هل في القرآن لفظة غريبة؟

تقليص

عن الكاتب

تقليص

سامسونج مسلم اكتشف المزيد حول سامسونج
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هل في القرآن لفظة غريبة؟

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    اخوانى الكرام كونوا معى علوم القران الكريم عسى الله ان

    ينفعنا بما علمنا

    ارجوا ان ينال اعجابكم

    هل في القرآن لفظة غريبة؟




    قال قوم: إنا اذا تلونا القرآن وتأملناه وجدنا معظم كلامه مبنياً ومؤلفاً من ألفاظ قريبة ودارجة في مخاطبات العرب ومستعملة في محاوراتهم,وحظ الغريب المشكل منه بالإضافة الى الكثير من واضحه قليل,وعدد الفقر والغرر من ألفاظه بالقياس الى مباذله ومراسيله عدد يسير,الأمر الذي لايشبه شيئاً من كلام البلغاء الأقحاح من خطباء مصاقع وشعراء مفلقين,كان ملء كلامهم الدرر والغرر والغريب الشارد.
    لكن الغرابة على وجهين – كما ذكره أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي في كتابه " معالم السنن " قال : الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد من الفهم,كما أن الغريب من الناس إنما هوالبعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل.والغريب من الكلام يقال به على وجهين:
    أحدهما : أن يراد به أنه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة فكر.والوجه الآخر : أن يراد به كلام من بعدت به الدار من شواذ قبائل العرب,فاذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربنا.
    والغريب في القرآن إنما هو من النوع الثاني,ومن ثم لم يخل بفصاحته,والقرآن لم يستعمل إلا ما تعارف استعماله عند العرب وتداولوه فيما بينهم,ولكن في طبقة أعلى وأرفع من حد الابتذال العامي,فلا استعمل الوحشي الغريب ولا العامي السخيف المرتذل.على حد تعبير عبد القادر الجرجاني في أسرار البلاغة.
    قال التفتازاني : والغرابة كون الكلمة وحشية,غير ظاهرة المعنى,ولا مأنوسة الاستعمال,فمنه ما يحتاج في معرفته الى أن ينقر ويبحث عنه في كتب اللغة المبسوطة ,كتكأكأتم وافرنقعوا في قول عيسى بن عمر النحوي,هاجت به مرة وسقط من حماره فوثب اليه قوم يعصرون ابهامه ويؤذون في اذنه,فأفلت من أيديهم وقال:
    " مالكم تكأكأتم علي كما تتكأكأون على ذي جنة,افرنقعوا عني!".
    فجعل الناس ينظرون اليه ويقول بعضهم لبعض: دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية!.
    قال: ومنه ما يحتاج الى أن يخرج له وجه بعيد,نحو مسرج في قول العجاج:
    ومقلة وحاجباً مزججا وفاحماً ومرسناً مسرجا
    لم يعلم أنه مأخوذ من السيف السريجي في الدقة والاستواء,أو من السراج في البريق واللمعان.
    قال: والوحشي قسمان,غريب حسن وغريب قبيح,فالغريب الحسن هو الذي لايعاب استعماله على العرب لأنه لم يكن وحشياً عندهم,وذلك مثل شرنبث واشمخر واقمطر وهي في النظم أحسن منه في النثر.ومنه غريب القرآن والحديث.
    والغريب القبيح يعاب استعماله مطلقاً ( حتى على العرب ) ويسمى الوحشي الغليظ,وهو أن يكون مه كونه غريب الاستعمال ثقيلاً على السمع كريهاً على الذوق,ويسمى المتوعر أيضاً.وذلك مثل جحيش واطلخم الأمر وجفخت وأمثال ذلك.
    والخلاصة: القرآن كما يترفع عن الاسترسال العامي المرتذل,كذلك يبتعد عن استعمال غرائب الألفاظ المتوعرة بمعنى وحشيتها غير مأنوسة الاستعمال ولا مألوفة في متعارف اهل اللسان المترفعين.
    قال الخطابي : ليست الغرابة مما اشترطت في حدود البلاغة,وإنما يكثر وحشي الغريب في كلام الأوحاش من الناس والأجلاف من جفاة العرب,الذين يذهبون مذاهب ( العنهجية ) ولا يعرفون تقطيع الكلام وتنزيله والتخير له,وليس ذلك معدوداً في النوع الأفضل من أنواعه,وإنما المختار منه النمط الأقصد الذي جاء به القرآن,وهو الذي جمع البلاغة والفخامة الى العذوبة والسهولة.
    قال: وقد يعد من ألفاظ الغريب في نعوت الطويل نحو من ستين لفظة أكثرها بشع شنع,كالعشنق والعشنط والعنطنط,والشوقب والشوذب والسهلب,والقوق والقاق,والطوط والطاط...فاصطلح أهل البلاغة على نبذها وترك استعمالها في مرسل الكلام,واستعملوا الطويل,وهذا يدلك على أن البلاغة لاتعبأ بالغرابة ولاتعمل بها شيئاً.
    وبعد,فالذي جاء منه في القرآن الشيء الكثير هو الغريب العذب والوحش السائغ,الذي أصبح بفضل استعماله ألوفاً,وصار من بعد اصطياده خلوباً.دون البعيد الركيك والمتوغر النفور,الذي لم يأت منه في القرآن شيء.مما جاء في كلام أمثال ذاك النحوي المتكلف عيسى بن عمر.
    والسبب في ازدحام غرائب الألفاظ وعرائس الكلمات في القرآن هو ارتفاع سبكه عن مستوى العامة الهابط,واعتلاء اسلوبه عن متناول الأجلاف المبتذل.
    القرآن اختص بإحاطته على عوالي الكلمات الفصحى,وغوالي العبارات العليا,لاإعواز في بيانه ولا عجز ولا قصور,الأمر الذي ينبئك عن علم شامل بأوضاع اللغة وكرائم الألفاظ,دليلاً على أنه من رب العالمين المحيط بكل شيء.هذا أولاً.
    وثانياً: احتواؤه لما في لغات القبائل من عرائس الغرائب,كانت معهودة في أقطار أختصت بوضعها,ومعروفة في أمصار توحدت في استعمالها,ومن ثم كانت غريبة في سائر البقاع والبلدان.
    وقد استعمل القرآن كل هذه اللغات,فتعارفت القبائل بلغات بعضها من بعض,وبذلك توحدت اللغة,وخلصت من التشتت والافتراق,وهذا من فضل القرآن على اللغة العربية.
    فقد أخذ القرآن من لغات القبائل العربية المشهورة:
    1- ازدشنوءة 2- الأشعريون 3- أنماط 4- أوس
    5- بنوحنيفة 6- بنو عامر 7 - تغلب 8- تميم
    9- ثقيف 10- جذام 11- جرهم 12- حمير
    13- خثعم 14- خزاعة 15- سعد العشيرة 16- سليم
    17- طي 18- عذرة 19- غسان 20- قريش
    21- قيس 22- كنانة 23- كندة 24- لخم
    25- مزينة 26- هذيل 27- همدان 28- هوازن
    ومن أهل البلاد المتحضرة :
    1- الحجاز 2- حضرموت 3- سبأ 4- عمان
    5- مدين 6- اليمامة 7- اليمن
    ومن لغات الامم المجاورة للعرب ذوات الشأن:
    1- الأحباش 2- الفرس 3- الروم 4- القبط
    5- الأنباط 6- السريان 7- العبرانيون 8- البربر
    وإليك تفصيل هذا الإجمال حسب ترتيب السور:
    فمن سورة البقرة :
    "السفهاء" : الجهلاء."خاسئين" : صاغرين."شطر" : تلقاء.بلغة كنانة.
    "رغداء": خصباً. "رجزاً" :عذاباً. "سفة" : خسر."ينعق" : يصيح. بلغة طي.
    "أشتروا" باعوا."العنت" :الأثم."عزموا" : حققوا."صلدا" :نقياً.بلغة هذيل.
    "باؤوا" :استوجبوا. "شقاق" :ضلال. "الخير" :المال. بلغة جرهم.
    "أماني" :أباطيل. "وسط" :عول. "جنفا" :تعمداً للجنف.بلغة قريش.
    "بغيا" :حسدا.لغة تميم.
    "الشيه" :الوضح."العصل" :الحبس.لغة ازدشنوءة.
    "الصاعقة" :الموتة.لغة عمان.
    "الطور" :الجبل.وافقت لغة السريان.
    "رفث" :جماع.لغة مذحج.
    "أفيضوا" :انفضوا.لغة خزاعةز
    ومن آل عمران:
    "حصروا" :لاحاجة له الى النساء."خلاق" :نصيب. "فورهم" :وجوههم ."تهنوا" :تضعفوا.لغة كنانة.
    "دأب" : أشباه.لغة جرهم.
    "سيداً" : حكيماً. "تفشلاً" : تجبنا.لغة حمير.
    "ربانيين" : علماء.وافقت لغة السريان.
    "إصري" : عهدي.لغة النبط.
    "آناء" : ساعات.لغة هذيل.
    "خبالاً" : غياً.لغة عمان.
    "ربيون" : رجال.لغة حضرموت.
    "قرح" : بالفتح.لغة الحجاز,وبالضم : لغة تميم.
    ومن سورة النساء :
    "نحلة" : فريضة.لغة قيس بن عيلان.
    "تعولوا" : تميلوا.لغة جرهم.
    "سبيلا" : مخرجا."السفاح" : الزنا."موالي" : عصبة."السلم" : الصلح. " الكلالة " :لاولد له ولاوالد."أن تضلوا" : كراهية أن تضلوا.لغة قريش.
    "أفضى" : جامع.لغة خزاعة.
    "تميلوا" : تخطئوا.لغة سبأ.
    "كفل": نصيب.وافقت لغة النبط.
    "حصرت" : ضاقت.لغة اليمامة.
    "مراغماً" : منفسحاً.لغة هذيل.
    "يفتنكم" : يضلكم.لغة هوازن.
    "تغلوا" : تزيدوا.لغة مزينة.
    ومن سورة المائدة:
    "العقود" : العهود.لغة بني حنيفة.
    "مخمصة" : مجاعة."لاتأس" : لاتحزن."عثر": اطلع.لغة قريش.
    "حرج" : ضيق.لغة بن عيلان.
    "ملوكا" : أحراراً.لغة هذيل وكنانة.
    "فافرق" : فاقض.لغة مدين.
    ومن سورة الأنعام:
    "مدراراً" : متتابعا.لغة هذيل.
    "نفقاً" : سرباً.لغة عمان.
    "مبلسون" : آيسون.لغة كنانة.
    "يصدفون" : يعرضون.لغة قريش.
    "قبلاً" : عياناً.لغة تميم.
    "إملاق" : جوع.لغة لخم.
    ومن سورة الأعراف :
    "حرج" : شك ."يتطهرون" : يتنزهون."آسى" : أحزن. " ثقلت" : خفيت."حفياً" : عالماً.لغة قريش.
    "طفقا" : عمدا." بئيس" : شديد.لغة غسان.
    "سفاهة" : جنون.لغة حمير.
    "يغنوا" : يتمتعوا.لغة جرهم.
    "هدنا" : تبنا. وافقت لغة العبرانية.
    "وما مسني السوء" : الجنون.لغة هذيل.
    "اجتبيتها" : أتيتها.لغة ثقيف.
    ومن سورة الأنفال:
    "رجز الشيطان" : تخويفه."ليثبتوك" : ليخرجوك ."مكاء" : صفيراً.
    "تصديه" :تصفيقاً."يركمه" : يجمعه.لغة قريش.
    "فرقاناً" : مخرجا."حرض" : حض.لغة هذيل.
    "أساطير" : كلام الأولين." فشرد بهم" :نكل."لاتحسبن" بفتح السين.لغة جرهم.
    "نكص" : رجع.لغو سليم.
    ومن سورة براءة:
    "غير معجزي الله" : غير سابقين.لغة كنانة.
    "ولاذمة" : ولاقرابة.لغة قريش.
    "وليجة" : بطانة."عيلة" :فاقة."انفروا" :اغزوا. " السائحون": الصائمون.لغة هذيل.
    "يبشرهم" بالتخفيف لغة كنانة. والتشديد لغة تميم.
    ومن سورة يونس :
    "زيلنا" : ميزنا.لغة حمير.
    "يعزب" : يغيب.لغة كنانة.
    "غمة" : شبهة."ببدنك": بدرعك.لغة هذيل.
    ومن سورة هود :
    "الى امة معدودة" : سنين.لغة ازدشنوءة.
    "اراذلنا": سفلتنا."عصيب" : شديد.لغة جرهم.
    "فلاتبتئس" :لاتحزن.لغة كندة.
    "غيض الماء" : نقص.وافقت لغة الاحباش.
    "مرجواً" : حقيراً.لغة حمير.
    "حنيذ" : مشوي."تتبيب" : تخسير.لغة قريش.
    "أواه منيب" : يعني الدعاء الى الله.وافقت النبطية.
    "سيء بهم" : كرههم.لغة غسان.
    "سجيل".وافقت لغة الفرس.
    "الحليم الرشيد" : ضد الأحمق السفية.لغة مدين.
    "لاتركنوا" : لاتميلوا.لغة كنانة.
    ومن سورة يوسف :
    "خاسرون" : مضيعون.لغة قيس بن عيلان.
    "هيت لك" : تهيأت لك.وافقت النبطية.
    "متكئا" : أترجا.وافقت القبط.
    "أعصر خمراً" : عنباً.لغة عمان.
    "وادكر بعد أمة" : بعد نسيان.لغة تميم وقيس.
    "السقاية" : الاناء.لغة حمير.
    ومن سورة الرعد:
    "أفلم ييأس" : يعلم.لغو هوازن.
    "ظاهر من القول" : كذب.لغة مذحج.
    ومن سورة ابراهيم :
    "دار البوار" : دار الهلاك.لغة عمان.
    "افئدة من الناس" : ركباناً منهم."مقنعي رؤوسهم" : ناكسي رؤسهم.لغة قريش.
    ومن سورة الحجر :
    "من حمأ مسنون" : طين منتن.لغة حمير.
    "دابر هؤلاء مقطوع" : مستأصل.لغى جرهم.
    "للمتوسمين" : المتفرسين.لغة قريش.
    ومن سورة النحل :
    "تسيمون" : ترعون.لغة خثعم.
    "ظل وجهه" : صار.لغة هذيل.
    "كل على مولاه" : عيال."قانتاً" : إماماً مقتدى به.لغة قريش.
    "سرايبل تقيكم الحر" : القمص.لغة تميم.
    "سرايبل تقيكم بأسكم" : الدروع.لغة كنانة.
    ومن سورة الاسراء:
    "ولتعلن" : تقهرون."جاسوا" :تخللوا.لغة جذام.
    "طائرة" : عمله.لغة أنمار.
    "دمرنا" : أهلكنا.لغة حضرموت.
    "المبذرين" : المسرفين."شاكلته": ناحيته.لغة هذيل.
    "محسوراً" : منقطعاً.لغة جرهم.
    "فسينغضون" : يحركون."مسطوراً" : مكتوباً."إمام" : كتاب.لغة حمير.
    "لأحتنكن" : لأستأصلن.لغة الأشعريين.
    "دلوك الشمس" : زوالها."لفيفاً" : جميعاً.لغة قريش.
    ومن سورة الكهف:
    "باخع نفسك" : قاتل نفسك "إمراً" : عجيباً."نكراً" : منكراً.لغة قريش.
    "الرقيم" : الكتاب.وافقت لغة الروم.
    "شططاً" : كذباً.لغة خثعم.
    "فجوة" : ناحية."موئلاً" : ملجأ."لاأبرح" : لاأزال.لغة كنانة.
    "الوصيد" : الفناء."حقباً" : دهراً.لغة مذحج.
    "رجماً بالغيب" :ظناً."ملتحداً" : ملجأ."يرجو" : يخاف.لغة هذيل.
    "الاستبرق" : الديباج.وافقت لغة الفرس.
    "حسباناً" : برداً.لغة حمير.
    "وراءهم" : أمامهم.لغة النبطية.
    "الصدفين" : الجبلين.لغة تميم.
    ومن سورة مريم:
    "من الكبر عتياً" : نحولاً.لغة حمير.
    "تحتك سرياً": جدولا.وافقت السريانية.
    "حفياً" : عالماً." أيهم أشد على الرحمن عتياً" : أعظم أمراً."ورداً" : حفاةً مشاةً عطاشاً: صوتاً خفياً.لغة قريش.
    "ضداً" : عدواً وخصماً.لغة كنانة.
    ومن سورة طه :
    "مآرب" : حاجات.لغة حمير.
    "اليم" : البحر.توافق القبط.
    "تارةً أخرى" : مرة أخرى.لغة الأشعريين.
    "هضماً" : نقصاً.لغة هذيل.
    "ذكركم" : شرفكم."حسيسها" : جلبتها.لغة قريش.
    "تتخذ لهواً" : يعني المرأة.لغة اليمن.
    "فجاجاً": طرقاً.لغة كندة.
    "حرم على قرية" : لغة هذيل."حرام على قرية" : يعني أمة.لغة قريش.
    "حدب ينسلون" : جانب يخرجون.لغو جرهم.
    ومن سورة الحج :
    "هامدة" : مغيرة .لغو هذيل.
    "امنيته" : فكرته.لغة قريش.
    ومن سورة المؤمنون:
    "طور" : جبل.وافقت السريانية.
    "سيناء" : الحسن.توافق النبطية.
    "خرجاً" : جعلاً.لغة حمير."خراجاً".لغة قريش.
    "استكانوا" : استذلوا.لغة قريش.
    "مبلسون" : آيسون.لغة كنانة.
    "اخسأوا" : اخزوا.لغة عذرة.
    ومن سورة النور:
    "لولا جاؤوا" : هلا جاؤوا."لايأتل" : لايحلف.لغة قريش.
    "الودق" : المطر."الخلال" السحاب.لغة جرهم.
    ومن سورة الفرقان:
    "قوماً بوراً" : هلكاً.لغة عمان.
    "حجراً محجوراً" : حراماً محرماً.لغة قريش.
    "الرس" : البئر.لغة ازذشنوءة.
    "تبرنا" : أهلكنا.لغة سبأ.
    "غراماً" : بلاءً.لغة حمير.
    "عبدت" : قتلت.بالنبطية.
    "شرذمة قليلون" : عصابة." بكل ريع" : بكل طريق.لغة جرهم.
    من سورة النمل الى آخر الأحزاب:
    "رب أوزعني" : ألهمني." في مرية" : في شك.لغة قريش.
    "جناحك" : يدك." الرهب": الكم.لغة بني حنيفة.
    "واقصد في مشيك" : اسرع.لغة هذيل.
    "أنكر الاصوات" : أقبحها." الصرح" : البيت."فيطمع الذي في قلبه مرض" يعني الزنا.لغة حمير.
    :أليماً" : موجعاً.وافقت العبرانية.
    "صياصيهم" : حصونهم.لغة قيس عيلان.
    ومن سورة سبأ:
    "وقدر في السرد" : يعني المسمار في الحلقة.لغة كنانة.
    "القطر" : النحاس.لغة جرهم.
    "منسأته" : عصاه.لغة حضرموت وأنمار وخثعم.
    "التناوش" : التناول.لغة قريش.
    ومن سورة فاطر:
    "تؤفكون" : تكذبون ."أفاك" : كذاب.لغة قريش.
    ومن سورة يس:
    " يس " : ياإنسان.لغة الحبشة.
    " الأجداث " : القبور.لغة هذيل.
    " امتازوا " : اعتزلوا.لغة قريش.
    ومن سورة الصافات :
    "دحوراً" :طرداً.لغة كنانة.
    "واصب" : دائم.لغة قريش.
    "شهاب ثاقب" : مضيء.لغة هذيل.
    "متنا" : بالكسر.لغة الحجاز.وبالضم لغة تميم.
    "شوباً" : مزجاً.لغة جرهم.
    "أتدعون بعلاً":رباً.لغة حمير أوازدشنوءة.
    "أويزيدون" : بل يزيدون.لغة كندة.
    "إفكهم" : كذبهم.لغة قريش.
    ومن سورة ص :
    "ولات حين مناص" : ليس حين فرار.توافق النبطية.
    "الأواب" : المطيع.لغة كنانة وهذيل وقيس عيلان.
    "حيث أصاب " : حيث أراد.لغة عمان.
    "سخرياً" : بالكسر.لغة قريش,وبالضم لغة تميم.
    "رجيم" : ملعون.لغة قيس عيلان.
    من سورة الزمر الى آخر سورة الجاثية:
    "أشمأزت" : مالت ونفرت.لغة الأشعريين.
    "حاق" : وجب.لغة قريش واليمن.
    "مقاليد" : مفاتيح.لغة حمير.وافقت لغة قريش والأنباط والحبشة.
    "كاظمين": مكروبين.لغة ازدشنوءة.
    "واق" : مانع.لغة جثعم.
    "خاشعة" : مقشعرة.لغة تميم.
    "يخرصون" : يكذبون.لغة هذيل.
    "تحبرون" : تنعمون.لغة قيس عيلان وبني حنيفة.
    "فارتقب" : فانتظر.لغة قريش.
    "لايرجون" :لايخافون.لغة هذيل.
    ومن سورة الأحقاف :
    "حق عليهم القول" : وجب.لغة قريش.
    "الأحقاف" : الرمل.لغة حضرموت وتغلب.
    ومن سورة محمد ( ص ):
    "واصلح بالهم" : حالهم.لغة هذيل.
    "آسن" : منتن.لغة تميم.
    "يتركم أعمالكم" : ينقصكم.لغة حمير.
    ومن سورتي الفتح والحجرات:
    "معكوفاً" : محبوساً.لغة حمير.
    "لايلتكم" : لاينقصكم.لغة قيس عيلان.
    ومن سورة ق :
    "مريج" : مستتر.لغة جثغم.
    "لغوب" : إعياء.لغة حضرموت.
    "بجبار" : بمسلط.لغة جرهم.
    ومن سورة الذاريات :
    "الإفك" في جمع القرآن : الكذب.لغة قريش.
    "الخراصون" : الكذابون.لغة كنانة وقيس عيلان.
    "مايهجعون" : ماينامون.لغة هذيل.
    "اليم" : البحر.وافقت النبطية.
    "ذنوباً" : نصيباً من العذاب.لغة هذيل.
    ومن سورة الطور:
    "المسجور" : الممتلىء.لغة بني عامر بن صعصعة.
    "سجرت" : جمعت.لغة خثعم.
    "تمور السماء موراً" : تنشق شقاً."يوم يدعون" : يدفعون.وكذلك "يدع اليتيم" : لغة قريش.
    "وما ألتنا من عملهم من شيء" : مانقصنا.لغة حمير.
    ومن سورة النجم:
    "ذومرة" : ذوقوه.لغة قريش.
    ومن سورة القمر :
    "سحر مستمر" : دائم."مدكر" : متفكر.لغة قريش.
    "سعر" : جنون.لغة عمان.
    ومن سورة الرحمن:
    "الأنام" : الخلق.لغة جرهم.
    "المرجان" : صغار اللؤلؤ.لغة اهل اليمن.
    ومن سورة الواقعة:
    "بست الجبال بساً" : فتتت.لغة كندة.
    "مدينين" : محاسبين.لغة حمير."مبعوثين" : لغة كنانة.
    ومن سورتي الحديد والمجادلة :
    "سور" : حائط." أمد" : أمل.لغة هذيل.
    "كبتوا" : لعنوا.لغة مذحج.
    ومن سورة الحشر:
    "وأيدهم" : قواهم." غلا" : غشاء.لغة قريش.
    "من لينة" : نخل.لغة الاوس.
    "المهيمن" : الشاهد.لغة قيس عيلان.
    ومن سورة الصف :
    "كبر مقتاً" : بغضاً."فلما زاغوا" : مالوا.لغة قريش.
    ومن سورتي الجمعة والمنافقين:
    "أسفاراً" : كتباً.لغة كنانة.
    "قاتلهم الله" : لعنهم.لغة قريش.
    "ينفضوا" : يذهبوا.لغة مذحج.
    ومنسورة التغابن :
    "زعم" : كل زعم في كتاب الله بمعنى الباطل.في لغة حمير.
    ومن سورة التحريم :
    "صغت قلوبكما" :مالت.لغة خثعم.
    ومن سورة الملك :
    "من تفاوت" : عيب.لغة هذيل.
    "تكاد تميز من الغيظ" : تمزق.لغة قريش.
    ومن سورة القلم:
    "الخرطوم" : الأنف.لغة مذحج.
    ومن سورة الحاقة:
    "أعجاز نخل": أجذاع."اخذة رابية" : شديدة.لغة حمير.
    "أرجائها" : نواحيها.لغة هذيل.
    "غسلين": شراب حار شديد الغليان.لغة ازدشنوءة.
    ومن سورة المعارج:
    "المهل" : عكر الزيت: وافقت لغة البربر.
    "هلوعاً" : ضجوراً.لغة خثعم.
    "مهطعين" : مسرعين: " الى نصب يوفضون" : علم يسرعون.لغة قريش.
    ومن سورة النوح:
    "استغشوا ثيابهم" : تغطوا.لغة جرهم.
    "أطواراً" : ألواناً.لغة هذيل.
    ومن سورة الجن:
    "فزادهم رهقاً" : غياً."فلايخاف بخساً" ظلماً.لغة قريش.
    ومن سورتي المزمل والمدثر:
    "أخذاً وبيلاً" : شديداً.لغة حمير.
    "لواحة للبشر": حراقة .لغة ازدشنوءة.
    "من قسورة" : من أسماء الأسد.لغة قريش.
    ومن سورة القيامة:
    " كلا لاوزر" : لاحيل ولاملجأ.وافقت النبطية.
    "والتفت الساق بالساق" : الشدة فوق الشدة.لغة قريش.
    ومن سورة المرسلات :
    " واذا الرسل اقتت" : جمعت .لغة كنانة.
    ومن سورة النبأ الى آخر القرآن :
    "المعصرات " : السحب.لغة قريش.
    "ثجاجاً " : رشاشاَ.لغة الأشعريين.
    "برداً ولا شراباً" : نوما ..."كاساً دهاقاً" : ملاىء.لغة هذيل.
    "واجفة " : خائفة .لغة همدان.
    "أغطش ليلها": أظلم .لغة أنمار وهمدان.
    "بأيدي سفرة" :كتبة.لغة كنانة.
    "حدائق": بساتين.لغة قريش.
    "غلباً" : ملتفة.لغة قيس عيلان.
    "سجرت" : جمعت .لغة خثعم.
    "عسعس" : أدبر."ضنين".بخيل.لغة قريش.
    "ظنين" : متهم.لغة هذيل.
    "كتاب مرقوم" : مختوم.لغة حمير,
    "فتنوا": أحرقوا ."الضريع" : الشرق." النمارق" : الوسائد." في كبد" : شدة."تردى" : هلك ."لنسفعن" : لنأخذن." ألم يكن الذين كفروا" : لم يزل.لغة قريش.
    "الثاقب" : المضيء." كنود" : كفور.لغة كنانة.
    "من عين آنية " : حارة.لغة مدين.
    "زرابي" : الطنافس."مسبغة": مجاعة.لغة هذيل.
    ...

