المحاضرة الثانية عشر في علوم القرأن الكريم: العرضة الاخيرة والجمع البكري

تقليص

عن الكاتب

تقليص

د.أمير عبدالله مسلم اكتشف المزيد حول د.أمير عبدالله
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المحاضرة الثانية عشر في علوم القرأن الكريم: العرضة الاخيرة والجمع البكري

    ثانيا: جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.


    عرفنا في المحاضرة السابقة أن جمع القرآن في عهد النبي كان يعني حفظه في الصدور، ومع ذلك عرفنا ان القرآن الكريم كله دُون في حياته منذ لحظة وحيه ولكن كان مفرقا في العسب واللخاف و والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع. ثم يحفظه الصحابة في صدورهم ويدون كل صحابي في مصحفه (كتابه) ما شاء.وأنه اعتمد جمع القرآن في عهد النبي على منهج علمي من قراءة وسماع وتلقين ومدارسة بين جبريل عليه السلام والنبي، ومثله مع صحابته تلاوة وسماع وعرض وتلقين ومدارسة، وتدوين فوري للوحي، وقراءة الكاتب على النبي ما دونه وتصحيح النبي للكاتب إن كان هناك سقط فيقيمه، وأن القرآن الكريم نُقل نقلا شفهيا وحُفظ في الصدور وفي السطور، بإملاء واشراف من رسول الله صلى الله عليه وسلم.


    أولا: العرضة الأخيرة للقرآن الكريم
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعارض جبريل بالقران ويتدارسه، الى ان كان عام وفاته صلى الله عليه وسلم، فعارضه جبريل بالقرآن مرتين، بعد نزول الوحي واكتماله، وكان ذلك في رمضان في السنة التي توفي فيها، وكان يعارضه قبل ذلك مرة واحدة، وكان ذلك إرهاصًا بقرب انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى:

    فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ r يَعْرِضُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَلَى جِبْرِيلَ، فَيُصْبِحُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ لَيْلَتِهِ الَّتِي يَعْرِضُ فِيهَا مَا يَعْرِضُ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، لا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ، حَتَّى كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي هَلَكَ بَعْدَهُ عَرَضَ فِيهِ عَرْضَتَيْنِ." وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ." وعَنْ عائشةَ في حديث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ فَاطِمَةَ قَالَتْ: إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيَّ فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ حَضَرَ أَجَلِي."

    فكانت هذه العرضة الأخيرة بِمنْزلة الْمراجعة النهائية للقرآن الكريم، عرض فيها القرآن الكريم مرتين، فأُثبِت فيه جميع الأوجه الثابتة غير المنسوخة، وترك ما نُسِخ منه، فما ثبت في هذه العرضة هو القرآن المحكم المعجز المُتَعَبَّد بتلاوته إلى يوم القيامة، وما لم يثبت فإما أن يكون قرآنًا منسوخًا، وإما أنه ليس بقرآن، وكلاهما ليس له حكم القرآن من التعبد والإعجاز.

    لكن ولأن العرضة كانت في رمضان سنة عشر من الهجرة، والنبي صلى الله عليه وسلم تُوفي بعد رمضان في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، فإنه قد نزل قرآن فيما بعد ذلك الرمضان، فكأن الذي نزل بعد تلك العرضة لَمَّا كان قليلاً اغتفر أمر معارضته.


    ومما نزل بين هذه العرضة الأخيرة وبين وفاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:

    1 - قوله تعالى: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " ، فقد نزلت في يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم بِها باتفاق.
    2 - آية الربا، وهي قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا"، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا، قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم آيَةُ الرِّبَا.
    3 - قوله صلى الله عليه وسلم: " وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلىَ اللهِ"، وقد ورد أنَّها آخر ما نزل من القرآن الكريم.
    4 - آية الدَّيْن، وهي قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ "، فقد ورد عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين.

    وقد اختلف أهل العلم في آخر آية نزلت من القرآن ، على أقوال متعددة ، تكلم فيها كلٌّ بما أداه إليه اجتهاده ، وليس في شيء من ذلك خبر عن المعصوم ، يمكن القطع به . وأكثرهم على أن آخر آية نزولا هي قوله تعالى في سورة البقرة : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ )، والى هذا ذهب ورجح ابن حجر.


