الخليفة المأمون المفترى عليه

تقليص

عن الكاتب

تقليص

المهندس زهدي جمال الدين مسلم اكتشف المزيد حول المهندس زهدي جمال الدين
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    إذ لا شك أن أحدهما يؤثر في الآخر على وجه ما، وإذا كانت غاية الديني الآخرة من خلال الالتزام بالدين، فإن غاية السياسي الإسلامي السلطوي الآخرة من خلال إحسان العمل السياسي، طبعا المقصود السياسي الراشد، لقد نقلنا الدكتور في كتابه القيم ضمن رحلة شيقة في التاريخ من خلال المراجعة للمحنة ومحاولة الوصول للأسباب المختفية وراءها وهذا ما يحاول الكتاب إبرازه وبيانه جلياً واضحاً لحساب التاريخ كما قرر الدكتور في مدخله.
    والفكرة المحورية التي أرادها فهمي جدعان في دراسته القيمة هذه هي بيان صراع السلطة السياسية مع سلطة موازية تعتمد على العامة هي سلطة الديني أي سلطة أهل الحديث خاصة. فهما أي السلطة السياسية والسلطة الدينية طرفاً المحنة ومع الإشارة للعلاقة ما بين ثورة السفياني (195- 198) وسلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للوقوف أمام الفوضى في بغداد أثناء صراع الخليفتين الأمين والمأمون، وإذ تتوجت أعمال أهل الحديث بثورة أحمد بن نصر الخزاعي ومقتله بيد الواثق على تلك الصورة سنة (231 هـ) انتهي خطر أهل الحديث، ولهذا أصبحت الأجواء مهيأة لإعلان الانقلاب والعودة لرأي أهل الحديث في المسائل العقدية التي آثارها المعتزلة وخاصة مسألة خلق القرآن ولهذا ما أن توفي الواثق حتى أعلن أخوه المتوكل قراره بمنع المناقشة والمجادلة في تلك المسألة وغيرها، مع إبقاء أحمد بن حنبل وهو من أهم مراكز الخطر على الدولة العباسية في حالة سجن شرف في سامراء دون تمكينه من العودة لتحديث العامة تلك التي شكلت قلقا دائماً للمأمون .
    والختام اللائق بهذا العرض القاصر عبارة أوردها الدكتور جدعان في بداية مدخله للكتاب إذ قال " وليس يخفى على أحد أن مسألة محنة خلق القرآن قد احتلت مكاناً فسيحاً في مصادرنا العربية وفي حياتنا الثقافية الاتباعية والحقيقة أن الذي بتابع الوقائع وينظر إليها من أجل الفهم فإن عليه أن يعد نفسه لحالة من الإعياء الشديدة.
    وأخيراً هل في فتح هذه المسألة من جدوى أو نفع لأحد والجواب؟ إن الضرورة تحتم فتح هذه المسألة ليس لإشكاليتها العقدية في موضوع العدل، ولأهميتها في موضوع التوحيد وليس لحساب التاريخ أيضاً بل لضرورتها كمشكلة لا تزال تثير الشقاق بين الفرق الإسلامية المتواجدة والموزعة على العالم العربي ولقد كانت هذه المشكلة محوراً من محاور التكفير للإباضية في رسالة من ابن باز لطالب عربي يدرس في الولايات المتحدة مما حدا بالشيخ أحمد الخليلي أن يقوم بإصدار كتاب يعالج المسائل الثلاث: الرؤية وخلق القرآن وخلود العصاة من زاوية خلافية.
    إنَّ الدليلَ على أنَّ المحنة، لم تكن من صنيع المعتزلة ـ رغم قول المعتزلة بخلق القرآن إجماعا ـ فأساس قول المعتزلة بخلق القرآن، بُني على أنـها مسألة من مسائل العدل، بينما هي عند الجبرية من مسائل التوحيد، والقارئ لنقاشات المحنة، يراها تدور حول التوحيد، أي حول انفراد الله بالخالقية، وحول علم الله الأزلي، وليس حول العدل، وهذا يكشف أنَ أيام المأمون، والمعتصم والواثق لم تكن زمناً اعتزالياً وإنما هو زمن عباسي، يرفض التشبيه، ويقبل الجبر ويمارس الجور أما في أيام المتوكل فهو يقبل التشبيه، والجبر، ويمارس الجور، ويزيد على ذلك ارتكاب الأعمال الحرام [ يقصد من ارتكاب الأعمال الحرام أعمال المتوكل نفسه في شربه المسكر وفي الأمة بممارسة سياسة الظلم في الرعية ] ويقيم سياسة غاية في السوء مع أهل الكتاب، ويقهر التفكير، ويمنع الجدل، ويهبط مستوى العلم، ويبدأ عصر استهانة العسكر التركي بالخلفاء وزيادة في التقرب للنواصب، يعمد إلى هدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام .
    ويعلن الدكتور فهمي منذ البداية في المدخل (ص 12) أنه يسير تماماً في الاتجاه المعاكس لمجرى التيار وذلك عند أمرين اثنين على الأقل.
    الأول: أنه نأى بالمعتزلة نأياً يشبه أن يكون تاماً عن عملية الامتحان التي نسبت إليهم وأنه يَرُدُّ الأمور إلى نصابها في هذا الشأن لحساب التاريخ، والثاني أنه يريد أن ينظر في مسألة المحنة كحالة تبين إبانة بينة عما يمكن أن تكون عليه صيغة العلاقة بين السلطة أو الأمر من وجه وبين الطاعة من وجه آخر في دولة هي دولة الخلافة لا شيء يحول اعتبارها أكمل ممثل تاريخي لما وصل إليه الملك في الإسلام. ويقتضي التاريخ التحفظ على المحور الثاني وخاصة اعتبار الخلافة المركزية الممثل التاريخي لما وصل إليه الملك في الإسلام إذ تتضمن هذه العبارة إسقاط المحور التاريخي المتمثل في العديد في المحاولات لإزاحة هذا الملك العضوض ومع أن الكتاب في فصله الثالث " الدواعي والرجال " يشير إلى بعض من هذه المحاولات ولكنه لا يربط هذه المحاولات في الأسس الفكرية التي يستند عليها.
    ومع أن الدكتور جدعان أعلن بداية انه غير معني ببحث الوجه العقدي في قضية خلق القرآن إلا أنه اضطر في المدخل الذي استغرق الصفحات من (11- 44) أن يتعرض للأقوال المتعددة في مسألة خلق القرآن متعرضاً للرأيين اللذين يستحيل التوفيق بينهما على وجه ما وعرض أربعة آراء أخرى تشكل مواقف متوسطة أساسية متوقفاً عند حدود العرض مما يجعل القارئ محتاراً لا يدري بعد أن ادخله الكتاب إلى صميم هذه المسألة ما رأي الدكتور في تلك المسألة، ولقصور حيثيات المسائل المعروضة يبقى القارئ في حالة من الفراغ حول هذه المسألة، إلاَّ القارئ الذي له موقف مسبق في هذه المسألة .

    تعليق


    • #32
      رأي المعاصرين من الخوارج
      بيان رأي الخوارج في مسألة القول بخلق القرآن، الذي لم يعد – ولله الحمد – يذكر على لسان أحد إلا في بطون الكتب وبين مدارسات العلماء.
      لقد ذكر علماء الفرق أن الخوارج قد قالوا بخلق القرآن واعتقدوه حقاً لا يمارى فيه بزعمهم، ولهم شبه واهية وتأويلات بعيدة، وفي ذلك يروي الأشعري أن الخوارج كلهم يقولون بأن القرآن مخلوق بإجماع منهم على هذا الحكم فيقول : "والخوارج جميعاً يقولون بخلق القرآن" .
      ويقول ابن جميع الإباضي في مقدمة التوحيد: " وليس منا من قال إن القرآن غير مخلوق".
      وقد بين الورجلاني الإباضي أدلتهم على خلق القرآن، وناقش فيه المخالفين لهم بقوله: "والدليل على خلق القرآن أن لأهل الحق عليهم أدلة كثيرة، وأعظمها استدلالهم على خلقه بالأدلة الدالة على خلقهم هم فإن أبوا من خلق القرآن أبينا لهم من خلقهم، وقد وصفه الله عز وجل في كتابه وجعله قرآناً عربياً مجعولاً ".
      ثم جاء بالأدلة وهي الآيات التي ذكر فيها نزول القرآن وهي كثيرة مثل قوله تعالى:
      ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )القدر: 1، وقوله تعالى: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ )الشعراء: 193، وقوله تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ )الدخان: 3، وغيرها من الآيات.
      ويقول الحارثي الإباضي في إثبات رأي الخوارج في القول بخلق القرآن أيضاً: " فعند المحققين من الإباضية أنه مخلوق إذ لا تخلو الأشياء إما أن تكون خالقاً أو مخلوقاً، وهذا القرآن الذي بأيدينا نقرؤه مخلوق لا خالق؛ لأنه منزل ومتلو وهو قول المعتزلة".
      وفيما يتعلق بموقف السلف في هذه القضية فإنهم يمتنعون عن وصف القرآن بما لم يوصف به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ألسنة الصحابة من أنه مخلوق أو غير مخلوق.
      وفي هذا يقول ابن تيمية مبيناً رأي السلف في هذه المسألة: " وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله" (..
      ويقول ابن قدامة: " ومن كلام الله تعالى القرآن العظيم وهو كتاب الله المبين وحبله المتين، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود" (.
      وقد كفر كثير من علماء السلف من قال بخلق القرآن أورد منهم الأشعري عدداً كبيراً ثم قال: " ومن قال إن القرآن مخلوق وإن من قال بخلقه كافر، من العلماء وحملة الآثار ونقلة الأخبار لا يحصون كثرة ".
      ويقول أيضاً: " وقد احتججنا لصحة قولنا إن القرآن غير مخلوق من كتاب الله عز وجل، وما تضمنه من البرهان وأوضحه من البيان ولم نجد أحداً ممن تحمل عنه الآثار وتنقل عنه الأخبار ويأتم به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن، وإنما قال ذلك رعاع الناس وجهال من جهالهم ولا موقع لقولهم" (7) .
      ومثله ما أورده الدرامي والإمام أحمد بن حنبل من أقوال لعلماء السلف يكفرون فيها من قال بخلق القرآن) ، وهي أقوال كثيرة لا حاجة بنا إلى سردها هنا لأن مضمونها كما قلنا واحد، وهو إثبات القول بعدم خلق القرآن وتكفير من قال بخلقه.
      وأما احتجاج القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا )الزخرف: 3، أي خلقناه قرآناً عربياً؛ فهذا احتجاج باطل إذ أن جعل التي بمعنى خلق تتعدى إلى مفعول واحد، وهنا تعدت إلى مفعولين فهي ليست بمعنى خلق (9) .
      وينقض أيضاً احتجاجهم هذا قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19].
      وكذا قوله تعالى: ( وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً )النحل: 91.
      فهل يصح جعل في هاتين الآيتين وأمثالهما بمعنى خلق، هذا لا يمكن ؛ فلو كانت جعل تأتي بمعنى خلق دائماً على ما قالوه لكان المعنى واضحاً وهو أن قريشاً خلقت الملائكة، وكذا الآية الأخرى وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً تعالى الله وتقدس اسمه !!.
      وأما الاحتجاج على خلقه بإنزاله، فإن هذا لا دلالة لهم فيه وذلك أن الإنزال أو النزول لا يعرف من إطلاقه على الحقيقة إلا أنه هبوط من مكان عال إلى مكان أسفل منه، وقد أثبت الله تعالى أن القرآن منزل منه تعالى بمعنى أنه تكلم به نبيه عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام الذي نزل به إلى قلب سيد المرسلين، وهذا هو الواضح والمعروف فيه.
      ولهذا فقد فهمه الصحابة ولم يبحثوا فيما وراءهم لعلمهم بأنه غير مقصود، ولكن الجهلة من المبتدعة القائلين بخلقه تجاوزوا هذا الأمر الواضح وتعسفوا النصوص على ما يوافق أهواءهم المنحرفة، مع أن النزول والتنزيل والإنزال في الحقيقة كما يقول العلامة ابن القيم: "مجيء الشيء أو الإتيان به من علو إلى أسفل، هذا المفهوم منه لغة وشرعاً ". ولا يلزم منه خلق المنزل فقد أسند النزول إلى الله عز وجل وهو قديم، كما وصفه به رسوله أنه ينزل إلى سماء الدنيا.
      وقد حاول علي يحيى معمر الإباضي أن يجعل الخلاف بين القائلين بخلق القرآن وبين النافين به خلافاً لفظياً، إذا أهمل جانباً التطرف- كما يقول – ويعني به أنه لما اشتد الجدل بين الطرفين في مسألة خلق القرآن انقسموا إلى فريقين " فتطرف جانب حتى زعم أن، المصاحف والحروف قديمة، وتطرف جانب آخر حتى نفى صفة الكلام عن الله تبارك وتعالى " .
      ويرى أن " يكفي أن يلتقي المسلمون على حقيقتين في هذا الموضوع، وهي أن الله تبارك وتعالى سميع بصير متكلم، وأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ".
      ولا شيء فيما يريد علي معمر أن يجمع عليه الناس في هذه القضية، لولا أنه لم يوضح رأيه في خلق القرآن، بل اكتفى بالقول بأنه كلام الله أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو كذلك لولا أن الإباضية يستدلون على خلق القرآن بإنزاله، فلا يكفي إذا ما رآه كافياً للتوفيق بين القائلين بخلق القرآن أو إنزاله، وبين القائلين بعدم خلقه.
      هذا ولابد من الإشارة إلى أن بعض العلماء من الإباضية قد خرج عن القول بخلق القرآن، فصاحب (كتاب الأديان) وهو إباضي يرد على المعتزلة ويبطل قولهم بخلقه فيقول: " فإن عارض معارض واحتج بقول الله سبحانه: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا )السجدة: 4، فكل شيء بين السماء والأرض فهو مخلوق قلنا لهم: وقد قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ )الحجر: 85، فالحق الذي خلق به السموات والأرض وما بينهما هو كلامه وهو خارج عن الأشياء " (..
      ومن أئمة الإباضية القائلين بأن القرآن غير مخلوق أيضاً أبو النضر العماني فإنه كان ينكر ذلك القول إنكاراً شديداً وله قصيدة طويلة يرد بها على القائلين بخلق القرآن بلغت خمسة وسبعون بيتاً، وهي قصيدة جيدة فيها إبطال كل ما احتج به القائلون بخلقه، يقول في هذه القصيدة:
      يا من يقول بفطرة القـــرآن / جهلاً ويثبت خلقه بلســان
      لا تنحل القرآن منك تكلفـــاً / ببدائع التكليف والبهتـــان
      هل في الكتاب دلالة من خلقـه /أو في الرواية فاتنا ببيــان
      الله سماه كلاماً فادعـــــه / بدعائه في السر والإعــلان
      ألا فهات وما أظنك واجـــداً /في خلقه يا غر من برهان (14)
      ثم يشرع في الرد بالتفصيل مبيناً أن الجعل في قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا )ليس نصاً صريحاً في الخلق،ثم استدل بدعاء إبراهيم الوارد في قوله تعالى: (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا )[إبراهيم: 35]، وقوله (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ) [إبراهيم: 40]]... إلخ.
      وعلى كل حال فإن الخوارج لم يقتصروا على القول بخلق القرآن، بل كانت منه طائفتان أقدمتا على مالم يخطر على بال مسلم يؤمن بأن القرآن كله كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه كله حق من فاتحته إلى خاتمته، لم يدخله باطل في كل آياته- لم يخطر هذا القول في حسبان مسلم يؤمن بالله رباً وبمحمد نبياً، فضلاً عن اعتقاده، هاتان الطائفتان هما العجاردة والميمونية فقد أنكرتا سورة يوسف، وادعتا بأنها ليست من القرآن، وحجتهم في هذا أن القرآن جاء بالجد، وسورة يوسف اشتملت على قصص الحب والعشق.
      وقد جزم كثير من العلماء بصحة ما نسب إلى الميمونية والعجاردة في هذا الاعتقاد، وإن كان الأشعري قد حكى عنهم هذا القول وهو غير جازم بصحته حيث قال: "وحكى لنا عنهم مالم نتحققه أنهم يزعمون – يعني العجاردة – أن سورة يوسف ليست من القرآن"..
      وتبعه الشهرستاني فذكر هذا القول على أنه قد حكي عنهم، ولكن عبد القادر بن شيبة الحمد. صاحب (كتاب الأديان) يقول عنهم: "وينكرون سورة يوسف أنها ليست من القرآن، ويقولون هي قصة من القصص خلافاً لأهل الاستقامة – يعني بهم الإباضية- يقولون: القرآن كله كلام الله" ..
      وكما قال الأشعري في العجاردة، قال في الميمونة، فحكى عنهم هذا القول وهو غير مثبت من صحته، ولكن البغدادي قد بين سند هذا القول إليهم بأنه من حكاية الكرابيسي وذلك في قوله: " وحكى الكرابيسي عن الميمونية من الخوارج أنهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن، ومنكر بعض القرآن كمنكر كله"..
      ويزيد الشهرستاني في السند الكعبي والأشعري فيقول: " وحكى الكعبي والأشعري عن الميمونية إنكار كون سورة يوسف من القرآن " (. ويجزم صاحب كتاب (الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة) بأن ميموناً أنكر سورة يوسف أنها من القرآن، وذلك في قوله عنه: "وأنكر سورة يوسف أنها ليست من القرآن على قول عبد الكريم بن عجرد"20.

      تعليق


      • #33
        وما رأى المعتزلة المعاصرة في هذه القضية؟

        إنَّ الدليلَ على أنَّ المحنة، لم تكن من صنيع المعتزلة ـ رغم قول المعتزلة بخلق القرآن إجماعا ـ فأساس قول المعتزلة بخلق القرآن، بُني على أنـها مسألة من مسائل العدل، بينما هي عند الجبرية من مسائل التوحيد، والقارئ لنقاشات المحنة، يراها تدور حول التوحيد، أي حول انفراد الله بالخالقية، وحول علم الله الأزلي، وليس حول العدل، وهذا يكشف أنَ أيام المأمون، والمعتصم والواثق لم تكن زمناً اعتزالياً وإنما هو زمن عباسي، يرفض التشبيه، ويقبل الجبر ويمارس الجور أما في أيام المتوكل فهو يقبل التشبيه، والجبر، ويمارس الجور، ويزيد على ذلك ارتكاب الأعمال الحرام [ يقصد من ارتكاب الأعمال الحرام أعمال المتوكل نفسه في شربه المسكر وفي الأمة بممارسة سياسة الظلم في الرعية ] ويقيم سياسة غاية في السوء مع أهل الكتاب، ويقهر التفكير، ويمنع الجدل، ويهبط مستوى العلم، ويبدأ عصر استهانة العسكر التركي بالخلفاء وزيادة في التقرب للنواصب، يعمد إلى هدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام .
        لقد طالت المحنة الكثير من أهل الحديث، وبعض الفقهاء، وعم المأمون إبراهيم بن محمد المهدي، وكان حاذقاً بصنعة الغناء، ومعلوم أنه بويع بالخلافة من 202-204 هـ وقتل بسبب المحنة أحمد بن نصر الخزاعي، ومات محمد بن نوح أثناء حمله وأحمد إلى المأمون، ومات في السجن كل من : نعيم بن حماد، وأبي مسهر الدمشقي، وقد أجاب في المحنة كل الممتَحَنين أما أحمد فلم يُصَرِّحْ أثناءَ الامتحان بأن القرآن غير مخلوق، وإنما كان يعمد إلى المراوغة، ولم يكن الجلد [ الضرب ] بالصورة الدرامية، التي ينشرها جهلة اليوم، فقد كان مجموع ما جُلد أحمد على ثلاث مرات 68 جلدة في أغصان من الشجر فيها أوراقها وفي أخبار أوردها، حنبل بن اسحق بن حنبل ذكر أحمد خمسا وعشرين حديثا، من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، تحث على طاعة ولي الأمر وإن جار وظلم .
        كان للإعلام الحنبلي دور في تضخيم موقف أحمد، وإعطائه صورة درامية، والذي يقرأ أخبار المحنة يظن أنَّ الممتَحَنَ الوحيد هو أحمد، وللعباسية دور في هذا التضخيم، لتستفيد من موقف الطاعة للحكام، والتقوى به على الشيعة المتربصة آنذاك، بلغ من قوة الحنابلة أنْ منعوا دفن العالم الطبري المشهور في مقبرة بغداد، وتـهيأ الأمر لانقلاب الأشعري على المعتزلة، بتسويغات غير مقنعة.
        إذن المعتزلة لم يكونوا أول من قال بقضية خلق القرآن ولم يكونوا وحدهم، هنا حقيقة اتجاهات ومذاهب وأشخاص كان لهم حضور قالوا بأن القرآن مخلوق، فالمعتزلة هم جزء من مجموعة ومنظومة قالت بذلك، ولكن المعتزلة حقيقة هي التي قدمت الاستدلالات والحجج المتينة القوية والجدالات لتأسيس هذه القضية، مقارنة بالمذاهب أو الاتجاهات الأخرى التي كانت تتعرض للتضييق والمحاربة.
        قالوا: نحاول أن نتجنب لفظ مخلوق ـ مع سلامته وقناعتنا به لكونه لفظ قرآني ونستخدم مفهوم آخر وهو محدث فنصف القرآن بأنه محدث ـ عكس قديم ـ ومحدثه هو الله، وهذا المفهوم مستوحى من قول الله تعالى:
        (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأنبياء: 2)
        (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (الشعراء: )
        حيث يدور السياق حول القرآن ووصف أثناءه بأنه (ذكر) و (محدث) بينما لم يوصف في الكتاب كله أبدا بأنه (قديم) ولا (أزلي) وكل من له إلمام بلسان العرب يعلم أن (محدث) عكس (قديم). فنفضل مفهوم (محدث) عند الحديث عن (الذكر) أي القرآن بدلا من مفهوم (مخلوق) مع سلامة المفهوم الأخير كذلك حيث أنه إذا لم يكن القرآن مخلوقا فهل هو الخالق؟ أم أن هناك صفة ثالثة بين المخلوق والخالق؟. ثلاثة أسماء غير مترادفة هي “بارئ” و” فاطر” و” خالق” يستخدمها العوام باعتبارها متطابقة في المعنى وهذا خطأ. بين هذه الكلمات الثلاث فروق دقيقة يعلمها الدارس لعلم الفيلولوجيا “فقه اللسان” ولا أريد الآن أن أتعرض لشرح تلك الفروق لكونها مبسوطة الشرح في كتب اللسانيات. إن ما يعنيني الآن هو لفت الانتباه إلى أن الفعل الماضي الثلاثي المجرد “خلق” ليس معناه الإيجاد من العدم المطلق. الإيجاد من العدم المطلق ممكن فقط بالنسبة للبارئ عز وجل. أما الخالق فهو الموجد من مادة أولية. لذلك نسب الله تعالى فعل “خلق” للإنسان كما في قوله تعالى:

