بشارة "إنجيل" مرقس (((الــســرِّي))) - بحث قصير للمتخصصين فقط رجاءاً

[الأمير الأحمر]

بسم الله الرحمن الرحيم

في هذا البحث القصير، أحاول إن شاء الله سرد الحقائق حول هذه البشارة، دون إستخلاص أي إستنتاجات حولها. ولن أسرد الوقائع من الدارسين المسلمين، بل سأعرض فقط ما يقول عنها رجال العلم والدين والمؤرخين وعلماء الآثار النصارى، وما وصل إلينا مما في هذه البشارة. وسأعرض إن شاء الله الحقائق وحدها – في عدة رسائل متوالية – دون تعليق مني، وأدعوا الإخوة الكرام للإضافة والتعليق كما يرون. والهدف الأول من هذا البحث القصير هو تقديم أحد الجوانب الخفية لكتاب النصارى المقدس، للمسلمين والنصارى المهتمين على حد سواء.

تعريفات

الغنوصية: فكر وثني يقول بتعدد الآلهة المنبثقة من إله أكبر، تكوِّن عالماً إلاهياً وسيطاً بين الرب الإله والعالم المادي. ويروج هذا الفكر لمبدأ أن الخلاص للبشرية لا يأتي إلا عن طريق معرفة الإنسان بذاته والجزء الإلهي الموجود به. كما أن هذا الخلاص ليس لكل الناس، بل لأولئك الذين حُبِس بداخلهم جزء من هذه الآلهة! وقد كان هذا الفكر يسود العالم قبل وأثناء وبعد بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام بشكل أو بآخر، وتغلغل داخل كل الفرق النصرانية تقريباً. وعاد واضحاً بعد إختباء – وليس إندثار – بعد إكتشاف العديد مما يطلق عليه "البشارات الغنوصية".

الأرثوذكسية: لفظ مشتق من اليونانية يعني حرفياً "الطريقة الصحيحة" أو "الطريق القويم". وفي الديانة النصرانية يقصد بها الفكرة التي غلبت وسادت بعد نزاع مرير مستمر لليوم بين ملل المسيحية المختلفة.

البروتو-أرثوذكسية: لفظ لعلماء النصرانية يطلق على الملة الأرثوذكسية قبل أن تصبح هي الملة الغالبة التي يطلق عليها "الطريقة الصحيحة" أو الأرثوذكسية. ويعني حرفياً "الملة التي ستصبح الأرثوذكسية فيما بعد".

الهرطقة: بالنسبة لكل فرقة من فرق النصرانية، فكل الفرق الأخرى مهرطقة. فلفظ هرطقة معناه حرفياً "البعد عن الصواب بالإختيار"، ويطلق على أي فعل يخالف العقيدة الأرثوذكسية، والتي هي بالنسبة لكل ملَّة، هي طريقة هذه الملَّة نفسها.

إجناشيُس الأنطاكي
من أهم آباء الكنيسة الأولين بالنسبة للنصارى، والذي ولد بعد وقت قصير جداً من كتابة بشارة مرقس – أول البشارات القانونية في العهد الجديد كتابةً – على بعض الأقوال، وأثناء كتابتها على أرجح الأقوال. وقد ترك إجناشيُس خلفه 7 رسائل لكنائس مختلفة مر عليها أثناء رحلته إلى روما، وذلك بعد الحكم عليه من قبل الحكام الرومان – ولنذكر أن ذلك كان قبل إعتناق الإمبراطورية الرومانية للديانة النصرانية كديانة رسمية – حيث لقي حتفه بإلقائه للأسود في الحلبة كعادة الرومان في قتل أعداء الإمبراطورية آنذاك.

كْلِمِنْت السكندري

كلِمِنْت هو أحد أبرز قساوسة النصرانية الأولى وشخصياتها، وهو من آباء الكنيسة الأوائل. تعلَّم وعلم في الكنيسة السكندرية المصرية، والتي كانت تعد مركزاً لا يضاهيه أهمية في العلوم النصرانية إلا كنائس معدودة في ذلك الوقت، وكانت مركزاً متميزاً للتعليم في ذلك الزمن البعيد. وقد كان كلمنت يعيش بعد إجناشيُس بـ 40 أو 80 سنة.

