قصة ليوبولد فايس (المستشرق اليهودي)

تقليص

عن الكاتب

تقليص

فارس الفرسان مسلم اكتشف المزيد حول فارس الفرسان
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصة ليوبولد فايس (المستشرق اليهودي)

    محمد أسد
    (ليبولد فاس سابقًا)


    تعريف مختصر:
    محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً)ولد في بولندا عام 1900،توفي في 1992م. كاتب نمساوي مسلم و مفكر اسلامي (يهودي سابقاً) درس الفلسفة في جامعة فيينا؛ وعمل مراسلا صحفيا وسفيرا. و طاف العالم. ثم استقر في إسبانيا و توفي فيهاودفن في غرناطه.
    ترجم القرآن للإنكليزية؛ وأكد أن اليهود حرفوا معاني كتابهم، وأن البشارة بمحمد مازالت في النسخ الحالية: وساق التثنية 18: 18 كمثال.







    الغريب في قصة إسلامه:
    1 - كان قد تربى في بيئة لادينية
    2- انكب في صغره على الكتب اليهودية و تعلمها و أصبح متدينا
    3- كان على عكس أغلب المستشرقين يزور البلاد الإسلامية و يحتك بالمسلمين.
    4- أنه كان محظيا لدى وسائل الإعلام بحكم اتقانه للغات العرب و شهرته الواسعة


    قصة اسلامه كما كتبها بنفسه في كتابه "الطريق إلي مكة":