        (… وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا …) (العنكبوت: 17)
        فجملة “تخلقون” تتكون من فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعل مبني على السكون في محل رفع. أما “إفكا” فهو مفعول به منصوب. أي أن هناك فاعل قام بالخلق وهذا الفاعل هو “الواو” والمقصود ضمير المخاطب الجمع أي “أنتم”. أضاف الله تعالى فعل “خلق” لفاعل غيره بينما يختص سبحانه وحده بفعل “برأ” وفعل “فطر” فالله سبحانه هو البارئ والفاطر والخالق والمصور. لما كان فعل “خلق” يدل على الحدوث ـ ومقابله هو القدم ـ استخدم علماؤنا الأوائل هذه الصفة “مخلوق” لوصف كلام الله تعالى. هذا الوصف وإن كان صحيحا إلا أنه غير لائق في هذا الموضع. لذلك تستخدم المعتزلة المعاصرة وصفا آخرا أكثر لياقة وأكثر قرآنية وهو وصف “محدث” ووصف “حديث” لكونهما مفهومين قرآنيين خالصين. يقول الله تعالى:
        (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (الشعراء: 5)
        (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 23)
        لا نصف الذكر المبين إذن بوصف “مخلوق” ولكننا نصفه فقط بوصف “محدث” ومشتقاته لأن الله تعالى وصفه بهذا الوصف. هذا بالنسبة للتسمية.
        هل تدخل مسألة “حدوث” القرآن في أبواب “التوحيد” فقط؟
        الشائع عند من لا ينتهجون النهج الإعتزالي أن تلك المسألة تدخل فقط في أبواب التوحيد وهذا صحيح إلى حد ما. لكن الأصح هو أن مسألة “حدوث” القرآن تدخل في أبواب العدل: لماذا؟.
        يبحث المعتزلة في باب العدل كل ما له علاقة بأفعال الله تعالى، وكلام الله تعالى محدث ـ كما ينص القرآن على ذلك ـ ومن ثم يعتبر كلام الله تعالى فعلا من أفعال الله ولذلك نبحث هذه المسألة ـ أساسا ـ في باب العدل. أفعال الله كلها مقسطة وحكيمة ورحيمة، والقرآن كلام الله، وكلام الله فعل من أفعال الله، لذلك فإن القرآن كله حكمة ورحمة وقسط. أما كلام البشر فقد يخلو من الحكمة والإنصاف بل غالبا ما يخلو منهما.
        إن القرآن الكريم هو كتاب الله المتلو والكون الكبير هو كتاب الله المنظور كلاهما “فعل” حكيم من أفعال الله يدل على عدله جل وعلا. أما لو قلنا أن القرآن غير محدث وأنه “قديم” يخرج بنا نطاق الحديث من باب “العدل” إلى باب “التوحيد” وهذه طريقة الأشاعرة وليست طريقة المعتزلة.
        من هذا المنطلق ورط الأشاعرة أنفسهم مع النصارى حينما نسبوا لله تعالى ما يسمى بالصفات النفسية ـ ما تسميه الأشاعرة صفات نفسية يطلق عليه المعتزلة صفات الذات ـ فجعلوا “الكلام” من الصفات النفسية “القديمة”. بناءا على كلامهم فإن كلام الله قديم، وعيسى بن مريم عليه السلام كلمة الله، ومن ثم فهو قديم. هكذا ورط الأشاعرة أنفسهم بسبب تخبط المفاهيم لديهم أما المعتزلة فليسوا معنيين أبدا بقضية قدم عيسى من حدوثه لأن القضية محسومة عندهم منذ البداية: نحن نبحث مسألة “الكلام” ضمن إطار العدل وليس ضمن إطار التوحيد، والكلام ـ عندنا ـ صفة “فعل” وليس صفة “ذات” وأفعال الله تعالى كلها حادثة، وكلام الله فعل لله ومن ثم يصبح كلام الله حادثا، وعيسى بن مريم كلمة الله الحادثة فيوصف عيسى بالتالي بأنه حادث وليس قديما.
        ولقد تعرض كثير من العلماء والأئمة على مر تاريخ الدعوة الإسلامية إلى كثير من المحن عبر القرون، بعضهم تم رفض أفكاره، ورغم ما يلقونه اليوم من مكانة فقهية كبيرة، إلا أن هؤلاء الأئمة تعرضوا للظلم ومحن وصلت إلى حد الطرد والنفي والتكفير، من بعض الجهلاء الذين لم يذكرهم التاريخ بشيء سوى تعصبهم الأعمى.
        خذ عندك مثلا:
        الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، أحد أشهر علماء الحديث، وصاحب صحيح البخاري، إذ ولد في بخاري في 20 يوليو عام 810م، وواجه ذلك الإمام الذي ينظر إليه نظرة إجلال تقديرا لما قام به من جمع أحاديث النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، العديد من المحن التي كانت سببا في طرده من مدينته ومسقط رأسه وتكفيره.
        محنة البخاري في نيسابور:
        بدأ البخاري في طلب الحديث وهو دون العاشرة، فسمع من مشايخ بلده، ثم خرج في رحلة علمية طويلة لسماع الحديث، وطلب العلم؛ فطاف البلاد، ودخل العواصم، والتقى مع آلاف الشيوخ، ولم يترك بقعة من بقاع العالم الإسلامي المعروفة بالعلم والحديث إلا زارها ودخلها، فطاف خراسان كلها، ودخل العراق؛ فزار بغداد والبصرة الكوفة مرات كثيرة، ودخل الشام والحجاز واليمن ومصر، وكان كلما دخل بلدًا انهال عليه الآلاف من أهلها من طلبة العلم وغيرهم للاستفادة من علمه الغزير، وأدبه الوفير، وسمته وهديه، وكان الناس يستقبلونه استقبال الملوك والخلفاء والعظماء، ويبالغون في تعظيمه وتبجيله واحترامه.
        وبدأت فصول محنة البخاري عندما توجه إلى مدينة نيسابور؛ وهي من المدن الكبيرة في خراسان؛ فلما وصل إليها خرج إليه أهلها عن بكرة أبيهم، فلقد استقبله أربعة آلاف رجل ركبانًا على الخيل، سوى من ركب بغلا أو حمارًا، وسوى الرجالة، وخرج الولاة والعلماء كافة لاستقباله قبل أن يصل المدينة بمرحلتين أو ثلاثة -قرابة المائة كيلومتر مربع-، وبالغوا في إكرامه بصورة لم تكن لأحد قبل، ولا حتى بعده.
        ومن روعة الاستقبال، وعظيم التقدير والاحترام الذي وجده البخاري بنيسابور قرر المقام فيها لفترة طويلة، واتخذ فيها دارًا، وأخذ علماء نيسابور في حض طلبة العلم على السماع من البخاري، وكان رأس علماء نيسابور وقتها الإمام محمد بن يحيى الذهلي، وكان رأسًا متبوعًا مطاعًا، ليس في نيسابور وحدها، بل في خراسان كلها، الناس يطيعونه أكثر من طاعتهم للخليفة والوالي، وكان الذهلي ممن حض الناس على الجلوس للبخاري، وحضور مجالسه ودروسه، والذهلي نفسه كان ممن استفاد كثيرًا من البخاري، حتى إنه كان يمشي خلف البخاري في الجنائز يسأله عن الأسماء والكني والعلل، والبخاري يمر فيها مثل السهم.

        تعليق


        • #34
          ومع استقرار البخاري في نيسابور أخذت مجالس التحديث تخلو شيئًا فشيئًا من طلاب الحديث لصالح مجلس البخاري، حتى ظهر الخلل في مجلس كبير علماء نيسابور محمد بن يحيى الذهلي نفسه، عندها تحركت النوازع البشرية المركوزة في قلوب الأقران، فدب الحسد في قلب الذهلي، وتسللت الغيرة المذمومة إلى نفسه شيئًا فشيئًا، حتى وصل الأمر به لأن يخوض في حق البخاري، ويتكلم فيه، ويرميه بتهمة هو بريء منها، فما هذه التهمة يا ترى التي كانت سبب محنة البخاري؟!.

          هذه التهمة هي تهمة اللفظية؛ وهي تعني قول القائل:
          أن لفظي بالقرآن مخلوق، فقد قال - يعني الذهلي - لأصحاب الحديث إن البخاري يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق فامتحنوه في المجلس، فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن: مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجب، فأعاد الرجل السؤال ثلاث مرات، فالتفت إليه البخاري، وقال القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، أي أن البخاري قد أدرك مغزى السؤال، وعلم أنه من جنس السؤالات التي لا يراد بها وجه الله عز وجل، وإنما يراد بها امتحان العلماء، وإثارة الفتن والفرقة بين الناس، فشغب الرجل السائل على مجلس البخاري؛ فقام البخاري من مجلسه، وجلس في منزله.
          ولعل البعض لا يدري ما المراد بمسألة اللفظية هذه؛ لذلك يحسن أن نبين معناها في عجالة؛ ذلك أنه خلال فتنة القول بخلق القرآن، وامتحان الخلفاء: المأمون والمعتصم والواثق للناس فيها، التبس الأمر على بعض الناس؛ فتوقف البعض في المسألة، وقال البعض الآخر أن لفظنا بالقرآن مخلوق، وكان أول من قال أن اللفظ بالقرآن مخلوق هو الفقيه الكرابيسي؛ فأنكر عليه الإمام أحمد بشدة، واعتبره من قبيل البدع، وسبيلا للتجهم والاعتزال، وقال الإمام أحمد: من قال القرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: القرآن كلام الله ولا يقول: غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفي، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، فرد الفقيه الكرابيسي وأوضح المسألة فقال: تلفظك بالقرآن: يعني غير الملفوظ من باب أن أفعالنا مخلوقة، ومع ذلك أنكر الإمام أحمد عليه هذه المقولة، وذهب إلى أن يعرض الإنسان عن هذه الكلمة بالكلية حتى لا تفتح بابًا للتجهم والابتداع في الدين.
          والخلاصة أن مسالة اللفظ يراد بها أمران: أحدهما الملفوظ نفسه؛ وهو غير مقدرو للعبد، ولا فعل له فيه، والثاني التلفظ به، والأداء له، وهو فعل العبد، فإطلاق الخلق على اللفظ قد يوهم المعنى الأول، وهو خطأ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني، وهو خطأ أيضًا، فمنعا الإطلاقين، أما إذا فصَّل القائل في المسألة، وفرق بين اللفظ والملفوظ فقال: إن الملفوظ هو كلام الله عز وجل، والمتلو هو القرآن المسموع بالآذان وبالأمراء من فم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهي حروف وكلمات وسور وآيات، تلاه جبريل وبلَّغه جبريل عن الله تعالى، وهو صفة من صفات الله، وبالتالي الملفوظ غير مخلوق، أما لفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وأداؤهم كل ذلك مخلوق لله، بائن عنه، فهذا حق وصواب تمامًا لا مرية فيه، وهذا ما كان يقول به البخاري.
          بعد هذه الحادثة أخذ الذهلي في التشنيع على البخاري، واتهمه بالتجهم، وقال: قد أظهر البخاري قولة اللفظية، واللفظية عندي شر من الجهمية، ومن ذهب بعد إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه، ثم تمادى الذهلي في التشنيع والهجوم على البخاري، ونادى عليه في الناس، ومنع طلبة الحديث من الجلوس إليه، ثم ألزم كل من يحضر مجلسه إلا يجلس للبخاري؛ فقال يومًا: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، وكان في المجلس وقتها الإمام الكبير مسلم بن الحجاج، وأحمد بن سلمة، فقام الاثنان من مجلس الذهلي، وهذا الأمر جعل الذهلي يزداد في هجومه على البخاري، ويصل لأعلى درجات الغلو والغيرة المذمومة؛ إذ قال بعد حادثة خروج الإمام مسلم من مجلسه: لا يساكنني هذا الرجل: (يعني البخاري) في البلد، وأخذ الجهال والسفهاء يتعرضون للبخاري في الطريق: يؤذونه بالقول والفعل؛ مما اضطر معه البخاري في النهاية إلى أن يخرج من البلد.
          وبالنظر لما قام به الذهلي بحق البخاري نجد أن الذهلي قد تدرج في التشنيع والهجوم على الإمام البخاري للوصول لغاية محددة منذ البداية: ألا وهي إخراج البخاري من نيسابور حسدًا منه على مكانة البخاري العلمية، وحتى لا ينسحب بساط الرياسة العلمية منه لصالح البخاري، وهذا ما فهمه البخاري منذ البداية، وقاله لتلامذته، ومن سأله عن هذه النازلة، فهذا تلميذه محمد بن شاذل يقول: دخلت على البخاري لما وقع فيه محمد بن يحيى فقلت: يا أبا عبد الله، إيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى، كل من يختلف إليك يطرد، فقال البخاري: كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء، وقال أحمد ابن سلمة: دخلت على البخاري فقلت: يا أبا عبد الله هذا رجل مقبول بخراسان خصوصًا في هذه المدينة، وقد لج في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه؛ فما ترى؟! فقبض البخاري على لحيته ثم قرأ: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44]، اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرًا ولا بطرًا، ولا طلبًا للرياسة، وقد قصدني هذا الرجل [يقصد الذهلي] حسدًا لما أتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمد إني خارج غدًا لتتخلصوا من حديثه لأجلي، فقال أحمد بن سلمة: فأخبرت جماعة من أصحابنا بخروج الإمام، فوالله ما شيعه غيري، وكنت معه حين خرج من البلد.
          وبالفعل خرج البخاري من نيسابور، واتجه إلى مرو من أعمال خراسان ليواصل رحلته العلمية، فإذا بالذهلي يواصل هجومه الشرس على البخاري، حتى بعد خروجه من نيسابور: حيث أخذ في الكتابة لسائر بلاد ومدن خراسان يحذرهم من البخاري، وأنه يتبنى قول اللفظية، وقد آتت هذه الحملة أكلها؛ فكلما توجه البخاري إلى بلد في خراسان؛ وجد الناس ثائرين عليه، وكُتُبُ الذهلي في حقه تنهال على علماء المدن وأمرائها فتوغر الصدور، وتحرك الشكوك، وتسيء الظنون، حتى وصلت حدة الحملات التشويهية ضد البخاري لأن يقدم رجلان من أكبر علماء الرجال في الحديث: وهما أبو حاتم، وأبو زرعة على أن يقولا: إن البخاري متروك، ولا يكتبا حديثه بسبب مسألة اللفظ، وسبحان الله لا أدري كيف أقدم أبو حاتم وزرعة على مثل هذه المقولة؟ وكيف تجاسرا عليها؟ والبخاري حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة، والبخاري أعلى منهما كعبًا في كل باب في الحديث والفقه والحفظ، قال الذهبي في السير: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين.
          وكان البخاري يؤكد في كل مكان أنه لم يقل أن لفظه بالقرآن مخلوق؛ فعندما سأله الحافظ أبو عمرو الخفاف عن هذه المسألة؛ فقال له: يا أبا عمرو احفظ ما أقول لك: من زعم من أهل نيسابور وقومي والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذلك؛ فإني لم أقله، إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة، ومعنى هذا التصريح أن الذهلي الذي خاض في حق البخاري، وشوه سيرته ومكانته قد بني حملته على البخاري على لازم قول البخاري أن الأفعال مخلوقة، فقال الذهلي: أن البخاري يقول إن ألفاظنا من أفعالنا، وأفعالنا مخلوقة، وإذا هو يقول إن لفظي بالقرآن مخلوق، ولازم القول ليس بلازم كما هو مذهب جمهور المحققين من العلماء إلا إذا التزمه صاحب القول: أما إذا نفاه وتبرأ منه فلا يلزمه، ولا يشنع عليه بسببه، قال الذهبي: ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نكفر مسلمًا موحدًا بلازم قوله، وهو يفرق ذلك اللازم، وينزه ويعظم الرب، لذلك كان البخاري، ينفي في كل موطن هذه التهمة عن نفسه، ويتبرأ منهما.
          لكن الناس لم يكن يعجبها كلام البخاري، وظل في رأيهم أنه خارج عن الدين، ووجب طرده من المدينة، وهو ما دفع الإمام البخاري للخروج من نيسابور إلى بلده الأصلية "بخارى" من دون أن يودعه إلا شخص واحد، وقد ظل ثلاثة أيام خارج أسوار المدينة يرتب أغراضه التي خرج بها على عجل، استعدادا للرجوع إلى بلده الأم.
          وقيل أنه عند دفنه لم يصل عليه سوى ثلاثة فقط هم: الدفان وابنه ورجل ثالث ليس من أهل البلدة وليس عليه أثار السفر، قيل أنه جبريل عليه السلام.
          وهكذا نرى كيف كانت فصول محنة البخاري وهي كما قال الذهبي رحمه الله لا يسلم منها عصر من الأعصار، فهي كانت وما زالت قائمة ومتواجدة، بل هي الآن على أشدها؛ فكم من عالم وداعية خاض الحاسدون، وعشاق التصنيف، وأنصار الحزبية في حقه، وردوه بكل قبيح، ونسبوا إليه ما هو منه براء، لا لشيء إلا حسدًا من عند أنفسهم على حب الناس له، والتفافهم حوله، وكم عالم وداعية راح ضحية هذه التشنيعات، حتى ضاع ذكره وخبره تحت أمواج الوشايات والأباطيل التي ملأت الأسماع، وأوغرت الصدور، وشحنت النفوس، حتى أصبح مجرد ذكر اسم هذا العالم أو الداعية مدعاة للطعن والشك والريب.
          والخلاصة أنها قصة جديدة قديمة، وفصولها كلها محزنة أليمة، والسالم من سلَّمه الله، والمعصوم من عصمه الله، وقليل ما هم.
          المصادر والمراجع:
          سير أعلام النبلاء (12/ 391)./ تاريخ بغداد (2/ 4)./البداية والنهاية (11/ 27)./ الكامل في التاريخ (6/ 228)./ صفة الصفوة (2/ 345)./ وفيات الأعيان (4/ 188)./ تذكرة الحفاظ (2/ 555)./ النجوم الزاهرة (3/ 25)./شذرات الذهب (3 /25)./طبقات الشافعية الكبرى (2 / 212).
          مقدمة فتح الباري (501)./الإمام البخاري للدكتور/ يوسف الكتاني./تراجم أعلام السلف (399)./ترويض المحن – دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 ه، 2009م

          وأخيراً هل في فتح هذه المسألة من جدوى أو نفع لأحد والجواب؟ إن الضرورة تحتم فتح هذه المسألة ليس لإشكاليتها العقدية في موضوع العدل، ولأهميتها في موضوع التوحيد وليس لحساب التاريخ أيضاً بل لضرورتها كمشكلة لا تزال تثير الشقاق بين الفرق الإسلامية المتواجدة والموزعة على العالم العربي ولقد كانت هذه المشكلة محوراً من محاور التكفير للإباضية في رسالة من ابن باز لطالب عربي يدرس في الولايات المتحدة مما حدا بالشيخ أحمد الخليلي أن يقوم بإصدار كتاب يعالج المسائل الثلاث: الرؤية وخلق القرآن وخلود العصاة من زاوية خلافية.