الكارْبُقْراطيون

مجموعة شهيرة للغاية وصفها كلمنت في كتاباته. وهي مجموعة من الغنوصيين أسسها شخص يدعى كارْبُقْراط، وإشتهرت بممارساتها الشاذة جنسياً وعقدياً في شعائرها الدينية. وكان الكاربقراطيين يروجون لمبدأ إشتراكي شاذ – آلاف السنين قبل إختراع نظام الإشتراكية المعروف لنا اليوم – يقول بأن الله قد خلق الأرض والأشياء للناس جميعاً بالتساوي، لذا ينبغي تقسيم كل شيء بالتساوي. وليس هذا في الممتلكات المادية فحسب، بل يشمل أيضاً مشاركة الزوج والزوجة مع الآخرين جنسياً فراداً وفي جماعات.


يتبع إن شاء الله

[الأمير الأحمر]

مقدمة

مقدمة

حينما بدأت هذا البحث كنت أرجو أن أقدم للقارئ العادي صورة أخرى من صور دراسة الكتاب المقدس. لكني مع الأسف كلما توغلت فيه أكثر أدركت أن هذا البحث على قصره ومهما بلغت المراعاة فيه، لا يمكن توجيهه إلا إلى علماء الديانة النصرانية والباحثين فيها. وكمسلم، أعلن براءتي مما سيأتي فيه، وأعرِّف القارئ أن يسوع رب المسيحية، وعيسى عليه السلام شخصان منفصلان تماماً مختلفان بالكلية. فعيسى عليه السلام زكي طاهر، أما ما قيل في يسوع فهو كما ترى في كتاب النصارى وما سترى فيما يلي.

هذا البحث – رغم تحفظي الشديد فيه – إلا أنه لا يخلوا من تطاول على رب المسيحية بسب مباشر، لا بقلمي، بل بأقلام رجال العلم والتأريخ للنصرانيات القديمة، الذين يجلهم العالَم النصراني ويفخر بأعمالهم، وأعدائها على حدٍ سواء. كما أنه موضوع خادش للحياء. فأرجوا التحفظ في القراءة ومراعاة التخصص والسن.

كل من له علم ولو قليل بالنصرانية، يعلم أن العهد الجديد من كتاب النصارى المقدس يتكون من 27 كتيباً يسمون أسفار. أربعة من هذه الأسفار تسمى بشارات gospels – يطلق عليها نصارى العرب فقط لفظ "إنجيل" للتمسح بالإسم القرآني للكتاب المنزل على سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام – وبقية الكتيبات هي رسائل بين شخص وآخر أو بين من يطلق عليهم النصارى "رسل المسيح" وبعض الأشخاص المجهولين أو الكنائس. يستثنى من هذا رسالة هي سفر الرؤيا، ويفترض فيها أنها رؤيا ليوحنا صاحب البشارة الرابعة. وكل من هذه النقاط وضعت فيها الكتب في سردها ومناقشتها، لكن ليس من مجال لها في هذا البحث.

ما يهمنا أن ما يجعل هذه البشارات الأربعة مختلفة – حسب كلام رجال العلم المسيحي – ومميزة عن بقية الكتيبات – رغم أنها هي الأخرى رسائل من شخص لآخر كما يتضح لكل من قرأها – هو أن هذه البشارات تروي قصة يسوع على الأرض، ومقالاته وتعاليمه، ونهاية بصلبه وقيامته حسب إعتقاد النصارى، بينما بقية الرسائل لا تفعل. وهذه البشارات الأربعة تسمى بإسم من يفترض أنهم كتبوها، قبل أن يكتشف علماء الديانة النصرانية أن الواقع هو أن هؤلاء المنسوبة إليهم تلك الكتب لا علاقة لهم بها. وأسماء هذه الكتيبات حسب ترتيبها في العهد الجديد "البشارة حسب متى"، "البشارة حسب مرقس"، "البشارة حسب لوقا" و "البشارة حسب يوحنا".

