صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

تقليص

عن الكاتب

تقليص

إيمان أحمد مسلمة اكتشف المزيد حول إيمان أحمد
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #46
    رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

    ثم دخلت سنة سبع وتسعين
    ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث
    وفيها غزا- فيما ذكر الواقدي- مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، ففتح الحصن الذي كان فتحه الوضاح صاحب الوضاحية.
    وفيها غزا عمر بن هبيرة الفزاري في البحر أرض الروم، فشتا بها.
    وفيها قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بالأندلس، وقدم برأسه على سليمان حبيب بن أبى عبيد الفهري.

    ولايه يزيد بن المهلب على خراسان

    وفيها ولى سليمان بن عبد الملك يزيد بن المهلب خراسان.
    *ذكر الخبر عن سبب ولايته خراسان:
    وكان السبب في ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما أفضت الخلافة إليه ولى يزيد بن المهلب حرب العراق والصلاة وخراجها.
    فذكر هشام بن محمد عن أبي مخنف، أن يزيد نظر لما ولاه سليمان ما ولاه من أمر العراق في أمر نفسه، فقال: إن العراق قد أخربها الحجاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج أدخل على الناس الحرب، وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني فأتى يزيد سليمان فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه، فتكون أنت تأخذه به؟ صالح بن عبد الرحمن، مولى بني تميم. فقال له: قد قبلنا رأيك، فأقبل يزيد إلى العراق.
    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

    وحدثني عمر بن شبة، قال: قال علي: كان صالح قدم العراق قبل قدوم يزيد، فنزل واسطا قال علي: فقال عباد بن أيوب: لما قدم يزيد خرج الناس يتلقونه، فقيل لصالح: هذا يزيد، وقد خرج الناس يتلقونه، فلم يخرج حتى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح، عليه دراعة ودبوسية صفراء صغيره، بين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقي يزيد فسايره، فلما دخل المدينة قال له صالح: قد فرغت لك هذه الدار- فأشار له إلى دار- فنزل يزيد، ومضى صالح إلى منزله قال: وضيق صالح على يزيد فلم يملكه شيئا، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال له يزيد: اكتب ثمنها علي، واشتري متاعا كثيرا، وصك صكاكا إلى صالح لباعتها منه، فلم ينفذه، فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال: هذا عملي بنفسي، فلم يلبث أن جاء صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد: ما هذه الصكاك؟ الخراج لا يقوم لها، قد أنفذت لك منذ أيام صكا بمائة ألف، وعجلت لك أرزاقك، وسألت مالا للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء، ولا يرضى أمير المؤمنين به، وتؤخذ به! فقال له يزيد: يا أبا الوليد، أجز هذه الصكاك هذه المرة، وضاحكه قال: فإني أجيزها، فلا تكثرن علي، قال: لا.
    وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال في ذلك: حدثني أبو مالك أن وكيع بن أبي سود بعث بطاعته وبرأس قتيبة إلى سليمان، فوقع ذلك من سليمان كل موقع، فجعل يزيد بن المهلب لعبد الله بن الأهتم مائة ألف على أن ينقر وكيعا عنده، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! والله ما أحد أوجب شكرا، ولا أعظم عندي يدا من وكيع، لقد أدرك بثأري، وشفاني من عدوي، ولكن أمير المؤمنين أعظم وأوجب علي حقا، وأن النصيحة تلزمني لأمير المؤمنين، إن وكيعا لم يجتمع له مائة عنان قط إلا حدث نفسه بغدرة، خامل في الجماعة، نابه في الفتنة، فقال: ما هو إذا ممن نستعين به- وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع- فاستعمل سليمان يزيد ابن المهلب على حرب العراق، وأمره إن أقامت قيس البينة أن قتيبة لم يخلع فينزع يدا من طاعة، أن يقيد وكيعا به فغدر يزيد، فلم يعط عبد الله ابن الأهتم ما كان ضمن له، ووجه ابنه مخلد بن يزيد إلى وكيع.
    رجع الحديث إلى حديث علي، قال علي: أخبرنا أبو مخنف عن عثمان بن عمرو بن محصن، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، قال: وجه يزيد ابنه مخلدا إلى خراسان فقدم مخلد عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي، ثم الصنابحي، حين دنا من مرو، فلما قدمها أرسل إلى وكيع أن القني، فأبى، فأرسل إليه عمرو، يا أعرابي أحمق جلفا جافيا، انطلق إلى أميرك فتلقه وخرج وجوه من أهل مرو يتلقون مخلدا، وتثاقل وكيع عن الخروج، فأخرجه عمرو الأزدي، فلما بلغوا مخلدا نزل الناس كلهم غير وكيع ومحمد بن حمران السعدي وعباد بن لقيط أحد بني قيس بن ثعلبة، فأنزلوهم، فلما قدم مرو حبس وكيعا فعذبه، وأخذ أصحابه فعذبهم قبل قدوم أبيه.
    قال علي: عن كليب بن خلف، قال: أخبرنا إدريس بن حنظلة، قال:
    لما قدم مخلد خراسان حبسني، فجاءني ابن الأهتم فقال لي: أتريد أن تنجو؟ قلت: نعم، قال: أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المري إلى قتيبة في خلع سليمان، فقلت له: يا بن الأهتم، إياي تخدع عن ديني! قال: فدعا بطومار وقال: انك احمق فكتب كتبا عن لسان القعقاع ورجال من قيس إلى قتيبة أن، الوليد بن عبد الملك قد مات، وسليمان باعث هذا المزوني على خراسان فاخلعه. فقلت: يا بن الأهتم، تهلك والله نفسك! والله لئن دخلت عليه لأعلمنه أنك كتبتها.
    قال: ووصل يزيد عبد الملك بن سلام السلولي فقال:
    ما زال سيبك يا يزيد بحوبتي ... حتى ارتويت وجودكم لا ينكر
    أنت الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وعاش المقتر
    عمت سحابته جميع بلادكم ... فرووا وأغدقهم سحاب ممطر
    فسقاك ربك حيث كنت مخيلة ... ريا سحائبها تروح وتبكر

