تحريف أقوال يسوع من حرَّف الكتاب المقدس ولماذا – بارت إيرمان

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يسعدني و فريق الترجمة بالمنتدى المبارك أن نقدم للباحثين العرب في مجال مقارنة الأديان ، مسلمين ومسيحيين ، هذا الكتاب الهام مترجما إلى اللغة العربية :

تحريف أقوال يسوع …
من حرَّف الكتاب المقدس ولماذا ؟” #

اضغط على الصورة لعرض أكبر.  الإسم: image.png  مشاهدات: 247  الحجم: 5.41 ميجابايت  الهوية: 819569

أهمية الكتاب: #

ولعل أهمية الكتاب تنبع من أمرين : أحدهما أن في هذا الكتاب إجابة على السؤال المسيحي الشهير : “إذا كان الكتاب المقدس محرف …فمن الذي حرفه ؟ ولماذا حرفه ؟” و الثاني أن الشهادة في حالة إيرمان هي من شاهدٍ من أهلها ،فالرجل ليس مسلما بل مسيحيًّا (أو على الأقل كان كذلك قبل أن يوصله الكتاب المقدس و دراسة مخطوطاته وحقائق تاريخ الكنيسة إلى الإلحاد ) … وهذا الرجل توصل إلى ما توصّل إليه و هو لم يقرأ من قبل قوله تعالى ” فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله …” ورغم ذلك بعد ألف وأربعمائة عام على هذه الآية الإلهية يأتي أحد علمائهم ليضع بخطوط حمراء صدق وتأكيد هذه الآية القرآنية … فيتهم هو أيضًا النساخ بتحريف الكتاب المقدس… بل وبضياع نصوصه للأبد ..!

 

معلومات عن الكتاب:

اسم الكتاب في لغته الأصلية هو:
Misquoting Jesus: The Story Behind Who Changed the Bible and Why
والكتاب كان أفضل الكتب مبيعا في أمريكا في عام نشره حسب صحيفة النيويورك تايمز .


تعريف بالمؤلف:

بارت إيرمان - تحريف أقوال يسوعبارت إيرمان أحد علماء العهد الجديد و متخصص في تاريخ القرون الأولى أي الفترة المبكرة للديانة المسيحية . وقد حصل على درجتي الدكتوراه في الفلسفة و الأستاذية في اللاهوت من معهد برينستون اللاهوتي التعليمي حيث درس على يد العلّامة “بروس ميتزجر” .وهو حاليا يعمل كعميد لقسم الدراسات الدينية بجامعة نورث كارولينا في تشابيل هيل. وقد كان عميدا للمنطقة الجنوبية الشرقية لجمعية أدب الكتاب المقدس، و عمل كمحرر لعدد من نشرات الجمعية . وهو الآن مؤلف مشارك لسلسلة من أدوات ودراسات العهد الجديد.كثير من مؤلفات إيرمان كانت تتمركز حول الأوجه المتعددة لفرضية “والتر باور” التي تفترض أن الديانة المسيحية كانت على الدوام منقسمة على نفسها . وقد اعتبر إيرمان دوما رائدًا في علاقة تاريخ الكنيسة المبكرة بالقراءات المتباينة الموجودة في ثنايا مخطوطات الكتاب المقدس و في صياغة مصطلح “مسيحية عصر ما قبل الأرثوذكسية”.

فقد كان إيرمان يدندن ، في كتاباته، حول النقد النصِّي . فمنذ عصر آباء الكنيسة ، ظل الهراطقة (مرقيون على سبيل المثال) يواجهون اتهامات حول العبث بمخطوطات الكتاب المقدس. يطرح إيرمان في مؤلفاته نظريته حول أن المسيحيون الأرثوذكس هم في أغلب الأحوال من ” أفسدوا ” المخطوطات ،عبر تحريفهم النص ، تدعيما لوجهات نظر معينة. وقد قام بتأليف و المساهمة في إصدار تسعة عشر كتابا.

وإيرمان لديه طفلين ، بنتٌ تسمى كيلي ، و ولد اسمه ديريك . وهو متزوج من سارة بيكويث (دكتوراه في الفلسفة من الكلية الملكية في لندن) ، وأستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة دوك.

أصبح إيرمان في سن المراهقة مسيحيا إنجيليا. و التحق بمعهد مودي لدراسة الكتاب المقدس و كلية ويتون (حصل على البكالوريوس عام 1978 ). رغبته في التعرف على كلمات الكتاب المقدس الأصلية قادته إلى علم النقد النصي ،الذي بدوره ضعضع إيمانه بالكتاب المقدس ككلمة الله المنزَّهة عن الخطأ . إيرمان في الوقت الحاضر يعتبر نفسه “لا أدريًّا”.



مؤلفات بارت إيرمان:

• Ehrman, Bart (2006). The Lost Gospel of Judas Iscariot: A New Look at Betrayer and Betrayed. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2006). Peter, Paul, and Mary Magdalene: The Followers of Jesus in History and Legend. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2005). Misquoting Jesus: The Story Behind Who Changed the Bible and Why. HarperSanFrancisco.
• Metzger, Bruce M.; Ehrman, Bart (2005). The Text of the New Testament: Its Transmission, Corruption, and Restoration. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2004). Truth and Fiction in The Da Vinci Code: A Historian Reveals What We Really Know about Jesus, Mary Magdalene, and Constantine. Oxford University Press, USA .
• Ehrman, Bart (2004). A Brief Introduction to the New Testament. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2003). The Lost Christianities: The Battles for ******ure and the Faiths We Never Knew. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2003). The New Testament: A Historical Introduction to the Early Christian Writings. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart; Jacobs, Andrew S. (2003). Christianity in Late Antiquity, 300-450 C.E.: A Reader. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2003). The Apostolic Fathers: Volume II. Epistle of Barnabas. Papias and Quadratus. Epistle to Diognetus. The Shepherd of Hermas. Harvard University Press.
• Ehrman, Bart (2003). The Apostolic Fathers: Volume I. I Clement. II Clement. Ignatius. Polycarp. Didache. Harvard University Press.
• Ehrman, Bart (2003). The New Testament and Other Early Christian Writings: A Reader. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2003). Lost ******ures: Books that Did Not Make It into the New Testament. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1999). Jesus: Apocalyptic Prophet of the New Millennium. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1998). After the New Testament: A Reader in Early Christianity. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1996). The Orthodox Corruption of ******ure: The Effect of Early Christological Controversies on the Text of the New Testament. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1987). Didymus the Blind and the Text of the Gospels (The New Testament in the Greek Fathers; No. 1). Society of Biblical Literature.

 

 

image 3

إهداء إلى بروس ميتزجر

 

كتاب الأناجيل الأربعة ، برموزهم الحيوانية التقليدية ، يسلط كل منهم الضوء على جانب من جوانب تصويرهم ليسوع: متى كإنسان (بشرية) ، مرقس كأسد (ملكية) ، لوقا ثورًا (خنوع) ، ويوحنا نسرًا. (لاهوت).

كتاب الأناجيل الأربعة ، برموزهم الحيوانية التقليدية ، يسلط كل منهم الضوء على جانب من جوانب تصويرهم ليسوع: متى كإنسان (بشرية) ، مرقس كأسد (ملكية) ، لوقا ثورًا (خنوع) ، ويوحنا نسرًا. (لاهوت).

image 4

تمهــــــيد #


كان موضوع هذا الكتاب يدور في عقلي ، ربما أكثر من أي شئ كتبت عنه ، خلال الثلاثين عامًا الماضية ، وذلك منذ أن كنت في أواخر سني مراهقتي ومنذ أن كنت أخطو خطواتي الأولى في دراسة العهد الجديد.ولأن هذا الموضوع كان جزءًا منِّي لفترة طويلة، فلقد رأيت أنه من الضروري أن أبدأ بإعطاء بيان شخصي للأسباب التي جعلت هذه المادة ،وما تزال،شديدة الأهمية بالنسبة إلي.


هذا الكتاب يدور حول مخطوطات الكتاب المقدس و الاختلافات الموجودة فيها،وحول النساخ الذين نسخوا الأسفار وحرفوها أحيانًا. ربما لا يبدو ذلك أمرًا متوقعًا كمدخل إلى السيرة الذاتية لشخص ما،لكنه كذلك في حالتي تلك. لا يملك الإنسان السيطرة التامةعلى مثل هذه الأمور.لكن قبل توضيح كيف ولماذا كانت مخطوطات العهد الجديد تمثل شيئا مختلفًا تمامًا عاطفيًًّا وفكريًّا بالنسبة إلي ،وإلى إدراكي لذاتي،وللعالم الذي أحيا فيه،ولأفكاري حول الإله،وحول الكتاب المقدس،ينبغي أن أحكي بعض الخلفيات عن شخصيتى. وُلدتُ وترعرعت في مكانٍ وزمانٍ محافظين ـــــ في قلب البلاد، وبداية منتصف الخمسينات.نشأتي لم تشهد شيئا غير عادي.كنا أسرة رائعة تقليدية مكونة من خمس أفراد،من المترددين على الكنيسة لكن من ذوي التدين العادي.بدءًا من العام الذي كنت فيه في الصف الدراسي الخامس انضممت إلى الكنيسة الأسقفية في لورنس،بولاية كينساس،التي كان يرأسها قسيس طيب وحكيم، تصادف أنه أيضًا كان جارًا لي ووالدًا لأحد أصدقائي(الذي تورطت فيما بعد معه في متاعب أثناء المدرسة العليا المتخصصة ـــ شئ متعلق بتدخين السجائر).

مثل كثير من الكنائس الأسقفية،هذه الكنيسة كانت حسنة السمعة وموثوقًًا بها في نظر المجتمع .كانت تتعامل مع طقوس الكنيسة بشكل جاد ،وكان الكتاب المقدس جزءا من هذه الطقوس.لكن الكتاب المقدس لم يكن محط الاهتمام الكامل:لقد كان الكتاب المقدس آنذاك واحدًا من الطرق إلى الإيمان والعمل ،إلى جانب التقليد الكنسي و الفطرة السليمة .لم نكن نتكلم في الواقع عن الكتاب المقدس كثيرًا،ولم نكن نقرأه كثيرًا،حتى في فصول مدارس الأحد،التي كان تركيزها الأكبر على القضايا العملية والاجتماعية ،وعن الكيفية التي ينبغي أن نعيش بها في العالم.لكن الكتاب المقدس استحوذ على مكانة عظيمة في بيتنا،خاصة بالنسبة لأمي،التي كانت تقرأ لنا منه أحيانًا وتعمل على أن تتأكد من أننا نفهم قصصه وتعاليمه الأخلاقية(و”عقائده”بدرجة أقل) . حتى قبل سنوات دراستي في المدرسة الثانوية،أفترضُ أنني كنت أرى في الكتاب المقدس كتابًا غامضًا له بعض الأهمية بالنسبة للدين؛لكنه بالتأكيد لم يكن شيئا مستحقًا لأن يتم تعلمُه ومدارسته.لقد كان الكتاب المقدس يمثل للدين إحساسًا بالأصالة والقِدَم وكان بصورة أو بأخرى مرتبطًا بشكل لا يقبل الانفصام بالإله والكنيسة والعبادة . إلى الآن،لم أر أي مبرر يدفعني لقراءته من تلقاء نفسي أو لإتقانه.لكن الأمور تغيرت بصورة حادة بالنسبة إلي حينما كنت في السنة الثانية في المدرسة الثانوية.لقد حدث بعدها أن مررت بتجربة “الميلاد مرة ثانية” في محيطٍ شديدِ الاختلافِ عن محيط الكنيسة في مدينتي . لقد كنت نموذجًا للولد “المتزمت”ـــ فأنا طالب صالح،مهتم ومشارك في الرياضات المدرسية لكن ليس لدرجة النبوغ في واحدة منها ،مهتم ومشارك في الحياة الاجتماعية ولكني لست منتميًا إلى الطبقة العليا من النخبة ذات الشعبية في المدرسة. أتذكر شعورًا بنوع من الفراغ الداخلي بلغ درجةً لم يستطع أي شئ ملأه ـــ لا التسكع مع الأصدقاء (كنا بالفعل قد أدمنا جلسات جماعية للشراب في الحفلات)،ولا أخذ المواعيد الغرامية(بدأنا في دخول عالم الجنس شديدالغموض )، ولاالدراسة (كنت أذاكر بجد و أبليت بلاءا حسنًا لكن لم أكن نجمًا فوق العادة)، ولا العمل(كنت مندوبًا للمبيعات لحساب شركة تبيع المنتجات لفاقدي البصر)،ولا الكنيسة(كنت مساعدًا للكاهن وتقيًا وسيمًا ــــ أي كنت ذلك الشخص الذي يجب أن يكون في صباح كل أحد معترفًا بكل شئ حدث في ليلة كل سبت).كنت أشعر بنوع من الوحدة تزامن مع كوني شاب في مرحلة المراهقة ؛لكنني، بالطبع،لم أدرك أن الشعور بالوحدة جزء من كوني مراهق ــ ظننت أن شيئًا لابد وأنه ينقصني.حدث هذا عندما بدأت حضور لقاءات شبيبة الحياة الجامعية التابعة لنادي المسيح ؛ التي كانت تجري في بيوت الشباب ــــ أول لقاء حضرته كان حفلة في حديقة منزل (yard Party) لأحد الشباب وكان وسيمًا ومحبوبًا ،وهذا ما جعلني أظن أن المجموعة ستكون رائعة.قائد المجموعة كان في العشرينات من عمره يسمى “بروس” و كان يقيم هذا النوع من الحفلات لسبب حيوي – فقد حاولت أندية شباب من أجل المسيح التي يتم تنظيمها على النطاق المحلي أن تحول شباب المدارس الثانوية إلى “مولودين مرة أخرى” ثم بعد ذلك إشراكهم في دراسات جادة للكتاب المقدس،واجتماعات للصلاة،وما إلى ذلك . كان لبروس شخصية ساحرة – لقد كان أصغر سنًّا من آبائنا و أكثر خبرة منا ـــ ولديه رسالة قوية،وهي أن الفراغ الذي نحسه داخلنا (كنا مراهقين! كلنا نشعر بالفراغ) هو من عدم وجود “يسوع” في قلوبنا .ولو طلبنا فقط من “يسوع” أن يدخل،فسيدخل ويملأ حياتنا بالبهجة والسعادة التي يعرفها فقط “الحاصلون على الخلاص” . كان باستطاعة “بروس” أن يستحضر ما شاء من الاقتباسات من الكتاب المقدس في أي وقت،وكان يفعل ذلك بصورة مذهلة .ولشعوري بالتوقير تجاه الكتاب المقدس ،مع جهلي به، كان الأمر يبدو مقنعًا بكل ما في الكلمة من معنى.ولقد كان الأمر هنا مختلفًا عما كنت أشعر به تجاه الكنيسة التي كانت تستخدم طقوسًا قديمة ولذلك بدت ملائمة أكثر لبالغين عجائز وليس لشباب صغار يبحثون عن المتعة وروح المغامرة،وأيضًا يشعرون في ذواتهم بالفراغ.بالمختصر المفيد،تعرفت في النهاية ب”بروس”،و قبلت رسالته الخلاصية ،وطلبت من المسيح أن يدخل إلى قلبي، ومررت عن طيب خاطر بتجربة الميلاد مرة أخرى.لقد ولدت في الواقع قبل ذلك بخمسة عشر عامًا،لكن تلك التجربة كانت جديدة وممتعة في نظري. وجعلتني أبدأ رحلة إيمان مستمرة شهدت تحولات ومنعطفات كثيرة ،انتهت بنهاية مميتة برهَنَتَْ على أنها،في الواقع،طريق جديدة سلكتها في ذلك الوقت، تجاوزت الآن ما يزيد عن ثلاثين سنة.هؤلاء اللذين مروا بتجربة الولادة من جديد من بيننا يظنون أنفسهم المسيحيين”الوحيدين”ــــ عكس هؤلاء اللذين يذهبون إلى الكنيسة بشكل روتيني ،اللذين ليس لديهم المسيح حقًيقةً في قلوبهم ولذلك يذهبون إلى الكنيسة بشكل خالٍ من أي روح.إحدى الطرق التي تجعلنا مختلفين عن هؤلاء الآخرين هي التزامنا بدراسة الكتاب المقدس والصلاة . وخاصة دراسة الكتاب المقدس. بروس نفسه كان دارسًا للكتاب المقدس.فقد كان يدرس في معهد “مودي” للكتاب المقدس في شيكاغو وكان باستطاعته أن يقتبس جوابًا من الإنجيل لأي سؤال نفكر فيه(بل ولكثير من الأسئلة التي لم نكن لنفكر فيها على الإطلاق).

أحسست سريعًا بالغيرة تجاه هذه القدرة على الاقتباس من الكتاب المقدس وانخرطت أنا أيضًا في حلقات لدراسة الكتاب المقدس ،درست بعض النصوص،فهمت مناسباتهم،وحتى حفظت الآيات الرئيسية .أقنعني بروس أنني يجب أن أهتم بأن أكون مسيحيًا “جادًا” وأن أكرس نفسي بالكامل للإيمان المسيحي.هذا كان يعني أن أدرس الكتاب المقدس بالكامل في معهد “مودي” للكتاب المقدس،الذي كان،من بين أمور أخرى عديدة،يمثل تغييرًا جذريًا لنمط حياتي.في معهد “مودي” هناك “قانون” أخلاقي يجب على الطلاب أن يمتثلوه:لا خمر،لا تدخين،لا رقص،لا قمار،لا أفلام.بل كثير بما فيه الكفاية من الكتاب المقدس . كنا معتادين على ترديد:”معهد مودي للكتاب المقدس ،حيث الكتاب المقدس هو ما يميزنا.”أظن أنني نظرت إليه كمعسكر مسيحي تدريبي ذي نظامٍ قاسٍ.في كل مناسبة،قررت أن أتعامل مع إيماني بجدية كاملة؛تقدمت بطلب التحاق لمعهد “مودي”،التحقت به،وذهبت إلى هناك في خريف 1973.لقد كانت تجربة معهد “مودي” تجربة قوية.قررت أن أتخصص في اللاهوت الكتابي،وهو ما كان يعني الحصول على الكثير من دروس الكتاب المقدس ودورات اللاهوت النظامي.وجهة نظر واحدة كنا نتعلمها في هذه الدورات،صدق عليها كل الأساتذة(وكان عليهم أن يوقعوا إفادة بذلك)وكل الطلاب (وقد فعلنا الشئ ذاته):الكتاب المقدس هو كلمة الله المعصومة.ليس به أية أخطاء.أوحاه الله وكل كلمة من كلماته ــــ “وحيًا شفويًا،كاملاً.”

كل الدورات العلمية التي حصلت عليها تفترض مسبقًا وتُعَلِّم وجهة النظر هذه؛وأيُّ وجهة نظر أخرى ماهي إلا وجهة نظر مضلِّلَة أو حتى هرطوقية.البعض،فيما أظن،سيسمي ذلك عملية غسيل مخ.بالنسبة إليَّ،كان ذلك”ارتقاءا” هائلاً عن وجهة النظر الخجولة تجاه الكتاب المقدس التي كنت أعتنقها باعتباري عضوًا تقليديٍّا في الكنيسة الأسقفية في ريعان شبابي. هذه هي المسيحية الواضحة ،التي تناسب الملتزمين التزامًا كاملاً. إلا أنه كان هناك إشكالية واضحةٌ تواجه هذا الزعم بأن الكتاب المقدس موحى به حرفيًا ــــ وفقا لكلماته نفسها . فكما تعلمنا في معهد “مودي” في واحدةٍ من الدورات الأولى للمنهج الدراسي،ليس لدينا بالفعل النصوص الأصلية للعهد الجديد.ما بحوذتنا هو نسخ من هذه الكتابات،كتبت بعد ذلك بسنين ـــ بل بعد ذلك بمئات السنين ،في الغالب الأعم. فوق ذلك،ليس بين هذه النسخ نسخة صحيحة بالكامل ،حيث قام النساخ اللذين أنتجوها بطريق السهو و/أو عن قصد بتغييرها عن مواضعها. كل النساخ فعلوا ذلك.ولذلك بدلا من امتلاك كلمات المخطوطات الموحى بها فعليًا(أي الأصول)،ما لدينا هو نسخ مليئة بالأخطاء (errorridden) من تلك الأصول. لذلك، كان التحقق مما قالته أصول الكتاب المقدس إحدى أكثر المهام إلحاحًا ، مع وضع الظروف التالية في الاعتبار (1) أنها موحى بها (2) أننا لا نمتلكها .