يتبع إن شاء الله

[الأمير الأحمر]

حول بشارة مرقس القانونية

حول بشارة مرقس القانونية

بشارة مرقس القانونية هي أقصر البشارات الأربعة وأقلها من ناحية الكم. ويؤرخها علماء الدين والتأريخ النصارى كأقدم البشارات الأربعة من ناحية الزمن. ومن الغرائب التي لا تفسير لها لدى علماء النصرانية، أن آباء الكنيسة الأوائل إستشهدوا ببشارتي متى ويوحنا بغزارة في كتاباتهم، ثم في بعض المرات القليلة ببشارة لوقا، لكن أحدهم – فيما نعلم – لم يستشهد ببشارة مرقس على الإطلاق.

ولقد كان رأي أكثر رجال العلم النصارى في القرون الأولى من النصرانية هو أن ما فعله مرقس هو أن أخذ بشارة متى، ثم نقحها وأزال منها الكثير مما بها، ليخرج ببشارة قصيرة "مكثفة" عن قصة يسوع. لهذا لا نجد أكثر ما بالبشارات الثلاثة الأخرى في بشارة مرقس. طبعاً كل من يعرف كيف تم جمع العهد الجديد من "الكتاب المقدس"، يدرك أهمية هذه المعلومة وبخاصة في تأريخ الكتب وما يترتب عليه. لكن هذا ليس مجال نقاشها.

ورغم ندرة إستخدام بشارة مرقس من قبل آباء الكنيسة الأُوَل، إلا أننا نجد له ذكراً في القرن الثاني الميلادي من قبل "آيرانيَس"، أحد أشهر متتبعي الهرطقات في بدايات المسيحية. ولمن لا يعلم، فقد كانت كل فرقة نصرانية – وكانوا بالمئات في القرون الأولى وما زالوا – تطلق على كل الفرق الأخرى لفظ "مهرطقين". وكان قساوسة هذه الفرق يتتبعون "هرطقات" الفرق الأخرى لفضحها ونشر مساوئها للعالم، وذلك لكي يتبع النصارى الجدد ملتهم وليحافظوا على أتباعهم من التحول لملة أخرى.

ويذكر آيرانيَس أن بشارة مرقس التي قُنِّنَت فيما بعد كانت مستخدمة من قِبَل الفرق الغنوصية. والحقيقة أن من يقرأ بشارة مرقس بالذات يرى مدى الترابط بينها وبين الفكر الغنوصي، لكن هذا لم يمنع النصارى الأوائل من الأخذ بالكتيب وتقنينه مع بقية ما قُنِّن ليصبح ما يطلق عليه اليوم "العهد الجديد".

يتبع إن شاء الله

[الأمير الأحمر]

حكاية مورتُن سميث

حكاية مورتُن سميث

يعد مورتن سميث أحد أشهر وألمع أساتذة القرن العشرين، وقد أمضى حياته وهو يعمل كأستاذ لتاريخ النصرانية القديمة بجامعة كولمبيا حتى موته في عام 1991م. وصفه أعداءه قبل أصدقاءه بأنه أحد ألمع معلمي النصرانية القديمة وتاريخ النصرانيات الأولى في القرن العشرين بأكمله.

في عام 1941م، وأثناء تحضيره لشهادة الدكتوراة الخاصة به في جامعة هارفارد، الكلية اللاهوتية، قام سميث بقضاء بعض الوقت في فلسطين للقيام ببعض الأبحاث التي يحتاجها للشهادة المتقدم لها. وفي هذا الوقت، قام بزيارة كنيسة إسمها "مارصابا" بجنوب شرقي القدس. وقد كانت تجربة مارصابا كما أطلق عليها تجربة فتحت عينيه. فها هو ذا يبلغ من العمر 26 عاماً قضاها في البحث في الجانب الأكاديمي من العلوم الدينية، وإذا به يجد نفسه للمرة الأولى وجهاً لوجه مع الممارسة الفعلية للرهبان النصارى داخل هذه الكنيسة، والذين رغم علمهم إختاروا ممارسة شعائر الدين والعبادة بدلاً من سلوك الجانب الأكاديمي كما فعل هو.

وبعد إنتهاءه من بحثه وعودته إلى أمريكا، حصل على شهادة الدكتوراة، وبدأ عمله كأستاذ بجامعة كولمبيا بنيويورك. ثم في عام 1958م قرر أخذ إجازة من عمله وأبحاثه، والعودة إلى القدس لزيارة مكتبة كنيسة مارصابا. كان قد رأى بالمكتبة أثناء زيارته الأولى العشرات من الكتب والمخطوطات المكتوبة باليد، والتي لا يدل عليها شيء. فقرر هذه المرة أن يصنع للمكتبة فهرساً بالكتب، لعله يجد في تلك الأثناء بعض الكتب القيمة بمكتبة هذه الكنيسة.

