حول منهجيـات التغيير : هوامش حول مقال " كيف تموت الأمـة ؟"

تقليص

عن الكاتب

تقليص

الطلحاوي الإسلام اكتشف المزيد حول الطلحاوي
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حول منهجيـات التغيير : هوامش حول مقال " كيف تموت الأمـة ؟"


    لستُ ممن يتبنـون الطرح السياسي كمدخـل جذري للتغـيير و لستُ أرى أن الرهـان المطلق للتغيير ينطلق أسـاسـا من الحكم السياسي كمـا لستُ ممن يهمشون أدوار التربية في إصـلاح الأنفس و تهذيب النفوس، و لا أرى بأن تغيير الأمـة يجد أصولـه المطلقة في امتـلاك أدوات السلـطة السياسية ، لكن من الأهـم إيجاد صيغـة لمقاربـة أزمـة الأمـة من حيث التـاريخ و الواقـع، و نقـد تصوراتٍ تتجـاهـل دور منظومـة الحكم اللائكي في تفكيك القيم الدينية و إفسـاد المجتمعـات ، لأن العديد من الوُعـاظ و العُلمـاء حسب- رأيي- اتجهـوا نـحو مسلـكٍ وعظـي في محـاولـةٍ لبنـاء الذات الإسلامية و الرهـان علــى المعرفـة الدينية في إصـلاح حـال الأمـة المعـاصرة ، في حين لـم يولوا الاهتمـام الأكبر لمسألـة نفوذ الدولـة اللائكية في حياة الأمم و دراسـة وظيفتهـا المدمـرة للعـلاقـات الأفقية بين الناس . لذلـك تبقـى القضيـة الرئيسية في نـظري تكمن في ضرورة اعتمـاد منهـج شـامـل لمشروع الإصـلاح بحيث يستطيع فيه الداعيـة أن يجمـع بين أدوات نقـد الواقع الاجتمـاعي و السياسي المترهـل و أن لا يستغرق حديثـه في جوانـب معرفيـة سُرعـان مـا يعمـل النظـام اللائكي على هدم مقومـات المجتمع من خلال سياسـاته التشريعية المستمـدة من الاعتبارات الوضعية .

    لا أعتـقد البتـة أن الحركـات الإسلامية المعـاصرة همشـت من عـامـل التربية كمدخـل للبنـاء و لا انصرفت كليـا إلـى الاعتبار السياسي كمدخـل للإصـلاح،لأن معظمهـا يُدركُ بأن التحولات المعـاصرة في بنيـة الأمـة تُلزمُ المُشتَغِـلَ بهموم الأمـة بضرورة الجمـع بين الجـانب التربوي و السياسي و الاجتمـاعي نظرا للفروقـات الكبيرة الحـاصلـة في جسم الأمـة الآن، لم يعُد المجـال التداولي الإسلامي مُتَحكمـا في مفاصل المجتمع الإسلامي كمـا كـان في السابق و لم تعد قضيـة الدولة جهـازا بسيطـا مستقلا عن المجتمع كمـا كـان في السابق، لذلك نحتـاجُ لمنهـاج جديد يفهـمُ قضيـة الغثـائية و يعطـي حقهـا من التحليل لكي نتأمـل كيف بدأ الفسـاد عبر التـاريخ و كيف تدحرجَ إلينـا إلـى أن صِرنـا كِيـانـات معزولـة و منخورة لا تقوى على التحدي من جديد . جـاء في الحديث النبوي الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة" .

