التعديل يختلف عن العدالة: فكل راوٍ صلح حاله وثبتت عدالته في نفسه ( عدالته الدينية وصلاحه) عند أئمة الجرح والتعديل في القرون الثلاثة الأولى، فانهم لا يصدرون حكمهم عليه بتعديله إلا بعد التفتيش عن ضبطه والوقوف على حاله في الرواية، بصرف النظر عما تربطهم بذلك الشخص من قرابة أو صداقة، ومن غير اعتبار لصلاح دينه سواءا عرف بكثرة عبادته أو قلتها... فإذا ما ظهر حال الراوي في الضبط حينئذ يمكن تعديله او تضعيفه.
وقلما تأثروا بالعقائد عند إصدار الحكم على الراوي، بل كان الأساس في ذلك هو صدق الراوي وتثبته وصحة حديثه، وليس أدل على ذلك من توثيقهم لأهل البدع غير المكفرة، من شيعة، وقدرية، ومرجئة، وخوارج، ونحوهم.. اذا ما كانوا على الصدق ثم ثبت بالسبر ضبطهم.
ولذا نقول، أن عمدة كتب الجرح والتعديل هي البحث في الضبط، ولذا لا غرابة ان كل كتب الجرح والتعديل قائِمة على سبر مرويات الراوي لاختبار ( الضبط).. واذا خف ضبطه نال مرتبة اقل في التعديل بناءا على هذا الضبط.
وسبر حديث الراوي، وهو من أكثر مباحث الأئمة النقاد الجهابذة الاوائل في الحكم على الراوي مهما كانت عدالته، وبصرف النظر عن دينه وتقواه، حيث وجدناهم في كثير من الأحيان يضعفون أناسا بلغوا في غاية الدين والتقوى ولكنهم لم يكونوا من المتخصصين في الحديث، فالتضعيف لم يكن لأجل صلاحه بل لأجل خفة ضبطه.. وقد يكون الإنسان فقيها كبيرا، أو عالما بالتاريخ أو الأنساب، أو متبحرا بالعربية لكنه ليس من المعنيين بالحديث فتترك الرواية عنه أو يضعف لهذا الأمر. بل ولم يعتمدوا آراء السابقين باعتبارها مُسلمات كما فعل المتأخرون من المحدثين والنقاد، بل ردوا بعضها حينما وجدوا ذلك مخالفا لمعارفهم التي تأتت من سبر حديث الراوي بعد جمعه ودراسته دراسة علمية مستفيضة تقوم على أسس عديدة من أبرزها موافقته لحديث الثقات والمعروف من المتون أو مخالفته لهم.
وقد بينا ان السبر للضبط قولا واحدا بأدلته أعلاه في الرسائل السابقة، والان نورد الأدلة على ان مدار الجرح والتعديل والركن الاساس عند الائمة هو الضبط:
1- يقول د. محمد عبدالله العجمي " والضبط غالبًا عليه مدار التصحيح والتعليل، والجرح والتعديل؛ وذلك لأن صحة الحديث لا تحصل إلا بالعناية به من حين سماعه وحتى أدائه، وهذا هو الضبط".
2- يقول الشيخ عبدالله الجديع: " واعتبار الضبط الركن الأساس لتزكية الراوي ؛ من أجل كونه يباشر ذات الراوية ، لذلك كان القدح في النقلة بتخلفه أكثر ، فالوهم والغلط قليلُ ذلك وكثيرهُ إنما هو في ضعف الحفظ . وليست كذلك العدالة في الدين ، وإنما طلبت لدفع مظنة الكذب".
3- قال الخطيب : " وإذا سلم الراوي من وضع الحديث وادعاء السماع ممن لم يلقه ، وجانب الأفعال التي تسقط بها العدالة ، غير أنه لم يكن له كتاب بما سمعه ، فحدث من حفظه ، لم يصح الاحتجاج بحديثه حتى يشهد له أهل العلم بالأثر والعارفون به أنه ممن قد طلب الحديث وعاناه وضبطه وحفظه "
4- وقال ابن حبان : " الإنصاف في النقلة في الأخبار : استعمال الاعتبار فيما رووا "
5- يقول السيوطي في تدريب الراوي: " كمَا اصْطَلح عليه أهل الحديث في الاعْتِماد في الجَرْح على اعتبار حديث الرَّاوي بحديث غيره, والنَّظر إلى كَثْرة المُوَافقة والمُخَالفة. وردَّ بأنَّ أهل الحديثلم يعتمدوا ذلك في معرفة العدالة والجرح, بل في معرفة الضَّبط والتغفل"
6-والان نستطيع ان نضع كلام المعلمي معهم في الاطار الصحيح: " ومن الأئمة من لا يوثق من تقدمه حتى يطلع على عدة أحاديث له تكون مستقيمة وتكثر، حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي. وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي...».