          تعليق


          • #35
            توطئة
            قراءة متأنية في كتاب المحنة " للدكتور فهمي جدعان "

            من هو الدكتور فهمي جدعان؟.
            لا شك في أن الحديث عن المفكر والمبدع فهمي جدعان متشعب جداً، فهو واحداً من المفكرين العرب الليبراليين الذين تعاملوا مع الفلسفة بروح تجديدية منفتحة، وهو من الباحثين الجادين الذين لا يثيرون الجدل بكتاباتهم بقدر ما يثيرون الإعجاب ويدفعون إلى التأمل، حيث يمتلك القدرة على النفاذ إلى بواطن الأمور، وهو رائد من رواد التنوير وعملاق من عمالقة الثقافة العربية.
            والدكتور فهمي جدعان هو مفكر أردني من أصول فلسطينية، من مواليد سنة 1940م، في بلدة عين غزال الفلسطينية، درس الفلسفة في جامعة السوربون وحصل منها على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام سنة 1968م، عمل أستاذا للفلسفة والفكر الإسلامي في جامعة الكويت والجامعات الأردنية، وشغل منصب عميد البحث العلمي بالجامعة الأردنية، ونال عضوية مجلس إدارة معهد العالم العربي في باريس بالفترة من 1980 حتى 1984، له آراء جدلية حول الإسلام السياسي حاصل على جوائز عديدة، كما تم اختياره لعنوان الشخصية الفكرية لعام 2013 من قبل بعض المؤسسات الثقافية في بلده.
            من أهم إنجازاته وأعماله: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، والمحنة – بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، والطريق إلى المستقبل: أفكار – قوى للأزمنة العربية المنظورة، والماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية، ورياح العصر: قضايا مركزية وحوارات كاشفة، وفي الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين، والمقدّس والحرية، وخارج السِّرب – بحث في النِسْوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية.
            فبعد أربع سنوات من البحث، قدم فهمي جدعان دراسته التي حملت عنوان "المحنة".. بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، حيث صدرت عن دار الشروق بعمان – الأردن، ويقع كتاب المحنة في أربعمائة وثماني وأربعين صفحة، أتت من القطع المتوسط، قسمه المؤلف علي مقدمة ومدخل وخمسة فصول، عرض فيها وقائع محنة خلق القرآن في إطارها الزمني وتصاعدها حتى انتهائها علي يد الخلفة المتوكل ليثير البحث نقاشاً واسعاً بين المهتمين بالتاريخ الإسلامي ومحنة خلق القرآن والتي اُعتبرت إحدى أهم الجدليات في تراث المسلمين.
            والكتاب ملئ بالحوادث المتشابكة والمعقدة ويحوي قائمة طويلة من أسماء الإعلام بلغت (718) اسماً منها ما يذكر عشرات المرات، أما المراجع العربية فقد بلغت 164 مرجعا وبلغت المراجع غير العربية 27 مرجعا وقام بفهرسة لأسماء الفرق وأهل المقالات والمذاهب الإسلامية أو غير إسلامية وبلغت (45) فرقة منها ما ذكر عشرات المرات ولم يفهرس للاماكن وللآيات والأحاديث والأشعار.
            علاوة علي بحوثه الكثيرة نذكر منها : الكتاب والحكمة، والطريق الملك، ومعنى السلفية، والعالم بين حدين، ونظريات الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، والمعطيات المباشرة للإشكالية الإسلامية المعاصرة، ونظرة طائر": بانوراما الفلسفة العربية، والفارابي: مدخل إلى تجربة العلم والفعل عنده، وهوميروس عند العرب، والمرْكَب والمجاز، ونظر في التراث، وفكرة التقدم عند المفكرين العرب في القرن التاسع عشر، وابن خلدون في الفكر العربي الحديث، والإسلام وأوروبا: الثقة المفقودة، والإسلام وتحولات الحداثة، والمستقبل العربي في ضوء قيمة التواصل، وهواجس الأزمة وأحكام الفعل، والثقافة الكونية والنظم الثقافية العربية، والحضارة المعاصرة ومُشْكِل البدائل، والديمقراطية من منظور تنويري، وفي العدالة والشورى والديمقراطية، والسلفية: حدودها وتحولاتها، والطاعة والاختلاف بين الواجب وبين الحق في الإسلام، وأسئلة المستقبل، والحركات الإسلامية المعاصرة.. الخ..
            وفي هذا المقال نود أن نناقش موقف فهمي جدعان من المسائل الخطيرة التي وقعت في التاريخ الإسلامي ما سمى بقضية "خلق القرآن"، والتي كان ضحيتها عدد من رجال المجتمع فى العصر العباسي؛ خاصة في عصر الخليفة المأمون، على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وهذا ما يناقشه كتابه "المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام" والصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في مايو 1989م.
            ويبدو أن محاولة عرض كتاب ما " لا يمكن أن تقوم مقام قراءته " ولهذا غالباً ما يكون عرض كتاب يشكل صعوبة لا يسهل تذليلها، وإذ قمت بقراءة كتاب المحنة للمرة الثانية للقيام بمهمة عرضه، والإشارة إلى مواضيعه، فإنني أعترف صراحة: أنَّ عرض كتاب المحنة يكاد يكون مستحيلاً، لتماسك مادته، وشدة كثافتها، وما تثيره مادة الكتاب من طلب للبحث والاستقصاء خارج الكتاب، فهذه القراءة هي مجرد محاولة للدخول إلى الكتاب.
            ولذلك يرى فهمي جدعان أن قضية "محنة خلق القرآن" هي واحدة قضايا الفكر الإسلامي التاريخي القابعة في كهف الغرابة والليل الطويل، وأن النظر السديد يقضي بإزاحة الستار عن وجهها وبتجريد دلالتها البعيدة لا في إطارها العقيدي والتاريخي المعاصر لها فحسب، وإنما أيضاً في حدود بنية الفكر الديني والسياسي الذي يمد جذوره في عصور الإسلام الأولى وينشر فروعه في أعصرنا العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة. فكان ذلك مشروع هذا البحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام.
            وهذا الكتاب ليس كتابا، وإنما هو حيثيات قضية، هي قضية خلق القرآن، وتدوين تاريخي شامل لما حدث بسبب منها، تماما كما توثق القضايا في المحاكم، المراد من هذا التوثيق جعل القارئ قاضياً فاهماً عدلاً قادراً على الحكم ـ بعد اطلاعه على جميع أوراق القضية ـ فقضية محنة خلق القرآن جرت الكتابة فيها من قبل الحنابلة بداية فقط، ثم كتب فيها غيرهم، ومصدرهم أقوال الحنابلة، وكانوا ولا زالوا يسجلون الصراع على غير حقيقته، يزورون المقال ويـخفون الكثير من الأوراق، فمثلا لم يسأل واحد عن الزمن الذي جرى فيه القول بخلق القرآن، هل يعود القول بخلق القرآن إلى زمن المحنة أي : 218-232هـ أم أنه قبل ذلك بكثير، وإذا كان القول يعود إلى زمن قبل زمن المحنة بأكثر من قرن من الزمان على الأقل، فلماذا لم تحدث محنة فيه قبل ذلك ؟ فمدونة أهل الحديث (الحنابلة) تقول أنَّ أبا حنيفة ت 150هـ استتابة أصحابه من القول بخلق القرآن، والكتاب يقول بوجود صراع حول سورة المسد، لقد ورد في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي المشهور في تـهذيب التهذيب وكانت وفاته 144هـ ما يلي : وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي عن معاذ بن معاذ سمعت عمرو بن عبيد يقول : إن كان (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة ! يقصد عمرو بن عبيد أنَّ السورة مخلوقة والبنية الفكرية لها دالة دلالة واضحة على خلقها. فما هي الحجة على أبي لـهب إنْ كان قد دُوِّنَ عليه: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) منذ الأزل؟ هل هناك واحد من المسلمين يعرف هذه الحقائق؟ ولماذا غابت هذه الحقائق؟.
            هذه الكتابة تعيد ربط أوراق القضية فقط في كل أزمانـها: قبل المحنة، ومع المحنة، وبعد المحنة. هذه هي خطة تدوين هذه القضية، وليس وضع كتاب فيها، لترك القارئ يواجه ملفا لا كتابا، لقد كلف جمع هذا الملف زمنا طويلا، فكتاب المحنة للدكتور فهمي جدعان هو نتاج سنوات من البحث في تجلية هذه المسألة وقد صدر في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وتُلقي بقبول حسن عند جمهرة من الباحثين ولا سيما المختصين في الشأن الفكري.
            إذ بدا العمل في هذا الملف قبل عام 1990 م، وهذا هو عام 2005 م -تاريخ اصدار الكتاب-وقد اكتملت جـمع كل الأوراق الضرورية، لـجعل القارئ يصدر الحكم في جهتين: جهة الموضوع ـ أي القول هو الحق؟ القول بخلق القرآن، أم القول بأزليته ـ والثانية هي التثبت من مقدار التزييف في المدونة التاريخية في مسار القضية.
            ولم يأت الكتاب ليؤرخ للمحنة أو ليعالج الوجه الكلامي الخالص أي ليجيب على مسألة خلق القرآن بالنفي أو الإثبات وإنما جاء الكتاب ليزيح الستارة عن وجه المحنة ويوجه الأنظار لدلالاتها السياسية ومن هنا أستمد موضوع الكتاب قيمته إذ يتجاوز البدا هات الخاطئة التي استقرت في الأذهان من مجرد نطق اسم أحمد بن حنبل أو المعتزلة أو خلق القرآن، إذ ما أن ينطق بها أيُ من الناس حتى تستدعي صورة حدث تاريخي درامي صورة احمد بن حنبل المحدث فقط وقد قطع حجة خصومة المشهورين بقوة الجدل والحجاج ولم يجْد هؤلاء الخصوم إلا أن يتحولوا إلى جلادين يمسكون السوط يلهبون جلد احمد بن حنبل وتشبع السياط من جلده دون أن يتزحزح عن موقفه قيد أنمله إذ هو ثابت كالطود الأشم ! . .
            ويعلن الدكتور فهمي منذ البداية في المدخل (ص 12) أنه يسير تماماً في الاتجاه المعاكس لمجرى التيار وذلك عند أمرين اثنين على الأقل.
            الأول: أنه نأى بالمعتزلة نأياً يشبه أن يكون تاماً عن عملية الامتحان التي نسبت إليهم وأنه يَرُدُّ الأمور إلى نصابها في هذا الشأن لحساب التاريخ، والثاني أنه يريد أن ينظر في مسألة المحنة كحالة تبين إبانة بينة عما يمكن أن تكون عليه صيغة العلاقة بين السلطة أو الأمر من وجه وبين الطاعة من وجه آخر في دولة هي دولة الخلافة لا شيء يحول اعتبارها أكمل ممثل تاريخي لما وصل إليه الملك في الإسلام. ويقتضي التاريخ التحفظ على المحور الثاني وخاصة اعتبار الخلافة المركزية الممثل التاريخي لما وصل إليه الملك في الإسلام إذ تتضمن هذه العبارة إسقاط المحور التاريخي المتمثل في العديد في المحاولات لإزاحة هذا الملك العضوض ومع أن الكتاب في فصله الثالث " الدواعي والرجال " يشير إلى بعض من هذه المحاولات ولكنه لا يربط هذه المحاولات في الأسس الفكرية التي يستند عليها.
            كان جدعان يري أن المعتزلة هم المتهمون حقيقة بهذه المحنة، وكانوا في تواطؤ مع السلطة، وهنا نجد جدعان يقول: لقد رد البحث المعاصر إلى المعتزلة قدراً عظيما من " الاعتبار" الذي يليق بهم. لا بل إن بعض الكتاب المفعمين بروح " العقلانية" قد أسرفوا في إسباغ الثناء والمديح عليهم حتى لقد تصور بعضهم ان النكبة التي لحقت بهم قريبا من منتصف القرن الثالث الهجري، وبعد ذلك، إنما كانت نكبة للإسلام نفسه آذنت بأفول العصر الذهبي له..
            وأنا أؤيد ما قاله فهمي جدعان؛ لا سيما وأن للمعتزلة لهم أصول خمسة، وهي التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فأصل التوحيد لا شيء يشبه الله، فالله لا نظير له وهو الواحد الأحد بلا نظير ولا شريك.. والذين يقولون إن القرآن قديم والقرآن غير مخلوق.. هذا يعني أن القرآن يشترك مع الله في صفة معينة، وهي صفة القدم، فعندما تقول إن القرآن قديم، فقد أشركت بالله، والإشراك بالله عند المعتزلة معناه الكفر؛ وهنا نجد فهمي جدعان يقول:" ومن الثابت أن القول بالقرآن مخلوق يرجع إلى عهد بعيد جدا عن مبدأ "الامتحان" الذي شهره المأمون في عام 218 هـ، وأن القضية في مبدئها قضية " جهمية"، تجد أصداء قوية لها في بعض الأقوال المنسوبة إلي الإمام الشيعي جعفر الصادق (ت 148/765م) الذي يعزي إليه أنه أجاب عن السؤال: القرآن خالق أم مخلوق؟ بالقول ليس خالقا ولا مخلوقا، بل هو كلام
            أما إعلان تبرئة المعتزلة من صنع المحنة، فقد تكفل به الكتاب حيث أزال الستارة عن وجه المحنة،
            يبدو أن محاولة عرض كتاب ما " لا يمكن أن تقوم مقام قراءته " ولهذا غالباً ما يكون عرض كتاب يشكل صعوبة لا يسهل تذليلها، وإذ قمت بقراءة كتاب المحنة للمرة الثانية للقيام بمهمة عرضه، والإشارة إلى مواضيعه، فإنني أعترف صراحة: أنَّ عرض كتاب المحنة يكاد يكون مستحيلاً، لتماسك مادته، وشدة كثافتها، وما تثيره مادة الكتاب من طلب للبحث والاستقصاء خارج الكتاب، فهذه القراءة هي مجرد محاولة للدخول إلى الكتاب..
            ويعلن الدكتور فهمي منذ البداية في المدخل (ص 12) أنه يسير تماماً في الاتجاه المعاكس لمجرى التيار
            حيث أنه قد أعلن منذ البداية انه غير معني ببحث الوجه العقدي في قضية خلق القرآن إلا أنه اضطر في المدخل الذي استغرق الصفحات من (11- 44) أن يتعرض للأقوال المتعددة في مسألة خلق القرآن متعرضاً للرأيين اللذين يستحيل التوفيق بينهما على وجه ما وعرض أربعة آراء أخرى تشكل مواقف متوسطة أساسية متوقفاً عند حدود العرض مما يجعل القارئ محتاراً لا يدري بعد أن ادخله الكتاب إلى صميم هذه المسألة ما رأي الدكتور في تلك المسألة ، ولقصور حيثيات المسائل المعروضة يبقى القارئ في حالة من الفراغ حول هذه المسألة، إلاَّ القارئ الذي له موقف مسبق في هذه المسألة.
            ويدخل الكتاب بعد تلك المقدمة والتعليق عليها وضرورة المراجعة الشاملة للمضمون السائد عن علاقة المعتزلة بالدولة العباسية حتى أن الدولة العباسية ، وصفت بأنها دولة معتزلة ويجعل الكتاب هذه المراجعة في ثلاثة أقسام يبحث في القسم الأول عن علاقة المعتزلة الأوائل واصل بن عطاء ( ت 131 هـ 748 م ) أي قبل قيام الدولة العباسية بسنة واحدة وعمرو بن عبيد ( ت 144 هـ 761 م ) والخلفاء الأوائل دون أن يذكر السفاح ( 132 – 136 هـ ) مبتدئا بالمنصور ( 136 – 158 هـ ) والمهدي ( 158 – 169 هـ ) ويهمل أمر الهادي ذاكراً الرشيد ( 170 – 193 هـ ) ولا يشير إلى الأمين ( 193 – 198 ) ويشير إلى رأيين مختلفين في علاقة العباسيين الأوائل مع المعتزلة وقد اتصفت سياستهم بالغموض والتعقيد بل والمرونة والتوفيق ـ هي وراء الظن بأن هناك علاقة بين المعتزلة والعباسيين الأوائل ـ ولا يري الدكتور فهمي في هذا القسم من الفصل الأول ضرورة للعودة إلى تفصيلات العلاقة أو تلك الصلة بينهما والحقيقة أن هذه بين العباسيين الأوائل والمعتزلة الأوائل لا زالت في حاجة إلى إعادة المراجعة ـ مع أن الدكتور محمد عمارة قد توصل في كتابه فلسفة الإسلام وأصول الحكم إلى إثبات تناقض العلاقة ، وأن السفاح وأخاه المنصور اللذين انضما إلى تنظيم المعتزلة وقفزا إلى الحكم من خلال سرقته اعتماداً على تأييد الجند الخراساني مما جعل كل منهم ـ أي المعتزلة والعباسيين يتربص بالآخر ـ ولا يهدأ بال المنصور حتى استطاع القضاء على محمد النفس الزكية ، وبعد ذلك قضى على أخيه إبراهيم ، وقبل ذلك كان قد قتل آل الحسن بن الحسن بطريقة تثير الاشمئزاز .
            إن كتاب المحنة يكشف هذه الخيوط التي تربط المعتزلة بآل الحسن ولكنه يجعلها مجرد موقف يخلو من الدلالات السياسة ويعطيه الدلالة الدينية فقط ، مع أن الكتاب يكشف أن المعتزلة تتطلع لنظام جديد بدلاً من نظام بني أمية حيث " يقول " ومع ذلك فأنه لا أحد يستطيع أن يدفع أن واصل بن عطاء كان غير راضٍ عن بني أمية الذين قضي واصل في آخر أيامهم " ويورد في نفس الفقرة ، ويبدو أن علينا أن نصدق ما يورده صاحب مقاتل الطالبين برغم هواه العلوي وتشيعه من القول إن واصل وعمرو بن عبيد قد نصرا محمد بن عبد الله بن الحسن حين دعا إلى نفسه عقب قتل الوليد بن يزيد في جمادي الآخر من سنة ( 126 هـ ) وهذا أمر يحتاج إلى تفسير .
            أن مفتاح علاقة العباسيين بالمعتزلة يكمن في أدراك علاقة عبد الله بن محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب ( ت 99 هـ ) " أبو هاشم أستاذ واصل بن عطاء في محمد بن علي بن عبد الله عباس وولده إبراهيم الإمام إذ يزعم العباسيون كما يروي التاريخ أن أبا هاشم هو الذي أوصى لهم بالخلافة ، وهو الذي صرف الشيعة إليهم والشك يكتنف هذا الزعم ويظن انه كشف لهم التنظيم للاستمرار في قيادته الميدانية ، أما الزعامة الحقيقية فهي لا حد أفراد آل البيت ويظهر أنها لزيد بن علي ( ت 122 هـ ) ثم انتقلت بعد مقتلة لمحمد النفس الزكية وهذا ما كان يعلمه أبناء محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ( ت 125 هـ ) والظاهر أنهم بايعوا على ذلك . سواء إبراهيم المقتول في حبس مروان بن محمد سنة ( 131 هـ) أو أبو العباس عبد الله بن محمد السفاح أول خليفة عباسي ( ت 136 هـ ) أو أبو جعفر المنصور ( ت 158 هـ ) وبسبب من هذه البيعة ظل المنصور يترصد ويترقب محمداً النفس الزكية وأخاه إبراهيم " ولعدم تمكنه من إلقاء القبض عليهما قام بمعاقبة أهلهم على تلك الصورة البشعة مما جعل بشير الرّحال راهب المعتزلة حين سئل عن سبب تسرعه بالخروج على المنصور أن يقول " أنه أي المنصور أرسل أليّ بعد أخذه عبد الله بن الحسن فأتيته فأمرني بدخول بيته فدخلته فإذا فيه عبد الله بن الحسن " والد محمد النفس الزكية وإبراهيم " مقتولاً فسقطت مغشياً علىّ فلما أفقت أعطيت الله عهداً إلا يختلف في أمره سيفان إلا كنت مع الذي عليه منهما " المحنة ( ص 60 ) وفي مقولة بشير هذه من الدلالات ما يعلم منه علاقة المعتزلة بعبد الله بن الحسن بن الحسن وولديه محمد وإبراهيم فالمنصور تعمد أن يرى بشيراً عبد الله بن الحسن وهو مقتول ابتغاءً أمر أسره في نفسه ، وقد تحقق له ذلك بأن يجعل الثورة المعتزلة تقوم على عجل من أمرها ، وقد حدث ذلك ، وعلى كل فالعلاقة بين المعتزلة وأوائل بني العباس هي علاقة عداء بالتأكيد .
            لقد جعل القسم الثاني من الفصل الأول مختصاً بتفسير العلاقة بين المعتزلة والخلفاء العباسيين الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق. والمعتزلة الذين ثبت اتصالهم بهؤلاء الخلفاء أو بالمأمون على وجه التخصيص هم أهل الطبقة السادسة والسابعة من المعتزلة يأتي علي رأس هؤلاء ثمامة بن الأشرس ( ت 213 هـ ) ويليه أبو الهذيل محمد العلاف ( ت 235 هـ ) ثم أبو أسحق إبراهيم بن سيار النظام ( ت 231 هـ ) وأبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم ( ت 225 هـ ) وكذلك أبو موسى عيسى بن صبيح المردار راهب المعتزلة ت ( 226 هـ ) وأستاذ الجعفرين :جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ولاستكمال صورة الروابط بين المعتزلة والمأمون لا بد من الإشارة إلى صلة هذا الخليفة بثلاثة رجال ينسبون كلهم ،أو بعضهم إلى المعتزلة هم الجاحظ ( ت 255 هـ ) وبشر المريسي ( ت 218 هـ ) وأحمد بن أبي دؤاد ( ت 240 هـ ) وكتاب طبقات المعتزلة جعل أحمد بن دؤاد والجاحظ من الطبقتين السادسة والسابعة باستثناء بشر المريسي فلا علاقة له بالمعتزلة يقينا مع أن الدكتور جدعان لم يشر إلى ذلك . وكتاب المحنة يبين علاقة هؤلاء بالتفصيل مع المأمون من ( ص 65- ص 98 ) من خلال العرض يتبين وخاصة العرض من خلال علاقة ثمامة والمأمون أن المأمون ليس معتزليا وهذا ما أكده الكتاب انظر ( ص 65 – 69 ) .
            أما القسم الثالث من الفصل الأول وهو آخر قسم في هذا الفصل فأنه مكرس لفحص علاقة أحمد بن أبي دؤاد في المحنة فأحمد بن دؤاد متقلدٌ أسمى مناصب الدولة منصب قاضي القضاة ومهام قاضي القضاة جسيمة أولها اختيار القضاة وعزلهم وبالتالي الإشراف على عملية فصل الخصومة سواء بين طرفين مشخصين أو بين طرف مشخص وآخر هو حق الطاعة أو حق الإسلام أو حق الأمة الإسلامية ولا بد من أن ينهض بأعباء وظيفة ولهذا كان لا بد من أن يكون المرجع في الامتحان، وإذ يقوم بذلك فإنما يقوم به حسب مذهبه.
            ويذهب الدكتور جدعان إلى أن ابن أبي دؤاد لم يكن متعطشاً للدم والسلطة والقسر ولا شك انه كان ذا عرق نبيل أبي النفس كريماً وليس أدل على ذلك من موقفه من أهل الكرخ حين رقق المعتصم حتى أطلق له مالاً قسمه على الناس فضلاً عن مال عنده ويخرج الدكتور جدعان في كتابه المحنة قائلاً " والمدقق في وقائع المحنة يتبين بوضوح أن أحمد بن أبي دؤاد كان يحاول دوماً التخفيف من حدتها والبحث عن الوسائل المجدية من أجل ذلك " وينفي الدكتور جدعان أية علاقة لأبي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي ( ت 240 هـ ) والذي أعجب به المعتصم إعجابا شديداً فقدمه وأوسع عليه ، ومع هذا فلا علاقة له بالمحنة ومع رحيل المعتصم سنة ( 227 هـ ) وتولي الواثق ( 227- 232 هـ ) لا يشك الدكتور جدعان أن علاقة احمد بن أبي دؤاد بالواثق هي نفس علاقته بالمعتصم أي علاقة الوظيفة لا غير ، فلماذا يتحمل المعتزلة ولم يكونوا خلفاء الدولة بل أن أكثرهم على عدم ولاء للدولة إلى حد القطيعة ، والذين اتصلوا بخلفاء الدولة إنما اتصلوا بحكم الوظيفة ، أو بحكم الإعجاب بهم . أو بحكم حضور جلسات الجدال في أيام المأمون، ولم يكن ما أصاب ابن أبي دؤاد وأهله من محن على يدي المتوكل، راجع إلا لأنهم كلهم سواء بالاهتمام بالحفاظ على سلطتهم السياسية وفي سبيلها ولا جلها يكون ما يظهر من مواقف عقدية.
            ويعنون الدكتور فهمي الفصل الثاني ويستغرق الصفحات من (111- 187) وهو هنا يؤرخ للمحن كواقع تاريخي (المقصود بالمحنة امتحان الفقهاء والقضاء وأهل الحديث بل والشهود بمقولتهم في القرآن) ومن تعرض لمثل هذا الامتحان من الكثرة منهم من يذكر التاريخ ومنهم من لا يذكره فعلام ارتباط المحنة بأحمد بن حنبل دون غيره ؟ مع أن المصادر التاريخية تجمع على أنه لم يجلد أكثر من ( 68 ) سوطاً على ثلاث فترات لقد استطاع الأعلام الحنبلي الميكا فيلي أن يضخم صورة تلك المحنة بحيث ارتبطت بأحمد بن حنبل ، والقارئ للمحنة (كما جمعها ابن عمه وتلميذة حنبل بن اسحق) يدرك الفجوات الواضحة والكثير في سياق هذه المحنة ، وهذا وحده كاف كدعوة للدخول إلى دراسة دواعي المحنة ورجالها الفصل الثالث في كتاب المحنة الذي يستغرق الصفحات من ( 187 – 263 ) وهي دراسة تركز على رسائل المأمون في محاولة لاكتشاف الدواعي من خلال الوعي على المعطى التي تقدمه تلك الرسائل ولاكتمال الصورة ، وجه الكتاب النظر إلى الممتْحَنين من حيثُ واقعهم العقدي وواقعهم العملي ، ولقد ركز المأمون في رسائله على بيان الصور القاتمة في واقعهم العملي ، وقد بلغ عدد من توجهت الدراسة إليهم أربعون شخصاً يتوزعون على العراق والشام ومصر ويتوزعون من ناحية أخرى على أهل الحديث وأهل الرأي والفقهاء وواحد منهم هو عم الخليفة المدعو إبراهيم بن المهدي ليس من هؤلاء .
            وفي آخر الفصل الثالث يحاول الكتاب بناء صورة لفكر المأمون وعقيدته مع أن المادة المتيسرة لمثل هذه الدراسة قليلة ولا تفي بالغرض، ويتعرض من خلال الهامش ص (233- 235) لنظريات تفسر الدواعي التي أدت إلى قيام المأمون بجعل الإمام الثامن للشيعة الاثنا عشرية وليا لعهده، ويخرج الكتاب بصورة عقدية وفكرية وواقعية تخالف ما استقر في الأذهان عن المأمون وليس من وجاهة نقل صورة عن الممتحنين من مصادر تعد في موقع التحيز لهم .
            أما الفصل الرابع وهو أهم فصول الكتاب بل تعتبر الفصول السابقة مقدمة له والذي يعنونه الدكتور باسم تسويات لحساب التاريخ ص ( 267 – 290 ) فهو يكشف عن واقع دور المعتزلة في المحنة ، معلناً أن لا علاقة للمعتزلة في هذه المحنة ، ويكشف حقيقة أهل الحديث ـ وخاصة أبو مسهر الدمشقي وأحمد بن حنبل ـ وقيام سلطة لهم من خلال العامة موازية للسلطة ، بل والتهديد الفعلي لها ، وأنهم أصحاب هوى أموي ، وقد شارك أبو مسهر بالذات في الثورة مع السفياني ( 195- 198 هـ ) ورغم القضاء على ثورة السفياني ومرور عقدين عليها إلا أن المأمون يكشف عام ( 217 هـ ) أثناء زيارة لدمشق استمرار الهوى الأموي فيها مما جعله يدرك الخطر ، خطر أهل الحديث إدراكاً واقعياً ويشعر قارئ هذا الفصل بمقدار كبير من الإثارة .
            ويختم الكتاب في الفصل الخامس بعنوان جدلية الديني والسياسي ص (293 – 359) ليرى أن قضية المحنة محكومة بالصراع على سلطة، وهي هنا بالتأكيد الصراع بين الديني والسياسي، ولكن الدكتور لا يبين لنا الفروق الواضحة بين ما هو سياسي وبين ما هو ديني، وهل من الحكمة أن تتكون حدوداً فاصلة بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي؟!!! إذ لا شك أن أحدهما يؤثر في الآخر على وجه ما ، وإذا كانت غاية الديني الآخرة من خلال الالتزام بالدين ، فإن غاية السياسي الإسلامي السلطوي الآخرة من خلال إحسان العمل السياسي ، طبعا المقصود السياسي الراشد ، لقد نقلنا الدكتور في كتابه القيم ضمن رحلة شيقة في التاريخ من خلال المراجعة للمحنة ومحاولة الوصول للأسباب المختفية وراءها وهذا ما يحاول الكتاب إبرازه وبيانه جلياً واضحاً لحساب التاريخ كما قرر الدكتور في مدخله.

