منهج التضمين في التفسير

تقليص

عن الكاتب

تقليص

باحث شرعي مسلم اكتشف المزيد حول باحث شرعي
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • منهج التضمين في التفسير

    هناك باب في اللغة العربية يسمى باب (التعدي)، ويقابله باب (اللازم)، وأهل العربية يجعلون هذين البابين قسماً من جملة أقسام الفعل؛ فيقولون: إن الفعل ينقسم إلى فعل لازم، وفعل متعد، ويقررون على ضوء هذا التقسيم، أن الفعل (اللازم) هو الفعل الذي لا يطلب مفعولاً، والفعل (المتعدي) هو الذي يطلب مفعولاً.

    ولا شك، فإن القرآن الكريم نزل على وفق لغة العرب وأسلوبها في الكلام، ومع هذا فإن المتأمل يقف على أمر يستحق النظر؛ حيث يجد أن بعضاً من الأفعال التي وردت في القرآن -وهي ليست قليلة- قد تعدت إلى مفعولها بحرف جر غير الحرف الذي تتعدى به في أصل الوضع اللغوي، فمثلا:

    الفعل (قَبِلَ) يتعدى بحرف الجر (من)، تقول: قبل منه اعتذاره، وفي القرآن جاء قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} (الزمر:25)، فجاء الفعل (قَبِلَ) متعدياً بحرف الجر (عن) خلافاً لما هو معروف من كلام العرب.

    والفعل (نَطَقَ) يتعدى بحرف الجر (الباء)، تقول: نطق القاضي بالحكم؛ وفي القرآن جاء قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} (النجم:3)، فجاء الفعل (نَطَقَ) متعدياً بحرف الجر (عن) خلافاً لما هو مسموع من كلام العرب.

    ثم إن أهل العربية وعلماء التفسير وعلوم القرآن سلكوا في توجيه هذه الظاهرة القرآنية مسلكين، هما على النحو التالي:

    المسلك الأول: يرى أصحابه أن حروف الجر في العربية تأتي على أكثر من معنى، ويقوم بعضها مقام بعض؛ فهم يقولون مثلاً: إن حرف الجر (الباء) يأتي -كما يقول ابن هشام - لأربعة عشر معنى، يذكر منها: أنها تكون بمعنى (مع)، وعليه قوله تعالى: {اهبط بسلام} (هود:48) أي: اهبط مصحوباً بالسلامة؛ ويأتي بمعنى (على)، وعليه قوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار} (آل عمران:75)، أي: على قنطار؛ ويأتي بمعنى (إلى)، وعليه قوله تعالى: {وقد أحسن بي} (يوسف:100)، أي: إليَّ. وهم يذكرون لباقي حروف الجر معان عديدة، ويعبرون عن هذه الظاهرة اللغوية بقولهم: حروف الجر يتعاور بعضها بعضاً، وهم يقصدون بذلك أن بعضها يقوم مقام بعض.

    المسلك الثاني: يذهب أصحابه إلى أن الفعل هو الذي ينبغي أن يضمَّن معنى يليق بحرف الجر الذي تعدى به، وحرف الجر يبقى على معناه الأصلي؛ فمثلاً، عند حال رفع الإمام من الركوع، نجده يقول: سمع الله لمن حمده، مع أن الفعل (سمع) لا يتعدى بحرف جر، وإنما يتعدى بنفسه، فأنت تقول: سمعت نداء المؤذن، قالوا: إن الفعل (سمع) هنا ضُمن معنى الفعل (استجاب)، وكأن المعنى: استجاب الله دعاء من حمده. وأصحاب هذا المسلك يسمون هذا الضَّرب من التوجيه (التضمين).

    و(التضمين) بحسب القائلين به هو: إعطاء فعل معنى فعل آخر، فيكون فيه معنى الفعلين معاً؛ وعرَّفه ابن جني -وهو من أئمة اللغة- بأنه: "اتصال الفعل بحرف ليس مما يتعدى به؛ لأنه في معنى فعل يتعدى به".