    (رجاء عدم المقاطعة لحين الانتهاء من المشاركات)

  • #2

    اللسان العربي قبل القرآن



    ماذا يمكننا أن نقول عن اللسان العربي قبل القرآن ؟ أبحوزتنا عناصر تتيح لنا أن نجيب عن مثل هذا السؤال ؟ ثم ماذا بوسعنا أن نقول عن العلاقات الموجودة بين محمد واللسان والأدب العربي ؟
    مسألة اللسان العربي قبل القرآن يمكننا أن نتفحصها من وجهات نظر مختلفة . ووجهة النظر التي تخطر في الذهن أول ما تخطر على العموم هو لسان الأدب السابق على الإسلام و ونحن لانريد أن نثير هنا كل المسائل الخاصة بمشكل الأدب في (الجاهلية ) وأصالته , ولكننا سنتوقف فقط عند ما يعنينا , أي أن المعرفة التي يمكننا الحصول عليها , الخاصة بهذا اللسان وهذا الأدب , لاتنفصل عملياً عن الإسلام ولسان القرآن .
    { ومن المؤكد أن أي شخص لايخطر بباله أن يجزم , مهما كان استبساله في معارضة أصالة الشعر الجاهلي , أن أية فاعلية أدبية لم توجد قبل ظهور الإسلام . ولكن المفارقة تكمن هنا : فهذه الفاعلية الأدبية لم تكن محفوظة في وثائق سابقة على الإسلام , وأولى الوثائق الأدبية الأصلية المعروفة في اللغة العربية وأقدمها تظل القرآن حتى هذا اليوم .}
    تلك هي مفارقة اللسان العربي وتاريخ اللسان العربي : فتجد النهاية نفسها متضمنة في نقطة الانطلاق , والإنجاز مندرجاً في البداية , فليس ثمة ضرب من ما قبل تاريخ اللسان العربي نأخذه بالحسبان في دراسة تاريخ النتاجات في اللسان العربي .
    ولكن ذلك ينبغي له ان يوقظ انتباهنا . فإذا لم يكن ثمة ضرب من ماقبل التاريخ , فهل يكون ممكناً أن يوجد تاريخ بصورة لاحقة ؟ وإذا كان الإنجاز مندرجاً في البداية , فهل هناك إمكان لتطور ونمو تاريخيين ؟
    ولن يفوت هذه الخصائص أن تميز وضع اللسان العربي في نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع الميلادي .
    وعلينا ألا ننسى أن نوضح , عندما نقول إن النص الأول الأدبي العربي الموجود في حوزتنا هو القرآن , أننا نقصد بذلك نص القرآن كما كان قد نقل إلينا , أي القرآن الذي كتبه , بدءاً من عام 644 في عهدالخليفة (( عثمان )) , زيد بن ثابت انطلاقاً من مدونة أبي بكر : إننا في أواسط القرن السابع .
    وكل ما نعرفه عن اللسان العربي , السابق على هذا التاريخ , لا يستند إلا الى أجزاء من وثائق معيبة بقوة , أو الى وثائق أفضل إعداداً , ولكنها عندئذ لاحقة تماماً بالعصر الذي تحيل اليه . والقرآن وحده , الذي وصلنا في مخطوطات ناجمة عن جمع عثمان , يجعلنا نرجع مباشرة الى أواسط القرن السابع .
    وإذا كانت وثيقتنا الأقدم لاترجع الى ماهو أبعد من هذا التأريخ , فإننا سنقتصر في بحثنا في تصور اللسان العربي , لدى العرب قبل القرآن, على أن نستند الى القرآن ذاته والى وثائق لاحقة . والأول هو الذي يعنينا هنا من حيث أن الوثائق التي ستلي ستكون موسومة به ولن يكون لها إذن سمة الأصالة والأولية , السمة نفسها . فعلينا إذن , لنعرف كيف يدرك اللسان العربي قبل القرآن , أن نفتح القرآن ونبحث فيه عما يمكنه أن يخبرنا عن هذا اللسان العربي السابق . والسؤال الأول الذي سنطرحه على أنفسنا هو أن نعرف كيف تدرك لفظتا ( اللسان واللغة ) , وماذا يعني التقابل ( عربي / أعجمي ) .
    وفيما يخص اللسان , ليست لفظة ( لغة ) مستخدمة في القرآن , بل الجذر ( ل غ و ) , المستخدم إحدى عشرة مرة على ثلاث صور : فعل أمر في صيغة الجمع ( مرة واحدة ) , اسم فاعل بصيغة المؤنث ( مرة واحدة ) , اسم فاعل بصيغة المؤنث ( مرة واحدة ) , ( والمصدر , لغو) ( تسع مرات ) . والدلالة التي ينقلها هذا المصدر هي دلالة كلام عبث , غير حسن و وماينشده يتعارض مع الكلام السليم . ولكن المصدر يتضمن أيضاً فكرة (( مالايؤخذ بالحسبان , ما ليس له أهمية أكثر من أهمية صوت صادر عن عصفور ))
    وهكذا قول الذين كفروا : (( لاتسمعوا لهذا القرآن , والغوا فيه )) ( 41 فصلت/26 ).( " لاتصغوا لهذا القرآن ولاتحملوه محمل الجد , اهملوه " ) .
    وهذا المصدر مستخدم , بمناسبتين , في علاقته بالأيمان , ليصف سمة الطيش وعدم الرزانة : (( لايؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم )) ( 2 البقرة / 225 , 5 المائدة / 89 ) .( " لن يعاقبكم الله بسبب يمين أقسمتموه طيشاً " ).
    والباقي من استخدامات اللفظة – ثمانية استعمالات أخرى – تقصد الكلام التافه أو القول العبث , وترتبط هذه اللفظة , في معظم الحالات ( خمسة استخدامات ) , بالسمع , شأنها شأن الاستخدام الأول الذي حللناه : (( لايسمعون فيها لغواً )) ( " لن يسمعوا فيها كلاماً طائشاً " ) ( 196 / مريم 62 ) .
    هذه اللفظة , لفظة ( لغو ) , تدل إذن على كلام لاأساس له , لايستحق أبداً أن يتوقف عنده المرء ليعيره اهتماماً , ويفترض بالحري , كما في الآية 72 من سورة ( الفرقان ) , ألا يشهده المرء وإذا مر به مر كريماً . وكل ذلك مرتبط بالسمة الشفهية , المحدودة , لهذه اللفظة التي ليست سوى إصدار صوتي ولاتحيل الى فكرة , الى تفكير أو الى حديث , بمعنى أنها لاتنقل أي محتوى . يضاف الى ذلك أن هذه اللفظة , ( لغو ) , لم تدخل في صلة بالكلام أو اللسان العربي , ولن تكون هذه الحالة حالة لفظة لسان , بل على العكس كما سنرى .
    وجذر ( ل س ن ) مستخدم في القرآن خمساً وعشرين مرة , وذلك ليس بالعدد الكبير, لاسيما إذا أخذنا بالحسبان الآيات المتماثلة . والجذر مستعمل بصور شتى , بالمفرد أو الجمع , من الاسم لسان . وهذه الاستعمالات تتوزع الى فئتين كبيرتين : اللسان بصفته ( عضواً ) موقعه في الفم ويستخدم للتعبير (16 مرة ) , واللسان بمعنى ( اللغة ) ( 9 مرات ) . ومعنى العضو هو المعنى الذي يبين أول ما يبين في معاجم المفردات القرآنية . ولفظة لسان بمعنى عضو التعبير, يتدخل في السياق المرتبط بالتنزيل القرآني وتاريخه : إنه هبة الله ( 90 البلد / 9 ) . إنه يتيح التبشير بكلام الله ( 20 طه / 27 ) . أو يستخدمه الخبثاء الذين ينطق لسانهم بالكذب وينشرونه , أعني أنه مخالف للكلام والوحي الإلهيين ( 4 النساء / 40 ) . ويشهد على آثامهم ( 24 النور / 24 ). وهذا اللسان هو الذي , بواسطة داوود وعيسى , ينطق باللعنة الإلهية ( 5 المائدة / 78 ) . أو بالكلمات المنزلة . وهذا اللسان على وجه الخصوص هو الذي ينبغي له أن يستخدم في قراءة القرآن : فالقراءة السيئة في السورة 3 , آل عمران , آية 78 , مدانة , وينصح في السورة 75 , القيامة , آية 16 ألا تعجل بقراءة القرآن وأنت تحرك به لسانك .
    وهذا السياق من التنزيل الذي يندرج فيه استعمال ( لفظة لسان ) , المفهوم بمعنى العضو , أكثر بروزاً أيضاً عندما يدلّ على اللغة . وسيكون استخدام هذه اللفظة عندئذ موضوعاً في ظل الآية المزدوجة للتنزيل العربي . وهذا التوضيح يتدون في إطار تنوع الألسنة المعترف به صراحة أنه آية من آيات الله , على خلاف التقديم التوراتي : ففي السورة 30, الروم , آية 17 , نقرأ : ((فسبحان الله ( ..... ) , في الآية 18 , ولله الحمد في السموات والأرض ( ....... ) , وفي الآية 20 , ومن آيته ( ...... ) وفي الآية 22 , ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ( ..... ) .
    ولسان التنزيل يمكنه , من جراء هذا الاختلاف , ألايكون اللسان العربي من حيث أن التنزيل يمكنه أن يكون له عندئذ تاريخ , وبداية , ووسط ونهاية . وإذا كان التنزيل يمثل بلسان أجنبي , فذلك يمكنه أن يكون دون ريب لأن المقصود به تنزيل زائف , كما في السورة 16 , النحل , آية 103 عندما يرجع معارضو محمد الى تنزيل غير مقبول : (( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر )) . ولكن من يفكرون به يتكلم لساناً (( أعجمياً )) . ويظل حقيقة مع ذلك أن النبي يتكلم في الحالة العامة لسان شعبه : (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فضل الله )) ( 14 ابراهيم / 4 ) . وذلك يتأكد فيما يخص محمداً بمناسبتين , ففي السورة 19 , مريم , آية 98 نقرأ : " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به ", وفي السورة 44 , الدخان , أية 58 المشابهة للسابقة تقريباً في التعبير : (( فإنما يسّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون )) .
    وهذان الإسنادان الأخيران يحيلاننا الى اللسان العربي دون أن يعيناه . وذلك سيقال على نحو صريح في ثلاث آيات . وسنميل الى القول في ثلاث آيات فقط , بحيث أننا , من ثم , سنحيل على الغالب الى هذه الآيات لنتكلم على العربي بصفته لسان القرآن . ففي السورة 46 , الأحقاف , آية 12 , ليس تعبير (( لسان عربي )) مرفقاً بأي صفة : (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتاب مصدق , لساناً عربياً , لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين )) . وليس إلا في السورة 16 , النحل , آية 103 , وفي السورة 26 , الشورى , آية 195 , إنما نجد تعبير (( لسان عربي مبين )) لوصف التنزيل القرآني , وباللجوء الى الجذر ( ب ي ن ) نجد أنه يحيل الى الشرح والتوضيح .
    ما دلالة اقتران هذه الصفة باللسان العربي ؟ هل لنا الحق أن نستنتج من ذلك أنه كان يمكنه أن يكون غير ( مبين ) , غير واضح أو غير جلي ؟ يكمن الفرض الأول , في هذه الحال , في أن نقول إن اللسان العربي كان متعدد الأشكال وأن بعض أشكاله كانت أيسر على الفهم المشترك من أشكال أخرى . ويكمن الفرض الثاني في القول إن استعمال اللسان العربي , استعماله ذاته , كان يمكنه أن يفسح المجال لتغيرات كبيرة الى حد يكفي لجعل الفهم أكثر أو أقل صعوبة على السامعين , ومهما يكن من أمر , فالمسألة مطروحة . وهذا الوصف , وصف اللسان العربي , ينبغي وضعه في علاقة مع الآية 98 من السورة 19 , مريم , والآية 58 من السورة 44 , الدخان , حيث يسر الله لشعبه سبيل الوصول الى التنزيل بنزول القرآن بالعربي ( 19 مريم / 98 ) " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً" و( الدخان / 44 ) " فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون " .
    وبوسعنا أن نستنتج من كل ماتقدم أن السياق الألسني الذي عاش فيه محمد سياق لم يكن يجهل ضرباً معيناً من صورة التعددية في الألسن لأن معارضة , كما رأينا , للتبشير المحمدي بألسنة غير اللسان العربي كانت موجودة ( 16 النحل / 103 ) .
    ولكننا إذا استقينا معلوماتنا على هذا النحو بصورة غير مباشرة عن الوضع الألسني قبل الإسلام , فنحن ملزمون بأن نؤكد أن المعلومات الوحيدة , الواضحة الصريحة , ذات علاقة بالعربي و بالعربي في علاقته بالتنزيل والقرآن . فعن العربية , قبل الإسلام والقرآن , المعلومة الوحيدة التي يمكننا أن نستمدها بصورة خاصة باللسان ذات علاقة بمحمد : قيل لنا إنه لسانه , وقيل , بصورة غير مباشرة , إنه ليس لسان الأنبياء الآخرين , لأن داوود وعيسى تكلما , كلاهما , لسانه ( 5 المائدة / 78 ) . وأن كل نبي كان يتكلم لسان شعبه ( 14 ابراهيم / 4 ) والاستخدام الذي استعمله القرآن لكلمتي ( عربي وأعجمي ) يتيح لنا أن نكمل هذه المعلومات عن الوضع عندما تدخلت نبوة محمد : الكلمة ( أعجمي ) , أجنبي , غير عربي , تدل مرة واحدة فقط على الشخص الأجنبي (" وإنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين . وإنه لفي زبر الأولين . ألم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل . ولو نزلناه على بعض الأعجمين . فقرأه عليهم ماكانوا به مؤمنين . " 26 الشعراء/ 192 – 199 ) . , وثلاث مرات على اللسان الأجنبي ( 16 النحل / 103 ) . وعلينا أن نلاحظ , في الحالات الثلاث التي أشير فيها الى لسان أجنبي , أن هذا اللسان غير موضح من جهة , وأن هذا اللسان (( الأجنبي )) مقابل للسان العربي الذي يتحدد تحديداً تاماً , من جهة ثانية . وإذا أضفنا الى هذه الملاحظات أن الإحالة الى أعجمي لاتوضح كثيراً أي أعجمي هو المقصود في السورة 26 , الآية 19 , ولكنها تعارض التنزيل المفترض الموجه اليه بتنزيل حقيقي باللسان العربي المبين ( 26 الشعراء / 195 ) . , فإنه ينجم عن ذلك أن الأعجمي السابق على الإسلام أو المعاصر له , ليس له , سواء أكان بشراً أم لساناً , قوام خاص ولا واقع آخر سوى كونه غير عربي : إنه نفي العربي أو صورته السلبية , غير العربي .
    ولكن هؤلاء العرب من هم عندئذ , هؤلاء العرب الذين يحتل لسانهم مثل هذا المكان بحيث يحجب الألسنة الأخرى الى هذا الحد ؟ إذا استثنينا حالة خاصة يدل فيها الجذر ( ع ر ب ) على النساء العرب ( المتحببات الى أزواجهن عشقاً لهم ) اللواتي هن " الحور " ( 56 الواقعة / 37 ) . , فإن الجذر المذكور ( ع ر ب ) يتكرر إحدى وعشرين مرة في القرآن , إحدى عشرة مرة للفظة ( عربي ) وعشر مرات للفظة ( العرب ) . وفيما يخص لفظة ( عربي ) , فإنها تتدخل كل مرة في سياق التنزيل : تصف القران ست مرات ( 12 يوسف / 2, 20 طه / 113 , 39 الزمر / 28 , 41 فصلت / 3 , 42 الشورى / 7 , 43 الزخرف / 3 .) , وتصف اللسان نفسه ثلاث مرات ( 16 النحل / 3 , 26 الشورى /195 , 46 الأحقاف / 2 . ) , ومرة واحدة يوصف التنزيل بأنه حكم عربي ( " كذلك أنزلناه حكماً عربياً " 13 الرعد / 89 . ) . والمقصود , في هذه الحالات جميعها , هوالتنزيل الحادث باللسان العربي . وللفظة تضمين إيجابي لايطرح سؤالاً .
    وليست الحال هي نفسها بالنسبة لاستخدام الجذر , الاستخدام الآخر على صورة ( الأعراب ) . ستة استخدامات من عشرة موجودة في السورة 9 , التوبة , ومعنية بخصومات محمد مع البدوالذين اهتدوا الى الإسلام هداية متبانية . والاستخدامات الأخرى معنية بالبدوأولو الهداية الضعيفة أو غير المخلصين . وهؤلاء البدو ذكروا لأنهم يطرحون مشكلاً على المتحد الناشيء لسبب مفاده أن هدايتهم ليست متينة الى حد كاف , أو لأنهم مراؤون , أوأنهم يسعون للإفلات من المعركة الناشبة في سبيل الدفاع عن المتحد أو من المصروفات المشتركة .
    وبوسعنا أن نلاحظ , هنا أيضاً , أن البدو يتدخلون في سياق من التنزيل , تبعاً للعلاقة التي يقيمونها مع هذا التنزيل . وموقعهم , في نهاية المطاف , يتحدد بالنسبة لهذا التنزيل باللسان العربي , المصنوع لعرب المدينة . ونحن ملزمون أن نؤكد أننا لن نتعلم شيئاً عن هذا الوسط قبل الإسلام أوفي الفترة الزمنية لظهوره , والنثر العربي المديني وحده له لسان ( لسان عربي ) محدد كل التحديد ذلك أنه هو الذي استخدمه التنزيل وهو الذي ينقله التنزيل إلينا .
    فنحن إذن لانستمد من القرآن بوضوح معلومات عن اللسان العربي قبل التنزيل ولكن بوسعنا مع ذلك أن نستنتج , في حدود ما تقدم قوله , مايلي :
    - فيما يخص الألسنة الأخرى غيراللسان العربي :
    - ( كل لسان ) يمكنه أن يكون ( لسان تنزيل ) , ذلك أن النبي يتكلم لسان شعبه .
    - حال ( اللسان الجليل واللسان الذي يعبر عن الحقيقة ) ليست وقفاً على اللسان العربي لأ ن الله منح إسحاق ويعقوب " لسان صدق علياً " (19 مريم / 50 ) .
    - ( التعددية الألسنية ) يعترف بها القرآن , وقد بينا ذلك آنفاً , في عصر نبوة محمد .
    - فيما يخص اللسان العربي :
    - لايخبرنا القرآن شيئاً عن اللسان العربي قبل ظهور الإسلام ,
    - ربما يمكننا أن نستنتج من تعبير ( لسان عربي مبين ) , كما أوحينا بذلك فيما تقدم , أن اللسان العربي كان متعدد الأشكال في عصر محمد, أو أن استخدامه يمكنه أن يفسح المجال لتفسيرات شتى ,
    - ينبغي رفض كل إمكان ل( تنزيل باللسان العربي ) قبل التنزيل الذي نفذه جبريل على محمد , ذلك أن أي ذكر لم يرد لمثل هذا التنزيل ,
    - إن ( التنزيل و القرآن ) هما اللذان منحا اللسان العربي نظامه الأساسي المستقل بين الألسنة الأخرى من حيث أنه معروف لدينا انطلاقاً من القرآن وبه , وأن كل ما يقوله القرآن تمجيد للسان العربي , وأن القرآن لايقول لنا شيئاً عن الألسنة الأخرى , ماعدا أنها غير عربية ,
    - وينجم عن ذلك أن أي ( تأليف أدبي ) جدير بهذا الاسم لايستحق ذكره ( باللسان العربي قبل القرآن ) من حيث أن القرآن لم يذكره ( 19 مريم / 50 ) .
    - والعربي , أخيراً , ( لسان قوم ) , قوم محمد ( 19 مريم / 98 ) " فانما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً " .



    تعليق


    • #3

      القرآن المكي والقران المدني



      هذا والقرآن قرآنان : قرآن مكي وقرآن مدني ولايختلف القرآن المدني عن القرآن المكي الا بانه اغنى واكثر تنوعا ومضمونا وذلك تبعا لاختلاف المرحلتين المكية والمدنية . فالمرحلة المكية هي مرحلة تأسيس العقيدة في ارض وعرة لم تقبل هذه العقيدة الا بعد ان اصبحت امرا واقعا . لقد تمردت وتمردت حتى لم يبق في القوس منزع . ان قريشا لم تعارض الاسلام لاستحكام عقيدة الشرك فيها ودفاعاً عن اصنام تعرف أنها لاتضر ولا تنفع , إنما فعلت ذلك دفاعاً عن مصالح ومنافع جعلها الاسلام في مهب الرياح . فلم تكن الأصنام بالنسبة الى قريش الشيء المقدس الذي تتمسك به وتستشهد في سبيله . كلا , فإن أصنام قريش وآلهتها كانت قبل كل شيء مصدراً للثروة وأساسا للاقتصاد . فالهجوم على الأصنام لامعنى له الا المسُ بعائدات الحج ومايقترن به من مكاسب التجارة . ذلك ان مكة الى جانب كونها أكبر مركز في شبه الجزيرة لآلهة القبائل العربية وأصنامها تحج اليها وتقيم الأسواق والمواسم من حولها , كانت أيضا مركزاً تجارياَ للعرب جميعاَ, كما كانت في الوقت نفسه محطة هامة في طرق التجارة الدولية بين الشمال والجنوب والشرق والغرب .
      [ لقد راموا كيد الاسلام بالمحاربة والمناجزة خوفاَ على امتيازاتهم التي أخذت تتعرض للخطر بمجيء الاسلام , الاسلام الذي بدأ يطيح بالملأ من قريش وبالرموز التي كانوا يجتمعون عليها .]
      ولقد أشار القرآن الى ذلك وسجل كلامهم بنصه قائلاَ على لسانهم : { وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } . فهم لايدعون أن دينهم هو الحق , بل كانوا يعترفون ان ما جاء به محمد هو الهدى , ولكن امتيازاتهم ومصالحهم أهم من المدى . ومعنى قولهم " نتخطف من أرضنا " ان العرب يطردوننا من مكة بكل سهولة لأنها مستقر آلهتهم , فنصبح بذلك مشردين فاقدين مصادر رزقنا . ويعبر عن ذلك أصدق تعبير كلمة الحكم بن هشام ( أبو جهل ) عندما سأله بعضهم : أترى محمداً يكذب ؟ فقال : كيف يكذب على الله وقد كنا نسميه ( الأمين ) لأنه ما كذب قط , ولكن إذا اجتمعت في بني عبد مناف ( آل محمد ) السقاية والرفادة . والمشورة ثم تكون فيهم النبوة , فأي شيء يبقى لنا ؟ "
      فالقرآن المكي جاء لتغيير هذا الوضع وأوضاع أخرى مشابهة , جاء لاحلال العقيدة محل الغنيمة وضوابط الشريعة محل عصبية القبيلة , وعبادة الإله الواحد بدلا من الآلهة المتعددين . لقد كان القوم لايؤمنون بالغيب وينكرون البعث والجزاء والعقاب ويقولون بالدهر. لقد كانوا ماديين في حياتهم وتفكيرهم ومعاملاتهم وجميع شؤونهم , وانتشر فيهم بعض العادات القبيحة التي نشأت عن تردي الحالة الاقتصادية في اوساط الكثيرين منهم , كالسلب والنهب والغزو ووأد البنات وما الى ذلك . غير أن ذلك لاينفي شيوع الكثير من الفضائل بينهم كالكرم والشجاعة والنجدة واغاثة الملهوف والامتناع عن القتال في الأشهر الحرم .. على هذا المجتمع العجيب تدور موضوعات القرآن المكي الذي جاء لتقويم المعوج واصلاح المختل واقرار المحمود المستقيم وتصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسة , وبيان ان الإيمان والعمل الصالح _ لا الأموال والأولاد _ هما قوام الحكم والجزاء عند الله , وانه ما من قوة تعصم من بطش الله , وما من شفاعة عنده الا بإذنه وان الله هو المالك لكل شيء ولا مالك سواه , وان علمه محيط بكل شيء لايعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض ولا أدنى من ذلك ولا أكبر . وتتكرر مشاهد القيامة في القرآن المكي كثيراٌ وما فيها من تأنيب للمكذبين بها ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به . وفي هذا القرآن أيضا دعوة للنبي الى الصبر على قومه وترك أذاهم والتوكل على الله , والاعتبار بالأنبياء السابقين الذين خلوا من قبله وكذبهم قومهم كما كذبت قريش محمداً , فما وهنوا وما استكانوا وما ضعفوا , بل كافحوا وناضلوا لإعلاء كلمة الله لايخشون فيه لومة لائم ! وفي هذا القرآن انذار لقريش وتهديد لها بسوء المنقلب اذا هي استمرت في تكذيب الرسول , وترهيب لها مما حصل للاقوام والأمم السابقة الذين استكبروا وعتوا في الأرض فاخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ... ولاننسى ما في القرآن المكي من دعوة الى ذكر الله والتدبر في خلق السموات والارض , وتوكيد للمسؤولية الشخصية , والاعتماد على الذات في تقرير شؤون العقيدة , وإعمال العقل فيها , وعدم تقليد الاباء والاجداد بلا هدى ولا كتاب منير . فإن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون شيئاٌ ولايهتدون .
      وعلى الجملة ان موضوعات القرآن المكي هي موضوعات العقيدة الرئيسة من الإيمان بالله الواحد, وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى , واحاطة علم الله بكل شيء وشموله ودقته ولطفه . التوحيد ونبذ الشرك والإيمان بالغيب أصول لايكمل ايمان المسلم الا بها . اما أركان الاسلام من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان فقد اقتصر القرآن المكي فيها على الصلاة دون سائر الاركان الاخرى , فالمهم تثبيت العقيدة قبل تثبيت الشعائر , وارساء قاعدة صلبة لأعمال القلب يسهل بعدها القيام بأعمال الجوارح , وهذا ما سيتحقق في قرآن المدينة .
      هذا هو القرآن المكي , واما القرآن المدني فقد انتقل الى مرحلة جديدة من حياة الجماعة الاسلامية ثبتت فيها العقيدة ووقرت في النفوس أو كادت . ففي القرآن المدني ما في القرآن المكي وزيادة . انه أكثر ثراءً وتنوعاً واحتداماً بالقياس الى قرآن رتيب له موضوع واحد أو عدة موضوعات قليلة. فيه بيان للفرائض والتكاليف والواجبات ونظم الحياة للامة الجديدة واحكام شريعتها فيما بينها وشريعتها مع غيرها من الامم . احكام تتعلق بالتصور والاعتقاد , واحكام تتعلق بالشعائر التعبدية , وأخرى تتعلق بالقتال والجهاد وسياسة الحرب والسلم , وفيه أسئلة عن الانفاق : مواضعه ومقاديره ونوع المال الذي تكون النفقة فيه , عن الشهر الحرام , عن الخمر والميسر والمحيض واليتامى والانفال والاهلة وذي القرنين , وفيه اجوبة عن ذلك كله . وفيه استفتاء عن النساء وعن الكلالة وفتواهما . وفي القرآن المدني أيضاً بيان لاحكام الطلاق والنكاح والحمل والرضاعة والوصية والبيع والشهادة والربا والزنى والمداينة والشورى وأحكام الميراث وتفصيل أركان الإيمان والاسلام وشعائر الحج والعمرة . وينطوي هذا القرآن أيضاً على مناشدة لأهل الكتاب التروي في الحكم على الدين الجديد ودعوة الى دين ابراهيم والحنيفية البيضاء التي طرأ عليها بمضي الزمن التحريف والتشويه . ويكرر القرآن هجومه على اليهود ويعلن الحرب عليهم للؤمهم وخداعهم ونكثهم بالعهود والمواثيق . كما يدعو النصارى الى عقيدة التوحيد في صفائها الأول ونبذ التثليت . وهو ينكر الوهية المسيح وصلبه . كما ان نظرة القرآن والنصارى واحدة الى مريم أم المسيح , بقدر ما هي بعيدة عن نظرة اليهود الذين يتهمهم القرآن بالكفر وقول الزور ( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً ) . والحق ان مريم تحتل في القرآن مقاماً لم تحتله أنثى في العالم . بل هي الأنثى الوحيدة التي ورد اسمها في القرآن . والمسيح ينسب اليها دائماً فيقول " عيسى بن مريم " ولاينسب الى أبيه كما جرت عادة السامين , إذ لا أب له في عقيدة القرآن . ويرد اسمها في القرآن منفردة عشر مرات , ومقرونة الى ابنها أربعا وعشرين مرة . ويصفها بأنها " صديقة " وهذا مالم تحظ به أي زوج من أزواج النبي , بل لم يرد في القرآن أي إشارة الى خديجة , زوج النبي الأولى التي كان يكن لها أخلص الود والعرفان , وكان لسانه يلهج دائما بذكرها والثناء عليها . ان نسوة النبي لا يقتصر أمرهن على أن القرآن لايشيد بهن كما أشاد بمريم , بل إن ذكرهن فيه لم يرد الإ في معرض اللوم والتقريع . وقد كشف كيدهن وهددهن بالطلاق وسوء العقبى لتعلقهن بالحياة الدنيا وزينتها , وكان لايكف عن تحذيرهن من التبرج واتيان الفاحشة , ويهيب بهن الى التستر والحشمة والقرار في بيوتهن ...



      تعليق


      • #4

        الدلالة الهامشية في المَثَل القرآني

        وهي أوسع الدلالات مجالاً، لأنها تعتمد على تعدد التخصص في الاستنتاج، فهي تبع لنوعية ثقافة المفسر، ودقة نظره، وزاوية إفادته، على مختلف الاتجاهات والثقافات عند المفسرين، فقد تجد في سياق العبارات من الألفاظ أثراً للمطابقة والمقابلة في مجانسة الأضداد والجمع بين المتقالين، والتفريق بين المتجانسين مما يلحظه البلاغي بحسب ذائقته الفنية، بينما يلحظ فيها النحوي مجالاً آخر في الاستفادة من تخريج اللفظ على الوجه النحوي في الاستعمال القياسي أو السماعي، حتى لا يهم اللغوي منه هذا الفهم أو ذاك بل يبحث عن ضالته في تكثيف معجمه اللغوي بما يفيده هذا اللفظ أو ذاك.
        وهكذا نجد الدلالة الهامشية مجالاً خصباً لمختلف الاجتهادات، إلا أننا نجدها هنا أكثر تحكماً من قبل البلاغي، لاستخراجه لها من عدة وجوه واحتمالات، أي أنه نتيجة لعلاقة تحمسه بالألفاظ أقدره من غيره على توجيه هذه الدلالة تجاه مساره البلاغي.
        وسنلقي ضوءاً فيما يلي على الفهم المتفاوت لنصوص الألفاظ، بحسب تخصص المتلقي على الوجه التالي:
        أ اللغوي لا يرى بأساً بأن يجد بألفاظ أية واحدة من آيات المثل القرآني حروف المعجم العربي قاطبة، فيحقق بذلك بغيته في التأكيد على هذا الجانب من الألفاظ، والآية هي: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) الفتح/ 29.
        فهو ينظر إلى هذا النص نظرة جانبية، ويدور معه حول هامشه غير ناظر إلا لحروف الألفاظ، وكيف قد كونت حروف الهجاء.
        ب والنحوي ينظر إلى اللفظ من زاويته الخاصة، فاستعمال (الذي) بدل (الذين) في قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) البقرة/ 17، يقوم بتوجيه الفراء نحوياً فيقول: (إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان القوم، وإنما هو مثل للنفاق، فقال: مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، ولم يقل: الذين استوقدوا) فالفراء قد أفاد من اللفظ ما يفيده النحوي في التخريجات ووجه علة تصحيح النصوص أداء، فحمل صيغة العدول عن الجمع إلى المفرد، على العدول من أعيان المنافقين وهم جمع، إلى النفاق وهو مفرد، لأن الحديث منصب على النفاق لا الأشخاص، أما حينما أراد المثل الحديث عن المنافقين بالذات وهم جمع أشار إليهم بالجمع، فقال: (ذهب الله بنورهم) البقرة/ 17.
        ج والمنطقي كسابقيه اللغوي والنحوي، إنما ينظر إلى اللفظ من وجهة نظره المحدد بين التصور والتصديق، فيستفيد من كلمة (حبة) مضمومة إلى كيفيتها في الإنبات بقوله تعالى: (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة..) البقرة/ 261، بأنه (لا يلزم أن توجد حبة بهذه الصفة. إنما المقصود تصوير زيادة الأجر لا غير، فإن وجدت صورة توافق المذكور في أكثر الخصوصيات أو كلها كان من قبيل لزوم ما لا يلزم) وقد عقب الطبرسي على السنبلة من نفس الآية، وعلل تصورها بالفهم نفسه، فقال: (متى قيل: هل رؤي في سنبلة مئة حبة حتى يضرب المثل بها، فجوابه أن ذلك متصور وإن لم يرَ، كقول امرئ القيس: ومسنونة زرق كأنياب أغوال. وقوله تعالى: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) الصافات/ 65).
        د والبلاغي حينما ينظر إلى اللفظ يستطيع بشكل وآخر أن يؤول هذا اللفظ بعدة اعتبارات يغوص بعضها في الأعماق ويطفو بعضها على السطح، وزيادة على تمرسه باستخراج الصور البلاغية الأصيلة كالمجاز والتشبيه والاستعارة، فإن فهمه الخاص يقوده إلى استنباط جمال اللفظ بوجوه مختلفة، نجمل بعضها بما يلي:
        أ الآيتان (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) البقرة/ 26-27.
        استخرج منها السيوطي عدة مقابلات في الألفاظ، أجملها بأن الله تعالى قد (قابل بين (بعوضة فما فوقها)، وبين (فأما الذين آمنوا) و(أما الذين كفروا)، وبين (يضل) و(يهدي)، وبين (ينقضون) و(ميثاقه) وبين (يقطعون) و(أن يوصل) ).
        وما أفاده السيوطي واستخرجه من مقابلة هذه الألفاظ عبارة عن منحنى جانبي يتعلق بالألفاظ، هذا المنحنى الجانبي هو المعبر عنه بالدلالة الهامشية، لأنه بحث موقع لفظ من لفظ.
        ب قوله تعالى: (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) البقرة/ 20، فإن هذا الجزء من الآية لعجيب حقاً في مقابلاته، فهو مركب من تسع كلمات تقابلت كلها باستثناء (فيه): (كلما إذا) و(أذاء أظلم) و(لهم عليهم) و(مشوا قاموا)، وأن تأتي هذه المقابلة متجانسة وضعاً وتسلسلاً وصياغة وقد عرض لجزء من فنون هذا الجزء الزمخشري بتعليقه:
        فإن قلت كيف قيل مع الإضاءة (كلما) ومع (الإظلام (إذا).
        قلت: لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من امكان المشي وتأتيه فكلما صادفوا منه فرص انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس بينما لم يشر إلى ملاءمة أضاء لأظلم، ولهم لعليهم، ومشوا لقاموا فيما تعطي من جودة التركيب وعظيم الدلالة.
        ج (وقد يجيء نظم الكلام على غير صورة المقابلة في الظاهر، إذا تؤمل كان من أكمل المقابلات) ونموذج هذا الرأي قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع..) هود/ 24، (فإنه يتبادر فيه سؤال، وهو لم لا قيل: مثل الفريقين كالأعمى والبصير، والأصم والسميع، لتكون المقابلة في لفظ الأعمى وضده بالبصير، وفي لفظ الأصم وضده بالسمع).
        د ومن المقابلات ذات الدلالة الهامشية قوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع مَن يشاء وما أنت بمسمع مَن في القبور) فاطر/ 19-22، فجعل الأعمى في مقابل البصير وهو الأمر الطبيعي في مقابلة الأضداد، وكذلك جعل الظلمات في مقابل النور، والظل إزاء الحرور، والأحياء قبل الأموات، وإن الله يسمع مَن يشاء مقابل وما أنت بمسمع مَن في القبور.
        وقد اعتبر ابن الزملكاني الجزء الأخير منه في الإفراط في التنزيل والغاية في التحقير.
        ثانياً: في استعمال اللفظ للتعريض وفي الكناية خرج البلاغي دلالة هامشية بمثل هذه التخريجات:
        أ الكلمة (قرية) في قوله تعالى: (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة..) النحل/ 112، وقد استعمل فيها اللحن وهو (التعريض بالشيء من غير تصريح، أو الكناية عنه بغيره). فقد عرض الله بأهل مكة وما يصيبهم من العذاب شأن الأمم السابقة، ولم يصرح بذلك كما هي عادته في هذا المجال، وإنما يشير إلى ذلك لحناً صوراً وبالرمز صور أخر، كما عرض بالمنافقين وذكر أوصافهم في ألفاظ مخصوصة بهم، ولكنه أمسك عن ذكر أسمائهم إبقاء عليهم وتألفاً لقلوبهم.
        ب وفي استعمال الكلمة (امرأة) بالنسبة لامرأة نوح وامرأة لوط في قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط..) التحريم/ 10، دلالة هامشية حملها الزمخشري على التعريض بقوله: (وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة (عائشة وحفصة) وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله (ص) بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده.. وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله، فإن ذلك الفضل لا ينقصهما إلا مع كونهما مخلصتين. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف الخفاء حداً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره).
        ج والكلمتان (يخرج) و(خبث) في قوله تعالى: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً) الأعراف/ 58، فيهما دلالة هامشية يعتمدها البلاغي بالكناية: على أن المؤمن يؤمل منه الخير، ويؤثر عنه الهدى، ويرجى فيه الصلاح، وأن الكافر لا يؤمل خيره، ولا يحتمل نفعه، ولا يؤتمن شره.
        د الكلمة (ثابت) في قوله تعالى: (أصلها ثابت وفرعها في السماء..) إبراهيم/ 24، فيها دلالة هامشية بالكناية عن علو الشجرة ورفعتها وسموها، وتأكيد لرسوخ الأصل، لأن الأصل إذا رسخ ارتفع الفرع.
        ه وكلمة (الكفار) في قوله تعالى: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته..) الحديد/ 20، فيها اشارة دقيقة تصور لنا الكافر متعلقاً ومعجباً بالحياة الدنيا، وإن هذا الإعجاب شديد.
        ثالثاً: في مجال الظهور والغبانة يؤول البلاغي اللفظ بحسب ذائقته على الوجه التالي:
        أ الكلمة (انسلخ) من قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها..) الأعراف/ 175، تحقق لنا في مقام الإبانة عن الجانب الآخر للفظ: شدة النزع وعظم الانسلاخ تدريجياً دون مطاوعة واتساق فيما يبدو لنا من الظهور العرفي لمفهوم سلخ الشاة وإضرابها.
        ب الكلمة (عبادنا) في قوله تعالى: (كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين) التحريم/ 10.
        أفاد منها الزمخشري دلالة هامشية تعني بحقيقة الصلاح بصفة العبد، والتي تنظر وحدها من قبل الله تعالى.
        قال الزمخشري: (فإن قلت: ما فائدة قوله (من عبادنا)؟ قلت: لما كان مبنى التمثيل على وجود الصلاح في الانسان كائناً من كان، وأنه وحده هو الذي يبلغ به الفوز وينال ما عند الله. قال: عبدين من عبادنا صالحين، فذكر النبيين المشهورين العلمين بأنهما (عبدان) لم يكونا كسائر عبادنا، من غير تفاوت بينهما وبينهم إلا بالصلاح لا غيرن وإن ما سواه مما يرجع به الناس ليس بسبب للرجحان عنده).
        ج والكلمة (تسعى) في قوله تعالى: (وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى..) يس/ 20.
        فيها رصد هامشي لبعد السعي في دلالته على الجدية والحث والمواظبة لا المشي والسير بسرعة فحسب، بل هو اشتراك فعال في حسم النزاع، وفض الخصومة، والدعوة إلى الإصلاح، بجنان ثابت، متواصل، وجهد ملموس، حتى عد الرجل ساعياً، لتحقق الدلالة في أنه (يسعى).
        ويبدو مما تقدم أن دلالة الألفاظ في مجالاتها المتنوعة الفسيحة قد أضفت برداً فضفاضاً من الأحاسيس التي يتأملها الانسان فيقف خاشعاً متطلعاً إلى فلسفة هذا الاختيار في لفظ دون لفظ، وكلمة بدل كلمة، مما يحقق في جزء كبير منه معنى الإعجاز، حتى في حدود الكلمة المفردةن وإلا فلا أقل من تحقيق جزء من عناصر الصورة الفنية.


        تعليق


        • #5
          المفهوم القرآني للتأريخ




          التأريخ هذه اللفظة التي تعنينا كثيراً، لم تكن أبداً مجردة عن مدلولاتها ومعانيها التي تشكل مجموعة من العلاقات المعرفية، مرتبطةً بعدد من المفاهيم، متحركةً ومتفاعلةً مع سواها من أجل فهم أفضل لجوانب مهمة من حركة الوجود وتفاعل أكبر مع هذه الحركة هذه المجموعة من العلاقات المعرفية التي أصبحت فيما بعد تدعى بنظريات تفسير التأريخ أثبتت تارةً نجاحها في الكشف عن أسرار ما حدث وأخفقت تارةً في الكشف عن أسرار أخرى. فما الذي نعنيه أولاً بلفظة «تأريخ».
          إن أول ما يتبادر إلى الذهن من سماعنا لكلمة تأريخ، هو صورة الحوادث التي جرت والتي أثّرت في مسار الحياة، وخصوصاً حياة الأبطال والعظماء والانجازات العظيمة للشعوب. وربما لا يلوح لأذهان الكثيرين إن هناك مدلولاً آخر لهذه الكلمة. إلا إذا كان السامع من أصحاب التخصص، والذي يعلم على وجه الدقة ان هذا المعنى ليس دقيقاً، حتى ولو كان قريباً جداً من المعنى الأكاديمي، فالتأريخ إذا كان يعني تدوين وضبط الظواهر والحوادث التي وقعت في حياة الانسان، فإنه إذن لا ينحصر بالمهم أو المؤثر من الحوادث بل ربما يعني بضبط كل الوقائع بلا استثناء، سواء كانت مهمة، أم أنها غير متصفة بهذه الصفة، كل الوقائع تستحق أن تدوّن، رغم أن هذه العملية ستبدو غير ممكنة، لأن حياة المجتمع ليست سوى حياة عشرات ومئات وآلاف وربما ملايين من البشر، وكل واحد من هؤلاء معني بصنع الوقائع والحوادث، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق مساهمة الفرد بدفع الواقع باتجاه معين من غير اكتراث، أي إن عدم الاكتراث والسلبية هو أيضاً طريقة من طرق صنع الحدث أو المساهمة في صنعه، وربما كان هذا موازياً لمواقف بعض الأفراد الذين يقومون بتوجيه الأحداث وجهات محددة، أعني بذلك الأبطال والعظماء وقادة الثورات وحركات التغيير الاجتماعية.
          وهذا الأمر بحد ذاته، من مواطن الخلاف بين المهتمين بالتأريخ. وأولئك الذين يحاولون الخروج بقواعد وتعميمات، إذ يحاول بعضهم اعطاء الأولوية للأفراد، ويحاول آخرون أن تكون للجماعات الأولوية في صناعة الأحداث.
          وهكذا يواجهنا موقفان من كلمة «تأريخ» أو فهمان لها. الأول: هو الذي يعني بالقواعد والتعميمات. والثاني: الذي يرى الحوادث مجردة، أي أن هناك في التأريخ مفهومين: موضوع التأريخ وعلم التأريخ، اشتركا بلفظ واحد لبيان مدلولاتهما.
          إن موضوع علم التأريخ يطلق على مجموعة الظواهر والحقائق (العلاقات) الأفعال، والانفعالات، الولادات والوفيات من جراء الحوادث. نشوء الطبقات، ظهور واضمحلال الحضارات والمجتمعات. جميع الظواهر والحوادث التي تخص الانسان وعلاقته بالطبيعة، وبالآخرين، ومنذ العصور الغابرة وحتى يومنا الحاضر.
          ويتناول الأمر الثاني، علمنا واطلاعنا وإيماننا بالعلاقة بين هذه الظواهر، كما يشمل هذا الأمر إيماننا بالطريق الذي سلكته البشرية على مر العصور والقوانين التي يتحرك ضمن اطارها الانسان وتجعله يزاول نشاطاته الحياتية المتكاملة، وهذا التعريف ينطبق على «علم التأريخ، والذي يسمى بدوره تأريخاً».
          غير أن التمييز ليس مستعصياً. وخصوصاً في الفترة التي بات فيها الاهتمام بالتعميمات معروفاً، وأخذت حيزها في عالم اليوم، في ما عرف ب«فلسفة التأريخ» أو محاولات الكشف عن عوامل حركة التأريخ واتجاه سيره وما إلى ذلك مما يدخل في هذا الاطار، الذي عرف بأنه «علم صيرورة الانسان» والذي قال عنه الشيخ محمد مهدي شمس الدين في معرض تعريفه للتأريخ بأنه: «حركة الشيء في محيطه خلال الزمن، وبعبارة أخرى، عملية التحول والتغير والانتقال «الصيرورة» من حالة إلى حالة، التي ينجزها خلال علاقته بعناصر محيطة عبر الزمن».
          وكما يلوح أن التأريخ بالمعنى الأول، أي موضوع علم التأريخ سيشكل اهتمامنا به من هذه الزاوية، أي انه هو الذي يوفر المادة العلمية التي تمكننا من الوصول إلى تعميمات، بينما يبقى الجانب الآخر مهماً، لأنه يتكفل بالإجابة على أسئلة غاية في الحيوية، ويساهم في بناء رؤانا الشاملة للكون والحياة.
          ولهذا جعلنا المعنى الثاني مدار اهتمامنا، لأسباب، منها: انه يمكن أن لا تأتي نتائجه واحدة، وثانياً: لأنه يرتبط بأدق خصوصيات الانسان وعقائده.
          ونعني بالأول، إن هناك فلسفات للتأريخ، ونعني بالثاني، ان هذه الفلسفات ترتبط بالنظرة الكلية للكون والحياة.
          فالفلسفة، أو قوانين الصيرورة التأريخية للانسان تعنينا من حيث أنها ترتبط بعقائدنا، ولهذا سعى العلماء للحديث عنها والبحث فيها. وما سنحاوله الآن هو الخروج بتعريف للتأريخ نستلّه من الرؤية القرآنية له، أي إننا سنسعى لتوضيح المقابل القرآني لما أطلق عليه تسمية تأريخ.
          إذا تتبعنا النصوص القرآنية، فقد لا نجد استخداماً لكلمة تأريخ ضمن هذه النصوص، ولهذا، فإننا سنقصر سعينا للبحث في المضامين، إذ أن القرآن تطرق إلى الحديث عن التأريخ بصورة واسعة، وأعطاه مساحة مهمة في بنائه النظري. ولهذا، فإننا نتوقع العثور على مقابل مفردة تأريخ من هذا الباب.
          فالقرآن دأب على سرد الوقائع التأريخية والأحداث، ثم انتقل إلى الخروج بتعميمات بصورة مباشرة، أو اكتفى أحياناً بدعوتنا إلى استنتاجها والانتفاع من هذه الحقائق للاعتبار. وللدلالة على هذا، نورد النصوص الآتية: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم..) غافر/ 82.
          (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض..) آل عمران/ 137.
          (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمّر الله عليهم) محمد/ 10.
          (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) الأنعام/ 11.
          وتطالعنا آيات أخرى تدعو لاستخراج التعميم من خلال الواقعة التأريخية: (فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا..) النمل/ 52.
          (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً..) القصص/ 58.
          فهذه الأمثلة، والدعوة إلى الاعتبار لبعض المشاهد، تأتي لدعم التعميم القرآني.
          من جهة أخرى، أشار الله تعالى إلى كتابه والتي سماها ذكراً (.. قل سأتلوا عليكم منه ذكراً) الكهف/ 83.
          فتكون الخلاصة، هي أن القرآن سمى الحوادث بالذكر، لأنها تأتي من خلال التذكر، لوقوعها ماضية مما يجعلها صالحة لأن تكون مقابلاً لكلمة تأريخ، التي تعني تدوين حوادث الماضي، كما أشار إلى علاقات وتعميمات يمكن التوصل إليها من خلال الواقعة التأريخية والتي ذكرها أحياناً بصراحة من خلال حديثه عن السنن، مميزاً لها عن الزمن الذي سماه بالأجل، والذي نراه ممتزجاً بكلمة التأريخ، لتمنح المفهوم القرآني للتأريخ ميزة خاصة به، ألا وهي عدم تضمنه للزمن، بل إن الزمن قضية مستقلة لها اطارها الخاص، الذي سنبحثه بصورة مستقلة.
          ويظهر أن سورة الكهف اختصت بنقل تفصيلي لبعض الوقائع التأريخية التي تعلق غرض القرآن ببيانها من قبيل حادثة أهل الكهف، وحادثة لقاء موسى بالخضر (ع)، وجانب من حياة ذي القرنين، وقال عنه (سأتلوا عليكم منه ذكراً). فعبّر عن نقل الوقائع السالفة والتي نسميها نحن بالتأريخ بالذكر، وقد قال صاحب (مجمع البيان) في معرض تفسيره للآية: «أي خبره وقصته»، ثم قال: «معناه، قل يا محمد سأقرأ عليكم خبراً وقصة».
          وبعد هذا سنبدأ ببحث مفهوم الأجل من زاوية تعلقه بقضية فلسفة التأريخ لنخرج بالمفهوم القرآني له.
          ما هو الأجل؟
          وردت كلمة «أجل» في ما يقرب من خمسين آية للدلالة على زمن معين محدد، وقد شمل البعد الزمني للحياة الانسانية في جزء كبير من تلك الآيات، وفي البعض الآخر، دلت لفظة الأجل على بعد زمني للكون بمعناه الواسع.
          وقد فسّر صاحب «الميزان»، الأجل في معرض تفسيره للآية الثانية من سورة الأنعام (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) بقوله: «يشير إلى خلقه للعالم الانساني بعد الاشارة إلى خلق العالم الكبير فيبيّن أن الله سبحانه هو الذي خلق الانسان ودبره بضرب الأجل لبقائه الدنيوي ظاهراً، فهو محدود الوجود بين الطين الذي بدأ منه خلق نوعه، وإن كان بقاء نسله جارياً على سنّة الزواج والوقاع».
          وفي الصفحة نفسها قال: «ومن الممكن أن يراد بالأجل ما تقارن الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى..» وقد أبهم الأجل بإتيانه منكراً في قوله: (ثم قضى أجلاً) للدلالة على كونه مجهولاً للانسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسل إلى العلوم العادية.
          وقوله: (أجل مسمى عنده) تسمية الأجل تعيينه، فإن العادة في العهود والديون ونحو ذلك، يذكر الأجل، وهو المدة المضروبة.
          ثم يقول: «إن المراد بالأجل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني بين الموت والبعث ذكره عدد من الأقدمين، وربما روي عن ابن عباس، وقد أورده ضمن التفسيرات الغريبة».
          وقد أشار لدى تصديه للآية السابعة من سورة الروم: (ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى..) بقوله: «إن الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلاً ولا بعضاً إلا خلق ملابساً للحق أو مصاحباً، أي لغاية حقيقية، لا عبث بلا غاية له وإلى أجل معين فلا يبقى شيء منها إلى ما لا نهاية له بل يغنى وينقطع».
          وهكذا يحدد معنى كلمة «أجل» بمعنى الزمن المحدد الذي يتحرك فيه الانسان، وكذلك الكون نحو غايته، وهذا أهم ما يميز كلمة الأجل عن كلمة التأريخ; فالأجل وقت معين، تنتهي حياة الانسان عنده كجماعة، على العكس من كلمة تأريخ التي لا تنطوي على دلالة من هذا النوع.
          ومن خلال هذا نكشف أن المفهوم القرآني للتأريخ يرتبط بقوة بالحدود، فالانسان فرداً أو جماعة يعيش فترة محددة لا يتعداها، كما دلّ على ذلك بعض الآيات التي أكدت هذا المفهوم، إذ قالت: (إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعةً..) يونس/ 83.
          إذن، المفهوم الاسلامى للتأريخ تضمن تحديد فترة زمنية يعيشها الانسان، وهذا يقتضي وجود بداية ونهاية، وإن القرآن بهذا التحديد لا يترك مجالاً للتخرص والظن بل يحدد تلك البداية بوضوح وقاطعية، ومنذ السورة الأولى (البقرة) ويظل يؤكد المضمون نفسه في بقية السور بنفس درجة التأكيد والقاطعية. كما انه لا يفتأ يذكر بنهاية الانسان بالموت ونهاية الحياة البشرية بفناء مشابه، يسميه يوم القيامة، والذي يعبّر عن انقضاء أجل الحياة البشرية. بل يعمد القرآن إلى مهاجمة الآراء والفرضيات التي تقول باستمرار الحياة وديمومتها. وبعد هذا سيكون الأجل (هو الزمن الذي يتحرك خلاله الانسان منذ بداية وجوده ككائن وحتى نهاية هذا الوجود).
          مع ما يترافق مع هذه الحركة من تطورات وخبرات وانتكاسات. وسيكون الفرق في هذا المفهوم عما سواه، بكونه يرتبط ببداية ونهاية، ويشترك مع ما سواه بكونه صيرورة الانسان، مضافاً إلى ما أشار إليه القرآن من التداخل في الآجال. فهناك أجل كلي للجماعة وأجل خاص بالفرد.
          كما إن المفهوم ينطوي على علاقة خاصة قائمة بين مؤجل ومؤجل له ونفس الأجل. وهذا فضلاً عن نفي العبثية والاقرار بوجود هدف يسعى إليه الوجود. وهكذا نكتشف جملة من خصائص المفهوم الاسلامي للتأريخ، وهي:
          1 انّه صيرورة محددة بزمن.
          2 انّه الزمن محدد ومتداخل (الأجل).
          3 انّه ينطوي على علاقة بين مؤجل ومؤجل له.
          4 نفي العبثية وتأكيد الهدفية.
          ليكون التعريف الاسلامي للتأريخ هو: «الأجل الذي تحدث خلاله صيرورة الانسان وصولاً إلى الهدف الكوني الكبير».
          وهذا التعريف يتضمن الإقرار بوجود معنى وفلسفة للتأريخ ثم وجود روابط وعلاقات لابد من اكتشافها وتحديدها، استكمالاً للتعريف.


