الصفحة الرئيسية فهرس الموضوعات
الشعنونة غلبت الرجال

 

أثارت انتباهي منذ أول يوم لها بكليتنا، بريق غريب يشع من عينيها ينطق بذكاء متوهج وعقل متوثب، كل شيء لديها له طعم مختلف عن الآخرين: حديثها، إيماءاتها، حركتها، كل كلمة تنطق بها تحمل جزءًا من روحها، فتشعر أن كلماتها حية دافئة تخترق وجدانك، تتحدث كثيرا، وبالرغم من ذلك تشعر أنها لا تقول إلا ما تؤمن به وتعتقده، بل وتعيشه وتنفعل به. لديها رؤية ورأي عن كل ما يدور حولها من أمور.

لم يكن أستاذ يلقي محاضرة ويتفوه بشيء يتعارض وقناعاتها إلا هبت واقفة تناقشه بكل قوة واحترام، منفعلة بما تقول، دون أن يخرجها هذا عن حدود الأدب واللياقة.

ترى انفعالها في احمرار خديها، وارتعاشة أجفانها، وتهدج صوتها، ما من حدث يحدث في الجامعة إلا وكان لها منه موقف ولها فيه دور فعال.

وبالرغم من أن كل هذه الصفات تحسب لها لا عليها، فضلاً عن تحركاتها الواسعة وبذلها المستمر لخدمة دينها، وكأنها أوقفت حياتها لذلك، كان هذا سببا في أن تطلق عليها بعض "الملتزمات" لقب "الأخت الشعنونة".

وحتى ذلك الحين لم أكن أعيبهن في ذلك مطلقا، بل ربما استأت أنا أيضا من أن توجد "أخت" بمثل هذه الشخصية القيادية التي تنازع الرجال مواقعهم وتسبقهم في المواقف الحاسمة!!.

الصورة النمطية للـ "أخت"

وقبل أن تتسرعوا بالحكم عليَّ يجب أن تعلموا أن المرء مهما تفقه وتعلم والتزم فهو ابن بيئته، وتؤثر عليه الصور النمطية التي تؤثر على مجتمعه.

فقد نشأنا على أن "الأخت" هي تلك الصامتة دوما، الهامسة أحيانا، تحركاتها محسوبة ومحدودة للغاية، لو وضعتها في مكان ما انتقلت منه بمفردها أبدا، لو تبدلت الدنيا من حولها وقامت القيامة ما اهتزت، لا تطيل نقاشا، بل وتبتعد عن الدخول في أي نقاش قدر الإمكان، تلك التي غاية أحلامها عش هادئ، وزوج حنون، وأبناء تربيهم على طاعة الله، جل اجتهادها في حفظ القرآن وتحفيظه للأخريات، أوسع نشاطاتها هي أن تعطي حلقة درس بالمسجد، لو لم يعطها سائق الحافلة باقي نقودها لاستحت أن تطالبه بها!. باختصار هي تلك التي تحيا في البيت والمسجد فقط، وإذا خرجت للمجتمع لم تعرف كيف تنتقل بين حيين متقاربين إلا بمصاحبة زوجها أو أخيها.

حوار ساخن جدا

لا أنسى يوم أن دخل المحاضر يوما إلى قاعة المحاضرات ليجد أحد الشباب يعلق ملصق تهنئة بشهر رمضان، فما كان منه إلا أن صفعه أمام جميع الطلاب وصاح بحارس القاعة أن يصحبه لضابط أمن الكلية!. وأمام ذهول الجميع من تصرف الأستاذ فوجئنا بها تهب واقفة وتستأذنه في أن تقول شيئا، وراحت تناقشه حول موقفه من هذا الطالب وتعيب عليه تصرفه حتى ثارت ثائرته بعد أن فرغت جعبته، ولم يجد ما يجيبها به، فما كان منه إلا أن طردهما خارج القاعة وصرف الحارس، وانتهى الأمر عند هذا الحد.