    من حضر العرضة الأخيرة من الصحابة

    كان تعويل الصحابة رضي الله عنهم في قراءة القرآن، ثم في جمعه بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم على تلك العرضة الأخيرة؛ لأن ما لم يثبت فيها من أوجه القراءة فقد نسخ، وما ثبت فيها فهو القرآن المُتَعَبَّد بتلاوته إلى يوم القيامة.

    ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخبر أصحابه بِما يطرأ على آيات الكتاب من النسخ، وبِما يُحتاج إلى معرفته من معاني الكتاب التي تعلمها من جبريل عليه السلام.

    وقد ورد من الروايات ما يدل على أن من الصحابة من حضر تلك العرضة كزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود وغيرهم .

    قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابتً على رَسُول اللهِ r في العام الذي توفَّاه الله فيه مرتين، وإنَّما سمِّيَت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت؛ لأنه كتبها لرَسُول اللهِ r ، وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بِها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.

    قال أبو عبد الرحمن السلمي: كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسبم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه.

    وَعَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيُّ الْقِرَاءتَيْنِ تَعُدُّونَ أَوَّلَ؟ قَالُوا: قِرَاءةَ عَبْدِ اللهِ. قَالَ: لا بَلْ هِيَ الآخِرَةُ، كَانَ يُعْرَضُ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ r فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَشَهِدَهُ عَبْدُ اللهِ فَعَلِمَ مَا نُسِخَ مِنْهُ وَمَا بُدِّلَ.

    وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ r يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا عَرَضَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَكَانَتْ قِرَاءةُ عَبْدِ اللهِ آخِرَ الْقِرَاءةِ.

    وَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أنه قال: القراءة التي عُرِضَت على رسول الله r في العام الذي قبض فيه - هذا القراءة التي يقرأها الناس. يعني بذلك قراءة زيد بن ثابت.

    وعن سَمُرة t قال: عُرض القرآنُ على رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عرضات، فيقولون: إن قراءتنا هذه العرضة الأخيرة.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها.
    فبما مرَّ بنا من الآثار الصحاح التي تدل على أن قراءة زيد بن ثابت وقراءة عبد الله بن مسعود كانت آخر عرضة عرضها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام.

    وفي هذا دلالة على أثر هذه العرضة الأخيرة في جمع القرآن.

    أثر العرضة الأخيرة في جمع القرآن
    كانت العرضة الأخيرة للقرآن الكريم هي المرجع والأساس لقراءة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، كما كانت الفيصل بينهم إذا تنازعوا في شيء من كتاب الله ، ولَمَّا أرادوا جمع القرآن الكريم كانت هي أيضًا أساس هذا الجمع، فقد اتفقوا على كتابة ما تحققوا أنه قرآن مستقرٌّ في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك. (الإتقان في علوم القرآن 1/142)

    وقال البغوي: " يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، التي بُيِّن فيها ما نُسِخ وما بَقِي. (شرح السنة: 4/ 525، وانظر: النشر في القراءات العشر: 1/ 33.)

    وعن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار ، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله. (المصاحف ص 33)

    وهكذا فقد كانت هذه العرضة عمدة هذه الأمة في معرفة القرآن، إذ إنَّها قد جمعت ما ثبتت تلاوته من الكتاب الحكيم، وأخرجت ما ثبت نسخه.


    ثانيا: أدوات الكتابة في الجاهلية:





    بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن القرآن الكريم قد جُمِع في صُحُف، وإنما كان مفرقا في الألواح والعُسب واللخاف وغيرها مما كان يستعمل في الكتابة، فحدث أمر ما دفع أبي بكر الصديق لجمع القرآن الكريم وذلك بمشورة من عمر بن الخطاب وأسندت مهم جمعه الى زيد بن ثابت رضي الله عنه. ولنتعرف على أدوات الكتابة أولا.