          تعليق


          • #6

            منهج القرآن لإحداث التغيير

            * د. محمد عبدالرحمن مرحبا
            إن الفقهاء وأصحاب كتب الشريعة عند حديثهم عن القواعد الأصولية تتبعوا منهج القرآن في التربية والتعليم لإحداث التغيير المطلوب. فهناك تدرج في التشريع يريد أن يساير الفطرة البشرية وطبيعة الإنسان التي تأبى التحول الفجائي، والمثل على ذلك تحريم الخمر، إذ لم يكن التحريم عملاً فجائياً بل لقد حدث على خطوات ومراحل متدرجة في اليسر والصعوبة. ويعبر عن ذلك قصة عمر بن عبدالعزيز مع ابنه الذي أنكر على أبيه عدم إزالة بقايا الانحراف والمظالم التي ارتكبها مَن سبقه من خلفاء بني أمية، فقال عمر قولته المشهورة: (لا تُعجِّل يا بني فقد ذم الله الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة. وإني لا أريد أن أحمل الناس على الحق جملةً فيكون من ذا فتنة). لقد كان شعار القوم آنذاك: (يسروا ولا تُعسروا) فلابد من تيسير سبل التحريم حتى تنضج ظروفه ومبرراته لاتخاذ الخطوة الحاسمة. وبهذا استطاع القرآن القضاء على عادة شرب الخمر بين المسلمين، وإن كنت لا أشك في أنه بقيت في الساحة قلة ضئيلة لم تستطع التخلص من هذه العادة فتجاوز عنها القرآن لأنه إنما يرسم ويخطط للأجيال المقبلة. فإذا عجزت هذه القلة عن التخلص من هذه العادة فقد خرج من أصلابها سلالات نظيفة لم تقرب الخمر طوال حياتها. لقد كانت الواقعية رائد محمد والقرآن، ولا عليه بعد ذلك أن يحدث تجاوز من هنا وتقصير من هنا ليَسلم الإنسان!
            وقد نتج عن ذلك ما يسمى بالناسخ والمنسوخ. إن التدرج في التشريع غرضه القضاء على عادات راسخة في المجتمع الجاهلي واستئصال شأفتها كما ذكرنا. كان شرب الخمر أمراً مباحاً لا حرج منه حتى في أوقات الصلاة. فكان يصح للمسلم أن يصلي وهو سكران، لكنه في خطوة تالية مُنع من الصلاة إذا بلغ به السكر حداً أفقده الوعي، فإذا كان السكر دون ذلك فالصلاة صحيحة لا غبار عليها: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) النساء/ 43، ثم نُسخت هذه الآية بآية أخرى نزلت) فيما بعد أتمت عملية التحريم نهائياً: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) المائدة/ 90، فالآية السابقة يقال لها منسوخة، وقد نسختها الآية الأخيرة. هذه الآية نسخت تلك، وكلتاهما من القرآن، لكن إحداهما منسوخة تُقرأ ولا يُحتج بها، وبالتالي لا يجوز العمل بها، والأخرى ناسخة، يجب الالتزام بها وعدم تأويلها. بصرفها عن ظاهر معناها. وهكذا فالنسخ مبدأ أساسي في الاسلام، إنه يريد أن يعالج أمراً واقعاً يعيشه المجتمع كل يوم ويعاني من همومه. ولئن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى واقعية القرآن وعنايته بمشكلات الحياة وهمومها. إنه الآلية القادرة على إزالة التناقض بين المطلق والنسبي، بين الثابت والمتحرك، بين الموت والحياة. هي الواقعية عصب كل تحرك وتحريك، كل تفقه وتفقيه، بل كل تفكر وتفكير، وكل تأصيل وتشريع في نطاق الاسلام السني، دع عنك الاسلام المنحرف.
            إن ظاهرة النسخ هذه تُبرز واقعية القرآن كما رأينا وبالتالي تبرز طابعه التاريخي. فالنسخ لا معنى له في الاسلام إلا تطور التشريع بتطور الواقع الاجتماعي. وهناك ظاهرة أخرى تبرز الطابع التاريخي للقرآن أيضاً وهي ظاهرة تنجيم القرآن. فالخطاب القرآني لم (ينزل) جملةً واحدة، بل لقد نزل (نجوماً) استجابة لأحداث ووقائع تمر بها حياة المؤمنين وتأتي كل يوم بجديد. ومعنى ذلك أنه (نزل منجماً) بحسب التعبير الاسلامي على امتداد 23 سنة ، تبعاً لما يطرأ على هذا المجتمع من معضلات أو مشاكل، أو يثار فيه من أسئلة تُطرح على النبي من قبيل (يسألك) و(يسألونك) و(سأل) و(سألك) وأمثالها، ولابد أن (ينزل) القرآن مجيباً عن هذه الأسئلة بكلمة (قل). وبذلك يتبين الموقف الاسلامي من القضايا المطروحة التي يدور عليها السؤال والتسآل. فنتج عن ذلك كله نظام شامل للحياة والمجتمع هو وليد واقع الحياة والمجتمع وتفاعلات الحياة والمجتمع.
            والقرآن مع حرصه الشديد على الإجابة عن الأسئلة التي تُطرح على الساحة، فقد كان حريصاً أيضاً على أن يحدَّ بقدر الإمكان من كثرة السؤال والتسآل وألاّ يُطلق للمؤمنين العنان ليسألوا عن كل شيء يقفز إلى أذهانهم، كيلا يغرقهم في نصوص لا تنتهي تشل فاعلية الفكر وتوقف تحركه. إنه لا يريد أن يلزمهم بقوالب جامدة لا تدع لهم فسحة أو رخصة، لاسيما وأن هذه الأسئلة كان أكثرها يدور على الحلال والحرام. ولذلك نهاهم عن الإكثار من الأسئلة، فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين يُنزَّل القرآن تُبدَ لكم، عفا الله عنها، والله غفور رحيم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) المائدة/ 101 و102. فالسؤال ملزم لصاحبه، فإن لم يتقيّد بالجواب الذي (ينزل) به القرآن فقد وقع في الحرام. فما عفا الله عنه هو ما تُرك للعقل البشري ليجتهد فيه.
            والاجتهاد قاعدة أساسية من قواعد التشريع الاسلامي. فالنصوص لم تتناول كل شيء بالتفصيل. فقد بين الله حكمه في أشياء وسكت عن أشياء، وهذا السكوت تفويض إلينا بالاجتهاد. ومن الاجتهاد ما يعتمد على القياس ومنه ما يعتمد على المصلحة.
            قال الشاطبي (المتوفى سنة 590ه) في كتاب الاعتصام: (فلم يبق للدين قاعدة يُحتاج إليها في الضروريات والخاصيات أو التكميلات إلا وقد بينت غاية البيان. نعم يبقى تنزيل الجزئيات على الكليات موكولاً إلى نظر المجتهد. فإن قاعدة الاجتهاد نصاً ثابتة في الكتاب والسنة، فلابد من إعمالها ولا يسع تركها، وإذا ثبتت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالاً للاجتهاد، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه. ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل، فالجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم. وقد نصّ العلماء على هذا المعنى، فإنما المراد بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل).
            وهكذا، ففي الشريعة أصول عامة استوفت أمور الدين. لكن تفصيلها تُرك للنظر الاجتهادي، لأن النصوص المتناهية كما هو معلوم لا تستوعب الوقائع غير المتناهية. فاستنباط أحكام الوقائع المتجددة من الوقائع الكلية لابد منه لفهم الشريعة. وقد حدث ذلك في وقت مبكر جداً، بل لقد كان أسبق أنواع النظر العقلي عند المسلمين وأسرعها إلى الظهور.
            وعلى كل حال، إن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يكون المنع بالنص. فانتهزوا أيها المؤمنون فرصة عدم ورود النص رفعاً للحرج ففي ذلك رخصة لكم. واعلموا أن الله لم ينس شيئاً وأن النص على كل شيء فيه تضييق، وفيه تشديد، وفيه حرج، وفيه أيضاً عدم مراعاة لأحوال الزمان والمكان، فلا تتدخلوا بعد اليوم فيما لا يعنيكم، فالله أعلم بمصالحكم. إن الناس يختارون ما يحقق المصلحة ولا مصلحة لكم في التزام نصوص جامدة لا تحقق أي مصلحة فيضيقون بها ولا يعملون بمضمونها فيهلكون.
            وهكذا نرى كيف أن القرآن لم يكن فقط عمدة المسلمين الأساسية في رصد حياة نبيهم بتقلباتها المتموجة ولحظاتها الخفاقة منذ بلوغه سن الأربعين حتى وفاته، بل كان أيضاً عمدتهم في رصد حياة شريعتهم وسجلاً أميناً لحوادث وقعت ومواقف اتخذت وحركة تاريخية لم تتوقف إلا بتوقف أنفاس مثيراه ومشعل فتيلها.
            المشاكل عربية إسلامية، والهموم عربية إسلامية، والحلول عربية إسلامية، والأسئلة والأجوبة عربية إسلامية، في بيئة كل نسمة هواء فيها وكل حبة رمل عربية إسلامية. وكل أولئك يؤكد تاريخية القرآن وتمخضه بحركة التاريخ. فكل آية في القرآن هي تاريخ وكل آية تنبض بدفق التاريخ، وما أكثر الآيات التي غيرت في تلك البقعة على الأقل وجه التاريخ، خلال ثلاثة وعشرين عاماً من الكفاح والنضال والعذاب والآلام التي قذفت بأصحابها إلى سدة التاريخ، وجعلتهم صناعاً للتاريخ.
            وهكذا فكلما كان الاسلام ينتشر في ربى الحجاز ونجد، كان الوحي (ينزل) بحسب التعبير القرآني بالتوجه والتعليم وبالدرس الضروري في المثابرة والصبر والإقدام والإخلاص والبشارة والأمل والتشجيع والترهيب والتغريب.. يتلقاه أولئك الأبطال الأسطوريون، أبطال الملحمة الخارقة.

            تعليق


            • #7
              استحالة تحريف القرآن الكريم

              * درس الكاتب فيما سبق من دراسته مسألة تحريف القرآن وأدلة الرأي الشاذ القائل به، وقد ناقشها مناقشة وافية بعد أن بيّن معنى التحريف وأقسامه في علوم القرآن.
              وفي هذا القسم يواصل الكاتب بحثه، فيذكر الأدلة على سلامة القرآن من التحريف، بل استحالة تحريفه، مؤكداً إجماع علماء الإمامية على ذلك في الجملة.
              - خصائص المصحف الإمام:
              السيد علي كمال الدزفولي محقق القرآن المعاصر، يذكر عشر خصائص للجمع العثماني، من جملتها:
              1 أمر عثمان بأن يأتي كل شخص بكل ما سمعه عن النبي(ص) ليساهم في هذا المشروع، لئلا يغيب عن هذا الجمع أي شيء، حتى لا يراود الشك أحداً في محتوى هذا المصحف، وليتيقن الجميع بأنه قد تم جمعه على مرأى ومسمع مشاهير الصحابة.
              2 الاعتماد على المرحلة الأولى من الجمع البكري (نسبة إلى أبي بكر).
              3 كل ما استعصى حلّه فيما يتعلق بالاختلافات المسموعة (اللفظية) تنتخب منها لهجة قريش.
              4 تجنباً للشبهة وتطرق الفساد، فقد امتنعوا عن تدوين الموارد التالية: منسوخ التلاوة (باعتباره عنواناً مبتدعاً)، ما لم يكن موجوداً في الفترة الأخيرة (على عهد النبي-ص-)، ما لم تثبت قراءته، القراءات الشاذة، قراءات الآحاد والالحاقات (الحواشي) التفسيرية.
              5 تم ترتيب آيات كل سورة طبقاً للتوقيف المستند إلى النبي(ص) في الفترة الأخيرة.
              نال الجمع العثماني منذ لحظاته الأولى وبعد التغلب على النعرات العاطفية والجاهلية قبول كبار الصحابة، على رأسهم الإمام علي(ع) حيث وردت روايات متعددة وبتعابير شتى عن تأييده لعمل عثمان وحصيلة جهود اللجنة المعينة لمهمة تدوين المصحف الإمام.
              ولو خالط الشك صحة صدور هذه الروايات، فحسبنا سيرة الإمام علي(ع) الحاكية تأييده لعمل عثمان أو تقريره (السكوت الناشئ عن الرضا والقبول) له على أقل تقدير. يقول السيد الخوئي في معرض تأييد عمل عثمان: (أما ان عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة، وهي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين، والتي تلقوها بالتواتر عن النبي (ص) وانه منع عن القراءات الأخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، والتي تقدم توضيح بطلانها، أما هذا العمل من عثمان فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين؛ وذلك لأن الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين، وتمزيق صفوفهم، وتفريق وحدتهم، بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضاً. وقد مرّ فيما تقدم بعض الروايات الدالة على أن النبي(ص) منع عن الاختلاف في القرآن. ولكن الأمر الذي انتقد عليه، هو إحراقه لبقية المصاحف، وأمره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين، حتى سمّوه بحرّاق المصاحف).
              أما ما ذهب إليه بعضهم من وجوب المحافظة على هذه الكتابات المتناثرة الموجودة على الجلود والأحجار وجرائد النخيل، فهو فكرة حديثة ومقبولة في هذا العصر؛ حيث ان حفظ المستندات والتحفيات القديمة أمر ممكن ومطلوب. ولو قام عثمان بمثل هذا العمل، لنقض غرضه في نفي الاختلاف. ففي الوقت الذي نجد مصاحف عثمان الستة أو السبعة وعلى الرغم من كل تلك الدقة في المحافظة عليها قد ضاعت كلها أو جلها، أو على أقل تقدير لا نعرف شيئاً عن مصيرها، فكيف يعقل امكانية المحافظة على العظام والأحجار والجلود المبعثرة والبالية، ليعلم أيمكن أن يستفيد منها الباحثون في العصر الحاضر وفي المستقبل، أم لا؟
              - أدلة القائلين بعدم التحريف:
              1 القرآن:
              أشهر الآيات القرآنية والوعود الإلهية المصرحة بحفظ القرآن هي ثلاث آيات:
              أ‌) آية الحفظ: (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر/ 9. والمراد من (الذكر) القرآن، كما في الآية السابقة على آية الحفظ في هذه الصورة نفسها: (وقالوا يا أيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون) الحجر/ 6.
              هذه الآية وسائر الآيات القرآنية التي سوف نذكرها، تُعدُّ حجةً على القائلين بالتحريف بالنقيصة فقط من الفريقين؛ لأن هؤلاء يقولون بحذف وإسقاط آيات أو سور من القرآن، مع إقرارهم بكون القرآن الموجود صحيحاً وقطعي الصدور. ومن هنا نراهم قد أجازوا صحة الاستدلال بالآيات الموجودة.
              هناك شبهات، تحوم حول هذه الآية، وقد أجيب عنها في الكتب المطولة، من جملتها ان الضمير في (له لحافظون) يعود على النبي(ص)؛ ولكن مع وجود المرجع الحاضر، إرجاع الضمير إلى المرجع الغائب يحتاج إلى قرينة.
              ب‌) آية عدم إتيان الباطل: (وإنه لكتاب عزيز، لا يتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفِهِ، تنزيل من حكيم حميد) فصلت/ 41-42. واضح أن التحريف أظهر مصاديق (إتيان الباطل)، الذي نزّه الله ساحة القرآن عنه.
              ج) (إن علينا جمعه وقرآنه) القيامة/ 17.
              2 الأحاديث:
              أ‌) حديث الثقلين المشهور الذي بلغ حد الاستفاضة من طرق الفريقين: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، نهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض). والقول بالتحريف يقتضي سقوط الكتاب الذي هو الثقل الأكبر عن الحجية.
              ب‌) أحاديث وجوب عرض الحديث على القرآن.
              ج) الأحاديث الدالة على ثواب قراءة السور في الصلاة وغيرها؛ حيث لو لم تكن سور القرآن مجموعة ومدونة بالكامل ومحفوظة عند المسلمين، لما كان لهذا الأمر من معنى.
              د) الأحاديث الواردة عن الأئمة (ع) في باب أن ما في أيدي الناس هو القرآن النازل من عند الله تعالى نفسه.
              3 الدليل الثالث على عدم تحريف القرآن إجماع الفريقين، وكذلك إجماع الإمامية منذ عصر الأئمة(ع) وإلى اليوم؛ فأعلام الإمامية من الصدوق (القرن الرابع) إلى الإمام الخميني وآية الله الخوئي وسائر المجتهدين والمراجع العظام، هم من القائلين باستحالة تحريف القرآن. وسنذكر رأي بعضهم مع أسمائهم.
              4 الدليل الرابع إعجاز القرآن؛ باعتبار منافاة التحريف مع كون القرآن معجزة؛ لبداهة ضياع معاني القرآن بالتحريف، في حين ان أساس الإعجاز هنا هو الفصاحة والبلاغة اللتان تدوران مدار المعنى واللفظ. إنما يصحّ إعجاز القرآن الذي تحدى الله به الآخرين، والذي مني فيه المعارضون والمخالفون بالهزيمة النكراء بشرط المحافظة عليه من ألفه إلى يائه، وصحة استناده جميعاً إلى الله تعالى. إن كون القرآن معجزة إلهية ونبوية خالدة من عقائد المسلمين.
              5 الدليل الخامس صلاة الإمامية لأن الأئمة الأطهار(ع) وفقهاء الإمامية، يقولون بوجوب قراءة سورة تامة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الفريضة، وهذا يحكي اعتقاد الإمامية بعدم سقوط شيء من القرآن. وبعبارة أوضح: إن القائلين بالتحريف لا يمكنهم اعتبار قراءة سورة محتملة التحريف جائزةً ومجزيةً؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. إذن، هذا الترخيص من الأئمة (ع) بقراءة هذه السور في الصلاة في نفسه دليل على عدم وقوع التحريف في القرآن؛ وإلا، لكان مستلزماً لتفويت الصلاة الواجبة على كل مكلف.
              6 الدليل السادس بداهة تواتر القرآن؛ حيث إن قضية التواتر في نقل وقراءة مجموع القرآن، وكل أجزائه، وسوره، وآياته، منذ عهد الرسالة وعلى مر الأعصار والقرون بين جميع طبقات المسلمين، من ضرورات الدين. وادعاء المدّعين بقرآنية بعض العبارات أو تحريف القرآن بشكل عام إنما هو من باب خبر الواحد (غير المتواتر).
              7 و8 الاهتمام الاستثنائي للنبي(ص) والصحابة بحفظ وجمع القرآن، وكذلك كونه مجموعاً في عهد النبي(ص) ولو لم يكن مدوناً بين الدفتين اللذان لهما واقع تاريخي؛ يعدّان في نظر بعض المحققين من بين الأدلة على عدم تحريف القرآن.
              9 الدليل التاسع هو الدليل العقلي؛ الذي عرضه العلامة الطباطبائي (رض) بأفضل بيان، وقد نقلناه بدورنا قبل البدء بهذه الفقرة (أدلة القائلين بعدم التحريف) مباشرة.
              10 الدليل العاشر هو الدليل العقلي- التأريخي؛ أي: لو كان القرآن الإمام (المصحف العثماني) الذي تمت تهيئته في خلافة عثمان والذي هو في متناول أيدينا اليوم محرفاً، لوجب على الإمام علي(ع) أن يعترض ويضع تصحيح القرآن في صدر برنامج حكومته؛ أي بالضبط مثل تصديه في بداية الإعلان عن برنامج حكومته للتغييرات التي أدخلها عثمان على السنة النبوية والتي تقل خطورة عن مسألة تحريف القرآن حيث قال (ع) بأنه سيسترجع الأموال التي وزّعها عثمان على حاشيته، حتى ولو اشتروا بها الغلمان أو جعلوها مهوراً للنساء. (وقد ذكرنا الأحاديث الحاكية بصراحة إمضاء الإمام علي(ع) لعمل عثمان فيما يتعلق بصحة المصحف العثماني).
              11 الدليل أو القرينة الأخرى هي أن لجنة تهيئة وتدوين المصحف الإمام (العثماني)، قد كتبت الكثير من الكلمات القرآنية والتي يتجاوز عددها مئة كلمة على خلاف قواعد الإملاء العربي الصحيح، وبتعبير جريء ولكنه صحيح: ارتكبت (أغلاطاً إملائية). وهذه الاختلافات في الكتابة أو (الأغلاط الإملائية) كما في (يبسط) التي كتبت مرة ب(السين) وأخرى ب(الصاد)، و(مسيطر) التي كتبت ب(الصاد): ب(مصيطر) قد وردت في الرسم العثماني وهي باقية إلى اليوم على حالها الأول. وكذلك (بسم الله الرحمن الرحيم) التي كتبت في بداية (113) سورة من بين (114) سورة قرآنية، ولم تكتب في أول سورة التوبة؛ بحق وامتثالاً للوحي، وقد ذكر المفسرون أسباب ذلك. أو الحروف المقطعة (فواتح السور)؛ أي الحروف القرنية المرموزة مثل (الر) أو (كهيعص)، التي لم تكشف أسرارها لمحققي القرآن ومفسريه والعارفين بالاسلام من المسلمين وغير المسلمين، ولم تطرح إلى اليوم نظرية مقنعة في تفسيرها. نرى اللجنة قد كتبتها بعينها ولم تجز أي إصلاح قياسي أو اجتهاد أو تصرف فيها. كما ان بعض الفقهاء الأعلام، ومنهم مالك وأحمد بن حنبل قد أفتوا بعد ذلك بوجوب الحفاظ على الرسم؛ أي رسم الخط العثماني. ومعلوم أن هذا الاهتمام الزائد والحرص الشديد على حفظ الغرائب والاشتباهات أو الأغلاط الإملائية يحكي بكل صراحة صحة جمع وتدوين القرآن وصيانته من أي تغيير طارئ عليه أو زيادة أو نقصان.
              - آراء أعلام الإمامية في استحالة تحريف القرآن:
              لطول البحث وعجز المقالة عن استيعاب نقل آراء أعلام الإمامية من القرن الثالث والرابع وإلى اليوم؛ نكتفي بالاشارة إلى أسماء بعضهم ومصادر أقوالهم وفي الختام نورد بعض الفتاوى والآراء لكبار المجتهدين المعاصرين التي يندر ذكرها في المقالات والكتب الأخرى:
              1 أول ما تم التصريح به في باب صيانة القرآن من التحريف كان للشيخ الصدوق (توفي 381ه).
              2 الشيخ المفيد (توفي 413ه).
              3 الشريف المرتضى علم الهدى (توفي 436ه).
              4 الشيخ الطوسي (توفي 460ه).
              5 الشيخ الطبرسي (توفي 548ه).
              6 السيد ابن طاووس (توفي 664ه).
              7 العلامة الحلي (توفي 726ه).
              8 المحقق الأردبيلي (توفي 993ه).
              9 القاضي نور الله الشوشتري (توفي 1019ه).
              10 الشيخ البهائي (توفي 1031ه).
              11 الملا محسن الفيض الكاشاني (توفي 1090ه).
              12 الشيخ الحر العاملي (توفي 1104ه).
              13 الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء (1228ه).
              14 الحجة محمد جواد البلاغي (توفي 1352ه).
              15 السيد محسن الأمين العاملي (توفي 1371ه).
              16 الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (توفي 1373ه).
              17 السيد شرف الدين العاملي (توفي 1381ه).
              18 آية الله أبو الحسن الشعراني (توفي 1393ه).
              19 العلامة الطباطبائي (توفي 1402ه).
              20 آية الله البروجردي (توفي 1382ه).
              21 آية الله الحكيم (توفي 1390ه) الذي أصدر فتوى في هذا الخصوص.
              22 آية الله السيد محمد هادي الميلاني (توفي 1395ه) الذي أصدر فتوى بهذا الخصوص.
              23 الإمام الخميني (توفي 1409ه).
              24 آية الله الخوئي (توفي 1413ه)، الذي كتب واحدة من أ فضل وأشمل الرسائل في رد التحريف واثبات صيانة القرآن تحت عنوان (صيانة القرآن من التحريف)، كما ان له فتوى بهذا الخصوص.
              25 آية الله الكلبايكاني (توفي 1414ه).
              وما ذكرناه وأشرنا إليه هو أسماء عدد من أعلام الإمامية. وقد تضمنت الكتب الثلاثة القيّمة: (صيانة القرآن من التحريف) تأليف الشيخ محمد هادي معرفة، و(التحقيق في نفي التحريف على القرآن الشريف) تأليف السيد علي الحسيني الميلاني، و(أكذوبة تحريف القرآن) تأليف رسول جعفريان (الأصل الفارسي يحمل عنوان: أسطورة تحريف القرآن)، تضمنت بمجموعها أسماء وآراء أكثر من خمسين علماً من أعلام الإمامية القائلين صراحة باستحالة تحريف القرآن.
              وأخيراً، ومن باب مسك الختام، ننقل رأي الإمام الخميني(رض) في هذا الموضوع:
              (هذا الكتاب السماوي- الإلهي، الذي يمثل صورة حية موضوعية ومدونة بجميع الأسماء والصفات والآيات والبينات، الذي تقصر يدنا عن بلوغ مقاماته الغيبية، ويعجز البشر عن كشف أسراره، باستثناء الوجود المقدس الجامع ل(مَن خوطب به) والذي تلقنه خُلَّصُ الأولياء العظام ببركة وتعليم تلك الذات المقدسة، واغترف من بحر إشراقه خلص العرفاء، ببركة المجاهدات والرياضات القلبية على قدر الاستعداد ومراتب السير والسلوك والذي وصلتنا صورته الخطية بدون تحريف أو زيادة أو نقصان ولو حرف واحد على لسان الوحي بعد اجتيازه للمراحل والمراتب، من الظلم أن يترك -هذا الكتاب- مهجوراً لا سمح الله).