            تعليق


            • #36

              الفصل الرابع
              مقتل الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب

              هذه القضية شائكة لأن معظم مصادرها كتبت بيد الروافض من الشيعة وطبقا لأهوائهم فزيفوا الحقائق وللأسف وجد هذا الزيف من الأيادي المغرضة من يتلقفها ويروج لها حتى أنك تجد لها صدى في أمهات الكتب والتي تحتوي على مثل ذلك الاتهام.
              فمن هو الإمام علي الرضا
              نسب الإمام علي الرضا ومولده:
              هو الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، وسيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء بنت سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
              هذا وقد ولد الإمام علي الرضا بالمدينة المنورة عام 143 ه‍ (760 م) أو عام 148 ه‍ (765 م) أو عام 153 ه‍ (770 م)، وتوفي عام 203 ه‍ (818 م)، وفي رواية المسعودي: وكان مولد الرضا بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة للهجرة، وكان الخليفة العباسي " المأمون " (198 - 218 ه‍ / 813 - 833 م) قد زوج ابنته " أم حبيبة " للإمام علي الرضا، وزوج الأخرى لولده الإمام محمد الجواد (المسعودي: مروج الذهب 2 / 418.).
              ويذهب " ابن خلكان " (608 - 681 ه‍) إلى أن ولادة الإمام الرضا إنما كانت يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة بالمدينة، وقيل:
              بل ولد سابع شوال، وقيل ثامنه، وقيل سادسه، سنة إحدى وخمسين ومائة، وتوفي في آخر يوم من صفر سنة اثنتين ومائتين، وقيل بل توفي خامس ذي الحجة، وقيل: ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين بمدينة " طوس "، وصلى عليه المأمون، ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد، وكان سبب موته أنه أكل عنبا فأكثر منه، وقيل: بل كان مسموما، فاعتل منه ومات، رحمه الله تعالى (ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 270.).
              وأما أم الإمام علي الرضا فهي أم ولد، يقال لها " أم البنين " واسمها " أزوى " وقيل " خيزران ". وكنية الإمام الرضا: أبو الحسن، وألقابه: الرضا - وهو أشهرها - والصابر والزكي والولي.
              أولاد الإمام الرضا: - روى الشيخ المفيد في " الإرشاد " و " ابن شهرآشوب " في " مناقب آل أبي طالب " و " الطبرسي " في " إعلام الورى بأعلام الهدى " أن الإمام علي الرضا، لم يترك ولدا، إلا " الإمام محمد الجواد " (فضائل الإمام علي ص ٢٣٤.).
              غير أن الخشاب، إنما يقول في كتابه " مواليد أهل البيت ": ولد الرضا خمسة بنين وابنة واحدة، وهم: محمد القانع والحسن وجعفر وإبراهيم والحسين، والبنت اسمها عائشة (نور الأبصار ص ١٦٠، وفي هامش رقم ٢ ص ٢٢٨ " من كتاب عمدة الطالبين "يقول: للإمام الرضا ثلاثة أولاد: موسى ومحمد وفاطمة.).

              الإمام الرضا والإمامة:
              شاع عن الإمام الرضا أنه كان يرفض الإمامة - بمعنى قيادة الأمة- في حين أن رأيه في ذلك الأمر منافٍ تماما لما قد أشيع عنه وإليك رأي الإمام الرضا فيها حيث يقول:
              " إن الإمام زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين، إن الإمامة أس الإسلام النامي، وفرعه السامي، بالإمامة تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف ".
              " والإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والحجة البالغة، الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها العالم، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار، الإمام البدر المنير، والسراج الظاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي ".
              " الإمام المطهر من الذنوب، والمبرأ من العيوب، المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول، ونسل المطهرة البتول، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمن من الخطأ والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه " (الكليني: أصول الكافي ص 96 - 97، عطية مصطفى مشرفة: نظم الحكم في مصر في عصر الفاطميين (358 - 567 ه‍ / 968 - 1171 م) - القاهرة 1948 ص 270.).
              يقول الإمام جعفر الصادق في الإمامة " الله عز وجل أعظم من أن يترك الأرض بغير عادل، إن زاد المسلمون شيئا ردهم، وإن نقصوا شيئا أتمه لهم، وهو حجة على عباده (أصول الكافي ص 84، 86).)
              هذا وقد وصف الإمامة أيضا فقال: " إن الإمامة أحد قدرا، وأعظم شأنا، وأعلى مكانا، وأمنع جانبا، وأبعد غورا، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها بآرائهم، أو يقيموا إماما باختيارهم، إن الإمامة خص الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام - بعد النبوة والخلة - مرتبة ثالثة، شرفه بها، وأشاد بها ذكره، فقال تعالى: (إني جاعلك للناس إماما) (سورة البقرة: آية ١٢٤)، فقال الخليل سرورا بها (ومن ذريتي) (سورة البقرة: آية ١٢٤) قال تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) (سورة البقرة: آية ١٢٤)، فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرم الله خليله بأن جعلها في ذريته، أهل الصفوة والطهارة، فقال تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة، وكلا جعلنا من الصالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) (سورة الأنبياء: آية ٧٢.).
              وظلت في ذريته يرثها بعض عن بعض، حتى ورثها الله تعالى النبي العربي محمدا (صلى الله عليه وسلم)، فقال تعالى (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (سورة آل عمران: آية ٦٨)، فكانت له خاصة، فقلدها عليا، عليه السلام، بأمر الله تعالى، على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان، بقوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان، لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) (سورة الروم: آية ٥٦) فهي في ولد الإمام علي بن أبي طالب خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وسلم) (الكليني : الكافي 1/ 199).
              ويقول الإمام الرضا في الإمامة أيضا: هي منزلة الأنبياء، وإرث الأصفياء، إن الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وميراث الحسن والحسين، عليهم السلام(الكليني: الكافي 1 / ٢٠٠، نبيلة عبد المنعم داود: نشأة الشيعة الإمامية ص374 - ٢٧٥ (بغداد ١٩٦٨).).

              الإمام الرضا والمأمون:
              كان الخليفة المأمون (198 - 218 ه‍ / 813 - 823 م) مولعا بالسماع إلى العلماء، وجدالهم ونقاشهم، فكان يجمع له العلماء والفقهاء والمتكلمين، من جميع الأديان، فيسألونه، ويجيب الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق أحد منهم، إلا اعتراف بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور، حتى قيل أن أحد العلماء - وهو محمد بن عيسى اليقطيني - جمع من مسائل الإمام الرضا أمامه، وأجوبتها حوالي 18 ألف مسألة -.
              هذا وفي كتب الشيعة الكثير من هذه المسائل، ومنها:
              أن المأمون سأل الإمام الرضا فقال: يا ابن رسول الله، إن الناس يروون عن جدك (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: خلق الله آدم على صورته، فما رأيك؟.
              قال الإمام: إنهم حذفوا أول الحديث الذي يدل على آخره، وهذا هو الحديث كاملا: " مر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، برجلين يتسابان، ويقول أحدهما للآخر:
              قبح الله وجهك، ووجها يشبهك فقال النبي (صلى الله عليه وسلم)، للساب: لا تقل هذا، فإن الله خلق آدم على صورته، أي على صورة من تشتمه، وعليه يكون شتمك لخصمك هذا، شتم لآدم عليه السلام.
              ومنها: أنه سئل: أين كان الله؟ وكيف كان؟ وعلى أي شيء يعتمد؟.
              فقال: إن الله تعالى كيف الكيف، فهو بلا كيف، وأين الأين فهو بلا أين، وكان اعتماده على قدرته.
              ومعنى جواب الإمام: أن الله خلق الزمان، وخلق الأحوال، فلا زمان له ولا حال، وغني عن كل شيء، فلا يعتمد على شيء، غير ذاته بذاته.
              ومنها: أنه سئل: عن معنى إرادة الله، فقال: هو فعله لا غير، ذلك أن يقول للشيء: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق لسان، ولا همة ولا تفكر، ولا يكف كذلك، ولا كما.
              ومنها: أنه سئل عن معنى قول جده الإمام الصادق: " لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين " رغم أن الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه - أي الأئمة - فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك، أما معنى " الأمر بين الأمرين ". فهو وجود السبيل إلى إتيان ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، أي أن الله سبحانه وتعالى، قدره على فعل الشر وتركه كما أقدره على الخير وتركه، وأمره بهذا، ونهاه عن ذاك.

              تعليق


              • #37

                ومنها: أنه سئل عن الإمامة، فقال: إن الله لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، حيث قال عز من قال: " ما فرطنا في الكتاب من شيء) (سورة الأنعام: آية 38)، وأنزل في حجة الوداع، (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا) (سورة المائدة: آية 3).
                والإمامة من إكمال الدين، وإتمام النعمة، وقد أقام لهم الإمام علي علما وإماما، ومن زعم أن النبي (صلى الله عليه وسلم)، لم يكمل دينه - ببيان الإمام - فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر.
                إن الإمامة لا يعرف قدرها، إلا الله، فهي أجل قدرا، وأعظم شأنا، وأعلى مكانة من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها بآرائهم.
                إن الإمامة خلافة الله والرسول، وزمام الدين ونظام المسلمين، والإمام يحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، ويقيم الحدود، ويذب عن الدين، والإمام أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، وهو مطهر من الذنوب، مبرأ من العيوب، لا يدانيه أحد من خلقه، ولا يعادله عالم، ولا يوجد له بديل، ولا له مثيل، فأين للناس أن تستطيع اختيار مثل هذا (محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 240 - 242.).
                هذا وقد سئل الإمام الرضا عن العترة: أهم الآل أم غير الآل؟
                فقال: هم الآل، فقالت العلماء: فهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: أمتي آلي، وهؤلاء الأصحاب يقولون: آل محمد هم أمته.
                فقال الإمام: أخبروني: فهل تحرم الصدقة على الآل؟ قالوا: نعم، قال:
                فتحرم على الأمة، قالوا: لا.
                قال: هذا فرق بين الآل والأمة، أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين، دون سواهم، قالوا: ومن يا أبا الحسن، فقال: من قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) (سورة الحديد: آية ٢٦)، فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين، دون الفاسقين (أنظر: الصدوق: عيون الأخبار ١ / ٢٣٠، الطبري: بشارة المصطفى ص 282، نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 272.).
                وفي مناظرة جرت في مجلس المأمون بين الإمام الرضا والعلماء، وقد بين فيها الرضا فضل آل البيت، فلقد سأل المأمون عن معنى قول الله تعالى:
                (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (سورة فاطر: آية 32.).
                فقالت العلماء: أراد الله بذلك الأمة كلها، فسأل المأمون الرضا عن ذلك.
                فقال الإمام الرضا: أراد الله العترة الطاهرة، لأنه لو أراد الأمة، لكانت جميعها في الجنة، يقول الله: (فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير) (سورة فاطر: آية 32)، ثم جمعهم كلهم في الجنة.
                فقال تعالى: (جنات عدن يدخلونها) (سورة النمل: آية ٣١) فصارت الوراثة للعترة الطاهرة، لا لغيرهم.
                فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟.
                فقال الإمام الرضا: الذين وصفهم الله في كتابه فقال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرا) (سورة الأحزاب: آية ٣٣)، وهم الذين قال فيهم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (أنظر عن حديث الثقلين (صحيح مسلم ١٥ / ١٧٩، مسند الإمام أحمد ٣ / ١٧، ٤ / ٤٦٦، ٣٧١، ٥ / ١٨١،فضائل الصحابة للإمام أحمد ١ / ١٧١ - ١٧٢، ٢ / ٥٧٢، ٥٨٥، ٦٠٣، ٧٨٦،كنز الأعمال1 / ٤٥، ٤٧، ٤٨، ٩٦، ٩٧، ٦ / ٣٩٠، ٧ / ١٠٣، سنن البيهقي ٢ / ١٤٨، ٧ / ٣٠، مجمع الزوائد للبيهقي ٥ / ١٩٥، ٩ / ١٦٣ - ١٦٤، المستدرك للحاكم ٣ / ١٧، ١٠٩، ١٤٨،سنن الدرامي2 / 431، مشكل الآثار للطحاوي 4 / 368، صحيح الترمذي 2 / 308، أسد الغابة لابن الأثير 2 / 13، 3 / 147، حلية الأولياء لأبي نعيم 1 / 355، 9 / 64، ابن تيمية: رسالة فضل أهل البيت وحقوقهم 75، 9086، 117).).
                وهناك كذلك آية المباهلة: قال الله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (سورة آل عمران: آية 61.).
                والذين اختارهم الله في هذه الآية، واصطفاهم للمباهلة، هم بالذات الذين اصطفاهم وعناهم في آية (ثم أورثنا الكتاب)، ولا يختلف اثنان في أن المراد بأنفسنا " على " وبأبنائنا " الحسن والحسين " ونسائنا " فاطمة " وهذه خاصة لا يتقدمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه مخلوق) أنظر أدلة أخرى (محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 258 - 261).
                ومن المعروف أن آية التطهير، وحديث الثقلين، من أهم الأدلة - عند الشيعة الإمامية خاصة - في حصر الإمامة في سيدنا الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - وأولاده من بعده، وبهذا احتج الإمام الرضا على الخليفة المأمون، وأكد أن الوراثة فيهم، لا في غيرهم.
                وسأل المأمون الإمام الرضا فقال. يا أبا الحسن، إني فكرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك، محمولا على الهوى والعصبية؟.
                فقال الإمام الرضا: لو أن الله تعالى بعث محمدا (صلى الله عليه وسلم)، من وراء أكمة من هذه الأكمات، فخطب إليك ابنتك، أكنت تزوجه إياها؟.
                فقال المأمون: سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال الرضا: أفتراه يحل له أن يخطب إلي؟.
                قال: فسكت المأمون، ثم قال: أنتم والله أمس برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، رحما (المفيد: الفصول المختارة من العيون والمحابس 1 / 15 - 16، نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 273 - 274.).
                وسأل المأمون الإمام الرضا يوما، فقال: ما يقول بنو أبيك في جدنا العباس بن عبد المطلب؟.
                فقال الإمام الرضا: ما يقولون في رجل فرض الله طاعة بنيه على خلقه، وفرض طاعته على بنيه فأمر له المأمون بألف درهم (ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 271.).
                المأمون وولاية العهد للإمام الرضا:
                اختلفت الآراء بالنسبة لموقف المأمون بالنسبة للعلويين، فمن قائل: إنه كان شديد الميل إليهم - طبعا لا تكلفا - يقول السيوطي: وفي سنة إحدى ومائتين خلع المأمون أخاه المؤتمن من العهد، وجعل ولي العهد من بعده، " علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق "، حمله على ذلك إفراطه في التشيع، حتى قيل: إنه هم أن يخلع نفسه، ويفوض الأمر إليه، وهو الذي لقبه " الرضا "، وضرب الدراهم باسمه، وزوجه ابنته، وكتب إلى الآفاق بذلك، وأمر بترك السواد، ولبس الخضرة (السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 307 (القاهرة 1964).).
                هذا وكان الخليفة المأمون يحرص على حضور جنائز رؤساء العلويين، مثل " يحيى بن الحسين بن زيد " الذي صلى عليه بنفسه، ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه، على حين أرسل أخاه " صالحا " لينوب عنه في جنازة أحد العباسيين الأقرباء، وقد مات بعد " يحيى " بقليل، فلما عزى صالح أم المتوفى - وهي زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، ابنة عم الخليفة المنصور - وكانت لها عند العباسيين هيبة ومنزلة عظيمة، واعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه، ظهر غضبها، وقالت لحفيدها: تقدم فصل على أبيك، وتمثلت بقول الشاعر:
                سبكناه ونحسبه لجينا * فأبدى الكير عن خبث الحديد
                ثم قالت لصالح: قل له يا ابن مراجل، أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد " لوضعت ذيلك على فيك، وعدوت خلف جنازته "..
                وحين مات " محمد بن جعفر " - وكان قد أرسل إلى خراسان بعد خروجه على المأمون - دخل المأمون بين عمودي السرير، فحمله حتى وضعه في لحده، وقال: هذه رحم مجوفة منذ مائتي سنة، وقضى دينه، وكان عليه نحو ثلاثين ألف دينار.
                ويرى بعض الباحثين أن المأمون - كما سنرى - إنما كان يفضل الإمام علي بن أبي طالب على غيره من الخلفاء الراشدين، ويرى أنه أحق بالخلافة منهم، ويرجعون هذا الاعتقاد إلى تأثير البيئة التي تربى فيها المأمون، فإنه كان في أول أمره في حجر " جعفر البرمكي " ثم انتقل إلى " الفضل بن سهل "، وكلاهما يضمر التشيع، فاختمرت عنده هذه الفكرة - على غير ما كان عليه آباؤه - ولهذا كان المأمون يعامل الطالبيين معاملة تناسب اعتقاده في فضل أبيهم، وظل على عقيدته هذه إلى آخر حياته (محمد مصطفى هدارة: المأمون - الخليفة العالم - القاهرة 1966 ص 70 - 71 (أعلام العرب رقم 95).).
                ويستدل هذا الفريق على صحة رأيه بما رواه الطبري في تاريخه، والذهبي في دول الإسلام، والسيوطي في تاريخ الخلفاء من أنه في سنة إحدى عشرة ومائتين أمر بأن ينادي: " برئت الذمة ممن ذكر معاوية بن أبي سفيان بخير، وأن أفضل الخلق - بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) - علي بن أبي طالب " (السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 308، تاريخ الطبري 10 / 243.).
                ويروي المسعودي: أنه في سنة اثنتي عشرة ومائتين نادى منادي المأمون:
                " برئت الذمة من أحد الناس ذكر معاوية بخير، أو قدمه على أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وتكلم في شيء من التلاوة أنها مخلوقة، وغير ذلك، وتنازع الناس في السبب الذي من أجله أمر بالنداء في أمر معاوية، فقيل في ذلك أقاويل، منها أن بعض سماره حدث بحديث عن مطرق بن المغيرة بن شعبة الثقفي.
                وقد ذكر هذا الخبر " الزبير بن بكار " (172 ه‍ / 788 م - 256 ه‍ / 870 م) في كتاب " الموفقات " قال: سمعت المدائني يقول: قال مطرق بن المغيرة بن شعبة: وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية، فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، فرأيته مغتما، فانتظرته ساعة، وظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: ما لي أراك مغتما منذ الليلة.
                قال: يا بني إني جئت من عند أخبث الناس، قلت له: وما ذاك؟ قال:
                قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت منا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيرا، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوانك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.
                فقال لي: هيهات هيهات، ملك أخو " تيم " فعدل وفعل ما فعل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو " عدي "، فاجتهد وشمر عشر سنين، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر، ثم ملك أخونا عثمان، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعل به، وأن أخا هاشم (وفي رواية ابن أبي كبشة) يصرخ به في كل يوم خمس مرات: " أشهد أن محمدا رسول الله "، فأي عمل يبقى مع هذا؟ لا أم لك، والله إلا دفنا دفنا (المسعودي: مروج الذهب ٢ / ٤٢٩ - ٤٣٠ (بيروت ١٩٨٢)، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5// ١٢٩ - ١٣٠ (بيروت ١٩٦٥) (وانظر مخالفة معاوية للسنة في أمور عدة شرح نهج البلاغة 2/131).).
                وأن المأمون لما سمع هذا الخبر، بعثه ذلك على أن أمر بالنداء على حسب ما وضعنا، وأنشئت الكتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر، فأعظم الناس ذلك وأكبروه، واضطربت العامة منه، فأشير عليه بترك ذلك، فأعرض عما كان هم به (المسعودي 2 / 430).
                هذا فضلا عن وصية المأمون (198 - 218 ه‍ / 813 - 833 م) لأخيه المعتصم (218 - 227 ه‍ / 833 - 842 م) والتي يقول فيها " وهؤلاء بنو عمك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأحسن صحبتهم وتجاوز عن سيئتهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى " (محمد مصطفى هدارة: المأمون ص ٧١ - ٧٢.).
                وفي الكامل: قال: " يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إذ أنا نقلتها من غيرك إليك، قال: اللهم نعم، قال: هؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي - صلوات الله عليه - فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأقبل من محسنهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى " ابن الأثير الكامل في التاريخ 6 / 431، وانظر تاريخ الطبري 10 / 295.).
                ويمكن أن نفسر في ضوء هذا الاعتقاد، ما قاله المأمون للسيدة زينب بنت سليمان بن علي، التي كان العباسيون يعظمونها حين سألته عما دعاه من نقل الخلافة من بيته إلى بيت الإمام علي بن أبي طالب، قال: يا عمة، إني رأيت عليا حين ولي الخلافة أحسن إلى بني العباس، وما رأيت أحدا من أهل بيتي، حين أفضى الأمر إليهم، كافؤوه على فعله في ولده، فأحببت أن أكافئه على إحسانه (محمد مصطفى هدارة: المأمون ص 72).
                وأسند الصولي: أن بعض آل بيته (أي بيت المأمون) قال: إنك على بر أولاد علي بن أبي طالب، والأمر فيك، أقدر منك على برهم، والأمر فيهم، فقال: إنما فعلت ما فعلت، لأن أبا بكر لما ولي لم يول أحدا من بني هاشم شيئا، ثم عمر ثم عثمان كذلك، ثم ولي علي فولى عبد الله بن عباس البصرة، وعبيد الله اليمن، ومعبدا مكة، وقثم البحرين، وما ترك أحدا منهم حتى ولاه شيئا، فكانت هذه منة في أعناقنا، حتى كافأته في ولده بما فعلت (السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 308.).
                والمأمون حين قال ذلك، وحين كتب وصيته، وحين أخذ المواثيق على أخيه المعتصم - وهو يحتضر - كان بعيدا عن تأثير " الفضل بن سهل "، بعد أن قضى الأخير نحبه منذ زمن طويل، وإن كان اعتقاده - مع ذلك - لا يخلو من تأثير قديم، صحب نشأته.
                على أن هناك وجها آخر للنظر، يذهب أصحابه إلى أن التشيع إنما كان قد انتشر في عهد المأمون - فضلا عن عهد أبيه من قبله - حتى امتدت جذوره إلى البلاط الملكي، فكان الفضل بن سهل، ذو الرياستين، وزير المأمون شيعيا، وكذلك كان " طاهر بن الحسين الخزاعي " قائد المأمون، الذي فتح له بغداد، وقتل أخاه الأمين (193 - 198 ه‍ - / 808 - 813 م) وكثير سواهما، كانوا شيعة، حتى أن المأمون خشي عاقبة هذين الرجلين، فقتل الفضل، وولى طاهرا إمارة هرات - أي عزله عن قيادة الجيش إلى وظيفة أدنى - وكانت الطاهرية كلها تتشيع - كما قال ابن الأثير في حوادث عام 250 ه‍ (محمد الحسين المظفري: تاريخ الشيعة ص 50 (ط 1353 ه‍)، محمد جواد مغنية: الشيعة والحاكمون ص 164 - 165 الشيعة في الميزان ص 165 – 166).