يجب أن أذكر أن كثيرًا من أصدقائي في “مودي” لم يروا أن هذه المهمة تستحق كل هذه الاهتمام أو العناء.كانوا سعيدين بالركون إلى الزعم بأن الأصول كانت من الوحي،وبتجاهل أن الأصول ،إن بشكل أكبر أو أقل، لم يعُد لها وجود. بالنسبة إليَّ،على الرغم من ذلك،كانت هذه مشكلة قهرية .لقد كانت هذه هي كلمات الكتاب المقدس ذاتها التي كان الرب قد أوحاها.وبالتأكيد كان من الواجب أن نعرف ماهية هذه الكلمات لو كنا نريد أن نعرف كيف كان الله يريد أن يتواصل معنا،مادامت الكلمات ذاتها هي كلماته،ووجود بعض الكلمات التي كتبها الآخرون(أي التي أحدثها النساخ إن عرضيًا أو بشكل متعمد)لن تساعدنا كثيرًا لو أردنا أن نعرف كلماته . هذا ما جعلني مهتمًا بمخطوطات العهد الجديد في ذلك الوقت حينما كنت في الثامنة عشر من عمري. في معهد “مودي”،تعلمت الأساسيات في ميدان “النقد النصي” ـــ وهو مصطلح علمي يقصد به علم استعادة الكلمات “الأصلية” لنص ما من مخطوطاته التي تم العبث بها. إلا أنني حتى ذلك الوقت لم أكن مؤهلاً بعد للتعامل مع هذا العلم .أولاً كان عليَّ أن أتعلم اللغة اليونانية ،لغة العهد الجديد الأصلية، وربما لغات قديمة أخرى مثل العبرية (لغة العهد القديم حسب المصطلح المسيحي) واللاتينية، بالإضافة إلى اللغات الأوروبية الحديثة مثل الألمانية والفرنسية ،من أجل الاطلاع على ما قاله العلماء الآخرون بخصوص هذه القضايا . لقد كان الطريق أمامي طويلا . في نهاية الثلاث سنوات التي قضيتها في معهد “مودي”( كانت الدبلومة مدتها ثلاث سنوات)، كنت قد أبليت بلاءًا حسنًا في مقرراتي الدراسية وأصبحت أكثر جدية عن ذي قبل فيما يتعلق برغبتي أن أصبح عالمًا مسيحيًا. كان تصوري في ذلك الحين أنَّ ثمة وفرة في العلماء الحاصلين على تعليم عال بين المسيحيين الإنجليين،لذلك أردت أن أصبح “صوتًا” للإنجيليين داخل الدوائر العلمانية، عبر الحصول على درجات علمية تسمح لي أن أقوم بالتدريس في المحيطات العلمانية في الوقت الذي أحافظ فيه على التزاماتي الدينية الإنجيلية. أولاً ،كان يلزمني الحصول على درجة البكالوريوس، ولكي أفعل هذا فقد قررت أن التحق بكلية من الكليات الإنجيلية الأعلى مقامًا.وقع اختياري على “ويتون كوليدج”، الواقعة في إحدى ضواحي شيكاغو. في “مودي” تلقيت تحذيرات بخصوص أنه من الصعب العثور على مسيحيين حقيقيين في “ويتون” ــ وهو ما يكشف حجم التطرف في “مودي”: فـ”ويتون” كانت مفتوحة فقط أمام المسيحيين الإنجيليين وقد تخرج منها بيلي جراهام ،على سبيل المثال . في البداية وجدتها أكثر تحررًا ولو قليلا بالمقارنة مع ما أؤمن به .كان الطلاب يتحدثون عن الأدب، والتاريخ، والفلسفة أكثر من الحديث عن الوحي الشفوي للكتاب المقدس. كانوا يفعلون ذلك من منظور مسيحي، ولكن بغض النظر عن ذلك: ألم يلاحظوا بالفعل أهمية هذا الأمر (أي الوحي الشفوي)؟

قررت أن أتخصص في الأدب الإنجليزي في جامعة “ويتون”،حيث كانت القراءة إحدى هواياتي وخاصة منذ أن علمت أنه لكي أشق طريقي إلى الدوائر العلمية ، فسيكون عليَّ أن أصبح واسع الاطلاع في مجالٍ من مجالات العلم بخلاف الكتاب المقدس. قررت أيضًا أن ألزم نفسي بتعلم اليونانية. في ذلك الوقت ، وخلال فصلي الدراسي الأول في “ويتون” ،التقيت الدكتور “جيرالد هاوثورن” ،أستاذي في اللغة اليونانية و الذي أصبح أكثر الأشخاص تأثيرًا في حياتي كعالم ،وكأستاذ،و،أخيرًا ،كصديق . كان “هاوثورن” ،تماما مثل معظم أساتذتي في “ويتون”، مسيحيًا إنجيليًا ملتزمًا.لكنه كان لا يخشى من أن يُخْضِع إيمانه للأسئلة . في حينه، وجدت في ذلك علامة على الضعف (في الحقيقة،كنت أعتقد أنني تقريبًا أمتلك جميع الأجوبة عن أسئلته)؛في النهاية رأيت فيه التزامًا حقيقيًا بمقتضيات الحقيقة و رأيت فيه استعدادًا للانفتاح على إمكانية أن تكون أراء الإنسان في حاجة للمراجعة في ضوء اتساع المعرفة وخبرات الحياة. كان تعلم اليونانية تجربة مثيرة بالنسبة لي. وحينما انتهت دراستي ،كنت جيدًا للغاية في أساسيات اللغة وكنت على الدوام طامحًا إلى المزيد.وفي مرحلة أكثر عمقًا، أصبحت تجربة تعلم اللغة اليونانية إلى حدٍ ما مجهدة لي ولنظرتي للكتاب المقدس.ثم صرت أرى في مرحلة مبكرة أن المعنى الكامل للنص اليوناني للعهد الجديد لا يمكن التعرف عليه إلا عندما نقرأه وندرسه في لغته الأصلية (الأمر نفسه ينطبق على العهد القديم،كما عرفت فيما بعد عندما تعلمت العبرية). وكل هذا كان يدعم ، حسب ما كنت أعتقد ، اتجاهي لتعلم اللغة على نحوٍ أعمق . في الوقت ذاته،جعلني ذلك أشك في مفهومي عن الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المنزلة حرفيًّا. وإذا كان المعنى الكامل لكلمات الكتاب المقدس لا يمكن الحصول عليه إلا عبر دراسة الكتاب المقدس باللغة اليونانية(والعبرية)،ألا يعني ذلك أن معظم المسيحيين ،اللذين لا يعرفون اللغات القديمة،لن يصلوا أبدًا للطريق الصحيح إلى معرفة ما أراد الله منهم أن يعرفوه؟ ألا يجعل هذا من عقيدة الوحي مجرد عقيدة ملائمة فقط للنخبة واسعة الإطلاع ، ممن يمتلكون المهارات الفكرية و الفراغ اللازمين لتعلم اللغات ودراسة النصوص عبر قراءتها بلغتها الأصلية؟ما الفائدة التي نتحصل عليها من قولنا إن هذه الكلمات موحى بها من الله ما دام غالبية الناس لا يعرفون سبيلا إلى هذه الكلمات على الإطلاق ،وإنما بإمكانهم الاطلاع فحسب على ترجمات أكثر أو أقل إتقانًا لهذه الكلمات إلى لغة ليس لها أيُّ علاقة بالكلمات الأصلية،مثل الإنجليزية ؟ (1)

كانت أسئلتى تتعقد أكثر وأكثر كلما بدأت التفكير على نحوٍ متزايد في المخطوطات التي تحوي الكلمات.كلما تعمقت في دراسة اليونانية،كلما صرت أكثر اهتمامًا بالمخطوطات التي تحتفظ لنا بالعهد الجديد،وبعلم النقد النصي،والذي من المحتمل أن يكون قادرًا على مساعدتنا في استعادة الكلمات الأصلية للعهد الجديد على صورتها التي كانت عليها . وكنت دئاما أعود إلى سؤالي الأساسي:كيف يمكن للقول إن إن الكتاب المقدس هو كلمة الله المعصومة أن يساعدنا لو كنا في الواقع لا نمتلك تلك الكلمات المعصومة التي أوحاها الله ،وإنما الكلمات التي نسخها النساخ ــــ بطريقة صحيحة أحيانًا وبطريقة غير صحيحة أحيانًا أخرى (كثيرة)؟ ما الفائدة المرجوة من القول إن الأصول كانت موحى بها؟ نحن لا نمتلك الأصول! ما نمتلكه هو نسخ محرفة ، والأغلبية العظمى منها تفصلها مئات السنين عن الأصول وهي تختلف عنها، بوضوح،في آلاف المواضع .

اجتاحتني هذه الشكوك ودفعتني إلى التنقيب بتعمق أكبر، بغية الوصول إلى فهم أوضح للحقيقة التي كان عليها الكتاب المقدس . أنهيت دراستي في “ويتون” في عامين وقررت، بتوجيهاتٍ من الأستاذ هاوثورن، أن أتخصص في النقد النصي للعهد الجديد بالاتجاه إلى الدراسة تحت إشراف الخبير ذي الشهرة العالمية في هذا الميدان ،العالم بروس .م. ميتزجر ، الذي كان يقوم بالتدريس في معهد “برينستون” اللاهوتي. مرة أخرى حذرني أصدقائي من الإنجيليين من الالتحاق بـمعهد “برينستون”،لأنه، كما قيل لي،سيكون من الصعب علي أن أجد مسيحيين “حقيقيين”هناك. لقد كان معهد برينستون ،رغم هذا ، معهدًا مشيخيًا ،لكنه لم يكن بالتأكيد تربةً خصبةً لظهور المسيحيين المولودين مرة أخرى. كانت دراستي للأدب الإنجليزي، والفلسفة، والتاريخ ــــ ناهيك عن اليونانية ـــ قد وسعت آفاقي بشكل كبير ، وأصبحت أجد متعتي الآن في المعرفة ، المعرفة بكافة أشكالها، الدينية والدنيوية . ولو أن معرفة “الحقيقة”تعني أن لا أكون بعدُ من المسيحيين المولودين مرة أخرى مثل الذين عرفتهم في الثانوية ،فليكن ما يكون . كنت أنوي أن أواصل بحثي عن الحقيقة مهما كان الطريق الذي ستقودني إليه، وأنا على ثقة من أنَّ أيَّ حقيقة سأتعلَّمها لا يقلل من قيمتها كونها غير متوقعة أو كونها تتلائم بصعوبة مع التصنيفات التي تضعها خلفيتي الإنجيلية .

عند وصولي إلى معهد “برينستون” اللاهوتي ،التحقت سريعًا بفصول السنة الأولى للتفسير باليونانية والعبرية،وشغلت جدولي بقدر ما أستطيع بمثل هذه الدروس.وجدت في هذه الفصول تحديًا ،على المستويين العلمي والشخصي . أما التحدي على المستوى العلمي فقد كنت مرحِّبًا به بشكل كامل،لكنَّ التحديات الشخصية التي واجهتها كانت على عكس ذلك مزعجة من الناحية العاطفية. فكما أشرت،كنت بالفعل قد بدأت في “ويتون” في الشك في بعض المظاهر الأساسية في التزامي نحو الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله المعصومة من الخطأ.هذا الالتزام كان عرضة لتهديدات جدية خلال دراستي التفصيلية في “برينستون” . لقد قاومت كل محاولة لتغيير وجهات نظري،ووجدت عددًا من الأصدقاء،القادمين،مثلي، من مدارس إنجيلية محافظة وكانوا يحاولون أن “يحافظوا على الإيمان “(وهي طريقة مثيرة للضحك لوضع الإيمان في برنامج مسيحي لاهوتي ،أي التمسك بالماضي حيث كنا ، على الرغم من كل ما يتناقض مع ذلك من مؤشرات ). لكنَّني بدأت أنشغل بدراساتي . وجاءت نقطة التحول في الفصل الدراسي الثاني ،خلال دورة كنت أحضرها تحت إشراف أكثر الأساتذة تقديرا وتدينا وكان اسمه “كولين ستوري”. وقد كانت الدورة حول تفسير إنجيل مرقس، وكان إنجيلي المفضل حينها (وما يزال). وقد كان يُشْتَرَطُ فينا لحضور هذه الدورة أن نكون قادرين على قراءة إنجيل مرقس كاملا باللغة اليونانية(حفظت كلمات الإنجيل اليونانية كاملةً قبل أسبوع واحدٍ من بداية الفصل الدراسي):كان علينا أن نحتفظ بدفتر ملاحظات تفسيرية نسجل فيها انطباعتنا حول تفسير الفقرات الرئيسية؛ وقد كنا نناقش المشكلات المتعلقة بتفسيرات النصوص،وكان ينبغي علينا أن نكتب مقالا في نهاية الفصل الدراسي حول إشكال تفسيري نختاره نحن . وقد اخترت الفقرة في مرقس 2 ،حيث يتصدى الفريسيون ليسوع لأن تلامذته كانوا يمشون عبر أحد الحقول، وكانوا يأكلون من السنابل في يوم السبت. كان يسوع يريد أن يبيِّن للفريسيين أن “السبت جعل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت” ولذلك ذكَّرهم بما كان الملك داوود العظيم قد فعله عندما شعَرَ ورجاله بالجوع،و كيف أنهم قد دخلوا إلى الهيكل “حينما كان أبيثار هو الكاهن الأكبر “وأكلوا من خبز التقدمة،الذي كان مخصصًا للكهنة فقط .

إحدى الإشكاليات الشهيرة في الفقرة هي عندما ينظر الإنسان إلى الفقرة التي استشهد بها يسوع من العهد القديم (1 صمويل 21 : 6 )، يتضح أن داوود لم يفعل ذلك عندما كان أبيثار هو الكاهن الأعظم ،وإنما عندما كان أخيمالك والد أبيثار هو الكاهن . بطريقة أخرى ،هذه الفقرة هي واحدة من تلك الفقرات التي يشار إليها لبيان أن الكتاب المقدس ليس معصومًا من الخطأ على الإطلاق ، بل يحوي أخطاءًا. في ورقتي التي قدمتها إلى الأستاذ “ستوري”،طورت فكرة جدلية طويلة ومعقدة مفادها أنه حتى لو كان مرقس يشير إلى حدوث ذلك “حينما كان أبيثار هو الكاهن الأكبر،” فإن هذا لا يعني في الحقيقة أن أبيثار كان هو الكاهن الأعظم ،وإنما المعنى هو أن هذا الحدث وقع في هذا الجزء من النص الكتابي الذي يعتبر فيه أبيثار واحدًا من الشخصيات الرئيسية .كانت فكرتي تتمركز حول أن معنى الكلمات اليونانية المشار إليها هو معنى معقد إلى حد ما. كنت على يقين لا يتزعزع أن الأستاذ”ستوري” سيثني على هذه الرؤية الجدلية ،حيث إنني أعلم أنه عالمٌ مسيحيٌّ صالحٌ وهو بالتأكيد (مثلي) لا يمكن أن يفكر مطلقًا في أنَّ شيئًا ما خطأ بالفعل داخل الكتاب المقدس. لكنه كتب في نهاية بحثي تعليقًأ بسيطًا من سطر واحدٍ أثر فيّ كثيرًا لأسباب عدة. فقد كتب يقول:”ربما مرقس وقع في خطأ.”

بدأت أفكر في هذا التعليق، وفي كل العمل الذي قدمته في البحث،وفهمت أنني كان من المفترض أن أقوم ببعض المناورات التفسيرية الوهمية للالتفاف حول المشكلة ،وأن الحلَّ الذي اقترحته في الحقيقة كان ممطوطًا إلى حدٍ ما . في النهاية وصلت لنتيجة:“… ربما مرقس بالفعل قد ارتكب خطئًا.” وما أن كتبت هذا الاعتراف، حتى زالت السدود. لأنه لو كان ثمة خطأٌ واحدٌ صغيرٌ وتافهٌ في مرقس 2 ،فربما يوجد أخطاء أخرى في أماكن أخرى أيضًا. فعندما سيقول يسوع بعد ذلك في مرقس 4 إن بذرة الحنطة هي”أصغر كل بذور الأرض،”فربما ليس بي حاجة أن أوافق على تفسيرٍ وهميٍّ حول كيف أن حبة الحنطة هي الأصغر بين كل البذور ، في الوقت الذي أعلم تمامًا أنَّ هذا ليس صحيحًا . وربما ينطبق أمر هذه الأخطاء على قضايا أكثر أهمية. فمن المحتمل أنه حينما يقول مرقس إن يسوع صلب في اليوم التالي لتناوله عشاء الفصح(مرقس 14 : 12 ،15:25) وحينما يقول يوحنا إنه مات في اليوم السابق لتناوله إياه(يوحنا 19 :14)ــــ ربما كان ذلك تناقضًا حقيقيًّا . أو عندما يشير لوقا في حكايته لقصة ميلاد يسوع أن يوسف ومريم عادا إلى الناصرة بعد مايزيد عن شهر بالتمام من مقدمهم إلى بيت لحم (وتأديتهم لطقوس التطهير ؛لوقا 2 :39 )،في الوقت الذي يشير متى إلى أنهم هربوا بدلا من ذلك إلى مصر (متى 2: 19-22) ـــ ربما يكون هذا تناقضًا آخر . و حينما يقول بولس إنه بعد أن آمن على الطريق إلى دمشق لم يذهب إلى أورشاليم لكي يرى هؤلاء اللذين كانوا رسلاً من قبله(غلاطية 1 :16-17)،في الوقت الذي يقول سفر الأعمال أن ذلك كان عمله الأول بعد مغادرته دمشق (الأعمال 9 :26) ـــ فربما يكون هذا تناقضًا آخر.هذا النوع من الفهم تواكب مع المشكلات التي كنت أواجهها كلما درست بعناية أكبر مخطوطات العهد الجديد الموجودة.ليس أمامنا سوى أن نقول إن الأصول كانت منزلة من قبل الله ،لكنَّ الحقيقة هي أننا لا نملك هذه الأصول ـــــ ولذلك، القول إنها كانت موحى بها لا يساعدنا كثيرًا،إلا إذا استطعت إعادة بناء الأصول. زد على ذلك أن الغالبية الساحقة من المسيحيين لم يسمح لهم بالوصول إلى الأصول طوال تاريخ الكنيسة كاملا ولم يسمح لهم بوضع مسألة المصدر الإلهي لهذه الأصول موضع نقاش .بل إن الأمر لا يقتصر على فقدان الأصول، بل نحن لا نملك أيضًا النسخ الأولى من الأصول. بل نحن لا نملك أي نسخٍ حتى الجيل الثالث منها .ما نملكه هو نسخ كتبت في وقت متأخرـــ متأخر للغاية.على أحسن تقدير،كانت نسخًا كتبت بعد ذلك بقرون كثيرة . وهذه النسخ تختلف جميعها من واحدة لأخرى،في مواضع كثيرة تُعَدُّ بالآلاف. وهذه النسخ ، كما سنرى فيما بعد في هذا الكتاب، تختلف بعضها عن بعض في مواضع كثيرة للغاية إلى درجة أننا حتى لا نعرف عدد الاختلافات الموجودة .

وللتسهيل يمكننا أن نضعها على هيئة مقارنات: عدد الاختلافات بين مخطوطاتنا كبيرٌ على نحوٍ يفوق عدد كلمات العهد الجديد . معظم هذه الاختلافات لاقيمة لها وغير ذات أهمية . وقسم كبير منها يبين لنا ببساطة أن النسَّاخ في القديم كانت مقدرتهم على الاستهجاء ليست بأفضل حالا من مقدرة الناس في أيامنا هذه (بل لم يكن لديهم حتى معاجم،ناهيك عن مصحِّحٍ إملائي). رغم ذلك،ما هو سبب كل هذه الاختلافات؟ لو أن شخصًا ما يزال يصرُّ على أن الرب بالفعل أوحى كلمات الكتاب المقدس ،فما الفائدة من ذلك إذا كنا لا نمتلك بالفعل كلمات الكتاب المقدس الأصلية ؟

في بعض المواضع ،كما سنرى، لا يمكننا أن نصل إلى درجة من اليقين تخولنا أن نقول إننا أعدنا بناء النص الأصلي على نحوٍ دقيق. إن معرفة ما تعنيه كلمات الكتاب المقدس لهو أمر عسير إذا كنا لا نعرف حتى ماهية هذه الكلمات !

تحول هذا الأمر إلى مشكلة في وجه ما كنت أتبناه من وجهات نظر فيما يتعلق بالوحي،لأنني وصلت إلى الاقتناع بأن حفظ كلمات الكتاب المقدس هو أسهل على الله من قدرته على الإيحاء بها بدايةً .ولو كان الله يريد أن تصل كلماته إلى شعبه ،فبالتأكيد سيعطيهم إياها(وربما سيعطيهم إياها في لغة يمكنهم فهمها،وليس في اللغة العبرية أو اليونانية). حقيقةُ أننا لا نمتلك هذه الكلمات يجب أن تؤكد لنا ،حسب ما كنت أعتقد ،أنه لم يحفظ هذه الكلمات من أجلنا. وإذا لم يكن قد صنع هذه المعجزة (أي حفظ الكتاب)،فيبدو أنه ليس هناك مبررٌ يجعلنا نعتقد أنه صنع المعجزة الأولى التي هي إنزال هذه الكلمات كوحي.