ج) مراتب الجرح والتعديل عند الأئمة النقاد ومنهم ابن أبي حاتم حسب الضبط لا العدالة
بل ان تقسيم الجرح والتعديل الى مراتب هو تقسيم من حيث الضبط، لا دخل للعدالة الثابتة اصلا به، وبناءا على اختبار الضبط بالسبر تظهر الاحكام التالية: ثقة ومقبول ، وأخر صدوق وأخر ضعيف أو متروك.
وقد تضافرت الأدلة على أن كل جهبذ كان إذا أراد أن يحكم على أي شيخ بالجرح والتعديل فإنه يأتي إلى مروياته فيجمعها ثم يختبرها ويدرسها ثم يحكم عليه جارحا أو معدلا بعد ذلك، تبعا لموافقته أو مخالفته لروايات الثقات والتي هي بمنزلة الموازين والمثاقيل التي يعرف بها ضبط الرواة من عدمه. فإذا ندرت مخالفته لهم فهو الثقة، وإ فهو الصدوق وما شابه ، وإن كثرت فهو الضعيف وإن فحشت فهو المتروك، وإن روي الكذب أو تعمده فهو الوضاع أو المتهم، هلم جرا.
فالعدل تام الضبط، ندُرت مخالفته للثقات، يُحتج بحديثه فهذا الثقة المتقن الثبت.
والعدل الذي خف ضبطه، أي من لا يكثر خطؤه، ولكنه قد يخطئ فهو الصدوق او من لا بأس به.
والعدل الذي خف وقصر ضبطه فتخلل رواياته وهم، فهو صدوق يهم، أو له أوهام، او صدوق مغفل.
والعدل الذي اختل ضبطه ، فهو شيخ او صالح او صويلح او ارجو ان لا باس به او يعتبر به.
والعدل الذي كثُر الخلل في ضبطه وكثرت عنده المخالفات فهو لين الحديث، ليس بثقة، ضعيف
والعدل الذي فحُش ضبطه ومخالفاته وكثرت عنده المخالفات فهو المتروك
و من سقط عدالته وسقط ضبطه بثبوت الوضع عليه او تعمد الكذبفهو الوضاع
فيتبين لك ان العدالة ثابتة للجميع .. وان التعديل بناءا على الضبط..
واذا تبين هذا عرفت ان السبر الذي عليه مدار هذا كله يحدد مقدار الضبط.
فالصدوق ما سمي صدوقا الا من جهة ضبطه ..
ويتبين لك ان الثقة ما سمي ثقة الا من جهة ضبطه .,.
ولين الحديث والضعيف ما لُين الا من جهة ضبطه ..
والمتروك .. ما جرح ولا تُرك غالبا الا من جهة ضبطه.
فالضعفاء والمتروكون - في الغالب الاعم- لم يُضفعوا في عدالتهم بل في ضبطهم
وألفاظ الجرح والتعديل، مراتبٌ رتبها ابن أبي حاتم
قال ابن أبي حاتم : وجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتی :
۱۔ فإذا قيل للواحد : إنه ثقة أو متقن أو ثبت ، فهو ممن يحتج بحديثه .
۲ - وإذا قيل له : صدوق أو محله الصدق أولا بأس به ، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه .
٣- وإذا قيل « شيخ » فهو بالمنزلة الثالثة . يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانية .
4- وإذا قالوا : « صالح الحديث » فانه يكتب حديثه للاعتبار .
فهذه هي مراتب التعديل الأربعة .. كلها على اساس درجة الضبط:
المرتبة الأولى أن يُقال عنه: ثقة أو متقن أو ثبت أو حجة ، أو عدل حافظ ، أو ضابط .. كل هذا بمعنى واحد أي أنه = عدل + رسوخ الضبط.
المرتبة الثانية أن يُقال عنه: صدوق، = عدل +درجة ضبطه ليست قوية.
المرتبة الثالثة أن يُقال عنه: شيْخ، = عدل + يُنظر في ضبطه.
المرتبة الرابعة أن يُقال عنه: صالح الحديث، = عدل + يُسبر ويعتبر بحديثه مع حديث الثقات.