                تعليق


                • #38
                  وروي أن الخليفة المأمون اجتمع بالإمام علي الرضا، وقال له: رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك.
                  قال الرضا: إن كانت الخلافة حقا لك، وأنت أهل لها، فلا يجوز أن تخلع نفسك منها، وإن لم يكن لك حق بها، فلا يجوز أن تعطيها لغيرك.
                  قال المأمون: لا بد لك من قبول هذا الأمر.
                  ويروي الحافظ ابن كثير القصة كالتالي: وبايع المأمون لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب، أن يكون ولي العهد من بعده، وسماه " الرضا من آل محمد "، وطرح لبس السواد، وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين، وذلك أن المأمون رأى أن عليا الرضا خير أهل البيت، وليس في بني العباس مثله في عمله ودينه، فجعله ولي عهده من بعده (ابن كثير البداية والنهاية: 10/ / 247 القاهرة 1351 ه‍ / 1933 م).).
                  ويروي الإمام الطبري (تاريخ الطبري 10 / 43، حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي 2 / 185 - 186. القاهرة 1964.)..
                  على أن علي الرضا لما قدم " مرو " أحسن المأمون وفادته، وجمع رجال دولته وأخبرهم أنه قلب نظره في أولاد العباس، وأولاد علي بن أبي طالب، فلم يجد أحدا أفضل، ولا أورع ولا أعلم منه، لولاية عهده، ولقبه " الرضا من آل محمد " وأمر جنده بطرح السواد - شعار العباسيين - وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك لليلتين خلتا من رمضان عام 201 ه‍.
                  وفي تاريخ اليعقوبي: وبايع المأمون للرضا علي بن موسى بن جعفر، بولاية العهد من بعده، وكان ذلك يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة 201 ه‍، وألبس الناس الأخضر مكان السواد، وكتب بذلك إلى الآفاق، وأخذ البيعة للرضا، ودعا له على المنابر، وضربت الدنانير والدراهم باسمه) تاريخ اليعقوبي 2 / 448 (بيروت 1980)..
                  ويقول المسعودي: ووصل إلى المأمون أبو الحسن علي بن موسى الرضا، وهو بمدينة " مرو " فأنزله المأمون أحسن إنزال، وأمر المأمون بجميع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في ولد العباس، وولد علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحدا أفضل، ولا أحق بالأمر من " علي بن موسى الرضا "، فبايع له بولاية العهد، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، وزوج محمد بن علي بن موسى الرضا بابنته " أم الفضل ". وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، وأظهر بدلا من ذلك الخضرة في اللباس والأعلام وغير ذلك، ونمى ذلك إلى من بالعراق من ولد العباس، فأعظموه، إذ علموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم. (المسعودي: مروج الذهب 2 / 417.).
                  وحج بالناس " إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق " - أخو الرضا بأمر المأمون - واجتمع من في مدينة السلام (بغداد) من ولد العباس ومواليهم وشيعتهم، على خلع المأمون، ومبايعة إبراهيم بن المهدي، المعروف " بابن شكلة " فبويع له يوم الخميس لخمس ليال خلون من المحرم، سنة اثنتين ومائتين وقيل: إن ذلك في سنة ثلاث ومائتين.
                  وفي رواية ابن خلكان: كان المأمون قد زوج علي الرضا ابنته " أم حبيبة " في سنة اثنتين ومائتين، وجعله ولي عهده، وضرب اسمه على الدينار والدرهم، وكان السبب في ذلك أنه استحضر أولاد العباس - الرجال منهم والنساء - وهو بمدينة " مرو " من بلاد خراسان، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفا، ما بين الكبار والصغار، واستدعى علي الرضا، فأنزله أحسن منزلة، وجمع خواص الأولياء وأخبرهم: أنه نظر في أولاد العباس، وأولاد علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، فلم يجد في وقته أحدا أفضل، ولا أحق بالأمر، من علي الرضا، فبايعه، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، ونمى الخبر إلى من بالعراق من أولاد العباس، فعلموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم، فخلعوا المأمون، وبايعوا إبراهيم المهدي - وهو عم المأمون - وذلك يوم الخميس لخمس خلون من المحرم سنة اثنتين ومائتين، وقيل: سنة ثلاث ومائتين (ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 269 - 270.).

                  على أن هناك اتجاها يذهب إلى أن " الفضل بن سهل " إنما هو الذي كان من وراء تولية المأمون للرضا ولاية العهد، ذلك أن المأمون عندما بلغه موت أبيه الرشيد، ورجوع رجاله إلى أخيه " الأمين " بالأموال والأحمال، وقد نكثوا عهده، خاف على نفسه فجمع خاصته في " مرو " وشاورهم في الأمر، وأظهر لهم ضعفه، وأنه لا يقوى على أخيه، فنشطوه ووعدوه خيرا، وقال له الفضل بن سهل: أنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم، اصبر، وأنا أضمن لك الخلافة، فاطمأن خاطر المأمون بهذا الوعد الصريح وقال له: صبرت: وجعلت الأمر لك، فقم به " وسماه ذا الرياستين " - أي رياسة السيف والقلم - وجهز الفضل الجيوش بقيادة " طاهر بن الحسين "، وانتهت الحرب بفتح بغداد، وقتل الأمين عام 198 ه‍، وأصبح الفضل صاحب الكلمة النافذة في الدولة، وولى أخاه " الحسن بن سهل " كور الجبال والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن، على أن يكون مقامه في بغداد.
                  وبذل الفضل كل جهده في تحريض المأمون على بيعة الإمام علي الرضا بولاية العهد من بعده، وربما كانت تلك البيعة شرطا لمساعدته في استرجاع الخلافة له، وربما حسن الفضل له ذلك، وإن لم يشترطه، فأجابه المأمون إلى ذلك، إما وفاء لوعده، أو مجاراة له للمكر به، أو أنه فعله عن حسن ظن في العلويين، وقد رضع حب الشيعة منذ طفولته، وكان يظهر التشيع، فبايع لعلي الرضا سنة 201 ه‍، وجعله الخليفة من بعده، ولقبه " الرضا من آل محمد "، وأمر جنده بطرح السواد، ولبس الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق (جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 3 / 438 - 439 (بيروت 1967).).
                  هذا وتذهب رواية إلى أن " الفضل بن سهل " لم يفعل ذلك حبا للإمام علي الرضا، يروي الجهشياري أن كلاما دار بين الفضل وبين " نعيم بن أبي حازم " - بحضرة المأمون - فقال له نعيم: إنك تريد أن تزيل الملك عن بني العباس إلى ولد علي، ثم تحتال لتجعل الملك كسرويا، ولولا أنك أردت ذلك، لما عدلت عن لبسه إلى علي وولده وهي البياض إلى الخضرة، وهي لباس كسرى والمجوس (الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 312 - 313 (القاهرة 1938).)، هذا فضلا عن الخلاف الذي حدث بين الإمام الرضا والفضل بن سهل بعد البيعة.
                  هذا ويذهب " ابن طباطبا " إلى أن الفضل بن سهل، وزير المأمون، هو القائم بهذا الأمر (أي بيعة الإمام الرضا) والمحسن له (ابن طباطبا: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ص 217 (بيروت 1960).).ولسوف يتضح لك أن هذا كله وهم وأنه ليس للفضل أي فضل على الإمام ذلك حينما نعرض لهذا الأمر في حينه.
                  ابن طباطبا: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن علي بن الحسن بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، الحجازي الأصل، المصري الدار والوفاة، كان طاهرا فاضلا كريما، واسع الثراء، ولد عام 286 ه‍، وتوفي في الرابع من رجب عام 348 ه‍، ودفن بقرافة مصر، وقبره مشهور بإجابة الدعاء، روي أن رجلا حج وفاته أن يزور النبي (صلى الله عليه وسلم)، فضاق صدره لذلك، فرأى النبي (صلى الله عليه وسلم) في نومه فقال له: إذا فاتتك الزيارة، فزر قبر عبد الله بن أحمد بن طباطبا (وفيات الأعيان 3 / 81 - 83).
                  وأما قصة اختيار الإمام الرضا وليا لعهد المأمون - عند أبي الفرج الأصفهاني - فيرويها كالتالي:
                  " وجه المأمون إلى جماعة من آل أبي طالب، فحملوا إليه من المدينة، وفيهم علي بن موسى الرضا، فلما قدموا على المأمون، أنزلهم دارا، وأنزل علي بن موسى الرضا دارا، ووجه إلى الفضل بن سهل، فأعلمه أنه يريد العقد له، وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك، ففعل واجتمعا بحضرته، فجعل الحسن يعظم ذلك عليه ويعرفه ما فيه إخراج الأمر من أهله عليه، فقال له: إن عاهدت الله أن أخرجها إلى أفضل آل أبي طالب، إن ظفرت بالمخلوع، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل، فاجتمعا معه على ما أراد.". أبو الفرج الأصفهاني: هو علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي، صاحب " الأغاني " و "مقاتل الطالبيين " كان عالما بالأنساب والسير وأيام الناس، ولد عام ٢٨٤ ه‍، وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة عام ٣٥٦ ه‍، ببغداد (وفيات الأعيان ٣ / ٣٠٧ - ٣٠٩، شذرات الذهب ٣ / ١٩ - ٢٠، ميزان الاعتدال 3 / ١٢٣، معجم الأدباء ١٣ / ٩٤، تاريخ بغداد 11 / 398).
                  فأرسلهما إلى علي بن موسى الرضا، فعرضا ذلك عليه فأبى، فتهدداه وتهدده المأمون حتى قبل، وحين أجلسه للبيعة جعل ابنه العباس أول المبايعين "(أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبين ص 368 - 370.).
                  ومن الواضح من هذا النص أن المأمون كانت له رغبة حقيقية في اختيار ولي عهده من آل أبي طالب، وأن فكره قد اتجه إلى " علي الرضا " فأنزله في دار مستقلة، وأن معارضة الحسن بن سهل ربما كانت من تدبير أخيه الفضل حتى يبعدا عن نفسيهما تهمة التأثير على المأمون في هذا الأمر الخطير، وربما كانت فكرة اختيار أحد العلويين فكرتهما في الأصل، وأن اختيار الإمام الرضا إنما كان اختيار المأمون وحده، ومن المعروف أن هناك ودا غير متبادل بين الإمام الرضا وبين الفضل والحسن ابني سهل، وقد نجح الإمام الرضا في إزالة الغشاوة عن عيني المأمون من ناحيتهما، وتبصيره بما كان يحاول الفضل إخفاءه عنه من أحوال البلاد المضطربة حتى أنهم بايعوا عمه " إبراهيم بن المهدي " خليفة بدله، وبدا المأمون وكأنه يسمع ذلك لأول مرة، حتى رد على الإمام الرضا قائلا: " إنهم لم يبايعوا له بالخلافة، وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم "، بل وأخبر الإمام الرضا عن الحرب التي تدور رحاها بين إبراهيم و " الحسن بن سهيل "، وأن الناس تكره مقام الفضل وأخيه من المأمون (محمد مصطفى هدارة: المأمون ص 75 - 76.).
                  ولنقدم الآن صورة مختصرة من كتاب العهد الذي كتبه المأمون بخطه للإمام علي الرضا - كما جاء في كتاب الفصول المهمة:
                  " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد، لعلي بن موسى بن جعفر، ولي عهده، أما بعد، فإن الله عز وجل، اصطفى الإسلام دينا، واختار له من عباده رسلا، دالين عليه، هادين إليه، يبشر أولهم بآخرهم، ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله تعالى إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)،على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهدا عليهم، ومهيمنا، وأنزل عليه كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فلما انقضت النبوة، وختم الله بمحمد (صلى الله عليه وسلم)، الرسالة، جعل قوام الدين، ونظام المسلمين في الخلاقة ونظامها، والقيام بشرائعها وأحكامها ".
                  " ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة، وحمل مشاقها، وخبر مرارة طعمها، وذاقها مسهرا لعينيه، منصبا لبدنه، مطيلا لفكره، فيما فيه عز الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمة، وجمع الكلمة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، منعه ذلك من الخفض والدعة، ومهنأ العيش، محبة أن يلقى الله سبحانه وتعالى، مناصحا له في دينه، وعباده، ومختارا لولاية عهده، ورعاية الأمة من بعده، أفضل من يقدر عليه، في دينه وورعه وعلمه، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه، مناجيا لله تعالى، بالاستخارة في ذلك، ومسألته الهامة، ما فيه رضاه وطاعته، في آناء ليله ونهاره، معملا فكره ونظره في طلبه والتماسه، في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، مقتصرا ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا في المسألة ممن خفي عليه أمره، جهده وطاقته، حتى استقصى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة، واستبرأ أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسألة ".
                  وكانت خبرته - بعد استخارة الله تعالى - وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في الفئتين جميعا: علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الذائع، وورعه الظاهر والشائع، وزهده الخالص النافع، وتخليه عن الدنيا، وتفرده عن الناس، وقد استبان له منذ لم تزل الأخبار عليه منطبقة، والألسنة عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، والأخبار واسعة، ولما لم يزل يعرف به من الفضل، يافعا وناشئا، وحدثا وكهلا، فلذلك عقد له بالعهد والخلافة من بعده، واثقا بخيرة الله في ذلك، إذ علم الله أنه فعله إيثارا للدين، ونظرا للإسلام والمسلمين، وطلبا للسلامة، وثبات الحجة، والنجاة في اليوم الذي تقوم فيه الناس لرب العالمين ".
                  " ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه، فبايعه الكل مطيعين مسارعين، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيره ممن هو أشبك رحما، وأقرب قرابة، وسماه " الرضا "، إذ كان مرضيا عند الله تعالى، وعند الناس، وقد آثر طاعة الله تعالى، والنظر لنفسه وللمسلمين، والحمد لله رب العالمين ".
                  " كتبه بيده في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان المعظم، سنة إحدى ومائتين " (نور الأبصار ص 156 - 157.).
                  ولنقدم الآن صورة ما على ظهر العهد، بخط الإمام علي بن موسى الرضا:
                  " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الفعال لما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلاته على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين، أقول، وأنا علي بن موسى بن جعفر، أن أمير المؤمنين، عضده الله بالسداد، ووفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاما قطعت، وأمن نفوسا فزعت، بل أحياها، بعد أن كانت من الحياة أيست، فأغناها بعد فقرها، وعرفها بعد نكرها، متبعا بذلك رضا رب العالمين، لا يريد جزءا من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين ".
                  " وإنه جعل إلي عهده، والإمرة الكبرى، إن بقيت بعده، فمن حل عقدة أمر الله بشدها، أو فصم عروة أحب الله اتساقها، فقد أباح حريمه، وأحل محرمه، إذ كان بذلك زاريا على الإمام، منتهكا حرمة الإسلام ".
                  " وخوفا من شتات الدين، واضطراب أمر المسلمين، وحذر فرصة تنتهز، وعلقة تبتدر، جعلت لله تعالى على نفسي عهدا، أن استرعاني أمر المسلمين، وقلدني خلافة العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة، أن أعمل فيهم بطاعة الله، وطاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا أسفك دما، ولا أبيح فرجا، ولا مالا، إلا ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه، وأن أتحرى الكفاءة جهدي وطاقتي ".
                  " وجعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا، يسألني الله عنه، فإنه عز وجل يقول: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا، وإن أحدثت أو غيرت أو بدلت، كنت للعزل مستحقا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته في عافية، وللمسلمين، والجامعة والجفر، يدلان على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل الله بي ولا بكم، إن الحكم إلا لله يقص الحق، وهو خير الفاصلين، لكني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله تعالى على نفسي بذلك، وكفى بالله شهيدا ".
                  " وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، والحاضرين من أولياء نعمته، وخواص دولته، هم: الفضل بن سهل، وسهل بن الفضل، والقاضي يحيى بن أكثم، وعبد الله بن طاهر، وثمامة بن الأشرس، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، وذلك في شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين " (نور الأبصار ص 175.).
                  ثم بعد ذلك صورة لشهادة الشهود: القاضي يحيى بن أكثم وعبد الله بن طاهر وحماد بن النعمان وبشر بن المعتمر والفضل بن سهل.
                  ثم أمر أمير المؤمنين بقراءة هذه الصحيفة - التي هي صحيفة العهد والميثاق - ظهرا وبطنا، بحرم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بين الروضة والمنبر، على رؤوس الأشهاد، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم، وسائر الأولياء، والأجناد، بعد أخذ البيعة عليهم، واستيفاء شروطها، بما أوجبه أمير المؤمنين من العهد لعلي بن موسى الرضا، لتقوم به الحجة على جميع المسلمين، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت لآراء الجاهلين، وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه (نور الأبصار ص 157 - 158.).
                  هذا وقد كتب الخليفة المأمون إلى " عبد الجبار بن سعد المساحقي " - عامله على المدينة - أن أخطب الناس، وأدعهم إلى بيعة " الرضا علي بن موسى " فقام خطيبا فقال:
                  " يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا " علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب "، ستة آباء، هم ما هم، من خير، من يشرب صوب الغمام " (ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 359 (بيروت 1983).).