وبالفعل وجد سميث العديد من الكتب الهامة والمثيرة، لكن أكثرها أهمية قد يكون هو موضوع هذا البحث. ففي أثناء عمله على فهرسة مكتبة الكنيسة، سقط في يده كتاب من القرن السابع عشر، وكان يتحدث عن كتابات أحد آباء الكنيسة الأوائل؛ "إجناشيُس الأنطاكي" (50م – 110م) تقريباً. وكان ملحقاً بالكتاب نسخة من القرن الثامن عشر عن رسالة لأحد الآباء الأوائل للكنيسة، وهو الأب "كلِمِنت من الإسكندرية" (150م – 215م) تقريباً، أرسلها لشخص مجهول لنا اليوم ويدعى "ثيودور".

يتبع إن شاء الله

[الأمير الأحمر]

بشارة مرقس السرية (بالصور)

بشارة مرقس السرية

في هذا الخطاب الذي عثر عليه سميث، يشير كلمنت لوجود إصدار آخر من بشارة مرقس. إصدار أكثر سرية، لم يكتبه مرقس للعوام من النصارى، بل للخواص المختارين الناضجين روحانياً. وفي خطابه، يرد كلمنت على ثيودور – الذي يتضح من سياق الخطاب أنه كان يسأل كلمنت عن وجود مثل هذه البشارة، ويسأل عن وجود نصوص بعينها فيها – بأن يؤكد له وجود هذه البشارة بالفعل، وينفي وجود النص الذي يسأل عنه ثيودور.

صورة الصفحة الأخيرة من كتاب كنيسة مارصابا وخطاب كلمنت الملحق بها

ويقول خطاب كلمنت أن مرقس كتب بشارته الأولى – التي قُنِّنَت فيما بعد كجزء من العهد الجديد – قبل أن ينتقل بعد ذلك لمدينة الإسكندرية بمصر، ويقوم بكتابة الإصدار الثاني منها بعد فترة من إنتقاله إليها. ويكمل كلمنت قائلاً أن هذه البشارة قد تمت سرقتها من قِبَل مجموعة الكاربوقراطيين، والذين قاموا بتحريفها لتلائم ممارساتهم الشاذة، وإستخدموها في شعائرهم.

ويمضي كلمنت في هذا الخطاب ليشرح ما كان موجوداً بالفعل في البشارة السرية لمرقس قبل أن يحرفها الكاربقراطيون، وما قام هؤلاء بإضافته لها. وفي شرحه، يخبرنا كلمنت أنه بعد القصة الموجودة حالياً في البشارة القانونية، والموجودة في الإصحاح العاشر عدد 24، نجد في البشارة السرية قصة أخرى تفصيلها كالتالي:

"ثم أتوا إلى بيت حنانيا، فوجدوا بها إمرأة كان أخاها قد مات. فجاءت وسجدت أمام يسوع وقالت << يا إبن داود، أشفق علي >>. فنهرها التلاميذ، وإنطلق يسوع معها بغضب إلى الحديقة حيث كان القبر. وفوراً سُمع صوت عالٍ من القبر، وإقترب يسوع ودحرج الصخرة بعيداً عن مدخل المقبرة. ثم دخل من فوره إلى حيث كان شابٌ، ففوراً مد يديه وأقامه، آخذاً إياه من يده.

ونظر إليه الشاب فأحبه، وبدأ يتوسل إليه أن يكون معه. فخرجوا من المقبرة وذهبوا إلى بيت الشاب الذي كان غنياً.

وبعد ستة أيام، عهد إليه يسوع بمهمة. فلما جاء الليل، أتى الشاب إلى يسوع لا يرتدي شيئاً إلا رداءاً من كتان ملقىً فوق جسده العاري، وبقي معه تلك الليلة. فقد كان يسوع يعلمه غوامض ملكوت الرب.

وحينما غادر من عنده، عاد إلى الجانب الآخر من الأردن."