              تعليق


              • #8

                الدلالة الصوتية في النص القرآني


                لا شك أن استقلال أية كلمة بحروف معينة بكسبها ذائقة سمعية قد تختلف عن سواها من الكلمات التي تؤدي نفس المعنى بما يجعل كلمة دون كلمة وإن اتحدا معنى مؤثرة في النفس، أما بتكثيف المعنى، وإما بإقبال العاطفة، وإما بزيادة التوقع.
                فهي حيناً تصك السمع، وحيناً تهيئ النفس وحيناً آخر تضفي صيغة التأثر: فزعاً من شيء أو توجهاً لشيء، أو رغبة في شيء .. هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية، ونماذجها في المقل القرآني تتجلى مختارة منه، وحروف صاحبت بعض الكلمات، فعاد لهما الوقع الخاص من النفس، بما لا تعطيه كلمة أخرى، مقاربة للمعنى، أو لا تفرغه صيغة مماثلة من التركيب.
                وهذا باب متسع بحدود في دلالة ألفاظ المثل الصوتية، وأثرها في السمع وجلجلتها في الحس، هدوءاً وإثارة، وقد يستوعب جملة من ألفاظه في الجرس والنغمة والصدى والإيقاع، بيد أنني سأحاول عرض أظهرها دلالة من خلال بعض الأمثلة:
                أولاً الكلمة (متشاكسون) في قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون..) الزمر/ 29.
                تعتبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران، وقد تعطي بعض معناها الكلمة (متخاصمون) ولكن المثل لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي جمعت في الكلمة حروف الأسنان والشفة في التاء والشين والسين تعاقبان، تتخللها الكاف، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حملها أكثر من معنى الخصوصية والجدل والنقاش بما أكسبها من أزيز في الأذن يبلغ السامع إلى أن الخصام قد بلغ درجة الفورة والعنف من جهة، كما أحاطه بجرس مهموس خاص يؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى.
                ثانياً الكلمة (أوهن) من قوله تعالى: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت..) العنكبوت/ 41.
                تعطي معنى الضعف، وقد تحقق هذا المعنى كلمة (أوهى) ولكن المثل استعملها دون سواها لما يعطيه ضم حروف الحلق وأقصى الحلق إلى النون من التصاق وانطباق وغنة لا تتأتى بضم الألف المقصورة إليها، حينئذ تصل الكلمة إلى السمع وهي تحمل لوناً باهتاً مؤكداً بضم هذه النون إلى تلك الحروف لتحدث وقعاً يشعر بالضعف المتناهي لا مجرد الضعف وحده.
                ثالثاً الكلمة (كل) من قوله تعالى: (وهو كل على مولاه..) النحل/ 76.
                فإنها توحي عادة بمعنى العالة، ولكن المثل استعملها دون سواها لإضاءة المعنى بما فيها من غلظة وشدة وثقل، لهذا الصدى الخاص المتولد بإطباق اللسان على اللهاة في ضم الكاف إلى الكلام المشددة. وما ينجم عن ذلك من رنة في النفس، ووقع على السمع، من وراء ذلك بأن هذا العبد شؤم لا خير معه وبهيمة لا أمل بإصلاحه، فهو عالة عادة بل هو (كل) وكفى.
                رابعاً الكلمة (صر) في قوله تعالى: (كمثل ريح فيها صرٌّ..) آل عمران/ 117.
                إنها كلمة لا يسد غيرها مسدها في المعجم بهذه الدلالة الصوتية الخاصة لما تحمله من وقع تصطك به الأسنان، ويشتد معه اللسان، فالصاد الصارخة مع الراء المضعفة قد ولدتا جرساً يضفي صيغة الفزع، وصورة الرهبة، فلا الدفء يستنزل، ولا الوقاية تتجمع، بما يزلزل وقعه كيان الانسان.
                خامساً (تمسه) في قوله تعالى: (ولو لم تمسسه نار..) النور/ 35.
                لها أزيزها الحالم، وصوتها المهموس، ونغمها الرقيق، نتيجة لالتقاء حرفي السين متجاورين بما لا تحققه كلمة أخرى تؤدي نفس المعنى، ولكنها لا تؤدي هذه الدلالة الصوتية التي وفرتها هذه الكلمة برقة وبساطة.
                وكما دلت الألفاظ دلالة صوتية معينة في الاستعمال المثلي في القرآن فكذلك لمسنا لبعض الحروف دلالة صوتية معينة يتعاقبها في سلك بعض الألفاظ حتى عادت ذات وقع خاص على السمع، وطبيعة مؤاتية في الحس من خلال ترادفها وتناظرها واحتشادها، وسنختار منها (الفاء) العاطفة، نظراً لاختيار المثل لها دون سواها في دلالته الصوتية كما يلي:
                أولاً الفاء في كل من (اختلط) و(أصبح) في قوله تعالى: (فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً..) الكهف/ 45.
                فيها ترتيب وتعقيب يصك السمع في دلالة وقع الأمر دون حائل وبلا فاصل تعبيراً عن الخسران النهائي، والحرمان المتواصل دفعة واحدة، وهنا تلتقي الدلالة الصوتية بالدلالة الاجتماعية بما يستفاد من معنى لغوي.
                ثانياً ويتمثل هذا التوالي عطفاً بالفاء دالاً على سرعة الإيقاع، وعدم الإمهال، بما يوحيه للسمع وللذهن كلاً غير منفصل بقوله تعالى: (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت..) البقرة/ 66.
                فلا حائل ولا زمن بين الإصابة والاحتراق، إذ تختفي الحدود الزمنية فما هي إلا لحظات حتى تعود الجنة رميماً بمفاجأة الإصابة وشدة الاحتراق ونفاذ الأمر.
                ثالثاً وما يقال آنفاً يجري تطبيقه على كلٍ من قوله تعالى: (فأصابه وابل فتركه صلداً..) البقرة/ 264.
                وقوله تعالى: (فإن لم يصبها وابل فطل..) البقرة/ 265.
                فوجود الفاء مكرورة على هذا النمط سواء أكان الحرف عاطفاً أم رابطاً فإن له دخلاً كبيراً في الوقع الموسيقي على الأذن.
                رابعاً ويبلغ هذا الترتيب في التعاقب دورته بقوله تعالى: (فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه) الفتح/ 29.
                فالتوالي هنا زيادة على جرسه السمعي ليوحي إلى النفس نقطة الانتهاء من حقيقة الأمر حتى عاد واقعاً دون شك مقترناً بالدلالة الإيحائية في كشف تماسك هذه الجماعة وترابطها، وكذا الزرع في شدة أسره، وقوة تشابكه.



                الالتفات وتنوع الكلام في القرآن

                مما أخذ على القرآن: عدم نسجه على منوالٍ واحد، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوع الخطاب والانتقال والرجوع والقطع والوصل.. وإلى أمثال ذلك من التنقل الكلامي. زعموا أنه قد يشوش على القارئ فهم المعاني!
                لكنه جهل بأساليب البديع من كلام العرب، وما ذاك الالتفات وهذا التنقل في الخطاب إلا تطرية في الكلام تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر وأنشط.
                والشيء الذي أغفلوه أنهم حسبوا من صياغة القرآن أنها صياغة كتاب، في حين أنها صياغة خطاب.
                إن لصياغة الكتاب مميزات تختلف عن مميزات صياغة الخطاب. فقضية الجري على منوالٍ واحد هي خاصة بصياغة الكتاب. أما التنوع والتنقل والالتفات فهي من خاصة صياغة الخطاب سواء أكان نظماً أم نثراً، فلا يتقيد الناطق بالاطّراد في سياقٍ واحد، بل له الانتقال والتحول أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام.
                فهذا عزيز مصر ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها يقول: (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) يوسف/ 29. فيخاطب يوسف أولاً، ثم يلتفت إلى امرأته يوبخها.
                وكلا الخطابين منساق في نسق واحد ولكن في واجهتين، وقد نقله القرآن على شاكلته الأولى. والقرآن كله من هذا القبيل، لأنه كلام الله واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في صياغة كتاب. ومن ثَمّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقل في الكلام. الأمر الذي زاد في طراوته وزان في طلاوته.
                يقول تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً. لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً) الفتح/ 8 و9.
                يبتدئ الكلام بالخطاب مع الرسول ويتحول من فوره إلى مواجهة المؤمنين.
                ثم الضماير المتتابعة الثلاثة (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه) يعود الأوّلان منها إلى النبي والثالث إلى الله! وهذا من مداورة الكلام من وجهة إلى وجهة، ويعد من ألطف صنع البديع.
                ولا يخفى أن مثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفية مراجع الضمائر لدى المخاطبين النابهين. وهو من حُسن الوجازة وظريف البيان (في ظاهر إبهام وواقع إحكام) سهلاً ممتنعاً يكسو الكلام حلاوةً ممتعة.
                فبدلاً من أن يكون الكلام مشوهاً مضطرب المفاد حسبما راقه المتعرب المتكلف أصبح حلواً سائغاً يستلذه المستمع النبيه.
                ومثله في القرآن كثير ويكون من لطيف صنع البديع.
                وبديعة الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام رب العالمين وقد بحثنا عنها وعن أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى (في المجلد الخامس من التمهيد). ونبهنا هناك على أنه لابد في كل التفاتة من فائدة رائعة وراء تطرية الكلام والتفنن فيه لتزيده رونقاً فوق روعته، وأتينا بأمثلة لذلك.
                وهنا في الآية التي تمثل بها المتكلف من سورة يونس نقول: إنه يزيد مبالغة في الاستنكار:
                قال تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا..) يونس/ 21.
                يعني: أن أولئك الكفرة الجحود إذا كشف الله عنهم ضرهم، فبدلاً من أن يشكروا تراهم يكفرون نعمة الله ويحاولون تغطيتها بأنواع الملتبسات..
                فيمثل لذلك ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم..) يونس/ 22-23.
                فبدأ يواجههم في الخطاب، لكنه في الأثناء يغير وجهة الكلام إلى التكلم عن غائبين، ليحول وجهة السامعين من كونهم مخاطبين إلى كونهم ناظرين مستمعين. وذلك للتمكن في نفوسهم من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المآل، فيلمسوا قباحة العمل وهم يرونه من كثب، فيكونوا هم الحاكمين على فعالهم بالتقبيح.
                قال الزمخشري: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟
                قال: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح.
                وذلك لأن القبيح من الغير يبدو أقبح مما لو ذكر عن النفس.
                وهكذا التنقل من شأن إلى شأن كان من خاصية الكلام إذا كان خاطباً لا كتاباً. يتنقل فيه المتكلم من حالٍ إلى حال، وربما من موضوع إلى موضوع آخر، ثم يعود إلى موضوعه الأول حسبما يقتضيه الحال والمقام. والتنقل ظاهرة قرآنية شاملة ولا سيما في السوَر الطوال.
                مثلاً نراه يتعرض لمسألة الطلاق والعدد في آيات (البقرة: 228-237) وينتقل إلى الترغيب في المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى (الآية: 238) وصلاة الخوف (الآية 239) ويذكر المتوفى عنها زوجها (الآية: 240) ثم يعود إلى ذكر المطلقات (الآية: 241) الأمر الذي لم يكن متناسباً لو كان الكلام كتاباً، ويجوز في الخطاب. وهذا أيضاً في القرآن كثير.
                إذن، فلا موضع لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نظم القرآن.
                قال هاشم العربي بشأن آية الكرسي بعد ما وصفها بفخامة اللفظ والمحتوى بحيث لا يوجد لها نظير في جميع القرآن : إنها بين جارتيها (الآية السابقة عليها واللاحقة لها) كقطعة ديباج رقّع بها ثوب كرباس. قال: واكثر القرآن على هذه الصفة من عدم القران بين آياته، والانتقال توّاً من الأوج إلى الحضيض ومن ذكر الجنة والمغفرة إلى ذكر المحيض.
                *شبهات وردود حول القران الكريم

                تعليق


                • #9
                  الدلالة الاجتماعية في المثل القرآني


                  تتوافر دلالة الألفاظ الاجتماعية في استعمالها اللغوي في عدة مجالات من المثل القرآني، ومرجع هذه الدلالة هو التبادر العام في العرف العربي بما يعطي للكلمة من دلالة خاصة بها، ومراعاة هذا العرف ذو أثر مهم في الدلالة المعينة للكلمة ولهذا اعتبر الخطابي (ت 383-388ه) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة (لفظ حاصل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ افصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه).
                  وقد جرى المثل القرآني وهو جزء من القرآن على هذا المجرى فأعطاه أهميته في تخير ألفاظه للدلالة على المعنى المراد، وسنختار بعض المفردات منه منفردة بنفسها، أو مضمومة لغيرها، من أجل تحقيق الفكرة بأصولها.
                  أولاً: الكلمة (صفوان) من قوله تعالى: (كمثل صفوان عليه تراب) البقرة/ 264.
                  وتعطي صورة الحجر المتكلس الذي يجتمع من ذرات غير قابلة للانفصال يتماسك ويتوافر بعد أن يخالطه التراب المهيل من هنا وهناك، فبعبارة تقاطر المطر وتدافع السيول، بدلاً من أن يهش ويلين ويتفتت وإذا به يعود كتلة حجرية واحدة، صلباً لا ينفذ، ومتحجراً لا ينفذ، فإذا طالعتنا اللغة بأنه: (الحجر الأملس) اتضح مدلول الكلمة في عمقها عدم ثبات شيء عليها.
                  ثانياً: والكلمة (وابل) من الآية نفسها (فأصابه وابلٌ..) البقرة/ 264.
                  تدل لغوياً، على الغيث المنهمر، والمطر المتدافع، وتلمح مجازاً إلى الجود المتناهي في العطاء فهل يا ترى أن سيؤدي معناها بضم هذه الصفات جميعاً لفظ سواها، قد يؤدي معناها بعدة كلمات وإذا تم هذا فهو يعني الخروج عن الإيجاز المتوافر في وابل إلى الأطناب الذي لا مسوغ له في عدة ألفاظ أخر.
                  ثالثاً: والكلمة (لا يقدرون).
                  بضمها إلى (ما كسبوا) في قوله تعالى: (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) البقرة/ 264، فيها من الدلالة على ما يلي:
                  تصوير لحالة الحرمان، وإيذان بحلول الفقر، فلا المال المجموع بنافع، ولا الآمال الموهومة بمتحققة، يأس وادقاع مادي من تلك الأموال، وفقر معنوي من تلك الآمال سواء في الجزاء أو في الثواب الذين توهموا حصولهما، وعي متواصل يصلب القدرة والكسب معاً، وهذا إنما يتأتى فهمه بحسب العرف العام في تبادره لفهم معاني الألفاظ عند اطلاقها.
                  رابعاً: والكلمة (مشكاة) في قوله تعالى: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح..) النور/ 35.
                  ذات دلالة اجتماعية خاصة، وإن تداولتها عدة لغات، واتفقت استعمالاً بين لسانين عند جيلين من البشر، لأن المشكاة عند العرب: (الكوة التي لا منفذ لها .. وقيل هي في لسان الحبشة: الكوة).
                  قيل: كيف جاز أن تخاطب العرب بذلك مع قوله تبارك وتعالى: (عربي مبين)؟ فالجواب: أنه جائز اتفاق الاسم الواحد في لغتين لا ينكر مثل ذلك فيما يقع من الوفاق، ومثل الوفاق بين أهل اللسانين.
                  ويجوز أن تكون المشكاة من جملة ما أعربته العرب من اللغات فغيرته ونطقت به فصار كلغتها.
                  والحق أن العربية قد أعطت هذه الكلمة غرضاً لغوياً خاصاً بها.
                  لذا وجدنا أن الكوة لا تعطي دقائق معنى المشكاة بما فيها من بهاء وجمال، وتبادر ذهني عام إلى المدلول منها في كل الوجوه المحتملة.
                  خامساً: والكلمة (الظمآن) في قوله تعالى: (يحسبه الظمآن ماء..) النور/ 39، ذات دلالة لغوية خاصة بها، لا تمثلها كلمة الرائي مثلاً، ولو استعملها المثل لأصاب المعنى في جزء منه، ولكنها لا تقع موقع الظمآن، فلو قال، يحسب الرائي ماء لم يقع موقع قوله (الظمآن) لأن الظمآن أشد فاقة إليه، وأعظم حرصاً عليه.
                  سادساً: والكلمة (لجي) في قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي..) تشعرك مركزياً بتدافع الأمواج، وتتابع الأمداد فأنت أمام فيض من السيول، وكثافة من الأزباد، ومهما أجال اللغوي فكره في معجمه فإنه لن يصل إلى كلمة تسد مسدها في الدلالة على صورة المعاني النابعة منها.
                  وفي هذا الضوء فإنني أميل إلى ما ذهب إليه زميلنا الدكتور العزاوي بقوله: (إن في استقرار اللغة، وثبات صيغتها، قيمة عظمى، ونفعاً محموداً، وذلك في أكثر من وجه. فبعض الصيغ الموروثة، والتراكيب المتداولة، تؤدي المراد منها بدقة لأنها اكتسبت دلالة خاصة تعارف عليها الناس وأصبح من العسير أن تقوم مقامها أو تؤدي مؤداها عبارات أخرى قد يبتدعها أهل اللغة، ويحلونها محل تلك العبارات.
                  والدليل على صحة هذه الدعوى ما لمسناه من استعمال المثل القرآني للألفاظ المتقدمة: صفوان، وابل، مشكاة، الظمآن، لجي.
                  سابعاً: وفي (لم يكد يراها) من قوله تعالى: (إذا أخرج يده لم يكد يراها) النور/ 40، دلالة لغوية على إرادة عدم الرؤية الحقيقية ونفيها اطلاقاً، بما أثبته النقاد اللغويون، وتخطئة لابن شبرمة وتصحيحاً لقول ذي الرمة، حين بلغ هذا البيت:
                  إذا غير النأي المحبين لم يكد
                  رسيس الهوى من حب مية يبرح
                  فقال له ابن شبرمة: يا ذا الرمة أراه قد برح، ففكر ساعة ثم قال:
                  إذا غير النأي المحبين لم أجد
                  رسيس الهوى من حب مية برح
                  قال الراوي: فرجعت إلى أبي الحكم بن البحتري فأخبرته الخبر، فقال: أخطأ ابن شبرمة حيث أنكر عليه، وأخطأ ذو الرمة حيث رجع إلى قوله، إنما هذا كقول الله عزوجل: (أو كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها من نور..) النور/ 40، أي لم يرها ولم يكد.
                  وأيّد ذلك السيد المرتضى (ت: 436ه) وأزاد من تفصيل الدلالة الاجتماعية فيه، وعرض لجملة من الآراء في التأكيد على نوعية الظلمات وتدافعها بما استخرجه من (لم يكد يراها) قال المرتضى: (أي لم يرها أصلاً. لأنه عزوجل قال: (أو كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض) النور/ 40، كان بعض هذه الظلمات يحول بين العين وبين النظر إلى اليد وسائر المناظر ف(يكد) على هذا التأويل زيدت للتوكيد، والمعنى إذا أخرج يده لم يرها.
                  وقال قوم: معنى الآية: إذا أخرج يده رآها بعد إبطاء وعسر لتكاثف الظلمة، وترادف الموانع من الرؤية.
                  وقال آخرون: معنى الآية إذا أخرج يده لم يرد أن يراها، لأن الذين شاهد من تكاثف الظلمات بأسه من تأمل يده، وقرر في نفسه أنه لا يدركها ببصره.
                  وأياً كان التفسير فدلالة الكلمة المركزية ظاهرة لدى التحقيق، إلا أن هناك شبهة في هذا الفهم المتقابل للكلمة مصدره العرف العام، وقد أوضح سبب هذه الشبهة ابن الزملكاني (ت: 651ه) بقوله: (وما سبب هذه الشبهة إلا أنه قد جرى في العرف أن يقال: (ما كاد يفعل) و(لم يكد يفعل) في فعل قد فعل على معنى أنه لم يفعل إلا بعد جهد. فمن هنا وهم ابن شبرمة في زعمه أن الهوى قد برح، وظن ذو الرمة مثل ذلك، وإنما هو في الحقيقة على نفي المقاربة فإن (كاد) موضوعة للدلالة على قرب الوجود بمحال أن يكون نفيها موجباً وجود الفعل).
                  ثامناً: وفي كل كلمتي ذهب) و(بنورهم) من قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) البقرة/ 17، دلالة مركزية في انسحاب أثر نفي العام على نفي الخاص، ولم يستعمل المثل: (الضوء) بدل (النور) ولا (اذهب) (ذهب) إلا مراعاة لذلك بما أشار إليه الزركشي (ت: 794ه) بقوله: ولم يقل: (بضوئهم) بعد قوله (أضاءت) لأن النور أهم من الضوء، إذ يقال على القليل والكثير، وإنما يقال الضوء على الكثير، ولذلك قال تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً) يونس/ 5، ففي الضوء دلالة على الزيادة، فهو أخص من النور، وعدمه لا يوجب عدم الضوء، لاستلزم عدم العام عدم الخاص، فهو أبلغ من الأول، والغرض إزالة النور عنهم أصلاً، ألا ترى ذكره بعده (تركهم في ظلمات) وهنا دقيقة، وهي أنه قال: (ذهب الله بنورهم) ولم يقل (أذهب نورهم) لأن الإذهاب بالشيء إشعار له يمنع عودته، بخلاف الذهاب، إذ يفهم من الكثير استصحابه في الذهاب، ومقتضى من الرجوع).
                  تاسعاً: والكلمة (عبدا) بتقييدها (مملوكاً) في (ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً..) النحل/ 75 قد يتبادر لأول وهلة في الذهن أن العبد دون تقييد فيه دلالة على عدم الحرية فلماذا هذا التقييد إذن، ولكن الفهم الدقيق يقتضي التقييد، لأن الحر والعبد سواء أمام الله تعالى، فهما عبدان له، اتصاف بالحرية أو العبودية، فأراد الاحتراز من هذه الناحية بأنه عبد مملوك وليس بحرّ مقيد.
                  عاشراً: واستعمال كلمة (امرأة) بدل (زوج) بالنسبة لامرأة نوح ولوط، وهما زوجتان لهما، وبالنسبة لامرأة فرعون، وهي زوجته دون ريب في كل من (امرأة نوح وامرأة لوط..) التحريم/ 10، وقوله: (امرأة فرعون) التحريم/ 11، هذا الاستعمال الدقيق ذو دلالة اجتماعية رائعة، توضحها الدكتورة عائشة عبدالرحمن بقولها: ونتدبر استعمال القرآن للكلمتين، فيهدينا إلى سر الدلالة، كلمة زوج تأتي حيث تكون الزوجية هي مناط الموقف: حكمة وآية، أو تشريعاً وحكماً (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) الروم/ 21، فإذا تعطلت آيتها من السكن والمودة والرحمة، بخيانة أو تباين في العقيدة فامرأة لا زوج.
                  وهذا بيّن بامرأتي نوح ولوط، ففي الخيانة الدينية التي أحدثاها انفصلت عرى الزوجية، وعاد كل زوج منهما امرأة فحسب، وفي امرأة فرعون تعطلت آية الزوجية بكفره وإيمانها، فعادا حقيقتين مختلفتين، لا تربطهما رابطة من سكن، ولا صلة من مودة، فعادت زوجته امرأة.
                  وزيادة على ما سبق بيانه، فإن الدلالة الاجتماعية تكشف بعمق ما يحيط بمؤدى اللفظ من إبهام وغموض ليعود جلياً مشرقاً، ففي قوله تعالى: (يا أيها النسا ضرب مثل فاستعموا له..) الحج/ 73 تبدو كلمة (مثل) موهمة بأن لا ثمل في العبارات التالية للمادة، حتى قال الأخفش: إن قيل أين المثل؟ فالجواب أنه ليس هاهنا مثل، وإنما المعنى: يا أيها الناس ضرب لي مثل: أي شبهت بي الأوثان فاستمعوا لهذا المثل.
                  ولكن الدلالة الاجتماعية تؤكد وجود المثل بمدلوله اللغوي أو بنقله الاستعاري بما عبر عنه الزمخشري بقوله: (فإن قلت الذي جاء به ليس بمثل، فكيف سماه مثلاً؟ قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائعة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب: مثلاً).
                  فأرجع الفصل بالموضوع إلى اللغة لتنفي الشبهة والإشكال.
                  ويبدو مما سلف أن الدلالة الاجتماعية في حدود ما عرضنا له من ألفاظ المثل القرآني قد روعي فيها الفهم المتبادر عند الهيئة الاجتماعية في تحديد معنى اللفظ، وضبط مدلوله، فهي وسيلة مهمة لكشف الغموض والإبهام عن الألفاظ، وإليها يرجع في معرفة النص من خلال المعجم اللغوي