    فغانستان شتاء 1926
    كنت فى طريقى راكباً من هرات لكابول بصحبة إبراهيم ، ودليل أفغانى الجنسية ، نسير خلال جبال مدفونة مغطاة بالجليد ، ووديان وطرق فى " هندو- كش " فى وسط أفغانستان . كان الطقس باردا والجليد يتألق ، وتقف على كل الجوانب جبال بيضاء ، وأخرى سوداء .
    كنت حزينا ، وفى نفس الوقت بشكل غريب كنت سعيدا هذا اليوم ! أما حزنى ، فقد كان لأن من كنت أعيش معهم فى الشهور السابقة ، كانوا محجوبون ببلادة ، عن حقيقة النور ، والقوة ، والتقدم ، الذى يعطيه لهم إيمانهم ، وفى نفس الوقت كانت سعادتى ، بأن هذه الحقيقة والنور ، والقوة والتقدم ، فى متناول يدى تقريبا الآن ، وأمام عينى ، كهذه الجبال الشامخة البضاء والسوداء التى أمامى .
    بدأ حصانى يعرج وكأن شيئا فى حافره ، ووجدت أن الحدوة الحديدية أصبحت معلقة فقط بمسمارين .
    سألت رفيقنا الأفغانى ، هل هناك قرية قريبة نجد فيها حداد ؟
    نعم ، قرية " ديهزانجى " تقع على بعد أقل من ثلاثة أميال ، يوجد بها حداد هناك ، وبها قصر حاكم " هزرجات " .
    وهكذا اتجهنا إلى هذه القرية ، وتمهلنا فى المسير حتى لا نرهق الحصان .
    حاكم المنطقة ، كان قصير القامة ، وكان مرحا الطلعة ، وودود ، وكان سعيدا أن يستضيف أجنبيا عنده فى قصره البعيد عن العمران ، والمتواضع . وقد كان هذا الحاكم قريب للملك " أمان الله " ، ومن المقربين له ... وقد كان من أكثر من قابلت تواضعا فى أفغانستان . وقد أصر على بقائى فى ضيافته ليومين .
    وفى مساء اليوم الثانى ، جلسنا كالعادة لعشاء دسم ، وبعد العشاء حضر رجل من القرية ليطربنا بأغانى شعبية ، مصطحبا قيثارة بثلاث أوتار ، وكان يغنى بلغة الباشتو التى لم أفهمها ، ولكن بعض الكلمات الفارسية كانت تخللها بوضوح ، فى الغرفة الدافئة المغطاة بالسجاجيد ، بينما وميض الثلج البارد يظهر من خلال النوافذ . أتذكر أنه كان يغنى عن المعركة بين داوود وجالوت ، وبدأها بنغمة متواضعة ، ثم تدرجت إلى بعض العنف ، وأنتهت بروح الإنتصار .
    وبعد أن انتهت ، قال الحاكم أن داوود كان شابا ، ولكن إيمانه كان قويا ....
    ولم أتمالك من التعليق ، فقلت " كذلك أنتم كثيرون ولكن إيمانكم ضعيف " .
    نظر إلى المضيف بدهشة ، وارتباك لما تطوعت وذكرته ، فأسرعت لأوضح قولى . وأخذ توضيحى شكل سيل من الأسئلة :::
    لماذا فقدتم أنتم المسلمون ثقتكم بأنفسكم ، التى فى القديم ساعدت على نشر الإيمان بالإسلام فى أقل من مائة عام ، من الجزيرة العربية غربا إلى المحيط الأطلسى ، وشرقا فى العمق إلى الصين - والآن تستسلمون بضعف ، إلى الأفكار والعادات الغربية ؟ لماذا لا تستطيعون أنتم يا من كان أباؤكم الأوائل أناروا العالم بعلمهم وفنهم ، بينما كانت أوروبا تغض فى بربرية وجهل مدقع ، فلتعملوا من الآن على أن تعودوا لإيمانكم الخلاق ؟ كيف أن هذا الأتاتورك التافه ، الذى ينكر كل قيم الإسلام ، قد أصبح عندكم رمزا لإحياء الإسلام ؟
    استمر مضيفى فى صمته . وبدأ الجليد ينهمر فى الخارج . ومرة ثانية غمرنى الشعور المزدوج ، بالحزن والسعادة ، الذى انتابنى حينما اقتربت من " ديهزانجى " . أحسست بالفخار لما قد كان ، وبالخجل لما عليه أبناء حضارة عظيمة .
    هل لك أن تدلنى - كيف أن الإيمان الذى دلكم عليه نبيكم ، وكل هذا الوضوح والبساطة ، قد دفنت تحت أنقاض الثرثرة المتحزلقة ، والشجار بين علمائكم ؟ كيف أن أمراءكم والإقطاعيين يعيشون فى رفاهية ، بينما إخوانهم من المسلمين ، يذوقون الفاقة والفقر المدقع ، فى حين أن نبيكم يقول أنه لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع ؟ هل لك أن تشرح لى كيف نبذتم النساء خلفكم ، بينما نساء الرسول " صلى الله عليه وسلم " ، وصحابته كن يشاركن الرجال فى أمورهم الهامة ؟ كيف وصل الحال بكم أنتم المسلمين إلى الجهل والأمية ، فى حين يقول نبيكم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، وفضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر النجوم ؟
    ظل مضيفى يحملق فى دون كلام ، وابتدأت أشعر أن ملحوظاتى قد أحبطته . أما الرجل ذو القيثارة كان لا يعرف الفارسية بدرجة تجعله يتتبع كلامى ، وأخذ يتعجب من هذا الغريب الذى يتكلم بهذه النغمة مع الحاكم . وفى النهاية ، أخذ الحاكم رداءه المصنوع من جلد الغنم وتدثر به ، كما يكون قد أحس بالبرد ! وهمس لى :::
    " لكنك أنت مسلم .... " .
    أخذنى الضحك وأجبت : " لا ، أنا لست مسلما ، ولكنى ألممت ببعض القيم فى الإسلام التى تجعلنى أغضب فى بعض الأحيان ، كيف أنكم أنتم أيها المسلمون تضيعونها ... أعذرنى إذا كنت قد أسأت فى الكلام ، أنا لا أتكلم معك كعدو " .
    ولكن مضيفى هز رأسه قائلا " لا فكما قلت لك ، أنت مسلم ، ولكنك لا تعرف نفسك ... لماذا لا تنطق الآن وهنا بالشهادتين " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وتصبح مسلما فى حقيقة الأمر ، فإنك مسلم قلبيا ! قلها يا أخى ، قلها الآن ، وسأصطحبك غدا لكابول لملاقاة الأمير ، الذى سيستقبلك بذراعين مفتوحتين كشخص مثلنا . سيمنحك منازل وحدائق وأغنام ، وسيحبك ، قلها يا أخى ... " .
    " إذا قلت ذلك ، سيكون نتيجة لأن عقلى قد استراح ، وليس نتيجة لأن الأمير منحنى المنازل والحدائق " .