    أدوات الكتابة في الجاهلية:

    أما المواد التي كانوا يكتبون عليها فضروب شتى؛ منها:

    العُسُب: كان الصحابة يكتبون القُرْآن بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم على العسب، وهي: جريد النخل،

    اللخاف: قطع حجارة بيضاء رقيقة
    اضغط على الصورة لعرض أكبر.   الإسم:	image.png  مشاهدات:	0  الحجم:	121.3 كيلوبايت  الهوية:	825346





    عظام الأكتاف، والأضلاع

    الرقاع: من الجلد او الورق
    الرقاع: من الجلد او الورق





    الرقاع: من الجلد او الورق






    القرطاس: ورق البردي
    القرطاس: ورق البردي محطوطة قرانية على ورق البردي في هولندا

    محطوطة قرانية على ورق البردي في هولندا





    الجلد: وكانوا يسمونه: "الرق" و"الأديم" و"القضيم". والفرق بينها غير واضح من النصوص والروايات نفسها، ولكن المعاجم تجعل "الرق": الجلد الرقيق الذي يسوَّى ويرقق ويكتب عليه؛ وتجعل "الأديم": الجلد الأحمر أو المدبوغ؛ وتجعل القضيم: الجلد الأبيض يكتب فيه. وقد ورد ذكرها كلها في الشعر الجاهلي.

    الرق Vellum: جلد الانعام الخفيف
    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	image.png 
مشاهدات:	57 
الحجم:	412.9 كيلوبايت 
الهوية:	825351


    ويتميز الرق عن بديله ورق البردي أو ما كان يسمى القرطاس آنذاك بالمتانة لمقاومته البلي والتمزيق ولسطحه الأملس المناسب للكتابة. وهو يتيح إمكانية تصحيح الأخطاء بالكشط بل وحتى إزالة الكتابة كلها بغسل الرق بالماء الذي يذيب الحبر الذي كانوا يستعملونه. كما يتفوق الرق على القرطاس بإمكانية طيّه في صفحات تُجمع بشكل كراريس وتُخاط مع بعضها لصناعة المصاحف المجلدة في حين أن القرطاس لا يمكن طيه. ولكتابة النصوص المطولة على القرطاس كانت الصفحة منه تلصق بحافة الصفحة الأخرى لتكوين شريط طويل يلف بشكل إسطواني.

    ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا انقضى عهد النبوة ولم يُجمَع القُرْآن في مصحف واحد، بل كُتب منثورًا بين قطع الجلد والعظام ونحوها؛ (مناهل العرفان للزرقاني جـ 1 صـ 247).


    - سبب جمع القرآن في عهد أبي بكر و المناقب الواجب توافرها في جامِع القرآن:

    1- لحوق النبي بالرفيق الأعلى.
    ٢ -اكتمال الوحي و انقضاء زمن نزول القرآن الكريم: ومعلومٌ أن الوحيَ إنَّما كان ينزل مفرًَّقا على ما يناسب الحوادث والمسائل، وقد كان ينسخ من السورة الآيات أو تزاد عليها، فلو أن القرآن جمع في كتاب واحد ثم طرأ نسخ أو زيادة لزم إعادة الكتابة مرة أخرى، فيحصل بذلك المشقة.
    ٣ - وقعة اليمامة ومقتل كثيرٍ من القراء: فى عهد سيدنا أبى بكر رضى الله عنه، ارتد كثير من العرب وكان من أعتاهم مسيلمة الكذاب وقومه بنو حنيفة، فقاتل ابوبكر المرتدين، فكان جملة شهداء المسلمين 960 رجلا، منهم 660 صحابيا، ومن بينهم أكثر من سبعين رجلا من القراء الحُفاظ، فراعت هذه المصيبة عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فأرسل إلى أبي بكر يراجعه، فدعت الحاجة إلى جمع ما كتب مفرقًا فى الرقاع و في العسب و اللخاف خشية أن يضيع شىء من القرآن بموت حفظته , فتألفت لجنة برئاسة زيد بن ثابت واستحضروا ما فى بيوت زوجات النبى صلى الله عليه وسلم وما مع الصحابة، واستشهدوا على ما جاء به كل واحد أنه كتب بحضرة النبى -صلى الله عليه وسلم ...

    وفي تفصيل ذلك يروي البخاري في صحيحه أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: " أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة أي عقب استشهاد القراء السبعين , في واقعة اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده. قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد أستحر أي اشتد يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر ا هـ.