    أرى أن الاستبداد السياسي سببٌ في كثير من البلاوى الاجتمـاعية و الاقتصـادية و الأخـلاقية و أسٌّ مفصلــي في تحويل الأمـة إلــى رُكـامٍ بشري خـامـل، لأنـه يُحدثُ أزمـاتٍ و انسدادات تُؤثِّـرُ علــى الحياة الدينية الطبيعية للأمـة ، فكيف يستقيمُ حـالُنـا في ظــلِّ نظـام استبدادي ينـشر المفاسـد و الخبائث و يهضم حقوق النـاس و يعقـد تحـالفات مـع شياطين البشر و يُحـاصـر مـعاقل التدين و يُحـاربَ دعوة الله جهـارا و يفتحَ السجون لأهـل الحق من الدعـاة ؟ كيف يمكن بنـاء أمـة يجثم المستبدون علـى كراسي حُـكمٍ رغـم أنف إرادة شعوبهـا ؟ كيف نتحرر من قيود الأغـلال السياسية التـي تقتـل الحريـات و تمنـع العلمـاء الحقيقيين من قول كلمـة حق في وجـه سلطـان جـائر ؟ كيف نراهـن فقط علـى التربية في زمن تُفسِدُ فيهـا الدولـة الجـائرة كـل مـا يبنيـه الأتقيـاء المخلصين في منـابر الدعوة ؟ كيف تتغير أحوالنـا و نغير غيرنـا إذا لـم يقم الثقـات بأدوارهم في النهي عن المنكر السلطـاني و التحذير من موالاة الكفار و المشركين ؟ نعم، لـم يأتِ الإسلام فقط لمحـاربـة الاستبداد و رفض الظلم السياسي و لـم يَقـل أحد قط بأن هـذا الدين العظيم ليس إلا ثورة علـى الطغـاة الجبـارين، لكن من الخـطأ – فيمـا أرى- اختزالـه في ركن معين، من الخطأ الصمت علــى الموبقـات الكبرى التـي يرتكبهـا المستبدون و الاستغراق في تأنيب الذات الفردية و كأن الأمـة تعيش بمعزل عن الدولـة اللائكية المُنتِجـة للأوبئـة الأخـلاقية . نعم إن دعـوة الإسلام أعظم من أن نختـزلـهُ في مطلب سياسي يُمـثِّـلُ شيئـا ضئيلا من رسـالـة هـذا الدين العظيم ..

    إن المشكلـة تكمن في فئـات سكتوا عن البـاطل السياسي و زعموا أن الأمـة يجب أن تنهـض بموجب تغيير ذاتي ، هـذا الطرح لا يستوعـب التـاريخ و الواقع، فأمـا من جهـة التـاريخ يكفينـا أنْ نتأمـل في مسيرة العلمـاء في علاقتهم بالسلطـان الجـائر و كيف كـانوا يتصرفون أمـام حُكـامٍ لـم يفعلوا إلا جزء مُهمـلا ممـا يفعلـه الحكـام اللائكيون المعاصرون، و لعل إطـلالـة سريعـة في كتاب ( الإسلام بين العلمـاء و الحكـام ) لعبد العزيز البدري أو في كتـاب ( في الفقه السياسي:مقاربة تـاريخية) لمحمد محمد أمزيان شواهـد تترى علـى استيعـاب السلف لفلسفـة الإسلام في الدعوة و عـدم اختزالـه في بُعده الوعظي البحت، فإذا كـان هـؤلاء في المـاضي برهنوا علـى إخـلاصهم في دينهم دون محـاباة لأحد أو صمت علـى أحد فكيف يصمتُ الآن بعض العلمـاء علــى واقع الحكـام الذين أبادوا الأمـة بالمُهلِكـات الأخـلاقية و راحوا يتمترسوا وراء الفضائيات يُغرقون الإنسـان بذنوبـه و لا يجرؤون علـى مُحـاسبـة من وفَّـر الظروف لنمو الطفيليات و الأمراض الاجتمـاعية ؟! و لعـل أقرب مثـال حيّ هو واقع الانقلاب السياسي اللائكي في مصـر و لننظر في تصرفـات بعض العلمـاء المُستَسلمين و بين العلمـاء المقاومين، أمِـنَ المعقول في زمـن هـذا الاستبداد العسكري الرهيب الذي أبـادَ الأمـة بلغـة القوة و البطش و أطلقَ عِنـانـه للأقزام الإعلاميين للنيل من الإسلام و أعـطى كـل شيء للاحتلال الصهيونـي ، أَمِنَ المعقول أن يلتزم العـالِـم صمتـا مُخجـلا من كل هـذا و يظل في نفس الوقت يصرخ في الفضائيـات تأنيبـا لسلوك المسلم و كأنه يعيش في جزيرة الوقواق أو في عـالمٍ منفصل عنه ؟!...