    " ولكن " أصر مضيفى " أنت تعرف كثيرا عن الإسلام ربما أكثر من بعض المسلمين ، ما هو الذى ما زلت تريد أن تعرفه ؟ " .
    " المسألة ليست مسألة فهم ، إنها مسألة إقتناع ، الإقتناع بأن القرآن الكريم هو فعلاً كلمة الله ، وليس مجرد كلمات من شخص نابه ذكى ذو عقلية متفوقة ... " .
    ولكن كلمات صديقى الأفغانى أخذت تراودنى ولم تتركنى لشهور عدة !!!
    *** أكملت رحلتى عبر أفغانستان عائدا مرة ثانية إلى هرات التى كنت قد ابتدات منها ، وكنا نقترب من الشتاء عام 1926 ، وهكذا تركت هرات فى المرحلة الأولى لطريق العودة للوطن ، مستقلا القطار من الحدود الأفغانية إلى " ماف " فى التركستان الروسية ، ثم إلى سمرقند ، بخارى إلى طشقند ومن ثم مارا بسهول التركمان إلى جبال الأورال ، ثم موسكو .
    وهالنى الدعاية والمعلقات التى تهاجم الدين والألوهية أينما أحل أو أرتحل " وسأتوقف عن ذكرها لأنها مقززة " .
    وبشعور بالراحة عبرت الحدود البولندية ، بعد أسابيع أمضيتها فى آسيا ، وروسيا الأوروبية . واتجهت مباشرة لفرانكوفرت حيث الجريدة التى أعمل بها حيث استلمت عملى . ولم يمض وقت طويل حتى اكتشفت أنه أثناء غيابى ، قد أصبح اسمى مشهورا ، وأنى الآن أعتبر من المراسلين المرموقين فى وسط أوروبا . فبعض مقالاتى ... خصوصا تلك التى تناولت النفسية الدينية المعقدة للإيرانيين - والتى قد جاءت نتيجة لملاحظات علماء شرقيين بارزين ، واستقبلت أكثر من أنها معارف عابرة . ونتيجة لأهمية هذا الإنجاز ، فقد دعيت لإلقاء مجموعة من المحاضرات فى أكادمية الجغرافيا السياسية ببرلين - حيث قيل لى أنه لم يسبق أن حدث من قبل أن شخصا فى حداثة السن مثلى " حيث كنت حينئذ فى السادسة والعشرين " ، قد منح هذا الإمتياز . كما قمت بتدبيج مقالات أخرى عامة بتصريح من مجلة " فرانكفورت زيتنج " ، فى صحف أخرى ؛ وقد أعيد طبع إحدى المقالات كما أعلم ثلاثون مرة تقريبا . وبمعنى آخر ، فإن رحلاتى الإيرانية ، قد أثمرت ....
    وفى هذا الوقت تزوجت : إلسا " . السنتان اللتان أمضيتهما فى الخارج ، لم يضعفا من حبنا البعض ، بل زادته قوة ، وبسعادة غامرة لم أشعر بها من قبل ، استقبلت تعليقاتها على الفرق الكبير فى السن بيننا .
    " ولكن كيف تتزوجنى ؟ " ، بدأت فى النقاش معى . " أنت لم تصل بعد للست والعشرون عاما ، وأنا فوق الأربعين ، ألا تفكر فى ذلك ، حينما تصل للثلاثون ، سأكون أنا فى الخامسة والأربعون ، وحينما تصل أنت للأربعون ، سأكون إمرأة عجوز ... " .
    أخذت فى الضحك ! " وما فى ذلك ؟ " ، إننى لا أرى مستقبلا بدونك .
    وأخيرا سلمت للأمر .
    لم أبالغ حينما قلت لها إننى لا أرى مستقبلا بدونك . جمالها ، ورقتها الفطرية ، جذبتنى إليها بحيث لا أرى أى امرأة أخرى ؛ وحساسيتها فى فهم ماذا أريد من الحياة ، أضاء أمالى ، ورغباتى ، وأصبحت من الصلابة بمكان وأكثر إدراكا ، وطغت على تفكيرى فى ماذا أعمل ؟
    فى أحد المناسبات - بعد حوالى أسبوع من زواجنا ، أبدت لى هذه الملاحظة ّ : " كم أنت غريب الأطوار عن كل الناس ؟ يجب عليك أن تخفض من روحانيات فى الدين ... أنت صوفى النزعة ! - حساس فى صوفيتك ، تشير بأصابعك إلى ما حولك فى الحياة ، ولك رؤية متعمقة روحانية فيما يدور حولك يوميا من أشياء - بينما تمر مثل هذه الأشياء على الآخرين بلا إكتراث ... ولكنك حينما تتجه إلى الدين ، فكلك تركيز ... مع الناس الآخرين فالوضع بالعكس تماما ...
    ولكن إلسا لم تكن فى حيرة ، فهى تعلم عن ماذا أبحث حينما أتكلم معها عن الإسلام ؛ وبالرغم من أنها لم تكن فى نفس درجتى من الإضطرار ، إلا أن حبها لى جعلها تشاركنى تساؤلاتى .
    كثيرا ما كنا نقرأ القرآن سويا ، ونتناقش فى أفكاره ؛ وكانت إلسا كما كنت أنا ، معجبين بالتمساك الداخلى بين تعاليمه الأخلاقية ، وإرشاداته العملية . فاستنادا إلى القرآن " الكريم " ، فالله لم يدع الإنسان إلى أن يتضرع إليه مغصوب العينين ، بل لابد له أن يعمل عقله ؛ لم يتنح الله بعيدا عن الإنسان ، بل هو أقرب إليه من حبل الوريد ؛ لم يخط الله خطا فاصلا بين الإيمان والسلوك الإجتماعى ؛ والشئ الذى يعتبر فى غاية الأهمية ، أن الإسلام لم يبدأ من بديهية أن الحياة محملة بالصراع بين الروح والجسد ، وأن النجاة هى فى تحرير الإنسان من قيود الجسد . كل مظهر من مظاهر أنكار الحياة ، وتحقير الإنسان لنفسه ، أدانها الإسلام فى أحاديث لرسول الله " صلى الله عليه وسلم " ... مثل " لاحظ " .. " أعتقد أنه أراد أن يشير هنا إلى حديث الثلاثة الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رغب عن سنتى فليس منى " . فالإنسان مطالب بأن يعيش حياته كاملة وبشكل إيجابى ، فما منحت غرائزه إلا لتؤدى ثمرتها ، ولكن ليستخدمها بطهر وأخلاق وفى محلها الصحيح . ومن التعاليم للإنسان : أنه ليس لك فقط أن تعيش حياتك ، بل المفروض عليك أن تعيشها بكل أبعادها .
    صورة متكاملة للإسلام تنبثق فى ذهنى وبشكلها النهائى وبتحديد ، مما أدهشنى أحيانا ! كانت تتشكل فى عملية من الممكن أن أسميها تفاعلات ذهنية - وبدون وعى منى ، فقد بدأت تتجمع من أجزاء متفرقة ومنتظمة ، فإذا وضعت هذه المتناثرات بعضها إلى بعض ، رأيت نظاما هندسيا دقيقا ، أخذ ذهنى يجمعه فى السنوات الأربع الماضية ، لأرى بناء كل عناصره متناسقة منسجمة ، تتجمع لتتمم وتعاضد بعضها البعض ، لا شئ فيه ينقصه ، ولا شئ يزيد عن متطلباته - متزن وهادئ ، يعطى الإنطباع بأن مسلمات الإسلام كلها فى وضعها الصحيح .