خرجنا جميعا بعد المحاضرة -ومع حرصي الدائم على العمل بمبدأ "ولا تجسسوا"- إلا أنني لم أستطع كبح جماح فضولي عندما رأيت إحدى "الأخوات" تتنحى بها جانبا، ويدور بينهما الحديث التالي:

الأخت: ما كان عليك أبدا أن تفعلي ما فعلت.

الشعنونة: وما الخطأ فيما فعلت؟.

الأخت: لقد عرضتِ نفسك للخطر والإحراج دون داع.

الشعنونة: بل قلت كلمة حق عند سلطان جائر، وانتصرت لمظلوم.

الأخت: كان هناك شباب مثله وإخوة فضلاء يمكنهم الدفاع عنه.

الشعنونة: لماذا إذن لم يدافعوا عنه منذ البداية؟!.

الأخت: لقد وضعتِ نفسك في موضع شبهة، فأن تقف فتاة هذا الموقف من أحد الشباب، فلا بد أن بينهما شيئا!!.

الشعنونة: بل أخوة في الله، ونحن بفضل الله بسبب سلوكنا في الجامعة فوق هذه الشبهات؛ فالجميع يعرفوننا، ولن يتصور ذلك إلا بعض النفوس المريضة، ومثل هؤلاء لن يحولوا بيننا وبين ما يجب علينا القيام به.

الأخت: لقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نتقي الشبهات؛ حتى إنه وهو واقف مع زوجته أمام باب المسجد مر اثنان من الصحابة فدعاهما وأخبرهما أنها زوجته اتقاءً للشبهات.

الشعنونة: يا أختاه، هذان موقفان مختلفان تماما؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقف معها في أيام الاعتكاف على باب المسجد، وهي منتقبة، فلا يعلم أحد من هي أو ماذا تفعل مع النبي، فأراد أن يرسخ مبدأ، ويخبر الصحابة اتقاء للشبهة، لكني وجهت حديثي للدكتور أمام الجميع، وكان تفنيدا لموقفه، وليس دفاعا عن شخص الطالب.

الأخت: هكذا أنت دائما، كثيرة الجدل، متسرعة في مواقفك، حتى أخشى القول أنك تحبين الظهور ولفت الأنظار، انتبهي لقلبك قليلاً يا أختاه!!.

ثم تركتها الأخت ومضت في طريقها، ونظرت لصاحبتنا لأجد دمعة كبيرة تتجمع في عينيها، ونظرة تفيض بالخشوع تنطلق نحو السماء، ثم أسرعتْ نحو المسجد فاستحييتُ أن أتبعها.

الانطباعات الساذجة

كذلك أذكر أول عام لها بالدراسة، فلم تكن قد تعرفت على "الأخوات" بعد، أو التحقت بأي من أُسَر الجامعة، ولكن فوجئ الجميع بملازم شرح المناهج، ونماذج الامتحانات، وغيرها من الأنشطة التي تقوم بها الأسر، تقوم بها هذه الأخت وحدها، حيث أعدت الملازم على الكمبيوتر، وطبعت في آخر كل صفحة حديثا للنبي صلى الله عليه وسلم، وراحت توزعها على الطلاب الجدد.

واستاءت "الأخوات" من موقفها جدا، فكيف لها أن تتصرف هكذا وتبيع للزملاء والزميلات، وتطبع الملازم دون استشارة أو موافقة أو مشاركة من أحد؟! وتردد الهمس بين الجميع: "إنها أخت ممتازة، ولكنها مندفعة قليلا، بل يبدو عليها أنها شعنونة، مثل هؤلاء يُخشَى على قلوبهن، وغالبا يكن متحمسات بعض الوقت فقط، سريعات التأثر، ليس لديهن نفس طويل أو صبر على مجاهدة النفس والدعوة"!!!.