                  تعليق


                  • #10
                    بين القرآن والعلم

                    1 موقف القرآن من العلم:
                    دعا القرآن في كثير من الآيات إلى التزود بالعلم وأثنى على العلماء وذمّ الجهل والجاهلين، وهذا لا شك فيه لمن يلقي نظرة ولو سطحية على الآيات القرآنية.
                    لكن يبقى هناك تساؤل عن طبيعة العلم أو العلوم التي دعا إليها القرآن ومدح أصحابها وأثنى عليهم، فهل حث القرآن على كل العلوم، المادية وغيرها أو كان نظر القرآن إلى خصوص بعض العلوم دون البعض الآخر؟
                    فبينما نجد بعض المفسرين والباحثين يحاولون إثبات دعوة القرآن إلى تعلم كل العلوم النافعة، نرى آخرين يصرون على أن نظر القرآن إلى خصوص العلوم الانسانية وما يرتبط بسعادة الانسان في الدارة الآخرة، مثل العقائد\ والفقه والتربية ونحوها…
                    ولأجل أن يتضح الموقف القرآني من العلوم نقول: ان ملاحظة الآيات التي تتحدث عن العلم والجهل وما يحكي عنهما من المفردات تشهد أنها تصب في اتجاه استقامة الانسان وهدايته ووعيه لطبيعة الحياة الدنيا، فهي لا تعدو هذه الأمور ونحوها مما يرتبط ارتباطاً مباشراً بالعلوم والمعارف الدينية والتربوية، دون العلوم المادية ونحوها مما يحتاجها الانسان في حياته اليومية. فمن هذه الآيات قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) الجمعة/ 2.
                    (قال الذين أوتوا العلم ان الخزي اليوم والسوء على الكافرين) النحل/ 27.
                    (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل رب زدني علماً * ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً) طه/ 114-115.
                    وغيرها كثير من الآيات.. حيث نلاحظ أن هذه الآيات القرآنية الكريمة بعيدة عن إرادة العلوم المادية وما يشبهها مما هو ضمن اهتمام الانسان ومرتبط بجهده واحتياجاته، وأما تفسير العلم في هذه الآيات بما يشمل كل العلوم النافعة فهو تفسير متكلّف فيه.
                    نعم يمكن اهتمام القرآن بمختلف العلوم النافعة من خلال ما يلي:
                    أ اهتمام القرآن بعزة الاسلام والمسلمين، فتدخل ضمن هذه الزاوية كل العلوم التي تساهم في تقدم المجتمع واستقراره ورخائه الاقتصادي وكل ما يُنأى بالمسلمين عن الذل والدونية في مقابل الأمم الأخرى.
                    ب دعوة القرآن لإحياء الأرض، أو استثمارها باعتبارها قد جُعلت وأبيحت للانسان والذي قد يفهم منه الكناية عن الحث على استكشاف أسرار وخزائن هذا الكون الذي يتوقف على نموّ العلوم المادية وتطورها. (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها) الملك/ 15.
                    ج دعوة القرآن المسلمين للدفاع عن أنفسهم وعن دينهم والاستعداد التام لمواجهة خطط الأعداء وكيدهم.. فإنه يستبطن الدعوة للتزود بكل العلوم المساهمة في الوصول إلى هذه الحالة بكل جوانبها العسكرية والاقتصادية وغيرهما. (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة) الأنفال/ 60.
                    2 العلوم التي اكن القرآن عاملاً في ظهورها:
                    هذه العلوم على صنفين:
                    الصنف الأول: هي العلوم التي تضمنها القرآن الكريم سواء تلك التي كان هو مصدرها الأساس أم التي ساهم القرآن الكريم في تطويرها، مثل مباحث التوحيد والنبوة والمعاد والفقه والتربية الاسلامية والأخلاق ونحوها.
                    الصنف الثاني: العلوم التي ساهم القرآن في تطورها واستمرارها من دون أن يتضمنها، مثل علوم النحو والبلاغة واللغة وفقه اللغة، حيث عكف المسلمون على دراسة اللغة العربية وأسرارها وأحكامها ليحافظوا على القرآن الكريم ويفهموا معانيه، فكان للقرآن الفضل في نشوء هذه العلوم وتطورها واهتمام المسلمين بها.
                    بالاضافة إلى دوره في حفظ اللغة العربية من الذوبان والتهجين.
                    3 العلوم الخاصة بالقرآن والباحثة عنه:
                    وهي مجموعة علوم القرآن التي ندرسها تحت عنوان (علوم القرآن) مثل مباحث علم التفسير، ونزول الآيات، والوحي، وإعجاز القرآن، وغيرها من العلوم الباحثة عن القرآن الكريم نفسه، وخصائصه.
                    4 العلوم الضرورية لفهم القرآن الكريم:
                    يحتاج الدارس للقرآن الكريم – بالاضافة لفهم اللغة العربية والإحاطة بها – إلى مجموعة من العلوم التي تساهم في فهم الكتاب العزيز، وهي:
                    أ) علوم العربية المختلفة مثل علم اللغة وفقه اللغة، وعلوم النحو والصرف والبلاغة.
                    ب) العلوم العقلية المختلفة مثل المنطق والعقائد وبعض البحوث الفلسفية وغيرها.
                    ج) مجموعة علوم القرآن مثل نزول الآيات وتاريخه ليمكنه تفسير آية بأخرى، وتمييز المدني من المكي مثلاً وأسباب النزول وغير ذلك.
                    د) التزود بالعلوم التي تتحدث عنها بعض الآيات مباشرة مثل الفقه والعقائد وقصص الأنبياء وبعض أحداث التاريخ الاسلامي وغيرها.
                    ه) علما الدراية والرجال، لتمييز النصوص التفسيرية الصحيحة عن غيرها، وتقديم المتعارضات ونحو ذلك.
                    هذا إذا كان هدف المفسّر التفسير المحيط والجامع لكل القرآن، أما إذا اقتصر على جوانب معينة منه أو آيات أو سور خاصة منه فقد لا يحتاج إلى بعض هذه العلوم المتقدمة. ويختلف ذلك بحسب طبيعة الجانب الذي يتناوله المفسّر ومتطلباته.
                    ونضيف – إلى جانب التزود بالعلوم المتقدمة – شرطين رئيسيين يفترض توفرهما في المفسّر للقرآن الكريم وهما:
                    الأول: أن يعي المفسّر تعاليم الاسلام من مصادرها الأصلية ولا يبتعد عن الذهنية الاسلامية الأصيلة، إذ لا يمكن التفكيك بين فهم الاسلام وفهم كتابه. ومن هنا نعرف عاملاً رئيسياً في أخطاء المستشرقين وغيرهم البعيدين عن فهم روح الاسلام الأصيل عند دراستهم وتفسيرهم للقرآن الكريم.
                    الثاني: أن يكون المفسّر مسترشداً بالقرآن الكريم وتابعاً له من دون أن يجعل من نفسه متبوعاً وموجّهاً للنص القرآني، فيجتنب تفسيره على ضوء قناعته المسبقة وتوجهاته الذاتية البعيدة عن القرآن وباقيَ المصادر الاسلامية التي يفسّر بعضها البعض الآخر، ولذا نلاحظ أخطاء فظيعة وقع فيها أصحاب العقائد والنظريات المنحرفة والباطلة عندما صاروا يحمّلون القرآن أفكارهم الخاطئة محاولةً منهم في تفسير آياته بما ينسجم معها.



                    تعليق


                    • #11
                      الزمن النفسي في القرآن

                      أول ما يلاحظ في تسمية هذا النوع من الزمن هو إضافته إلى (النفس)، ونقصد بالنفس ذلك الجوهر اللطيف (الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية).
                      وبعيداً عن التعقيدات التعريفية، وتشعب التعاريف بين الفنون، نستعمل الاضافة إلى النفس في بحثنا هذا للدلالة على ذلك الإحساس الذاتي والشعور بمرور الزمن أو بعدم مروره، مع تقدير قدره انطلاقاً من هذا الإحساس.
                      فإذا عُدنا إلى عناصر الظاهرة الزمنية، فإننا نجد أن هذا الإحساس والتقدير ما هو إلا من خواصّ الانسان، فالزمن النفسي يكون إذن زمناً إنسانياً محضاً، خلافاً للزمن المبارك الذي هو زمن متعلق أساساً بتقييم الله تعالى له حسب مشيئته وفضله، فلا يضاف الزمن النفسي إلى غير الانسان، كما لا يضاف الزمن المبارك إلى غير الله.
                      وقد حاولنا أن نجمع نماذج للآيات التي تدخل فيها النفس الانسانية، تقديراً للزمن، وشعوراً وإحساساً به. فاخترنا من بينها الآيات الآتية:
                      1 (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة * فاصبر صبراً جميلاً * إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريباً) المعارج/ 4-7.
                      2 (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً) الانسان/ 27.
                      3 (ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة) الأعراف/ 187.
                      4 ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) يونس/ 45.
                      5 (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً) الإسراء/ 52.
                      6 ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) الروم/ 55-56.
                      7 كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ) الأحقاف/ 35.
                      8 (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) النازعات/ 46.
                      9 (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فسئل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون) المؤمنون/ 112-114.
                      إذا حاولنا أن نرجع إلى الخصائص المشتركة بين هذه الظواهر الزمنية، بالنظر إلى عناصر كل ظاهرة، فإننا نلاحظ ما يلي:
                      الجدول المقارَن للعناصر الزمنية:
                      العنصر وجوده في هذه الآيات
                      الشيء المتزمن الكفار في عموم الآيات
                      المقدار الزمني مقداران: زمن حقيقي (عمر الكافر)، ومن مقدّر
                      الوحدة اليوم، السنة، الساعة، العشي، الضحى
                      المجال أو (السلَّم) الزمن الأرضي
                      الحركة اللبث في الدنيا
                      فالأمر المختلف فيه هو المقدار الزمني، وسبب اختلافه هو تقدير الانسان لحجمه تقديراً نفسياً لا حقيقياً.
                      ومجمل الآيات تسعفنا في تحديد مفهوم الزمن النفسي، وتفصيلها كالآتي:
                      1 يوماً ثقيلاً: موضوع الآيات الأولى هو يوم الحساب، فطول هذا اليوم مقارناً بالزمن الأرضي هو خمسون ألف سنة، فالمدة التي يقضيها المؤمن والكافر في هذا اليوم العصيب هي نفس المدة، ولكن الإحساس بها، وتقدير طولها وقصرها يختلف بينهما اختلافاً شديداً.
                      فالمؤمن يراه يوماً قريباً قصير المدة، أما الكافر فيثقل عليه ثقلاً شديداً، فهو يستطيل (ذلك اليوم لشدته) وهوله.
                      ويفسر هذا المعنى حديث رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله (ص): يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله (ص): (والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا).
                      وإمعاناً في الدلالة على طول هذا اليوم على الكافر، وفي التعبير على شدته عليه استعمل القرآن الكريم لفظ (الثقل)، مع أن العادة أن يقال: زمن طويل أو قصير، لا ثقيل أو خفيف.
                      والحق أن القرآن في قوله تعالى: (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً) الانسان/ 27، قد استعار الثقل لشدة اليوم وهوله، ولعظم وقعه على نفس الكافر، فهو ثقيل ثقلاً معنوياً على نفسه، لا ثقلاً حسياً على جسده.
                      وقد وصف الزمن كذلك بالثقل في قوله تعالى: (ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة) الأعراف/ 187، وهذا الثقل في (الساعة) إنما هو لفقد العلم بها: (فإن المجهول ثقيل على النفس، ولا سيما إذا كان عظيماً).
                      وقد أثبتت أحدث الدراسات الزمنية أن الوقت لا يمر عندما نكون قلقين، ويمر بسرعة هائلة في ساعات الفرح والسرور والنعيم، وهذا المعنى يعرفه الناس بالمراس والإحساس، ونقرأه في مصادر الأدب منذ القديم، ومن ذلك قول الشاعر:
                      أعوام وصلٍ كان يُنسى طولها
                      ذكرى النوى فكأنها أيام
                      ثم انبرت أيام هجرٍ أردفت
                      جوي أسى فكأنها أعوام
                      ثم انقضت تلك السنون وأهلها
                      فكأنها وكأنهم أحلام
                      والذي أضافته هذه الدراسات هو أن الثقل يسببه معامل بيوكميائي (Facteur biochimique) يؤثر في الإحساس، إذ إن الإحباط يفرز مواد تحدث خللاً في التوازن الكيمائي للجسد، فيشعر بالتالي بثقل الوقت عليه.
                      وهذا بالطبع لا يعني إنكار الجانب النفسي في الانسان، وأنه يقدّر الأشياء، ويميل إليها أو ينكرها، تبعاً للشعور النفسي.
                      وأضاف المتخصص المعاصر في الدراسات الزمنية إدوارد هول (Hall) في تفسير هذه الظاهرة: ان الساعة الخارجية والساعة الداخلية البيولوجية للانسان تسيران في إيقاع متزن، وفي حالة القلق يختل الإيقاع فيشعر الانسان أن الوقت لا يمرُّ، وأنه ثقيل ومملّ.
                      وفي هذا المعنى تذكر دراسة حول الزمن والبرمجة أنه: (كلما أسرعت كلما تقلص الزمن. وإذا كنت خائفاً أو حزيناً فإن الزمن يمتد؛ أما إذا كنت فرحاً مسروراً فإنني أنسى الزمن).
                      وأي وقت أكثر ضيقاً وقلقاً وحسرة على الانسان الكافر من يوم الحساب، وهكذا لن يكون في الزمن أثقل على الانسان من هذا اليوم العصيب: (المُلك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً) الفرقان/ 26.
                      إذن هذا هو النوع الأول من أنواع الزمن النفسي، وفيه يحس الكافر بثقل الزمن، ويكون خفيفاً على المؤمن؛ أما النوع الثاني فهو خلاف الأول:
                      2 ساعة من نهار: في مجمل الآيات الماضية من 4 إلى 9 نرى أن الكافرين يسألون أو يُسألون عن مدة لبثهم في الدنيا، فلا يقدرون حقيقتها، أما الذين يعلمون حقيقة هذه المدة فهم الذين أوتوا العلم من المؤمنين: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) الروم/ 56.
                      فالكفار يظنون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا (ساعة من نهار)، أو (قليلاً) من الوقت، أو (بعض يومٍ)، أو (عشية)، أو (ضحوة)، أو على أكثر التقديرات (يوماً) كاملاً من أيام الدنيا.
                      وهذا التقدير الخاطئ ما هو إلا ظن: (وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً)، فهو تقدير غير صائب، منشؤه الإحساس النفسي بالمرور السريع للأيام والليالي، والسنين والقرون والأعمار والآماد.
                      والذي جعل هذه الأزمنة تسرع كل هذا الإسراع هو كونهم كانوا في لهو ولعب: (ولئن سألتهم ليقولن إنما) بالحصر (كنا نخوض ونلعب) التوبة/ 65؛ (الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا) الأعراف/ 51، (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) آل عمران/ 185.
                      وقد أثبتت دراسات ميدانية أن الغرائز والمشاعر الجنسية (Emotions) عندما تثار، فإنها تكون سبباً لتسارع زمني مهول، وقد أعطيت لهذا التسارع تفسيرات نفسانية وفزيولوجية وعصبية، ومهما يكن فإن الذين يقضي حياته كلها في بحر من الغرائز يحدث خللاً فاحشاً في تقدير الزمن، وهذا ما يفسر هروب الشباب والأحداث من وطأة المشاكل باللجوء إلى شتى أنواع الغرائز، حتى أكثرها حيوانية، والله تعالى يقول عن هؤلاء: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل) الفرقان/ 44، (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهب أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) الأعراف/ 175-176.
                      ومن مظاهر اللهو والعب: الضحكُ، الذي اتخذ علاجاً للقلق، إذ يعطي للمرء إحساساً بالسعادة، وبالتالي يخفف من وطأة الوقت الثقيل عليه، حتى يتسارع ويخفّ ويمرّ دون أثر يذكر. فلذلك كان قليله مطلوباً، وكثيره حراماً.
                      وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): (لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب). وما موت القلب إلا جهل بمرور الوقت وبقيمته وقدره، وهروب من تبعات الحياة وآمالها وآلامها.
                      ولعل ما يقع في العالم اليوم من غزو وسائل الترفيه واللعب والمتعة المفرطة على حسب الجد والعلم والتحصيل، هو من قبيل هذا النوع من وسائل قتل الوقت، فهي تجعل من زمن الانسان هباء منثوراً، ثم تورثه يوم القيامة حسرة وثبورا.
                      وفي اللغة المستعملة عند عامة الناس دليل صريح على ذلك، فأنت عندما تسأل انساناً جالساً في ملهى أو مقهى: ماذا تفعل هنا؟ فإنه يجيبك: أنا أقتل وقتي.
                      إذن مجمل ما في هذا النوع من الزمن النفسي: أن الكافر لا يقدِّر عمره في الدنيا حق قدره، فالكفار وإن عاشوا مائة عام، أو حتى ألف عام فإنهم (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها).
                      3 تقلص الزمن: المظهر الثالث من مظاهر الزمن النفسي في القرآن الكريم هو تقلص الزمن في حالة الخطر، وبالضبط في حالة توقع الموت، وهذا التقلص كان مثار انتباه الباحثين في الدراسات الزمنية، حتى إنهم أثبتوا أن الموت عندما يحيط بانسان يجعله يستعرض شريط زمنه كاملاً في ثوان معدودة.
                      فبين القدر الحقيقي للزمن الذي عاشه في هذه الحادثة: بضع ثوان، والزمن الذي استعرضه: أعوام عديدة، ليس هناك أي تناسب رياضي، ومن ثم لا يمكن أن يعتبر هذا النوع من الزمن زمناً نسبياً بالمفهوم الفزيائي، بل هو نسبي بالمفهوم النفسي وفي مستوى الإحساس والشعور لا غير.
                      وفي القرآن الكريم آية تدعم هذا الحكم، وهي تصف لنا إحساس المشرك بالزمن حين حضور الوفاة، فهو يرى عمره كاملاً كأنه ساعة: (ويوم تقوم الساعة) وقد تكون ساعة خاصة أو ساعة عامة (يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة).
                      وفي آية سورة النازعات إضافة تتمثل في الفعل: 0يرى)، الذي يفيد تحقق الموت والهلاك: (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها).
                      إذن هذه هي مواصفات الزمن النفسي، هو كما يلاحظ غير الزمن المبارك، ويختلف عن الزمن النسبي كذلك بكونه زمناً ذاتياً، علاقته كاملة مع الإحساس والشعور والنفس والمجالات الذاتية، وليس مع المقاييس، والأحداث الكونية، والمجالات الموضوعية.
                      وفرق آخر بين الزمن النفسي والزمنين الآخرين هو أن الأول يوصف بالصدق والكذب، وبالخطأ والصواب، فيقال: صدق فلان في تقدير الفترة الفلانية، أو لم يصدق؛ ويقال: أخطأ أو أصاب. أما الزمن المبارك والزمن النسبي فلا يوصفان بالكذب، إذ هما زمنان حقيقيان ثابتان لا شك فيهما.



                      تعليق


                      • #12
                        شبهات حول المتشابه في القرآن، وتفنيدها

                        - الشبهة الأولى:

                        إن القول بأن الله لا جهة له، وأنه ليس فوقاً، ولا تحتاً، ولا يميناً ولا شمالاً يستلزم أن الله غير معبود؛ لأن هذه من صفات المعدوم؛ وإن التجرد من الإتصاف بهذه المتقابلات جملة أمر لا يوسم به إلا المعدوم، ومَن لم يتشرف بشرف الوجود.