فكما قلنا العدالة ثابتة أصلًا، إنما الخلاف يكون حول الضبط، فالمراتب الأربعة أعلاه رُتبت على حسْب الضبط كما نرى. إذا فعُمْدة الجرح والتعديل على ثبوت الضبط وسبر مرويات الراوي.
هذه هي مراتب التعديل عند ابن أبي حاتم . وانما سميت بمراتب التعديل لان الالفاظ التي وردت فيها ليس فيها ما يجرح به الراوي وان كانت مراتب متفاوتة في التعديل يختلف فيها الرواة بين الضبط التام ، والضبط الذي اصابه خفة وقصورا.
1- قال ابن الصلاح : لان هذه العبارات ( يعني صدوق فما بعدها ) لا تشعر بشريطة الضبط فينظر في حديثه ويختبر حتی يعرف ضبطه.
2- وقال السخاوي : « فالحكم في اهلها دون اهل التي قبلها . وفي بعضهم من يكتب حديثه للاعتبار، دون اختبار ضبطهم لوضوح امرهم فيه. ويعني السخاوي بذلك أهل المراتب التالية :
- من قيل فيه : صدوق .
- من قيل فيه : شیخ .
- من قيل فيه : صالح الحديث."
دلالة النظر والإعتبار عند المحدثين في مراتب الجرح والتعديل ص. 54- 55.
3- يقول الامام الصنعاني في من قيل فيهم : " ضعيف، منكر الحديث، ضعفوه، واه، فيه مقال، فيه ضعف"، وهم أهل المرتبتين الرابعة والخامسة من المجروحين .. " أهل المرتبتين الرابعة والخامسة من أهل الديانة والصدق والعدالة وإنما تكلم عليهم لشيء في حفظهم فعلى هذا كل تلك العبارات مراد بها خفة الضبط لا غير "..
4- وانظر كيف ان كل مراتب الجرح والتعديل قائمة على الضبط لا عدالة دينه، حيث يقول الصنعاني ايضا : " أن أهل المرتبة الرابعة والخامسة من المجروحين" ممن قيل فيه ضعيف أو منكر الحديث أو واه أو فيه مقال أو ضعف "هم أهل المرتبة الرابعة من المعدلين" وهو من قيل فيه محله الصدق أو رووا عنه أو نحوه، لما تقدم في كل واحد منهم أنه "يكتب حديثه للاعتبار"، كما تقدم عن ابن أبي حاتم أنه قال " كل من كان من أهل المرتبة الرابعة والخامسة فإنه يكتب حديثه للاعتبار.". ولكنهم حين يقصدون رفعهم عمن لا يعتبر به ولا يكتب حديثه يوردون الأدنى من ألفاظ التعديل" نحو محله الصدق "وحين يريدون حطهم عمن يحتج به في الصحيح يوردون الأعلى من عبارات التجريح، فيقولون "ضيعف أو منكر الحديث " فهم أهل صدق وديانة ولكنهم ضعفاء بالنظر إلى من فوقهم في الإتقان من الحفاظ وهم لأجل صدقهم وتوسط حطتهم بين الكثرة المردودة والندرة التي لا حكم لها صالحون لا بأس بهم إذا وجد لهم متابع أو شاهد بالنظر إلى من دونهم من الكذابين والمتروكين و" بالنسبة إلى "من كثر خطؤه فرد حديثه" هذا على قواعد المحدثين".
5- ويقول الصنعاني في أهل المرتبة الثالثة من مراتب التجريح: " وهم أرفع من أن يقال لأحدهم ليس بثقة ولا يتهمون بالكذب مع أن حديثهم مردود ومطروح لقولهم فيها فلان ردوا حديثه أو مردود الحديث أو ضعيف جدا فبهذا تعرف أن أهل المرتبة الثالثة أيضا ممن لا يكذب ولا يُتهم بذلك الكذب ولا ينزل إلى من يوصف بأنه غير ثقة لترفعه عن تعمد ذلك ولكنهم أهل وهم كثير حكم برد حديثهم لأجل ذلك فقط فعلى هذا قولهم فلان ليس بشيء أو لاشيء أو لا يساوي شيئا يعني كثير الوهم"
د) بيان أن الجرح والتعديل حسب الضبط هو قمة التجرد والعلمية:
وهذا قمة التجرد والعلمية .. وهذا المعنى الحقيقي لمقولة لا يُعرف الحق بالرجال، وإنما يُعرف الرجال بالحق .. فما كانوا يحكمون على الرواية بالراوي ولو كان من اهل العدل والصلاح والتقوى، بل كانوا يحكمون على الراوي بالرواية، وما كانوا يأخذون احكام السابقين في عدالة الرواةِ مسلمات كدليل على صحة الرواية .. بل كانوا يمحصون الروايات ويثبتون صحتها او خطئها بالضبط ..