                  تعليق


                  • #39

                    موقف الامام من الخلافة سؤال يطرح نفسه :

                    هل يعقل أن رجلا تعرض عليه الخلافة ، أو ولاية العهد ، بل ما هو أقل منهما بمراتب ؛ ويعرف جدية العرض ، ثم يرفض ذلك رفضا قاطعا ، ثم يهدد ، فلا يقبل إلا بما هو أبعد منالا ، وأقل احتمالا ـ بالنسبة إلى سنه ـ وبشروط تبعده كل البعد عن مسرح السياسة والحكم ، وتجعل من كل شيء مجرد إجراءات شكلية ، لا أثر لها ..
                    هل يعقل أن رجلا من هذا القبيل ـ يسلم من أن ينسب إلى ما لا يرضى أحد بأن ينسب إليه؟!! ..
                    ألم يكن من الواجب أن يكون الامام مستبشرا مبتهجا كل الابتهاج لما سيؤول إليه أمره. ومدافعا عن المأمون ، ونظام حكمه ، ومناصرا له ، بكل ما أوتي من قوة وحول؟! .. مبررات قبول الإمام لولاية العهد :

                    ولقد قبل الإمام ولاية العهد ، ولكن .. بعد أن عرف أن ثمن رفضه لها لن يكون غير نفسه التي بين جنبيه. هذا عدا عما سوف يتبع ذلك من تعرض العلويين ، وكل من يتشيع لهم إلى أخطار هم في غنى عنها .. ولو فرض أنه كان له هو الحق ـ في مثل هذه الظروف ـ في أن يعرض نفسه للهلاك ، فلن يكون له حق أبدا في أن يعرض غيره من شيعته ومحبيه ، والعلويين أجمع إلى الهلاك أيضا ..
                    هذا ..
                    عدا عن أنه كان عليه أن يحتفظ بحياته ، وحياة شيعته ومحبيه ؛ لأن الامة كانت بأمس الحاجة إلى وعيهم وإدراكهم ؛ ليكونوا لها قدوة ومنارا ، تهتدي ، وتقتدي به ، في حالكات المشاكل ، وظلم الشبهات ..
                    نعم ..
                    لقد كانت الامة بأمس الحاجة إلى الإمام ، وإلى من رباهم الإمام ؛ حيث كان قد غزاها في ذلك الوقت تيار فكري ، وثقافي غريب ، من الزندقة والالحاد ، وشاعت فيها الفلسفات والتشكيكات بالمبادئ الإلهية الحقة ؛ فكان على الإمام أن يقف ، ويقوم بواجبه ، وينقذ الامة ، ولقد كان ذلك منه بالفعل ؛ فلقد قام بواجبه ، وأدى ما عليه ، على أكمل وجه ، رغم قصر المدة التي عاشها بعد البيعة نسبيا ؛ ولهذا نقرأ في الزيارة الجوادية ؛ « .. السلام على من كسرت له وسادة والده أمير المؤمنين ؛ حتى خصم أهل الكتب ، وثبت قواعد الدين .. »( البحار ج 102 ص 53.).
                    والمراد بذلك : الإمام الرضا..
                    ولو أنه رفض ولاية العهد ، وعرض نفسه ، وشيعته ، ومحبيه للهلاك فلسوف لا يكون لموته ؛ وموتهم أدنى أثر في هذا السبيل ، بل كان الاثر عكسيا ، وخطيرا جدا ..
                    أضف إلى ذلك : أن قبول الإمام بولاية العهد ، معناه اعتراف من العباسيين عملا ، مضافا إلى القول : بأن العلويين لهم حق في هذا الأمر ، بل إنهم هم الأحق فيه ، وأن الناس قد ظلموهم حقهم هذا. وأن ظلم الناس لهم ليس معناه عدم ثبوت ذلك الحق لهم ..
                    وقد رأينا ابن المعتز يهتم في الاستدلال على أن جعل المأمون الرضا وليا للعهد ، لا يعني أن الحق في الخلافة كان للرضا والعلويين ، دون المأمون والعباسيين ؛ وأنه انما أعطاهم ذلك عن طريق التقوى والورع ، وليثبت لهم أن الخلافة التي ثاروا من أجل الوصول إليها وقتلوا انفسهم في سبيلها لا تساوي عنده جناح بعوضه ، فهو يقول :

                    وأعطاكم المأمون حق خلافة = لنا حقها لكنه جاد بالدنيا
                    ليعلمكم أن التي قد حرصتم = عليها وغودرتم على اثرها صرعى
                    يسير عليه فقدها غير مكثر =كما ينبغي للصالحين ذوي التقوى
                    فمات الرضا من بعد ما قد علمتم = ولاذت بنا من بعده مرة أخرى (1)



                    (1)مناقب ابن شهرآشوب ج 4 ص 365. وديوان ابن المعتز ص 22 ـ 23 وان اهتمام ابن المعتز الواضح بقضية الرضا مع المأمون، كما يظهر من شعره هنا، والذي قدمناه مع التعليق عليه تحت عنوان: ظروف البيعة.. يدلنا على أن هذه القضية كان لها في الامة صدى واسعا، وآثارا هامة، لم يكن بوسع ابن المعتز التغاضي عنها ، والسكوت عليها.
                    وأيضا .. حتى لا يتناساهم الناس ، ويقطعوا آمالهم بهم. وحتى لا يصدق الناس ما يشاع عنهم من أنهم مجرد علماء فقهاء ، لا يهمهم العمل لما فيه خير الامة. ولا يفكرون في الخروج إلى المجتمع بصفتهم رواد صلاح واصلاح ولعل إلى ذلك كله ، يشير الإمام في قوله لمحمد ابن عرفة ، عند ما سأله عن قبوله بولاية العهد ؛ فقال له : « يا ابن رسول الله ، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟!! » .. فأجابه الإمام: « ما حمل جدي على الدخول في الشورى .. »( راجع : مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 364 ، ومعادن الحكمة ص 192 ، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 140 ، والبحار ج 49 ص 140 141.). هل الإمام راغب في هذا الأمر :

                    ولكن هذا كله وسواه ، لا يعني أن الإمام كان راغبا في أي من الخلافة ، أو ولاية العهد ؛ فإن ما ذكرناه لا يبرر ذلك ؛ حيث إنه لا يعدو عن أن يكون من الفوائد التي كان يمكن الحصول على بعضها من دون الدخول في هذا الأمر. والبعض الآخر لا يساوي في أهميته وخطره ، ما سوف يجره الدخول في هذا الأمر من مآس ومشاكل ، وما سوف يترتب عليه من آثار سيئة وخطيرة.
                    وهو يوضح لنا أيضا حقيقة حاله ، ونظام حكمه لو أنه قبل ولاية العهد أيضا ؛ إذ أنه كان يعلم : أن وصوله للخلافة ، وتسلمه لأزمة الحكم والسلطان تعترضه عقبات صعبة ، وأهوال عظيمة ، لن يكون من اليسير التغلب عليها ، وتجاوزها.
                    فلقد كان يعلم أن آماله بالبقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون ، وهو بهذه السن المتقدمة ، بالنسبة لسن المأمون .. كانت ضعيفة جدا ، لا تبرر له الاقدام على قبول مثل هذا الأمر ، إلا إذا كان يريد أن يعطي الناس انطباعا عن نفسه ، بأنه لم يزهد بالدنيا ، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه ، كما كان يريد المأمون!!!
                    ومع غض النظر عن كل ذلك .. فإنه لو قدر له البقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون ، فلسوف يصطدم بتلك العناصر القوية ذات النفوذ ، والتي لن ترضى عن سلوكه في الحكم بصورة عامة ، وفوق ذلك كله ، لسوف يصطدم بمؤامرات العباسيين ، وأشياعهم ، والذين كانوا على استعداد لأن يعملوا المستحيل للحيلولة بينه وبين ذلك ، ولو تمكن من ذلك ؛ فلسوف لا يدخرون وسعا ، ويجندون كل ما لديهم من طاقة وقوة وحول ؛ من أجل زعزعة حكمه ، وتقويض سلطانه ، وخلق المشاكل الكثيرة له ؛ لتضاف إلى ذلك الركام الهائل من المشاكل التي كانت تواجه الحكم ..
                    إنهم سوف لا يمكنونه من قيادة الامة قيادة صالحة ، وسليمة وحكيمة ؛ وليمنى ـ من ثم ـ بالفشل الذريع ، والخيبة القاتلة ..
                    ولسوف يجدون هناك مرتعا خصبا لمؤامراتهم ، ودسائسهم في تلك الدولة المترامية الأطراف ، الطافحة بالمشاكل ، وذلك عند ما يجدون أن الإمام لن يرضى إلا أن يحكم بحكم جدّيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله تعالى عنه. وأن الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم سوف لا يكونون مستعدين لنقبل حكم كهذا. ولا أن ينقادوا لحاكم يريد منهم ذلك ، ويخضعوا لارادته ، بعد أن كانوا قد اعتادوا على حياة الخلفاء الامويين ، والعباسيين ، المليئة بالانحرافات والموبقات ..
                    اللهم إلا أن يقوم الإمام في فترة ولاية العهد ، أو بداية حكمه باعداد مسبق ، وتعبئة عامة وشاملة ، على جميع المستويات ، وفي مختلف المجالات .. ولن يفسح العباسيون ، وأشياعهم له المجال للقيام بذلك الاعداد ، وتلك التعبئة مهما كلفهم ذلك من تضحيات. وإذا كان لا بد من كلمة :

                    وإذا كان لا بد في نهاية المطاف من كلمة ؛ فاننا نقول : إن أولئك الذين عاشوا في تلك الفترة ، ووقفوا على الظروف والملابسات التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام ـ إن هؤلاء ولا شك ـ كانوا أقدر منا على فهم جميع ما كان يرمي إليه الامام من كل كلمة ، كلمة ، مما كتبه على وثيقة العهد ..

                    تعليق


                    • #40
                      ملاحظات هامة :

                      إن من الامور الغريبة حقا أن نرى نفس الخليفة يكتب وثيقة العهد ـ الطويلة جدا!! ـ بخط يده .. وأغرب منه أنه تقدم إلى الامام ، وقال له : « اكتب خطك بقبول هذا العهد. وأشهد الله والحاضرين عليك، بما تعده في حق الله ورعاية المسلمين .. ».( مآثر الأناقة ج 2 ص 332.).
                      وهذا إن دل على شيء ، فإنما يدل على مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة إلى المأمون ، وأنه يريد تطويق هذا الموضوع من جميع جهاته ، وإن استلزم ذلك كل تلك الامور ؛ وإلا .. فما هو الداعي لأن يكتب له العهد بخط يده!!! ثم أن يتقدم إليه بنفسه!!! .. ثم ما الداعي لأن يطلب من الإمام ذلك!!!.
                      هذا .. ولا بأس أيضا بملاحظة تعبير المأمون بـ « قبول »!!!. ثم ملاحظة أنه طلب منه أن يكتب هذا القبول بـ « خط يده »!!!. ثم طلب منه أن يشهد الله والحاضرين على نفسه!!!.
                      ولعمري .. لو كان ما كتبه الإمام الرضا على وثيقة العهد من شخص عادي آخر ، لكان يقال عنه الشيء الكثير تعظيما وتبجيلا ؛ حيث إنه لم يضل عن خطته التي اختطها لنفسه ، ولا حاد عن نهجه قيد أنملة .. مع أن المأمون كان قد فاجأه بطلب الكتابة على الوثيقة ، ولم يكن هو مستعدا ، ولا متوقعا لذلك ؛ لأن العادة لم تكن قد جرت على ذلك ..
                      وهذا ولا شك مما يزيد من عظمة الإمام ، ويعلي من شأنه ، ويستدعي المزيد من التعظيم والتبجيل له ..
                      هذا ولقد لقد قام الخليفة المأمون بما يلي:
                      خلع أخاه المؤتمن من ولاية العهد.
                      بدل شعار الدولة من السواد إلى الخضرة.
                      أمر ولد العباس وأركان دولته وقادة جيشه بمبايعة الإمام عليه السلام ولياً للعهد.
                      ولنفس السبب أيضا نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضا
                      أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضا ابنته أم حبيبة.، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له ، حيث كان يكبرها الإمام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الاخرى للامام الجواد ، الذي كان لا يزال صغيرا ، أي ابن سبع سنين (راجع مروج الذهب ج 3 / 441 ، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج 11 / 1103، طبع لندن، والبداية والنهاية ج 10 / 269 : أنه (الرضا) لم يدخل بها إلا في سنة 215 للهجرة ، ولكن يظهر من اليعقوبي ج 2 / 454 ط صادر : أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله الى بغداد ، وأمر له بألفي الف درهم ، وقال : إني أحببت أن أكون جدا لأمرئ ، ولده رسول الله ، وعلي بن أبي طالب ، فلم تلد منه. انتهى.
                      وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضا ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضا؛ حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريبا بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في البحث عن ظروف وملابسات وفاته.
                      وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسيا، مفروضا إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسيا أيضا ، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الايرانيين ، ويجعلهم يطمئنون إليه ، خصوصا بعد عودته إلى بغداد ، وتركه مروا ، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل ، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل ، المعروف بثرائه ونفوذه ..).
                      وفاة الرضا
                      هذا وقد اختلف في أمر وفاة الرضا؟ وكيف كان سببه السم الذي سقيه؟
                      ولقد أجمع الشيعة على أن المأمون قد قتله بالعنب المسموم. وواقع الأمر أنه بعد كل الذي قدمناه نستطيع القول بكل يقين أن ذلك الاتهام إنما هو من فعل الرافضة لعنة الله عليهم كما سنوضحه في حينه.
                      ولما توفي الرضا لم يظهر المأمون موته في وقته، وتركه يوما وليلة، ثم وجه إلى محمد بن جعفر بن محمد، وجماعة من آل أبي طالب، فلما أحضرهم أراهم إياه، صحيح الجسد، لا أثر له، بكى، وقال: " عز علي يا أخي أن أراك في هذه الحالة، وقد كنت أؤمل أن أكون قبلك، فأبى الله إلا ما أراد "، وأظهر جزعا شديدا، وحزنا كثيرا، وخرج مع جنازته يحملها حتى أبى الموضع الذي هو مدفون فيه الآن، فدفنه هناك إلى جانب أبيه هارون الرشيد (أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبين ص ٣٧١ - ٣٧٢.).
                      ويروي اليعقوبي عن أبي الحسن بن أبي عباد قال: رأيت المأمون يمشي في جنازة الرضا، حاسرا في مبطنة بيضاء، وهو بين قائمتي النعش يقول: " إلى من أروح بعدك يا أبا الحسن، وأقام عند قبره ثلاثة أيام، يؤتى في كل يوم برغيف وملح فيأكله، ثم انصرف في اليوم الرابع، وكان سن الرضا أربعا وأربعين سنة (تاريخ اليعقوبي 2/ 453).
                      وفي رواية المسعودي: وفي خلافته (أي المأمون) قبض علي بن موسى الرضا مسموما بطوس، ودفن هناك، وهو يومئذ ابن تسع وأربعين سنة، وستة أشهر، وقيل غير ذلك (المسعودي: مروج الذهب 2 / 395.).
                      ولعل من الجدير بالإشارة أن الشيعة لا تجد تناقضا بين أن يجد الرضا كل هذه الحظوة لدى المأمون حين بايع له بولاية العهد، وزوجه أخته (الصحيح ابنته)، وبين أن يدس له المأمون السم في العنب، ثم يصلي عليه، ويدفنه بجوار قبر أبيه الرشيد في مشهده بطوس، فقد أصبح مقدرا على الأئمة - منذ الإمام الحسين بن علي - أن يكون قاتلوهم هم الخلفاء، أو بإيعاز منهم (أحمد صبحي: المرجع السابق ص 378.).
                      هذا ولما كان الإمام علي الرضا مات شهيدا، فقد أقيمت حول قبره مدينة جديدة يعيش فيها زوار قبر الإمام، والمتبركون به، سميت " المشهد الرضوي " أو " مشهد " والتي أخذت بالتدريج تأخذ مكان مدينة " طوس " القديمة، حتى قضت عليها، وغدت تمثل الآن أكبر عتبات الشيعة المقدسة - بجوار كربلاء والنجف - وهكذا يحق للشيعة أن يذكروا أن مدفن الإمام علي الرضا في طوس - والذي يعد من أكبر مزارات الشيعة بجوار مدفن هارون الرشيد - وهو من كان في عليائه وجبروته، وذيوع صيته، حتى فاقت شهرته جميع الخلفاء - يحق للشيعة أن يذكروا أن قبر الرشيد هذا، إنما قد اندرس، وأهمل شأنه، بينما ظهر قبر الإمام الرضا، يقصده زوار الشيعة، ومحبي آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، من أطراف البلاد، وشاسع الأمصار، وهكذا يعلو شأن الأئمة الروحيين بعد مماتهم، بينما لا يعار سلاطين الأرض، أدنى اهتمام منذ اللحظة التي توارى فيها أجسادهم التراب (أحمد صبحي: المرجع السابق ص 389.).
                      وروى ابن خلكان (وفيات الأعيان 3 / 270 - 271.) (608 - 681 ه‍) أن بعض أصحاب أبي نواس
                      - الشاعر المشهور - قال له: ما رأيت أقبح منك، ما تركت حمرا، ولا طردا، ولا معنى، إلا قلت فيه شيئا، وهذا " علي بن موسى الرضا " في عصرك لم تقل فيه شيئا، فقال: والله ما تركت ذلك، إلا إعظاما له، وليس قدر مثلي أن يقول في مثله، ثم أنشد بعد ساعة هذه الأبيات:
                      قيل لي أنت أحسن الناس طرا * في فنون الكلام النبيه لك من جيد القريض مديح * يثمر الدر في يدي مجتنيه فعلام تركت مدح ابن موسى * والخصال التي تجمعن فيه قلت لا أستطيع مدح إمام * كان جبريل خادما لأبيه وفي الإمام علي الرضا يقول أيضا:
                      مطهرون نقيات جيوبهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا من لم يكن علويا حين تنسبه * فما له في قديم الدهر مفتخر الله لما أبرأ خلقا فأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيها البشر فأنتم الملأ الأعلى وعندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور .

                      على أن الأهم أن الإمام الرضا - بعد أن أصبح وليا لعهد الخلافة - لم يعد إماما للشيعة وحدهم، وإنما أصبح إماما للمسلمين جميعا، بما فيهم أهل السنة والزيدية، فضلا عن سائر فرق الشيعة المتناحرة، ومن ثم فقد اجتمعت الأمة على إمامته واتباعه والالتفاف حوله، وكان الإمام الرضا - رضوان الله عليه - هو الإمام المطاع في العالم الإسلامي كله .
                      لقد كان من نتائج اختيار المأمون للإمام ، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ : أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والامصار. ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا ، سوى ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط : ظلم الولاة وجورهم ، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه ... الفضل في قفص الاتهام :

                      وأخيرا .. فإن بعض المؤلفين ، كأحمد أمين ، وجرجي زيدان(تاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني جزء 4 ص 439.) وأحمد شلبي(التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 320.) ، وغيرهم. وبعض المؤرخين كابن الأثير في الكامل ، طبعة ثالثة ج 5 ص 123 ، وابن الطقطقي في :الفخري في الآداب السلطانية ص 217 ، وغيرهما .. يرون أن الفضل بن سهل كان العامل الرئيسي في لعبة « ولاية العهد » هذه ، وأن المأمون كان في ذلك واقعا تحت تأثير الفضل ، الذي كان يتشيع.