مواقف كثيرة لا أنساها لأختي هذه خاصة يوم أن خرجت مسيرة للشباب فقط، دون أن يصل للأخوات خبرها أو يشاركن فيها، وقتها ثارت ثائرتها واحتجت بشدة:

الشعنونة: كيف يخرجوا في مسيرة بدوننا؟! أليس لنا الحق في التعبير عن رأينا كذلك؟!.

الأخت: لقد عبروا هم عن رأينا ورأيهم.

الشعنونة: ومن أنبأك أنه لم يكن لدينا ما نضيفه؟.

الأخت: لقد قالوا كل شيء تريدين قوله، ولا تنسي أن هذه أول مسيرة تخرج من كليتنا، وما كنا ندري على أي شيء ستنتهي، وليس من المنطقي أن نعرِّض أنفسنا للخطر من أجل عمل ممكن أن يؤديه غيرنا.

الشعنونة: ولكن ما كان هذا موقف النبي صلى الله عليه وسلم!.

الأخت: وكيف ذلك؟.

الشعنونة: لو كان هذا موقفه ما عرض الإسلام على النساء في بداية الدعوة، ولاكتفى بالرجال حرصا على النساء ولتجنيبهن للخطر. ولكنك تجدين من الصحابيات مَن تعرضت للقتل والتعذيب مثل الصحابة، كذلك إذا خرج النبي لغزوة كان يأخذ معه إحدى زوجاته وبعضا من الصحابيات يشاركن في المعركة بالمؤن والعلاج والقتال أحيانا. فأيهما أشد خطرا: المعركة أم المسيرة؟؟.

الأخت: كانت هناك فائدة تعود على الإسلام والمسلمين يتضاءل إلى جوارها الخطر الذي قد تتعرض له النساء، ولكن ما الفائدة من خروجنا نحن؟.

الشعنونة: أليس هذا جهادًا في سبيل الله؟ أليس لنا حق في نيل الأجر مثلهم ومشاركتهم الجهاد؟.

الأخت: وهل يقتصر الأجر والجهاد على المسيرات فقط، جاهدي نفسك، اجتهدي في عبادتك، جاهدي في تكوين البيت المسلم وتربية الأبناء، جاهدي في محاولة إصلاح بنات جنسك ودعوة المسلمات إلى الالتزام بأوامر الله.

الشعنونة: وهل لم نخلق لغير ذلك؟.

الأخت: وهل كل ما يعنيك هو مزاحمة الرجال؟!! فهل أديتِ ما عليك وقمتِ بتلك الأعمال التي تستقلينها على أكمل وجه؟! لا أظنك تجيدين من عمل المنزل سوى سلق البيض!!.

الشعنونة: ليس هذا مجال حديثنا، وإنما نتحدث عن النفع الذي يعود على المسلمين من مشاركتنا في المسيرة، ومدى الضرورة في ذلك. دعيني أخبرك شيئا، لو كان الهدف من المسيرة التأثير في الرأي العام وهو تأثير عاطفي يعمل على نظرية العقل الجمعي؛ فالنساء أكثر قدرة على الوصول لعاطفة الناس؛ لأن حديثهن يتسم بقدر كبير منها. وإذا كان الهدف هو إظهار كثرة عدد الشباب المسلم الملتزم لنغيظ بذلك أعداءنا الذين يعملون على تدمير شباب أمتنا، ورفع الروح المعنوية لإخواننا المجاهدين، فإن مظهر المرأة المسلمة أكثر وضوحا من الرجل، حيث تحمل راية الإسلام دائما وهي حجابها. وإذا كنت تخشين من رد فعل إدارة الجامعة، فأنت تعلمين أننا ما زلنا في مجتمع يحمل الكثير من القيم، ولو أنهم تجرءوا على الشباب وآذوهم لاستحوا أن يتعرضوا للطالبات؛ لأن ذلك عيب في حقهم، ولما حاول أحد التحرش بهن.