باختصار،تعلُّمي للغة اليونانية ودراستي للمخطوطات اليونانية،أدت بي إلى إعادة النظر بصورة جذرية في مفهومي لماهية الكتاب المقدس.كان ذلك تغييرًا مزلزلا بالنسبة إلي . قبل ذلك ـــ منذ بداية تجربة الميلاد مرة ثانية التي مررت بها في المدرسة العليا،مرورًا بأيام تزمتي الديني في معهد “مودي”،و الذي استمرَّ وصولا إلى أيامي التي عشتها كإنجيليٍّ في معهد “ويتون”ـــ كان إيماني مبنيًا بالكامل على نظرة يقينية إلى الكتاب المقدس باعتباره كلمة الرب الموحى بها والمعصومة تماما من الخطأ . الآن ما عدتُ أرى الكتاب المقدس على هذا النحو . بدأ الكتاب المقدس يبدو لي ككتاب بشري تماما .

فكما دوَّن النساخون المنتمون إلى بني البشر نصوص الكتاب المقدس و حرَّفوها ،فكذلك وبالطريقة ذاتها دونت نصوص الكتاب المقدس منذ البداية بمعرفة مؤلفين من بني البشر. لقد كان كتابًا بشريًا من البداية وإلى النهاية.كتبه مؤلفون متنوعون من البشر في أزمنة مختلفة وفي أماكن مختلفة تلبيةً لحاجات مختلفة. كثيرٌ من هؤلاء المؤلفين بلا شك كانوا يشعرون أنهم يوحى إليهم من قبل الله لقول ما حدث ،لكنهم كان لهم آراؤهم ،ومعتقداتهم ،ورؤاهم ،وحاجاتهم ،و رغباتهم و،مفاهيمهم ،وعقائدهم اللاهوتية الخاصة. وهذه الآراء،والعقائد،ووجهات النظر،والحاجات،والرغبات،والمفاهيم ،والعقائد اللاهوتية أملت عليهم كلَّ شئ قالوه. لقد كانوا مختلفين في كل هذه الأمور.ومن بين أمور أخرى، كان هذا يعني أن مرقس لم يقل الشئ ذاته الذي قاله لوقا ، وذلك لأنه لم يكن يقصد الشئ ذاته الذي يقصده لوقا. يوحنا يختلف عن متى ــــ ليسوا سواءًا . بولس في رسائله يختلف عن بولس الموجود في الأعمال.ويعقوب يختلف عن بولس. كلُّ مؤلفٍ هو كائنٌ بشريٌّ ، وهو بحاجة إلى أن يقرأ الناس ما يكتبه (على فرض أنهم جميعًا من البشر)من أجل ما يجب عليه أن يقوله ،وليس عبر الافتراض أن ما يكتبه هو الشئ ذاته،أو متطابق مع،ملائم لما يجب أن يكتبه كلُّ مؤلف آخر. الكتاب المقدس ،في النهاية، هو كتابٌ بشريٌّ. كانت هذه الرؤية جديدة عليّ ،ومن الواضح أنها لم تكن الرؤية ذاتها التي كنت أعتنقها أبَّان كوني مسيحيًا إنجيليًا ـــ ولا هي الرؤية التي يعتنقها الغالبية من المسيحيين الإنجيليين اليوم. اسمحوا لي أن أقدم مثالا للتباين الذي اتسمت به رؤيتي المغايرة للكتاب المقدس. عندما كنت في معهد “مودي”،كان كتاب ،كوكب الأرض العظيم الراحل،لهال ليندسيي Hal Lindsey عن التخطيط الرؤوي apocalyptic لمستقبلنا واحدًا من أكثر الكتب رواجًا في الجامعة. كان كتاب ليندسي هو الأكثر رواجًا ليس فقط في “مودي”،بل إنه كان ،في الحقيقة،العمل الأكثر مبيعًا بين الأعمال المنبنية على حقائقwork of nonfiction (بالإضافة إلى الكتاب المقدس؛واستخدام مصطلح “المنبني على حقائق” هو استخدام فضفاض بعض الشئ) المكتوبة باللغة الإنجليزية في السبعينات.كان ليندسي يؤمن ،مثلنا حينما كنا في مودي، بأن الكتاب المقدس معصومٌ بشكل مطلق من الخطأ في كل كلمة من كلماته،إلى درجة أنك تستطيع أن تقرأ العهد الجديد وأن تعرف الكيفية التي يريدك الرب أن تعيش من خلالها ،و ليس ذلك فحسب ،بل ما يريدك أن تؤمن به،بل و أن تعرف أيضًا ما كان الله ذاته يخطط لأن يفعله في المستقبل وكيف كان سيفعله. كان العالم متجهًا نحو أزمة رؤوية ذات أبعاد كارثية ،وكانت كلمات الكتاب المقدس المنزهة عن الخطأ يمكن قراءتها لإظهار ماهية ،وكيفية و توقيت حدوث كل ذلك. لقد كنت متيمًا بشكل خاص بال”توقيت”. أشار ليندسي إلى مثل شجرة التين الذي ضربه يسوع كعلامة على التوقيت الذي يمكننا أن ننتظر عنده حدوث معركة هرمجدون المستقبلية . كان تلاميذ يسوع يريدون أن يعرفوا متى ستحين لحظة “النهاية” ويسوع يجيبهم:

فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقَهَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ.(متى 24 :32-34).

ماذا يعني هذا المثل؟ يحلل ليندسي رسالتها،معتقدًا أنها كلمة الرب ذاته المعصومة من الخطأ، عبر الإشارة إلى أن “شجرة التين” في الكتاب المقدس كثيرًا ما استخدمت كرمز لشعب إسرائيل. ماذا يعني أن تخرج أغصانها؟ هذا سيعني أن الشعب بعد أن يدخل في بيات فَصْلِيّ (شِتوي) ، سيعود مرة أخرى للحياة. ومتى ستعود إسرائيل مرة أخرى إلى الحياة؟ في 1948، حينما أصبحت إسرائيل أمة ذات سيادة مرة أخرى،يشير يسوع إلى أن النهاية ستأتي في خلال الجيل ذاته الذي سيقع له ذلك . وما هو عمر الجيل وفقًا للكتاب المقدس؟ أربعون سنة. من هنا فإنه حسب التعليم الإلهي الموحى به مباشرة من بين شفاه يسوع: ستحل نهاية العالم في وقت ما قبل عام 1988،أي بعد أربعين سنة من ظهور إسرائيل مرة أخرى. كانت هذه الرسالة آنذاك مقنعة لنا تمامًا . ربما يبدو الأمر غريبًا الآن ــــ مع الأخذ في الاعتبار أن العام 1988 قد جاء وذهب من دون أن تقع هرمجدون ـــ لكن، من ناحية أخرى، هناك ملايين المسيحيين اللذين لا يزالون يعتقدون أنَّ الكتاب المقدس يمكن قراءته حرفيًا ككتاب موحى به في تنبؤاته عمَّا هو مزمع أن يقع وصولا إلى نهاية التاريخ كما نعرفه . انظر إلى آخر صيحة في هذه الأيام وهي سلسلة (Left Behind) للكاتبين “تيم لاهاي” و”جيري جينكينز”، التي هي رؤية رؤوية أخرى لمستقبلنا مبنية على القراءة الحَرْفِية للكتاب المقدس، وهي سلسلة بيع منها ما يزيد عن ستة ملايين نسخة في يومنا الحاضر. إنها لتحول عظيم من قراءة الكتاب المقدس كتخطيط معصوم لإيماننا ، وحياتنا، و مستقبلنا إلى رؤيته ككتاب بشري إلى حد بعيد، يحمل وجهات نظر بشرية ، كثيرٌ منها تختلف الواحدة عن الأخرى ، ولا تمثل واحدة منها دليلاً معصومًا من الخطأ يرشدنا إلى الكيفية التي ينبغي أن نحيا على هديها . هذا هو التغيير الذي انتهيت ،حسب وجهة نظري ، من صياغته، والذي أؤمن به الآن بصورة مطلقة.

كثيرٌ من المسيحيين ،بالطبع، لم يؤمنوا أبدًا من البداية بالكتاب المقدس وفقًا لتلك الرؤية الحَرفِيَّة، وبالنسبة لهم مثل هذه الرؤية ربما بدت متحيزة وغير دقيقة (ناهيك عن غرابتها و عدم ارتباطها بقضايا الإيمان) . وهناك ،على الرغم من ذلك، عددٌ كبير من الناس هنا وهناك ما يزالون ينظرون إلى الكتاب المقدس على هذا النحو. أحيانًا،أرى ملصقًا على سيارة يقول:”الرب قاله،أنا أؤمن به، وهو حل مشاكلنا .” ودائما ما يكون جوابي ،ماذا لو كان الرب لم يقله؟ ماذا لو كان الكتاب الذي تعتبره يقدم لك كلمة الرب، يحتوي بدلا من ذلك على كلمات بشرية؟ ماذا لو كان الكتاب المقدس لا يقدم لك جوابًا أكيدًا للأسئلة المعاصرة ــــ الإجهاض، حقوق المرأة، حقوق الشواذ، التفوق الديني، الديموقراطية الغربية، وما أشبه؟ ماذا إن كان من المتحتم علينا أن نستكشف بأنفسنا كيف نعيش وبماذا نؤمن، بدون تنصيب الكتاب المقدس كوثن زائف ــ أو كوسيط يهدينا إلى الطريق المباشر للاتصال بالخالق؟

هناك أسباب واضحة تدفعنا للاعتقاد أن الكتاب المقدس،في الواقع، ليس من ذلك النوع من الهداة المنزهين عن الخطأ لحياتنا : فبين أمور أخرى ، كما كنت أوضح ، في مواضع كثيرة لا نعرف حتى (كعلماء،أو كقراء منتظمين فحسب) كيف كانت أصول كتاب المقدس . لقد تغيرت معتقداتي الشخصية بشكل عنيف من خلال إدراكي لهذا، لتسوقني إلى طرق مختلفة تمامًا عن تلك التي مررت بها في أواخر سني مراهقتي وبواكير العشرينات من عمري. واصلت تقديري للكتاب المقدس وللرسائل الكثيرة والمتنوعة التي يحتويها ــ بقدر ما أصبحت أقدر كتابات المسيحيين الأوائل الأخرى التي كتبت قريبا من الفترة ذاتها وبعد ذلك بقليل ، كتابات الشخصيات الأقل شهرة مثل إجناتيوس الأنطاكي ،كليمنت الروماني (نسبة إلى روما)،وبرنابا السكندري، وأصبحت حتى أقدِّر كتابات الشخصيات الذين ينطلقون من معتقدات أخرى ، في الوقت نفسه تقريبًا، مثل كتابات يوسيفوس ، ولوسيان السمساطي، وبلوتارخ . كلُّ هؤلاء المؤلفين كانوا يحاولون أن يتصوروا العالم وموقعهم فيه، وفي كل عمل من أعمالهم يوجد أشياء قيِّمة يمكننا تعلمها. من المهم أن نعرف كلمات هؤلاء المؤلفين، حتى نستطيع أن نرى ما كان ينبغي أن تكون عليه أقوالهم أو أحكامهم ، ثم، بالنسبة لنا ماذا نعتقد وكيف نعيش في ضوء هذه الكلمات .

إن هذا يعود بي إلى اهتمامي بمخطوطات العهد الجديد ودراسة هذه المخطوطات من خلال الميدان العلمي الذي يعرف بالنقد النصي . ما أعتقده حول النقد النصي هو أن هذا هو ميدانُ دراسةٍ ضروريٌّ وجذابٌ ، وهو ذو أهمية ليس فقط بالنسبة إلى العلماء ولكن بالنسبة إلى المهتمين بالكتاب المقدس كلِّهم (سواء أكانوا ممن لا يزالون من أنصار التفسير الحرفي،أو ممن كانوا أنصارا للتفسير الحرفي سابقًا ،أو حتى ممن لم يكونوا يومًا من أنصار التفسير الحرفي، ولأيِّ شخص له اهتمام ولو من بعيد بالكتاب المقدس كظاهرة تاريخية وثقافية). الأمر المثير للصدمة،بالرغم من ذلك،هو أن غالبية القراء ـ حتى هؤلاء اللذين يهتمون بالمسيحية ،وبالكتاب المقدس،وبالدراسات الكتابية،و هؤلاء اللذين يؤمنون بالكتاب المقدس ككتاب معصوم من الخطأ والآخرون اللذين لا يؤمنون بذلك ــ لا يعرفون تقريبًا أي شئ عن النقد النصي.وليس من الصعب معرفة أسباب هذا .وعلى الرغم من حقيقة أن النقد النصي كان موضوعًا لعلم عمره الآن ما يزيد عن ثلاثمائة عام،فإن هناك بالكاد كتابًا واحدًا يدور حول هذا العلم يخاطب الجمهور العلماني ـــأي للذين لا يعلمون شيئا عنه، أي للجمهور الذي لا يعرف اليونانية ولا اللغات الأخرى اللازمة لدراساته الأكثر تعمقًا ،وللذين لا يعلمون حتى أن هناك “مشكلة” في النصوص،ولكنهم في الوقت ذاته لديهم الفضول لمعرفة جواب السؤالين التاليين كليهما: ما هي هذه المشاكل و كيف باشر العلماء التعامل معها؟(2) . هذا الكتاب الذي نحن بصدده هو من هذه النوعية ــ و حسب علمي ، هو الأول من نوعه . كتبته لمن لا يعرفون شيئا من الناس عن النقد النصي ولكنهم ربما يحبون أن يتعلموا شيئا عن الكيفية التي كان النساخ يغيرون من خلالها الكتاب المقدس والكيفية التي نعرف بها مواضع هذا التغيير. كتبتها معتمدًا على تفكير دام ثلاثين عامًا حول هذا الموضوع، وصدورًا عن الرؤية التي أعتنقها الآن،مرورًا بهذه التحولات العنيفة لرؤيتي حول الكتاب المقدس. كتبته من أجل كل من يجد في نفسه اهتمامًا بمعرفة الكيفية التي وصل إلينا بها العهد الجديد،وبمعرفة كيف أننا في بعض المواقف لا نعرف حتى الصورة التي كانت عليها الكلمات الأصلية التي خطتها يدُ المؤلف،وبمعرفة الطريقة الطريفة التي تم تغيير هذه الكلمات أحيانًا من خلالها ،ومعرفة كيف أننا ربما ،عبر تطبيق بعض مناهج التحليل الأكثر صرامة، أعدنا بناء هذه الكلمات الأصلية كما كانت .

لأسباب كثيرة،من هنا ، يعتبر لهذا الكتاب وضع خاص بالنسبة إلي،وهو ومحصلة نهائية لرحلة طويلة. وقد يكون ،بالنسبة للآخرين،جزءا من رحلتهم الشخصية.

 

 

image 4

 

 

الفصـــــــل الأول: جذور الكتاب المقدس المسيحي #

صورة من أناجيل ربولا الشهيرة ، وهي مخطوطة توراتية أنيقة من القرن السادس في سوريا.
صورة من أناجيل ربولا الشهيرة ، وهي مخطوطة توراتية أنيقة من القرن السادس في سوريا.

لكي ندرس نسخ العهد الجديد التي بحوذتنا ، نحتاج أولا إلى البدء بدراسة أحد الخصائص غير المألوفة التي تتميز بها المسيحية في محيط العالم اليوناني الروماني:ألا وهي طابعها الكتابيّ (Bookish). في الواقع ،لكي نفهم هذه الخصيصة التي تتميز بها المسيحية ،نحن بحاجة ،قبل الحديث عن المسيحية،إلى البدء بالحديث عن الديانة اليهودية،وهي الديانة التي انبثقت منها المسيحية . حيث إن اليهودية ،التي كانت “ديانة الكتاب” الأولى في الحضارة الغربية،كانت قد سبقت كتابيّة المسيحية إلى حد ما وتنبأت بها.

 

اليهودية باعتبارها ديانة الكتاب

كانت اليهودية ، التي هي أساس المسيحية، ديانة غير مألوفة في العالم الروماني،على الرغم من أنها لم تكن منقطعة النظير. فمثل أتباع أيَّة ديانة أخرى من (المئات ) من الديانات التي كانت موجودة في منطقة حوض المتوسط،كان اليهود يؤمنون بوجود مملكة إلهية تسكنها الكائنات العلوية(ملائكة،رؤساء ملائكة،طغمات الملائكة،القوى)؛كما اتفقوا على عبادة إله عبر تقديم الأضحيات التي هي عبارة عن حيوانات وأطعمة أخرى؛ وكانوا يؤمنون بأن هناك مكانًا مقدسًا له خصوصية بحيث يسكن فيه هذا الكائن الإلهي هنا على الأرض ( الذي هو الهيكل في أورشليم)، حيث تسفك دماء هذه الأضاحي . وقد كانوا يصلُّون إلى هذا الإله طلبا لقضاء حوائج جماعية وشخصية. وحكوا قصصًا عن الكيفية التي تعامل بها هذا الإله مع البشر في الزمن الماضي ، وانتظروا عونه للبشر في الزمن الحاضر . في كل هذه النواحي ، لم تكن اليهودية “مختلفة” في أعين كل المؤمنين بالآلهة الأخرى داخل الإمبراطورية.لكنَّ اليهودية في بعض النواحي ،على الرغم من ذلك ، كانت متميزة عن غيرها. فكلُّ الديانات الأخرى داخل الإمبراطورية كانت ديانات شركية ـ أي تعترف بالعديد من الآلهة من كل الأنواع وبمختلف الوظائف وتتوجه إليها بالعبادات :مثل الآلهة العظيمة للدولة ، والآلهة الأقل شأنًا في الأقاليم المختلفة ، آلهة تراقب المناحي المختلفة لميلاد الإنسان ،وحياته ، وموته . ومن ناحية أخرى ، كانت اليهودية ديانة توحيديَّة ؛ فاليهود أصرُّوا على عبادة الإله الواحد الذي عبده أجدادهم فحسب ، الإله الذي ،حسب زعمهم ، كان قد خلق هذا العالم ، وحكمه،وهو وحدُه الذي كان في حاجةِ شعبِه . وفقًا للتقليد اليهودي ،هذا الإله الواحد القادر على كل شئ دعى إسرائيل ليكونوا شعبه المختار ووعده بالحماية والدفاع عنه في مقابل إخلاصه المطلق له، وله وحده . كان بين الشعب اليهودي ،كما كان يُعتَقد، وبين الله “عهد”،أي اتفاق بموجبه يكونون وحدهم شعبه كما يكون هو ربهم وحدهم . هذا الإله الواحد هو المستحق وحده للعبادة وللطاعة ؛ وهكذا ،للسبب ذاته ،كان ثمة هيكل واحد فقط ،على عكس الديانات الشركيّة في ذلك العصر التي ،على سبيل المثال ،تسمح أن يوجد أي عدد من المعابد لإله مثل “زيوس”. بلا شك ،كان بإمكان اليهود أن يعبدوا الله في أي مكان يعيشون فيه ،لكنهم لم يكونوا يستطيعون إقامة واجباتهم الدينية مثل تقديم الذبائح لله إلا في الهيكل في أورشليم .أما في الأماكن الأخرى ،مع ذلك ،فيمكنهم أن يجتمعوا معًا في “الكنيسات” للصلاة ولمناقشة التقاليد الآبائية التي تتعلق بشئون دينهم . هذه التقاليد تشتمل على قصص تدور حول علاقة الله بآباء شعب إسرائيل – أو آباء و أمهات الإيمان ـ إذا جاز التعبير : إبراهيم ،سارة ، إسحاق ، راشيل ،يعقوب ، رُفقى ،يوسف ،موسى ،داوود ،وهلم جرا ــ وأيضًا تعاليم مفصَّلة بخصوص الكيفية التي ينبغي أن يسيِّرَ بها هذا الشعب عبادته وحياته. أحد الأشياء التي تجعل اليهودية ديانة فريدة وسط ديانات الإمبراطورية الرومانية أن هذه التعاليم ، إلى جانب التقاليد الآبائية الأخرى، كانت مكتوبة في ثنايا كتبٍ مقدسة. إلا أن المعرفة الوثيقة للإنسان المعاصر بالديانات الغربية الرئيسية المعاصرة (اليهودية ،المسيحية ، الإسلام)،ربما ستجعل من العسير أن يتصور المرء غرابة هذا الأمر ، لكنَّ الكتب لم تلعب فعليًا أيَّ دورٍ في الديانات الوثنية التي كانت موجودة في العالم الغربي القديم. هذه الديانات كانت تقريبا وبشكل خاص معنية بتمجيد الآلهة عبر طقوس الذبح. لم يكن ثمّةَ عقائدٌ يمكن تعلُّمها ،ومن ثمَّ تفسيرُها في ثنايا الكتب ، وتقريبا لم يكن ثمَّة مبادئ أخلاقية تحتذى ، فيتم تضمينها في الكتب. وهذا لا يعني أننا نقول إن أتباع الديانات الوثنية المتنوعة لم يكن لديهم أي عقائد حول آلهتهم أو أنهم لم يكن لديهم أي مبادئ أخلاقية ،بل ما نقصده هو أن العقائد والأخلاق ـ وهو ما يبدو غريبًا على الأسماع في العصر الحديث ـ لم تلعب تقريبا أيَّ دور في الدين تحديدًا. فتلك العقائد والأخلاق كانت بدلا من ذلك من قضايا الفلسفة الشخصية، والفلسفات ، بالطبع ،يمكن أن تكتب في الكتب. وحيث إن الديانات القديمة ذاتها لم تتطلب أي مجموعة خاصة من “العقائد السليمة” أو ، في الغالب ، من” القوانين الأخلاقية،” فالكتب لم تلعب تقريبًا أي دور فيها. كانت اليهودية فريدة في أنها أكدّت على تقاليدها ،وعاداتها، وقوانينها الآبائية ، وأصرت على أن يتمَّ تسجيلُها في ثنايا الكتب المقدسة، التي كانت لها ،من أجل هذا، منزلة “الكتاب المقدس” في أعين الشعب اليهودي. في أثناء الفترة موضع دراستنا ـ القرن الأول من الميلاد (1)، عندما كانت الكتب المتضمَّنة في العهد الجديد في مرحلة الكتابة ـ كان اليهود الذين تشتتوا في كل مكان من الإمبراطورية الرومانية يعتقدون أن التعاليم التي أعطاها الرب بشكل خاص للشعب موجودة في ثنايا كتب موسى ،المشار إليها مجموعةً بالتوراة ،التي تعني حرفيًا شيئا مثل “قانون” أو “هداية.”

