قصة اسلام درزي من السويداء

تقليص

عن الكاتب

تقليص

المهتدي1968 مسلم- الحمد الله اكتشف المزيد حول المهتدي1968
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصة اسلام درزي من السويداء

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الحمد لله رافع لواء الدين, معزِّ عباده المؤمنين بنور الإيمان واليقين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين مبلِّغ رسالة الله للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين والعاملين بشرع الله إلى يوم الدين.
    وبعد...
    فإن الله متمُّ نورِه وقادر على نشرِ دينِه وإن لم يدع له داع, وهذه قصة هدايتي أضعها بين أيديكم دعوةً إلى الله ومعذرةً إليه وهو الموفق وعليه البلاغ.
    لِمَنْ هذه الرِّسالة؟

    أبعثها إلى أفراد أسرتي ومن يَلِيهم, وإلى أهل قريتي ومدينتي, وإلى رفاق الصبا الذين بينهم نشأت, ومعهم تعلَّمت, وإليهم أحنُّ. وكذلك لكل ابن ملَّةٍ انحرفت عن منهج أهل السنة والجماعة, الطائفة الناجية.
    أُرسلها على نسيم الرِّفق إلى أهل الجبل خاصة, وإلى الدروز عامة. حروفها تخرجُ من بين الضلوع، تَحْدُوها الدموع راجياً هدايةَ أهلي والأجر من ربي يوم يكون إليه الرجوع. كتبتُها بقلمِ الصدق على ورَقِ الرحمة عسى أن يُقدرَ لها الوصول إلى أهل العقول, ويُكتبَ لها القَبول, فتكون زاداً لي يوم المُثُول بين يدي الله سبحانه و تعالى. ونيتي فيها " إنْ أريدُ إلا الإصلاحَ ما استطعت", وفي قلبي صوتٌ يقول:
    بلادي وإِن جارتْ عليَّ عزيزةٌ ......... وأهلي وإِن ضَنُّوا عليَّ كرامُ



    كنتُ درزياً وكنت في العشرين من عمري. والدروز قومٌ كانوا في يومٍ من الأيام من أهل السنة وهم عربٌ أقحاح يعود نسبهم إلى قبائل وادي تيم في نجد(1) وهؤلاء يصل نسبهم إلى قحطان, فهم بالأصل أصحاب نسب شريف وعِرقٍ نظيف حتى جاءهم سهمٌ يهودي مجوسي في ظهورهم أضلَّ كبارَهم فتبِعَهُم عوُامهم حتى أخرجوهم من دائرة السنة وأبعدوهم عن الدِّين.

    والدرزي إما أن يكون من الأجاويد وهم مشايخ المذهب, أو من الجهال(2) وهم الغالبية العظمى من عوام الدروز، وأنا كنت من الفئة الثانية فالدرزي بهذا المعنى وبتعريفٍ بسيط هو شخص يعيش لدنياه فقط بغير صلاة أو عبادة أو طاعة, وإن كان يتحلى بكثير من مكارم الأخلاق الموجودة عند العرب وغيرهم من شجاعة ومروءة ونخوة وكرم ،ولكنِّي لا أذكر أنِّي كنت على شيء من الدِّين إلا أني كنت أبدأ طعامي ببسم الله وأختمه بالحمد لله و إذا أردت النوم قلت توكلتُ على الله ثم قرأتُ سطوراً من ميثاق الدرزي قبل أن أغفو, كان هذا هو الدين عندي, وكنت أعدُّ نفسي مؤدياً لحق اللهً بهذه الكلمات الثلاث.
    أما عن الشرك فحدث ولا حرج, إذ نادراً ما يتعلق قلبي بالله فإني إذا أردت الحلف قلَّما أحلف بالله(3)، كنت أحلف بشرفي, وبعمر أبي, وعِرض أختي, ورحمةِ جدي, وأحلف بالميتين, المعروفين بأصحابِ المقامات, و رموزِ المذهب, مثل: كتاب الحكمة والخمس حدود وما شابه.
    كانت غايتي في الحياة هي تحصيل شهادة محترمة أنالُ بها وظيفةً جيدة وراتباً عالياً, فأبني بيتاً وأتزوج وأنجب أولاداً وأحيا سعيداً وحَسْبْ. لم يكن الموتُ وما بعدَه يَشغلُ بالي كثيراً, لأنَّ العقيدة الدرزية تقوم أصلاً على عقيدة التقمص وهي أن الروح تفارق الجسد عند الموت لتنتقل إلى جسدِ مولودٍ جديد تسكنه, فإذا مات هذا انتقلت الروح إلى جسد جديد ثالث, شيءٌ يجعلُ الموتَ أمراً لا يُؤبهُ به كثيراً. لهذا عشتُ لا أمنعُ نفسي من شيءٍ من الَّلهو أو ملذاتِ الدنيا إلا ما يضرُ الجسدَ أو الشرفَ أو المروءة فلم أكن أصلاً أُدخِّن أو أحبُّ الخمر