    والمفسرين للقرآن عموماً، لم يلتزموا مسلكاً محدداً في توجيه الأفعال التي تعدت بحرف جر غير الحرف الذي تتعدى به عادة، فهم أحياناً يعتمدون منهج التضمين، وأحياناً أخرى يعتمدون منهج تناوب الحروف؛ فشيخ المفسرين الطبري مثلاً وجَّه عدداً من الآيات وفق أسلوب التضمين، كما فعل في قوله تعالى: {ولا تعد عيناك عنهم} (الكهف:28)، لكنه لم يقدمه على القول بتناوب الحروف.

    والزمخشري في "الكشاف" مع قوله بأسلوب (التضمين) إلا أنه لم يحظ بعنايته في كل المواضع، بل قال به في مواضع، وأعرض عنه في أخرى.

    وابن عطية في "المحرر الوجيز" مع ثنائه على أسلوب (التضمين)، ووصفه له بأنه قول الحذاق، إلا أنه لم يُعن به كثيراً، ولم يقدمه على القول بتناوب الحروف.

    وابن كثير في "التفسير العظيم" استحسن القول بأسلوب (التضمين) في مواضع من تفسيره، كما فعل في قوله تعالى: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} (البقرة:14)، وأغفله في مواضع أخرى.

    هذا، وأكثر من اعتمد على أسلوب (التضمين) من المفسرين المتأخرين، الآلوسي في "روح المعاني"، وابن عاشور في "التحرير والتنوير"، فقد توسعا جداً في توجيه الآيات بحسب أسلوب (التضمين).

    وبعد إذ تبين لنا المقصود بأسلوب (التضمين)، وموقف المفسرين منه، لا بأس أن نقف على مثالين يوضحان هذا المسلك من التفسير.

    قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} (البقرة:187)؛ فإنه لا يقال: رفث إلى المرأة، لكن لما تضمَّن {الرفث} معنى الإفضاء، الذي يُراد به الملابسة، ساغ ذلك، ورشَّح هذا التضمين، قوله تعالى في آية أخرى: {وقد أفضى بعضكم إلى بعض} (النساء:21).

    وقوله تعالى: {أو لتعودن في ملتنا} (الأعراف:88)، فالفعل (عاد) يتعدى بحرف الجر (إلى)، يقال: عاد إلى بلده، لكن في الآية ضُمِّن معنى الفعل (صار). قال القرطبي: "أي: لتصيرن إلى ملتنا"؛ وقال الآلوسي: "وقال غير واحد: تعود بمعنى تصير، كما أثبته بعض النحاة واللغويين".
    هذا، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أسلوب (التضمين) لا يطرد في جميع الأفعال التي تعدت بغير حروفها المسموعة، بل ثمة بعض الآيات لا يستقيم فهمها إلا عن طريق أسلوب التوسع في معنى حروف الجر؛ فمثلاً قوله تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (طه:71)، ففعل (الصلب) هنا حقيقة، ولم يُسمع في لغة العرب أن الفعل (صلب)يتعدى بـحرف الجر (في)، وإنما المسموع من كلامهم، أنه يتعدى بـحرف الجر (على)، ولا يستقيم هنا تضمين فعل (الصلب)معنى فعل آخر، يصح تعديته بحر الجر (في)؛ لذلك كان من المتعين في مثل هذا الأخذ بالقول الذي يرى أن حروف الجر يقوم بعضها مقام بعض، وعليه يكون معنى قوله تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} أي: على جذوع النخل، قال الطبري: "(في) توضع موضع (على)، و(على) في موضع (في)، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام".

    التعديل الأخير تم بواسطة د.أمير عبدالله; 18 سبت, 2020, 05:35 م.

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 1 أغس, 2023, 06:55 م
ردود 0
19 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 11 يول, 2023, 05:19 م
ردود 0
18 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عطيه الدماطى  
ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 10 يول, 2023, 07:05 م
رد 1
20 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 4 يول, 2023, 10:07 م
ردود 0
12 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عطيه الدماطى  
ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 30 يون, 2023, 04:06 م
ردود 0
15 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عطيه الدماطى  
يعمل...
X