    منذ ثلاثة عشر قرنا مضت ، " يلاحظ أن الكتاب قديم " وقف رجل وهو يقول : " ما أنا إلا رجل هالك ، ولكن الذى خلق الكون أوحى إلى أن أحمل رسالته لكم ، حتى تعيشوا منسجمين مع كل خلقه ، وقد أمرنى بأن أذكركم بوجوده إلاها له كل القدرة وكل العلم ، وقد وضع لكم منهاجا للسلوك الصحيح ، إذا قبلتموه فلتتبعونى ... هذا كان هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه كانت رسالته .
    النظام الإجتماعى الذى أعلنه ، كان من البساطة التى تربط مفرداته بالعظمة الحقيقية . بدأ بالتسليم بأن الإنسان كائن حى له متطلبات حيوية ، وهذه المتطلبات تخضع للحل والحرمة اللذان يقرهما الله سبحانه وتعالى ، وأن الإنسان اجتماعى بطبعه يجتاج إلى مجتمع يحيط به ، ولكى يحقق إحتياجاته الثقافية والأخلاقية والطبيعية ، فلابد أن يعتمد كل على الآخر . إن ازدهار القوام الروحى للإنسان ( وهو هدف كل الأديان ) ، يعتمد عما إذا كان يتلقى دعما ، وتشجيعا ، وحماية له ممن حوله . هذا التكافل الإجتماعى ، يظهر السبب لماذا يهتم الإسلام بالنواحى العامة الإقتصادية والسياسية ، ولا ينفصل عنها . ولتنظيم علاقات إنسانية بطريقة عملية بحيث لو قابل أى فرد بعض العقبات ، يجد التشجيع اللازم لتنمية شخصيته : هذا ، ولا شئ آخر ، يبدو أنه هو مفهوم الإسلام للوظيفة الحقيقة للمجتمع . وهكذا كان من الطبيعى أن التشريع الذى أتى به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام خلال ثلاثة وعشرون عاما من مبعثه ، لا يرتبط فقط بالنواحى الروحية ، بل يمتد ليشمل الإطار لكل الأفراد وللمجتمع أيضا . يشمل ليس فقط مفهوم النقاء الفردى ، ولكن يتضمن المجتمع العادل الذى يؤدى هذا النقاء إليه . كذلك يتضمن الخطوط العريضة للمجتمع السايسى ... أما التفاصيل فمتروكة للتطورات التى تحدث مع الزمن المتغير ... كما يحدد حقوق الأفراد وواجباتهم نحو المجتمع اذى يعيشون فيه ، آخذا بعين الإعتبار حقيقة ما يجد من أمور . الشريعة الإسلامية تتضمن كل مناحى الحياة ، أخلاقية ، طبيعية ، فردية ، إجتماعية ، العلاقة بين الجسد والروح والعقل ، الجنس ، الإقتصاد ، كل ذلك جنبا إلى جنب ، مع اللاهوت والعبادة ، كل أمر من الأمور له وضعه فى تعليمات النبى عليه السلام ، ولا شئ يخص الحياة ينظر إليه على أنه تافه ليخرج من دائرة التصور الدينى ... ليس حتى مثل هذه القضايا الدنيوية ، كالتجارة ، والميراث ، وحق الملكية ، وإمتلاك الأراضى .
    *** كل مفردات الشريعة ، وضعت للإنتفاع المتساوى بين أفراد المجتمع ، بدون تمييز بين مكان المولد ، الأعراق ، الجنس ، أو ولاء إجتماعى سابق . لا منافع خاصة حجزت لمؤسس المجتمع أو أحفاده . " مداخلة : لذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام ما معناه ( نحن معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة ) " . لا توجد طبقات عليا وطبقات دنيا فى المفهوم الإجتماعى ، ليست من مفردات القاموس الإسلامى ؛ ولا أثر لها فى الشريعة الغراء . كل الحقوق والواجبات والفرص ، موزعة بين أفراد المجتمع المؤمن بالتساوى .
    لا يوجد كهنة بين الله والإنسان ، لأن الله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم . لا ولاء ، إلا لله ورسوله ، وبأمر من الله للوالدين ، وللمجتمع المسلم المنوط بتحقيق مملكة الله على الأرض ؛ وبذلك فلا يجوز الذى يعلى كلمة " بلادى أو أمتى " ، ولتوضيح هذا المفهوم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أكثر من مناسبة ، قال بوضوح : " ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية " .
    كل المنظمات قبل الإسلام ... حتى الدينية أو شبه الدينية ... كانت تنهج المفهوم الضيق ، للعصبية القبلية والعشائرية . فمثلا الملوك المتألهين ، الفراعنة فى مصر ، لا يفكرون إلا فى أضيق الحدود التى يعيش فيها المصريون ؛ وحتى إله بنى إسرائيل فهو إله فقط للشعب المختار . بالعكس فالمفاهيم المستقاة من القرآن الكريم ترفض رفضا باتا التمسك بالعشيرة أو القبيلة . الإسلام افترض مجتمعا سياسيا بعيدا عن الإنقسامات العرقية والقبلية . وفى هذا المجال فإن الإسلام والنصرانية يتفقان فى الدعوة العالمية بعيدا عن القبلية ، وفى حين أن النصرانية قد حددت نفسها فى مفهوم " أعطى ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله " ، إلا أن مفهوم الإسلام أوسع من ذلك ، فقد دعى كل الأمم أن يكون الولاء لله فقط . وبذلك ... لتحقيق ما لم تحققه النصرانية ... فقد أضاف الإسلام منظورا آخر فى تطوير الإنسان : دعى إلى مجتمع مفتوح عقائديا ، بالمقارنة مع المجتمعات المغلقة التى نشأت فى الماضى ، عرقيا ، وجغرافيا .
    رسالة الإسلام أعطت تصورا ، ومنحت البشرية حضارة لا مكان فيها للقومية ، لا مصالح شخصية ، لا طبقية ، لا كنيسة ، لا كهنة ، لا طبقة نبلاء متوارثة ، فى الحقيقة ، لا شئ متوارث على الإطلاق . ومن أهم الميزات فى هذه الحضارة ... ميزة لم توجد فى أى تحركات للإنسان عبر التاريخ ... أنها نشأت عن قناعة وإتفاق تطوعى بين معتنقيها والله . هنا ، التقدم الإجتماعى ... مخالف عما حدث فى المجتماعات الأخرى ... لم يحدث نتيجة لضغوط ، ومقاومة لهذه الضغوط ، نتيجة للمصالح المتعارضة ، ولكن كجزء لا يتجزأ من تعليمات أصيلة . وبكلمات أخرى ، هناك عقد إجتماعى متأصل فى النفوس ، يسيطر على جذور الأعمال ... ليس نتيجة أوامر صاغها من بيدهم الأمر دفاعا عن مكتسباتهم ... بل حقيقة متأصل جذورها فى الحضارة الإسلامية . فقد ذكر القرآن الكريم " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ......... فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " .
    عرفت ( من تتبعى لقراءة الحضارة الإسلامية ) ... أن هذا العقد الذى سجله التاريخ ... قد تحقق لفترة وجيزة جدا ، أو بالأحرى فخلال فترة وجيزة جدا كانت هناك محاولات جادة لتحقيقه . فيما أقل من قرن بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم ، النظام النقى للإسلام بدأ فى الفساد السياسى ، ودفع فى القرون التالية إلى الخلف . ظهرت التطلعات العشائرية لإمتلاك القوة ، بديلا عن الرأى الحر للرجال والنساء ، الملكية الوراثية بديلا عن المفهوم السياسى فى الإسلام كنوع من الشرك فى المفهوم الإسلامى " مداخلة : أعتقد أنه يشير هنا إلى حديث ليس منا من دعى إلى عصبية " - ومع هذا أيضا ظهرت الدسائس والصراعات القبلية والظلم ، وإضمحلال الوازع الدينى ، والمهانة فى خدمة من بيده السلطة : باختصار حلت المصالح الشخصية التى عرفت فى التاريخ . ولوقت من الزمن ، حاول علماء ومفكرين عظام ، أن يعيدوا للإسلام رونقه ويذكروا الناس بمفاهيمه النقية ، ولكن جاء من بعدهم أقوام دأبوا على تقليد الأجيل السابقة ، وانتكسوا بعد قرنين أو ثلاثة قرون ، وتوقفوا عن التفكير لأنفسهم ... متانسين أن كل عصر يختلف عن سابقه ، وكل عصر له احتياجاته الخاصة التى تحتاج إلى التجديد . لقد كان الدفع الأصلى للإسلام فى بدايته عظيما ، ورفع الأمة الإسلامية إلى مستويات عالية من الثقافة والحضارة العظيمة ... حتى أن المؤرخين يسمون ذلك العصر الذى تحقق ، بالعصر الذهبى للإسلام ، من الناحية الأدبية ، والفنية ، والعلمية ، والثقافية ، ولكن بعد ذلك العصر بقرون بسيطة خمد الحافز الإيمانى الذى كان يغذى هذا التقدم ، وأصبحت الحضارة الإسلامية راكدة ، ومجردة من قوتها المبدعة .
    .................................................. .
    لم أتأثر بالوضع الحالى للعالم الإسلامى . السنوات الأربع التى قضيتها فى البلدان الإسلامية ، أوضحت لى ، بأنه بالرغم من أن الإسلام ما زال حيا ، كما هو فى عيون العالم ، يؤثر من الناحية الأخلاقية فى أتباعه ، غير أنهم قد أصابهم الشلل ، بحيث لم يترجموا مبادئه إلى عمل مثمر . ولكن ما شد انتباهى ، بعيدا عن حالة المسلمين فى عهدنا هذا ، هو القوة الكامنة فى تعاليم الإسلام نفسه . كان كافيا لى أن أعلم أنه فى مدة قصيرة فى بداية التاريخ الإسلامى ، محاولة ناجحة قد تمت لتطبيق هذا النظام إلى عمل ؛ وبالتالى ، ما كان ممكنا فى وقت من الأوقات ، يظل ممكنا فى غيره من الأوقات . ماذا يهم ... قلت لنفسى ... إن كان المسلمين قد انحرفوا عن تعاليم دينهم الأصلية ، وركنوا إلى الكسل والجهل ؟ ... ماذا يهم إذا كانوا لا يأخذون بالتعاليم المثالية النى أمامهم ، والتى جاءت على لسان النبى العربى منذ ثلاثة عشر قرنا مضت ... إذا كانت هذه التعاليم ما زالت متاحة للجميع ولكل من يرغب ليستمع إليها ؟
    وربما نكون ... أخذت أفكر ... نحن المتأخرين أشد حاجة لهذه الرسالة من المسلمين فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد عاشوا هم فى مناخ أبسط بكثير من المناخ الذى نعيش نحن فيه ، وكانت مشاكلهم والصعوبات التى يواجهونها أبسط من تلك التى نواجهها ، وتحتاج إلى حلول غير معقدة كما نواجه . العالم الذى أعيش فيه ... كل العالم الآن ... يتململ لعدم وجود أية قواعد روحانية تفصل بين الخير والشر ، وبالتالى ، اقتصاديا واجتماعيا . لا أعتقد أن الإنسان الفرد فى حاجة إلى خلاص ، بل المجتمع هو الذى فى حاجة إلى مخلص ! أكثر من أى وقت مضى ، أخذت أشعر بيقين متزايد ، أن وقتنا هذا فى أشد الحاجة إلى قاعدة أيدلوجية ، وإلى عقد إجتماعى جديد : فى حاجة إلى الإيمان بالله ، وتفهم مدى الفراغ الذى يحدثه التقدم المادى فقط ... ومن ثم نعطى الحياة حقها ؛ كيف نوازن بين احتياجات الروح والجسد ، ويكون فى ذلك الإنقاذ من كارثة محققة نسرع إليها متهورون .
    .................................................. ..
    غنى عن القول أن مشكلة الإسلام فى هذه الفترة ... فقد كانت مشكلة بالنسبة لى ... شغلت تفكيرى أكثر من أى شئ آخر . فى هذه اللحظات ، تعدى استيعابى للموضوع مراحله الأولية ، حينما كان الموضوع بالنسبة لى ليس أكثر من أبحاث ثقافية ، وأيدلوجية جذابة : أصبح الوضع الآن هو بحث مركز عن الحقيقة . مقارنة هذا البحث ، بسفريات السنتين الماضيتين ، والتى أسفرت عن لا شئ : أصبح التركيز على إكمال الكتاب الذى عهدت لى به جريدتى " فرانكفورتر زيتنج " من المستحيل .
    فى البداية كانت نظرة دكتور سيمون متساهلة ، لترددى فى الإستمرار فى إنهاء الكتاب . فقد عدت من رحلة طويلة تستحق نوعا من الأجازة ، وزواجى الحديث يعطينى بعض الحق فى التراخى فى الكتابة الروتينة . ولكن حينما تماديت فى التراخى ، ونظرا لأن دكتور سيمون يتحمل المسئولية عن الكتاب ، فقد طلب منى أنه قد حان الوقت لأنزل إلى الأرض .
    فى الماضى ، كنت أرى أنه متفهم للوضع ، ولكنى الآن أرى غير ذلك . ملاحظاته المستمرة ، وتساؤلاته اللحوحة عن تقدمى فى تحرير الكتاب ، أدت أثرها المعاكس لما كان ينشده ، فقد شعرت بأن الأمر مفروض على مما جعلنى أمقت فكرة الكتاب نفسها . كنت مهتم أكثر بما كنت ما أزال أريد أن أكتشفه عن ذلك الذى أريد أن أسجله من أحداث مرت بى فى رحلتى .
    فى نهاية الأمر أثار دكتور سيمون هذه الملاحظة " أعتقد أنك لن تنتهى من الكتاب البتة ، أنت تعيش فى داخلك فى رعب ما " .
    وكالملدوغ رددت عليه : " ربما المرض الذى أعانيه أكثر من الرعب " .
    " إذا فما دمت فى هذا العناء " قال ذلك بحدة " فهل تعتقد أن الصحيفة هى المكان المناسب لك " .
    كلمة منه وكلمة منى ، تحول الأمر إلى شجار ، وفى نفس اليوم قدمت استقالتى من الصحيفة ، وبعد أسبوع سافرت أنا وإلسا إلى برلين .
    لم أكن بالطبع أنوى ترك الصحافة ، فقد كانت جزءا من راحتى النفسية وسعادتى فيها وفى الكتابة ... بعدت عنهما مؤقتا ننيجة للكتاب ... وكيف لا ؟ وهى التى أعادتنى للعالم الإسلامى ، وهذه العودة كنت حريصا عليها بأى ثمن . ولكن بالنسبة للشهرة التى اكتسبتها فى الأعوام الأربعة الماضية ، لم يكن من الصعب علىالعودة إلى الصحافة ثانيا . فبسرعة جدا حصلت على عقد مجز ومريح مع ثلاثة صحف بزيورخ ، وبالرغم من أنها لم تكن فى مستوى الصحيفة السابقة إلا أنها كانت من الصحف الشهيرة بأوروبا .
    ومنذ ذلك الحين ، بقيت أنا وإلسا فى برلين ، لأكمل محاضراتى عن الإسلام فى أكاديمية الجغرافية السياسية . أصدقائى الأدباء السابقين فرحوا بعودتى لهم ، ولكن لم تكن العلاقة الجديدة فى نفس المتانة التى تركتهم بها قبل سفرى للشرق الأوسط . صارت لغتنا الثقافية مختلفة عما سبق . وبالتحديد ، لم أكن أستطع استخراج أية معلومات من مناقشاتى معهم عن الإسلام . كانوا يهزون رؤوسهم ، بحيرة حينما كنت أقول لهم أن الثقافة الإسلامية يمكنها أن تنافس أيدلوجيات أخرى . وبالرغم أنه فى بعض الحالات ، كانوا يوافقون على رأى من هنا أو هناك من مفاهيم الإسلام ، إلا أنهم فى العموم يقولون أن الأديان الماضية هى جزء من الماضى ، وأننا فى حاجة إلى تجديد فى المفاهيم ، ونظرة " إنسانية " جديدة . وحتى أولئكم الذين لا ينكرون أهمية المؤسسات الدينية ، لم يكونوا مستعدين للتخلى عن النظرة الأوربية للإسلام ، بأنه يفتقد إلى الوضوح الذى يتوقع من الأديان .
    وقد أدهشنى أن سمة الإسلام التى اكتشفتها من أول لحظة ... وهى عدم وجود فصل بين الروح والجسد ، وأن التأكيد على أن العقل هو الطريق للإيمان ... لم تكن واضحة عند المثقفين ، الذين ما فتئوا يقولون بأن العقل هو المهيمن على كل شئ فى الحياة : " فالعقلانية " و " الواقعية " ، ليس لهما مكان فى مجال الدين عندهم . وفى هذا الخصوص لم أجد فرقا بين هؤلاء المتدينين ، وهؤلاء الذين طرحوا الدين وراءهم .
    مع الوقت ، فهمت أين تكمن فيهم هذه الصعوبة . بدأت أدرك أنه فى عيون أولئكم الذين يدورون فى مدار النصرانية ... بضغوطها على عالم " ما وراء الطبيعة " المتأصلة زعما فى كل تجربة دينية حقيقية ... فإنه من الدرجةالأولى فكل نظرة عقلانية ، تكون سببا فى الإنتقاص من القيمة الروحية ، وذلك ليس خاصا بمؤمنى النصارى فقط . وذلك لطول العهد بالأوروبيين فى ظل النصرانية ، فمن حيث لا يدرون وبلا شعور ، تعلموا أن ينظروا للدين من خلا المنظار النصرانى ، ومفاهيم النصرانية ، ويعتبرون فقط أنها " صحيحة " ، إذا كانت مصحوبة بآثار الرهبنة والخشوع ، بعيدا عن الفهم الثقافى . الإسلام لا يحقق هذه الفرضية : الإسلام يصر على التعاون بين السمات الروحانية والمادية للحياة ، وذلك على قاعدة متينة طبيعية من المنهاج . فى الحقيقة فنظرته للحياة ، تختلف جذريا من مفاهيم النصرانية ، وهذه المفاهيم هى التى اعتمدها الغرب كأساس للحياة ، وبذلك يقيسيون صلاحية الآخر بهذه المقاييس .
    أما بالنسبة لى ، فقد كنت أعرف أننى منجذب إلى الإسلام لا محالة ، ولكن التردد جعلنى أؤجل القرار الأخير ، القرار الذى لا رجعة فيه . فكرة إعتناق الإسلام ، هى كرحلة على جسر طويل جدا بين عالمين مختلفين : جسر إذا وصلت لنهايته ، فلن ترى بدايته . كنت على بينة ، بأننى لو أسلمت ، فسأفصل نفسى عن العالم الذى نشأت فيه . لا دخل آخر سأعيش به . لا يمكن لمن يجيب حقيقة دعوة الرسول " عليه الصلاة والسلام " ، أن يبقى صلة داخلية مع المجتمع الذى يعيش على مفاهيم مغايرة ... هل الإسلام حقيقة رسالة من الله " سبحانه وتعالى " ، أم هو مجرد حكمة من رجل عظيم ، ولكنه غير معصوم ؟؟؟
    * فى أحد الأيام -- كان ذلك فى سبتمبر 1926 -- كنت أنا وإلسا نستقل مترو الأنفاق فى برلين ، كنا فى الدرجة الأولى . وقعت عينى بالصدفة على رجل أنيق ، يظهر أنه من رجال الأعمال ، ويحمل حقيبة جميلة على رجليه ، وبيده خاتم كبير الحجم من الماس !!! ولم يكن هذا المنظر للرجل غريبا فى هذه الأيام ، وهو يعكس الرخاء الذى حل بوسط أوروبا ، بعد سنوات التضخم التى قلبن الموازين رأسا على عقب . معظم الناس الآن يلبسون ثيابا جيدة ، ويأكلون الطيب من الطعام ، ولذلك فالرجل الجالس قبالتى ليسا بدعا فى ذلك . ولكنى عندما تحققت فى وجهه ، وجدت الكآبة عليه ! كان يظهر عليه القلق : وليس فقط القلق ، بل التعاسة أيضا ، عيونه تحملق إلى أعلى ، وزوايا فمه تتحرك كأن به ألم ... ليس ألما جسمانى . وحتى لا أتهم بالوقاحة فقد صرفت عينى عنه ، لتقع على سيدة أنيقة . فوجدت أيضا التعاسة على وجهها ، وكأنها عانت من شئ ما ، ولكن الإبتسامة على وجهها كانت ابتسامة متكلفة . وهكذا بلا وعى أصبحت أتلفت حولى فى الوجوه التى بالمقصورة ، لأرى أن الغالبية من الوجوه ، تعكس عن معاناة مخبوءة فى العقل الباطن لهم ، وهم لا يشعرون بذلك .
    فى الحقيقة كان شيئا غريبا بالنسبة لى ! لم أر من قبل مثل هذا العدد من التعساء ، وربما لأنه لم يسبق لى أن تفحصت مثل هذه الوجوه ، لأجد هذه الظاهرة تصرخ بأعلى الصوت فى وجوههم . الإنطباع كان قويا داخلى ، حنى أننى ذكرته لإلسا ، والتى بدأت هى الأخرى تجول فى الوجوه التعسة بعناية ، وهى الرسامة المتعودة على كشف تعبيرات الوجوه البشرية . التفتت نحوى مستغربة قائلة " أنت على حق ، كلهم يظهر عليهم كأنهم يعانون من عذاب الجحيم ... أتساءل هل ياترى هل يدرون ما يدور فى أنفسهم ؟
    أنا أعرف أنهم بالطبع لا يعلمون شيئا عن ذلك ، وإلا لأنقذوا أنفسهم من تضييع حياتهم فيما يتعسها ، بلا إيمان ، وبعيدا عن الحقيقة ، بلا هدف غير جمع الأموال ، والثروة والجاه ، ورفع مستوى معيشتهم ، بلا أمل غير امتلاك وسائل للراحة أكثر ، وأمور مادية أكثر ، وإمتلاك للقوة أكثر ...
    حينما عدنا للمنزل ، ألقيت نظرة على مكتبى ، وعليه نسخة من القرآن الكريم ، فأردت أن أضعها فى المكتبة ، ولكنى بطريقة تلقائية فتحته لأقرأ فيه ، فوقت عيني على سورة التكاثر ، فأخذت أقرأها :::
    بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
    أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ {1} حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ {2} كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {3} ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {4} كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ {5} لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ {6} ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ {7} ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ {8}
    فى لحظة انعقد لسانى عن الكلام . واهتز الكتاب فى يديى ، وناولته لإلسا ، إقرئى هذا ! أليست هذه هى الإجابة على ما شاهدناه فى مترو الأنفاق ؟؟؟
    نعم إنها الإجابة ... نعم إنها الإجابة القاطعة والتى أزالت أى شك عندى أن هذا الكتاب الذى بين يدى الآن ، هو وحى من عند الله العليم بالنفوس : فمنذ ثلاثة عشر قرنا أنزل على رجل لا يعلم دخائل النفوس ، ولا يتوقع هذه الصورة التى رأيناها اليوم فى مترو الأنفاق ، والوضع المعقد الذى نعيشه الآن .
    فى كل الأوقات كان الجشع موجودا ، ولكنه لم يكن فى وقت من الأقات من قبل بمثل هذه البشاعة ... كان مجرد رغبة فى امتلاك الأشياء ... ولكن أن يصبح ذلك هوسا يغطى على كل شئ آخر : شهوة لا تقاوم ، لتعمل ولتدبر أكثر فأكثر ، اليوم أكثر من أمس ، والغد أكثر من اليوم ... شيطان يلوى أعناق الرجال ويلهب قلوبهم بالسياط لينفذوا مأربهم التى تبرق أمامهم ، ولكن حين يصلوا إليها لا يجدوها إلا شيئا حقيرا ، وما أن تقع فى أيديهم حتى يتطلعوا إلى مآرب جديدة أخرى براقة ، ذات إغراء أكثر ، سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ... هذا الجوع ، والجوع النهم سيظل دائما موجود ، لن يصلوا إلى الشبع مطلقا : كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ {5} لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ {6} ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ {7} ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ {8}
    الآن رأيت أن هذه ليست حكمة رجل فى التاريخ الغابر فى الجزيرة العربية . مهما كان من الحكمة ، فهو لن يتنبأ بالجحيم الذى نعايشه فى القرن العشرين . القرآن يتكلم بصوت أكبر من صوت محمد " عليه الصلاة والسلام " .
    ************
    لقد انقشع الظلام ... وها أنا هنا فى ساحة المسجد النبوى ، والمضاء بمصابيح بالغاز المعلقة على الأعمدة بالأروقة . يجلس الشيخ " عبد الله بن بلهيد " ورأسه محنية على صدره ، وعيناه مغمضتين . من لا يعرفه يظن أنه نائم ، ولكنى أعرفه ، وأعلم أنه يستمع إلى بكل حواسه وخبرته فى الرجال ، ويحاول أن يزن كلامى ويضعه موضعه . وبعد فترة طويلة فتح عينيه ورفع رأسه : وحينئذ ، ماذا فعلت ؟؟؟
    من الواضح ياشيخ بحثت عن صديق لى مسلم ، كان هنديا ، رئيسا لمجموعة مسلمة فى برلين ، وقلت له أننى أريد اعتناق الإسلام . مد يديه فى اتجاهى ، فوضعت يديى فيهما ونطقت بالشهادتين " أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " ، وبعد بضعة أسابيع أعلنت زوجتى إسلامها وفعلت ما فعلت .

    محمد أسد
    من كتاب الطريق إلى مكة ... من صفحة 295 إلى 311












    هذا المقال جمعته من عدة روابط أهمها:
    http://www.quran-radio.com/howthegetinisalm7.htm
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 13 نوف, 2020, 03:57 م.
    حمل كتاب

  • #2
    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

    تعليق


    • #3
      الله يرحمه قصته ملهمة لابد ان يقرائها غير المسلمين
      جزاكم الله خيرا
      لا اله إلا الله ، محمد رسول الله

      حكمة هذا اليوم والذي بعده :
      قل خيرًا او اصمت



      تعليق


      • #4
        كل المسلمين فى حاجة ايضا للتعرف على قصة وكتب هذا الرجل (( محمد اسد )) نموذج لمعنى الفطرة داخل الانسان ...جزاكم الله خيرا كثيرا .اّمين

        تعليق

        مواضيع ذات صلة

        تقليص

        المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ 4 أسابيع
        ردود 0
        6 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
         
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ 4 أسابيع
        ردود 0
        5 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
         
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 9 فبر, 2024, 12:43 ص
        ردود 0
        6 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
         
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 24 ديس, 2023, 12:22 ص
        ردود 0
        24 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
         
        ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 20 نوف, 2023, 12:34 ص
        ردود 0
        28 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة *اسلامي عزي*
        بواسطة *اسلامي عزي*
         
        يعمل...
        X