    وقال ابن شهاب: لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر ، وخاف أن يذهب من القرآن طائفة ، فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم ، حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق


    حول تردد أبي بكر وزيد:
    قال ابن حجر : "وقد تسول لبعض الروافض أنه يتوجه الاعتراض على أبي بكر بما فعله من جمع القرآن في المصحف فقال : كيف جاز أن يفعل شيئا لم يفعله الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ؟ والجواب : أنه لم يفعل ذلك إلاّ بطريق الاجتهاد السائغ الناشئ عن النصح منه لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة القرآن ، ونهى أن يكتب معه غيره ، فلم يأمر أبو بكر إلاّ بكتابة ما كان مكتوبا . ثم قال : وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يعد من فضائله، وينوه بعظيم منقبته لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم : « من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها » (1) فما جمع القرآن أحد بعده إلاّ وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة".


    سبب اختيار زيد للقيام بمهمة الجمع:

    فهذا الحديث كما ترى يدل على مبلغ اهتمام كبار الصحابة بالمحافظة على القرآن وعلى مبلغ ثقة أبي بكر وعمر بزيد بن ثابت وعلى جدارة زيد بهذه الثقة لتوافر تلك المناقب التي ذكرها فيه أبو بكر:
    1- شبابه ووفرة عقله: إنك رجل شاب عاقل فتتبع القرآن فاجمعه، فكونه شابا يجعله أجلدَ على العمل، ويشهد بوفرة عقله تردده وتوقفه أول الأمر ومناقشته لأبي بكر حتى راجعه أبو بكر وأقنعه
    2-عدل في دينه غير متهم: لا نتهمك ويؤيد ورعه ودينه وأمانته قوله: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن
    3- أنه كاتب وحي رسول الله: وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدل على حسن خطه وشدة ضبطه ، وهو أعلم الناس بتتبع القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ا هـ.
    4- أنه كان ممن شهد العرضة الاخيرة:
    5- أنه كان حافظا للقرآن عن ظهر قلب وأقرأ بالعرضة الأخيرة:


    - الدقة المتناهية في طريقة جمع القرآن وكتابته في الصحف .. وإجماع الأمة على ذلِك :

    انتهج زيد في القرآن طريقة دقيقة محكمة وضعها له أبو بكر وعمر , فيها ضمان لحياطة كتاب الله بما يليق به من تثبت بالغ وحذر دقيق وتحريات شاملة . 1- فلم يكتف بما حفظ في قلبه، مع انه وغيره من الصحابة يَحفظون القرآن
    2- ولا بما كتب بيده ، ولا بما سمع بأذنه.
    3- بل أن يأتي كلُّ من تَلقَّى شيئًا من القرآن من رَسُول اللهِ

    4- بل جعل يتتبع ويستقصي آخذا على نفسه أن يعتمد في جمعه على مصدرين اثنين:
    - أحدهما ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    - والثاني: ما كان محفوظا في صدور الرجال.




    ويدل لهما قول زيد بن ثابت - في الحديث السابق - الذي أخرجه البخاري : "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف ، وصدور الرجال" . وكذلك قوله "فأقبل الناس بما كان معهم" يدل على إتيان الناس بالمحفوظ . وقوله "وعندهم" بالمكتوب.
    5- وبلغ من مبالغته في الحيطة والحذر أنه لم يقبل شيئا من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدلان أنه كُتِب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. و يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: " قدم عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان".
    ويدل عليه كذلِك ما أخرجه أبو داود أيضا ولكن من طريق هشام بن عروة عن أبيه " أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه" أي شاهدان يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وليس على ان هذا من القرآن .. انتبهوا للنقطة هذه جيدا .. والدليل ما جاء في رواية "فليمل سعيد" ، يعني من الرقاع التي أحضرت" والا فلو كانت الشهادة على حفظهم لكانوا املوا هم ولم يحتاج الى املاء سعيد .. ولم يعتمد زيد على الحفظ وحده ولذلك قال في الحديث الذي رواه البخاري سابقا إنه لم يجد آخر سورة براءة إلا مع أبي خزيمة. أي لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري مع أن زيدا كان يحفظها وكان كثيرا من الصحابة يحفظونها. ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة زيادة في التوثق ومبالغة في الاحتياط.
    6- ثم يُكتب ما أُتي به في الصحف: ويدل عليه قول زيد: "وَكَاَنت الصُّحُف الّتي جُمعَ فيهَا االُقرْآنُ عنْدَ أَِبي بَكْر حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ُثمَّ عنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ُثمَّ عنْدَ حَفْصََة ِبنْت
    عُمَرَ
    ". وما في موطَّأ ابن وهب عن ابن عمر قال: جمع أبو بكر القرآن في قراطيس. وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري قال: َلمّا أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر، وخاف أن يذهب من القرآن طائفة، فأقبل الناسُ بما كان معهم وعندهم، حتى جُمع على عهد أبي بكر في الورق، فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في الصحف