ولم تهدأ ثائرة أختنا الشعنونة هذه حتى حشدت الأسر الطلابية وأقنعت الجميع بخروج مسيرة للفتيات فقط، وبالفعل كان أثرها كبيرا جدا، ووقف جميع الطلاب والطالبات يستمعن لهؤلاء الأخوات وهن يتحدثن عن شئون المسلمين، وأقسم بالله أني رأيت بعض الطلاب يبكون من حديثها عن الجهاد الفلسطيني والشهداء.

ظنون وظنون!

بدأتُ شيئا فشيئا اعتياد وجودها بيننا، ولكن بمبدأ "قبول الآخر"، فما زلت كلما أعجبت بمواقفها أتذكر أنها بأفعالها تلفت الأنظار، وهذا ليس سمت "الأخت"، ربما يؤثر هذا على إخلاصها ونواياها، وكلما رأيت تحركاتها الواسعة قلت في نفسي: من المؤكد أن ذلك يعود لأمرين لا ثالث لهما: إما أنها ميسورة الحال فلديهم خادمة، ومن ثم لا تضطر إلى المشاركة في أي شيء من مسئوليات المنزل، أو هي فتاة مرفَّهة تلقي بالحمل كله على والدتها، وأقصى ما تستطيع تجهيزه هو كوب الماء المثلج.

كذلك كان مما يحول بيني وبين قبولها أني أشعر أنها تحمل أفكارًا تحررية شبيهة بتلك التي تنادي بها الجمعيات النسائية العلمانية، ونعرف جميعا ما وراءها من أهداف، والغريب أنها كانت تؤصل لهذه الأفكار برؤى شرعية!! فكنت أقول في نفسي: إنها أشد خطرًا علينا من العلمانيات، فويل للأمة من المنافق عليم اللسان! وهي بالفعل واسعة الثقافة، فضلاً عن أني ما كنت أظن أن لها باعًا مع القرآن أو القيام أو غيرها من العبادات، فلقد اعتدت أن قليلي الكلام هادئي السمت هم أكثر الناس عبادة وخشوعًا ومناجاة لله عز وجل، وهي على عكس ذلك تمامًا، ففي شخصيتها توهج وانطلاق لا حدود لهما.

الحقيقة

وشاء الله لي أن أصحب هذه الأخت في رحلة طلابية لإحدى المدن الساحلية لمدة أسبوع، وكنت قد حاولت جهدي الاعتذار عنها، فإنه لا يليق بالفتاة أن تبقى خارج بيتها بدون أهلها هذا الوقت الكبير، ولكني لم أستطع حيث كانت رحلة للمتفوقات على مستوى الجامعات المصرية، في حين لم تتردد هي للحظة، بل فرحت بها جدا. وعلى سلم الحافلة فوجئت بها وقد حملت حقيبة ضخمة وثقيلة جدا، وفي الغرفة التي جمعتنا بعدد من الفتيات المصريات وغير المصريات، فتحت صاحبتنا حقيبتها لأجدها مملوءة بالكتب والأشرطة والكتيبات التي راحت توزعها على زميلاتنا في الرحلة.

كانت تقوم على تنظيف الغرفة كل صباح، وتساعد الجميع في ترتيب متاعهن، وبالرغم من أن برنامج الرحلة يتضمن الطعام فإنها كانت تنزل إلى سوق البلدة أحيانا، وتعد لنا أكلات جميلة، كل هذا شيء، وقيامها وتلاوتها القرآن الذي فوجئت أنها تحفظ أكثر من نصفه شيء آخر!!.

كانت توقظ الجميع لصلاة الفجر، ثم إذا اطمأنت لنومهم بعد الصلاة تتسلل وحدها إلى الشرفة المطلة على الشاطئ لتشهد شروق الشمس وتناجي الله بكلام جميل، وتتدفق من عينيها دموع صافية!!.

منذ ذلك اليوم، تعلمت درسا لن أنساه، بل دروسا. فليس معنى اختلاف الآخرين عنا أنهم أسوأ، بل ربما كان العكس صحيحا!

بقلم هبة زكريا