                      تعليق


                      • #41
                        الفضل بريء من كل ما نسب إليه :

                        أما نحن فإننا بدورنا نستطيع أن نؤكد على ما يلي :
                        إن ما بأيدينا من النصوص التاريخية يابى عن نسبة التشيع للفضل ، بل وحتى عن نسبة إشارته على المأمون بهذا الأمر ، فضلا عن كونه المدبر له ، والقائم به .. بل إن بعض النصوص تفيد أن الفضل كان عدوا للامام ، حيث إنه كان من صنائع البرامكة(البحار ج 49 ص 143 ، 113 ، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 166 ، وص 226.) ، أعداء أهل البيت .وأنه لم يكن حتى راغبا في البيعة للرضا ، وأنه وأخاه قد مانعا في عقد العهد للرضا(مقاتل الطالبيين ص 563 ، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 270 ، ونور الأبصار للشبلنجيّ ص 142 ، وكشف الغمة ج 3 ص 66 ، وروضة الواعظين ج 1 ص 269 ، والبحار ج 49 ص 145 ، وارشاد المفيد ص 310 ، 311 ، وغير ذلك ..) ؛ فكيف يكون هو المشير على المأمون بالبيعة له .. بل لم يكن يعلم أن المأمون يريد عقد البيعة له إلا بعد وصوله إلى خراسان واحضار المأمون له ، واعلامه بأنه يريد عقد البيعة له على ما في مقاتل الطالبيين ص 562 والطبري وغيرهما. وإن كان ربما يناقش في ذلك بمنافاته لرسالة الفضل التي ارسلها إلى الإمام وهو في المدينة والتي أوردها الرافعي في التدوين.
                        ولو أنه كان ممن يتشيع للإمام ، فكيف يمكن أن يتآمر عليه ، ويحاول أن يجعل للمأمون ذريعة للاقدام على التخلص منه ، وذلك عند ما ذهب إلى الرضا ، وحلف له بأغلظ الأيمان ، ثم عرض عليه قتل المأمون ، وجعل الأمر إليه. وان كنا لا نستبعد أن يكون قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون ؛ وبدافع من حقده الدفين على الامام ، وحسده له ؛ يريد بذلك تمهيد السبيل لقتله ؛ ليخلو له الجو ، وليفعل من ثم ما يشاء وحسبما يريد.
                        وأيا ما كانت الحقيقة ، فإن النتيجة ليست سوى الخزي والعار ، والخيبة القاتلة بالنسبة للفضل في هذه القضية ..
                        وإذا كان نفوذه قد بلغ حدا يجعل المأمون يتنازل عن عرشه ـ الذي قتل من أجله أخاه ـ لرجل غريب ، فلماذا لا يعمل هذا النفوذ من أجل أن يمنع المأمون عن ذلك السلوك اللاإنساني ، الذي انتهجه مع الإمام ، ابتداء من حين وجود الإمام في المدينة ، وإلى آخر لحظة عاشها معه ، وبعد ذلك إلى ما شاء الله ..
                        هذا كله من جهة .. موقف الإمام من الفضل ينفي نسبة التشيع له :

                        ومن جهة ثانية .. لو كان للفضل فضل في مسألة البيعة للإمام ، أو كان ممن يتشيع له ، لم يكن من اللائق من الرضا ، أن يخبر المأمون بما عرضه عليه الفضل من قتل المأمون ، وجعل الأمر إليه .. ولا من المناسب أن يوصيه بأن لا يأمن له ، ويخبره بغشه وكذبه ، وأنه يخفي عنه حقيقة ما يجري في بغداد ، وغيرها(تاريخ الطبري ، طبع ليدن ج 11 ص 1025.).
                        ولا من اللائق منه أيضا : أن يعامله تلك المعاملة ، التي لا يعامل بها المحبون المخلصون ، والتي كان فيها الكثير من الخشونة ، والاحتقار والامتهان ، إذ أنه عند ما ذهب إليه الفضل يطلب منه كتاب الامان ، لم يسأله عن حاجته إلا بعد ساعة من وقوفه ، ثم أمره بقراءة الكتاب ، فقرأه ـ وكان كتابا في اكبر جلد ـ وهو واقف ، لم يأذن له بالجلوس ..
                        وكذلك لم يكن من اللائق منه : أن يزري عليه عند المأمون ، فقد ذكر المؤرخون : أنه « .. كان يذكر ابني سهل عند المأمون ، ويزري عليهما ، مما دفعهما إلى السعاية به ، وكان يوصيه أن لا يأمن لهما ». مقاتل الطالبيين ص 565 ، 566 ، وإعلام الورى ص 325 ، وكشف الغمة ج 3 ص 71 ، وروضة الواعظين ج 1 ص 276 ، والبحار ج 49 ، وإرشاد المفيد ، وأعيان الشيعة ، وغير ذلك ..
                        إلى آخر ما هنالك مما لا يصدر من اى انسان عادي آخر في حق من يتشيع له ، فضلا عمن يتسبب في جعله وليا لعهد الخلافة الإسلامية للامة بأسرها. والمأمون نفسه يستنكر ذلك :

                        ومن جهة ثالثة .. فقد كفانا المأمون نفسه مؤونة الحديث عن دور الفضل بن سهل في هذه القضية .. ولا شك أن « عند جهينة الخبر اليقين ».
                        إذ أن الريان بن الصلت ـ وكان من رجال الحسن بن سهل(صرح بأنه من رجاله في كتاب : البحار ج 49 ص 133 ، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 149.)!! ـ عند ما رأى أن القواد والعامة قد أكثروا في بيعة الرضا ، وأنهم يقولون : « إن هذا من تدبير الفضل » .. قال للمأمون ذلك ، فأجابه المأمون : « .. ويحك يا ريان!! أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية ، والقواد ، واستوت الخلافة ، فيقول له : ادفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟! أيجوز هذا في العقل؟!! .. الخ »
                        لا .. أبدا .. لا يمكن أن نتصور ، ولا يجوز في العقل : أن يأتي وزير ملك إليه ، ويطلب منه التنازل عن عرشه ، ويسلمه إلى رجل غريب ، وهو يعلم أن ذلك الملك ، قد قتل أخاه ، وغيره ، وهدم البلاد ، وأهلك العباد ، من أجل ذلك العرش .. هذا مع علمه أنه سوف لا يكون له هو في دولة ذلك الرجل الجديد الغريب ، أي شأن ، أو دور يذكر. أو على الأقل لن يكون له من النفوذ ، والسلطة والطول ، ما كان له مع ذلك الملك الأول. بل سوف يكون كأي فرد عادي آخر ، محكوما لا حاكما ، بكل ما لهذه الكلمة من معنى .. أما حصيلة هذه الجولة :

                        وهكذا .. تأبى الأحداث ، ويأبى المنطق أن يكون للفضل في هذه القضية شيء ما المأمون يرتبك في تبريراته :

                        ولعل من الامور الجديرة بالملاحظة هنا : أن المأمون لم يكن قد حسب حسابا للأسئلة التي سوف تواجهه في هذا الصدد ؛ ولذا نرى أنه كان مرتبكا جدا في تبريراته لما أقدم عليه ؛ فهو تارة يعلل ذلك بأنه :أراد مكافأة علي بن أبي طالب في ولده!! (الفخري في الآداب السلطانية ص 219 ، والبحار ج 49 ص 312 ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 308 ، والتذكرة لابن الجوزي ص 356 ، وشذرات الذهب ، لابن العماد ج 2 ص 3 ، وغير ذلك ..).
                        وأخرى : بأن ذلك كان منه حرصا على طاعة الله ، وطلب مرضاته ؛ ولما يعلمه من فضل الرضا ، وعلمه ، وتقاه .. وأنه أراد بذلك الخير للامة ، ومصلحة المسلمين!! (صرح بذلك في وثيقة العهد. وفي الفخري في الآداب السلطانية ص 217 ، قال : « كان المأمون قد فكر في حال الخلافة بعده ، وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها ، كذا زعم .. » ..
                        وفي البداية والنهاية ج 10 ص 247 قال : « إن المأمون رأى عليا الرضا خير أهل البيت ، وليس في بني العباس مثله : في علمه ، ودينه ؛ فجعله ولي عهده من بعده » ومثل ذلك كثير ..).
                        وثالثة : بأنه أراد أن يفي بنذره : أنه إن أظفره الله بالمخلوع يعني أخاه الأمين الذي قتله ـ أن يجعل ولاية العهد في أفضل آل أبي طالب!!.( الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 241 ، ومقاتل الطالبيين ص 563 ، واعلام الورى ص 320 ، والبحار ج 49 ص 143 ، 145 ، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 112 ، وعيون أخبار الرضا ، وارشاد المفيد ، وغير ذلك ..).

                        تعليق


                        • #42
                          وثائق هامه:
                          رسالة الفضل بن سهل الى الامام الرضا عليه السلام هذه الرسالة :

                          هذه الرسالة هي التي أرسلها الفضل بن سهل إلى الامام (ع) ، يطلب فيها منه القدوم ، من أجل عقد ولاية العهد له ..
                          وقد اطلعت عليها في وقت متأخر ، وتحدثت عن بعض ما يمكن استخلاصه منها في بعض فصول الكتاب ..
                          ونظرا لأهميتها .. فقد آثرت أن أجعلها مع الوثائق الهامة ، ليطلع عليها القارئ بنفسه ..
                          وقد أورد هذه الرسالة أبو القاسم عبد الكريم بن محمد ، بن عبد الكريم الرافعي ، الشافعي ، القزويني ، المتوفى سنة 623 ه‍. في كتابه : « التدوين ».
                          والكتاب موجود منه نسختان خطيتان : إحداهما في مكتبة « ناصرية » القسم الثاني رقم 782 في لكنهو. والاخرى : خطية أيضا موجودة في الاسكندرية .. وهناك نسختان مصورتان عنهما : إحداهما : في مكتبة دفتر تبليغات اسلامي في قم مصورة عن نسخة لكنهو ، والاخرى : في مكتبة المرعشي النجفي العامة في قم مصورة في طهران عن نسخة الاسكندرية.وهي في النسخة المصورة عن لكنهو موجودة في المجلد الثاني .. وفي المصورة عن مكتبة الاسكندرية موجودة في ج 4 ص 51. ونقلها عن هذه النسخة السيد المرعشي النجفي في ج 12 من ملحقات الإحقاق ص 381 ، 382 : نص الرسالة :

                          قال في التدوين : والنص لنسخة : لكنهو :
                          ولما عزم المأمون على تفويض العهد إليه ( أي إلى الرضا ) ، بسعي ذي الرئاستين الفضل بن سهل .. كتب إليه ذو الرئاستين :بسم الله الرحمن الرحيم :
                          لعلي بن موسى الرضا ، وابن رسول الله المصطفى ، المهتدى بهديه ، المقتدى بفعله ، الحافظ لدين الله ، الخازن لوحي الله ، من وليه الفضل ابن سهل ، الذي بذل في رد حقه إليه مهجته ، ووصل ليله فيه بنهاره ..
                          سلام عليك أيها المهتدي ورحمة الله وبركاته.
                          فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله. أما بعد :

                          فإني أرجو أن الله قد أدّى لك ، وأذن لك في ارتجاع حقك ممن استضعفك ، وأن يعظم مننه عليك ، وأن يجعلك الامام الوارث. ويري أعداك ، ومن رغب عنك ، منك ما كانوا يحذرون ..
                          وإن كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين ، عبد الله الامام المأمون ومني : على رد مظلمتك عليك ، وإثبات حقوقك في يديك ، والتخلي منها إليك ، على ما أسأل الله الذي وقف عليه : أن تبلغني ما أكون بها أسعد العالمين ، وعند الله من الفائزين ، ولحق رسول الله من المؤدين. ولك عليه من المعاونين ، حتى أبلغ في توليتك ودولتك كلتا الحسنتين.( الظاهر انها : الحسنيين ، لأنها اقتباس من الآية الكريمة ..).
                          فإذا أتاك كتابي ـ جعلت فداك ـ وأمكنك أن لا تضعه من يدك ، حتى تسير إلى باب أمير المؤمنين ، الذي يراك شريكا في أمره ، وشفيعا في نسبه ، وأولى الناس بما تحت يده .. فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفا ، وبملائكته محفوظا ، وبكلاءته محروسا. وإن الله كفيل لك بكل ما يجمع حسن العائدة عليك ، وصلاح الامة بك ..
                          وحسبنا الله ونعم الوكيل ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ..
                          وكتبت بخطي ..
                          وثيقة ولاية العهد مصادر الوثيقة :

                          نذكر من المصادر التي أوردت هذه الوثيقة ، على سبيل المثال لا الحصر :
                          القلقشندي في صبح الأعشى ج 9 من ص 362 ، إلى ص 366 ، وأكملها بذكر ما كتبه الرضا (ع) والشهود في نفس الجزء من 391 وحتى 393 ، وأوردها أيضا في مآثر الانافة في معالم الخلافة ج 2 من ص 325 حتى ص 336. ، وهي أيضا في شرح ميمية أبي فراس من 299 إلى 303. وفي نور الابصار 142 ، 143 ، وفي البحار ج 49 ص 148 ، إلى 153 ، ومسند الإمام الرضا ج 1 قسم 1 من ص 102 إلى ص 107 ، والفصول المهمة لابن الصباغ ابتداء من ص 293 ، ووسيلة النجاة لمحمد مبين الهندي ابتداء من ص 387 ، طبع لكنهو ، ورواها أيضا الكاشاني في معادن الحكمة ، والشبراوي في الاتحاف بحب الاشراف مختصرا وابن شهر اشوب في مناقب آل أبي طالب ، والاربلي في كشف الغمة ، والسيد الامين في المجالس السنية ، وأعيان الشيعة ، وابن الجوزي في التذكرة ، وذكر الأخيران إنها قد ذكرها عامة المؤرخين. وعن التفتازاني إن الوثيقة كانت موجودة في عهده ، والاربلي أيضا يقول بأنها كانت موجودة في عهده ، وأنه في سنة سبعين وستمائة اطلع على وثيقة العهد الأصلية ، ونقلها في كتابه حرفا فحرفا .. وأشار إليها أيضا ابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية.

                          تعليق


                          • #43
                            نص الوثيقة :

                            بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
                            هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد ، أمير المؤمنين ، لعلي بن موسى بن جعفر ، ولي عهده .. أما بعد :

                            فإن الله عز وجل اصطفى الاسلام دينا ، واصطفى من عباده رسلا دالين عليه ، وهادين إليه ، يبشر أولهم بآخرهم ، ويصدق تاليهم ماضيهم ، حتى انتهت نبوة الله إلى محمد (ص) ، على فترة من الرسل ، ودروس من العلم ، وانقطاع من الوحي ، واقتراب من الساعة ، فختم الله به النبيين ، وجعله شاهدا لهم ، ومهيمنا عليهم. وأنزل عليه كتابه العزيز ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، بما أحل وحرم ، ووعد وأوعد ، وحذر وأنذر ، وأمر به ، ونهى عنه ؛ لتكون له الحجة البالغة على خلقه ؛ ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة ، وإن الله لسميع عليم ..
                            فبلغ عن الله رسالته ، ودعا إلى سبيله بما أمره به : من الحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، ثم بالجهاد والغلظة ،حتى قبضه الله إليه ، واختار له ما عنده (ص) ؛ فلما انقضت النبوة ، وختم الله بمحمد (ص) الوحي والرسالة ، جعل قوام الدين ، ونظام أمر المسلمين بالخلافة ، واتمامها وعزها ، والقيام بحق الله فيها بالطاعة ، التي يقام بها فرائض الله تعالى وحدوده ، وشرائع الاسلام وسننه ، ويجاهد بها عدوه ..
                            فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده ، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ، ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله ، وأمن السبيل ، وحقن الدماء ، وصلاح ذات البين ، وجمع الالفة. وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين ، واختلالهم ، واختلاف ملتهم ، وقهر دينهم ، واستعلاء عدوهم ، وتفرق الكلمة ، وخسران الدنيا والآخرة
                            فحق على من استخلفه الله في أرضه ، وائتمنه على خلقه ، أن يجهد الله نفسه ، ويؤثر ما فيه رضا الله وطاعته ، ويعتد لما الله مواقفه عليه ، ومسائله عنه. ويحكم بالحق ، ويعمل بالعدل فيما أحله الله وقلده ؛ فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود : « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ، ولا تتبع الهوى ، فيضلك عن سبيل الله ، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ». وقال الله عز وجل : « فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون » ، وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال : « لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات ، لتخوفت أن يسألني الله عنها ».
                            وأيم الله ، إن المسئول عن خاصة نفسه ، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله ، ليعرض على أمر كبير ، وعلى خطر عظيم ، فكيف بالمسؤول عن رعاية الامة. وبالله الثقة ، وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة ، والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة ، والفوز من الله بالرضوان والرحمة ..وأنظر الامة لنفسه ، وأنصحهم لله في دينه وعباده ، من خلائقه في أرضه ، من عمل بطاعة الله وكتابه ، وسنة نبيه (ص) في مدة أيامه ، وبعدها ، وأجهد رأيه فيمن يوليه عهده ، ويختاره لامامة المسلمين ورعايتهم بعده ، وينصبه علما لهم ، ومفزعا في جمع الفتهم ، ولمّ شعثهم ، وحقن دمائهم ، والأمن بإذن الله من فرقتهم ، وفساد ذات بينهم واختلافهم ، ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم ، فإن الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام الاسلام وكماله ، وعزه ، وصلاح أهله ، وألهم خلفاءه من توكيده لمن يختارونه له من بعدهم من عظمت به النعمة ، وشملت فيه العافية ، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة ، والسعي والفرقة ، والتربص للفتنة.
                            ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة ، فاختبر بشاعة مذاقها ، وثقل محملها ، وشدة مؤونتها ، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ، ومراقبته فيما حمله منها ، فأنصب بدنه ، وأسهر عينه ، وأطال فكره فيما فيه عز الدين ، وقمع المشركين ، وصلاح الامة ، ونشر العدل ، وإقامة الكتاب والسنة. ومنعه ذلك من الخفض والدعة ، ومهنأ العيش ، علما بما الله سائله عنه ، ومحبة أن يلقى الله مناصحا له في دينه ، وعباده ، ومختارا لولاية عهده ، ورعاية الامة من بعده : أفضل من يقدر عليه : في دينه وورعه ، وعلمه ، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه ، مناجيا بالاستخارة في ذلك ، ومسألته إلهامه ما فيه رضاه وطاعته ، في آناء ليله ونهاره. معملا في طلبه والتماسه في أهل بيته : من ولد عبد الله بن العباس ، وعلي بن أبي طالب فكره ، ونظره. مقتصرا ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه ، وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته .. حتى استقصى أمورهم معرفة ، وابتلى أخبارهم مشاهدة ، واستبرأ أحوالهم معاينة ، وكشف ما عندهم مساءلة ، فكان خيرته بعد استخارته الله ، وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده ، في البيتين جميعا :
                            علي بـن موسى ، بـن جعفر ، بـن محمد ابن علي ، بن الحسين ، بن علي ، بن أبي طالب
                            لما رأى من فضله البارع ، وعلمه النافع ، وورعه الظاهر ، وزهده الخالص ، وتخليه من الدنيا ، وتسلمه من الناس ..
                            وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة ، والألسن عليه متفقة ، والكلمة فيه جامعة ، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل : يافعا ، وناشئا ، وحدثا ، ومكتهلا ، فعقد له بالعقد والخلافة من بعده(في بعض نسخ كشف الغمة في الهامش : أنه (ع) كتب بقلمه الشريف تحت قوله : « والخلافة من بعده » قوله : « بل جعلت فداك ».).. واثقا بخيرة الله في ذلك ، إذ علم الله أنه فعله إيثارا له ، وللدين ، ونظرا للاسلام والمسلمين ، وطلبا للسلامة ، وثبات الحجة ، والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين.
                            ودعا أمير المؤمنين ولده ، وأهل بيته ، وخاصته ، وقواده ، وخدمه فبايعوا مسارعين مسرورين ، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ، ممن هو أشبك منه رحما ، وأقرب قرابة.وسماه « الرضا »( في بعض نسخ كشف الغمة في الهامش : أنه (ع) كتب بقلمه الشريف تحت كلمة : « الرضا » قوله : « رضي الله عنك وأرضاك ، واحسن في الدارين جزاك » وفي اخرى : أنه كتب تحت ذكر اسمه 7 بقلمه الشريف : « وصلتك رحم ، وجزيت خيرا » ، وكتب بقلمه الشريف تحت الثناء عليه : « أثنى الله عليك فأجمل ، وأجزل لديك الثواب فأكمل ».) ؛ إذ كان رضا عند أمير المؤمنين.
                            فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين ، ومن بالمدينة المحروسة ، من قواده وجنده ، وعامة المسلمين ، لأمير المؤمنين ، وللرضا من بعده علي ابن موسى على اسمه وبركته ، وحسن قضائه لدينه وعباده ، بيعة مبسوطة إليها أيديكم ، منشرحة لها صدوركم ، عالمين بما أراد أمير المؤمنين ، بها ، وآثر طاعة الله ، والنظر لنفسه ولكم فيها ، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين بها : من قضاء حقه في رعايتكم ، وحرصه على رشدكم وصلاحكم ، راجين عائدة ذلك في جمع الفتكم ، وحقن دمائكم ، ولمّ شعثكم ، وسد ثغوركم ، وقوة دينكم ، ورغم عدوكم ، واستقامة أموركم.
                            وسارعوا إلى طاعة الله ، وطاعة أمير المؤمنين ؛ فإنه الأمن إن سارعتم إليه ، وحمدتم الله عليه ، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله.
                            وكتب بيده يوم الاثنين ، لسبع خلون من شهر رمضان ، سنة إحدى ومائتين ..
                            قال القلقشندي : « ثم إنه تقدم إلى علي بن موسى ، وقال له : اكتب خطك بقبول هذا العهد ، وأشهد الله ، والحاضرين عليك بما تعده في حق الله ، ورعاية المسلمين ، فكتب علي الرضا تحته إلخ .. ». صورة ما كان على ظهر العهد ، بخط الامام علي بن موسى الرضا

                            بسم الله الرحمن الرحيم :