    اذن نلخص منهجهم في الجمع البكري :
    1- عدم اكتفاء عمر وزيد بما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإن كان العمل الرئيسي لزيد، أما عمر فكان دوره الإشراف على الجمع، والنظر في الشهادة والكتابة.
    2- وعدم الاكتفاء بما كتباه وقت نزول الوحي .
    3- وعدم الاكتفاء بما حفظاه .
    4- والطلب من الصحابة الآخرين بما حفظوه وكتبوه
    5- وأن لا يقبل هذا المكتوب إلاّ أن يأتي صاحبه بشاهدَيْ عدل يشهدان على كتابته بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم
    6- وأن يطابق المكتوب ما هو محفوظ في صدورهم
    7- ثم يكتب في الصحف.

    وعلى هذا تم جمع القرآن بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة وإجماع الأمة عليه دون نكير. وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ يذكرها بالجميل لأبي بكر في الإشراف ولعمر في الاقتراح ولزيد في التنفيذ وللصحابة في المعاونة والإقرار. (مناهل العرفان: 1/ 253)


    - مزايا هذه الصحف التي جُمِعت على عهد أبي بكر عن جمع القرآن في مصاحف الصحابة الأخرى :
    فقد كان للصحابة صُحُف ومصاحِف كتبوا فيها ما سمعوه من قرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلّم , ولكنها لم تظفر بما ظفِرت به الصحف المكتوبة على عهد ابي بكر و التي تميزت بالآتي :

    1- دقة البحث والتحري: اصول تثبت علمي وكأننا في العصر الحديث كما سبق في الخطوات الست اعلاه
    2- الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته
    3- بلوغها حد التواتر ولا يطعن في ذلك التواتر ما مر عليك من أن آخر سورة براءة لم يوجد إلا عند أبي خزيمة فإن المراد أنه لم يوجد مكتوبا إلا عنده وذلك لا ينافي أنه وجد محفوظا عند كثرة غامرة من الصحابة بلغت حد التواتر
    4- إجماع الأمة عليها .
    5- ومن شمولها للأحرف السبعة لانها جمع من الرقاع (ينظر: مناهل العرفان: 1/ 253؛ والمدخل لدراسة القرآن الكريم، لمحمد أبي شهبة: 246؛ وعلوم القرآن والتفسير: د. محسن عبد الحميد: 15؛ وتاريخ القرآن والتفسير، د. عبد الله محمود شحانة: 40.)

    بينما كانت كتابة المصاحف الاخرى فردية تخص صاحِبها و يسهل فيها وقوع الخطأ والنسيان والسهو , وذلِك لعدم تحري الدقة فيها وانعدام وجود الشهود على كتابتها , وفقدانها لإجماع الامة، إضافة الى أنها كانت متضمنة تعليقات وشروحا وأدعية ومأثورات كتبها الصحابة لأنفسهم ، فهي خاصة بهم وباستطاعتهم تمييز القرآن من غيره ، أما غيرهم فقد لا يستطيع ذلك

    كم استغرق ها الجمع من الزمان؟
    وقد استغرق إنجاز ذلك العمل ما يقرب سنة، فقد كان بين غزوة اليمامة- التي وقعت في الأشهر الأخيرة من السنة الحادية عشرة أو الأولى من السنة الثانية عشرة «4» - وبين وفاة الصديق رضي الله عنه التي كانت في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة « تاريخ الطبري: 3/ 419». ولا شك في أنه اكتمل العمل قبل وفاة الصديق إذ أن الروايات تشير إلى أن الصحف أودعت عنده بقية حياته، ثم أخذها عمر بعده، فكانت عنده محروسة معظمة مكرمة، فلما مات كانت عند حفصة أم المؤمنين، لأنها كانت وصيته من أولاده على أوقافه وتركته، حتى أخذها أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، لتكون رهن تصرفه « ينظر: فضائل القرآن لابن كثير: 17؛ ورسم المصحف، د. غانم قدوري:».
    جمع القرآن (دراسة تحليلية لمروياته، ص. 126)