تتكون التوراة من خمسة كتب ،يطلق عليها أحيانا (Pentateuch) أي (أسفار موسى الخمسة)،التي هي بداية الكتاب المقدس اليهودي (الذي يقابل مصطلح العهد القديم عند المسيحيين): التكوين ، الخروج ،اللاويين، العدد ، التثنية.

ها هنا يجد المرء روايات عن خلق العالم ،دعوة شعب إسرائيل ليصيروا شعب الله ،قصص الآباء والأمهات وعلاقة الله بهم ،والأهم (والأطول مساحةً )،القوانين التي أعطاها الله لموسى لتعرِّفَهم كيف ينبغي أن يعبد الشعبُ ربَّهم وكيف ينبغي أن يتعاملوا بعضهم مع بعض داخل المجتمع . لقد كانت قوانينًا مقدسة ، ينبغي تعلُّمها ،ومناقشتها ، واتِّباعِها ـ و كانت مكتوبة في ثنايا مجموعة من الكتب.
كان لليهود كتبًا أخرى كانت تمثل شيئًا مهمَّا لحياتهم الدينية الجماعية أيضًا،على سبيل المثال ،أسفار الأنبياء (مثل إشعياء ،إرميا ، عاموس)، الأشعار (أو المزامير)، والأسفار التاريخية( مثل يشوع وصموئيل). في المحصلة ، بعد فترة من ظهور المسيحية ، حدث وأن أصبحت مجموعة من هذه الكتب العبرية ـ اثنان وعشرين منهم تحديدًا ـ ينْظَرُ إليها على أنها القائمة القانونية للكتاب المقدَّس ،أي الكتاب المقدس اليهودي في الوقت الحاضر ،الذي قبله المسيحيون باعتباره الجزء الأول من القائمة القانونية المسيحية ، أو ما يعرف بـ”العهد القديم .” (2)

هذه الحقائق المختصرة حول اليهود ونصوصهم المكتوبة هي من الأهمية بمكان لأنها تمثل الخلفية بالنسبة للمسيحية ،التي كانت أيضًا ، منذ لحظاتاها الأولى ،ديانة “كتابية”. لقد بدأت المسيحية ،بالطبع ، من خلال يسوع ، الذي كان نفسه حبرًا يهوديًا (Rabbi ) (أي معلمًا) قَبِل سلطان التوراة ، وربما الكتب اليهودية المقدسة الأخرى ،و لقن تلاميذه تفسيره الخاص لهذه الكتب (3) . ومثل معلمي عصره الآخرين ،أكد يسوع أن النصوص المقدسة،قانون موسى على وجه الخصوص، تمثل إرادة الله . لقد قرأ من هذه الكتب المقدسة ،وتعلَّمها،وقام بتفسيرها ،والتزم بها،وعلَّمها. لقد كان تلامذته ،منذ البداية ، يهودًا وكانوا ينظرون إلى الكتب التي تحوي تقاليد قومهم على أنها ذات قيمة خاصة. وهكذا ، بالفعل ،في بداية المسيحية ،كان أتباع هذه الديانة الجديدة ،أي تلاميذ يسوع ،فريدين في الإمبراطورية الرومانية :فهم كانوا مثل اليهود من قبلهم ،لكنهم لم يكونوا مثلَ أيِّ شخص آخر تقريبًا ،فقد أوجدوا سلطة مقدسة في ثنايا كتب مقدسة . لقد كانت المسيحية في بدايتها ديانة الكتاب .

المسيحية باعتبارها ديانة الكتاب

كما سنرى قريبا ، لم تكن الأهمية التي احتلتها الكتب لدى المسيحية الأولى تعني أنَّ كلَّ المسيحيين كان بإمكانهم قراءة الكتب ؛ بل على العكس من ذلك تماما ، معظم المسيحيين الأوائل ،مثلهم مثل غالبية الشعب في أنحاء الإمبراطورية (بمن فيهم اليهود ! ) ، كانوا أمِّيين . لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ الكتب لعبت دورًا ثانويًا بالنسبة إلى الدين . في الحقيقة ، كانت الكتب ذات أهمية رئيسية، بشكل مطلق ، لحياة المسيحيين في مجتمعاتهم .

الرسائل المسيحية المبكرة

أول ما يجب ملاحظته هو أن أنواعًا كثيرة ومتباينة من الكتابة كانت تحمل أهمية للمجتمعات المسيحية النامية في القرن الأول بعد وفاة يسوع . فأقدم البراهين التي بين أيدينا عن المجتمعات المسيحية تأتي من الرسائل التي كتبها القادة المسيحيون . بولس الرسول هو أقدم وأفضل مثال لدينا . أقام بولس الكنائس في أنحاء غرب المتوسط ، بشكل أساسي في المراكز الحضرية ،وبصورة جلية عبر إقناع الوثنيين (أي أتباع الديانات الشركية داخل الإمبراطورية) بأن إله اليهود هو الإله الوحيد المستحق للعبادة ،وأن يسوع كان ابنه،الذي مات من أجل خطايا العالم وأنه سيعود قريبًا للدينوية على الأرض (انظر 1تسالونيكي 1 : 9-10 ) . ليس من الواضح إلى أيِّ حدٍ استخدم بولس الكتاب المقدس ( أي نصوص الكتاب المقدس اليهودي) في محاولته لإقناع مُتنَصِّريه المُحْتَمَلين بأن رسالته هي رسالة الحق ؛ لكنه يشير في واحدة من ملخصاته الهامة لرحلاته الوعظية إلى أن ما يعظ به هو أن “المسيح مات ، حسب الكتب ” (1 كورنثوس 15 : 3-4). من الواضح أن بولس ربط بين أحداث موت المسيح و قيامته، بتفسيره لإحدى الفقرات الرئيسية في الكتاب المقدس اليهودي ،التي كان باستطاعته بشكل واضح ،باعتباره يهوديًّا واسع الثقافة ، أن يقرأها لنفسه ،وأن يفسرها لمستمعيه في محاولة لتنصيرهم كثيرا ما تكللت بالنجاح. وبعد أن يقوم بتحويل عددٍ من الناس إلى المسيحية في مكان معين ، كان بولس ينتقل إلى مكان آخر ويحاول ، وعادة ما يكون ذلك مصحوبا ببعض النجاح ، أن يحوّل الناس فيه أيضًا إلى المسيحية. لكنه في بعض الأحيان ( وربما كثيرا ؟)كانت تتناهى إلى مسامعه أخبارًا من إحدى مجتمعات المؤمنين الأخرى التي أقامها من قبل :و أحيانًا (أم هل نقول كثيرا ؟) لم تكن هذه الأخبار جيدة : فأفراد المجتمع بدءوا يسلكون سلوكا رديئا ، وظهرت مشكلات الفجور الأخلاقي (Immorality) ،و”المعلمون الكذبة” (false teachers) أصبحوا ينشرون تعاليم مضادة لتعاليمه ،بعض أفراد المجتمع بدءوا في اعتناق العقائد الباطلة ، وهكذا . عند سماعه هذه الأخبار ،كتب بولس ردًا في رسالة إلى المجتمع ،تتناول هذه المشكلات . كانت هذه الرسائل شديدة الأهمية لحياة المجتمع ،وفي النهاية أصبح عددٌ من هذه المجتمعات ينظر إلى هذه الرسائل باعتبارها كتابًا مقدسًا .حوالي ثلاث عشرة رسالة كتبت باسم بولس أصبحت جزءا من العهد الجديد. يمكننا تصوُّر الأهمية التي كانت تحتلها هذه الرسائل في مراحل الحركة المسيحية الأولى من أول الكتابات المسيحية التي لدينا ، أي رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي ،التي عادة ما تؤرخ بعام 49 ميلاديًا تقريبًا (4) ، أي بعد عشرين عامًا تقريبا من موت يسوع ، و قبل عشرين عامًا تقريبًا من كتابة أيٍ من روايات الأناجيل عن حياته .ينهي بولس رسالته بقوله، ” سَلِّمُوا عَلَى الإِخْوَةِ جَمِيعاً بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ ؛ أُنَاشِدُكُمْ بِالرَّبِّ أَنْ تُقْرَأَ هَذِهِ الرِّسَالَةُ عَلَى جَمِيعِ الإِخْوَةِ الْقِدِّيسِينَ”( 1 تسالونيكي 5 :26 – 27 ).

لم يكن هذا الخطاب خطابا تقليديًا يقرأه ببساطة شخصٌ ما معنيٌّ به ؛ إن الرسول يُصِرُّ على أن يُقرأ هذا الخطاب ، وأن يتمَّ قبولُه باعتباره بيانًا رسميًا منه ،كمؤسسٍ للمجتمع . كانت الخطابات من أجل ذلك يتم نشرها في كل مكان تتواجد به الجماعات المسيحية منذ أقدم العصور . كانت الرسائل حلقة الاتصال بين المجتمعات التي كانت تعيش في أماكن مختلفة ، فقد وحَّدت إيمان و طقوس المسيحيين ؛وذكرت ما كان يفترض أن يؤمن به المسيحيون وكيف يفترض أن يكون سلوكهم . كانت تقرأ بصوت عالٍ على أفراد المجتمع في اجتماعاتهم ـ حيث لم يكن معظم المسيحيين ،كما أوضحت ،مثلهم في ذلك مثل الغالبية العظمى من الآخرين ، باستطاعتهم قراءة الرسائل بأنفسهم.

أصبح عددٌ من هذه الرسائل جزءًا من العهد الجديد . العهد الجديد ، في الواقع ، يتشكل بشكل كبير من رسائل بولس و القادة المسيحيين الآخرين للمجتمعات المسيحية (الكرونثيون و الغلاطيون على سبيل المثال ) والأفراد المسيحيين (فيليمون كمثال).أضف إلى هذا أن الرسائل التي بقيت حية ــ منها إحدى وعشرين متضمنة في العهد الجديد ـ هي فقط جزء صغير من هذه الكتابات . بالنسبة لبولس وحده ، يمكننا أن نفترض أنه كتب رسائل كثيرة أخرى أكبر من من تلك المنسوبة إليه في العهد الجديد. فقد كان ،أحيانًا ، يذكر رسائل أخرى لم يعد لها وجود ؛ ففي 1 كورنثوس 5 : 9 ، على سبيل المثال ، ذكر رسالة كان قد كتبها قبل أن يكتب الرسالة إلى الكورنثيين (في وقت ما قبل الرسالة الأولى إلى الكورنثيين ). وذكر رسالة أخرى أرسلها إليه بعض الكورنثيين (1 كور 3 : 1) . لكنَّ أثرًا لم يبق لأيٍّ من هذه الرسائل.

ارتاب العلماء لفترة طويلة في أن بعضًا من هذه الرسائل الموجودة في العهد الجديد منسوبةً لبولس هي في الحقيقة من كتابات أتباعه المتأخرين ونسبت إليه بالباطل (5) . و لو صحَّت هذه الشكوك ،فستعطي دليلًا لا شك فيه على أهمية الرسائل عند الحركة المسيحية الأولى : فلكي يجذب الإنسان الأسماع إلى وجهات نظره ، كان عليه أن يكتب رسالة ممهورة بتوقيع الرسول مفترضًا أن ذلك سيمنحها حجمًا من الموثوقية جديرًا بالاعتبار .

إحدى هذه الرسائل التي يزعمون أنها منسوبة إليه هي الرسالة إلى أهل كولوسي ، التي تؤكد بحد ذاتها أهمية الرسائل و هي تذكر رسالة أخرى لم يعُد لها الآن وجود: ” وَمَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجْعَلُوهَا تُقْرَأُ ايْضاً فِي كَنِيسَةِ اللاَّوُدِكِيِّينَ، وَالَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ تَقْرَأُونَهَاأنْتُمْ أيْضاً. “(1كولوسي 4 : 16 ). من الواضح أن بولس – إما هو نفسه ، أو شخص آخر يكتب باسمه ـ كتب رسالة إلى مدينة اللاودكية المجاورة. هذه الرسالة أيضًا مفقودة (6) .

النقطة التي أدندن حولها هي أن الرسائل كانت تحمل أهمية لحياة المجتمعات المسيحية الأولى. هذه الرسائل كانت هي الوثائق المكتوبة التي كتبت لترشدهم في إيمانهم و عباداتهم . فقد وحَّدت تلك الكنائس برباط واحد .وساعدت على جعل المسيحية ديانة شديدة الاختلاف عن غيرها من الأديان الأخرى المنتشرة في أنحاء الامبراطورية ،وذلك في أن المجتمعات المسيحية المتعددة ،التي تتوحد من خلال هذا الأدب المشترك الذي تشاركوه هنا وهنالك (قارن مع كولوسي 4 :16) ، كانت ملتزمة بالتعاليم الموجودة في الوثائق المكتوبة أو “الكتُب”. ولم تكن الرسائل هي الوحيدة التي حملت أهمية بالنسبة لهذه المجتمعات . فلقد كان هناك أدبٌ ،في الحقيقة ، يتم انتاجه ، ونشره ،وقراءته و الالتزام به على نطاق شديد الاتساع من خلال المسيحيين الأُوَل ،وهو أدب شديد الاختلاف عن أيِّ شئ آخر شهده العالم الروماني الوثني على الإطلاق . وبدلا من وصف كل هذا الأدب بتفصيل مملّ ، يمكنني الآن ببساطة أن أذكر بعض الأمثلة من تلك الأنواع من الكتب التي كانت تُكتَب وتُوَزَّع.

 

الأناجيل المبكرة

كان المسيحيون بالطبع معنيِّين بمعرفة معلومات أكثر عن حياة ،وتعاليم ، وموت الرب و قيامته ؛ ولذلك كُتِبَتْ العديد من الأناجيل ،التي قامت بتسجيل التقاليد المتصلة بحياة يسوع . أربعة من هذه الأناجيل أصبحت هي الأوسع استخدامًا ـ وهي تلك التي كتبها متَّى ،ومرقس ،ولوقا ، ويوحنا في ثنايا العهد الجديد ـ لكنَّ أناجيلا أخرى كثيرة كُتِبت: منها على سبيل المثال ،الأناجيل المنسوبة إلى فيليبُّس تلميذ يسوع ، ويهوذا توما أخيه ، ورفيقته مريم المجدلية. كما فقدت أناجيل أخرى بعضها من الأناجيل الأكثر قِدمًا . نعلم ذلك ،على سبيل المثال ،من إنجيل لوقا ،الذي يشير مؤلفه أنه يسترشد في كتابة روايته ب”كثيرٍ” من المؤلَّفات السابقة (لوقا 1 : 1)،التي من الواضح جدا أنها لم يعد لها وجود . إحدى هذه الروايات الأكثر قِدَمًا ربما كانت هي المصدر الذي حدده العلماء تحت اسم المصدر “Q” ،والذي يحتمل أنه كان رواية مكتوبة تشتمل على أقوال يسوع بشكل أساسيّ ، واستخدمها كل من لوقا ومتَّى كمصدرٍ لكثير من تعاليم يسوع التي انفردا بها (على سبيل المثال صلاة الرب والتطويبات ) (7) . فسَّر بولس وآخرون حياة يسوع ،كما رأينا ، على ضوء الكتابات المقدسة اليهودية. هذه الكتب أيضًا ـ أي كلا من الأسفار الخمسة و الكتابات اليهودية الأخرى ، مثل أسفار الأنبياء و المزامير ـ كانت تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ بين المسيحيين ،الذين سبروا أغوارها ليروا ما يمكنها كشفه بخصوص إرادة الله كما تحققت في شخص المسيح خاصةً. كانت نسخ من هذا الكتاب المقدس اليهودي ،مترجمة في العادة باليونانية (تسمى السبعينية ) ، منتشرة على نطاق واسع ،إذن، في المجتمعات المسيحية الأولى كمصادر للدراسة والتأمل.

الأعمال المبكرة للرسل

ليست حياة يسوع فحسب ،بل أيضًا حياة الأتباع الأوائل كانت محطًّا لاهتمام المجتمعات المسيحية المتنامية في القرنين الأول والثاني . ليست مفاجأة ،إذن ،أن نرى أن قصص الرسل ـ مغامراتهم و أعمالهم التبشيرية ،خاصة بعد موت وقيامة يسوع ـ أصبحت تشغل مكانة هامة عند المسيحيين المهتمين بمعرفة المزيد من المعلومات عن دينهم . إحدى هذه القصص ، أي سفر أعمال الرسل ، نجحت في النهاية في أن تصبح جزءًا من العهد الجديد . لكنَّ قصصًا أخرى كثيرة كُتِبَتْ عن الرسل كلٌّ على حدى ،مثل تلك الموجودة في أعمال بولس ، وأعمال بطرس ،وأعمال توما . أعمال أخرى نجى بعضها من الضياع ولكن في صورة مقاطع صغيرة فحسب ، بينما فُقِدَ البعض الآخر تمامًا .

الرؤى المسيحية

كما أشرت ،نشر بولس (مع الرسل الآخرين) تعليمًا يقول إن يسوع كان مُزمعًا أن يعود من السماء للحكم على الأرض . النهاية الوشيكة لكل الأشياء كانت أمرًا سَحَرَ باستمرار لُبَّ المسيحيين الأوائل ،الذين في العموم كانوا يتوقعون أن الله سيتدخل قريبًا في شئون العالم ليقهر قوى الشر وليقيم هنا على الأرض مملكته الخيِّرة ،وعلى رأسها يسوع. بعض المؤلفين المسيحيين كتبوا قصصًا تنبُّؤيَّة
(prophetic accounts) عمّا سيحدث في هذه النهاية الكارثية للعالم كما نعرفه. لقد كان عند اليهود أعمال حاذت قصبة السبق في هذا النوع من الأدب “الرؤَوِيّ” (apocalyptic) ، في كتاب دانيال ،على سبيل، في الكتاب المقدس اليهودي ، أو كتاب أخنوخ1 (book of 1 Enoch) في الأبوكريفا اليهودية . ومن بين الرؤى المسيحية ،دخلت واحدة في النهاية إلى العهد الجديد: رؤيا يوحنا . بينما كانت رؤى أخرى ،من بينها رؤيا بطرس و الراعي لهرماس ، شائعة القراءة في عددٍ من المجتمعات المسيحية في القرون الأولى للكنيسة.