                            الحمد لله الفعال لما يشاء ، ولا معقب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه ، يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور. وصلاته على نبيه محمد ، خاتم النبيين ، وآله الطيبين الطاهرين ..
                            أقول ـ وأنا علي بن موسى الرضا بن جعفر ـ : إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد ، ووفقه للرشاد ، عرف من حقنا ما جهله غيره ؛فوصل أرحاما قطعت ، وأمن أنفسا فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغيا رضا رب العالمين ، لا يريد جزاء من غيره ، وسيجزي الله الشاكرين ، ولا يضيع أجر المحسنين ..
                            وإنه جعل إليّ عهده ، والإمرة الكبرى ـ إن بقيت ـ بعده ، فمن حلّ عقدة أمر الله بشدها ، وفصم عروة أحب الله إيثاقها ، فقد أباح الله حريمه ، وأحل محرمه ، إذ كان بذلك زاريا على الإمام ، منتهكا حرمة الإسلام. بذلك جرى السالف ، فصبر منه على الفلتات ، ولم يعترض على العزمات ، خوفا من شتات الدين ، واضطراب حبل المسلمين ، ولقرب أمر الجاهلية ، ورصد فرصة تنتهز ، وبائقة تبتدر ..
                            وقد جعلت الله على نفسي ، إن استرعاني أمر المسلمين ، وقلدني خلافته : العمل فيهم عامة ، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته ، وطاعة رسوله (ص) ، وأن لا أسفك دما حراما ، ولا أبيح فرجا ، ولا مالا ، إلا ما سفكته حدود الله ، وأباحته فرائضه. وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي. وجعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا ، يسألني الله عنه ؛ فإنه عز وجل يقول : « وأوفوا بالعهد ، إن العهد كان مسئولا ».
                            وإن أحدثت ، أو غيرت ، أو بدلت ، كنت للغير مستحقا ، وللنكال متعرضا. وأعوذ بالله من سخطه ، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته ، والحول بيني وبين معصيته ، في عافية لي وللمسلمين ..
                            والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك ، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إن الحكم إلا لله ، يقضي بالحق(الظاهر أن الصواب هو « يقص الحق » ، كما في معالم الانافة.)، وهو خير الفاصلين ..
                            لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين ، وآثرت رضاه ، والله يعصمني وإياه ، وأشهدت الله على نفسي بذلك ، وكفى بالله شهيدا ..
                            وكتبت بخطي ، بحضرة أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءه ، والفضل ابن سهل ، وسهل بن الفضل ، ويحيى بن اكثم ، وعبد الله بن طاهر ، وثمامة بن أشرس ، وبشر بن المعتمر ، وحماد بن النعمان ، في شهر رمضان ، سنة إحدى ومائتين .. الشهود على الجانب الأيمن :

                            شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذا المكتوب ، ظهره ، وبطنه.
                            وهو يسأل الله : أن يعرف أمير المؤمنين ، وكافة المسلمين ببركة هذا العهد ، والميثاق. وكتب بخطه في تاريخ المبيّن فيه ..
                            عبد الله بن طاهر بن الحسين ، أثبت شهادته فيه بتاريخه.
                            شهد حماد بن النعمان بمضمونه : ظهره وبطنه ، وكتب بيده في تاريخه.
                            بشر بن المعتمر يشهد بمثل ذلك. الشهود على الجانب الأيسر :

                            رسم أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءه قراءة هذه الصحيفة ، التي هي صحيفة الميثاق. نرجو أن نجوز بها الصراط ، ظهرها وبطنها ، بحرم سيدنا رسول الله (ص) ، بين الروضة والمنبر ، على رءوس الأشهاد ، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم ، وساير الأولياء والأجناد ، بعد استيفاء شروط البيعة عليهم ، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع المسلمين ، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين : « وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه » ..
                            وكتب الفضل بن سهل بأمر أمير المؤمنين بالتاريخ فيه(وفي هامش نسخة مصححة قال مصححها : « قال العبد الفقير إلى الله تعالى ، الفضل بن يحيى عفى الله عنه : قابلت المكتوب الذي كتبه الامام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه ، وعلى آبائه الطاهرين بأصله الذي كتبه الامام المذكور (ع) بيده الشريفة ، حرفا فحرفا. والحقت ما فات منه ، وذكرت أنه من خطه. وذلك يوم الثلاثاء ، مستهل المحرم ، من سنة تسع وتسعين وست مائة الهلالية بواسط ، والحمد لله ، وله المنة .. » انتهى أقول : والذي الحقه هو ما قدمناه في هوامش الصفحات المتقدمة ..).انتهى ..

                            تعليق


                            • #44
                              رسالة المأمون الى العباسيين مصادر الكتاب :

                              هذا الكتاب مذكور في طرائف ابن طاوس ، الترجمة الفارسية من ص 131 ، إلى ص 135 ، نقلا عن كتاب نديم الفريد ، لابن مسكويه ، صاحب كتاب حوادث الاسلام .. وفي البحار للعلامة المجلسي ج 49 من ص 208 إلى ص 214 ، وفي قاموس الرجال ج 10 ص 356 ، إلى 360 ، وفي ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 484 ، 485 مختصرا ، ونقل في الغدير ج 1 ص 212 قسما منه عن عبقات الأنوار للهندي ج 1 ص 147 ، وأشار إليه غير واحد من المؤلفين .. نص الكتاب :

                              كتب العباسيون كتابا إلى المأمون ، وطلبوا منه الاجابة عليه ؛ فأجابهم بما يلي :
                              « بسم الله الرحمن الرحيم : والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآل محمد ، على رغم أنف الراغمين ..
                              أما بعد :
                              عرف المأمون كتابكم ، وتدبير أمركم ، ومخض زبدتكم ، وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم ، وعرفكم مقبلين ومدبرين ، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم ، في مراوضة الباطل ، وصرف وجوه الحق عن مواضعها ، ونبذكم كتاب الله والآثار ، وكلما جاءكم به الصادق محمد (ع) ، حتى كأنكم من الامم السالفة ، التي هلكت بالخسفة ، والغرق ، والريح ، والصيحة ، والصواعق ، والرجم ..
                              أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ .. والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد ، لو لا أن يقول قائل : إن المأمون ترك الجواب عجزا لما أجبتكم ؛ من سوء أخلاقكم ، وقلة أخطاركم ، وركاكة عقولكم ، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم ؛ فليستمع مستمع ، فليبلغ شاهد غائبا .. أما بعد :

                              فإن الله تعالى بعث محمدا على فترة من الرسل ، وقريش في أنفسها ، وأموالها ، لا يرون أحدا يساميهم ، ولا يباريهم ، فكان نبينا (ص) أمينا من أوسطهم بيتا ، وأقلهم مالا ؛ فكان أول من آمن به خديجة بنت خويلد ؛ فواسته بمالها. ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سبع سنين ، لم يشرك بالله شيئا طرفة عين ، ولم يعبد وثنا ، ولم يأكل ربا ، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم ، وكانت عمومة رسول الله إما مسلم مهين ، أو كافر معاند ، إلا حمزة ؛ فإنه لم يمتنع من الاسلام ، ولا يمتنع الاسلام منه ، فمضى لسبيله على بينة من ربه ..
                              وأما أبو طالب : فإنه كفله ورباه ، ولم يزل مدافعا عنه ، ومانعا منه ؛ فلما قبض الله أبا طالب ، فهمّ القوم ، وأجمعوا عليه ليقتلوه ؛فهاجر إلى القوم الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ..
                              فلم يقم مع رسول الله (ص) أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب (ع) : فإنه آزره ووقاه بنفسه ، ونام في مضجعه. ثم لم يزل بعد مستمسكا بأطراف الثغور ، وينازل الأبطال ، ولا ينكل عن قرن ، ولا يولي عن جيش ، منيع القلب ، يؤمر على الجميع ، ولا يؤمر عليه أحد. أشد الناس وطأة على المشركين ، وأعظمهم جهادا في الله ، وأفقههم في دين الله ، وأقرأهم لكتاب الله ، وأعرفهم بالحلال والحرام.
                              وهو صاحب الولاية في حديث « غدير خم » ، وصاحب قوله : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي » ، وصاحب يوم الطائف. وكان أحب الخلق إلى الله تعالى ، وإلى رسول الله (ص). وصاحب الباب ، فتح له ، وسد أبواب المسجد. وهو صاحب الراية يوم خيبر. وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة. وأخو رسول الله (ص) حين آخى بين المسلمين ..
                              وهو منيع جزيل. وهو صاحب آية : « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ، ويتيما ، وأسيرا ». وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء أهل الجنة ، وهو ختن خديجة (ع). وهو ابن عم رسول الله (ص) ، رباه وكفله. وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده. وهو نفس رسول الله (ص) في يوم المباهلة.
                              وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر ينفذان أمرا حتى يسألانه عنه ؛ فما رأى إنفاذه أنفذاه ، وما لم يره رداه. وهو دخل من بني هاشم في الشورى ، ولعمري لو قدر أصحابه على دفعه- في الترجمة الفارسية هكذا : « على دفع علي (ع) عنها إلخ .. ».- عنه (ع) ، كما دفع العباس رضوان الله عليه ، ووجدوا إلى ذلك سبيلا لدفعوه.
                              فأما تقديمكم العباس عليه ؛ فإن الله تعالى يقول : « أجعلتم سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله ، لا يستوون عند الله ».
                              والله ، لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل ، والآي المفسرة في القرآن خلة واحدة في رجل من رجالكم ، أو غيره ، لكان مستأهلا متأهلا للخلافة ، مقدما على أصحاب رسول الله بتلك الخلة ، ثم لم يزل الامور تتراقى به إلى أن ولي أمور المسلمين ، فلم يعن بأحد من بني هاشم إلا بعبد الله بن عباس ، تعظيما لحقه ، ووصلة لرحمه ، وثقة به ، فكان من أمره الذي يغفر الله له ..
                              ثم .. نحن وهم يد واحدة ـ كما زعمتم ـ حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا ، فأخفناهم ، وضيقنا عليهم ، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم .. ويحكم ، إن بني أمية إنما قتلوا من سل منهم سيفا ، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملا ، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت ، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ، ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء ، هيهات ، إنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ..
                              وأما ما وصفتم في أمر المخلوع ، وما كان فيه من لبس ؛ فلعمري ما لبّس عليه أحد غيركم ؛ إذ هونتم عليه النكث ، وزينتم له الغدر ، وقلتم له : ما عسى أن يكون من أمر أخيك ، وهو رجل مغرب ، ومعك الأموال والرجال ، نبعث إليه ، فيؤتى به ؛ فكذبتم ، ودبرتم ،ونسيم قول الله تعالى : « ومن بغي عليه لينصرنه الله .. ».
                              وأما ما ذكرتم : من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا (ع) ؛ فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره ، عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلا ، ولا أظهر عفة ، ولا أورع ورعا ، ولا أزهد زهدا في الدنيا ، ولا أطلق نفسا ، ولا أرضى في الخاصة والعامة ، ولا أشد في ذات الله منه. وإن البيعة له لموافقة رضا الرب عز وجل. ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم ..
                              ولعمري ، لو كانت بيعتي بيعة محاباة ، لكان العباس ابني ، وسائر ولدي أحب إلى قلبي ، وأجلى في عيني ، ولكن أردت أمرا ، وأراد الله أمرا ؛ فلم يسبق أمري أمر الله.
                              وأما ما ذكرتم : مما مسكم من الجفاء في ولايتي ، فلعمري ما كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه ، علي ( خ د ) ، وممايلتكم إياه ، فلما قتلته وتفرقتم عباديد ، فطورا أتباعا لابن أبي خالد ، وطورا أتباعا لأعرابي ، وطورا أتباعا لابن شكلة ، ثم لكل من سل سيفا علي. ولو لا أن شيمتي العفو ، وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحدا ، فكلكم حلال الدم ، محل بنفسه ..
                              وأما ما سألتم : من البيعة للعباس ابني .. أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ويلكم ، إن العباس غلام حدث السن ، ولم يؤنس رشده ، ولم يمهل وحده ، ولم تحكمه التجارب. تدبره النساء ، وتكفله الاماء ، ثم .. لم يتفقه في الدين ، ولم يعرف حلالا من حرام ، إلا معرفة لا تأتي به رعية ، ولا تقوم به حجة ، ولو كان مستأهلا ، قد أحكمته التجارب ، وتفقه في الدين ، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا ، وصرف النفس عنها .. ما كان له عندي في الخلافة ، إلا ما كان لرجل من عك وحمير ، فلا تكثروا من هذا المقال ، فإن لساني لميزل مخزونا عن أمور وأنباء ، كراهية أن تخنث النفوس عند ما تنكشف ، علما بأن الله بالغ أمره ، ومظهر قضاه يوما ..
                              فإذ أبيتم إلا كشف الغطاء ، وقشر العظاء ، فالرشيد أخبرني عن آبائه ، وعما وجده في كتاب الدولة ، وغيرها : أن السابع من ولد العباس ، لا تقوم لبني العباس بعده قائمة ، ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته ، فإذا أودعت فودّعها ، فإذا أودع فودعاها ، وإذا فقدتم شخصي ، فاطلبوا لأنفسكم معقلا ، وهيهات ، ما لكم إلا السيف ، يأتيكم الحسني الثائر البائر ، فيحصدكم حصدا ، أو السفياني المرغّم ، والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلا بحقها ..
                              وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى ، بعد استحقاق منه لها في نفسه ، واختيار مني له ، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم ، والذائد عنكم ، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب ، ومواساتهم في الفيء بيسير ما يصيبهم منه.
                              وإن تزعموا : أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ، فإني في تدبيركم ، والنظر لكم ولعقبكم ، وابنائكم من بعدكم .. وأنتم ساهون ، لاهون ، تائهون ، في غمرة تعمهون ، لا تعلمون ما يراد بكم ، وما أظللتم عليه من النقمة ، وابتزاز النعمة. همة أحدكم أن يمسي مركوبا ، ويصبح مخمورا تباهون بالمعاصي ، وتبتهجون بها ، وآلهتكم البرابط ، مخنثون ، مؤنثون لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة ، ولا استدامة نعمة ، ولا اصطناع مكرمة ، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ..
                              أضعتم الصلاة ، واتبعتم الشهوات ، واكببتم على اللذات ، فسوف تلقون غيا. وأيم الله ، لربما أفكر في أمركم ، فلا أجد أمة من الامم استحقوا العذاب ، حتى نزل بهم لخلة من الخلال ، إلا أصيب تلك الخلة بعينها فيكم ، مع خلال كثيرة ، لم أكن أظن أن إبليس اهتدى إليها ، ولا أمر بالعمل بها. وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح :
                              أنه كان فيهم تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون ، فأيكم ليس معه تسعة وتسعون من المفسدين في الأرض ، قد اتخذتموهم شعارا ، ودثارا ، استخفافا بالمعاد ، وقلة يقين بالحساب. وأيكم له رأي يتبع ، أو روية تنفع ، فشاهت الوجوه ، وعفرت الخدود.
                              وأما ما ذكرتم : من العثرة كانت في أبي الحسن (ع) نور الله وجهه ، فلعمري. إنها عندي للنهضة والاستقلال ، الذي أرجو به قطع الصراط ، والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الاكبر. ولا أظن عملا هو عندي أفضل من ذلك ، إلا أن أعود بمثلها إلى مثله ، وأين لي بذلك ، وأنى لكم بتلك السعادة ..
                              وأما قولكم : إني سفهت آراء آبائكم ، وأحلام أسلافكم ، فكذلك قال مشركوا قريش : « إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون ». ويلكم ، إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء ، فافقهوا ، وما أراكم تعقلون ..
                              وأما تعييركم إياي : بسياسة المجوس إياكم ، فما أذهبكم الانفة- الظاهر أن الصواب : « فما أذهبكم عن الأنفة ».- من ذلك ، ولو ساستكم القردة والخنازير ، وما أردتم إلا أمير المؤمنين .. ولعمري ، لقد كانوا مجوسا فأسلموا ، كآبائنا ، وأمهاتنا في القديم ، فهم المجوس الذين أسلموا وأنتم المسلمون الذين ارتدوا ، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد ، فهم يتناهون عن المنكر ، ويأمرون بالمعروف ، ويتقربون من الخير ، ويتباعدون من الشر ، ويذبون عن حرم المسلمين ،يتباهجون بما نال الشرك وأهله من النكر ، ويتباشرون بما نال الاسلام وأهله من الخير .. منهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا.
                              وليس منكم إلا لاعب بنفسه ، مأفون في عقله وتدبيره : إما مغن ، أو ضارب دف ، أو زامر. والله ، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا ، فقيل لهم : لا تأنفوا من معايب تنالوهم بها ، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعارا ودثارا ، وصناعة وأخلاقا ..
                              ليس منكم إلا من إذا مسه الشر جزع ، وإذا مسه الخير منع ، ولا تأنفون ، ولا ترجعون إلا خشية ، وكيف يأنف من يبيت مركوبا ، ويصبح باثمه معجبا ، كأنه قد اكتسب حمدا ، غايته بطنه وفرجه ، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل ، أو ملك مقرب. أحب الناس إليه من زين له معصية ، أو أعانه في فاحشة ، تنظفه المخمورة ، وتربده المطمورة ، فشتت الأحوال .. فإن ارتدعتم مما أنتم فيه من السيئات والفضائح ، وما تهذرون به من عذاب ألسنتكم .. وإلا فدونكم تعلوا بالحديد ..
                              ولا قوة إلا بالله ، وعليه توكلي ، وهو حسبي ».

                              تعليق


                              • #45
                                نقود الخليفة المأمون التي حملت علي الرضا (عليه السلام) ولياً للعهد
                                عندما اختار الخليفة المأمون (198ـ218هـ) علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ولياً للعهد أمر بأن تضرب له الدراهم وينقش عليها اسمه.
                                وقد ذكر المسعودي واليعقوبي أن علي الرضا ضرب اسمه على الدنانير. وسكّت الدراهم الفضية في سنتين 202 و203هـ، وقد سكّت تلك الدراهم في المدن التالية (مرو، سمرقند، المحمدية، الري، نيسابور، أصفهان، اصطخر، جي، والتميرة) وجميع هذه المدن في المشرق الإسلامي، واستمرت بعض المدن بسكّ نقود الإمام علي الرضا (عليه السلام) حتى بعد وفاته فمدينة أصفهان استمرت للسنتين 204 و205هـ. ومدينة سمرقند حتى سنة 204هـ، ومدينة المحمدية حتى سنة 204هـ. وكانت نصوص النقود كما يلي:
                                درهم بمدينة أصفهان سنة 202هـ
                                مركز الوجه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له
                                الطوق الأول: بسم الله ضرب هذا الدرهم بمدينة اصبهان سنة اثنتين وميتين.
                                الطوق الثاني: لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
                                مركز الظهر:لله..محمد رسول الله..المأمون خليفة الله..مما أمر به الأمير الرضا ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن علي بن أبي طالب ذو الرياستين.
                                الطوق: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. ويحتفظ متحف اسطنبول بهذا الدرهم. ووزنه (2,65) جرام وقطره (54) ملم ونصوص هذا الدرهم بدون شكل أو إعجام (لا حركات ولا نقاط ولا حروف) ويظهر لقب الفضل بن سهل (ذو الرياستين) أسفل نصوص مركز الظهر وأما الدنانير الذهبية التي أشار إليها كل من المسعودي واليعقوبي فيحتفظ المتحف العراقي ببغداد بدينار ذهبي مضروب بسمرقند سنة 202هـ، وقد نشره المرحوم ناصر النقشبندي في كتابه (الدينار الإسلامي بالمتحف العراقي ص199) ونصوصه كما يلي:
                                مركز الوجه:
                                لا إله إلا
                                الله وحده
                                لا شريك له
                                الطوق الأول: بسم الله ضرب هذا الدينار بمدينة سمرقند سنة اثني ومايتين (كتبت هكذا).
                                الطوق الثاني: لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
                                مركز الظهر:
                                لله
                                محمد رسول الله
                                المأمون خليفة الله
                                مما أمر به الأمير الرضا
                                ولي عهد المسلمين علي بن
                                موسى بن علي بن أبي طالب
                                الطوق: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
                                مما تقدم نجد أن الإمام علي الرضا (عليه السلام) كان ولياً للعهد في خلافة المأمون (98ـ128هـ) خلال السنوات (202ـ203هـ) في حياته واستمرت نقوده حتى بعد وفاته للسنتين 204ـ205هـ وبذلك تكون النقود أحد الشواهد مهماً على الأحداث.
                                درهم عباسي عليه اسم الامام علي الرضا

                                المامون-الرضا ضرب المحمدية سنة 202 المـأمون (198هـ - 218هـ) عبدالله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبدالله المنصور.
                                الوجه : لا الــــه الا الله وحــده لا شريك له المشرق
                                المدار الداخلي : بسم الله ضرب هذا الدرهم بالمحمـدية سنة اثنتين ومائتين.
                                المدار الخارجي: لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
                                الظهر : لله محمد رسول الله المأمون خلــيفـة الله مما امـر به الأمير الرضــا ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن علي بن ابي طالــب ذوالرياستيـن .
                                المدار : محمد رسول الله ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
                                الوزن : 2.92 جرام.


                                تعليق

                                مواضيع ذات صلة

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                ابتدأ بواسطة د تيماء, 16 مار, 2024, 02:41 ص
                                ردود 0
                                16 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة د تيماء
                                بواسطة د تيماء
                                 
                                ابتدأ بواسطة د تيماء, 12 فبر, 2024, 07:30 م
                                ردود 0
                                19 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة د تيماء
                                بواسطة د تيماء
                                 
                                ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 24 ينا, 2024, 12:01 ص
                                ردود 0
                                9 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                                بواسطة *اسلامي عزي*
                                 
                                ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 24 ينا, 2024, 12:00 ص
                                ردود 0
                                6 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                                بواسطة *اسلامي عزي*
                                 
                                ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 12 سبت, 2023, 02:05 ص
                                ردود 0
                                11 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                                بواسطة *اسلامي عزي*
                                 
                                يعمل...
                                X