    يجب أن نلحظ على هـذا الاعتبار معـادلات الصراع الجديدة القائمـة في زمن الفتنـة و التــي لم تكن مطروحـة فيما مضـى علـى السلف الصـالح نظرا للفروقـات الكبيرة في اختصاصـات الدولـة الأخطبوطية الراهنـة ، فلنقل بشيء من المغامرة بأنّ أسّ الفسـاد لا يمكن أن تتزحزح عن هرم السلـطة و انزيـاحٍ الحـاكمين عن الشريعـة خصوصـا في زمننـا المعـاصـر و الذي أثبتَ قدرة السلـطة السياسية علـى التأثير المبـاشر في حيـاة النـاس الدينية عـامـة، لا بدَّ إذن من رصـد منـابـع الفسـاد و أصولـه دون حصر مُحددات التغيير في الجانب الفرداني بالمطلق، لا بد من النظر –مثلا- في القُطريـات المعـاصرة و مـا أنتجتهــا من إشكـالات بنيوية حـالت دون بنـاء تكتـل إسلامـي قادر علـى الصمود في وجـه الديكتـاتوريـات، القُـطريـات التــي رسمت معـالـم التشتت بين الأمم و قادت الأمـة إلـى عمـالـة حضاريـة أثَّرت بشكـل كبير في عودة المسلمين إلـى مرجعيتهم الوجودية، القُطريـات التــي فصلت مشروع الجمـاعـة عن كِيـان الدولـة و مزقت كـل أوصـال العـلاقـات الصلبـة التــي كـانت موجودة فيمـا مضـى، علـى أنّ القُطريـات في حـد ذاتهـا ليست شـرا بذاتهـا و ليست في المقابل دينـا يصيرُ المـنـاقِشُ فيه مُرتكبَ خطيئـة، فالقضيـة التـي تدور حول منهجيـات التغيير و سُبـل النهوض لا يجب أن تأخـذ نمطـا تبسيطيـا يُسنَدُ فيه كل شيء إلـى اعتبارات ثانوية أو غير فاعلـة ، و أعتقد أن حديث النبي عليه السلام " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة" فيه إشارة واضحـة علـى انهـيار منظومـة الحكم الإسلامي في التـاريخ كمقدمـة لانتقاض عرى الإسلام، و أن الأولوية هنـا تفيد التراتب الزمنـي عبر التاريخ و هـو مـا تحققت نبوءاته فعـلا عندمـا صـارَ الحكم يأخـذ منـحى القوة و الغلبـة في حيـازة السلـطة ، و لا يعنـي هـذا بأن الحكم السياسي بموجب الحديث أمـرٌ سابقٌ علـى الصـلاة ، إنمـا المعنـى يفيد بشكـل واضح أن الـتاريخ الإسلامــي عرفَ تموجـات افترقَ فيه السلطـان عن القرآن و سـادت بفعـل هـذا الانفصال قِـيما أخرى تحكمت فيهــا تقاليد المُلك العضوض و سياسـات الإكراه التـي أفضـت إلـى تشوه الممـارسـة السياسية الإسلامية منـذ انتهـاء الخـلافـة الراشدة بشكـل فعـلي، و في شرح العـلامـة ابن بـاز رحمه الله على الحديث المذكور مـا يشير إلى فساد الحكم السياسي .

    ليس الغرض هنـا العودة للتـاريخ لاستنطـاق مُجريـاته و وقائعـه السياسية بعد انتهـاء التجربـة الشوريـة الفريدة إنمـا القصـد الوقوف علـى البواكير الأولـى لتحلل الممـارسـة الشرعية و غلبـة منطـق الانتزاء في تولية الحكم دون الرجوع إلــى الأمـة لتختـار بحريتهـا الإرادية من تريد، نعم لم تكن تلك الإرهـاصـات ذات معنـى كبير إذا نظرنـا الآن في حجـم تسلـط الدولـة اللائكية المعـاصرة و مـا أفرزتـه من مفـاسـد و مهـالك، فالأمـة فيمـا مـضى كـانت قويـة بذاتهـا نظرا لتحكم المجـال التداولي الإسلامـي في عـلاقـات النـاس و نـظرا لِكون الحـاكم نفسـه لـم تكن لـه الجرأة العلنية علــى مُخـاصمـة الشريعـة ، لذلـك لـم تتفكك الأمـة إلـى كـيان ضعيف و لـم تتوقف عـطاءاتهـا علـى الإنتـاج بالرغـم من انزيـاح الحكم عن إرادة الأمـة . أمـا الآن فقد تغيرت المعـادلـة بشكـل كبير و صـارت الأمـة مُتفرقـة و خـاملـة لأسبـاب كثيرة لا نختزلهـا في البعد السياسي لوحده، بل كـانت ثمرة اعتبارات شتـى منهـا مـا يعود للتراكمـات التـاريخية الاستعمـارية و منهـا مـا يتصـل بالتعليم و الاقتصـاد و الحركـة العُلمائية و بروز تيارات لائكيـة مـادية تستمـد ولاءاتهـا من المشروع الغربي و منهـا مـا يرتبط بالعقليـات المُتكلسـة المتشبعـة بقيم التحرر من الدين .