                        تفنيد هذه الشبهة:

                        أولاً: من الخطأ الفادح أن يشبّه الله بمخلوقاته، وأن يوضع موضع المخلوق من حيث النسبة. فالله تعالى لا يشبه خلقه حتى نحكم عليه بما نحكم على مخلوقاته في وجوب أن تكون له جهات ما دام موجوداً. فوجود الله غير وجود المخلوق. فالله ليس مجسماً، وليس مادياً. ومن الخطأ أن يقاس المجرد عن المادة بما هو مادي.
                        فالمادي هو الذي يجب أن يتصف بشيء من هذه المتقابلات بأن تكون له جهات ست أو جهة منها. أما غير المادي فترتفع عنه مثل هذه الصفات، ولا يمكن أن تكون له جهة من هذه الجهات. فالخالق لا يستوي أبداً مع خلقه في جريان أحكام الخلق على الخالق.
                        ونظير ذلك يمكننا القول: إذا صح، واتصف إنسان بأنه عالم أو جاهل، فإن الجماد كالجبل مثلاً لا يصح أن يتصف بالعلم أو الجهل، وهما مرتفعان عنه، بل وممتنعان عليه؛ لأن طبيعته تختلف عن طبيعة الإنسان. وكذلك لا يصح وصف الأرض بأنها بكر، أو متزوجة، أو أرملة؛ وكذلك لا يصح وصف السماء بأنها سميعة أو بصيرة، أو خرساء؛ وكذلك لا يصح وصف البحر بأنه بالغ أو راشد، أو محلاف. وهكذا تنتفي المتقابلات كلها بانتفاء قابلية المحل لها أياً كانت هذه المتقابلات. وهكذا فإن لكل محل، ولكل مخلوق طبيعة خاصة به تتصف بصفات خاصة، ولائقة بها. وهذه مخلوقة، ومادية فما بالك لو كان الأمر يتعلق بما هو خالق، وغير مخلوق، وغير مادي، وهو الله تعالى، فقياس الغائب على الشاهد فاسد، ومغلوط.
                        ثانياً: إذا كان أنصار هذه الشبهة يقررون ضرورة أن يكون لله جهات حتى يكون معبوداً، فإن السؤال الذي يطرح ذاته هذا: أين كان الله قبل أن يخلق العرش، والكرسي، والسماء، والأرض، وقبل أن يخلق الزمان، والمكان، وقبل أن تكون هناك جهات؟. فإن قالوا: لم يكن له جهة، ولا مكان، فقد اعترفوا بخطأ ادعائهم، وناقضوا أنفسهم، واعترفوا بحقيقة أن الله لا تحده جهة، ولا مكان، ولا زمان، وهو حي باق موجود يدبر أمور الحياة في السماء، والأرض. وإن قالوا: إن العالم قديم بقدم الله تعالى، فقد ناقضوا أنفسهم، واستجاروا من الرمضاء بالنار، وهنا يقتضي الحال الانتقال بهم إلى إثبات حدوث العالم.
                        ثالثاً: لا يجوز الأخذ بظواهر النصوص على حقيقتها كما يبدو عند أنصار هذه الشبهة مما أوقعهم في لبس، تناقض غريب. فهم لا يستطيعون أن يوفقوا بين قوله تعالى: (أأمنتم مَن في السماء) مع قوله: (وهو الله في السموات وفي الأرض). فهل هو في السماء حقيقة، أم في الأرض حقيقة، أم فيهما معاً حقيقة؟!. فإن قالوا: إنه في الأرض وحدها حقيقة، فكيف تكون له جهة فوق؟! وإذا كان في السماء وحدها حقيقة، فكيف تكون له جهة تحت؟! وإن قالوا: إنه في السماء، والأرض معاً حقيقة، فلماذا يقال: إن له جهة فوق، ولا يقال له جهة تهت؟! ولماذا يشار إليه فوق، ولا يشار إليه تحت؟!
                        ناهيك عن التذكير بأن الجهات أمور نسبية، فما هو فوق بالنسبة إلينا قد يكون تحت بالنسبة لغيرنا.
                        رابعاً: إن الأخذ بظواهر النصوص على حقيقتها أعجز أنصار هذه الشبهة عن تفسير كثير من التساؤلات. فإذا كان الله تعالى يقول: (يد الله فوق أيديهم) بإفرادها، ويقول: (لما خلقت بيدي) بتثنيتها، ويقول: (والسماء بنيناها بأييد) بجمعها، فهم يعجزون عن الإجابة على ما يوجه إليهم من التساؤلات، والتي منها: هل له يد واحدة بناءً على الآية الأولى؟! أم له يدان اثنتان بناء على الآية الثانية؟! أم له أيد كثيرة بناء على الآية الثالثة؟!
                        خامساً: إن الأخذ بظواهر النصوص على حقيقتها أعجز أنصار هذه الشبهة عن تفسير كثير من الوقائع، والظواهر، وأدى بهم إلى شواهد البلبلة، والتناقض.
                        فقد روى البخاري، ومسلم، وغيرهما أن رسول الله (ص) قال: ((ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني؟ فأستجيب له؟ مَن يسألني، فأعطيه؟ مَن يستغفرني، فأغفر له؟)).
                        فكيف يؤخذ بظاهر هذا الخبر مع أن الليل مختلف في البلاد باختلاف المشارق، والمغارب؟! وإذا كان الله ينزل لأهل كل أفق نزولاً حقيقياً في ثلث ليلهم الأخير فمتى يستوي على عرشه حقيقة كما يقولون؟! ومتى يكون في السماء حقيقة كما يقولون؟! مع أن الأرض لا تخلو من الليل في وقت من الأوقات، ولا ساعة من الساعات كما هو ثابت، وأكيد.
                        سادساً: يرد على أنصار هذه الشبهة بما قاله حجة الاسلام أبو حامد الغزالي: ((نقول للمتشبث بظواهر الألفاظ: إن كان نزوله من السماء الدنيا ليسمعنا نداءه، فأي فائدة في نزوله؟! ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك، وهو على العرش أو على السماء العليا. فلابد أن يكون ظاهر النزول غير مراد، وأن المراد به شيء آخر غير ظاهره. وهل هذا إلا مثل مَن يريد، وهو بالمشرق، إسماع شخص في المغرب، فتقدم إلى المغرب بخطوات معدودة، وأخذ يناديه، وهو يعلم أنه لا يسمع نداءه، فيكون نقله الأقدام عملاً باطلاً، وسعيه نحو المغرب عبثاً صرفاً فلا فائدة فيه، وكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل)).

                        - الشبهة الثانية:


                        إن القول بالمتشابه يؤدي إلى الترجيح بين الآيات القرآنية ترجيحاً مذهبياً يشوبه التعصب، وينتابه الضعف، والخفاء.
                        نقل السيوطي عن الإمام فخر الدين الرازي أنه قال: ((من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات))، وقال: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه. فالجبري متمسك بآيات الجبر، كقوله تعالى: (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً) الكهف/ 57.
                        والقدري يقول: هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى عنهم ذلك في معرض الذم في قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر).
                        وفي موضع آخر: (وقالوا قلوبنا غلف) البقرة/ 88. ومنكر الرؤية متمسك بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) الأنعام/ 103. ومثبت الجهة متمسك بقوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم) النحل/ 50. (الرحمن على العرش استوى) طه/ 5. والثاني متمسك بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) الشورى/ 11. ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات المخالفة متشابهة، وإنما آل في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا؟!.
                        تفنيد هذه الشبهة:
                        إن نسبة بعض أفعال الجوارح لله تعالى كالبصر، والإدراك، والاستواء، والرؤية، لا تعني تشبيه الله الخالق بمخلوقاته أو تجسيمه وإنما الغرض من ذلك التقريب للأفهام، والتنبيه للعقول، والتأنيس للقلوب.
                        ويمكن تفنيد هذه الشبهة بالقول: بأن لوقوع المتشابه فوائد، منها: أنه يوجب مزيداً من المشقة في الوصول إلى المراد، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.
                        ويمكن تفنيد هذه الشبهة بما ذكره ابن اللبان في مقدمة كتابه: ((رد الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات))، إذ قال ما خلاصته: ((ليس في الوجود فاعل إلا الله وأفعال العباد منسوبة الوجود إليه تعالى بلا شريك، ولا معين؛ فهي في الحقيقة فعله، وله بها عليهم الحجة مصداق قوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون). ومن المعلوم أن أفعال العباد لابد فيها من توسط الجوارح مع أنها منسوبة إليه تعالى، وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياتها مظهرين: مظهر عبادي منسوب لعباده، وهو الصور، والجوارح الجثمانية. ومظهر حقيقي منسوب إليه، وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية المنسوبة لعباده. على سبيل التقريب لأفهامهم، والتأنيس لقلوبهم. ولقد نبه في كتابه تعالى على القسمين، وأنه منزه عن الجوارح في الحالين، فنبه على الأول بقوله: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم). فهذا يفيد أن كل ما يظهر على أيدي العباد، فهو منسوب إلى الله تعالى. ونبه على الثاني بقوله فيما أخبر عنه نبيه (ص) في صحيح مسلم: ((لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)).
                        وقد حقق الله ذلك لنبيه بقوله: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)، وبقوله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).
                        وبهذا يفهم ما جاء من الجوارح منسوباً إليه تعالى، فلا يفهم من نسبتها إليه تشبيه، ولا تجسيم؛ ولكن الغرض من ذلك التقرب للأفهام، والتأنيس للقلوب. والواجب سلوكه إنما هو رد المتشابه إلى المحكم على القواعد اللغوية، وعلى مواضعات العرب، وعلى ما كان يفهمه الصحابة، والتابعون من الكتاب والسنة.

                        - الشبهة الثالثة:



                        إن القول بالمتشابه يؤدي إلى التساؤل عن ماهية الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان، والهدى؟!

                        تفنيد هذه الشبهة:


                        إن الحكمة من القول بالمتشابه موجودة قطعاً. وهنا يفرّق بين المتشابه الذي يمكن علمه، والمتشابه الذي لا يمكن علمه. فالمتشابه الذي يمكن علمه، فالحكمة من وجوده يتمثل في حفزه العلماء، والفقهاء والدارسين على التبحر في العلم، والوقوف على موضوعاته، وجزئياته، والغوص في دقائقه، والإحاطة بخواصه.
                        وتتمثل حكمة المتشابه أيضاً في إظهار منازل الناس، وتكريس شواهد التفاضل، وتبيين درجات التفاوت منهم؛ نظراً لأنه لو كان القرآن كلّه محكماً، لما احتاج إلى التأويل، والبحث، ومن ثم لاستوت منازل الناس، ودرجاتهم، ومن ثم لم يظهر فضل العالم الباحث المفسر المؤول عن غيره من العوام. أما المتشابه الذي لا يمكن علمه أي الذي استأثره الله بعلمه، فحكمته تتجلى في ابتلاء العباد بالاستسلام لله، والأخذ به، والتفويض، والتوقف فيه لله تعالى، ومن ثم التعبد به تلاوة كالمنسوخ حكماً دون التلاوة؛ فقد بقي قرآناً يتعبد به تلاوة نثاب عليها، وبالتالي فإن حكمة هذا المتشابه تتمثل في أمر آخر هو إثبات إعجاز القرآن البياني حيث إنه أعجز من نزل القرآن بلغتهم، وبيانهم، ومع ذلك أفحمهم، فعجزوا عن فهم معناه، والوقوف على حقيقته، مما يؤصل بالتالي حقيقة الألوهية للقرآن، وأنه كلاما لله العربي المعجز، وفي أقصر سورة منه.

                        - الشبهة الرابعة:


                        إن القول بالمتشابه يقود إلى السؤال التالي: (هل للمحكم مزية على المتشابه أولاً؟! فإن قلتم بالثاني، فهو خلاف الإجماع، وإلا فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلامه سبحانه سواء، وأنه منزل بالحكمة).
                        تفنيد هذه الشبهة:
                        وقد أجاب أبو عبدالله النكربازي على هذه الشبهة بقوله: بأن المحكم كالمتشابه من وجه، ويخالفه من وجه، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع، وأنه لا يختار القبيح.
                        ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد، فمن سمعه، أمكنه أن يستدل به في الحال. والمتشابه يحتاج إلى فكرة ونظر ليحمله على الوجه المطابق؛ ولأن المحكم أصل، والعلم بالأصل أسبق؛ ولأن المحكم يعلم مفصلاً، والمتشابه لا يعلم إلا مجملاً.
                        وقد ردّ الشيخ محمد عبدالعظيم الزرقاني على هذه الشبهة بقوله: ويمكن دفع هذه الشبهة بوجه أقرب: وهو أن المحكم له مزية على المتشابه؛ لأنه بنص القرآن هو أم الكتاب؛ والاعتراض بأن هذا ينقض الأصل المجمع عليه، وهو أن جميع كلامه سبحانه سواء، وأنه منزل بالحكمة: الاعتراض بهذا ساقط من أساسه؛ لأن المساواة بين كلام الله إنما في خصائص القرآن العامة: ككونه منزلاً على النبي (ص) بالحق وبالحكمة، وكونه متعبداً بتلاوته، ومتحدياً بأقصر سورة منه، ومكتوباً في المصاحف، ومنقولاً بالتواتر، ومحرماً حمله، ومسّه على الجنب، ونحو ذلك. والمساواة في هذه الخصائص لا تنافي ذلك الامتياز الذي امتازت به المحكمات. وكيف يتصور التنافي على حين أن كلاً من المحكم والمتشابه له حكمه، وله مزاياه؟! فمزية المحكم أنه أم الكتاب إليه ترد المتشابهات، ومزية المتشابه أنه محك الاختبار، والابتلاء، ومجال التسابق والاجتهاد، إلى غير ذلك من الفوائد الأخرى.
                        ثم كيف يتصور هذا التنافي، والقرآن كله مختلف باختلاف موضوعاته وأحواله، فمنه: عقائد، وأحكام، وأوامر، ونواهي، وعبادات، وقصص، وتنبؤات، ووعد، ووعيد، وناسخ، ومنسوخ. ولا ريب أن كل نوع من هذه الأنواع له مزيته، أو خاصته التي غاير بها الآخر، وإن اشترك الجميع بعد ذلك في أنها كلها أجزاء للقرآن، متساوية في القرنية، وخصائصها العامة.
                        وخلاصة الجواب: ((أن امتياز المحكم على المتشابه في أمور، ومساواته إياه في أمور أخرى، فلا تعارضن ولا تناقض، كما أن كل عضو من أعضاء جسم الانسان له مزيته، وخاصته التي صار بها عضواً، والكل بعد ذلك يساوي الآخر في أنه جزء للانسان في خصائصه العامة من حسن، وحياة)).

                        - ا لشبهة الخامسة:


                        إن القول بالمتشابه يؤدي إلى التأويل، وهو اتباع المتشابهات بالتأويل. فإن الناظر في موقف السلف، والخلف من المتشابه، يجزم بأنهم جميعاً مؤولون لأنهم صرفوا ألفاظ المتشابهات عن ظواهرها؛ وصرفها عن ظواهرها تأويل لها. وبذلك فإنهم مؤولون وقعوا جميعاً فيما نهى الله عنه، وهو اتباع المتشابهات بالتأويل، حيث وصفهم الله تعالى بأن في قلوبهم زيغاً، فقال تعالى في الآية السابقة: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) آل عمران/ 7.
                        تفنيد هذه الشبهة:
                        وننقل هنا ما قاله الشيخ محمد عبدالعظيم الزرقاني في الرد على أصحاب هذه الشبهة.
                        أولاً: إن القول بكون السلف، والخلف مجمعين على تأويل المتشابه قول له وجه من الصحة لكن بحسب المعنى اللغوي، أو ما يقرب من المعنى اللغوي. أما بحسب الاصطلاح السائد فلا؛ لأن السلف، وإن وافقوا الخلف في التأويل، فقد خالفوهم في تعيين المعنى المراد باللفظ بعد صرفه عن ظاهره، وذهبوا إلى التفويض المحض بالنسبة إلى هذا التعيين. أما الخلف فركبوا متن التأويل إلى هذا التعيين.
                        ثانياً: إن القول بأن السلف، والخلف جميعاً وقعوا بتصرفهم السابق فيما نهى الله عنه قول خاطئ، واستدلالهم عليه بالآية المذكورة استدلال فاسد؛ لأن النهي فيها إنما هو عن التأويل الآثم الناشئ عن الزيغ، واتباع الهوى بقرينة قوله سبحانه: (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ميل عن الاستقامة، والجهة إلى الهوى، والشهوة. أما التأويل القائم على تحكيم البراهين القاطعة، واتباع الهداية الراشدة، فليس من هذا القبيل الذي حظره الله تعالى، وحرمه. وكيف ينهانا عنه، وقد أمرنا به ضمناً بايجاب ردّ المتشابهات إلى المحكمات؛ إذ جعل هذه المحكمات هي أم الكتاب على ما سبق بيانه، ثم كيف يكون مثل هذا التأويل الراشد محرماً، وقد دعا به الرسول (ص)، فقال في الحديث المشهور: (اللهم فقهه في الدين، وعلّمه التأويل).
                        وخلاصة هذا: أن الله أرشدنا في الآية إلى نوع من التأويل، وهو ما يكون به ردّ المتشابهات إلى المحكمات، ثم نهانا عن نوع آخر منه، وهو ما كان ناشئاً عن الهوى، والشهوة لا على البرهان، والحجة قصداً إلى الضلال والفتنة، وهما لونان مختلفان، وضربان بعيدان بينهما برزخ لا يبغيان.
                        إذن، فمن لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال، فقد ضلّ كالظاهرية، والمشبهة. ومَن فسّر لفظ المتشابه تفسيراً بعيداً عن الحجة، والبرهان قائماً على الزيغ، والبهتان، فقد ضلّ أيضاً: كالباطنية، والإسماعيلية، وكلّ هؤلاء يقال فيهم: إنهم متبعون للمتشابه، ابتغاء الفتنة. أما مَن يؤول المتشابه أي يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلباً للفتنة؛ ولكن منعاً لها، وتثبيتاً للناس على المعروف من دينهم ورداً لهم إلى محكمات الكتاب القائمة، وأعلامه الواضحة، فأولئك هم الهادون المهديون حقاً. وعلى ذلك درج سلف الأمة، وخلفها، وأئمتها، وعلماؤها.
                        روى البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس: ((إنني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ. قال: ما هو؟ قال: (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)، وقال: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)، وقال: (ولا يكتمون الله حديثاً)، وقال: (قالوا والله ربنا ما كنا مشركين).
                        قال ابن عباس: فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى، ولا يتساءلون. ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.. فأما قوله: (والله ربنا ما كنا مشركين) فإن الله يغفر لأهل الإخلاص من ذنوبهم، فيقول المشركون: تعالوا نقول ما كنا مشركين. فيختم الله على أفواههم، فتنطق جوارحهم بأعمالهم، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً. إلى آخر الحديث)).

                        تعليق


                        • #13
                          القوى الغيبية في القصة القرآنية

                          الأحداث التي تعرضها علينا القصة القرآنية هي من نوع الأحداث التي تسير وفقاً للتدبير الرباني والإشراف الإلهي المباشرين نحو غاية معينة، ولذلك فلا عجب أن يتدخل الإمداد الغيبي واللطف الإلهي في تسيير الكثير من حوادثها وسوقها باتجاه معين يخدم الرسالة والدعوة الإلهية.
                          وعلى هذا الأساس يمكننا القول أن (العنصر أو العامل الغيبي) في القصة القرآنية يلعب دوراً مصيرياً حاسماً في تشكيل الأحداث وتغييرها وأحياناً قلبها رأساً على عقب، وعادة ما يكون هذا (العامل الغيبي) مصحوباً بعنصر المفاجأة سواء كان متمثلاً في عذاب أو إمداد ولطف أو معجزة خارقة، وهذا الطابع الفجائي يكاد يكون ملاصقاً للعامل الغيبي غير منفك عنه، فالعذاب لا يحدث إلا بغتة ـ كما صرحت بذلك الآيات القرآنية ـ كقوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) الأنعام/ 44، وقوله: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مسَّ آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) الأعراف/ 95، واللطف الإلهي المنقذ لأنبيائه وأتباعهم لا ينزل هو الآخر إلا عندما تبلغ القلوب الحناجر، وعندما يوشك المؤمنون على الاستيئاس، كما تصرح بذلك الآيتان القرآنيتان التاليتان: (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي مَن نشاء) يوسف/ 110، (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) البقرة/ 214.
                          ونريد بالطابع الفجائي للعامل الغيبي، دلالة الظروف والملابسات المادية الظاهرية كلها على نتيجة معينة لابد ـ حسب المعادلات المادية ـ من أن تنتهي إليها وفي غمرة هذه التوقعات بالضبط يتدخل العامل الغيبي ليقلب مجرى الأحداث قلباً جذرياً أو ليغير اتجاهها، تأملوا معي هذا المقطع من قصة موسى (ع) الذي يتجسد فيه هذا العامل بتلك المواصفات: (فأتبعوهم مشرقين. فلما ترءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) الشعراء/ 60 ـ 63.
                          المعادلات المادية ترسمها لنا عبارة (إنا لمدركون)، والعامل الغيبي غير المتوقع يتمثل في نزول الوحي الإلهي بغتة بالنسبة لبني إسرائيل على موسى في تلك الظروف العصيبة حاملاً البشرى بالخلاص (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر).
                          وهكذا تتغير مجريات الأحداث بتدخل هذا العامل الغيبي بل تسير في اتجاه معكوس فالشواهد المادية تقتضي أن يُدرك موسى وأتباعه، ومعنى تصفيتهم تصفية كاملة وانتصار فرعون وجنوده، ولكن العامل الغيبي جاء ليقلب هذه النتيجة في اتجاه معاكس تماماً.
                          هذا فيما يتعلق بالإمداد الغيبي، أما فيما يتعلق بالعذاب فالأمثلة والشواهد كثيرة، ويمكن أن تكون معظم العذابات التي نزلت على الأمم التي كذبت الرسل وآذتهم شاهداً على عنصر المفاجأة في العامل الغيبي (بالنسبة للإنسان الكافر نفسه بالطبع)، ولكنا ـ مع ذلك ـ نريد أن نتوقف قليلاً عند أحد هذه الشواهد لبروز عنصر المفاجأة في قبال الحسابات المادية بروزاً أشارت إليه الآيات القرآنية إشارات صريحة واضحة.
                          هذا الشاهد يتمثل في قصة صاحب الجنتين التي جاءت في سورة الكهف: (واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً. وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً. ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً. وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً. قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً. لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً. ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً. فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً. أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً) الكهف/ 32 ـ 41.
                          القصة ـ إذا نظرنا إليها من منظار مادي لا يدخل في حساباته العوامل الغيبية ـ لابد وأن تنتهي بإثراء صاحب الجنتين إثراءً مفحشاً بعد أن أنتجت الجنتان ذلك المحصول الوافر الذي بلغ من الضخامة حداً دفع صاحبه إلى أن يستشعر في نفسه الغرور والاستغناء عن الله تعالى، ولكن العامل الغيبي يأتي ـ كالعادة ـ ليقلب مجرى الأحداث وليوصلها إلى نتيجة مباغتة عكسية؛ إنها الفقر المدقع، والشعور القاتل بالندم: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها) الكهف/ 42.
                          ولعل هذا العنصر الغيبي المفاجئ الذي تتميز به القصة القرآنية هو من أكثر العناصر جذباً للقارئ وشداً لانتباهه، فالقارئ عندما يتلو مثل هذه الآيات القرآنية التي تفجأه بدخول العامل الغيبي إلى ساحة الأحداث يستيقظ في نفسه ذلك الشعور الذي يلازمه دائماً وهو يتابع القصص القرني ألا وهو اليقين من واقعية الأحداث وصدقها ووقوعها فعلاً، مثل هذا الشعور من شأنه أن يجذب القارئ إلى أحداث القصة إلى أبعد الحدود، كما ومن شأنه أيضاً أن يمنح الأحداث حركة عنيفة، ويملؤها بالصراع والتحركات التي تخرج الأحداث من حالة الرتابة والروتينية.
                          والحقيقة أن هذه الميزة التي تنفرد بها القصة القرآنية ـ دونما منازع ـ تعد من آيات إعجاز القرآن التعبيري، فهو تجمع بين الواقعية والإثارة، ومثل هذه الميزة لا يمكن أن يؤمنها أي قاص دون أن يضطر إلى اضافة بعض المبالغات و(التكتيكات) إلى أحداث عمله القصصي.
                          أما القصة القرآنية فقد جمعت بإعجاز وبراعة بين الواقعية المحضة وبين عامل الشد والإثارة، ومثل هذا الجمع هو من شأن الإعجاز البلاغي القرآني وحسب.
                          وقد يسأل سائل في هذا المجال: أليس من المفارقات أن تقلب مسيرة الأحداث بهذا الشكل بغير المتوقع، وألا يحدث هذا القلب رد فعل سلبياً في نفس القارئ قد يصرفه عن متابعة القصة حتى النهاية محملاً بنوع من الاستنكار والاستهجان وهو يجحد نفسه أمام نتيجة لم يكن يتوقعها؟
                          وجواباً على هذا التساؤل نقول: إن مثل هذه المفارقات التي تترك ـ عادة ـ أثراً سلبياً في نفس القارئ، قد تصدق على (القصة البشرية) نتيجة لذلك الشعور الذي يلازم قارئها وهو يتنقل بين صفحاتها، ألا وهو الإحساس بأن القصة ليست واقعية تماماً وأن بعض أحداثها من نسج خيال الكاتب ومن ضمنها العناصر الفجائية القالبة لمجرى الأحداث، ولذلك فإن على الكاتب أن يكون حذراً جداً في اختيار نوعية تلك العناصر وإلا حدثت تلك المفارقات التي من الممكن أن تؤدي إلى فشل عمله القصصي، أما بالنسبة إلى (القصة القرآنية) فإن مثل هذا التساؤل لا يمكن أن يصدق مطلقاً، لأن المفارقات معدودة أصلاً فيها لما ذكرناه سابقاً من أنها تمثل قصصاً حقيقية حدثت بالفعل، ولذلك فإنها لا تتضمن أية مفارقة أساساً لأن المفارقة هي وليدة الاختلاق والافتعال.
                          النوع الآخر من العناصر الغيبية التي تنفرد بها القصة القرآنية هو عنصر المعاجز والآيات؛ وقبل أن ندخل في الحديث عن تفاصيل هذا العنصر نذكر أننا لا نقصد من هذا الحديث أن هذا العنصر مقصود بحد ذاته للإثارة والجذب لأنه ـ حاله كحال سائر العناصر ـ عنصر واقعي حدث فعلاً وأبرزته القصة القرآنية لعرض الواقع ولخدمة أهداف الدعوى الإلهية، ولكننا نريد من ذلك أن هذا العنصر جاء ليؤدي ـ في إطار المحاولة الإلهية المتكاملة ـ هدفاً آخر هو إضفاء الحركة اللازمة على الأحداث وتلوينها.
                          ولعل أفضل مثال يمكن أن نضر به في هذا المجال هو تلك المنازلة التي حدثت بين موسى (ع) وبين سحرة مصر، والتي جرت أمام فرعون وأمام تلك الجموع الغفيرة من الناس، الأمر الذي يزيد من تواجد عنصر الإثارة والتشويق والشد فيها.
                          والملاحظ على الآيات التي تصور لنا هذا الحدث أنها تهيئ نفس القارئ منذ البدء إلى الانشداد للقصة ومتابعة أحداثها من خلال ذلك التحدي الذي يجابه به فرعون موسى بعد أن يريه الأخير الآيات التي بعث بها، ومن خلال تعيين موسى لزمان ومكان المنازلة وتأكيده على أن تكون هذه المنازلة على رؤوس الأشهاد، فلنتابع هذا الحدث على لسان القرآن الكريم: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى. فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى. قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) طه/ 57 ـ 59.
                          هذه الآيات هي بمثابة الحلقة الأولى من الحدث، الحلقة المنتهية عند نقطة تهيئ الأجواء للحلقة التالية وتثير عوامل التطلع الممزوج بالشوق والرغبة الشديدة إلى ما سيحدث فيها، ولا يلبث التصوير القرآني أن ينقلنا إلى ساحة الحدث في الوقت المناسب عندما تكون العيون متطلعة، والأذهان مشدودة، والنفوس ملؤها الترقب والتطلع إلى ما سيحدث من تلك الأعمال الخارقة في تلك الساحة المطوقة بمئات العيون المحملقة في فضول: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول مَن ألقى. قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) طه/ 65 ـ 66.
                          اللقطة الأولى من المباراة؛ الحبال والعصي تتحول في لمحة بصر إلى ثعابين تملأ المكان رعبا وذعراً، وتملأ قلوب الإسرائيليين إشفاقاً على موسى من هذا السحر العظيم: (قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) الأعراف/ 116.
                          وحتى موسى نفسه يستولي عليه الإشفاق، ويتسرب إلى قلبه الشك في قدرة عصاه (المستمدة من القدرة الإلهية) على إبطال كل ذلك السحر الذي وصفه القرآن بأنه عظيم: (فأوجس في نفسه خيفة موسى) طه/ 67.
                          وفي هذه اللحظة بالذات يتدخل بطل الحدث (العامل الغيبي) ليقلب ـ كما في كل مرة ـ مجرى الأحداث، وليصرفها عن المسار الذي تتوقع الأذهان في تلك اللحظات التي كانت الظروف فيها في غير صالح موسى، أن تتحرك فيه: (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى. وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) طه/ 68 ـ 69، (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون) الأعراف/ 117.
                          وهكذا يسدل الستار على هذا الحدث الرهيب المثير الذي انتهى بانتصار العامل الغيبي الذي يجسد بشكل معجزة أسهمت ـ بالاضافة إلى إثبات صدق الدعوة الإلهية ـ في بعث الحركة والحياة إلى الحدث.
                          وهكذا نرى أن العامل الغيبي يضع القصة القرآنية في مكان متميز متفرد، فهي واقعية لا تنفك هذه الواقعية عنها (إن هذا لهو القصص الحق) آل عمران/ 62، في نفس الوقت الذي تتضمن فيه القوى والعوامل الغيبية، وتتجسد فيه هذه القوى والعوامل ألطاف أو معاجز أو آيات أو عذابات، خلافاً للقصص البشرية التي تدخل في تركيبتها وتوظف هذا النوع من العناصر، فإننا ننظر إليها دائماً بعين الريبة والشك، ولا تكاد فكرة (الأساطير) و(المبالغات) و(الخرافات) تفارقنا ونحن نتابع أحداثها، بل إن مثل هذا التوظيف الذي هو بأمس الحاجة إلى ذكاء ومهارة وبراعة لا يمكن أن يتوفر إلا في البلاغة القرآنية، قد ينقلب وبالاً على العمل القصصي فيكون أشبه شيء بخدع سينمائية يسخر الانسان منها في داخله بدلاً من أن يكون عملاً أدبياً راقياً يؤدي دوره في عالم الأدب والفن.