نُظُم الكنيسة

تضاعفت المجتمعات المسيحية ونمت ،بدءًا من عصر بولس ولتتواصل خلال الأجيال التي جاءت من بعده. كانت الكنائس المسيحية في الأصل ،أو على الأقل تلك التي أقامها بولس نفسه ،من المجتمعات التي يمكننا أن نطلق عليها مجتمعاتٍ ذات مواهب قيادية
(charismatic) . فقد كانوا يؤمنون بأن كل فرد من المجتمع قد أُوتِيَ “موهبةً” ( كاريزما باليونانية) من الروح القدس لمساعدة المجتمع في تسيير حياته الحاضرة: على سبيل المثال ،هناك مواهب التعليم ، موهبة الإدارة ، موهبة إعطاء الصدقات ،موهبة الشفاء ،وموهبة التنبوء . إلا أنه في نهاية المطاف ، حينما بدأت التنبؤات الخاصة بالنهاية الوشيكة للعالم في الاضمحلال ، بدى واضحًا أن هناك حاجة لإيجاد بنية كنسية أكثر صرامة ،خاصة إذا كانت الكنيسة ستظل قائمة لفترة طويلة (قارن 1 كرونثوس 11 ؛ مع متّى 16 ،18). بدأت الكنائس الواقعة على جانبي البحر المتوسط ، ومن بينها تلك التي أسسها بولس ، في تعيين قادة سيتولُّون المسئولية واتخاذ القرارات (بدلا من النظر إلى كل فرد من أفراد الكنيسة باعتباره “متساويًا” في الموهبة من الروح )؛ فبدأت القواعد الخاصة بكيفية عيش المجتمع المسيحي معًا ، وبكيفية ممارسته لشعائره المقدسة (العماد والقربان المقدس على سبيل المثال ) ، وتعليم الأعضاء الجدد ..إلخ ،يتمُّ صياغتها. وسرعان ما بدأ تدوين الوثائق التي تذكر الكيفية المثلى لتنظيم وهيكلة الكنيسة. لقد أصبح ما يعرف ب”النظم الكنسية” أمرًا ذا أهمية متزايدة في القرنين المسيحيين الثاني والثالث،لكن في العام 100 بعد الميلاد تقريبًا كان الكتاب المعروف باسم “ديداخي (تعليم ) الرسل الاثنى عشر” هو أول (حسب ما نعلمه ) ما كتب بالفعل. وخلال زمن قصير تبعه العديد من الكتب.

 

 

كتب اللاهوت الدفاعي المسيحي

عندما كانت المجتمعات المسيحية في مرحلة النشوء ،كانت تجابه أحيانًا بمعارضة من اليهود و الوثنيين الذين رأوا في هذا الإيمان الجديد تهديدًا وارتابوا في انخراط أتباعه في طقوس لا أخلاقية ومدمرة للمجتمع (كما ينظر اليوم إلى الحركات الدينية الجديدة في أحيان كثيرة بالريبة ذاتها تماما). هذه المعارضة أدت في أحيان كثيرة إلى وقوع اضطهادات للمسيحيين في مجتمعهم المحلي؛ وفي النهاية أصبحت الاضطهادات ذات طابع “رسميّ”، حيث تدخلت السلطات الرومانية للقبض على المسيحيين وفي محاولة لإجبارهم على الرجوع إلى معتقداتهم الوثنية القديمة . وعندما كانت المسيحية تنمو ،نجحت في النهاية في استمالة المثقفين إلى الإيمان ،وهم الذين كانوا مؤهلين جيدًا لمناقشة الاتهامات التي رُفِعَت في وجوه المسيحيين ودحضها. كتابات هؤلاء المثقفين يطلق عليها أحيانًا الدفاعيات ،من الكلمة اليونانية (أبولوجيا) المقابلة لكلمة “دفاع”. المدافعون كتبوا أعمالا فكرية دفاعًا عن الإيمان الجديد ، محاولين إظهار أن المسيحية هي ديانة تبشر بالقيم الأخلاقية ،وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تهديدًا للبناء الإجتماعي للإمبراطورية الرومانية ، وأن المسيحية تمثل الحقيقة المطلقة في توجهها نحو عبادة الإله الحق وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تلك الديانة الخطرة المبنية على الخرافات. هذه الكتابات الدفاعية كانت ذات أهمية للقراء المسيحيين الأوائل ،لأنها أمدتهم بالحجج التي يحتاجونها عند تعرضهم للاضطهاد. هذا النوع من الدفاع نشأ بالفعل في العصر الذي كُتِبَ فيه العهد الجديد ،على سبيل المثال ، في 1بطرس 3 : 15 نقرأ ” مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ ” وفي سفر الأعمال ،حيث يدافع بولس والرسل الآخرون عن أنفسهم ردًا على الاتهامات التي وجهت إليهم . قريبًا من النصف الثاني من القرن الثاني ،كانت الكتابات الدفاعية قد أصبحت شكلا معروفًا من الكتابة المسيحية

 

سِيَر الشهداء المسيحيين

قريبا من الفترة الزمنية ذاتها التي بدأ فيها تدوين الكتابات الدفاعية ،بدأ المسيحيون في تدوين روايات عن اضطهاداتهم و الاستشهادات التي وقعت نتيجة لهذه الاضطهادات. هناك بعض الوصف للأمرين كليهما في سفر الأعمال الموجود في العهد الجديد،حيث كانت المعارضة للحركة المسيحية،وإلقاء القبض على الزعماء المسيحيين، وإعدام أحدهم (ستيفانوس) على الأقل تشكل جزءا هاما من الحكي داخل السفر (انظر أعمال 7) . بعد ذلك ، في القرن الثاني الميلادي ، بدأت سير الشهداء في الظهور . أول ما ظهر منها كان استشهاد بوليكاربوس ، الذي كان قائدا مسيحيًّا مرموقًا وكان أسقفًا لكنيسة “سميرنا”، في آسيا الصغرى، تقريبا طوال النصف الأول من القرن الثاني كاملا. قصة موت بوليكاربوس موجودة في رسالة كتبها أفراد كنيسته ،حيث كتبوها لمجتمع مسيحي آخر . بعد ذلك مباشرة ، بدأت قصص الشهداء الآخرين في الظهور.هذه القصص أيضا كانت واسعة الانتشار بين المسيحيين ،لأنها منحت هؤلاء الذين كانوا محلا للاضطهاد من أجل الإيمان تشجيعا ،ومنحتهم البوصلة التي بها يعرفون طريقهم في مواجهة أقصى التهديدات مثل الوقوع في الأسر ،والتعذيب و الموت.

المقالات ضد الهراطقة

لم تقتصر المشكلات التي واجهت المسيحيين على التهديدات الخارجية المتمثلة في الاضطهاد. فقد كان المسيحيون ،منذ أقدم العصور ، يعون أن ثمة تنوُّعًا في تفسير “الحقيقة” الدينية كان موجودا بين صفوفهم. فها هو الرسول بولس يشتكي من “المعلمين الكذبة” ــ على سبيل المثال،في رسالته إلى الغلاطيين . فإذا قرأنا الروايات الموجودة ، يمكننا أن نرى بوضوح أن هؤلاء الخصوم لم يكونوا من الغرباء . فقد كانوا مسيحيين فهموا الدين بطرق مختلفة على نحوٍ مطلق . وللتعامل مع هذه المشكلة ،بدأ القادة المسيحيون في كتابة المقالات التي تتصدى “للهراطقة”(أي الذين اختاروا الطريق الخطأ لفهم الإيمان)؛ تمثل بعض رسائل بولس ، إلى حدٍ ما ، أقدم النماذج لهذا النوع من المقال . في النهاية أصبح المسيحيون من كل الاتجاهات معنيين بمحاولة تحديد “التعليم الحق” (وهو المعنى الحرفي لكلمة “الأرثوذكسية”) وبالتصدي لهؤلاء الذين يدافعون عن التعاليم الباطلة . هذه المقالات المضادة للهرطقات أصبحت مَيزة مهمة من ميزات المشهد الأدبي المسيحي المبكر. الأمر الطريف هو أنَّ مجموعات” المعلمين الكذبة” كتبوا هم أيضًا مقالات ضد “المعلمين الكذبة”،حتى إن المجموعة التي أقامت ذات مرة وللأبد ما أصبح المسيحيون يؤمنون به ( هؤلاء مسئولون ،على سبيل المثال، عن العقائد التي وصلت إلينا اليوم) أصبحت تتعرض أحيانا لانتقادات المسيحيين الذين اعتنقوا عقائدا اعتبرت في النهاية تعاليم باطلة. علمنا ذلك من خلال بعض الاكتشافات الحديثة نسبيًا للآداب “الهرطوقية”، التي يصر فيها من يُعْرَفُون بالهراطقة على أن رؤاهم هي الرؤى الصحيحة و أن تلك التعاليم التي يعتنقها قادة الكنيسة ” الأرثوذوكسية” هي تعاليم باطلة (8).

 

التفاسير المسيحية المبكرة

مساحة واسعة من الجدل حول العقيدة الصحيحة والعقيدة الباطلة تم الزج بها في تفسير النصوص المسيحية، ومن ضمنها “العهد القديم”،الذي ادعى المسيحيون أنه جزء من كتابهم المقدس . هذا يبين مرة أخرى كيف احتلت النصوص موقعا مركزيًّا بالنسبة للمجتمعات المسيحية المبكرة. في النهاية ،بدأ المؤلفون المسيحيون في كتابة تفاسير هذه النصوص ،ليس بالضرورة بغرض دحض التفاسير الباطلة على نحوٍ مباشرٍ ( على الرغم من أن ذلك كثيرا ما كان في الحسبان أيضًا)،لكن أحيانا ببساطة لتفسير معنى النصوص و لإظهار علاقاتها بالحياة و الممارسة المسيحيتين .من الطريف أن أول التفاسير المسيحيَّة التي نعرفها لأيِّ نص من نصوص الكتاب المقدس كان كاتبه هو واحد ممن يسمَّوْن هراطقة ، وهو الغنوصي المسمى هيراكليون الذي عاش في القرن الثاني ،والذي كتب تفسيرًا لإنجيل يوحنا (9) .
في النهاية أصبح وجود التفاسير ،والحواشي التفسيرية ،والتفاسير التطبيقية، ،والعظات الدينية حول النصوص أمرًا شائعًا داخل المجتمعات المسيحية في القرنين الثالث والرابع.
لقد كنت أقوم بتلخيص الأنواع المختلفة من الكتابات التي كانت ذات أهمية لحياة الكنائس المسيحية الأولى . كما أتمنى أن يكون واضحًا للعيان أنَّ الكتابة كانت هي الظاهرة الأكثر أهمية بالنسبة للكنائس والمسيحيين المنضويين تحتها . لقد احتلت الكتب مكان القلب من الديانة المسيحية ـ على عكس الديانات الأخرى داخل الإمبراطورية ـ منذ البداية .فالكتب قصَّت علينا الروايات التي حكاها المسيحيون مرارًا وتكرارًا عن يسوع وتلامذته؛ وزودت الكتبُ المسيحيين بالتعاليم التي ينبغي ان يؤمنوا بها وبالطريقة التي يعيشون حياتهم من خلالها ؛ كما وحَّدَت الكتب بين المجتمعات المنفصلة جغرافيًا لتنشأ كنيسة واحدة عالمية ؛و دعَّمت الكتبُ المسيحيين في أيام الاضطهاد وأعطتهم نماذج من التضحية بالذات ليتمثلوها في مواجهة التعذيب والموت ؛ لم تعطِهم الكتب فحسب نصيحة نافعة بل صحَّحت العقيدة ،وحذرت من تعاليم الآخرين الباطلة و عجَّلت من قبول المعتقدات الصحيحة (الأرثوذكسية)؛ و سمحت الكتب للمسيحيين أن يعرفوا المعنى الصحيح للكتابات الأخرى ، معطية إياهم إرشاداتٍ عما ينبغي أن يفكروا فيه ،وكيف يتعبدُّون ،وكيف ينبغي أن يكون سلوكهم . لقد كانت منزلة الكتب في القلب تمامًا من حياة المسيحيين الأوائل.

 

 

تشكل قائمة الكتب الرسمية المسيحية (القانون) #

في النهاية ،بعض هذه الكتب المسيحية بدأ المسيحيون ينظرون إليها ليس فقط باعتبارها كتبًا تستحق القراءة وإنما أيضًا باعتبارها كتبًا موثوقًا بها تمامًا كمصدر تستقى منه المعتقدات والممارسات الخاصة بالمسيحيين. لقد صارت هي الكتاب المقدس.

بدايات القانون المسيحي #

لقد كانت عملية تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس المسيحي (Christian canon of s cripture طويلة ومعقدة ، ولست بحاجة إلى أن أدخل في كل التفصيلات هنا (10) . بدأ ، كما أشرت بالفعل من قبل ، المسيحيون بقانون مبنيٍّ على أن منشئ ديانتهم هو نفسه معلمٌ يهوديٌّ اعترف بالتوراة ككتاب مقدسٍ موثوقٍ به موحى به من الله ، وعلَّم تلاميذه تفسيره الشخصيّ له . كان المسيحيون الأوائل أتباعًا ليسوع الذي قبِِلَ الكتب التي يتكون منها الكتاب المقدس اليهودي (الذي لم يكن قد نُصِّبَ حتى هذه اللحظة و إلى الأبد ك”قانون”) باعتباره كتابهم المقدس الخاص. في اصطلاح مؤلفي العهد الجديد ،بما فيهم بولس ، أقدم مؤلفينا ، يشير مصطلح “الكتابات المقدسة (s-riptures ) ” إلى الكتاب المقدس اليهودي ،وهو مجموعة الكتب التي كان الرب قد أعطاها لشعبه والتي تنبأت بالمسيح الآتي ،يسوع . مع ذلك ، لم يدم الأمر طويلا حتى بدأ المسيحيون في قبول الكتابات الأخرى باعتبارها مساوية للكتب المقدسة اليهودية. هذا القبول ربما كان له جذوره في التعاليم الأصلية ليسوع نفسه ،حيث أخذ تلاميذه تفسيره للكتاب المقدس باعتباره على قدم المساواة في الموثوقية مع كلمات الكتاب المقدس نفسه . من المحتمل أن يكون يسوع قد شجع هذا الفهم عبر الطريقة التي عبر بها عن بعض تعاليمه . ففي أثناء موعظة الجبل ،على سبيل المثال ،تم تصوير المسيح وكأنه يذكر القوانين التي أعطاها الرب لموسى ، ثم يعطي تفسيره الخاص الأكثر تشددا لها ،مشيرا إلى أن تفسيره هو الجدير بالاعتماد والقبول. هذا يوجد فيما يعرف في إنجيل متى ، في الفصل 5 ب”المقابلات” . يقول يسوع ،” «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ(وهي واحدة من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ « ما يقوله يسوع ، في سياق تفسيره للشريعة ،يبدو مماثلا في الموثوقية للشريعة نفسها . أو يقول يسوع ،” قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ.(وهي وصية أخرى من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ.” في بعض المناسبات تبدو هذه التفسيرات الموثوقة للكتاب المقدس ،في الواقع ،ناسخةً لشرائع الكتاب المقدس(أي اليهودي) ذاتها. على سبيل المثال ،يقول يسوع ،” وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ،(وهو أمرٌ موجودٌ في التثنية 24 :1) أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي.”
من العسير أن نفهم كيف يستطيع شخصٌ أن يتبَِّع أمر موسى بإعطاء كتاب طلاق ، لو لم يكن الطلاق في حقيقة الأمر خيارًا متاحًا . على أية حال ،أصبحت تعاليم يسوع ينظر إليها باعتبارها تعاليم في الرتبة ذاتها التي تحتلها شرائع موسى ـ التي هي شرائع التوراة ذاتها. هذا الأمر أصبح أكثر وضوحًا فيما بعد في زمن العهد الجديد ، ففي الرسالة الأولى إلى تيموثي ، التي من المفترض أن بولس هو كاتبها وإن كان العلماء كثيرا ما يعدُّونها مكتوبة بمعرفة أتباعٍ متأخرين نسبوها إليه . في 1 تيموثاوس 5 : 18 يستحث المؤلف قراءه إلى أن يدفعوا مالا إلى من يعظون بينهم ، ويدعم هذا الحث باقتباسٍ من “الكتاب المقدس”. الأمر الطريف أنه حينئذ اقتبس فقرتين ، اقتبس واحدة من التوراه (“لاَ تَكُمَّ ثَوْراً دَارِسًا ،” تثنية 25 : 4) والأخرى جاءت من كلمات يسوع (“وَالْفَاعِلُ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ”)؛ انظر لوقا 10 : 7). يبدو أنَّ أقوال يسوع ، حسب وجهة نظر هذا المؤلف ، كانت على قدم المساواة بالفعل مع الكتاب المقدس . و لم تكن تعاليم يسوع فحسب هي التي كان الجيلان المسيحيان الثاني والثالث يعتبرانها جزءا من الكتاب المقدس . بل اعتبرت كتابات رسله أيضا كذلك. الدليل على ذلك يأتي من آخر أسفار العهد الجديد كتابةً، أي رسالة بطرس الثانية ، وهو السفر الذي يعتقد معظم علماء النقد أنه لم يكتب في الحقيقة بقلم بطرس وإنما بقلم واحدٍ من أتباعه ، الذي كتبه تحت اسم مستعار . ففي 2 بطرس3 يشير المؤلف إلى أن المعلمين الكذبة يحرِّفون معنى رسائل بولس ليجعلوها تقول ما يريدونها أن تقوله،” يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضا” (2 بط 3 : 16 ). يبدو أن رسائل بولس ً قد فهمت ها هنا على أنها كتاب مقدس. بعد عصر العهد الجديد بقليل ، كانت بعض الكتابات المسيحية يتمُّ اقتباسها كنصوص رسمية نافعة لحياة ومعتقدات الكنيسة. الرسالة التي كتبها في بداية القرن الثاني بوليكاربوس، أسقف سميرنا المذكور سابقا ، تعتبر مثالا بارزًا . لقد طلبت كنيسة فيليبي النصيحة من بوليكاربوس فيما يتعلق تحديدًا بقضية تمَسُّ واحدًا من القادة الذي كان من الواضح أنه تورط في بعض أشكال سوء الإدارة المالية داخل الكنيسة ( ربما اختلاس أموال تخص الكنيسة ). رسالة بوليكاربوس إلى أهل فيليبي ،التي بقيت إلى الآن ، هي رسالة مثيرة لعددٍ من الأسباب ، ليس أقلها نزوعها إلى الاقتباس من كتابات أقدم تخص المسيحيين. ففي أربعة عشر فصلا فقط ، يقتبس بوليكاربوس أكثر من مائة فقرة معروفة من تلك الكتابات الأقدم، مصرحًا بسلطانها على الوضع الذي كان أهل فيليبي يواجهونه ( على العكس من اثني عشر اقتباسا فقط من الكتابات المقدسة اليهودية )؛ وفي أحد المواضع يبدو وكأنه يطلق على رسالة بولس إلى أهل أفسوس كتابا مقدسا . كان من المعتاد كثيرا أن يقتبس ببساطة من كتابات أقدم أو يشير إليها ، مصوِّرًا للمجتمع كونها كتاباتٍ موثوقًا بها (11).

دور الطقوس الدينية المسيحية في تشكيل القائمة الرسمية للكتاب المقدس

في وقت ما قبل تدوين رسالة بوليكاربوس ،نعلم أن المسيحيين كانوا يستمعون إلى الكتب المقدسة اليهودية تُقرأ أثناء تأديتهم الطقوس التعبديِّة. كاتب رسالة تيموثي 1 ،على سبيل المثال ،يحفِّز مستلم الرسالة أن: “َ أعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ (أي العامَّة) وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ.”(4 : 13). وكما رأينا في حالة الرسالة إلى أهل كولوسي ،يبدو أن رسائل المسيحيين كانت تُقرأ على المجموعة المجتمعة أيضًا. ونعلم أيضًا أنه قريبًا من منتصف القرن الثاني ، كان جزءٌ كبيرٌ من طقوس العبادة المسيحية يتضمن القراءة العامة للكتاب المقدس . في فقرة كثيرا ما تناولتها ألسنة المتناقشين من كتابات المفكر المسيحي و عالم الدفاعيات جوستينوس الشهيد ،على سبيل المثال ، لدينا إشارة إلى ما تضمنته الخدمة الكنسية في مدينته الأم روما:

في اليوم المسمى يوم الأحد ،كلُّ من يعيشون في المدن أو في البلد يجتمعون سويًا في مكان واحدٍ ، و تُقرأ مذكرات الرسل أو كتابات الأنبياء ، بحسب ما يسمح الوقت ؛ثمَّ، لما يتوقف القارئ ،يلقي القسيس التعاليم ،ويعظ بضرورة احتذاء هذه الأعمال الطيبة . . . (1 أبولوج 67)

يبدو على الأرجح أن الاستخدام الليتورجي (الطقسي) لبعض النصوص المسيحية ـ على سبيل المثال ، أعلت ” مذكرات الرسل” ، التي عادةً ما ينظر إليها على أنها هي نفسها الأناجيل ، من مكانة هذه النصوص لدى معظم المسيحيين حتى إنها كانت تُعَدُّ جديرة بالاعتماد والقبول (authoritative) ،على قدم المساواة مع الكتابات المقدسة اليهودية (“كتابات الأنبياء”) ذاتها .

دور مارقيون في تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس #

يمكننا تتبع أثر تشكُّل القائمة الرسمية للكتاب المقدس المسيحي حتى الآن عن كثب من خلال ما بين أيدينا من دليل . ففي الوقت ذاته الذي كان يكتب فيه جوستينوس ، أي في منتصف القرن الثاني ، كان ثمة كاتبٌ مسيحيّ بارزٌ آخر يمارس نشاطه داخل روما ، وهو الفيلسوف المعلم مرقيون ، الذي حكم عليه فيما بعد بالهرطقة (12) . مرقيون كان شخصية مثيرة للاهتمام للعديد من الأسباب . فهو كان قد جاء إلى روما من آسيا الصغرى ، وكان بالفعل قد كوَّن ثروة مما كان واضحًا أنه أعمال متعلقة ببناء السفن . عند وصوله إلى روما ، تبرع للكنيسة في روما بمبلغ طائل ،ربما لكي يحصل ، إلى حدٍ ما ، على عونها الكريم . وقد ظلَّ في روما لخمس سنوات ، منفقا كثيرا من وقته في نشر مفهومه عن الإيمان المسيحي وفي كتابة تفاصيل هذا الإيمان في العديد من الكتابات. لم يكن عمله الأكثر تأثيرا هو شئ قام بكتابته ،بل شئ قام بتعديله. لقد كان مرقيون هو أول مسيحيٍّ، فيما نعلم، قام بتشكيل “قانون” فعليٍّ للكتاب المقدس ـ أي مجموعة من الكتب التي ،كما زعم ، تضم النصوص المقدسة النافعة للإيمان . لكي نفهم هذه المحاولة الأولى لتشكيل قائمة رسمية للكتاب المقدس ، نحتاج إلى أن نعرف قليلا من المعلومات حول تعاليم مرقيون الفريدة . لقد كان مرقيون مأخوذًا تمامًا بحياة وتعاليم الرسول بولس ،الذي كان يعتبره الرسول الوحيد “الحقيقيَّ” من الأيام الأولى للكنيسة. في بعض رسائله ، مثل الرسائل إلى أهل رومية و أهل غلاطية ، كانت تعاليم بولس تنص على أن المنزلة الطيبة أمام الله تأتي فقط من الإيمان بالمسيح ، وليس بأداء أيٍٍّ من الأعمال التي فرضتها الشريعة اليهودية. التقط مرقيون هذا الاختلاف بين شريعة اليهود و بين الإيمان بالمسيح ليصل به إلى ما رأى أنه نتيجة ذلك المنطقية ،وهي أنَّ هناك تمايزًا تامًّا بين الشريعة من ناحية وبين الإنجيل من الناحية الأخرى. لقد كانت الشريعة مختلفة تمام الاختلاف عن الإنجيل ،في الحقيقة ، إلى درجة جعلت من المستحيل أن يكونا كلاهما قد جاءا من الإله ذاته . استنتج مرقيون أن رب يسوع (وبولس) لم يكن ،لهذا السبب ،الإله ذاته الذي أوحى العهد القديم. لقد كان ثمة ،في الواقع، إلهان اثنان مختلفان: إله اليهود ، الذي خلق العالم ، ودعا إسرائيل ليكونوا شعبه المختار ، وأنزل إليهم قانونه القاسي ؛ وإله يسوع ،الذي أرسل المسيح إلى العالم لينقذ بني البشر من الانتقام القاسي لرب اليهود الخالق.
آمن مرقيون بأن هذا المفهوم عن يسوع هو ما بشَّر به بولس نفسُه ،وهكذا ، ضمَّت قائمتُه الرسمية للكتاب المقدس الرسائلَ العشرَ التي كتبها بولس وهي التي كانت متاحة له ( هذه الرسائل كلها موجودة في العهد الجديد ما عدا الرسائل الرعوية، وهي الرسالتان الأولى والثانية إلى تيموثي وتيطس)؛ ولأنَّ بولس كان أحيانًا يشير إلى “إنجيله”، فقد ضمَّ مرقيون إنجيلا (Gospel) إلى قائمته ، وهو شكل من إنجيل لوقا المعروف لنا الآن . وهذا كل ما في الأمر . لقد تكونت قائمة مرقيون من أحد عشر كتابا : لم يكن ثمة عهدٌ قديمٌ ،بل كتابٌ مقدسٌ واحدٌ فحسب ، مضافا إليه عشر رسائل . ليس ذلك فحسب : بل كان مرقيون يعتقد أن المؤمنين الكاذبين ، أي الذين لم يكونوا يشاطرونه مفهومه الخاص عن الإيمان ، قد نقلوا هذه الأحد عشر كتابا عبر نسخها و إضافة أجزاء من هنا ومن هنالك لكي تتماشى مع معتقداتهم الخاصة التي من بينها مفهومهم “الباطل” عن كون إله العهد القديم هو أيضا إله يسوع . وهكذا “صحَّح” مرقيون الكتب الأحد عشر التي تضمنتها قائمته عبر حذف الإشارات إلى إله العهد القديم ،أو إلى الخلق باعتباره عمل الإله الحق ، أو إلى الشريعة باعتبارها شئ ينبغي الالتزام به .
كما سنرى ، محاولة مرقيون لجعل نصوصه المقدسة تتوائم بشكل أكثر إحكاما مع تعاليمه عبر تحريفها لم تكن بالأمر الجديد . فقبله وبعده على حدٍ سواء ، حرَّف نساخ الأدب المسيحي المبكر من وقت لآخر نصوصهم ليجعلوها تقول ما يعتقدون أنها بالفعل تعنيه.

القائمة “الأرثوذكسية ” بعد عصر مرقيون

يعتقد كثير من العلماء أن المسيحيين الآخرين أصبحوا أكثر اهتماما بوضع تصور لما يفترض أن يصبح قائمةً لأسفار العهد الجديد كشكل من أشكال المقاومة لمرقيون تحديدا. من الطريف أنه في العصر الذي عاش فيه مرقيون ،كان جوستينوس يمكنه الكلام بطريقة أكثر غموضا عن ” مذكرات الرسل “بدون الإشارة إلى أيٍّ هذه الكتب ( أو ربما الأناجيل ) كان مقبولا في الكنائس ولماذا ، في حين اتخذ كاتبٌ مسيحيٌّ آخرُ، عارض مرقيون أيضًا ، بعد ذلك بحوالي ثلاثين عاما موقفا أكثر مَيْلا للجزم والتأكيد . إنه إيريناوس، أسقف ليون في بلاد الغال (فرنسا في العصر الحديث )،الذي كتب عملا من خمس مجلدات ضد الهراطقة من أمثال مرقيون والغنوصيين ، و كانت لديه أفكارٌ شديدةُ الوضوح فيما يتعلق بأيِّ الكتب ينبغي أن يعتبر من بين الأناجيل القانونية . في فقرة يكثر اقتباسها من مؤلَّفه ضد الهراقطة ، يقول إيريناوس إن مرقيون لم يكن وحده فحسب الذي افترض بالباطل أن هذا الإنجيل أو ذاك فقط من بين الأناجيل هو المستحق لأن يقبل باعتباره كتابا مقدسا ، بل كان معه أيضا “هراطقة” آخرون ، :فالمسيحيون المتهوِّدون الذين تمسكوا بالصلاحية المتواصلة للشريعة استخدموا متى وحده ؛ بعض المجموعات الذين زعموا أن يسوع ليس هو المسيح في الحقيقة قبلوا إنجيل مرقس فحسب ؛ مرقيون وأتباعه قبلوا فقط (شكلا من ) لوقا ؛ ومجموعة من الغنوصيين سموا بال”فلانتينيين “قبلوا إنجيل يوحنا فحسب . هؤلاء جميعًا كانوا مخطئين ، مع ذلك، لأنه ليس من الممكن أن تكون الأناجيل أكثر أو أقل عددًا مما هي عليه حيث إن المناطق التي نعيش فيها في العالم هي أربع مناطق ، والرياح الرئيسية أربعة ، وفي حين تنتشر الكنيسة في أنحاء العالم ، وعامود الكنيسة و أرضها هو الإنجيل… . فمن المناسب أن يكون لها عمدان أربع ، (ضد الهراطقة 3 . 11 .7)
بكلمات أخرى ، زوايا الأرض أربع ، الرياح أربعة ، العمدان أربعة ـ فمن الضروري ،حينذ ، أن تكون الأناجيل أربعة . وهكذا ، قرب نهاية القرن الثاني كان هناك مسيحيون يصرُّون على أنَّ متَّى ، مرقس ، لوقا ، ويوحنا كانت هي الأناجيل ؛ ولم يكن ثمة أكثر من ذلك أو أقل. ولقد استمرت النقاشات حول حدود القائمة الرسمية لقرون عديدة . ويبدو أن المسيحيين هنا وهناك كانوا مهتمين بمعرفة أيِّ الكتب ينبغي أن تُقْبَل باعتبارها كتبًا مقدسة وذلك ليعلموا :
أولا: أي الكتب ينبغي قراءتها في خدمة الصلاة
وثانيًا: وهو الأمر وثيق الصلة بالسبب الأول ، ليعرفوا أي الكتب يمكن الوثوق بها كناصح أمين يرشدهم إلى ما يجب أن يؤمنوا به والسلوكيات التي ينبغي أن يسيروا على هديها .
لم تكن القرارات التي اتخذت بشأن الكتب وأيها ينبغي أن ينظر إليه في النهاية باعتباره قانونيًّا قرارات تم اتخاذها على نحوٍ آليٍّ أو بشكل خال من المشاكل ؛ لقد كانت مناقشات طويلة وممتدة ، وأحيانا عنيفة . ربما يعتقد كثير من المسيحيين اليوم أن قائمة كتب العهد الجديد الرسمية ظهرت إلى الوجود ببساطة في يوم ما بعد موت يسوع بوقت قليل ، إلا أن هذا الاعتقاد لا يضارعه في البعد عن الحقيقة أيُّ شئٍ آخر. كما سيتضح ، نحن قادرون على تحديد الوقت الذي قام فيه واحدٌ من المسيحيين من الموثوق بهم بوضع قائمة تضم كتب عهدنا الجديد السبعة والعشرين – أو أكثر أو أقل . ربما سيبدو مدهشا أن هذا المسيحي كان يمارس الكتابة في النصف الثاني من القرن الرابع ، أي بعد ثلاثمائة عام تقريبا من العصر الذي بدأت تُكتَب فيه كتب العهد الجديد ذاتها. هذا المؤلف هو أثناسيوس، أسقف الإسكندرية الأقوى. في عام 367 م ، كتب أثناسيوس رسالته الرعوية السنوية إلى الكنائس المصرية تحت ولايته ، ضمَّنها نصيحة بخصوص الكتب التي ينبغي أن تقرأ في الكنائس باعتبارها الكتاب المقدس. حيث ذكر في قائمته كتبنا السبعة والعشرين ، واستثنى ما عداها من كتب . هذه هي المناسبة الأولى المسجلة لشخص يؤكد أن مجموعة الأسفار التي نعرفها هي العهد الجديد . بل حتى أثناسيوس لم يحسم هذه المسألة . فقد استمرت المناظرات لعشرات السنين ، بل وحتى القرون . إنَّ الكتب التي نطلق عليها لفظ العهد الجديد لم تُجمَع معًا في قائمة رسمية واحدة و لم تعتبر كتابا مقدسا ،في النهاية ،إلا بعد مرور المئات من السنين على العصر الذي كتبت فيه هذه الكتب للمرة الأولى.

قُرَّاءُ الكتابات المسيحية

في الباب السابق تركّز نقاشنا حول تقنين (canonization )الكتاب المقدس. وكما رأينا سابقا كان المسيحيون ، رغم ذلك ،يكتبون و يقرأون أنواع كثيرة من الكتب في القرون الأولى ، وليس فقط الكتب التي نجحت في أن تصبح جزءا من العهد الجديد. لقد كان ثمة أناجيل أخرى ،وأعمال ، ورسائل ، و رؤى ؛ و كان هناك تدوينات للاضطهادات ، وحكايات عن الاستشهاد ، وكتب تدافع عن الإيمان ، ونظم كنسية ، وأعمال تهاجم الهراطقة ، ورسائل وعظية و تعليمية ،وشروحات للكتاب المقدس – منظومة كاملة من الأعمال الأدبية التي ساعدت في رسم حدود المسيحية وجعلها تلك الديانة التي كانتها . سيكون من المفيد في هذه المرحلة من نقاشنا أن نسأل سؤالا أساسيًّا حول كل هذه الأعمال الأدبية. من الذي كان يقوم بقراءتها ؟
في عالم اليوم ، ربما سيبدو ذلك سؤالا غريبًا نوعًا ما . فلو كان المؤلفون يكتبون كتبًا من أجل المسيحيين ، فالذين يقرأون الكتب سيكونون ولابد من المسيحيين. فإذا كان السؤال يتناول العالم القديم فإنه سيمثل مرارة خاصة لأن غالبية الناس ، في العالم القديم ، لم يكونوا يعرفون القراءة . إنَّ معرفة القراءة والكتابة هي أسلوبُ حياة بالنسبة لنا في الغرب المعاصر . نحن نقرأ طوالَ الوقت ، وكلَّ يوم . نقرأ الجرائد و المجلات و الكتب من كل الأنواع – ترجمات الشخصيات ، الروايات ،كتب “كيف تفعل كذا” (how-to books) ، كتب “اعتمد على نفسك” (self-help books)، كتب الحمية (diet)، كتب دينية ، كتب فلسفية ، علوم التاريخ ،مذكرات ، وهكذا بلا توقف .
لكنَّ السهولة التي نشعر بها اليوم مع اللغة المكتوبة ليس لها أي علاقة بممارسات القراءة وحقائقها في العصور القديمة. لقد أظهرت الدراسات المتعلقة بمعرفة القراءة والكتابة أن ما نعتقده حول معرفة الجماهير للقراءة والكتابة هي ظاهرة حديثة ، ظهرت فقط مع بزوغ فجر الثورة الصناعية (13) .فهي تحدث فقط عندما ترى الأمم أن ثمة فائدة اقتصادية في جعلها كلَّ شخص قادرا على القراءة ، إلى الدرجة التي تجعلهم ينتوون أن يكرسوا كل الموارد الضخمة – خاصة الوقت ، المال ، و الموارد البشرية- التي يحتاجونها للتأكد من أن كل إنسان قد حصل على قدر أساسي من التعليم يؤهله للقراءة والكتابة. في المجتمعات غير الصناعية ، كانت الموارد مطلوبة لأشياء أخرى بدرجة كبيرة ، ومعرفة القراءة والكتابة لم تكن تساعد اقتصاد المجتمع ولا رفاهيته ككل. وفي المحصلة ، حتى العصر الحالي ، كل المجتمعات تقريبًا كانت تضم أقلية صغيرة فحسب من القادرين على القراءة والكتابة .
وهذا ينطبق حتى على المجتمعات القديمة التي نربطها تلقائيًا بالقراءة والكتابة – روما ، على سبيل المثال ،خلال القرون المسيحية المبكرة ، أو حتى اليونان في أثناء الفترة الكلاسيكية . أفضل دراسة معروفة عن معرفة القراءة والكتابة في الأزمنة القديمة و أكثرها تأثيرا ،هي تلك التي كتبها ويليام هاريس البروفيسور بجامعة كولومبيا ،حيث تشير إلى أنه في أفضل الأوقات و الأماكن ـ أثينا ،على سبيل المثال ، في أوج الفترة الكلاسيكية في القرن الخامس قبل الميلاد- كانت معدلات القراءة والكتابة نادرًا ما تتعدى نسبة 10 – 15 في المائة من السكان . لكي نعكس حقيقة هذه الأرقام ، هذا يعني أنه في أفضل الظروف ،85 – 90 في المائة من السكان لم يكن بإمكانهم القراءة ولا الكتابة . في القرن المسيحي الأول ، في مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية ، معدلات معرفة القراءة والكتابة ربما كانت أقل نوعًا ما (14) . حتى وضع تعريف ، كما سيتضح ، لما تعنيه القدرة على القراءة والكتابة هو عمل شديد التعقيد . فكثير من الناس يمكنهم القراءة لكنهم ، على سبيل المثال ، يعجزون عن تكوين جملة كاملة. ثمَّ ما هو معنى كونك تعرف القراءة ؟ هل الناس يمكن تصنيفهم بين من يعرفون القراءة والكتابة لو كان باستطاعتهم معرفة معنى المسلسلات الكرتونية في الوقت الذي لا يعرفون فيه معنى الصفحة الافتتاحية ؟ هل يمكننا أن نقول عن الناس إنهم يعرفون الكتابة لو كان باستطاعتهم توقيع أسمائهم في الوقت الذي لا يستطيعون فيه نسخ صفحة بها أحد النصوص ؟
مشكلة التعريف تبدو أكثر وضوحا عندما نطبقها على العالم القديم ، حيث كان لدى القدماء أنفسهم صعوبة في تحديد ما يعنيه أن تكون عارفا للقراءة والكتابة . أحد الأمثلة التوضيحية الأكثر شهرة تأتي من مصر في القرن المسيحي الثاني . طوال معظم العصور القديمة ، حيث لم يكن معظم الناس يعرف الكتابة ، كان ثمة ” قرّاء” و “كتّاب” أجروا أنفسهم لتقديم خدمات لمن يحتاجهم من الناس ممن يمارسون الأعمال (business) التي تتطلب نصوصًا مكتوبة : إيرادات الضرائب ،عقود قانونية ،تراخيص ،رسائل شخصية ، وما شابه . في مصر ، كان ثمة موظفون رسميون تم تعيينهم للقيام بمهمة مراقبة بعض المهام الحكومية التي تتطلب معرفة الكتابة . هذه الوظائف للعمل كنساخ محليين ( أو في القرى) لم تكن عادة يسعى إليها: فمثل كثير من الوظائف الإدارية ” الرسمية ” ، كان الناس الذين يطلب إليهم أن يتولوها مطلوب منهم أن يدفعوا من جيوبهم أموالا للحصول على هذه الوظيفة . هذه الوظائف ، بمعنى آخر ، كانت تذهب إلى الأفراد الأكثر ثراءا داخل المجتمع وكانت تحمل بالنسبة لهم نوعا من المنزلة ،لكنها كانت تتطلب إنفاقا من أموالهم الشخصية .
المثال الذي يصور مشكلة تعريف معنى معرفة القراءة والكتابة يتعلق بأحد النساخ المصريين وكان يدعى بتاوس ، من قرية كارانيس في صعيد مصر . كما يحدث كثيرا ، عُيّن بيتاوس للقيام بواجباته في قرية أخرى اسمها بتوليمايس هورمو، حيث أوكلت إليه مهمة الإشراف على الشئون المالية والزراعية . في عام 184 ميلاديا ، كان من المفترض أن يقوم بالرد على شكاوى موجهة ضد ناسخ قرية أخرى من “بتوليمايس هورمو” ، وهو شخص يدعى “إيشيريون”، الذي كان قد عُيِّن في مكان آخر للقيام بمسئولياته كناسخ . سكان القرية تحت ولاية “إيشيريون” كانوا منزعجين بسبب عجز “إيشيريون” عن القيام بواجباته ، لأنه ،كما اتهموه ، كان “أمّيّا”.
في تعامله مع هذا النزاع جادل “بتاوس” قائلا إن “إيشيريون” لم يكن أمِّيًّا على الإطلاق ، لأنه كان قد وقع بالفعل باسمه على مجموعة من الوثائق الرسمية . أي بمعنى آخر ، “معرفة القراءة والكتابة” كانت تعني من وجهة نظر “بيتاوس ” ببساطة القدرة على التوقيع على الوثائق باستخدام الاسم .
“بيتاوس ” نفسه كان يجد مشقة في التوقيع على الوثائق أكثر من ذلك بكثير . فلدينا قصاصة من البردي مارس “بيتاوس” عليها قدرته على الكتابة ،حيث كتب عليها ،لأكثر من اثني عشر مرة ، كلمات (باليونانية) تقول إنه كان متوجبا عليه توقيع وثائقا رسمية :” أنا “بيتاوس” ، ناسخ القرية ،قمت بتحرير هذه .” الأمر الغريب أنه قام بنسخ الكلمات في المرات الأربع الأولى بطريقة صحيحة ،لكنه في المرة الخامسة أغفل الحرف الأول من الكلمة الأخيرة ، وفي المرات السبع الباقية استمر في إغفال الحرف ،الأمر الذي يشير إلى أنه لم يكن يكتب كلمات يعرف كيف يكتبها، بل ينسخ السطر السابق ذكره ليس إلا.
من الواضح أنه لم يكن باستطاعته قراءة الكلمات البسيطة التي كان يدونها في الصفحة حتى. وذلك على الرغم من أنه كان الناسخ المحلي الرسمي (15) !
لو وضعنا “بيتاوس ” بين “القادرين على القراءة والكتابة” في العصور القديمة ، فكم من الناس كان بإمكانهم قراءة النصوص فعليا وفهم معناها ؟ من المستحيل أن نحاول التفكير في رقمٍ دقيقٍ ، لكنَّ النسبة المئوية يبدو أنها لن تكون عالية جدا . هناك أسباب تدعونا للاعتقاد بأنه في داخل المجتمعات المسيحية ، كانت الأرقام أقل حتى من هذا بوجه عام . هذا سببه أن المسيحيين فيما يبدو ، خاصة في وقت مبكر من عمر الحركة ، كانوا في الغالب منحدرين من الطبقات الدنيا غير المتعلمة . كانت هناك استثناءات دائما ،بالطبع ، مثل الرسول بولس و المؤلفين الآخرين الذين دخلت أعمالهم ضمن العهد الجديد والذين كانوا كتَّابًا ماهرين بشكل واضح . بالتأكيد هذا هو الوضع الحقيقي للمسيحيين الأوائل ، الذين كانوا رسلا ليسوع . في روايات إنجيلية ، نجد أن معظم تلاميذ يسوع كانوا أميين بسطاء من الجليل – صيادين غير متعلمين ، على سبيل المثال . اثنان منهما ، بطرس ويوحنا ، قيل عنهما بوضوح أنهما كانا “أمِّيين” في سفر الأعمال ( 4 : 13). بولس الرسول يشير لشعب كنيسته الكورنثيين : ” قليل منكم من هم حكماء بالمقاييس البشرية ” (1 كو 1 : 27 ) ـ التي ربما تعني أن البعض القليل كان حاصلين على تعليم جيد ، لكن ليس الغالبية . فإذا تقدمنا إلى القرن المسيحي الثاني ، يبدو أن الأمور لم تتغير كثيرا . فكما أشرت ، بعض المثقفين قبلوا الإيمان ، لكنّ المسيحيين معظمهم كانوا من الطبقات الدنيا وغير المتعلمة . أحد الأدلة على صحة هذه الرؤيا تأتي من مصادر عديدة . واحدة من أكثرها طرافة هو أحد الوثنيين من خصوم المسيحية المسمى “سيلزس” والذي عاش في أواخر القرن الثاني . كتب “سيلزس” كتابا اسمه ” الكلمة الحقة “( The True Word) ، هاجم فيه المسيحية لعدد من الأسباب ، متذرعا بأنها ديانة حمقاء خطرة يجب محوها من على وجه الأرض . للأسف ، لا نملك “الكلمة الحقة ” ذاتها ؛ وكل ما لدينا هو اقتباسات منها وردت في كتابات أوريجانوس أحد الآباء المشهورين في الكنيسة ، الذي عاش لمدة سبعين عاما بعد “سيلزس” وطلب إليه أن يكتب ردا على اتهاماته .
كتاب أوريجانوس “ضد سيلزس” نجا من الضياع وهو المصدر الرئيسي لمعلوماتنا عما قاله الناقد المثقف “سيلزس” في كتابه ضد المسيحيين (16). أحد أهم خصائص كتاب أوريجانوس هو أنه يقتبس من أقدم كتاب من كتب “سيلزس” بشكل مطول ،سطرًا بسطر ، قبل أن يقدم تفنيده لما جاء في الاقتباس. هذا يسمح لنا بإعادة بناء دعاوى “سيلزس” بدقة متناهية . أحد هذه الدعاوى هو أن المسيحيين هم أناس جاهلون من الطبقات الدنيا . والغريب أن أوريجانوس ، في ثنايا رده ، لم ينكر ذلك . تأمل الاتهامات التالية التي وجهها “سيلزس”.
الوصايا المسيحية هي مثل ذلك . “لا تتركوا شخصا متعلما ، أو حكيما ، أو عقلانيا يقترب . لأن هذه القدرات حسب اعتقادنا هي قدرات شريرة . أما الشخص الجاهل ، الشخص الغبي ، الشخص غير المتعلم ، الشخص الذي هو مثل طفل ، فلتتركوه يأتي بجسارة .”( ضد سيلزس 3 . 44 )
فوق ذلك ، نحن نرى أن هؤلاء الذين يظهرون معارفهم السرية في المعارض و يتجولون للتسول لن يدخلوا أبدا إلى جماعة الأذكياء من الناس ، ولن يجرؤا على كشف معتقداتهم النبيلة في حضورهم ؛ ولكن عندما يرون غلمانا مراهقين أو حشدًا من العبيد أو رفقة من الحمقى ، فإنهم يندفعون ويبدأون في التفاخر .( ضد سيلزس 3 . 50 )
في البيوتات الخاصة أيضا نرى عمال الصوف ، والإسكافيين ،وعمال غسل الملابس وأكثر الفلاحين جهلا و بداوة ، ممن لن تواتيهم الجراءة أن يتفوهوا ببنت شفة في مواجهة ساداتهم الأكبر سنا و الأكثر ذكاءا .لكنهم حالما يجدون صغار السن في السر أو بعض النساء الحمقى معهم ، فإنهم يخرجون من أفواههم بعض الأقوال المثيرة للدهشة مثل أنهم(أي الأطفال) ، على سبيل المثال، يجب ألا يولوا لحديث آبائهم وأساتذتهم في المدارس أي انتباه. . . ؛ويقولون إن هذه الأحاديث لا معنى لها وغير مفهومة … لكن ، لو كانوا يريدون ، فينبغي أن يتركوا آباءهم وأساتذتهم في المدارس ، وأن يذهبوا مع النساء والأطفال صغيري السن من زملاء لعبهم إلى محل الملابس الصوفية ، أو إلى محل الإسكافي أو إلى محل غاسلة الملابس ، حيث يمكنهم تعُّلم الكمال. و يقنعونهم من خلال قول ذلك. ( ضد سيلزس 3 . 56 )
يرد أوريجانوس بأن المسيحيين المؤمنون حقا هم في الحقيقة حكماء ( وبعضهم ، في الواقع ، من ذوي التعليم الجيد)، لكنهم حكماءا فيما يتعلق بالله ، وليس فيما يتعلق بالأشياء في هذا العالم . أي أنه ،بمعنى آخر ،لم ينكر أن المجتمع المسيحي يتشكل في الغالب من الطبقات الدنيا ،غير المتعلمة.

القراءة العامة في العصور المسيحية القديمة

يبدو أننا ، إذن ، في وضع ينطوي على تناقض ظاهريٍّ اتسمت به المسيحية الأولى. فالمسيحية كانت ديانة كتابية ، لديها كتابات من كل الأنواع ثبت أنها ذات أهمية بالغة لكل شأن تقريبًا من شئون الإيمان. إلا أن الناس لا يمكنهم قراءة هذه الكتابات. كيف يمكننا تفسير هذا التناقض ؟

في الواقع ، القضية ليست بكل هذه الغرابة لو تذكرنا ما أشرنا إليه من قبل ، ألا وهو أن المجتمعات من كل الأنواع في كل زمن من العصور القديمة كانوا عموما يحصلون على خدمات المتعلمين لمصلحة غير المتعلمين . لأن “قراءة” كتاب في العالم القديم لم تكن تعني ، عادة ً ، قراءة الإنسان كتابا لنفسه ؛ بل كانت تعني قراءته بصوت عالٍ أمام الآخرين . فمن الممكن أن يقال عن الشخص إنه قرأ كتابا عندما يكون في حقيقة الأمر قد سمعه يُقْرَأُ على لسان الآخرين . يبدو أنه لا مفر من التسليم بالاستنتاج الذي يقول إن الكتب- بقدر ما كانت مهمة للحركة المسيحية المبكرة – إلا أنها دائما ما كانت تقريبا تُقرأ بصوتٍ عالٍ في المشاهد الاجتماعية ، مثل مشهد الصلاة .

ينبغي أن نتذكر هنا أن بولس علَّم مستمعيه السالونيكيين أن ” تُقْرَأَ هَذِهِ الرِّسَالَةُ عَلَى جَمِيعِ الإِخْوَةِ الْقِدِّيسِينَ. ” ( 1 تس 5 : 27 ). وهذا من المحتمل أنه كان يحدث بصوت عال ، في الاجتماع . وكاتب الرسالة إلى أهل كولوسي كتب : وَمَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجْعَلُوهَا تُقْرَأُ ايْضاً فِي كَنِيسَةِ اللاَّوُدِكِيِّينَ، وَالَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ تَقْرَأُونَهَا انْتُمْ ايْضاً.” ( كولو 4 : 16 )

وتذكروا أيضًا تقرير جوستينوس الشهيد الذي يقول إنه ” في اليوم المسمى الأحد ، كل من يعيشون في المدن أو في البلدة يجتمعون معا في مكان واحد ، وتُقرأ عليهم مذكرات الرسل و كتابات الأنبياء ، بقدر ما يسمح الوقت “(1 أبولوجي 67).

النقطة ذاتها أثيرت في كتابات مسيحية مبكرة أخرى . على سبيل المثال ، في سفر الرؤيا قيل لنا ، ” طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّة “(1 : 3) ـ التي تشير بوضوح إلى القراءة العامة للنص . في كتاب أقل شهرة يدعى رسالة كلمنت الثانية ، من منتصف القرن الثاني ، يشير المؤلف ، في إشارة إلى كلماته الوعظية ،” أقرأ إليكم طلبا أن تصغوا إلى المكتوب ، لعلكم تخلِّصون أنفسكم ومن يقرأ لكم “(2 كلمنت 19 . 1 )

خلاصة القول ، كانت الكتب التي كانت ذات أهمية قصوى في المسيحية المبكرة تُقرأ في الغالب بصوت عال عبر هؤلاء الذين كان باستطاعتهم القراءة ، لكي يستطيع الأمِّيون الاستماع إليها ، وفهمها ، بل وحتى دراستها . على الرغم من أن المسيحية الأولى كانت في العموم تتشكل من المؤمنين الأميين ، إلا أنها كانت ديانة أدبية إلى حد كبير . مع ذلك، هناك موضوعات أخرى مهمة نحتاج أن ندرسها. لو كانت الكتب ذات أهمية كبيرة للمسيحية الأولى ، لو كانت تقرأ للمجتمعات المسيحية في محيط البحر المتوسط ، كيف حصلت هذه المجتمعات على هذه الكتب فعليًّا؟ كيف أصبحت متاحة للاستخدام العام . لقد حدث ذلك في عصور ما قبل ظهور أدوات النشر المكتبي ، وكذلك وسائل الطباعة الإليكترونية ،بل وحتى حروف الطباعة المتحركة. لو حصلت مجتمعات المؤمنين على نسخٍ من الكتب المسيحية العديدة المتداولة ،فكيف حصلوا على هذه النسخ ؟من كان يقوم بعملية النسخ ؟ والأكثر أهمية بالنسبة لموضوع دراستنا النهائي ،كيف يمكننا ( أو كيف أمكنهم ) أن نعرف أن النسخ التي حصلوا عليها كانت نسخًا دقيقة ، وأنهم لم يقوموا بتعديلها في أثناء عملية النسخ ؟


هوامش الفصل الأول

(1) يستخدم العلماء في عالم اليوم هذا المصطلح (Common Era) بديلا عن الشكل القديم (Anno domini) أو (A.D ) التي تعني :”في يوم ميلاد الرب”، لأن الأول منهما مناسب أكثر لكلّ الأديان.(2) للاطلاع على وصف إجمالي يتناول تشكل القائمة الرسمية للكتاب المقدس اليهودي ، انظر مادتي (“Canon, Hebrew Bible”) في كتاب “جيمس ساندر ” (the Anchor Bible Dictionary) المطبوع بتحرير ديفيد نويل فريدمان (نيويورك ، دابلداي ،1992)، الجزء 1 ص 838 – 852 .
(3) إن إطلاق لقب “ربِّي” أو “معلم” على يسوع لا يعني أنني أقول إن المسيح حظي باحترام رسمي داخل الديانة اليهودية لكنني ببساطة أعني أنه كان معلمًا يهوديًّا . لم يكن ،بالطبع ،معلمًا فحسب ، ربما يمكن من الأفضل اعتباره كـ”نبيّ.”
للاطلاع على المزيد من النقاشات ،انظر كتاب بارت إرمان : يسوع :النبيّ الرؤوي للألفية الجديدة (Apocalyptic Prophet of the New Millennium) من مطبوعات (جامعة أكسفورد نيويورك . القسم المطبوعات،1999).
(4) لمعرفة معنى هذا الاختصار انظر هامش رقم 1 بالأعلى
(5) سيشمل هذا الثلاث رسائل (الثلاثية البوليسية “Deutero-Pauline”) إلى أهل كولوسي ،أهل أفسس ، والرسالة 2 إلى أهل تسالونيكي و ،بشكل خاص ، الرسائل “الرعوية ” “pastoral” الثلاث وهي الأولى والثانية إلى تيموثي و الرسالة إلى تيطس . للاطلاع على أسباب تشكك العلماء في صحة نسبة هذه الرسائل إلى بولس نفسه ، انظر كتاب بارت إرمان “العهد الجديد : مقدمة تاريخية للكتابات المسيحية المبكرة (The New Testament: A Historical Introduction to the Early Christian Writings), الطبعة الثالثة.(نيويورك:جامعة أكسفور .قسم المطبوعات،2004)،الفصل 23.
(6) في وقت متأخر، كانت هناك العديد من الرسائل المزيفة تدعي أنها الرسالة إلى اللاوديكيين. ما يزال لدينا واحدة منها،التي عادة ما تدخل في إطار ما يعرف بأبوكريفا العهد الجديد. وهي تزيد قليلا عن كونها مزيج من أقوال و جُمَلٍ بولسية (أي منسوبة إلى بولس)، تم ترقيعها معًا ليبدو مشابها لواحدة من رسائل بولس. هناك رسالة أخرى تسمى ” إلى اللاوديكيين” تزييفها من خلال مارقيون ، المهرطق الذي عاش في القرن الثاني ، أمر واضح ؛ إلا أن هذه الرسالة لم يعد لها وجود.(7) على الرغم من أن المصدر Q لم يعد له وجود، هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأنه كان وثيقة حقيقية ـ حتى لو كنا لا نعرف على وجه اليقين محتوياته الكاملة. انظر كتاب “العهد الجديد ” لإرمان ، في الفصل ال6 . الاسم Q هو اختصار للكلمة الألمانية Quelle ،التي تعني “مصدر”(الذي هو مصدر لكثير من مادة لوقا ومتّى من أقوال المسيح).
(8) كمثال ،في الرسائل(tractates) المعروفة باسم رؤيا بطرس و المقالة الثانية لشيث العظيم (Treatise of the Great Seth)،اللذان اكتُشفا كلاهما في 1945 في مخبأ للوثائق “الغنوصية”قريبا من قرية نجع حمّادي في مصر . للاطلاع على الترجمة ،انظر مكتبة نجع حمادي بالإنجليزية ،لجيمس .م.روبنسون، الطبعة الثالثة (سان فرانسيسكو:هاربر سان فرانسيسكو ،1988 )،362 – 378.(9) اسم غنصويين مأخوذ من كلمة جنوسيس اليونانية ،التي تعني “معرفة”. الغنوصية تشير إلى مجموعة من الأديان من القرن الثاني فصاعدًا وهي تؤكد على أهمية الحصول على المعرفة السرية (secret knowledge) من أجل الخلاص من هذا العالم المادي الشرير.(10) للاطلاع على نقاش أكثر تفصيلا “Lost Christianities:The Battles for ******ure and the Faiths We Never Knew(New York:Oxford Univ.Press,2003)
خاصةً الفصل 11 . للاطلاع على معلومات أكثر العملية برمتها يمكن الحصول عليها في كتاب هاري جامبل””The New Testament Canon:Its Making and Its Meaning مطبعة (فيلادلفيا:فورترس برس،1985). للاطلاع على شرح نموذجي علمي موثوق ،انظر كتاب بروس ميتزجر “”The Canon of The New Testament:Its Origin,Development,and Significance
طبع (أكسفورد :كلاروندون برس،1987).(11) للاطلاع على ترجمة حديثة لرسالة بوليكاربوس ،انظر بارت إرمان( الآباء الرسوليين) من منشورات (Loeb Classical Library;Cambridge:Harvard Univ.press,2003)
المجلد 1.

(12) لمزيد من المعلومات حول مارقيون وتعاليمه ،انظر “الديانات المسيحية المفقودة” لبارت إرمان ص 103- 108 .
(13) انظر على وجه الخصوص كتاب “The ancient Literacy” لويليام .?.هاريس من مطبوعات(كامبردج، القسم الإعلامي بجامعة هارفارد).
(14) للمزيد حول معدلات معرفة القراءة و الكتابة بين اليهود في العصر القديم ، انظر كتاب كاثرين هـ. إزسر ” الأمية اليهودية في فلسطين الرومانية”( توبنجين : موهر / سيبيك ،2001 ).
(15) انظر نقاش كيم هاينز أيتسن في كتاب ” حراس الحروف: معرفة القراءة والكتابة ،قوة و ناقلوا الأدب المسيحي المبكر ” ( نيو يورك ،جامعة أكسفورد ،القسم الإعلامي ،2000) ، 27 – 28 ، ومقالات هـ .سي .يوتي التي ذكرتها هناك .

(16) الترجمة الإنجليزية القياسية لهنري تشادويك ” ضد سلزاس”( كامبردج : القسم الإعلامي بالجامعة ،1953)، هي التي تتبعتها هنا .

image 5

الفصل الثاني: نساخ الكتابات المسيحية الأولى #

صفحة من المخطوطة الفاتيكانية في القرن الرابع الميلادي ، مع ملاحظة في الهامش (بين العمودين الأول والثاني) فيها ناسخ من القرون الوسطى يسيء إلى سلف له أقدم، لتغيير النص فيقول: " أحمق وعاهر ، اترك القراءة القديمة ، لا تغيرها!"
صفحة من المخطوطة الفاتيكانية في القرن الرابع الميلادي ، مع ملاحظة في الهامش (بين العمودين الأول والثاني) فيها ناسخ من القرون الوسطى يسيء إلى سلف له أقدم، لتغيير النص فيقول: ” أحمق وعاهر ، اترك القراءة القديمة ، لا تغيرها!”

 

 

المخطوطة الفاتيكانية أحمق وعاهر ، اترك القراءة القديمة ، لا تغيرها

 

اضافة توضيحية من دكتور أمير عبدالله


كما رأينا في الفصل الأول، كانت المسيحية منذ بدايتها ديانة لها أدبياتها، حيث لعبت الكتب بكافة أنواعها دوراً محورياً في حياة ومعتقدات المجتمعات المسيحية الناشئة في حوض المتوسط. كيف إذن كان وضع هذه الأدبيات المسيحية من ناحية النشر والتوزيع؟ الإجابة، بطبيعة الحال،هي أنه لكي يتمَّ توزيع كتابٍ ما على نطاقٍ واسعٍ، فلابد من أن يتمَّ نسخه أولا.

النسخ في العالم اليوناني – الروماني

كانت الطريقة الوحيدة لنسخ كتابٍ في العالمِ القديمِ هي أن تتمَّ كتابتُه باليد حرفاً بحرف، وكلمةً وراء أخرى. كان ذلك عملاً بطيئاً ودقيقا – لكن لم يكن ثمَّة بديل آخر. ولأننا اعتدنا اليوم على رؤية نسخٍ عديدةٍ من الكتب تظهر على رفوف المكتبات في طول البلاد وعرضها خلال أيام من نشرها، فإننا نتقبل ببساطة أن تكون نسخةٌ ما من “شفرة دافنشي” مثلاً مطابقةً تماماً لأي نسخة أخرى من الكتاب نفسه . فلن تتغير أيٌّ من الكلمات – سيكون هو الكتاب نفسه أيًّا ما كانت النسخة التي نقرأها. لكنَّ الحالَ لم يكن كذلك في العالم القديم. فكما أنه لم يكن متيسرًا توزيعُ الكتبِ على نطاقٍ واسعٍ (لعدم وجود شاحناتٍ، ولا طائراتٍ، ولا سككٍ حديديةٍ) لم يكن كذلك ممكنًا إصدارُها على نطاق واسع (لعدم وجود المطابع). ولأنه لم يكن ثمة بُدٌّ من نسخها باليد، نسخة نسخة، ببطء، وبمعاناة، فإنَّ معظم الكتب لم يتمَّ إصدارُها بكميات كبيرة. والكتب القليلة التي تم إصدارُ نسخٍ عديدةٍ منها لم تكن متطابقة، إذ إنه لابد أن يكون الناسخون الذين نسخوا تلك النصوص قد قاموا بإدخال تعديلات عليها – مبدِّلين الكلمات أثناء نسخها، إما عن طريق الخطأ (زلات الأقلام وغيرها من صور الإهمال) أو عمداً (عندما يقصد الناسخ تغيير الكلمات التي ينسخها).

إنَّ أيَّ شخصٍ يقرأ كتاباً من العصورِ القديمة لا يستطيعُ الجزمَ بأنَّه إنما يقرأ ما كتبه المؤلَّفُ ذاته ، فلربما وقع للكلمات تبديل. بل – في الحقيقة – إنَّ المرجَّح هو أنَّ تبديلا للكلمات قد حدث ، ولو جزئيًّا.

يصدر الناشر اليوم عددًا معينًا من الكتب للجمهور عن طريق إرسالها لمحلات بيع الكتب. أما في العالم القديم، ولأن الكتب لم تكن تصدر بكميات كبيرة، ولا كانت هناك دورٌ للنشر ولا محلاتٌ لبيع الكتب، فقد كانت الأمور مختلفة (1). عادةً ما كان المؤلِّف يكتب كتابًا، وربما يجعل مجموعة من الأصدقاء يقرأونه، أو يستمعون إليه وهو يُقرأ عليهم. مما كان يشكل فرصةً لتعديلِ وتصحيحِ بعض محتوياته. بعد ذلك، وعندما يكون المؤلف قد أتمَّ كتابه، فإنه ينسخ بعضَ النسخ لبعض الأصدقاء والمعارف. تأتي بعد ذلك مرحلة النشر، وعندها لا يعود الكتاب تحت السيطرة الكاملة للمؤلِّف، وإنما بين أيدي آخرين. إن أراد هؤلاء الآخرون المزيد من النسخ – ربما لإعطائها لأقرباء أو لأصدقاء آخرين – كان عليهم أن يتَّخذوا الترتيبات الضرورية لنسخها، مثلا، بالاعتماد على ناسخٍ محليٍّ يتعيش من مهنة النسخ، أو على عبدٍ يجيدُ القراءةَ والكتابةَ ويقوم بالنسخ كجزءٍ من واجباته المنزلية.

نعلم أن هذه الطريقة يمكن أن تكون بطيئة وغير دقيقة لدرجة تدفع إلى الجنون، وأنَّ ما ينتج عن هذه الطريقة من نسخ يمكن أن ينتهي به الأمر إلى أن يصبح شيئًا مختلفًا تمام الاختلاف عن الأصل. والدليل على ذلك يأتينا من الكُتَّاب القدامى أنفسِهم. سأذكر هنا مثالين من الأمثلة المثيرة للاهتمام من القرن الأول الميلادي. في مقالة شهيرة عن مشكلة الغضب، يشير الفيلسوف الروماني “سينيكا” إلى الفارق بين الغضب الموجَّه نحو من قد سبب لنا الأذى، والغضب الموجه نحو ما ليس بإمكانه أن يفعل أيَّ شيء يعرِّضُنا للأذى. وليوضح النوع الثاني، يضرب مثلاً بـ “بعض الأشياء التي لا حياة فيها، كالمخطوطة التي نلقي بها لأنها مكتوبة بخط صغير للغاية، أو نمزقها لأنها مليئة بالأخطاء (2).” لا شك أن تجربة قراءة نص ممتلئٍ بـ “الأخطاء المطبعية” (أو أخطاء النسخ) هي تجربة محبطة لدرجة قد تؤدي إلى تشتيت ذهن القارئ.

هناك أيضا هذا المثال التهكمي الذي نجده في إحدى إبيجرامات الشاعر الروماني الساخر “مارشال” ، الذي يحيط قارئه علمًا في إحدى قصائده بأنه:
“إن بدت لك – أيها القارئ – أيًّا من القصائد المكتوبة في هذه الأوراق غامضة أو ركيكة فتلك ليست غلطتي، ولكنَّ الناسخَ هو من أفسدها بسبب عجلته لإتمام نسخ القصيدة من أجلك .أمَّا إن كنت تظن أنها غلطتي وليست غلطته، فسأعرف أنك معدوم الذكاء “ومع ذلك، أنظر، هؤلاء سيئون” كما لو كنت أنكر ما هو واضح، أجل إنهم سيئون، لكنك لا تستطيع أن تأتي بأفضل منهم؟” (3)

نسخ النصوص أفسح المجال لاحتمالات الأخطاء؛ وهذه المشكلة لوحظت على نطاقٍ واسعٍ طوال العصور القديمة.

النسخ في دوائر المسيحية الأولى #


لدينا في النصوص المسيحية الأولى عددٌ من الإشارات التي ترصُد ممارساتِ النسخ (4). واحدة من أكثر هذه الإشارات إثارةً للاهتمام نجدها في نص رائج يرجع تاريخه إلى بدايات القرن الثاني واسمه “الراعي” لهرماس . قـُرئ هذا الكتاب على نطاق واسع خلال الفترة بين القرن الثاني الميلادي ووصولا إلى القرن الرابع الميلادي؛ حتَّى إن بعض المسيحيين يعتقدون أنه يجب أن يعتبر جزءًا من القائمة القانونية للكتاب المقدّسِ . وهو مدرج كأحد كتب العهد الجديد، على سبيل المثال، في واحدة من أقدم مخطوطاتنا التي لا تزال محفوظة ، ألا وهي المخطوطة ” السينائية” الشهيرة التي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع.
في الكتاب، نبيٌّ مسيحيٌّ يدعى “هرماس” كتب عددًا من الرؤى ، بعضها كان يتعلق بالمستقبل، والبعض الآخر كان يتعلق بالحياة الشخصية والاجتماعية لمسيحيِّي أيامه.

في موضع قريب من بداية الكتاب (وهو كتاب كبير، أكبر من أيٍّ من الكتب الأخرى التي عُدّت جزءًا من العهد الجديد) يرى هرماس رؤية تقرأ فيها سيدة عجوز، وهي تمثل نوعًا من الرمز الملائكي للكنيسة المسيحية، بصوت مرتفع من كتابٍ صغيرٍ. وتسأل هرماس إذا ما كان باستطاعته إعلام إخوانه المسيحيين بالأشياء التي سمعها. فيجيب بأنه لا يستطيع أن يتذكر كل ما قرأَتْه، ويطلب منها أن ” اعطني الكتاب لأنسخ منه نسخة ” فتعطيه إياه، وعندئذ يروي قائلاً:
“أخذتـُهُ وذهبت بعيداً إلى جزء آخر من الحقل، حيث نسختـُه بالكامل، حرفاً بحرف، لأني لم أستطع التمييز بين المقاطع . وعندئذ، عندما أتممت حروف الكتاب، انتـُزع فجأة من بين يديّ؛ لكنني لم أرَ من فعل ذلك.” (الراعي 5.4)

وعلى الرغم من أنه كان كتابًا صغيرًا، إلا أنَّ نسخه حرفًا بحرف لابد وأنه كان عملا صعبًا. وعندما يقول هرماس إنه ” لم يستطع التمييز بين المقاطع ” فمن الجائز أنه كان يشير إلى إنه غير ماهر في القراءة – ذلك، أنه لم يكن مدرَّبًا كناسخٍ محترفٍ يستطيع أن يقرأ النصوص بطلاقة. إحدى المشاكل المتعلقة بالنصوص اليونانية القديمة (و التي تضمُّ كلَّ الكتابات المسيحية القديمة، بما فيها نصوص العهد الجديد) أنها عندما نُسِخَت، لم يستخدم في نسخها أيٌ من علاماتِ الترقيمِ ، ولم يتمَّ التمييز بين الأحرف الاستهلالية والأحرف العادية، وكذلك ، وهو ما سيراه القراء المعاصرون أكثر إثارة للدهشة، لم تُستَخدام المسافات للفصل بين الكلمات. هذا النمط من الكتابة المتصلة يسمى (سكريبتوا كونتينوا ) ” ******uo continua”. ومن الواضح أن هذا النمط جعل قراءة النص ، ناهيك عن فهمه. أمرًا عسيرًا في بعض الأحيان. فعبارة مثل: (godisnowhere) يمكن للمؤمن أن يقرأها: (God is now here) أي (الإله هنا الآن) ويمكن للملحد أن يقرأها (God is nowhere) وتعني: (الإله ليس له وجود) (5).وماذا يمكن أن تعني” lastnightatdinnerisaw abundanceonthetable”؟ هل تعني حدثًا عاديًا أم حدثًا خارقًا؟

من الواضح أن “هرماس” عندما يقول إنه لم يستطع التمييز بين المقاطع ، فإنه يعني أنه لم يستطع قراءة النص بطلاقة لكنه استطاع تمييز الحروف، وعلى ذلك فقد نسخها حرفًا بعد حرف . ومن الجلي أنك إن لم تفهم ما تقرأ، فإن احتمالات الوقوع في أخطاء النسخ تتضاعف.

ويشير “هرماس” إلى النَّسْخِ مرة أخرى في موضعٍ لاحقٍ من رؤيته. حيث تأتيه السيدة العجوز مرةً أخرى وتسأله إن كان قد سلَّم الكتاب الذي نسخة لقادة الكنيسة أم لم يفعل بعدُ؛ فيجيبها أنه لم يفعل ، فتقول له:
“حسنًا فعلت، إذ لدي بعض الكلمات لأضيفها. عندئذٍ، عندما أنتهي من الكلمات كلِّها فسوف تقوم بإبلاغها لكل من وقع عليهم الاختيار. وعلى ذلك فسوف تكتب كتابين صغيرين، وترسل أحدهما إلى “كلمنت” والآخر إلى “جرابت”. “كلمنت” سوف يرسل كتابه إلى المدن الأجنبية، فهذه هي مهمته. أما “جرابت” فسوف تعظ الأرامل واليتامى. وأنت ستقرأ كتابك في هذه المدينة مع الشيوخ الذين يقودون الكنيسة.”(الراعي 3 . 8)

وهكذا، فإن النص الذي كان قد نسخه ببطء أضيفت إليه بعض الإضافات التي كان عليه أن يسجِّلها؛ و كان عليه أن ينسخ منها نسختين. إحداهما ستعطى لرجل يدعى “كلمنت”، الذي من الجائز أن يكون هو نفسه الشخص المعروف من خلال نص آخر على أنه الأسقف الثالث لمدينة روما – وربما حدث هذا قبل توليه رئاسة الكنيسة – حيث إنه يبدو هنا كما لو كان مبعوثًا خارجيًّا للمجتمع المسيحي الروماني. هل كان ناسخًا رسميًّا يتولى نسخ نصوصَهم؟
النسخة الأخرى تذهب لامرأة تدعى “جرابت” التي يحتمل أنها كانت ناسخة هي الأخرى، وربما تولت إعداد نسخ لبعض أعضاء الكنيسة في روما. أما “هرماس” نفسُه فإنَّ عليه أن يقرأ نسخته من الكتاب على مسيحيي مجتمعه، (وقد يكون معظمهم من الأمِّيين الذين لا يستطيعون قراءة النص بأنفسهم) – إلا أن الطريقة التي يُفترَض أن ينفَّذَ بها ذلك مع عدم قدرته على التمييز بين المقاطع لم يتمَّ تفسيرُها مطلقًا.

وهكذا، فقد ألقينا نظرةً خاطفةً على الكيفية التي كانت تتمُّ بها عمليةُ النسخِ في الكنيسةِ الأولى. ومن المفترض أن الحال كان مشابها لذلك في الكنائس المختلفة المنتشرة على جانبي المتوسط، على الرغم من أن أيًا من هذه الكنائس (على الأرجح) لم تكن بحجم كنيسة روما. مجموعةٌ مختارةٌ قليلةُ العدد كانوا نسّاخ الكنيسة، وبعض هؤلاء النسّاخ كانوا أكثر مهارة من الآخرين . يبدو أنَّ “كلمنت” كان مكلَّـفًا بنشر الأدب المسيحي كواحدة من مهامه، بينما “هرماس” يؤدي المهمة لأنها ببساطة قد أوكلت إليه هذه المرة، والنُّسَخُ التي يقوم هؤلاء الأعضاء المتعلمون (وبعضهم أوسع علمًا من بعض)بنسخها تتم قراءتها على المجتمع المسيحي بعمومه.

ما الذي يمكن أن نضيفه عن هؤلاء النسّاخ المنتمين للمجتمع المسيحي؟ لا نعرف على وجه التحديد من كان “كلمنت” أو”جرابت”، إلا أن لدينا معلومات إضافية عن “هرماس”؛ فهو يقول عن نفسه إنه عبدٌ سابقٌ (الراعي 1. 1) ، ومن الواضح أنه كان قادرًا على القراءة والكتابة، بل ومتعلمًا تعليمًا جيدًا نسبيًّا. وهو لم يكن من بين قادة كنيسة روما (فلم يذكر بين شيوخ الكنيسة)، مع أن تقليدًا لاحقًا يزعم أنَّ أخاه ،الذي كان اسمه “بيوس”، أصبح أسقفاً للكنيسة في منتصف القرن الثاني (6). إن كان الأمر كذلك، فمن المحتمل أن تكون العائلة قد تبوَّأت مكانةً مرموقةً داخل المجتمع المسيحي – على الرغم من كون “هرماس” عبداً في يوم من الأيام. ولمَّا كان المتعلمون وحدهم، بطبيعة الحال، هم القادرين على الكتابة، ولما كان التعلم يتطلب عادة توفُّر الوقت والمال اللازمين (ما لم يكن الشخص قد تم تدريبه على القراءة والكتابة وهو عبد)، فمن الظاهر أن النسّاخ المسيحيين الأوائل كانوا من بين أكثر الناس ثراءً وأفضلهم تعليمًا في المجتمع المسيحي الذي عاشوا فيه.

كما رأينا، كانت عمليات النسخ خارج المجتمعات المسيحية، في العالم الروماني على اتساعه، تتمُّ إما على أيدي النسَّاخ المحترفين، أو على أيدي عبيدٍ قادرين على القراءة والكتابة ويتم تكليفهم بالنسخ من قبل سادتهم؛ ويعني ذلك، من بين ما يعني، أنه كقاعدة لم يكن الأشخاص الذين يقومون بالنسخ هم أنفسهم الأشخاص الراغبين في الحصول على النصوص، وإنما كان الناسخون في الغالب الأعمّ ينسخونها لمصلحة آخرين. إلا أنَّ واحدا من أهم الاكتشافات الحديثة التي قام بها العلماء الباحثون في نسـَّّاخ المسيحية الأولى، هو أن الحال كان على العكس من ذلك تماما. إذ يبدو أن المسيحيين الذين كانوا يقومون بالنسخ، كانوا هم أنفسهم من يحتاجون النُسَخ، بمعنى أنهم كانوا ينسخونها إما لاستخدامهم الشخصيّ، أو لمصلحة المقربين منهم، أو كانوا ينسخونها من أجل الآخرين في مجتمعهم (7). باختصار، لم يكن الأشخاص الذين قاموا بنسخ النصوص المسيحية الأولى، في معظم الأحوال – إن لم يكن في كلها، محترفين يمتهنون النسخ؛ وإنما ببساطة كانوا هم الأفراد القادرين على القراءة والكتابة من بين أعضاء الطائفة المسيحية، واللذين توفرت لديهم الرغبة والقدرة على النسخ. (مثل “هرماس” المذكور أعلاه)

بعض هؤلاء الأفراد – أو معظمهم؟ – ربما كانوا قادة للمجتمعات. لدينا من الأسباب ما يدفعنا للاعتقاد بأنَّ الزعماء المسيحيين الأوائل كانوا من الأعضاء الأكثر ثراءًا في الكنيسة، من ذلك أن الكنائس كانت عادةً ما تجتمع في منازل أعضاءها (لم تكن ثمة مبانٍ للكنائس، على حد علمنا، خلال القرنين الأول والثاني من عمر الكنيسة) ومنازل الأعضاء الأكثر ثراءًا هي التي كان بمقدورها أن تتَّسع لعددٍ كبيرٍ من الناس، حيث كان معظم الناس في تلك المدن القديمة يعيشون في غرف ضيقة. ولا يتعارض مع المنطق أن نفترض أنّ الشخص الذي تولَّى أمرَ توفير المكان، تولى قيادة الكنيسة أيضًا، كما تفترض عددٌ من الرسائل المسيحية التي وصلتنا، والتي يوجِّه فيها الراسل تحياته إلى فلان .. وإلى “الكنيسة التي تجتمع في بيته.” أصحاب المنازل الأكثر ثراءًا هؤلاء، كانوا على الأرجح هم الأفضل تعليمًا، وعلى ذلك فليس من المستغرب أن يُطلب منهم أحيانًا أن “يقرأوا” الكتابات المسيحية على جماعات المصلين، كما نرى على سبيل المثال في (1تيموث 4 : 13) ” إِلَى أَنْ أَجِيءَ اعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ( أي العامة) وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ ” فهل من الممكن، إذن، أن يكون قادة الكنيسة مسئولين، على الأقل لفترة لا بأس بها من الوقت، عن نسخ الكتابات المسيحية التي كانت تُقْرَأ على جماعة المصلين؟

مشكلات تتعلق بنسخ النصوص المسيحية المبكرة #

لأنَّ النصوص المسيحية الأولى لم تكن تنسخ بمعرفة نسّاخ محترفين (8)، على الأقل في أثناء القرنين أو القرون الثلاثة الأولى من عمر الكنيسة، وإنما بمعرفة أشخاص متعلمين ينتمون للمجتمع الكنسي لديهم القدرة والرغبة لأداء هذه المهمة، فمن الممكن أن نتوقع أنه في النسخ الأولى، على وجه الخصوص، كان يوجد أخطاء النسخ شائعة الحدوث. في الحقيقة، توجد لدينا أدلة دامغة على ذلك، حيث كانت (هذه الأخطاء) محلا لبعض الشكاوى العارضة من مسيحيين يقرأون تلك النصوص ويحاولون اكتشاف الكلمات الأصلية التي خطتها أيدي المؤلفين. ففي إحدى المرات، على سبيل المثال، يسجل الأب “أوريجانوس” المنتمي لكنيسة القرن الثالث الشكوى التالية من نسخ الأناجيل الموجودة تحت تصرفه:
“لقد أصبحت الاختلافات بين المخطوطات عظيمة، إما بسبب إهمال بعض النسـّاخ أو بسبب التهور الأحمق للبعض الآخر؛ فهل كانوا يهملون مراجعة ما نسخوه،أم، بينما يراجعونه، يقومون بالحذف والإضافة على هواهم؟(9) ”

لم يكن “أوريجانوس” الشخص الوحيد الذي لاحظ تلك المشكلة، فقد أشار إليها أيضاً خصمُه الوثني “سيلزس” قبل ذلك بسبعين سنة، ففي سياق هجومه على المسيحية وأعمالها الأدبية، طعن “سيلزس” في النسـَّاخ المسيحيين لاتِّباعهم أساليبًا تنتهك أصول النسخ:
” بعض المؤمنين يتصرفون كما لو كانوا في مجلس لاحتساء الشراب،يذهبون بعيدا إلى درجة التناقض مع أنفسهم، فيغيِّرون النصَّ الأصليَّ للإنجيل ثلاث مرات أو أربع أو مرات عديدة أكبر من ذلك، ويغيرون أسلوبه بما يمكّنهم من إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم “.(ضد سيلزس 2 . 27)

والملفت للنظر في هذه الواقعة بالتحديد هو أن “أوريجانوس”، عندما جوبه باتهام من أطراف خارجية برداءة الممارسات النسخية بين المسيحيين، أنكر أن يكون المسيحيون في الواقع قد غيّروا النص، على الرغم من أنه هو نفسه قد انتقد تلك الحقيقة في كتاباته الأخرى. والاستثناء الوحيد الذي يذكره في سياق الرد على “سيلزس” يتعلق بعدة مجموعات من المهرطقين الذين ،حسبما يزعم “أوريجانوس”،حرَّفوا النصوص المقدسة بأسلوب خبيث (10).

لقد سبق ورأينا هذا الاتهام بأن المهرطقين غيَّروا أحيانًا في النصوص التي قاموا بنسخها بهدف جعلها أقرب إلى تأييد وجهات نظرهم، حيث كان هذا هو ما اتهم به “مرقيون” الفيلسوف اللاهوتي المنتمي للقرن الثاني، الذي قام بتقديم قانونه الكنسي المكون من أحد عشر كتابًا مقدسًا بعد أن قام بحذف الأجزاء التي تتعارض مع نظريته التي تزعم أن “بولس” كان يرى أن الرب في العهد القديم لم يكن هو الربَ الحقيقيَّ. يزعم خصم “مرقيون” الأرثوذكسي “إيريناوس ” أن “مرقيون” قد قام بما يلي:
مزق أوصال رسائل “بولس”، حاذفاً منها كل ما قاله الرسول عن الرب الذي خلق العالم ، ليطمس حقيقة أنه أب ربنا يسوع المسيح ، وكذلك فعل مع هذه الفقرات من الكتابات النبوية التي اقتبسها الرسل لكي يعلّمونا أنهم جهروا بالأمر فيما سبق مجئ السيّد.

(ضد الهراطقة 1 . 27 . 2 )

ما مدى رضاك عن المحتوى؟
حُدثت بتاريخ 13/06/2024