحية المكان، ومن امتداد الدنيا إلى الآخرة من ناحية الزمان، ومن عالم الشهادة إلى عالم الغيب فى العرفان، حتى نصل إلى المطلوب عمله لتحقيق الغاية المراد نيلها.
                          ففى سورة الشمس ندخل من الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها، إلى السماء وما بناها والأرض وما طحاها، لنصل إلى النفس الإنسانية بغرائزها وأشواقها، تنبيهاً إلى فلاح من زكاها وخيبة من دساها، ثم نعبر عبرة التاريخ تنبيهاً إلى ما أصاب ثمود بالطغيان، حتى أهلكتهم الذنوب، وكان عاقبتهم الخسران.
                          يقول الدكتور دراز: "وهذا الباب من أبواب البحث والاستنباط الذى لا يمس أصلاً من أصول الدين، ولا يحل حراماً أو يحرم حلالاً، لايزال مفتوحاً لكل مسلم أعطاه الله فهماً فى كتابه، على شريطة القصد والأناة فى سبر العقل، مع الاستفادة فى هذا السبر بمصباحين من اللغة والشرع ([1]).
                          فالسياسة الرشيدة فى دراسة النسق القرآنى تفضى بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه، فلا يتقدم الناظر إلى البحث فى الصلات الموضعية بين جزء وجزء منه، وهى تلك الصلات المبثوثة فى مثانى الآيات ومطالعها ومقاطعها، إلا بعد أن يحكم النظر فى السورة كلها بإحصاء أجزائها وضبط مقاصدها، على وجه يكون معواناً على السير فى تلك التفاصيل عن بينة، فقديماً قال الأئمة: إن السورة مهما تعددت قضاياها فهى كلام واحد يتعلق آخره بأوله، وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلق الجمل بعضها ببعض فى القضية الواحدة، وإنه لا غنى لمتفهم نظم السورة عن استيفاء النظر فى جميعها، كما لا غنى عن ذلك فى أجزاء القضية.
                          وبهذا تعرف مدى الخطأ الذى يتعرض له الناظرون فى المناسبات بين الآيات، حين يعكفون على بحث تلك الصلات الجزئية بينها بنظر قريب إلى القضيتين أو القضايا المتجاورة، غير مادين أبصارهم عن هذا النظام الكلى الذى وضعت عليه السورة فى جملتها، كمثل امرئ عرضت عليه حلة موشية دقيقة الوشى، ليتأمل نقوشها فجعل ينظر فيها خيطاً ورقعة رقعة، لا يجاوز بصره موضع كفه، فلم يجد فيها من حسن الجوار بين اللون واللون ما يروقه، حتى إذا ألقى على الحلة كلها نظرة جامعة تنتظم أطرافها وأوساطها، بدا له من تناسق أشكالها ودقة صنعها ما هو أبهى وأبهر، فكذلك ينبغى أن يصنع الناظر فى تدبره لنظم السورة من سور القرآن ([2]).


                          [1] د. محمد عبد الله دراز، النبأ العطيم ص 168.

                          [2] د. محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم ص 153- 158.

                          تعليق


                          • #14
                            علم المناسبة:
                            عندما نتحدث عن موضوع السورة لا نتحدث عن أمر جديد فى علوم القرآن، فقد سبق إلى التنبيه على أهميته الكثير من علماء المسلمين.
                            يقول السيوطى فى موضوع مناسبة الآيات والسور إنه: " أفرده بالتأليف العلامة أبو جعفر بن الزبير، شيخ ابن حبان، فى كـتاب سماه (البرهان فى مناسبة ترتيب سور القرآن)، ومن أهل العصر الشيخ برهان الدين البقاعى، فى كتاب سماه: (نظم الدرر فى تناسب الآى والسور)، وكتابى الذى صنفته فى أسرار التنزيل، كافل بذلك، جامع لمناسبات السور والآيات، مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة، وقد لخصت منه مناسبة السور خاصة فى جزء لطيف سميته: (تناسق الدرر فى تناسب السور).
                            وعلم المناسبة علم شريف، قل اعتناء المفسرين به لدقته، وممن كثر فيه الإمام فخر الدين، وقال فى تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة فى الترتيبات والروابط.
                            وقال ابن العربى فى (سراج المريدين): ارتباط آى القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعانى منتظمة المبانى، علم عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد، عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله لنا فيه، فلما لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة، ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه.
                            وقال الشيخ ولى الدين الملوى: قد وهم من قال لا يطلب للآي الكريم مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، والذى ينبغى فى كل آية أن يبحث أول كل شئ عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجد فى مناسبتها لما قبلها؟ ففى ذلك علم جم، وهكذا فى السور، يطلب وجه اتصالها بما قبلها، وما سيقت له ([1]).
                            ويقول: "قال بعض المتأخرين: الأمر الكلى المفيد لعرفان مناسبة الآيات فى جميع القرآن، هو أنك تنظر إلى الغرض الذى سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات فى القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام فى المقدمات، إلى ما يستتبعه من استشراف فى نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له، التى تقتضى البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلى المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فإذا فعلته تبين لك وجه النظم مفصلاً، بين كل آية وآية فى كل سورة ([2]).
                            من هذا النوع مناسبة فواتح السور وخواتمها.. انظر إلى سورة القصص كيف بدئت بأمر موسى ونصرته، وقوله:﴿ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17]، وخروجه من وطنه وختمت بأمر النبى (ص) ﴿ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ ﴾ [القصص: 86].
                            وقد جعل الله فاتحة سورة المؤمنين: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون:1] ،، وأورد فى خاتمتها: ﴿إنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 117]



                            [1] السيوطى، الإتقان فى علوم القرآن ج 3 ص 2 32، 323، المكتبة العصرية 1988.

                            [2] نفس المصدر ، ص 327، 328.

                            تعليق


                            • #15

                              وكافتتاح سورة البقرة بقوله تعالى: ﴿ الـم (1) ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ا- 2] فإنه إشارة إلى الصراط المستقيم، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط، قيل لهم ذلك الصراط الذى سألتم الهداية إليه هو الكتاب، وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة.
                              ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتى قبلها، لأن السابقة وصف الله فيها المنافق بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر فيها مقابلة البخل: "إنا أعطيناك الكوثر، أى الخير الكثير، وفى مقابلة ترك الصلاة: فصل، أى دم عليها، وفى مقابلة الرياء، لربك أى لرضاه لا للناس، وفى مقابلة منع الماعون، وانحر، وأراد به التصدق بلحم الأضاحى". ([1])
                              يقول البقاعى:
                              " فعلم مناسبات القرآن علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعانى لما اقتضاه من الحال. وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك منها. ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها فلذلك كان هذا العلم فى غاية النفاسة، وكانت نسبته من علم التفسير نسبة علم البيان من النحو....

                              وبهذا العلم يرسخ الإيمان فى القلب، ويتمكن من اللب. وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقين:
                              1- نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب.
                              2- نظمها مع أختها بالنظرإلى الترتيب.
                              والأول أقرب تنازلأ وأسهل ذوقاً، فإن كل من سمع القرآن من ذكى وغبى يهتز لمعانيه وتحصل له عند سماعه روعة بنشاط، ورهبة مع انبساط، لا تحصل عند سماع غيره. وكلما دقق النظرفى المعنى، عظم عنده موقع الإعجاز.
                              ثم إذا عبر الفطن من ذلك إلى تأمل ربط كل جملة بما تلته وما تلاها خفى عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة، والأغراض متنائية المقاصد. فظن أنها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما كان حصل له بالسماع من الهز والبسط، ربما شككه ذلك بكثير، وزلزل إيمانه وزعزع إيقانه. وربما وقف مكيس من أذكياء الخالفين عن الدخول فى هذا الدين بعدما وضحت لديه دلائله، وبرزت له من حجالها دقائقه وجلائله، لحكمة أرادها منزله، وأحكمها مجمله ومفصله. فإذا استعان بالله وأدام الطرق لباب الفرج بإنعام التأمل وإظهار العجز والوثوق بأنه من الذروة من أحكام الربط، كما كان فى الأوج من حسن المعنى واللفظ، لكونه كلام من جل عن شوائب النقص وحاز صفات الكمال، إيماناً بالغيب


                              [1] نفس المصدر ج 3 ص 332، 333.

                              تعليق

                              مواضيع ذات صلة

                              تقليص

                              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                              ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 1 أغس, 2023, 06:55 م
                              ردود 0
                              26 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
                              ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 11 يول, 2023, 05:19 م
                              ردود 0
                              20 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة عطيه الدماطى  
                              ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 10 يول, 2023, 07:05 م
                              رد 1
                              21 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
                              ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 4 يول, 2023, 10:07 م
                              ردود 0
                              15 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة عطيه الدماطى  
                              ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 30 يون, 2023, 04:06 م
                              ردود 0
                              18 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة عطيه الدماطى  
                              يعمل...
                              X