    هل احتاج لها المسلمون؟
    وهكذا جُمِعت الصُحُف وحُفِِظت ولم يحتج المسلمون لها , لأن القراء وحفظة القرآن استمروا بحفظ الله لهم وحِفظِهم لقرآنهم , استمروا ينقلون كتاب الله للآفاق شِفاهاً .. ولذا فقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيد بما تستحق من عناية فائقة فحفظها أبو بكر عنده الى ان توفي سنة 13 هـ ثم حفظها عمر بعده حتى توفي آخر يوم من 23 هـ، ثم حفظتها ستنا أم المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة عمر[58]. حتى جاء أخيراً زمان احتياج المُسلمين لها , وليس ذلِك من قلة في حفظة كِتاب الله , بل ما أكثرهم في زمان عُثمان و ما أعظم انتشارهم في بقاع الأرض .. ولكن طلبها خليفة المسلمين عثمان رضي الله عنه من حفصة حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف القرآن لدرء فتنة وليدة , ووأدِها في مهدِها, ثم بعد استنساخ المصاحِف ردها إليها كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
    - وبرغم الجمع إلا أن الكتابة ظلت لا قيمة لها مقارنة بالحِفظ في الصدور. حتى لما بعد زمان عمر ابن الخطاب :

    و كان هذا أول جمع للقرآن ، والذى تم فيه هو جمع الوثائق التى كتبها كتبة الوحى فى حضرة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وإطلاق وصف المصحف عليه إطلاق مجازى صرف . والقصد منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ .
    "يا أيُّها الَّذٍينَ آمَنُوا كُونُوا قوَّاميِنَ للهِ شُهَدَاء بِالقِسْطِ ولا يَجْرِمنَّكُم شَنئانُ قوْمٍ على ألّا تَعْدِلوا اعدِلُوا هُوَ أقربُ لِلتّقْوى
    رحم الله من قرأ قولي وبحث في أدلتي ثم أهداني عيوبي وأخطائي
    *******************
    موقع نداء الرجاء لدعوة النصارى لدين الله .... .... مناظرة "حول موضوع نسخ التلاوة في القرآن" .... أبلغ عن مخالفة أو أسلوب غير دعوي .... حوار حوْل "مصحف ابن مسْعود , وقرآنية المعوذتين " ..... حديث شديد اللهجة .... حِوار حوْل " هل قالتِ اليهود عُزيْرٌ بنُ الله" .... عِلْم الرّجال عِند امة محمد ... تحدّي مفتوح للمسيحية ..... حوار حوْل " القبلة : وادي البكاء وبكة " .... ضيْفتنا المسيحية ...الحجاب والنقاب ..حكم إلهي أخفاه عنكم القساوسة .... يعقوب (الرسول) أخو الرب يُكذب و يُفحِم بولس الأنطاكي ... الأرثوذكسية المسيحية ماهي إلا هرْطقة أبيونية ... مكة مذكورة بالإسْم في سفر التكوين- ترجمة سعيد الفيومي ... حوار حول تاريخية مكة (بكة)
    ********************
    "وأما المشبهة : فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة
    وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول : أكفر من يكفرني وكل مخالف يكفرنا فنحن نكفره وإلا فلا.
    والذي نختاره أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة "
    (ابن تيْمِيَة : درء تعارض العقل والنقل 1/ 95 )

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة زينب محمد ١٤٠, 11 ماي, 2021, 06:41 ص
ردود 0
68 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة زينب محمد ١٤٠  
ابتدأ بواسطة فؤاد النمر, 5 أبر, 2021, 03:11 ص
ردود 0
256 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة فؤاد النمر
بواسطة فؤاد النمر
 
ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 23 مار, 2021, 09:05 ص
ردود 6
535 مشاهدات
1 معجب
آخر مشاركة Nour Al-Hoda
بواسطة Nour Al-Hoda
 
ابتدأ بواسطة فؤاد النمر, 19 مار, 2021, 06:43 م
ردود 0
275 مشاهدات
1 معجب
آخر مشاركة فؤاد النمر
بواسطة فؤاد النمر
 
ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 14 مار, 2021, 08:51 م
ردود 0
424 مشاهدات
1 معجب
آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
يعمل...
X