    (1): وفقاً لكتاب الدكتور محمد أحمد الخطيب ( عقيدة الدروز).
    (2): علماء المذهب، المسمَّون الأجاويد، هم الذين أطلقوا هذه التسميات والتقسيمات على الدروز.
    (3): يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "من حلف بغير الله فقد أشرك". رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على

    وهذا حفاظاً على صحتي وكرامتي، شأني شأن الكثيرين من الدروز، . هكذا عشت حتى جاء اليوم الذي غيَّر الله فيه حياتي, ما أجملَه من يوم.
    حادث...
    وذاتَ يوم وقع لي حادث أضرَّ بجسدي ضرراً كبيراً فذهبتُ إلى الطبيب الذي فجَّر الخوف في صدري قائلاً: إنْ أصابَك شيءٌ أو مضاعفات فلا تَأتِنِي, بل اذهب إلى المستشفى بسرعة, فنقلني بهذه الكلمة إلى عالمٍ آخر بين الحياة والموت ورحتُ أسأل نفسي...

    ماذا إِنْ كانَ قدْ حانَ الأجل؟؟؟؟
    لما حلَّ الليل، رحتُ أفكر في الموت، هل سيقتلني هذا الحادث؟ وماذا بعد الموت فهو الغائب الذي لا بدَّ آت, وكما يقول كعب بن زهير:
    كلُّ ابنِ أَنْثَى وإِنْ طالتْ سَلامَتُهُ يومًا على آلةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
    قلتُ إنْ صحَّ كلام الدروز فلا ضير, ستعود روحي ولكن إلى جسد آخر أو قميص آخر كرجلٍ خالد ( إذ من أصول المذهب الدرزي عقيدة التقمُّص). ولكن ما الذي يثبت صحة هذا؟ بدأت كثير من الأسئلة تدور في خَلَدي عن هذا الموضوع الذي فكرت فيه قبل أن أنام. فلما جاء الصباح قمت أبحثُ في الأهل عن إجاباتٍ لاستفساراتي فسألتُ سؤالين خرجت بهما من بعد تفكير طويل لم أعثر لهما على جواب. السؤال الأول: كيف يزيدُ عدد الناس؟ إن كان لا يولدُ مولودٌ إلا قدْ جاءت روحهُ منْ آخرَ قد مات؟؟؟
    السؤالُ الذي لم أجد له جواباً عند أحد من الدروز حتى هذا اليوم, فالمعروف بديهةً أنه ما من قبيلةٍ أو قوم أو حتى عائلة إلا ويزيد عدد أفرادها مع مرور السنين ولن يكون الأموات في قوم مساوياً لعدد المواليد أبداً، والعجيب أن أحد الأجاويد قال لي:" نحن لا يزيد عددنا منذ بدأ الزمان".
    والسؤال الثاني: وفقاً لعقيدة التقمص هل سأتذكر من كنتُ في حياتي الماضية وكيف كنت أعيش؟ قالوا : لا(1). فقلتُ: إذاً الموت هو الموت الذي لا شيء بعده. تموت فتدفن في قبرك و وينتهي هذا الجسد إلى الأبد

    (1): يتناقل أكثر الدروز أخباراً عن قلة منهم يتذكرون من كانوا في حياتهم السابقة ويسمونهم النطقاء, بالعامية يقولون
    " فلان ناطق " أي نطق بما كان عليه في حياته السابقة.

    ولمَّا فكرتُ في القبر كادَ قلبي ينخلع من الرعب ورحتُ أسأل نفسي: كيف أعيش على هذه النظرية وأعدُّها دينا وهي لا تصح عقلاً و لا نقلاً إذ لم أقابل أحداً في حياتي يتذكر شيئاً عن حياته السابقة, علماً أن عائلتي من الأرحام تقارب المئة شخص، فبدأت النظرية تنهار في نظري منذ تلك اللحظة.
    في الليلة التالية بدأتُ أفكر في قول المسلمين بأنَّ المرء إن مات لا يعود إلى الحياة أبداً و يُفضِي إلى ما قَدَّمْ، ويحْيِيِه الله يوم القيامة ويحاسبه, فإما إلى جنةٍ وإما إلى نار!!! ولا أراني – على ما كنتُ عليه – إلا من أهل الثانية، وذلك أنِّي كثيراً ما كنتُ أؤذي الحرث والنسل(1). الفكرةُ التي سرعان ما طردتها لما قد تؤول الأمور إن كانت هي الحقيقة بشأن ما بعد الموت. دخلت في دوامةٍ من التفكير في الموت وما بعده. في الصباح, قمت أسألُ وأبحثُ عن كتبِ ملَّتنا التي تبصِّر الشخص بدينه لأعلمَ ما بعد الموت(2), لكني تفاجأتُ بكل من حولي من الأهل يقول: مازلتَ صغيراً على تعلُّم أمور الدين ولن تفهمَ شيئاً أصلاً (3)، تتعلم إذا بلغتَ الأربعين. وفعلاً لم أجد يومئذٍ إلى أيٍّ من كتبِ ملتنا سبيلاً.
    وكنتُ آنذاك ابن عشرين عاماً. قلتُ:عجباً لأمركم ! وإن متُّ قبلَ الأربعين؟؟ قالوا: لا شيء عليك(4). كلام لم أرتح له ولم تهدأ له نفسي. فما زلتُ أبحث حتى وصلتُ إلى كتاب الحكمة، (كتاب الدروز المقدس) عند أحد الأقارب. أخذته أخذ الظمئان الذي وجد الماء وبدأت أقرأُ بِنَهَمٍ ولم يعترض قراءتي إلا صعوبة فهم الكلام إذ يكثر فيه من كلام الفلاسفة القدماء, وكنتُ أعالجُ ذلك بكثرة تكرار النصوص, وأيامٌ من القراءة جمعت منها كثيراً من الأسئلة والملاحظات ...

    (1: الحرث والنسل مصطلح قرآني يعني الإنسان والحيوان والنبات.
    (2): مثل كتاب الحكمة, وهو مجموعة رسائل ألَّف أكثرها حمزة بن علي، مستشارُ و وزير الحاكم بأمر الله، وفيه أغلب أحكام الدين.
    (3): كتب ملة الدروز يكتنفها الكثير من الغموض, حتى إذا قرأها العاقل لم يفهم شيئاً, ويقال أنت لا تستطيع أن تفهم هذا الكلام, بمعنى أنه أعلى من مستواك، فكيف يكون هذا منهجاً للحياة, والدين ما هو إلا لإصلاح الحياة, وكيف يحل كتاب مشاكل الناس إن كان لا يفهمه أحد, فيفسره البعض على هواهم. فالبليغ هو الذي يفهم كلامه أي أحد.
    (4): هذا ظن العوام, أما العقلاء "الأجاويد" فيَرَونَ شخصاً مثلي (غير جويِّد), فاسقا أو كافراً وأسوءَ من المسلمين واليهود والنصارى.





    أما الأسئلة فيبدو أنه لم يكن في كل معارفنا شخص على القدر الكافي من العلم للإجابة عليها، وأما الملاحظات التي خرجت بها فكان كل من أكلمه عنها ينكرها وينفي أن يحتوي كتاب الحكمة مثل هذا الكلام، فلما أخرجت لهم النص بالصفحة قالوا, إن هذا الكتاب ليس بالكتاب الأصلي من الحكمة لأن الأصل موجود في الهند. قلتُ : وأين نحن وأين الهند؟ وإجابات غريبة أُخرى، وهل نتبع الآن كتاباً محرفاً أم ماذا؟ كل ما كنتُ أحصل عليه كان أشبه بالهروب من الإجابة.
    مرت شهور وشهور وأنا لا يقال لي فلان عارفٌ بالملة إلا قصدته، ولا ألْمَحُ جلسة يكثر فيها الأجاويد إلا حضرتها رغبةً في إرواء ظمئي، ولكن بدون جدوى.
    فخطر ببالي القرآن, فقلتُ لما لا أقرؤه, بالرغم من أنهم يقولون تأليفُ (محمد)(2), قلتُ لعلِّي أجدُ فيه إجاباتٍ عن بعض تساؤلاتي. فأحضرت القرآن من مكتبة المنزل, ولم يكن القرآن هناك إلا كدليلٍ على تنوع المكتبة وثقافة أهلِ المنزل، ولم يكن قبلي أحدٌ في المنزل يمسُّه. وكنتُ أجهلُ القرآن تماماً إلا بعضَ السور التي مرَّت معنا في المدرسة.
    موعدٌ مع القرآن
    انتظرتُ حتى نام الجميع وأحضرتُ ورقة وقلَماً لأدوِّن ملاحظاتي وما أخلُص إليه, وقلتُ أُقَلِّبُ صفحات القرآن لَعلِّي أكشفُ نقاط ضَعف هذا الكتاب وأثبتُ للعالَم أنه فعلاً من تأليف محمد وليس منزَّلا من عند الله كما يظن المسلمون السُّذَّج، وأريحُ الناس من بحثٍ طال أمده وأعيا الناسَ ختامه, وربما أكون بهذا ممن يغيرون مسار التاريخ ويكون ذلك خطوة في طريق بحثي عن الحقيقة. كنتُ أحبُّ اللغة العربية والشِّعر حباً شديداً, وكنتُ وأؤلف بعض الأبيات من حينٍ لآخر, وهناك بدأت رحلتي مع القرآن في صيفٍ لا أنساه ما حييت.


    بدأتُ بالفاتحة التي كنتُ أحفظها أصلاً ولكن الصفعة الأولى كانت مع الآيات الأولى من سورة البقرة....

    {ألم * ذلك الكتابُ لا ريبَ فيه هدى للمتقين}
    هزتني هذه الآية وموقعها, إذ هي أول ما يلقاه قارئ المصحف بعد الفاتحة, وكأنها رسالة لكل متحدٍ لهذا الكتاب, ولكنِّي لم أكن لأستسلم عند أول عقبة, ومحمد كما يقال عندنا ، رجل عبقري، فمضيتُ في القراءة, و لم أكن أفهمُ كل الآيات فتركت القرآن تلك الليلة ورحت أبحثُ عن تفسير القرآن حتى ظفرتُ به، بحيث أتابع القراءة مع التفسير، وهذا ما حدث فعلاً وهكذا كل ليلةٍ أقرأ بضعَ صفحات ولا أجاوزُ آية حتى أحاول فهمها.

    أنتيهتُ من سورة البقرة بعد شهر أو أكثر، وكثيراً ما كانت الآيات تهزني وتستوقفني وأشعر بقوةِ المتحدث كقوله سبحانه:
    {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.وقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

    وشيئاً فشياً كنتُ أتعلَّق بالقراءة وتتغير مشاعري نحو القرآن, وكم مرةً كان يدركني الفجر وأنا جالس. وكنت أتحاشى أن يراني أحد من أهلي فالتَّوجُّهُ للدين ليس مستحباً عندنا، وكنتُ أقرأ على مهل, و كنتُ أقفُ عند آياتٍ كان يقشعر منها بدني وأُخرُ تدمع لها عيناي, كقوله:

    (2): يظنُّ الدروز أن بعض آيات القرآن من عند الله ولكن سلمان الفارسي y هو الذي لقمها لمحمد
    r وهو يضربه والبقية ألَّفها محمد صلى الله عليه وسلّم يقول عوامهم عنه نابغة رجل فذ ذكي ولكن ليس نبياً أما الأجاويد فيخوضون فيه

    {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}
    إذ أحسست أن هذه الآية تخاطب ملتنا وأمثالها, وتتحدث عمن يتبع أباه وجده بلا أدنى تفكير فيما هم عليه. ومضيتُ في القراءة وصرتُ أقول في نفسي: .. ما أظن أن يكون بشراً مثلي من ألَّف هذا الكتاب مهما كان على قدرٍ من العلم والدهاء. فإنَّ نبرة القوة التي تخرج بها آيات القرآن لا مثيل لها وهو والله كتاب يأتي بجديد لا يخطر لأحدٍ على بال. ويكشف خباياً ما لأحد إليها من سبيل . جَزْلُ المعاني و حَسَنُ المباني ولا يمل قارؤه, وكنت أخطِئُ أحيانا بالقراءة فإذا وضعت كلمةً مكان أخرى أجد المعنى قد اختلَّ كلياً فأعجب وأقول: أُغيِّرُ حرفاً فيذهب بالمعنى كلِّه أو يقلِبُه, عجيبةٌ حبكةُ القرآن. ولا زلتُ أسهر أقلِّب صفحات القرآن وهو يقلِّب قلبي حتى علمتُ أنه ليس بكلام بشر فلما أنهيتُ سورة آل عمران انشرحَ صدري وأطلقتُ العنان للصوت الخافت في قلبي فوجدتُني أقولُ بصوتٍ عالي... أشهد أن هذا القرآن كلامُ اللهِ خالق الكون, وأشهد أنَّه لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله ... الَّلهم فاشهد, فأسلمتُ في غرفتي فوالله ما دعاني إلى الإسلام داعية ولا أحد, فأعترف لله سبحانه بالفضل والمنة, مع تحفظي آنذاك على الشهادة الثانية.