يقول الدكتور عزيز الدايني:
" لقد كان النقاد الأوائل يدرسون حديث الشيخ ويحاكموه إلى ما روی أروي حديثا صحيحا -سندا ومتنا- فيكون ثقة في حديثه أم أنه روى حديثا خطأ أو باطلا فيكون ضعيفا أو متروگا، أي أنهم كانوا يحكمون على الراوي بمروياته ولا يحكمون على الرواية بالراوي كما هو عند المتأخرين فيقولون مثلا رجاله ثقات فالحديث صحيح" أو " إسناده فيه ضعيف فالحديث ضعيف" بينما عند الأوائل قد يصح حديث الضعيف لأنه وافق الثقات، وقد يضعف حديث الثقة لأنه من أخطائه"
يقول الدكتور أحمد محمد نور سيف:
"وهذه المعارضة التي يقوم عليها اختبار الضبط يقول عنها ابن الصلاح « نعتبر روايته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والاتقان ، فان وجدنا رواياته موافقة - ولو من حيث المعنى - لرواياتهم ، أو موافقة لها في الأغلب ، والمخالفة نادرة . عرفنا حينئذ گونه ضابطا ثبتا . وان وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ، ولم نحتج بحديثه. وعدم الاحتجاج الذي أشار اليه ابن الصلاح لا يعني ترك حديثه وإنما المراد بأنه ممن لا يقوى حديثه على التفرد فلا يحتج به استقلالا ، وانما يحتاج إلى ما يعضده ويقويه . وتكون نتيجة هذه المعارضة والمقارنة أن يطلق على الراوي لفظ يحدد مقدار ضبطه بعد ان يكون قد سلمت عدالته من أسباب التجريح فلم يكن متهما بفسق او خوارم مروءة ، مسلما عاقلا، وعندئذ يختار له المصطلح المناسب في مراتب الجرح أو التعديل . وأقدم هذه المراتب التي عرفت عند نقاد الحديث هي مراتب الجرح والتعديل عند ابن أبي حاتم ".
فباعتبار حديث الراوي ومقارنته برواية الثقات والنظر في اصوله، يتبين ان كانت الرواية صحيحة النسبة الى صاحبها او موضوعه، وهذا يبين كيف ان السبر والاعتبار قد يُثبت كذب الراوي في روايته، قال أبو حاتم بن حبان :
" الإنصاف في نقلة الأخبار استعمال الاعتبار فيما رووا ، وإني أمثل للاعتبار به ما وراءه ؛ وكأنا جئنا إلى حماد بن سملة ، فرأيناه روى خبراً عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لم نجد ذلك الخبر عن غيره من أصحاب أيوب ، فالذي يلزمنا في التوقف عن جرحه والاعتبار بما روى غيره من أقرانه ، فيجب أن نبدأ فننظر هذا الخبر هل رواه أصحاب حماد عنه أو رجل منهم وحده ؟ فإن وجد أصحابه قد رووه علم أن هذا قد حدث به حماد ، وإن وجد ذلك من رواية ضعيف عنه ألزق بذلك الراوي دونه ، فمتى صح أنه روى عن أيوب ما لم يتابع عليه ، يجب أن يتوقف فيه ولا يلزق به الوهن ، بل ينظر هل روى أحد هذا الخبر من الثقات عن ابن سيرين غير أيوب ، فإن وجد ذلك علم أن الخبر له أصل يرجع إليه ، وإن لم يوجد ما وصفنا نظر حينئذ هل روى هاذ الخبر عن أبي هريرة غير ابن سيرين من الثقات ؟ فإن وجد ذلك صح أن الخبر له أصل ، وإن لم يوجد ما قلنا نظر هل روى هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غير أبي هريرة ؟ فإن وجد ذلك صح أن الخبر له أصل ، ومتى عدم ذلك ، والخبر يخالف الأصول الثلاثة علم أن الخبر موضوع لا شك فيه ، وأن ناقله الذي تفرد به هو الذي وضعه".
يتبع
اترك تعليق: