منهج التفسير التاريخي قواعد منهجية في تفسير الحوادث والحكم عليها د. محمد آمحزون

تقليص

عن الكاتب

تقليص

باحث سلفى مسلم (نهج السلف) اكتشف المزيد حول باحث سلفى
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • منهج التفسير التاريخي قواعد منهجية في تفسير الحوادث والحكم عليها د. محمد آمحزون

    منهج التفسير التاريخي


    قواعد منهجية في تفسير الحوادث والحكم عليها
    د. محمد آمحزون
    (1)

    يقصد بدراسة التاريخ معرفة الروابط التي تربط الأحداث والوقائع المختلفة؛ لتبيّن دوافعها ومنطلقاتها ونتائجها، واستخلاص السنن والعبر من خلالها، ويعتبر تعريف ابن خلدون في هذا الصدد تعريفاً جيداً، لأنه نصّ على وجوب النظر في الأخبار وتحقيقها، كما أكد على النظر في العلل والأسباب.ومن هذا المنطلق، فالتاريخ ليس مجرد سرد للحوادث فحسب، بل هو تفسير لتلك الحوادث وتقويم لها، ومن ثم أصبح التاريخ أحد الأسلحة التي تستخدم في مجال التوجيه وصياغة الأفكار ونشر المباديء وتأييدها، كما أنه أصبح يأخذ دوره في الصراع العقائدي بين الأمم، ولهذا لابد من دراسته وفق منهج معين.

    لكن يا ترى ما هو ذلك المنهج المطلوب؟
    في الاصطلاح اللغوي يقال: النهج، والمنهج، والمنهاج، وكلها بمعنى واحد، وهي تعني الطريق الواضح، وبمعنى آخر: السبيل الفكري والخطوات العملية التي يتبعها الباحث في مساره بقصد تحصيل العلم.أما في الاصطلاح التاريخي، فالمنهج يعني في الدراسات التاريخية: القواعد والشروط التي يجب مراعاتها عند معالجة أي حدث تاريخي سواء أكان بالكتابة والتأليف أم بالدراسة والتعليم.ومن الملاحظ أن المنهج في الدراسات التاريخية عندما يطلق يراد به أمران: الأمر الأول: التوثيق وإثبات الحقائق، والأمر الثاني: التفسير التاريخي، أي معرفة مصادر تفسير الحوادث والحكم عليها.

    ويستنتج من ذلك أن المنهج قسمان: منهج التوثيق وإثبات الحقائق ومنهج التفسير التاريخي.

    أما القسم الأول فيراد به دراسة سند الروايات التاريخية ومتنها بغية التثبت من النصوص وتمحيص الأخبار، وذلك بربط دراسة التاريخ الإسلامي إلى حد ما بما يعرف ب (علم الجرح والتعديل)، وهو علم جليل يقوم على دراسة مستفيضة لأحوال الرواة والتحري عن ميولهم وصفاتهم وأخلاقهم وعقائدهم.
    ومما لا شك فيه أن المصنفات في قواعد الرواية وفي علم الرجال يمكن الاستفادة منها في حقل التاريخ الإسلامي إلى حد ما، إذ تكشف النقاب عن قواعد التحديث وأحوال الرواة لتمييز القوي من الضعيف والصادق من الكاذب، وبذلك يُعرف لكل خبر قيمته، فتستخرج الروايات الصحيحة والحسنة، وتستبعد الأخبار الضعيفة والموضوعة وينبّه عليها، لاسيما وأن من أهداف الدراسات التاريخية إبراز الحقائق التي تعتبر هدفاً منشوداً يتوخاه كل باحث نزيه.
    لكن سنقتصر في هذه الدراسة على القسم الثاني من المنهج المتعلق بتفسير الحوادث، وذلك بذكر مجموعة من القواعد والضوابط التي يمكن من خلالها الحكم على الحوادث التاريخية، وتفسيرها تفسيراً يتماشى مع النظرة الإسلامية للكون والإنسان والحياة.

    فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ دين وعقيدة قبل أن يكون تاريخ دول ومعارك ونظم سياسية، لأن العقيدة هي التي أنشأت تلك الكيانات من الدول والمجتمعات بنظمها السياسية والإدارية والتعليمية والاقتصادية وغيرها.ولأجل هذه الصفة، فإنه ينبغي دراسة التاريخ الإسلامي وفق التصور الصحيح والموازين الشرعية، على أن خصوصية التاريخ الإسلامي تتجلى في كونه منهجاً يوضح دور الإنسان ومسؤوليته عن التغير الاجتماعي والتاريخي في إطار المشيئة الإلهية، لأن التاريخ البشري في المنظور الإسلامي هو تحقيق المشيئة الربانية من خلال الفاعلية المتاحة للإنسان في الأرض بقدر الله، وبحسب سنن معينة يجري الله بها قدره في الحياة الدنيا.إن المنهج الإسلامي لتفسير التاريخ لا يخرج عن دائرة المعتقدات الإسلامية، كما أنه مبني على دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي، مما جعل حركة التاريخ الإسلامي ذات طابع متميز عن حركة التاريخ العالمي لأثر الوحي الإلهي فيه.

    القاعدة الأولى: اعتماد المصادر الشرعية وتقديمها على كل مصدر فيما نصت عليه من أخبار وضوابط وأحكام:


    ويرجع ذلك إلى اعتبارين اثنين:
    الاعتبار الأول:
    لأنها أصدق من كل وثيقة تاريخية فيما ورد فيها من الأخبار، وذلك لصدق مصدرها وعلمه وهيمنته، كما أنها وصلتنا بأوثق منهج علمي، حيث وصلنا القرآن الكريم بالتواتر الموجب للعلم القطعي، وصحيح السنة وصلنا بمنهج علمي دقيق حيث اتبع علماء الحديث والرواية أرقى منهج علمي وأوثقه في تدوين السنة.

    الاعتبار الثاني:
    لما تدل عليه من القوانين التاريخية والسنن الربانية والنظرة الشمولية لتاريخ البشرية كلها على مدار الزمان في الماضي والحاضر والمستقبل، مما يعطي الباحث سعة وشمولاً في النظرة التاريخية، وعمقاً في تحليل الأحداث ومقدرة على تشخيص الداء، ووصف الدواء.إن هذا الكون بما فيه الإنسان هو خلق الله؛ فلابد من الرجوع إلى الخالق لفهم هذا الخلق، وإذا رجعنا إلى الوحي المنزل من الخالق لهداية البشرية، نجد السنن واضحة والاتجاهات محددة.ومن المعلوم أن الوحي (الكتاب والسنة) وضع لنا السنن (أي القوانين الطبيعية والاجتماعية المبثوثة في الكون والأنفس والمجتمعات) التي تسير في إطارها الأحداث، ويحكم من خلالها الأمم والدول والأشخاص.

    ومن خلال السنن الربانية في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- نفهم التاريخ ونفسر أحداثه، ونعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والبقاء، وعوامل الهدم والخوف والسقوط والتدمير، وهذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك. قال تعالى: ((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)) (1).

    وقال تعالى: ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) (2). فقانون تغير الحال إلى الأحسن أو الأسوأ هو تابع لجهد الإنسان، وسلوكه وتصرفه.

    إن القرآن والسنة يعطيان الباحث المفاهيم والمبادئ التي يمكن في ضوئها تفسير أحداث التاريخ والحكم عليها، هذا علاوة على ذكر ما سيؤول إليه حال الأمة الإسلامية وما يصيبها من التفرق، وما يكون فيها من حركات الإصلاح والتجديد، والإشارة إلى عدد من الأحداث والفتن، والموقف من بعضها، وقد اعتنى أهل السنة بجمعها ووضع أبواب لها في مصنفاتهم(3).
    ولئن كانت المادة التاريخية في كتب السنة ليست بالمقدار نفسه الموجود في المصادر التاريخية، إلا أن لها أهميتها لعدة اعتبارات منها:أن معظم مؤلفيها عاشوا في فترة مبكرة، وأغلبهم من رجالات القرن الثاني والثالث الهجري، مما يميز مصادرهم بأنها كانت متقدمة.
    ثم إن المحدثين يتحرون الدقة في النقل، الأمر الذي يجعل الباحث يطمئن إلى رواياتهم أكثر من روايات الإخباريين.

    على أن المحدث كان عند جمهور المسلمين أشرف موضوعاً، وأسمى منزلة من الإخباري، ويرجع ذلك إلى ضبط المحدث ودقته وتمحيصه للروايات التاريخيه وتحريه في القول، بينما كان الإخباري مظنة للإغراب والتلفيق والاختلاق.

    القاعدة الثانية: الفهم الصحيح للإيمان ودوره في تفسير الأحداث:

    إن دارس التاريخ الإسلامي إن لم يكن مدركاً للدور الذي يمثله الإيمان في حياة المسلمين، فإنه لا يستطيع أن يعطي تقييماً علمياً وواقعياً لأحداث التاريخ الإسلامي.وعلى سبيل المثال: فهجرة المسلمين من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة كانت هجرة من أجل المبدأ، يوجهها الإيمان الذي كان بالنسبة للمسلمين المهاجرين المحرك الذي ساق الأفراد والجماعات إلى مصائرهم وإلى صنع تاريخهم، فلم تكن هجرة من أجل الوطن أو المال أو المنصب، إذ تركوا من ورائهم وطنهم وأموالهم ودورهم ومتاعهم فراراً بدينهم من الفتن واستمساكاً بعقيدتهم، فقدموا بذلك مثالاً عالياً من التضحية والإخلاص في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا.

    أما أهل المدينة وهم الأنصار الذين آووهم في بيوتهم وواسوهم بالمال ونصروهم، فقد قدموا بذلك المثل الصادق للأُخُوّة الإسلامية، تلك الأُخُوّة التي لم يجعلها الإسلام لفظاً فارغاً أو تحية تثرثر بها الألسنة، وإنما عملاً مرتبطاً بالدماء والأموال، وبعواطف الإيثار والمواساة التي ملأت المجتمع المدني بأروع الأمثال.قال تعالى في شأن هذه المواقف الإيمانية: ((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاْ من الله ورضواناْ وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون * والذين تبوَّأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) (4).

    كما أن المجاهد المسلم عندما يقاتل في سبيل الله يعلم أنه ليس وحده الذي يقاتل الكفار، وأنه لا يقاتلهم بكثرة الجنود ولا بتفوق السلاح وحده إن توفر ذلك له وإنما يقاتل بالإيمان الصادق الذي يحمله، وبما يعلمه من تأييد الله للمجاهدين الصادقين، وما يمدهم به من وسائل مادية ومعنوية كقتال الملائكة إلى جانبهم أو تسخير عوامل طبيعية لهم أو تثبيت قلوبهم بإنزال السكينة والطمأنينة عليهم، أو بما يمدهم به من الصبر وقوة التحمل، ورباطة الجأش إلى غير ذلك من الوسائل المنظورة وغير المنظورة.. فقد أنزل الله الملائكة يقاتلون إلى جانب المسلمين في معركة بدر، قال تعالى: ((إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين)) (5).

    وأرسل الله ريحاً شديداً فرقت الأحزاب المحاصرة للمدينة يوم الخندق، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليها ريحا وجنوداْ لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراْ)) (6).

    وعند البحث مثلاً عن الأسباب التي أدت إلى انتصار المسلمين في معركة اليرموك سوف نجد أن عدد الروم ستة أضعاف عدد المسلمين، وجيش الروم جيش نظامي مدرب وجيد التسليح، بينما الجيش الإسلامي أقل منه عدداً وعدة وتدريباً، ويقاتل بعيداً عن مركز الخلافة، ومع ذلك حصل له النصر المبين.على أن المتأمل والباحث في الأسباب المادية المنظورة بحثاً عقلياً مجرداً لا يستطيع أن يقبل نتيجة المعركة رغم أنها متواترة حساً وواقعاً، وهذا يرجع إلى الجهل بالعوامل الحقيقية المحركة للتاريخ الإنساني في غيبة العلم الصحيح وإلى إغفال سنن الله في الخلق، وهي سنن ثابتة وصارمة، ((فلن تجد لسنة الله تبديلاْ، ولن تجد لسنة الله تحويلاْ)) (7)، ومن السنن التي أوضحها القرآن الكريم قانون التدافع أو سنة الصراع بين الإيمان والكفر عبر تاريخ الإنسانية الطويل وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، ومن خلال هذا الصراع يختبر الله عباده المؤمنين ويميزهم بالابتلاء ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب)) (8).

    ويبين سبحانه وتعالى أن المؤمنين إذا تميزوا بالثبات على العقيدة والإيمان وأداموا ذكر الله وطاعته ووحدوا صفوفهم واعتصموا بالصبر، فإن النصر حليفهم وإن كانوا قلة ((كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)) (9)، ((ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاْ)) (10)، ((وكان حقاْ علينا نصر المؤمنين)) (11)، ((إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)) (12)... إلى غير ذلك من السنن الساطعة والحقائق الثابتة.

    لكن الله أمر المؤمنين بالأخذ بالأسباب وحشد الطاقات والإمكانيات المتاحة للوصول إلى القوة اللازمة لإرهاب العدو والتمكين للإسلام ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)) (13).

    وأوضح أن الجهد الإنساني للمؤمنين هو الذي يحسم الصراع لصالح الإيمان وعمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني، لذلك شرع سبحانه الجهاد ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراْ، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز)) (14).

    وأخيراً، فإن الله أوضح أن عاقبة الصراع تكون دائماً للمؤمنين مهما طال الطريق وعصف بهم طغيان الباطل ((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناْ، يعبدونني لا يشركون بي شيئاْ)) (15).

    القاعدة الثالثة: أثر العقيدة في دوافع السلوك لدى المسلمين:

    إن منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتفسير حوادثه يعتمد في أصوله على التصور الإسلامي، ويجعل العقيدة الإسلامية ومقتضياتها هي الأساس في منطلقاته المنهجية وفي تفسير حوادثه والحكم عليها، لذلك ينبغي في تفسير التاريخ الإسلامي الرجوع إلى المصادر الشرعية لمعرفة دوافع السلوك في المجتمع الذي نشأ وتكون على هدي الشريعة وشكل حياته ومفاهيمه وفقاً لها، وكانت تعليماتها وأوامرها ونواهيهها موجهة لجميع شؤون حياته.إنه لابد من إدراك البواعث الحقيقية لتصرفات الناس في صدر الإسلام وعلاقة هذه البواعث بالحوادث والعلاقات الإنسانية والاجتماعية، ونظم الحكم وسياسة المال، وطرق التشريع ووسائل التنفيذ في إطار المبادئ والمفاهيم والقيم الإسلامية.إن دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الذي تهيمن عليه العقيدة كانت في صدر الإسلام تتأثر كثيراً بالتطلع إلى ما عند الله، إلى الجزاء الأُخرَوِي وصفوة المؤمنين عادة لا يشركون دوافع أخرى في سلوكهم، إذ لابد من إخلاص النية لله تعالى في كل أعمال المسلم سواءاً أكانت جهاداً بالنفس أم نشاطاً اجتماعياً أم اقتصادياً أم سياسياً، فعمل المسلم في كل مجالات الحياة يدور حول إرضاء الله تعالى، ويعرف المسلم أنه إذا أشرك في نيته وآثر الدنيا فإنه يحبط عمله، كما ورد في الحديث الشريف (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وابتغي به وجهه) (16). وإذا كان هذا التصور يتحكم في كثير من المسلمين الملتزمين اليوم، فكيف كان أثر ذلك في جيل الصحابة والتابعين وهم خير القرون!إن معرفة أثر الإسلام في تربية أتباعه في صدر الإسلام، وتزكية أرواحهم والتوجه إلى الله وحده بالعبادة والمجاهدة، يجعل من البدهي التسليم بأن الدافع لهم في تصرفاتهم وسلوكهم لم يكن دافعاً دنيوياً بقدر ما كان وازعاً دينياً وأخلاقياً يحث على فعل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    ولأجل ذلك يجب استعمال الأسلوب النقدي في التعامل مع المصادر التاريخية، وعدم التسليم بكل ما تطرحه من أخبار، وإحالة رواياتها قبل القبول بها على المجرى العام للمرحلة التاريخية لمعرفة هل يمكن أن تتجانس في سداها ولحمتها مع نسيج تلك المرحلة أم لا؟وهكذا توضع الوجهة العامة للمجتمع الإسلامي وطبيعته وخصوصيته في الحسبان، وينظر إلى تعصب الراوي أو الإخباري أو المؤرخ من عدمه، فمن لاحت عليه إمارات التعصب والتحيز بطعن أو لمز في أهل العدالة والثقة من الصحابة، أو مخالفة لأمر معلوم في الشريعة أو عند الناس، أو معاكسة طبيعة المجتمع وأعرافه وقيمه الثابتة، ففي هذه الأحوال لا يؤخذ منه ولا يؤبه بأخباره لأن التحيز والتعصب حجاب ساتر عن رؤية الحقيقة التاريخية.
    وللحديث بقية..
    -------------
    الهوامش:
    (1)سورة فاطر:43.
    (2)سورة الرعد:11.
    (3)أفرد لها الإمام البخاري كتابا في الجامع الصحيح سماه (كتاب الفتن) وكذا مسلم في الجامع الصحيح (كتاب الفتن وأشراط الساعة)، وأبو داود في السنن (الفتن والملاحم)، وغيرهم.
    (4)سورة الحشر:8،9
    (5)سورة الأنفال:9
    (6)سورة الأحزاب:9
    (7)سورة فاطر:43
    (8)سورة البقرة:214
    (9)سورة البقرة:249
    (10)سورة النساء:141
    (11)سورة الروم:47
    (12)سورة محمد:7
    (13)سورة الأنفال:60
    (14)سورة الحج:40
    (15)سورة النور:55
    (16)أخرجه النسائي في السنن، كتاب الحج، باب من غزا يلتمس الأجر والذكر، ج6، ص 25


    المصدر:http://rowadaltamayoz.com/islam/play.php?catsmktba=576
    التعديل الأخير تم بواسطة باحث سلفى; 31 أكت, 2014, 11:45 م.
    أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
    الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
    كتب وورد
    هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
    للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

  • #2
    رد: منهج التفسير التاريخي د. محمد آمحزون

    منهج التفسير التاريخي


    قواعد منهجية في تفسير الحوادث والحكم عليها
    د. محمد آمحزون
    (2)
    القاعدة الرابعة: العوامل المؤثرة في حركة التاريخ:

    إن المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ منهج شامل لكل الدوافع والقيم التي تصنع التاريخ ، وهو غير واقف أمام حدود الواقع المادي المحدود الظاهر للعيان فقط بل إنه يتيح فرصة لرؤية بعيدة ، يستطيع المؤرخ معها أن يقدم تقييماً حقيقياً وشاملاً أكثر التحاماً مع الواقع لأحداث التاريخ الإنساني،وذلك لأنه يأخذ في الحسبان مدى أثر العوامل المادية والنفسية المحيطة بالإنسان، مع مراعاتها والاعتراف بها كافةً،دون تضخيم لبعضها أكثر من حجمه ، وقبل هذه العوامل ومعها وبعدها قدر الله جل وعلا وأمره النافذ ، فإنه لا راد لقضائه وأمره.

    وهذا سر المفارقة بين المنهج الإسلامي وبقية المناهج الأخرى الوضعية التي تفسر التاريخ تفسيراً عرقياً أو جغرافياً أو اقتصادياً أو نفسياً ، ولم تحسب حساباً لكافة العوامل المؤثرة في حركة التاريخ ، وإنما اكتفى كل واحد منها بعامل وضخمه ، وفسر به تاريخ الإنسان كله.

    إنه لابد من ملاحظة كل العناصر الفاعلة في الحدث التاريخي من عوامل مادية ومعنوية، فالإنسان ذو أبعاد فسيحة وأغوار عميقة ، وكل الظواهر التي تتصل به على درجة عالية من التعقيد في الأفكار والمبادئ والمواقف والعادات وفي الاجتماع والاقتصاد... كل أولئك يتشكل ويتبلور نتيجة نسيج معقد من العوامل.

    وإذا كان هذا هو الواقع ، فإن تفسير أية ظاهرة إنسانية وتعليلها بعلة مفردة غير صحيح ولا دقيق ، ولنضرب مثالاً على ذلك بموقعة بدر الكبرى هل كان هناك سبب أو عامل واحد أدى إلى انتصار المسلمين ، أم يا تُرى تضافرت عدة عوامل ليتوج بها المسلمون انتصاراتهم على أعدائهم الذين يفوقونهم عدداً وعدة.

    مما لا شك فيه أن المتأمل في هذا الحدث الفاصل في تاريخ الإسلام يجد بعد الاستقراء والدراسة أن عدة أسباب ساهمت في انتصار المسلمين وهي:

    أولا: العقيدة الراسخة: إذ كان للمسلمين هدف معين ومحدد وهو نشر الإسلام حتى يكون الدين كله لله ، وتكون كلمة الله هي العليا.
    ثانياً: المعنويات العالية: فقد كانت معنويات المسلمين في بدر عالية جداً نظراً لثقتهم الأكيدة بوعد الله ونصره.
    ثالثاً: الشورى: وهو المبدأ الذي التزم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- منذ خروجه إلى بدر.
    رابعاً: القيادة الموحدة: فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو القائد العام في معركة بدر وكان المسلمون يعملون يداً واحدة تحت قيادته ، وكان انضباطهم مثالاً رائعاً للانضباط الحقيقي.
    خامساً: التعبئة الجيدة: فقد طبق الرسول -صلى الله عليه وسلم- أثناء اقترابه من بدر تشكيلة لا تختلف عن التعبئة الحديثة في حرب الصحراء ، حيث كان للمسلمين مقدمة وقسم أكبر ومؤخرة ، كما استفاد النبي عليه الصلاة والسلام من دوريات الاستطلاع للحصول على المعلومات.
    سادساً: معرفة طبوغرافية أرض المعركة: حيث كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أشد حرصاً على دراسة أرض المعركة ، والتعرف على ظاهراتها الطبيعية قبل أن يدفع قواته إليها ، وبتعرف المسلمين على تضاريس أرض بدر سيطروا على موارد المياه ببدر وعطلوا الآبار في الجهة التي يفترض أن يقدم إليها المشركون.

    وهكذا فإن انتصار المسلمين لا يرجع إلى سبب أو عامل واحد ، بل أثرت عدة عوامل إيمانية ونفسية وتنظيمية واستراتيجية وجغرافية في نتيجة المعركة لصالح المسلمين.ولنعط مثالاً آخر: فلا يمكن أن يقال مثلاً: إن الشعب الأفغاني صمد في وجه المحتلين بسبب إيمانه ، أو بسبب صعوبة تضاريس أرضه من جبال وكهوف أو بسبب رصيد الفطرة لديه ، أو بسبب العون الخارجي ، أو بسبب وجود قواعد خلفية له في بلد مجاور..إنه لم ينفرد سبب واحد من هذه الأسباب بولادة ظاهرة الصمود ، بل إنها جميعاً مع أسباب أخرى أسهمت في إيجاد وضع متميز يستمد تميزه من خصوصية شروطه وأسبابه.

    إن إدراك مقومات النفس الإنسانية جميعها روحية وفكرة وجسدية لا يتوفر في غير المنهج الإسلامي ؛ لأن التصور الصحيح عن هذه القضايا المؤثرة والفاعلة في الحدث التاريخي لا يمكن معرفته إلا عن طريق الوحي المعصوم من الخطأ (الكتاب والسنة).

    فبواسطة التلقي من الوحي يعرف المسلم هذه العوامل ، ويعرف قدر كل عامل وقيمته وتأثيره في النفس ، والنسب الصحيحة للعلاقات بين تلك العوامل جميعاً ؛ لأن مصادر تلقيه من لدن الله جل وعلا ، الحكيم الخبير الذي يعلم خبايا النفس الإنسانية ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة في الأرض أو في السماء.

    القاعدة الخامسة: العلم بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم والتثبت فيما يقال عنهم:

    يقول الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا الصدد: (واحفظ لكل منزلته وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحق ، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل) (1).

    وقد قعّد ابن تيمية رحمه الله بواسع علمه وعميق فهمه قاعدة جليلة في الإفتاء في أي قضية يراد معرفة حكم الله فيها، وذلك في بداية فتواه الشهيرة عن التتار وحكم قتالهم ، فقد ذكر أن الحكم على أي طائفة أو قوم يقوم على أصلين:

    أحدهما المعرفة بحالهم ، والثاني معرفة حكم الله في أمثالهم ، وهذان الأصلان يقومان على الحكم المنافي للجهل ، إذ الكلام في الناس لا يجوز بغير علم وبصيرة) (2).

    وعلى هذا الأساس ينبغي التحري فيما يروى عن الوقائع التي كانت بين أعيان الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم فالمعرفة بحالهم تدل على كمال إيمانهم وصدقهم وحسن سريرتهم وفعلهم للخيرات وتضحيتهم بالنفس والنفيس في سبيل الحق ، كل ذلك يرفع منازلهم إلى درجات عالية مما يجعلهم جميعاً من لابس الفتن منهم ومن لم يلابسها أهلاً للاقتداء بهم،وأهلاً للرواية، تقبل أخبارهم في أعلى درجات القبول، وتوزن أعمالهم بميزان الورع والإحسان، مما ينفي عنهم ما نسب إليهم من أوصاف سيئة، هذا علاوة على بيان حكم الله فيهم ، إذ تواترت النصوص الشرعية في تزكيتهم وتعديلهم.فلا جدال في أن الصحابة رضوان الله عليهم قدوة لكل مسلم فيما يتعلق بأمور الدين ، ولا مجال للطعن في تدينهم وصحة عقيدتهم وسلامة أخلاقهم ، لكن ذلك لا يمنع أن يقع منهم الخطأ ، إذ ليسوا معصومين ، ولذلك فإن ما وقع بينهم من خلافات سياسية هي من قبيل الأمور الاجتهادية التي لا تقدح في مكانتهم السامية ، وإذا سجل التاريخ تلك الخلافات فلا ينبغي أن تحمل على محمل الانتقاص منهم.وقد أمر الله جل وعلا المؤمنين بالرجوع إلى ما علموا من إيمان إخوانهم الذي يدفع السيئات ، وأن يعتبروا هذا الأصل العظيم ولا يعبؤوا بكلام المتربصين والمغرضين الذي يناقضه ويقدح فيه ، فيحسنوا الظن بإخوانهم ، بل يدحضوا ما يروج ضدهم من شائعات وافتراءات تمس كرامتهم ، وتحط من أقدارهم.يقول الله تعالى زجراً للمؤمنين عن مجاراة الشائعات التي يتقولها أهل السوء في إخوانهم المؤمنين:((لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراْ وقالوا هذا إفك مبين)) (3) وقال تعالى:((ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم)) (4).

    وقد دلت الآيتان على قاعدة مهمة وهي: (الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقق للخروج من الشبهات والتوهمات ، وقد يعبر عنها بأن الموهوم لا يدفع المعلوم وأن المجهول لا يعارض المحقق) (5).

    وبناء على هذا لابد من الرجوع إلى المصادر الأصلية الموثوقة لمعرفة الحقيقة ، فلا يؤخذ من الكذابين والفاسقين وأصحاب الأهواء لأن فسقهم وهواهم يدفعهم إلى تصوير الأمر على خلاف حقيقته ، وإن المرء المسلم مطالب شرعاً بالتثبت والتبيّن مما يسمع ، لقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقِ بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماْ بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)) (6).

    ولقول الرسول : (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) (7) ، وقوله: (إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث) (8) ، ولذلك كانت عناية علماء أهل السنة موجهة إلى بيان من يحمل عنه العلم أو الخبر ، ومن لا يؤخذ عنه كقول بعضهم في هذا الباب: (باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها) (9)،إذ أن تقدير الرجال لا يؤخذ إلا من العالم العارف الثقة البصير بأحوال المسلمين.وهناك مجموعة من المقاييس ينبغي الأخذ بها في هذا الشأن ، وهي عدم إقحام الحكم على عقائد ومواقف الرجال بغير دليل في ثنايا سرد الأعمال ، إذ أن الحكم على أقدار الناس يجب أن يكون قائماً على حسن الظن حتى يثبت خلاف ذلك.

    *عدم تجاوز النقل الثابت إلى إيراد الظنون والفرضيات، ومن فضل الإسلام أن نهى عن ذلك ، ولم يفعل هذا مؤرخ فاضل، ولم يقل أحد أن حسن الأدب هو السكوت عن الكذب، وإنما حسن الأدب هو رده وتنقية سيرة الصدر الأول منه ، كما أن حسن الأدب يقتضي السكوت عن الظنون ، والكف عن اقتفاء ما لا علم لنا به يقيناً ، وكثيراً ما تلح على المرء في هذا شهوة الاستنتاج ودعوى التحليل ، وقد أمرنا الشرع أن تكون شهادتنا يقينية لا استنتاجية فيما نشهد من حاضرنا، ففي الآية ((إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)) (10)، فكيف بمن يشهد بالظن والهوى فيمن أدبر من القرون؟!

    *إن الإسلام له منهجه في الحكم على الرجال والأعمال ، فهو يأمر بالشهادة بالقسط وعدم مسايرة الهوى في شنآن أو في محبة ، ويأمر باتباع العلم لا الظن ، وتمحيص الخبر والتثبت فيه أن يصاب قوم بجهالة ، وهذا في حق كل الناس ، فكيف بخير القرون؟!

    القاعدة السادسة: الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل وإنصاف:

    والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون)) (11).

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل ، وليس بجهل وظلم كحال أهل البدع) (12).

    ويدخل ضمن هذه القاعدة العدل في وصف الآخرين ، والمقصود به هو العدل في ذكر المساوئ والمحاسن والموازنة بينها.

    فمن المعلوم أن أحداً لا يسلم من الخطأ لقول النبي : (كل بني آدم خطاء) (13) ، ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل المحاسن لوجود بعض المساوئ ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو شحناء بينه وبين من يصفه ، فالله عز وجل أدبنا بأحسن الأدب وأكمله بقوله: ((ولا تبخسوا الناس أشياءهم)) (14).

    وحين نجد من يذم غيره بذكر مساوئه فقط ، وبغض النظر عن محاسنه فإن ذلك يرجع في العادة إلى الحسد والبغضاء أو إلى الظنون والخلفيات والآراء المسبقة،أو إلى التنافس المذموم، ولكن المنصفين هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير أو شر ولا يبخسونه حقه، ولو كان الموصوف مخالفاً لهم في الدين والاعتقاد أو في المذهب والانتماء.ومن العلماء الذين برزوا في هذا الشأن الحافظ الذهبي رحمه الله فمن خلال كتابه النفيس (سير أعلام النبلاء) أنصف من ترجم لهم من الأعلام فلم يبخس أهل البدع أو الفسق ما لهم من صفات جيدة ، بل أنصفهم بذكر ما لهم وما عليهم ، يقول مثلاً عن الأشتر النخعي: (أحد الأشراف الأبطال المذكورين، وكان شهماً مطاعاً زعراً (15) ألّب على عثمان وقاتله ، وكان ذا فصاحة وبلاغة) (16).

    ويقول في ترجمة الحكم بن هشام: (وكان من جبابرة الملوك وفساقهم ومتمرديهم ، وكان فارساً شجاعاً ، فاتكاً ذا دهاء وعتو وظلم ، تملك سبعاً وعشرين سنة) (17).

    ويقول في ترجمة الجاحظ الأديب المعتزلي: (العلامة المتبحر ذو الفنون وكان أحد الأذكياء، وكان ماجناً قليل الدين ، له نوادر) (18).

    وقال عن عبدالوارث بن سعيد: (وكان عالماً مجوداً ، ومن أهل الدين والورع ، إلا أنه قدري مبتدع) (19).وقال أثناء حديثه عن ثابت بن قرة:(الصابئ الشقي الحراني، فيلسوف عصره، وكان يتوقد ذكاءً) (20).

    ومنهج الذهبي هذا في العدل والإنصاف في وصف الآخرين منهج علمي دقيق ، وهو منهج أهل السنة والجماعة في حكمهم على غيرهم ، ولذلك ينبغي لكل من رام الإنصاف أن لا يحيد عن هذا المنهج السوي المعتبر ، وأن يتقي الله عز وجل في وصف من يترجم لهم ، أو يتحدث عنهم من الحكام والقادة والعلماء والفقهاء والإخباريين والمؤرخين وغيرهم، ويتكلم بعدل وإنصاف.

    القاعدة السابعة: العبرة بكثرة الفضائل:

    فإن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث ، وكذلك من غلبت فضائله هفواته اغتفر له ذلك ، وفي هذا الصدد يقول الحافظ الذهبي: (وإنما العبرة بكثرة المحاسن) (21).

    وهذه القاعدة جليلة تعد بمثابة منهج صحيح في الحكم على الناس ؛ لأن كل إنسان لا يسلم من الخطأ ، لكن من قل خطؤه وكثر صوابه فهو على خير كثير ، والإنصاف يقتضي أن يغتفر للمرء الخطأ القليل في كثير صوابه.ومنهج أهل السنة هو اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ والنظر إليه بعين الإنصاف.وهناك قاعدة أخرى يمكن اعتبارها في هذا الباب وهي (العبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية) (22).

    القاعدة الثامنة: إحالة الحوادث على الخطأ في الاجتهاد:

    أما إن المجتمع الإسلامي يسير على السنن الطبيعية لكل المجتمعات ، فهذا حق ، ونحن لا نعصم فرداً أو مجتمعاً من أن تسري عليه هذه السنن ، إلا أن يكون نبياً أو رسولاً ، ومن هنا يجب أن نعلم أن الذين صنعوا التاريخ رجال من البشر يجوز عليهم الخطأ والسهو والنسيان وإن كانوا من كبار الصحابة وأجلائهم ، إلا أنه ينبغي إحالة الحوادث إلى الخطأ في الاجتهاد، ونذكر ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أن المجتهد المخطئ له أجر، والمصيب له أجران(23) فهو على كل حال مأجور ، فلا ننقصه وقد آجره الله، كما أنه قد تشهد له دلائل وفضائل أخرى ، وتشفع له مواقف ثابتة.وعليه فإنه ينبغي للمسلم أن يرد كل خبر يطعن في عدالة الصحابة ، وأن ينزه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطمع والشح والغدر والخديعة والغفلة واللؤم والفسق والظلم والاستبداد وأكل الأموال بالباطل ، وكل الأخلاق التي تطعن في العدالة وتعد من الفسق وخوارم المروءة ، وأنهم إن كانوا غير معصومين فهم عدول ، وأن ما اجتهدوا فيه سواءً أتعلق بالدماء أم تعلق بالأموال فهم فيه مأجورون ، وأنهم إن جازت عليهم المعاصي إلا أنهم يتوبون ويستغفرون فيتوب الله عليهم ويغفر لهم ، وأن لهم فضل الصحبة التي خصوا بها ، ونالوا بها من الفضل ما لم يدركه أحد بعدهم.

    ----------
    الهوامش:
    (1)الطبري: تاريخ الرسل ، ج ، ص 279.
    (2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى ، ج28 ، ص 510
    (3) سورة النور:12
    (4) سورة النور:16
    (5) عبدالرحمن السعدي: القواعد الحسان لتفسير القرآن ، ص 195
    (6) سورة الحجرات:6
    (7) أخرجه مسلم في الجامع الصحيح ، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع ، ج1 ، ص 72
    (8) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح ، كتاب الأدب ، ج7 ، ص 288.
    (9) انظر صحيح مسلم ، ج1 ، ص 76
    (10) سورة الزخرف:86
    (11) سورة المائدة:8
    (12) ابن تيمية: منهاج السنة ، ج 4 ، ص 337
    (13) رواه أحمد في المسند ، ج3 ، ص 198
    (14) سورة هود:85
    (15) أي شرساً سيء الخلق ، انظر: لسان العرب
    (16) الذهبي: سير أعلام النبلاء ، ج4 ، ص 34
    (17) المصدر نفسه ، ج8 ، ص 254
    (18) المصدر نفسه ، ج11 ، ص 526-527
    (19) المصدر نفسه ، ج8 ، ص 301
    (20) المصدر نفسه ، ج13 ، ص 485
    (21) المصدر نفسه ، ج20 ، ص 46
    (22) ابن تيمية: منهاج السنة ، ج8 ، ص 412
    (23) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح ، كتاب الاعتصام بالسنة ، ج8 ، ص 157


    المصدر:http://rowadaltamayoz.com/islam/play.php?catsmktba=577
    التعديل الأخير تم بواسطة باحث سلفى; 31 أكت, 2014, 11:48 م.
    أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
    الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
    كتب وورد
    هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
    للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

    تعليق


    • #3
      رد: منهج التفسير التاريخي د. محمد آمحزون

      منهج التفسير التاريخي


      قواعد منهجية في تفسير الحوادث والحكم عليها
      د. محمد آمحزون
      (3)


      القاعدة التاسعة: الطريقة المثلى في معالجة القضايا والأخطاء:

      يلزم دارس التاريخ أن يدرس الظروف التي وقعت فيها أحداثه، والحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي اكتنفت تلك الأحداث ، والأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ قبل أن يحكم عليه، حتى يكون حكمه أقرب إلى الصواب..

      ونكتفي هنا بمثال واحد لبيان الطريقة المثالية في معالجة القضايا والأخطاء ، ألا وهو موقف النبي-صلى الله عليه وسلم-من صنيع حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل كتاباً مع امرأة من المشركين ليخبرهم بمسير الرسول-صلى الله عليه وسلم-إلى مكة ، ومن هذه الحادثة نستطيع أن نحدد ثلاث مراحل للمعالجة العادلة للخطأ أو الحادث:

      *المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ أو وقوع الحادث ، وفي هذا الحادث تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي.

      *المرحلة الثانية: مرحلة التثبت وتبين الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ ، وهذا الأمر متمثل في قوله-صلى الله عليه وسلم-لحاطب: (ما حملك على ما صنعت؟) (1) ، وهذه المرحلة مهمة ؛ لأنه إذا تبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذراً شرعياً في ارتكاب الخطأ تنتهي القضية عند هذا الحد ، وإذا لم يكن العذر مقنعاً من الناحية الشرعية فإنه يصار إلى:

      *المرحلة الثالثة: وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطأ وحشدها إلى جانب خطئه ، فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته ، وهذا الذي سلكه النبي-صلى الله عليه وسلم-مع حاطب حيث قال لعمر عندما استأذن في قتل حاطب: (أليس من أهل بدر؟) ، ثم قال: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو غفرت لكم) (2).

      القاعدة العاشرة: الاستعانة بعلم الجرح والتعديل للترجيح بين الروايات المتعارضة وبناء الصورة التاريخية الصحيحة:

      ينبغي الاستعانة بمنهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات ، فهو الوسيلة للترجيح بين الروايات المتعارضة ، كما أنه خير معين في رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ صدر الإسلام.

      وعلى هذا الأساس يتم اعتماد الروايات الصحيحة ثم الحسنة لبناء الصور التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام ، وعند التعارض يقدم الأقوى دائماً ، أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة ، على شرط أن تتماشى مع روح المجتمع الإسلامي ولا تناقض جانباً عقدياً أو شرعياً ، لأن القاعدة: (التشدد فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة).

      ومن ناحية ثانية ، إذا كان أهل الحديث يتساهلون في الرواية عن الضعفاء إن كانت روايتهم تؤيد أحاديث صحيحة موثقة ، فلابأس إذن من الأخذ بهذا الجانب في التاريخ وجعله معياراً ومقياساً إلى تحري الحقائق التاريخية ومعرفتها ، ومن هذا المنطلق تتخذ الأخبار الصحيحة قاعدة يقاس عليها ما ورد عند الإخباريين مثل سيف بن عمر الضبي والواقدي وأبي مخنف وغيرهم.. فما اتفق معها مما أورده هؤلاء تلقيناه بالقبول، وما خالفها تركناه ونبذناه.

      القاعدة الحادية عشر: الرجوع إلى كتب السنة كمصدر مهم لأخبار صدر الإسلام:

      وكذلك من المفيد جداً في كتابة التاريخ الإسلامي الرجوع إلى كتب السنة إذ هي مصدر موثوق وراجح لأخبار الصدر الأول ، لوجود روايات تاريخية كثيرة فيها على درجة عالية من الصحة، ونظراً لأن كتب الحديث خُدمتْ أكثر من كتب التاريخ من قبل النقاد ، فمثلاً قد تميز صحيحا البخاري ومسلم وعرف أن كل ما فيهما صحيح بعد الدراسات النقدية التي قام بها كبار الحفاظ القدامى والدارسون المعاصرون.وتتضاعف كمية هذه الأخبار الموثوقة بالرجوع إلى كتب السنن والمسانيد والمصنفات ومعاجم الصحابة ، وكتب الفضائل والطبقات ، والتواريخ التي صنفها المحدثون ، وكتابات العلماء الذين كانت لهم عناية بشرح كتب الحديث وذلك أن ثقافتهم الحديثية الممحصة واقتباساتهم من كتب التاريخ المفقودة التي دونها المحدثون الأولون ، جعلت شروحهم غنية بنصوص تاريخية، فعلى سبيل المثال يعتبر كتاب (فتح الباري،شرح صحيح البخاري) للحافظ ابن حجر مثلاً واضحاً لهذه الكتب وهؤلاء العلماء ، إذ يشمل من الفوائد التاريخية كمية لا يستهان بها.

      القاعدة الثانية عشر: معرفة حدود الأخذ من كتب أصحاب الأهواء والفرق:

      من القواعد المهمة أيضاً معرفة الحدود التي تراعى عند الأخذ من كتب أصحاب الأهواء من الفرق الضالة المبتدعة ، إما استجابة لشهوة أو هوى أو بدعوى التأويل المتعسف أو بالوقوع تحت تأثير الزندقة والكفر.

      وقد اعتنى أهل السنة بضبط مذاهب الفرق وأقوالهم لتعرف أحوالهم ومواقفهم ، ويكون المسلم على بيّنة منها فلا يخدع من قبلهم.ولهذا الغرض أفرد بعضهم ذلك بمؤلفات خاصة مثل أبي الحسن الأشعري في(مقالات الإسلاميين) ، وأبي الحسن الملطي في(التنبيه والرد على أهل البدع) ، وابن حزم في كتابه(الفصل في الملل والأهواء والنحل).

      كما أن أصحاب الفرق أنفسهم قاموا بتدوين مذاهبهم ومعتقداتهم وأخبارهم وتراجم رجالهم وعلمائهم ومناظراتهم وردودهم على المخالفين لهم ومنهم من اشتغل بالتاريخ فقام بتدوين الأخبار وفقاً لمعتقده الخاص أو مذهبه السياسي ، فأظهر مثالب خصومه وأخفى محاسنهم.

      ولأجل هذا لابد للمؤرخ المسلم من التعرف على اتجاهات هؤلاء وعقائدهم ، لأن ذلك يمكنه من التعامل مع النصوص التي أوردوها بما يكون لديه من خلفية عن اتجاهاتهم وآرائهم ومواقفهم ، ثم يقارنها بغيرها عند المؤرخين أو العلماء العدول الثقات.

      وعلى ضوء المقابلة والمقارنة بين النصوص ينظر إلى تعصب الراوي من عدمه ؛ فمن لاحت عليه أمارات التحزب أو التحيز لنحلة أو طائفة أو مذهب لا يؤخذ منه في هذه الحال،لأن الخصومة والتعصب حجاب ساتر عن رؤية الحقيقة أما من لا يلحظ عليه التعصب وإن كان من أهل البدع وكان صدوقاً في نفسه معروفاً بالورع والتقوى والضبط، فتقبل روايته ، فقد أخرج بعض الأئمة لنفر من أهل البدع الذين لا يكذبون ، فهذا الإمام البخاري أخرج في صحيحه لعمران بن حطان الخارجي رغم أنه من كبار الدعاة إلى بدعة الخوارج ، لكنه عرف بالورع والتقوى وأنه لا يكذب.
      وقد يجد الباحث في ثنايا الأخبار التي يرويها أهل البدع عن أهل طائفتهم ومذهبهم ما يمكن أن يكون حجة عليهم وبمثابة الإقرار منهم كحكايتهم لبعض الأقوال المتضاربة والمعتلة.

      القاعدة الثالثة عشر: معرفة ضوابط الأخذ من كتب غير المسلمين:

      إذا كان للتاريخ الإسلامي قواعد وأصول وضوابط شرعية يجب على المؤرخ المسلم أن يلتزم بها ، ويكون بحثه واجتهاده في نطاقها ، فذلك يعني الاحتياط عند الأخذ من كتب غير المسلمين ، خصوصاً وأن الحرية بلا قيود وبلا ضوابط تلقاها العلمانيون في الغرب أو في الشرق وطبقوها على التاريخ الإسلامي بمفاهيمها المحلية عندهم.هذا مع الفرق الشاسع بين المنهج العلماني والمنهج الإسلامي بسبب الاختلاف في التصورات والمفاهيم والمبادئ إذ المنهج جزء من التصور مما جعل نتائج أبحاثهم ودراساتهم مناقضة للأحكام الإسلامية وواقع المجتمع الإسلامي ؛ لهذا فإن القضايا التي تطرحها كتب غير المسلمين من يهود ونصارى وغيرهم، التي تعالج التاريخ الإسلامي خصوصاً الصدر الإسلامي الأول ينبغي أن تدرس بعناية وحذر شديدين ، لأنهم لا يصدقون في كثير مما يقولونه عن الإسلام ونظمه ورجاله ، ولا يحل وفق ذلك للمسلم أن يروي عنهم أو يأخذ منهم ، لاسيما وأن من شروط البحث في هذه القضايا عرض الأقوال والأعمال على كتاب الله وسنة رسوله .

      على أن غير المسلمين ليس لديهم من الموانع عن الكذب ما لدى المسلمين ، وبالتالي فهم لا يعرفون هذه الموانع ، لأنهم لا يجدونها في مجتمعاتهم وبيئاتهم والإنسان وليد بيئته وذلك لغلبة التيار المادي عليها وما ينتج عنه من تنافس وصراعات دائمة.

      وحيث انطلقوا من واقعهم هذا للحكم على غيرهم بنفس المنظار ، وقعوا في الخطأ وعمموا الأحكام وشوهوا التاريخ.ثم إذا كان علماء الإسلام لا يثبتون الأحكام بما يرويه المسلم ضعيف الضبط ، فكيف يحق لقوم مؤمنين أن يحملوا عن كافر ساقط العدالة! بل ويضمر من الحقد والبغضاء لهذا الدين ما لا يعلمه إلا الله.

      القاعدة الرابعة عشر: مراعاة ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة:

      ينبغي أن نعلم أن بعض تلك الحوادث الواقعة في صدر الإسلام لا يبررها غير ظروفها التي وقعت فيها ، فلا نحكم عليها بالعقلية أو الظروف التي نعيش فيها نحن أو بأي ظروف يعيش فيها غير أصحاب تلك الحوادث، لأن الحكم حينئذ لن يستند إلى مبررات موضوعية، وبالتالي تكون نظرة الحاكم إلى هذه الوقائع لم تستكمل وسائل الحكم الصحيح، فيصدر الحكم غير مطابق للواقع.ومن الملاحظ أن الخلط بين الواقع المأساوي الذي يعيشه المسلمون في هذا العصر وبين واقع المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام ، يرجع إلى الخطأ في الفهم الناتج في الغالب عن الصورة القاتمة والمغرضة التي يتلقاها النشء عن تاريخ الإسلام وحضارته بواسطة المناهج المنحرفة والفلسفات الوضعية التي تعمم الأحكام وتشوه بذلك التاريخ.

      ولا شك أن مصدر الخطأ في هذه المناهج والفلسفات هو تدخل أصحابها بالتفسير الخاطئ للحوادث التاريخية وفق مقتضيات وأحوال عصرهم الذي يعيشون فيه ، دون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة وأحوال الناس وتوجهاتهم في ذلك الوقت ، والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها..

      أو بعبارة أخرى: إن مصدر الخطأ في منهجهم هو تطبيق واقع العصر الحاضر ومفاهيمه على العصور السابقة ، مع أن لكل عصر مميزاته الواضحة التي تسمى في منهج البحث العلمي(روح العصر).

      وبناء على ذلك يمكن القول إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الطريق هو القياس الفاسد ، إذ أنه من الخطأ لإنسان يعيش في هذا العصر عصر الأثرة والأنانية ، وتقديم المصلحة الشخصية على مصلحة الأمة، وعدم الاعتزاز بالأخلاق والمثل والمبادئ، أن يقيس هذا العصر على عصر صدر الإسلام ، عصر تقدير المسؤولية ، ومراقبة الله جل وعلا في السر والعلن وبذل النفس والمال في سبيل المصلحة العامة للأمة.فمادمنا في عصر تغلب فيه الصراعات السياسية والاقتصادية والتكتلات الحزبية النفعية، فقد قام هؤلاء بتطبيق هذا الواقع بظلاله القاتمة وسلبياته على ذلك العصر الذي كانت العقيدة والمبدأ هي المنطلق والأساس لتصرفات الناس فيه ، وسبب ذلك أن الكتابة التاريخية المعاصرة اصطبغت إلا النزر اليسير بالمنهج المادي الغربي الذي هو بطبيعة الحال ابن بيئته ، تلك البيئة التي تتمرغ في أوحال المادية ، وتعاني من مرارة الصراع النفعي ، ولا تؤمن بما يسمى بالقيم والمبادئ لكنها تؤمن بما يسمى بالمصالح ، ثم فوق ذلك كله هي غارقة إلى أذنيها في النظرة المتعصبة الحاقدة على الإسلام.

      القاعدة الخامسة: عشر استعمال المصطلحات الإسلامية:

      تعد قضية المصطلحات من أشد العناصر أثراً وأهمية وخطورة في ثقافة الشعوب لأنه عن طريقها يتم تثبيت المفاهيم والأفكار.والمصطلح كلمة أو كلمتان ، وقد لا تتعدى ذلك إلا في حالات نادرة لكن هذه الكلمة قادرة على تحويل التفكير من وجهة إلى نقيضها ، بل قادرة على أن تفقد الإنسان التفكير أصلاً.ولأن المصطلحات بهذا القدر من الأهمية ، فإنه منذ أن تقرر في أوكار الصهيونية والصليبية تدمير الخلافة الإسلامية ، وأعداء الأمة الإسلامية يحرصون على تخريب الفكر الإسلامي ، وتشويه العقل المسلم من باب المصطلحات والمفاهيم.فقد كان من تأثير الغزو الثقافي الأوربي للمسلمين أن شاعت بينهم مصطلحات ومفاهيم غريبة عن عقيدتهم وثقافتهم حتى كادت أن تختفي المصطلحات الإسلامية .. على أن هذا المنزلق يتمثل في عدم وعي الباحثين المعاصرين بأن المصطلحات الحديثة إنما تنبثق من رؤية خاصة للفكر الغربي فهي ذات مضامين ودلالات محلية وتاريخية لا يمكن فصلها عن ذلك الوسط الاجتماعي والظروف التاريخية والثقافية التي لابست نشوء هذا المصطلح أو ذاك ، فالمثقفون في العالم الإسلامي كانوا إلى مشارف الخمسينيات لا يدركون أن المصطلح جزء لا يتجزأ من التركيبة أو البنية الحضارية لأي مجتمع وكانوا في حالة الدفاع عن الذات يحاولون أن يوجدوا لكل عنوان براق في المدنية الغربية مثيله في الإسلام عن طريق عقد مقارنات شكلية لا تعير بالاً للارتباط الوثيق الذي يوجد بين المصطلحات والعقائد والأفكار المنبثقة من واقع مجتمع معين.ولنذكر على سبيل المثال مصطلح اليمين واليسار ، فقد نشأ هذا المصطلح خلال الثورة الفرنسية ، وذلك في اجتماع الجمعية التأسيسية المنعقدة بتاريخ الحادي عشر من شهر أيلول (سبتمبر) عام تسع وثمانين وسبعمائة وألف ميلادية ، حيث جلس الأشراف ومؤيدو النظام الملكي على يمين الرئيس وجلس خصومهم أنصار الثورة على يساره ، حتى أصبحت قاعدة تستخدم لتصنيف الفكر السياسي(3).

      ومما لا شك فيه أن هذه الخلفية التاريخية تركت بصماتها على التعريف إلا أنه في عصرنا هذا أصبحت كلمتا اليمين واليسار تعبيرين مطاطيين يختلف مدلولهما حسب الدولة والمراحل التاريخية: فاليسار في دولة ما يعتبر يميناً في دولة أخرى.ورغم أن تصنيفات اليمين واليسار لعبة صهيونية(4) ، إلا أن بعض الباحثين مع الأسف وظفوها بصورة آلية ، حتى أن بعضهم ألفوا كتباً يصنفون فيها الصحابة رضي الله عنهم إلى يمين ويسار ، وأن قمة الصراع الطبقي في زعمهم كانت بين زعيم اليمين معاوية بن أبي سفيان وزعيم اليسار علي بن أبي طالب ، والتاريخ الإسلامي بالنسبة إلى هؤلاء عبارة عن يسار ويمين فالمعتزلة يسار والأشاعرة يمين ، والفلسفة العقلانية الطبيعية عند ابن رشد يسار ، والفلسفة الإشراقية الفيضية عند الفارابي وابن سينا يمين والمالكية الذين يقولون بالمصالح المرسلة يسار ، والفقه الافتراضي عند الحنفية يمين ، والتفسير بالمعقول يسار ، والتفسير بالمأثور يمين(5) ، إلى غير ذلك من التصنيفات الغريبة.إنه يجب الحذر من التقليد الأعمى ، إذ يكمن خطر الذوبان في الفكر الجاهلي الغربي والضياع وسط مصطلحاته الكثيرة التي تفقدنا ذاتيتنا المستقلة وينبغي استعمال المصطلحات الإسلامية ، لأنها ذات دلالة واضحة ومحددة ولأنها معايير شرعية لها قيمتها في وزن الأشخاص والأحداث.. فالقرآن الكريم قسم الناس إلى: (المؤمن) و(الكافر) و(المنافق) ، ولكل من الثلاثة صفات محددة ثابتة ودقيقة لا تقبل التلاعب فيها.

      فما ينبغي أن نحيد عن هذا التقسيم إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلامية كوصف الإنسان بأنه يميني أو يساري أو غير ذلك من النعوت غير الشرعية والتي ليست محددة بصورة دقيقة وثابتة ، وكذلك فإن الحكم على الأعمال والمنجزات التاريخية والحضارية ينبغي أن تستخدم فيه المصطلحات الشرعية وهي(الخير) و(الشر) و(الحق) و(الباطل) و(العدل) و(الظلم) ، كما جاءت محددة في القرآن والسنة ، ولا تستخدم معايير الفكر الغربي كالتقدمية والرجعية..(6).

      وقد تابع الباحثون العرب الغربيين في كل شيء حتى في المصطلحات ذات العلاقة بالتوزيع الجغرافي والتوزيع التاريخي التي لا صلة لها بواقعهم أو تاريخهم ، ففي إطار التوزيع الجغرافي وضع الغربيون مصطلحات الشرق الأدنى والشرق الأوسط والشرق الأقصى ، وهي مصطلحات يستعملها العرب اليوم بلا بصيرة ؛ وذلك لأن المستعمر الأوربي اعتبر نفسه في مركز الأرض فأطلق هذا التوزيع بالنسبة لموقعه.

      وكذلك التوزيع التاريخي مثل العصور القديمة والعصور الوسطى والعصور الحديثة ، فهذا التوزيع يتميز بمراحل وتقلبات تاريخية عاشتها أوربا مما يجعل لكل فترة من هذه الفترات خصائص ومفاهيم مستقلة تبعاً للتطورات والانقلابات الفكرية والعقائدية التي عاشتها أوربا في كل حقبة من هذه الحقب:

      فالعصور القديمة تميزت بالوثنيات الإغريقية والرومانية ، ثم جاءت العصور الوسطى فعرفت هيمنة الكنيسة وتسلط البابوية ، بينما كان من سمات العصور الحديثة ظهور النظم العلمانية والدول الحديثة.. أما التاريخ الإسلامي بما فيه تاريخ الأنبياء فهو وحدة واحدة بالنظر إلى المفاهيم والمبادئ السائدة فيه التي لا تتبدل تبعاً لتبدل الزمان والدول والحكام ؛ لأنه تاريخ أمة ذات عقيدة واحدة ثابتة لا يطرأ عليها التغيير ، ولذلك ليس بلازم أخذ هذا التوزيع الأوربي ولا متابعتهم عليه ؛ لأنه يفتت تاريخنا ويوجد الحواجز بين عصوره.وفي الختام لا يسعني إلا أن أدعو الباحثين والمؤرخين المسلمين إلى تقديم دراسات مفصلة تكشف عن حقائق التاريخ الإسلامي، وصياغة منهج نقدي تعامل وفقه الروايات التاريخية، والمساهمة في تصحيح الأفكار والمفاهيم والعودة بالنشء إلى المنابع الصافية في الكتاب والسنة ؛ لأن تاريخ هذه الأمة بمثابة عرضها وشرفها ، إذ هو القناة التي أوصلت لنا هذا الدين جملة وتفصيلاً وبقدر ما تتلوث القناة يتلوث المنقول خلالها.ومن الواضح أن إبراز المنهج الإسلامي في كتابة التاريخ ، وتدوين قواعده ، وبيان ركائزه ومنطلقاته، والالتزام به من أهم وسائل التصحيح المنشود في هذا السبيل، وأن هذا الالتزام يعد ضرورة علمية ، ووظيفة شرعية وحاجة إنسانية والإخلال بها إخلال بموازين العلم الصحيحة وبالأحكام الشرعية ، كما يسبب ذلك نقصاً كبيراً في الدراسة وتشويهاً للوقائع التاريخية بل يسبب انحرافاً خطيراً في التفسير والفهم والسلوك تجاه الأحداث.ومن ثم أصبح فرضاً على كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإسلام أن يعتبر ذلك من أفضل العبادات ، وأن يبادر له ويجتهد فيه ما استطاع إلى أن يكون أمام شباب المسلمين مثال صالح من سلفهم يقتدون به ويحددون عهده ويصلحون سيرتهم بصلاح وكمال سيرته.ولأجل ذلك ، لابد من محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأقلام إسلامية تؤمن بالله ورسوله، وتحب صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، مع إحساس بدور الإسلام في الحياة ، كما تحس بدور القدوة الصالحة للخلافة الراشدة في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا ، لاسيما وأن تاريخ الخلفاء الراشدين اختص بصفات تميز بها الخلفاء في سلوكهم الذاتي ، وفي إدارتهم لشؤون الأمة ورعايتهم لدينها وعقيدتها ، وحفاظهم على المنهج الذي جاء به رسول الله-صلى الله عليه وسلم-من الدعوة والجهاد وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولذلك صار عصرهم مع عصر النبوة معلماً بارزاً ونموذجاً مكتملاً ينبغي أن نسعى إلى محاولة الوصول إليه ، وجعله معلماً من معالم التأسي والقدوة الصالحة للأجيال الإسلامية في هذا العصر .

      -------
      الهوامش :
      (1)،(2) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح ، كتاب المغازي ، ج5 ، ص 10
      (3) عبدالرحمن الزيد ، مصطلحات سياسية ، ص 139، مجلة السنة ، العدد السادس ، أكتوبر 1990م
      (4) انظر عماد الدين خليل: لعبة اليمين واليسار
      (5) انظر مثلاً: ماذا يعني اليسار الإسلامي ، لحسن حنفي
      (6) أكرم ضياء العمري: المجتمع المدني في عهد النبوة ، ص 23


      المصدر: http://rowadaltamayoz.com/islam/play.php?catsmktba=578
      التعديل الأخير تم بواسطة باحث سلفى; 31 أكت, 2014, 11:51 م.
      أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
      الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
      كتب وورد
      هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
      للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

      تعليق

      مواضيع ذات صلة

      تقليص

      المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
      ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 19 فبر, 2023, 10:23 م
      ردود 0
      39 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
      ابتدأ بواسطة سيف الكلمة, 20 سبت, 2021, 07:32 م
      ردود 3
      86 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة *اسلامي عزي*
      بواسطة *اسلامي عزي*
       
      ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 21 أبر, 2021, 03:16 ص
      ردود 0
      94 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة *اسلامي عزي*
      بواسطة *اسلامي عزي*
       
      ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 11 أبر, 2021, 12:20 م
      ردود 0
      65 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
      ابتدأ بواسطة أكرمنى ربى بالاسلام, 1 فبر, 2021, 08:35 م
      ردود 13
      138 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة أكرمنى ربى بالاسلام  
      يعمل...
      X