    أومِـنُ ايمـانـا حـاسمـا بأن تغيير مـا بالأنـفس و استخـراج مـا بهـا من آفـات قلبية و سلوكية مسلكٌ لا يختلف فيه إثنـان، و لأن أصل التغيير إذا لـم يكن مداره حول الإنسـان و تقـويـة عـلاقـاته بربـه فـلن يعدو أكثر من تغيير "ثوري" يجعـل الرغيف مطلبـا حـاسمـا و نهـائيا ، لقد كتب العلمـاء كثيرا عن هـذا المسلك التربوي الرائد و صنفوا فيه كتـابـات راقيـة، لكن من الخطـأ فهـم تركيبـة الإنسـان بهـذا الشكـل الوحيد، إذ لا بـد من تحليل العَقبـات التــي تحول دون تمكن الدين من قلوب النـاس، لا بـد من دراسـة كيف يهـضم الاستبداد دفئ الإيمان و يدفـع بعض النـاس إلـى الاستغراق في الملذات و المـاديات ، تُرى كيفَ نفهـم تحويل الهمم الكسولـة إلـى فاعلـة إذا لـم تُقدِّم الدولـة العـادلـة حلولا لمشـاكـل البطـالـة و التعليم و مآزق الفسـاد الاقتـصادي؟ كيفَ نراهـن علــى أمـة متحركـة في ظــل منـاخ سياسي مستبـد استحوذ علـى مقدرات البلد و حولـه إلــى حديقـة خـاصـة للأسرة الحـاكمة ؟ أم أن الأمـر لا شأن لـه بتربية النـاس ؟ لـقد وعـى الديكتـاتوريون الدرس البليغ عندمـا مسكوا بالسلـطة و مرروا من خـلالهـا مشاريعهم المُدمـرة للشعوب أخـلاقيا و اجتمـاعيا و سياسيا فصـارَت الأمـة تشقـى بشقـاء هـذا الحكم أو ذاك، همْ يُدركون بأن التحكم بالعلمـاء و تدجين البعض منهم و تحويل مؤسسات الدولـة إلـى فضاءات مُوالية لهم و استنزاف مـالية الدولـة كفيلٌ بأن يُمـزق الأمـة إلـى جُزيئات منفصلـة و إلـى أنـانيات داخلية لا تنتج إلا مفاسد شتـى .

    لا بد أن نفهـم منظومـة التغيير كبنية كلية
    لا تعزل الصـلاة عن الحكم و لا تفصـل بين الشريعـة و العقيدة و لا تجعـل فاصلا بين الدولة و الدعوة و إلا سقطنـا في متـاهـات و بلاوى أعظمهـا الصمت علـى أكبر جريمـة في حق الأمـة :جريمـة اغتصـاب السلطـة و مـا يلحقهـا من ضيـاع حقوق العبـاد و البلاد، لنتذكـر دائمـا بأن فسـاد الحكم من النـاحية الأخـلاقية ليس شيئـا خـاصـا يعود لذاتـه و إنمـا قضيـة خطيرة تُسفِـرُ عنهـا أزمـات داخلية تُؤثـر على الجمـاعة قاطبـة، فليس الأمـر محصورا في تصرفـات بعينهـا و إنمـا صـارَ الأمـر يتداعـى علـى كـل النـاس سلبـا ...إنَّ المنهـج الإصـلاحي إنْ لـم يأخـذ حقـه من شموليـة النظرة و الرؤيـة أفرزت عوائق موضوعيـة تصير بدورهـا إحـدى موانـع التغيير .


    ملحوظـة : كـانت هـذه تجميعـة لحوار مـع أحد الإخوة في منتدى التوحيد علـى هـامش مقال " كيف تموت الأمـة ؟"

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة Islam soldier, 6 يون, 2022, 01:23 م
ردود 0
167 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Islam soldier
بواسطة Islam soldier
 
ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:22 ص
ردود 0
22 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Islam soldier
بواسطة Islam soldier
 
ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:20 ص
ردود 0
40 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Islam soldier
بواسطة Islam soldier
 
ابتدأ بواسطة عادل خراط, 6 أكت, 2021, 07:41 م
ردود 0
32 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عادل خراط
بواسطة عادل خراط
 
ابتدأ بواسطة Ibrahim Balkhair, 4 سبت, 2020, 05:14 م
ردود 3
84 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Ibrahim Balkhair
بواسطة Ibrahim Balkhair
 
يعمل...
X