                          تعليق


                          • #14
                            استخدام شعائري للكلمة المقدسة (القرآن)

                            القرآن غير شبيه بأي كتاب مقدس من كتب الموروث اليهودي المسيحي: فنحن لا نجد فيه القصص التاريخية الطويلة المؤلفة والمنظمة التي تغطي مرحلة بكاملها، والسورة الطويلة 12 تكوّن استثناء بارزاً مع قصة يوسف. ولا نجد فيه أيضاً ضروباً طويلة من السرد الحقوقي، التي يقدمها لنا كتاب ككتاب (اللاويين): فالأوامر التشريعية التي يحتويها القرآن معروضة بأسلوب أكثر حياة بكثير وأقل تزمتاً، مع شاغل الاستجابة لأوضاع خاصة ومتتالية بدلاً من معالجة مسألة وفق مخطط موضوع مسبقاً. وليس ثمة كذلك أبداً عروض للأسفار الجامعة والأمثال كما في (الأمثال) أو (السفر الجامع).
                            والقرآن ذكر بالحري ـ ذكر الله وعظمته، ذكر الدار الآخرة، والمكافآت والعقوبات، ذكر متكرر لشخصيات مختلفة وأحداث من تاريخ الناس. إنه أيضاً تبشير يتوجه فيه الله باستمرار إلى الناس ليهديهم ويساعدهم، ويشجعهم أو يهددهم؛ وهذا التبشير تعليم، نبأ عظيم، ولكنه هو أيضاً إنذار وتذكير.
                            وليس القرآن نصاً متتالياً ينبغي قراءته، ولكنه نص يُصلّى. وتتيح لنا سمات شتى للقرآن أن نعتبره وكأنه نص شعائري، إذا كان بمقدورنا أن نجرؤ على طرح هذه الصفة.
                            وثمة مسألة أولى ينبغي أن نلفت النظر إليها في هذا الاتجاه هي الأسلوب الأدبي للتكرار: يعود القرآن، شأنه شأن كل كلام حي، عدة مرات إلى التأكيدات نفسها، والأحداث ذاتها، والشخصيات عينها، ويكرر عدة آيات. إنه تكرار ذو علاقة ولا ريب بالشاغل البيداغوجي، ولكن على وفاق تام مع ممارسة شعائرية. وهذا التكرار يتخذ في بعض الأحيان شكلاً منظماً ومؤلفاً، بعناية. هكذا تكرار بداية السورة، البداية نفسها، كما في السورة 81، التكوير، التي تبدأ آياتها من 1 ـ 13 بـ إذا، ((عندما)).
                            ويتخذ التكرار، في حالات أخرى، شكل لازمة، شكل قول يتكرر، كالآية التالية:
                            (ولقد يسّرنا القرآن
                            للذكر
                            فهل من مدّكر؟).
                            التي تعود أربع مرات في السورة 54، القمر. ونجد على النحو نفسه أقوالاً تتكرر خمس مرات، عشر بل ثلاثين مرة، كما في السورة المدينية الرحمن، المقطعة على نحو تفريعي تقريباً بهذه الكلمات: (فبأي آلاء ربكما تكذّبان؟) الرحمن/ 55. وتندرج كل هذه الأمثلة، وكثير غيرها، اندراجاً كاملاً في إطار تلاوة طقسية، في إطار عمل من النموذج الشعائري.
                            وكنا قد قلنا إن كثيراً من أقوال القرآن تصلح للتلاوة. وسنكتفي هنا بأن نستشهد بتوصية من القرآن صريحة على نحو خاص عن هذه المسألة، تؤكد مظهره الشعائري. وهكذا جاء في القرآن، في سياق الحض على الصلاة، مع اللجوء إلى التكرار، تكرار ذي لازمة، لدعوة هي ((هدف)) هذا المقطع:
                            ((إن ربك يعلم
                            أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه
                            وطائفة من الذين معك
                            ـ والله يقدِّر الليل والنهار.
                            علم أن لن تحصوه فتاب عليكم.
                            فاقرأوا ما تيسر من القرآن.
                            ـ علم أن سيكون منكم مرضى.
                            وآخرون يضربون في الأرض.
                            يبتغون من فضل الله.
                            وآخرون يقاتلون في سبيل الله.
                            فاقرأوا ما تيسر منه
                            وأقيموا الصلاة ... )) المزمل/ 20.
                            فثمة هنا، في نهاية السورة، صدى لما كان موصىً به في بدايتها:
                            ((يا أيها المزمل!
                            قم الليل إلا قليلاً،
                            نصفه
                            أو انقص منه قليلاً
                            أو زد عليه
                            ورتّل القرآن ترتيلاً)) الآيات: 1 ـ 4.
                            وإذ دفع بلاشير تحليله إلى حدّ بعيد جداً، فإنه يتكلم على تلاوة مشتركة لمقاطع من القرآن: ((لابدّ، كما يبدو، لجزء من هذا التنزيل أن يكون قد استُخدم، في وقت مبكر جداً مع ذلك، في (التلاوة المشتركة). ونحن في أكمل الارتياب الخاص بالنحو الذي تلا المؤمنون عليه هذه النصوص. وربما كان الأمر أمر إنشاد.
                            ومهما يكن من أمر، بوسعنا أن نعتبر أن هذه التلاوة كانت ذات تأثير كبير على مَن كان يسمعها. وظروف هداية عمر، خليفة المستقبل، يمكنها، بصدد هذه المسألة، أن تُذكر، يُقال إن هذه الشخصية، المعادية بعنف للدين الجديد في بداية الأمر، عمر، دخل يوماً من الأيام بيت أخته المهتدية سابقاً، التي كانت عندئذ، برفقة زوجها، (تتلو بصوت عال) جزءاً من القرآن. وكان ذلك، بالنسبة لعمر، شعاع النور. وإذ أثاره جمال بعض الجمل التي سمعها، فإنه طلب إعادة المقطع كله فانفعل انفعالاً قوياً حتى انهمرت دموعه)). ويروي البخاري مع ذلك في اتجاه هذه التلاوة العامة دائماً، (حديثاً) يصرّح فيه محمد أنه يحب سماع شخص آخر يقرأ القرآن.
                            وليس هدفنا من كل ذلك أن نصف على نحو واضح كيف كان القرآن يُتلى في زمن محمد، بل هدفنا أن نلفت النظر إلى الخصائص والجوانب التي تجعل منه نصاً ملائماً على وجه الخصوص لتلاوة من النموذج الشعائري.
                            وثمة ملاحظتان أخيرتان لنتابع في الاتجاه نفسه. الأولى من النسق الأسلوبي وخاصة بـ السجع (النثر المقفّى) الذي لن نتوسع فيه، ذلك أنه كان قد دُرس دراسة كافية: فلنقتصر على أن نقول إن (السجع) يساعد مساعدة رائعة في إمكان استخدام القرآن استخداماً شعائرياً. والملاحظة الثانية سنقدمها خلاصة لهذا الفصل، إذ نذكر بآيات التسبيح الإلهي الغزير في القرآن الكريم، ونذكر بأمر مفاده أن لفظة (سبحان) محمولة على الله على صورة صلاة تمجيد. إن النص نفسه هو إذن كلام شعائري.
                            وليس ثمة شيء كان يمكنه أن يلفت الانتباه إلى أهمية اللسان في القرآن أفضل من هذه الإضاءة الشعائرية. وقبل أن نقارب المسألة التالية من هذا التفكر، مسألة ستنصبّ على ((قول)) آخر مرتبط بمحمد والقرآن، (الحديث)، بوسعنا أن نحاول رؤية ما تتيحه لنا عروضنا السابقة أن نجيب عن السؤال الذي كنا قد طرحناه في بداية هذا الفصل: لماذا لا يمكننا أن نجهل القرآن في دراسة تاريخ اللسان العربي السابق عليه؟ ربما يمكننا أن نتبين سببين يبرزان: الأول أن اللسان العربي مع القرآن أصبح لسان الله وسيكون له، بفعل ذلك، ميل إلى أن يحجب أو يدين كل ((قول)) ليس إلهياً. وبالنظر إلى أن الظروف اللاحقة شهدت استيلاء العرب المسلمين على السلطة، استيلاء تلته فتوحات إقليمية، فإن الحيّز الذي كان ممكناً أن تتحرك فيه وتنمو المؤلفات الأدبية العربية السابقة على القرآن تقلّص تدريجياً لمصلحة نشر الإسلام الفاتح.
                            ويمضي ما قلناه عن العلاقات بين الكتابة والمشافهة وغلبة المشافهة في الاتجاه نفسه أيضاً. وأياً كان حال المكتوب وحال اللسان العربي قبل الإسلام، فإن ثمة نصاً واحداً، بعد مجيء محمد ونزول القرآن الذي يبشر به، سيكون من الآن فصاعداً ذا الأهمية وينبغي إعلانه. ولن يكون المكتوب سوى حامل هذا التبشير: إنه لن يكون سوى علامات مدونة صائرة إلى أن تساعد ((القارئ)) لا أن تعلمه أي شيء كان.
                            ويرى المرء بصعوبة، في هذه الشروط، كيف كان المتحد يمكنه أن يُعنى بكتابات أخرى إذا صودف أنها كانت موجودة. والحيز الديني والأدبي كله، هنا أيضاً، يشغله القرآن
                            بالتدريج، وينبغي انتظار اهتمامات أخرى حتى يمكن أن تنبعث مجدداً آثار الفاعلية الأدبية والشعرية السابقة.


                            تعليق


                            • #15
                              رؤية الإسلام للتأريخ
                              إن ظهور الإسلام يمثل ثورة عالمية عقيدية واقتصادية واجتماعية وفكرية أيضاً. وبديهي أن يأتي بتصور للتاريخ البشري في ماضيه وحاضره ومستقبله. وبمعنى آخر اكتسب الوجود الإنساني قيمة أفضل مما انطوت عليه اليهودية بنزعتها العنصرية الضيقة، والمسيحية التي ترى في الحياة الدنيوية قنطرة عبور للآخرة ليس إلا.
                              وليس أدل على تبجيل الإسلام للواقع الإنساني المعيش، من اعتبار السلوك البشري إبان الحياة الدنيا هو المدخل الأساسي للحياة الأخروية، قال تعالى: ((ومَن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومَن يعمل مثقال ذرة شراً يره)). كذا دعوته الصريحة لإعمال العقل في تدبير شئون الخلق دونما حدود، قال تعالى: ((قل سيروا في الأرض فانظرا كيف بدأ الخلق)). هذا فضلاً عن تحديد مسئولية البشر وحرية إرادتهم فيما يصنعون، بحيث يصبح التاريخ الإنساني من صنع الإنسان، وبالتالي إبراز قدرة الإنسان على صنع مصيره دون أن يتعارض ذلك مع قدرة الله على الخلق. وما دام الإنسان يصنع تاريخه فالأولى به أن يعي هذا التاريخ ويحاول تدبر علل ظواهره، لأن البحث والنظر في هذه العلل طريق إلى المعرفة الحقة بالعلة الأولى، فالعقل يعمق الإيمان، والحكمة لا تتعارض مع الشرع، قال تعالى: ((إنما يخشى الله من عباده العلماء)).
                              والواقع الإنساني ـ الذي هو التاريخ بعينه ـ لا يجري حسب رؤية الإسلام اعتباطاً، وحركة تطوره ليست عشوائية، وأحداثه لا تقع حسبما اتفق، بل كل ذلك محكوم بقوانين وسنن حسب اعتراف ولفرد كانتل.
                              تلك السنن التي تبدأ ((منذ بدأ الخلق)) وحتى القيامة، بمعنى أن الإسلام طرح فكرة الزمان المستمر المتطور بدلاً من فكرة الدورية التي كانت سائدة قبلاً. كما أن السنن المسيّرة لحركة التاريخ لا تقتصر على شعب دون شعب، ولا على إقليم دون آخر، لأن الإسلام أنزل للناس كافة، قال تعالى: ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)).
                              وطرح الإسلام فكرة احترام الماضي باعترافه بنبوة الأنبياء. وكون محمد (ص) خاتم الأنبياء، لا يعني أن الإسلام يجبّ ما قبله، فيضع ستاراً يحول بين الماضي وبين الواقع الجديد كما تصور مرجوليوث. بل رمز إلى استمرارية الماضي في الحاضر بحيث يصبح جزءاً جوهرياً من مكوناته، وفي ذلك تأكيد على مبدأ ((الاستمرارية)) الحياتية.
                              كما طرح فكرة التطلع للمستقبل، وربط بين طبيعة تصوره وبين أفعال الإنسان في الحاضر، بما يؤكد شمولية تلك الاستمرارية، بحيث تحتوي وتربط بين خيوط الماضي والحاضر والمستقبل في وحدة عضوية لا تقبل التجزئة. ولا يقلل من قيمة تلك الوحدة ارتباطها بالدين ـ كما ذهب روزنتال ـ ، فالثابت أن دعوة الإسلام دين ودنيا في وقت واحد، وذلك من عوامل حيويتها وثرائها. فالدين لم يقصد به الدعوة للتوحيد وحسب، ((فالله غني عن العالمين))، إنما أنزل الدين ((رحمة للعالمين)).
                              والقرآن الكريم ـ فضلاً عن ذلك ـ انطوى على عديد من الحقائق العلمية في حقل التاريخ التي اصطلح على تسميتها بالسنن حين عرض لتواريخ الأمم السابقة المعروفة ((بأساطير الأولين))، ((للعبرة والموعظة الحسنة)). وتلك السنن هي التي نسميها بلغة العلم ((قوانين))، ومنها قانون ((الحتمية)) و ((الضرورة)) فضلاً عن قانون ((الصراع الطبقي))، وهي أمور يمكن أن يستشفها الباحث المدقق حين يستكنه المغزى التعليمي الأخلاقي للتاريخ في القرآن.
                              وقد سبق أن قدمنا اجتهاداً في هذا الصدد لا ضير من إيراده تدليلاً على انطواء القرآن على رؤية علمية للتاريخ ذات طابع سوسيولوجي، نوجزها في النقاط التالية:
                              أولاً: عالمية الدعوة الإسلامية تمثل نظرة شاملة متكاملة للوجود الإنساني ((منذ بدأ الخلق)) وإلى ((البعث والحساب))، وفي ذلك إحاطة تامة برحلة البشرية عبر الزمان والمكان، وهما بعدا حركة التاريخ كوحدة لا تقبل التجزئة.
                              ثانياً: هذه الحركة ((ليست عشوائية)) وإنما محكومة ((بسنن حتمية))، ((سنة الله في الذين خلوا من قبل، وكان أمر الله قدراً مقدوراً)).
                              ثالثاً: هذه السنن أو القوانين يمكن الوقوف عليها من خلال ((الصراع))، ((ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدتِ الأرض)).
                              رابعاً: والصراع نتيجة لما جُبِل عليه الخلق من شهوة التملك، ونزعة الأثرة والأنانية، فالإنسان ((إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً)).
                              خامساً: وإطلاق العنان لهذه الشهوات والنزعات الأنانية ينتهي بالبشر إلى التسلط والطغيان، ((إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)).
                              سادساً: والتسلط والطغيان مسئولية الإنسان وليسا من صنع الله، فالله هو العدل سبحانه، وذاته منزهة عن الظلم، ((إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون)).
                              سابعاً: والظلم يترتب عليه نتائج اجتماعية وبيلة تنتهي إلى خراب العمران بالضرورة، ((ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا)).
                              ثامناً: فالظلم يؤدي إلى خلخلة البناء الاجتماعي، بظهور الطبقات وتسلط بعضها على البعض الآخر، وعدم ارتداع الطبقات المتسلطة بالحسنى (( .. وجاءتهم رسلهم بالبينات ما كانوا ليؤمنوا)).
                              تاسعاً: ويترتب على ذلك احتدام الصراع بين المظلومين والظلمة، لتشبث الظلمة بامتيازاتهم، باعتبارها شيئاً موروثاً، وكفرهم بالدعوات الإصلاحية، ((وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)).
                              عاشراً: إذن فلا ردع إلا بالعنف والقهر، بحيث يُحسم الصراع بالضرورة بسحق الظلمة وانتصار المستضعفين، ((ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين)).
                              هكذا انطوى القرآن الكريم على خيوط المادية التاريخية كافة أكثر النظريات المستحدثة علمية في تفسير التاريخ حسبما نعتقد.
                              وإذا طفر القرآن الكريم بالفكر التاريخي طفرة كبرى، فإن الرسول (ص) في سننه وأحاديثه نحا المنحى نفسه، برغم ما زعمه بعض الدارسين من تسفيه الرسول للشعر والشعراء، تحريم رواية القصص، والاستخفاف بالنسب .. إلخ. فالواقع أن هؤلاء الدارسين لم يفطنوا إلى مغزى مواقف الرسول في هذا الصدد، فقد استجاز الرسول (ص) قول الشعر ـ وكان حسان بن ثابت شاعره ـ لكنه رفض أن يقال في الأغراض البذيئة التي كان يتباري فيها الشعراء كالمجون والهجاء والفخر والمباهاة ... إلخ، وكان القصص السائد في عصره ينطوي على المعاني نفسها كتقديس ا لملوك والأبطال والتعصب القومي والشعوبي .. إلخ، والشيء نفسه يقال عن الأنساب بما انطوت عليه من روح العنجهية القبلية وإثارة الفِرقة، بما يتنافى ودعوة الإسلام لإقرار مجتمع الأخوة على صعيد العالم أجمع، هذا فضلاً عن المبالغات والأساطير والخرافات وغيرها من المثالب التي شابت الشعر والقصص وأقوال النسابة.
                              بل نجد الرسول على الصعيد العملي يحض على طلب العلم والمعارف بغض النظر عن مصادرها، قال (ع): ((اطلبوا العلم ولو في الصين))، وأتاح روح التسامح في الجدل والحوار، واستخدم المنطق في حواره مع اليهود كما هو معروف، وأجلّ العلم والعلماء، وأخذ برأي المستنيرين دون تعصب أو جمود.
                              كل ذلك ـ وغيره ـ يؤكد أن الإسلام جاء برؤية علمية للتاريخ، فضلاً عما تضمنه من أصول وقواعد منهجية لدرسه، بالإضافة إلى مادة تاريخية أصبحت عماد الدراسات التاريخية فيما بعد، وبالذات فيما يتعلق بالسيرة النبوية والمغازي وتاريخ الدعوة الإسلامية، وبعض أخبار الماضيين والمعاصرين للدعوة من الأمم الأخرى.
                              والأخطر من ذلك كله ما جاء به من تشريع لتنظيم العلاقات الإنسانية وفق معايير أخلاقية تعد كسباً حقيقياً للبشرية
                              .


                              تعليق

                              مواضيع ذات صلة

                              تقليص

                              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                              ابتدأ بواسطة ابن الوليد, منذ 3 أسابيع
                              رد 1
                              108 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة ابن الوليد
                              بواسطة ابن الوليد
                               
                              ابتدأ بواسطة Guardian26, 22 ينا, 2024, 02:18 ص
                              ردود 3
                              123 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة محب المصطفى
                              بواسطة محب المصطفى
                               
                              ابتدأ بواسطة Muslim1989, 13 ديس, 2023, 02:27 ص
                              ردود 8
                              105 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة Muslim1989, 11 ديس, 2023, 12:39 م
                              ردود 9
                              164 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة أحمد عربي أحمد سيد  
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 21 أكت, 2023, 11:53 م
                              ردود 0
                              208 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              يعمل...
                              X