    الشهادة الثانية

    وبدأتْ في هذه الفترة رحلة مع الشك ، والعياذ بالله، فما كان الشيطان ليدعني وشأني. الآن بعد أن نطقت كلمة التوحيد من أعماق قلبي، صار في قلبي ما يوسوس فيه بعد أن كان خرباً لا حاجة له فيه إذ ليس بعد الكفر ذنب, كل يومٍ كان يأتيني هاجس, هل تسرَّعتُ؟ هل كلُّ أهل ملَّتي الأولى كفار ومصيرهم النار؟ ولكن المسلمين أكثر عدداً إذ يزيدون عن المليار ونصف. وهاجمتني تساؤلات كثيرة أخرى عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إذْ كان قد زُرعَ في صدرِ كلِّ درزيٍ منذُ نعومةِ أظفارِه كرهُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبغضُ المسلمين(1). ولِمَ تزوج كذا وكذا من النساء؟ ومتى تزوج فلانة؟ وهل دفعته الشهوة لذلك أم ماذا؟ وأسئلة أخرى كثيرة أثارها الشيطان في عقلي ليزعزع إيماني. ولكنَّي رحتُ أفكر بعقلانية وتجرُّد, فقد كان من شأن الملوك في العصور القديمة إذا أرادوا بعثَ رسالةٍ أنْ يختاروا من أتباعهم من الرجال أشدَّهم وأصلحهم لحَملها وتبليغها ! فكيف بملك الملوك إذا أراد أن يبعثَ رسالةً هي الأخيرة إلى خلقِه، فمن يختار رسولا ؟؟؟!!! قلتُ لنفسي إنْ كنتُ قد صدَّقتُ كلام الله بكل حروفه وهو يقول جل وعلا في محكم آياته مُزكِّياً رسوله ومبرئاً إياه من كل عيب:
    ) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(
    وقال أيضاً ) يس * والْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* تنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ(
    وقال سبحانه: )مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(
    ثم كيف يكون القرآن تأليف محمد وفيه آياتٌ يخاطب الله فيها رسوله فيقول: ) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ* وَمَا لَا تُبْصِرُونَ *إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ *وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ *لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(
    ويقول سبحانه معاتباً نبيه : )وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا(
    فكيف يستقيم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم ألَّف القرآن وفيه الكثير من الآيات التي فيها عتاب له, وتُسْفِرُ عن صدق الرِّسالة مثل الآية التي تقول: ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناسَ واللهُ أحقُّ أن تخشاه) فوالله لو أراد النبي كتم أو محو شيءٍ من القرآن لمحا هذه. وكذلك ( عبس وتولى * أن جاءه الأعمى...الآيات) فهذه الآيات فيها عتابٌ شديد للنبي, ولها على النفس أثرٌ شديد, لا يرغب أحدٌ أن يحدِّث نفسه بها فضلاً عن إشهارها بين الناس. ثُمَّ كيف يؤلِّف أحدٌ كتاباً بعظمة وشهرة القرآن ثم ينسبه لغيره؟ فكان الأولى أن ينسبه لنفسه فيشتهر به. وإن ألَّف أحدٌ كتاباً أفلا يُكثر من ذكر اسمه فيه؟ ألم يكن من أعظم شأن العرب التفاخر والتباهي وشعر الجاهلية على ذلك شاهد, فإن القرآن لم يُذكَر فيه اسم محمد إلا أربع مرات, وهو يقارب الستمئةِ صفحة.
    وكذلك علمتُ فيما بعد أن الشهادة الثانية هي الطريق الذي أوصلنا للشهادة للأولى فإن محمداً هو الذي بلَّغَنا القرآن وعرَّفنا بصفاتِ الله وأسمائه, فكيف أصدقُ كلَّ حرف في القرآن وأتَّهمُ المبلِّغ والرسول الذي أوصله إلينا, ثم إنه كان قد حاز لقب الأمين في قريش قبل أن ُينزَّلَ عليهِ القرآن, أفَيَخُونُ بعده ؟ الَّلهمَ نُشهدك أن رسولك بلَّغ فنعمتِ الرسالة ونعم الرسول صلى الله عليه وسلم.
    كما أن الله سبحانه يعلَمُ الغيبَ كلَّه, ما كان وما سيكون, وما لم يكن, لو كان كيف يكون. فهو يعلم سبحانه أن الناس سيقولون افتراه فردَّ عليهم الله تباركَ وتعالى في كثيرٍ من المواضعِ في القرآن كقوله جل وعلا:
    } أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِين * وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ {

    وقال أيضا جلَّ في علاه:
    } أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ * مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ{
    ويقول سبحانه رداً على من يقولون بأنَّ محمد شاعر:
    }فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ{
    وظللتُ أبحث في أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم حتى استقر حبُّه في قلبي وخاصة بعدما بدأت أقرأ في كتاب رياض الصالحين (1) وسيرةِ النبيِّ المطهرة، ولسان حالي يقول:
    لقد رسَختْ في القلب منكِ مَودّةٌ ... كما رسَختْ في الراحتين الأصابع
    ثم تابعتُ القراءة وكل سورة تأخذني إلى عوالمَ كنتُ أجهلها ورحتُ أحلِّق بين الأمم الغابرة تارة, وفي عالم الآخرة من جنة ونار تارةً أخرى. في هذه الأثناء نسيتُ أصلاً أمر مرضي، وعافاني الله من كلِّ آثار الحادث، كما كان إحساسي بالوقت يتوقف فتمضي الساعات الطوال ولا أشعر فتغلبني جفوني فأنام والمصحف في يدي, أو أنتبه بأشعة الشمس تدخل غرفتي.
    وعلمتُ من مطالعتي لكتابِ الله أهمية الصلاة وقيمتها العظيمة في هذا الدين، كقول الله سبحانه: } كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (2)* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ

    (1): كتاب ورد فيه كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأوامره.
    (2): سقر هو من أسماء النار واسم لأحد طبقاتها ولأحد أبوابها.


    فعزمتُ أن أصلي وكنتُ لا أعلمُ من الصلاة إلا ما أراه في التلفاز، فقمتُ ذات ليلةٍ فكبَّرتُ بغيرِ وضوء وعلى غيرِ قبلة ثم ركعتُ ولم أقل شيئاً في ركوعي ثم سجدتُ ورحتُ أحمدُ الله, وأذكرُ مما قلت في ذلك السجود الطويل: " ربي وخالقي أشعرُ أنك خَصَصْتني بخيرٍ كثير فَلَكَ الحمد" ورحتُ أكررها مراراً كثيرة.
    بقيَتْ هذه صلاتي سنتين, حتى لقيتُ إخواناً طيبين في الجامعة, أربعٌ من شباب المسلمين, سَكَنْتُ معهم في نفس الغرفة في المدينة الجامعية. كان أحدهم أكثر تديناً من البقية,
    ومن حديثٍ لآخر فتحتُ له قلبي وقلت له أني أؤمن بالقرآن وبالنبي عليه الصلاة والسلام, فقال: ولماذا لا تصلي؟ قلت: لا أعرف كيف أصلي، فعَلَّمني الغُسل والطهارة والوضوء والصلاة بصورة صحيحة، فاغتسلتُ غُسْلَ الإسلام وجددتُ شهادتي ولزمتُ الصلاة ما استطعت, وكنت ألقى عجباً في السجود, فقد كان شاقاً علي جداً كأنما قد أصبحت الجاذبية من جهة السماء, أمراً علمت فيما بعد أنه لربما كانت شياطينُ الأرض كلها تريد أنْ تَحُولَ بيني وبين الصلاة, فثبتني الله له الحمد والمنة, وكنتُ بادئ الأمر أصلي خلسةً فيقولُ لي صاحبي: هلمَّ نصلي في المسجد, فأقول: لا أريد أن يراني أحد حتى أتبين أمري, قال إذاً نخرج غداً لصلاة الفجر فأكثر الذين يعرفونكَ نائمون, فقلتُ إن شاء الله.

    النَّفَسُ الأول
    أيقضَني صاحبي وقال قُم نُصَلي الفجرَ في المسجد، فقمتُ وتوضأت, ومشينا وأنا أتلفت يمنةً ويسرة حتى دخلنا المسجد فإذا فيه العشرات, هذا يصلي وذاك يقرأ القرآن وآخرُ يذكر الله, أولادٌ وشبابٌ وشيوخ، قلت: سبحان الله, هؤلاء هجروا الفراش والدفء والنوم وقاموا يذكرون الله ويسبحونه, وقَومي الآن نائمون، لا يستوون.
    جاء الإمام وصلينا ومكثْنا قليلاً وكل يتمتم بأذكار ما بعد الصلاة ثم خرجنا. وما إنْ خطوتُ خارج المسجد ورفعتُ رأسي شعرتُ بانشراحٍ في صدري لم أشعر به مذ وُلدتُ، كأنما الهواء أول مرةٍ يدخل صدري, سبحان الله كأنِّي لم أكن أتنفس, مشينا مع شيوخ المسجد وهم يخرجون سوياً ويذكرون الله وهم خارجون, حتى يصلوا إلى قارعة الطريق ، فيفترقون كلٌ إلى بيته. لم أنسَ ذلك الفجر حتى اليوم ، وأنا أعدُّهُ فجر حياتي وأول يوم فيها, فاضتْ عيناي على ما فاتني من لذة العبادة وما علمت من عِظَمِ أثرِ الدِّين في حياة الناس، فوالله لو شئتُ لرسمتُ ذلك المنظر الذي رأيتُه عندما خرجتُ والرياحُ تداعبُ أغصانَ الأشجار في باب المسجد فتتمايلُ نحوي كأنَّها تهنئني، فالَّلهم لك الحمد كما في قلبي من امتنان يعجز عن تبيانه لساني وأنت أعلم بما في الصدور، لك الحمد عدد خلقك ورضى نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك. وأعتبرُ بداية إسلامي يومَ لزمتُ الصلاة, وليس يوم قبلتُ الشرع وصدَّقتُ به.
    يقول الله سبحانه أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ* أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ(

    الفتن والثبات حتى الممات

    ما إن نفضتُ عن قلبي غبارَ الشَّك، واستقَرَّ في صدري أنَّ الإسلام هو دينُ الحق، دين الله ورسله، وأن الله جامع الناس ومحاسبهم على أعمالهم، حتى راحتْ فتنٌ عظيمةٌ تعصفُ بحياتي كالريح الهوجاء. عدتُ من الجامعة وأنا عازمٌ على دعوة أبي وإخوتي وأعمامي فدعوتهم بما عندي من علم وقلتُ لهم أن كل من على الأرض يجب أن يكون مسلماً ويقيم الصلاة وسائر أركان الدين ويعودوا لدين أجدادهم القويم قبل ألف ومئة عام فرفضوا وجادلوني وطال جدالي معهم ولم ينته السجال بيننا حتى أصرَّ والدي ألا أصلَّي, وإلا طردني من البيت, وذات مساء احتدم النقاش بيننا فغّضِب أبي غضباً شديداً ضربني وآذاني ويومها خفف الله عن قلبي ثقل ما حدث فصبرتُ وخرجتُ منَ البيت في مشهد رهيب أسوء ما فيه كان بكاء أمي وأخواتي ووقفت عند باب البيت وقلت: اللهم أنت تعلم أن أبي قد منعني من الصلاة فإني مهاجر إليك وأعلم أن أرضك واسعة وأنك خير الرازقين. وجدتُ سكناً مع بعض أصدقائي المسلمين ولم يطل غيابي عن البيت بعدما توسط بعض الأقارب وأرجعوني لأُصالح والدي, ففعلتُ لأني علمتُ حقه في الإسلام ولم أكن أعلم بحق الوالدين عندما كنت درزيا إلا كلمة عيب هذا والدك أوهذه أمك, لا قال الله ولا قال رسوله. و لم أعد للبيت بعدها إلا زائراً أصل رحمي, وما كنتُ أوَّلِّي ظهري مغادراً إلا وعيناي تذرفان لمحبتي للبقاء عند أمي وإخوتي الصغار إذ أنا أكبر إخوتي, وكذلك أمي كانت تبكي لخروجي وأنا أعلم أني إن بقيت لن أستطيع الصلاة. استمرت هذه الحالة خمس سنين حتى مرضتُ ذات يوم فعجزت لمرضي عن القيام لتناول الدواء, وكنت أسكن في غرفة وحيداً فأشفقتُ على نفسي وشقَّت علي وحدتي، وخطر ببالي أنه لو كان لي زوجةٌ تؤنس وحدتي وتهتم لشأني وأسكن إليها, ولكن كيف ذلك؟ وكل ما معي لا يغطي حتى ربع تكاليف الزواج فرفعت يديَّ داعياً وقلت: اللهم إن كل شابٍ إن أراد الزواج يطلبُ ذلك منْ وليِّه, اللهم أنت وليِّي في الدنيا والآخرة وليس لي أحد سواك زَوِّجني ممن يرضيك دينها وخلقها وحسنها وأنت أرحم الراحمين. فوالله ما انقضتْ بضعة شهور حتى وجدت نفسي في بيت مع زوجةٍ أحسبها صالحة ولا أزكي على الله أحداً, تمَّ الزواج بسهولة حيث ساعدني أحد الصالحين والحمد لله. فسبحان الله الذي ليس يعجزه شيءٌ وهو على كل شيءٍ قدير وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
    مضى على زواجي الآن خمسة أعوام ورُزِقتُ بأولادٍ نشؤوا على فطرة التوحيد, أسأل الله أن يثبتني وإياهم، وأن يهدي أهلي وقومي أجمعين لدينه القويم هو أهل لذلك وعليه قادر. وهذا حالي إلى اليوم، وما هدى الله أحداً إلا ابتلاه حتى يعلمَ صِدقَه وقد قال سبحانه في محكم التنزيل:
    ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )
    ثم علمتُ أن العِبرةَ في الثبات وحسنِ الختام, فقد يجعلُ الله أناساً جسوراً يعبُرُها غيرهم إلى الجنة ثم يُلقى بهم في النار, فأعوذ بوجه الله ونوره أن أكون منهم, فوالله ما أسلمتُ إلا طمعاً بلقاء الله وجنته, أعوذ بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء. هذه قصتي أرويها وما أريد بها إلا الخير لمن نشأتُ بينهم، مَنْ زرعوا بذورَ الخيرِ في نفسي, فلن أنساهم وأعلمُ إلى اليوم أنَّ كثيراً من الدروز عندهم من المروؤة والكرم والشجاعة والشهامة الشيء الكثير, وجُلُّ أملي أن يكمِّل الله بالدين هذه المكارم التي عندهم، فإن كل هذه الصفات الحميدة لا يقبلها الله يوم القيامة إن لم تُبْنَ على توحيد خالص لا يشُوبُهُ شرك.
    وأُذكر نفسي وقومي بقول القائل:
    يوم القيامةِ لو علمت بِهَوْلِهِ لَفَرَرْتَ مِنْ أهلٍ ومِن خِلَّانِ
    وأرجو أن يكون الدروز كلهم مسملين, و سيكونون بإذن الله. وأحسبهم سيكونون من خيار المسلمين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا.
    ويبقى حُلمي من يوم أسلمتُ أن يعمَّ التوحيد الحقيقي قلوب الدروز وأن أرى مئات المآذن تعانق سماء مدينتي وأصوات الأذان تشنِّف آذان المؤمنين ويكون في كل حي مسجد يملؤه العابدون الراكعون الساجدون من أهلي وعشيرتي.
    وكذلك العبرة بالخواتيم فأرجو أن يحسنَ اللهُ خاتمتي والمسلمين, ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عاش على شيءٍ ماتَ عليه ومن مات على شيءٍ بُعِثَ عليه". وأسأل الله العظيم رب الخلق أجمعين لي وللمسلمين باسمه الأعظم الذي إذا سُئِلَ به أعطى وإذا دُعِيَ بهِ أجاب أن أحيا على لا إله إلا الله, وأموتَ عليها ولها، وأن أُبعثَ عليها من الآمنين, وأن يجعل أهلي و ذُرِّيَّتي كلهم من المؤمنين والعلماء العاملين والشهداء الصادقين إلى يوم الدين.

    وأختم قصتي بقول الله العظيم الجليل: ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ )
    وآخر دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الصلاةِ وأكملُ التسليم على النبيِّ الخاتَمِ الأمين وعلى آلهِ وصحبهِ والتَّابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.


  • #2
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    انا نقلت القصه من صاحب القصه وهو حاليا صديقي ما شاء الله عليه
    ويوجد من اسلم على يد اخي الكثير من ابناء السويداء ربنا يجزيه كل خير يا رب

    تعليق


    • #3
      يالها من قصه......
      سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله

      ثبتك الله أخانا الكريم وبلغك مرادك انه هو الله أرحم الراحمين
      وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ

      تعليق


      • #4
        أسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة من عنده وأن يجعله وأهله من الصالحين ألأخيار.

        تعليق

        مواضيع ذات صلة

        تقليص

        المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 23 فبر, 2024, 01:11 ص
        ردود 0
        15 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
         
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 23 فبر, 2024, 01:09 ص
        ردود 0
        10 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
         
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 9 فبر, 2024, 12:43 ص
        ردود 0
        10 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
         
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 24 ديس, 2023, 12:22 ص
        ردود 0
        25 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
         
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 20 نوف, 2023, 12:34 ص
        ردود 0
        32 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
         
        يعمل...
        X