مناظرة السيف و القلم ...!

تقليص

عن الكاتب

تقليص

بن عفان مسلم اكتشف المزيد حول بن عفان
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مناظرة السيف و القلم ...!

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله


    مناظرة السيف و القلم


    لمَّا كان السيفُ والقلمُ عُدَّتي العمل وَالقَوْل، وَعُمْدتي الدُّوَل، فإنْ عَدِمَتهما دولَةٌ فلا حَوْلَ، وَرُكْني إسنادِ المُلْك الُمعربَيْنِ عن المخفوضِ والمرفوع، وَمُقَدِّمَتَي نتيجة الجدلِ الصادر عنهما المحمولُ والموضوع , فكَّرْتُ أيهما أعظمُ فخراً وأعلى قدراً فجلستُ لهما مجلسَ الحُكْمِ والفتوى ، ومثلتُهما في الفكرِ حَاضِرَيْنِ للدعوى ، وسوّيت بين الخصمينِ في الإكْرَامِ ، واستنطقتُ لسانَ حالِهمَا للكلام.

    فقال القلم: بسم الله مجريها ومُرْساها ، والنهار إذا جَلاّها والليل إذا يغشاها ، أما بعد حمد الله بارئ القلم ، ومشرفه بالقسَم ، وجاعله أول ما خلق ، و جَمّل الورق بغصنه كما جَمّل الغصن بالورق , والصلاة على القائل :(جفت الأقلامُ ) ، فإن للقلم قصَبُ السباق ، والكاتِبُ بسبعة أقلام من طبقات الكتَّاب في السبع الطباق ، جَرَى بالقضاء والقدر ، ونَابَ عن اللِّسان فيما نهى وأَمَر َ، طالما أربى عَلَى البِيض والسُّمْر في ضرابها وطعانها ، وقاتل في البعد والصوارمُ في القُرْبِ ملء أجفانها، وماذا يُشْبِهُ القلم في طاعة ناسه ؟ ومشيه لهم على أمِّ ر اسه ؟

    قال السيف : بسم الله الخافض الرافع ، وأنزلْنَا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع ، أما بعد حمد الله الذي أنزل آيةَ السيفِ , فعظَّمَ بها حرمة الَجْرح وآمن خيفةَ الخيف ، والصلاة على الذي نفذَّ بالسيف سطور الطروس ، وخدمته الأقلام ماشية على الرؤوس ، وعلى آله وصحبه الذين أُرْهِفَتْ سيوفهم ، وبُنِيَتْ بها على كسر الأعداء حروفهم ، فإن السيف عظيم الدولة شديد الصّولة، محا أسطار البلاغة ، وأساغ ممنوع الإساغة ، من اعتمد على غيره في قهر الأعداء تعب ، وكيف لا وفي حَدِّه اَلْحدُّ بين الجدِّ واللِعبِ ؟! فإن كان القلم شاهداً ، فالسيف قاض ، وإن اقتربت مجادلته بأمر مستقبل قطعَهُ السيف بفعل ماض ، به ظهرَ الدينُ ، وهو العُدّة لقمع المعتدين ، حَمَلَتْهُ دون القلم يد نبيِّناَ ، فَشَرُف بذلك في الأمم شرفاً بيِّناً ، الجنة تحت ظِلاله ، ولا سيما حين يُسَلُّ فترى وَدْقَ الدم يخرج من خلاله ، زُينت بزينة الكواكب سماء غِمده ، وصدَقَ من قال (السيف أصّدَقُ إنْباءً من ضده ) لا يعبثُ به الحاملُ ، ولا يتناوله كالقلم بأطراف الأناَمل ، ما هو كالقلم المُشَبَّه بقوم عرُوُّا عن لبوسهم ، ثم نُكسوا كما قيل على رُؤوسهم ، فكأن السيف خُلِق من ماءٍ دافق ، أو كوكب راشق مقدراً في السّرْد ، فهو الجوهر الفَرْد ، لا يُشترى كالقلم بثمن بخس ، ولا يبلى كما يبلى القلم بسواد وطمس ، كم لقائمه المنتظر من أثرٍ في عينٍ أو عينٍ في أثر ، فهو في جراب القوم قِوامُ الحرب ، ولهذا جاء مطبوع الشكل داخل الضرب .

    فقال القلم : أَوَمَنْ يُنَشَّأُ في الحلية وهو في الخصام غيرُ مُبيِن ، يُفاخرُ وهو القائمُ عن الشِمال ، وأنا الجالس على اليمين ؟! أنا المخصوصُ بالرأي وأنت المخصوص بالصَّدَى ، أنا آلة الحياة وأنت آلة الردى ، ما لِنْتَ إلا بعد دخول السعير ، وما حُدّدت إلا عن ذنبٍ كبير ، أنت تنفع في العمر ساعة ، وأنا أُفني العُمْرَ في الطاعة ، أنت للرَّهَب ، وأنا للرَّغَب ، وإذا كان بَصَرُك حديداً فبصري ماءُ ذهب ، أين تقليدُكَ من اجتهادي ، وأين نجاسة دمك من تطهير مِدادي ؟

    قال السيف: أمثلك يُعَيِّرُ مثلي بالدماء ؟! فطالما أمرتُ بعض فراخي ـ وهي السكين ـ فأصبحت من النفاثات في عُقَدِكَ يا مسكين ، فأخلَتْ من الحياة جُثمانك ، وشقّت أنفك وقطعت لسانك. ويلك ! إن كنت للديوان فحاسِبٌ مهموم , أو للإنشاء فخادمٌ لمخدوم ، أو للتبليغ فساحر مذموم ، أو للفقيه فناقص في المعلوم ، أو للشاعر فسائل محروم ، أو للشاهد فخائف مسموم ، أو للمعلم فللحيّ القيُّوم , أمَّا أنا فلي الوجه الأزهر والحلية والجوهر والهيبة إذ أُشْهَر , والصعود على المنبر , ثم إني مملوك كمالك ، فإنك كناسك ، أسلك الطريق واقطع العلائق.

    فقال القلم : أما أنا فأبن ماءِ السماءِ , وأليف الغدير وحليف الهواء ، أما أنت فابن النار والدخان وناثرُ الأعمار وخَوَّان الإخوان , تفصل ما لا يُفصل , وتقطعُ ما أمر الله به أن يُوصَل ، لا جرم شُمّرَ السيف خده وصُقلَ قفاه , وسُقيِ ماءً حميماً فَقَطّع مِِعَاه ، يا غُرَاب البين , ويا عُدَّة الحَينِ ، ويا مُعْتَلّ العين، ويا ذا الوجهين ، كم أفنيت وأعدمت ؟ وأرملْتَ وأيْتَمْتُ ؟

    قال السيف : يا ابن الطين ! ألستُ ضامراً وأنت بطين ؟! كم جَرَيت بعكس , وتصرَّفت في مكس , وزَوَّرْت وحرَّفت ، و نكّرت وعرّفت ، وسَطّرت هجواً وشتما ً، وخلّدت عاراً وذمًّا ، أبشر بفرط رَوْعتك ، وشدة خِيفتك ، إذا قِسْتَ بياض صحيفتي بسواد صحيفتك ، فألِنْ خطابك فأنت قصير المدة ، وأحسن جوابك فعندي حِدّه ، وأقلل من غلظتك وجبهك ، واشتغل عن دم في وجهي بمِدَّة في وجهك ، وإلا فأدنى ضربةٍ مني تروم أرومتك ، فتستأصل أصلك وتجتثُّ جرثومتَك ، فسقياً لمن غاب بك عن غابك ، ورعياً لمن أهاب بك لسلخ إهابك .

    فلما رأى القلمُ السيفَ قد احتد ، ألان له من خطابهِ ما اشتد وقال: أما الأدب فيؤخذ عنِّي ، وأما اللطف فيُكتسب منِّي ، فإن لِنْتَ لنتُ ، وإن أحسنتَ أحسنتُ ، نحن أهل السمعِ والطاعةِ ، ولهذا نجمعُ في الدواةِ الواحدةِ منَّا جماعة ، وأما أنتم فأهلُ الحدةِ والخلافِ ، ولهذا لا يجمعون بين سيفين في غلاف.

    قال السيف : أمَكْراً ودعوى عِفّة ؟ لأمرٍ ما جدع قصير أنفه ! لو كنتَ كما زعمتَ ذا أدبٍ , لما قابلتَ رأسَ الكاتبِ بعُقدةِ الذنبِ ، أنا ذو الصِّيت والصوتِ ، وغِرارَي لسان مشرَفيّ يرتجل غرائب الموت , أنا مِن مارجٍ مِن نارٍ ، والقلم من صلصالٍ كالفخارِ ، وإذا زعم القلمُ أنه مثلي ، أمرتُ مَنْ يدقُ رأْسه بنعلي.

    فقال القلم : صَهْ فصاحبُ السيفِ بلا سعادةٍ كأعزل .

    قال السيف : مهْ فقلمُ البليغِ بغير حظٍ مغزل.

    فقال القلم : أنا أزكى وأطهر.

    قال السيف : أنا أبهى وأبهر.

    فتلا ذو القلم لقلمه : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) .

    وتلا صاحب السيف لسيفه : ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) .

    فتلا ذو القلم لقلمه : ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) . و قال : أما وكتابي المسطور ، وبيتي المعمور ، والتوراة والإنجيل ، والقُرآن ذي التبجيل ، إن لم تكف عنِّي غرْبك ، وتُبعد مني قُرْبك ، لأكتبنكْ من الصُّمِّ البُكم ، وَلأُسطرنّ عليك بِقلمي سِجلاً بهذا الحكم.

    قال السيف : أما ومَتْني المتين ، وفتحي الْمُبين , ولسانَيَّ الرطبين ، ووجهَيّ الصُلبين ، إنْ لم تَغِبْ عن بياضي بسوادك ، لأمسَحنَّ وجهك بمدادك ، ولقد كسبت من الأسد في الغابة توقيح العين والصلابة ، مع أني ما ألوتُكَ نصحاً , أفنضرب عنكم الذكر صفحاً ؟

    قال القلم : سَلِّم إليَّ مع من سلم , إن كنتَ أعلى فأنا أعلم , وإن كنتَ أحلى فأنا أحلم ، وإن كنت أقوى فأنا أقوم , أو كنت ألوى َ فأنا ألوم , أو كنت أطرى فأنا أطربُ ، أو كنت أغلى فأنا أغلب , أو كنت أعتى فأنا أعتبُ , أو كنت أقضى فأنا أقضب.

    قال السيف : كيف لا أفْضُلك , والمقرُّ الفلانيُّ شادٌّ أزري .

    قال القلم : كيف لا أفْضُلك وهو ( عزَّ نصرهُ ) ولي أمري ؟


    قال الحَكمُ بين السيفِ والقلمِ :


    فلما رأيتُ الحجَّتيْن ناهضتين ، والبيِّنتيْن بينتيْن مُتعارضتين ، وعلمتُ أنَّ لكلِّ واحدٍ منها نسبةً صحيحةً إلى هذا المقرِّ الكريم ، ورواية مُسْندة عن حديثه القديم ، لطَّفتُ الوسيلة ، ودققّتُ الحيلة حتى رددْتُ القلم إلى كِنَّهِ , وأغمدتُ السَّيف فنام ملء جَفنه ، وأخّرْتُ بينهما الترجيح وسكتُّ عمّا هو عندي الصّحيح ، إلى أن يحكم المقَرُّ بينهما بعلمه ، ويُسكِّن سورة غضبهما الوافرِ ولجاجِهما المديد ببسط حلمهِ .

    خاتمة


    قال أبو جندل الأزدي:

    بعد هذه المناظرة الرائعة المثيرة تأملت التاريخ الإسلامي فوجدتُ أن الذي يرفعُ القلمَ دونَ سيفٍ يذِلّ ، والذي يرفعُ السيفَ دونَ قلمٍ يضلّ ويزلّ ، ومن يرفعهما معاً فإلى مبتغاه يهتدي و يصل , ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ قال : (لا يقوم الدين إلا بكتابٍ يهدي وسيفٍ ينصر , وكفى بربك هادياً ونصيراً ) .
    التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 23 أكت, 2020, 07:38 م.

    سبحان الله وبحمده ... سبحان الله العظيم

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة عاشق طيبة, 26 ينا, 2023, 02:58 م
ردود 0
38 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عاشق طيبة
بواسطة عاشق طيبة
 
ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 23 ينا, 2023, 12:27 ص
ردود 0
59 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عطيه الدماطى  
ابتدأ بواسطة د. نيو, 24 أبر, 2022, 07:35 ص
رد 1
63 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة د. نيو
بواسطة د. نيو
 
ابتدأ بواسطة محمد بن يوسف, 1 نوف, 2021, 04:00 م
ردود 0
21 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة محمد بن يوسف
بواسطة محمد بن يوسف
 
ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 18 يون, 2021, 02:47 ص
ردود 0
72 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
 
يعمل...
X