صورة خطاب كلمنت

لقد أثار هذا النص – المحذوف من الرواية القانونية طبقاً لكلام كلمنت – لغطاً وجدلاً شديدين بين علماء النصرانية. وأصر أكثرهم أن الرواية تحمل معاني جنسية شاذة بلا أدنى ريب. وقد يكون ما يقوي هذه الفكرة هو أن كلمنت في خطابه لثيودور، أكد له عدم وجود الأعداد التي سأله عنها ثيودور في بشارة مرقس السرية، مثل العدد الذي يقول "رجل عارٍ لرجلٍ عار"، وهو ما يعني أن فكرة الشذوذ الجنسي ليسوع مع الرجال كانت تُبحث في هذا الوقت.

وفي إقتباس آخر لخطاب كلمنت قد يلقي الضوء أكثر على محتويات هذه البشارة السرية المفقودة، يمضي كلمنت مقتبساً منها:

"وكانت هناك أخت وأم الرجل الذي أحبه يسوع، وكذلك سالومي، لكن يسوع لم يستقبلهم."

يتبع إن شاء الله

[الأمير الأحمر]

بين الذعر والمصداقية

بين الذعر والمصداقية

وكان من آثار الفزع الذي ألقى به هذا الخطاب أن بدأ العلماء النصارى بمحاولة التشكيك في مصداقية هذا الخطاب ونسبته لكلمنت. فرغم أن الخطاب قد صوره سميث ورأى صوره العديد من العلماء الذين سعى إليهم سميث لتأكيد مصداقية الخطاب، إلا أن الأصل الموجود بالكنيسة قد إختفى فجأة بعد نشر هذه المعلومات! فقد تم نقله لكنيسة أخرى. فلم يصل إليه عالم دين غربي آخر إلى يومنا هذا، وطبعاً لا رجاء في إنتظار المعلومة من علماء النصارى العرب.

ورغم أن سميث عاش فترة طويلة بعد إكتشافه هذا الخطاب (أكثر من 30 سنة)، إلا أن أحداً من علماء النصرانية لم يجرؤ على إتهامه بتزييف هذا الخطاب بنفسه أثناء حياته. وإكتفوا جميعاً بإبداء الدهشة أو التشكيك في مصداقية الخطاب، لا سميث نفسه. فقد عُرف سميث بشدته وردوده المفحمة على من لا يوافقونه الرأي، إضافة إلى مركزه ومكانته المرموقتين. أما بعد موته، فقد إختلف الأمر؛ إذ يبدو أن الجميع قد تذكروا فجأة إحتمال كون سميث قد زيف هذا الخطاب بنفسه لسبب أو لآخر.

وقد يكون من أكثر الأمور إثارة للجدل في هذا الموضوع، أن مورتُن سميث، بعد دراسة لهذا الخطاب وحده دامت لأكثر من خمس عشرة سنة، خرج بنتيجة نشرها، ومفادها أن هذه الأعداد الموجودة في بشارة مرقس السرية "ليست ببعيدة عن الواقع، بل إن الدلائل تقول أن هذه القصص تتطابق كثيراً مع المكتشفات حول يسوع التاريخي"! وقد أصر على صدق الرواية المذكورة في خطاب كلمنت وأصر على دقة تفسيره لما فيها، وقال أن هذا الطقس كان يسوع يقوم به بالفعل مع الكثير من الرجال، والذي يتضمن التعميد العاري للرجال، والإنخراط معهم في طقس جنسي "يوحد المتعمد مع يسوع في تجربة مثيرة لملكوت الرب"!

وزاد أن قال أن هذه "الشعيرة الطقسية" لم تكن عملاً تم مرة واحدة فقط، بل إنه كان من الشعائر المستمرة ليسوع، والتي تتضمن تعميد الرجال العرايا بهذه الكيفية، "والتي تؤدي إلى نوع من التوحد مع يسوع، يقود لهذه التجربة الملكوتية".

ولا حاجة للقول أن تفسير سميث للخطاب قد تعرض للنقد اللاذع فور نشره له، وإن أقر ناقدوه أن العبارات بالفعل توحي بطقوس جنسية. لكن المثير للتساؤل حقاً هو أن أحداً لم يتهم سميث في مصداقيته منذ نشر كتابيه حول الموضوع عام 1973م وحتى موته عام 1991م! لكن ما إن مات سميث حتى ظهرت الكتب من وراء من الكتب، تتهمه في مصداقيته، وأنه قد زيَّف الخطاب بأكمله، وهذا رغم إعتراف المهاجمين بصعوبة القيام بعملية تزييف بهذه الدقة التي ليس فقط لا داعي لها، حيث أن سميث كان بالفعل من أشهر العلماء في مجاله، لكن أيضاً لشبه إستحالة تغطية كل جانب من الجوانب اللازمة لمثل هذا التزييف.

يتبع إن شاء الله

[الأمير الأحمر]

ما له وما عليه

والتالي هو تحليل لما للقصة وما عليها من وقائع.

1. قرائن الزيف في قصة مورتُن سميث
· فقدان الكتاب الذي به خطاب كلمنت من كنيسة مارصابا. فلم يرَ أحد من أقران سميث الكتاب أو الخطاب الأصليين.
· ما إكتشفه سميث كان نسخة من الخطاب منقولة في القرن الثامن عشر الميلادي، وليس الأصل.
· بدون وجود الأصول، لا يمكن تحليل الحبر المكتوبة به كيميائياً، وبالتالي التأكد من زمن الكتابة.


2. قرائن صدق رواية سميث
· قساوسة كنيسة مارصابا إلى اليوم يؤكدون – بل ويصرون – أن هذا الكتاب والخطاب الملحق به موجودان بالفعل، وأنهما قد تم نقلهما إلى القدس.
· أمضى سميث الأعوام الخمس عشرة التالية لإكتشافه للخطاب في تحليل هذه النسخ التي حصل عليها، والحصول على آراء الخبراء في كل مجال حولها. وقد عرضها سميث على العشرات من علماء الخط والأسلوب والنصرانيات والعهد الجديد، وقد قرر الجميع أن هذه الصور هي لنسخة من القرن الثامن عشر، نقلها شخص من كتابات كلمنت بالفعل. وجاء هذا التأكيد بنسبة أعلى بكثير من النسبة التي قُنِّن بناءاً عليها العديد من الأسفار في "الكتاب المقدس".
· إتفق علماء ومؤرخوا النصرانية القديمة أن الكلمات وتركيب الجمل يتناسب بشدة مع طريقة كلمنت في الكتابة.
· أخذ سميث صورة الخطاب لعلماء متخصصين في بشارة مرقس – القانونية – لفحص إذا ما كانت تراكيب الجمل وأسلوب الكلام يتطابقان مع طريقة مرقس في كتاباته. ومن جديد، أكد الخبراء أن هذا الأسلوب وتراكيب الجمل بالفعل يطابقان أسلوب مرقس. كما أن القصة نفسها هي القصة المألوفة عن إقامة يسوع لإليعازر في بشارة يوحنا، والتي "نزعت" على أغلب الظن من بشارة مرقس القانونية، غالباً بسبب ما فيها من إيحاءات. كما أن القصة موجودة في مرقس القانونية بشكل أكثر غموضاً وإن كانت بكلام مشابه – كما في الشاب الذي أحب يسوع والذي كان غنياً أيضاً – في الإصحاح العاشر.
· حتى اليوم لم يجد أحد سبباً يدفع سميث لتزييف مثل هذا الخطاب. فقد كان من أبرز العلماء في مجاله بالفعل، وكان نصرانياً ممارساً، عالماً في الديانة النصرانية، يتمتع بالشهرة والغنى، وما كان مثل هذا التزييف إلا مخاطرة عالية لا طائل من ورائها، وقد يخسر بسببها كل ما حقق في حياته الطويلة المرموقة. كما أنه لم يكسب من ورائها شيئاً.
· وفي النهاية، لتبيان مدى صعوبة تزييف هذا الخطاب بالنسبة لسميث، لنفكر في قول أحد علماء المسيحية "لو كان سميث قد تمكن من تزييف هذا الخطاب، فهو قد قام بأبرع عملية تزييف علمية في القرن العشرين".

يتبع إن شاء الله

[الأمير الأحمر]

الختام

ويقول المؤرخون النصارى أن إثبات صحة هذه البشارة يفتح الباب للعشرات من الإحتمالات والأسئلة التي يمكن طرحها حول ممارسات النصارى في هذه الفترة المبكرة من الديانة، حول كلمنت وإجناشيُس، الديانة النصرانية نفسها، بل والممارسات الفعلية ليسوع التاريخي نفسه.

ومن النظريات الأخرى التي قيلت في هذه البشارة السرية لمرقس، أن هناك إحتمال أن كلمنت نفسه أخطأ في القصة. فمُروِّجوا هذه النظرية يظنون أن مرقس لم يكتب إلا بشارة واحدة، وهي تلك التي يظنها كلمنت سرية، إلا أن من قرأها قبل كلمنت قام "بحذف" هذه الأجزاء التي توحي بالشذوذ الجنسي ليسوع لأنهم وجدوها مسيئة. وهذا أمر معتاد من علماء النصرانية منذ زمنهم الأول – حسب أقوال مؤرخي النصرانية القديمة وعلماء الديانة النصرانية ومتبني هذه النظرية وغيرها. وبناءاً على هذه النظرية، فإن البشارة السرية لمرقس تكون هي ما كتبه مرقس أولاً، ثم تلته النسخة التي حذفت منها هذا الأعداد، ثم أصبحت نسخة قانونية.

وكأنما الأمر ليس غامضاً بما يكفي، فيأتي إهداء سميث في الكتاب الذي نشر فيه دراسته حول الخطاب ليزيد الطين بلة. فقد كان الإهداء بإختصار: "للذي يعرف To the one who knows"!

ختاماً، أرجوا أن يكون هذا البحث القصير المكثف قد أفاد الباحثين عن الحق والدارسين للنصرانية ورجال دينها، وفي إنتظار تعليقاتكم. هدى الله الجميع لما يحب ويرضى.

إن أصبت فبتوفيق من الله وفضل وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

المصادر

بحوث مخطوطات البحر الميت
كتاب "البشارة السرية" – د. مورتُن سميث 1973
كتاب "كلمنت السكندري وبشارة مرقس السرية" – مطابع جامعة هارفارد 1973
"البشارة السرية لمرقس" – د. بارت إيرمان

تم بحمد الله

[اليرموك]

جزاك الله خيرا يا أخى العزيز


ولقد قام أحد الأعضاء منذ فترة بنشر بعض المقاطع الكاملة من بشارة مرقس السرية على موقعنا

ولكن لم يوفيها حقها من الشرح و التوضيح كما تفضلتم

مجهود رائع

جزاك الله خيرا

[فارس الميـدان]

جزاكم الله خيراً أخى الحبيب .. هذا البحث يلقى مزيد من الضوء حول موضوع أصالة النصوص والقدرة على التزييف ..

[نصرة الإسلام]

شكر الله لك أخى الكريم الأمير الأحمر هذا الجهد المبارك

[ظل ظليل]

[grade="00008B FF6347 008000 4B0082"]بحث راائع .. وعرض جميل .. يستحق أن يكتب بماء الذهب[/grade]

[الأمير الأحمر]

جزاك الله خيرا يا أخى العزيز


ولقد قام أحد الأعضاء منذ فترة بنشر بعض المقاطع الكاملة من بشارة مرقس السرية على موقعنا

ولكن لم يوفيها حقها من الشرح و التوضيح كما تفضلتم

مجهود رائع

جزاك الله خيرا

جزاك الله كل خير أخي في الله. رأي أعتز به، وشكراً لمرورك.

[الأمير الأحمر]

جزاكم الله خيراً أخى الحبيب .. هذا البحث يلقى مزيد من الضوء حول موضوع أصالة النصوص والقدرة على التزييف ..

جزاك الله عني كل خير أخي الحبيب. هو بالفعل نواة أدعوكم بها للمزيد من البحث. وأعلم مسئولياتك الثقال - أعانك الله - لكني كنت أحب أن تضع رأيك التفصيلي وإضافاتك القيمة أنت وباقي الإخوة الكرام. فأنا لم ألمس إلا القشور، والموضوع له العديد والعديد من الجوانب مثلما تفضلتم، ومنها جانب هام للغاية من وجهة نظري، وهو تأثير الفكر الغنوصي على النصرانية التي بين أيدينا اليوم.

شكراً لمرورك أخي في الله.

[الأمير الأحمر]

شكر الله لك أخى الكريم الأمير الأحمر هذا الجهد المبارك

جزاك الله عني كل خير أختي الكريمة. مرور محمود.