    ثم دخلت سنة ثمان وتسعين
    ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
    خبر محاصرة مسلمة بن عبد الملك القسطنطينية
    فذكر محمد بن عمر أن ثور بن يزيد حدثه عن سليمان بن موسى.
    قال: لما دنا مسلمة من قسطنطينية أمر كل فارس أن يحمل على عجز فرسه مديين من طعام حتى يأتي به القسطنطينية، فأمر بالطعام فألقي في ناحية مثل الجبال، ثم قال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئا، أغيروا في ارضهم، وازدرعوا وعمل بيوتا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس، ومكث ذلك الطعام في الصحراء لا يكنه شيء، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع، فأقام مسلمة بالقسطنطينية قاهرا لأهلها، معه وجوه أهل الشام: خالد بن معدان، وعبد الله بن أبي زكرياء الخزاعي، ومجاهد بن جبر، حتى أتاه موت سليمان فقال القائل:
    تحمل مدييها ومديى مسلمه
    حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: لما ولي سليمان غزا الروم فنزل دابق، وقدم مسلمة فهابه الروم، فشخص إليون من أرمينية، فقال لمسلمة: ابعث إلي رجلا يكلمني، فبعث ابن هبيرة، فقال له ابن هبيرة: ما تعدون الأحمق فيكم؟ قال: الذي يملأ بطنه من كل شيء يجده، فقال له ابن هبيرة: إنا أصحاب دين، ومن ديننا طاعة أمرائنا، قال: صدقت، كنا وأنتم نقاتل على الدين ونغضب له، فأما اليوم فإنا نقاتل على الغلبة والملك، نعطيك عن كل رأس دينارا.
    فرجع ابن هبيرة إلى الروم من غده، وقال: أبى أن يرضى، أتيته وقد تغدى وملأ بطنه ونام، فانتبه وقد غلب عليه البلغم، فلم يدر ما قلت.
    وقالت البطارقة لإليون: إن صرفت عنا مسلمة ملكناك فوثقوا له، فأتى مسلمة فقال: قد علم القوم أنك لا تصدقهم القتال، وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، ولو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم، فأحرقه، فقوي العدو، وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، فكانوا على ذلك حتى مات سليمان قال: وكان سليمان بن عبد الملك لما نزل دابق اعطى الله عهدا الا ينصرف حتى يدخل الجيش الذي وجهه إلى الروم القسطنطينية.
    قال: وهلك ملك الروم، فأتاه إليون فأخبره، وضمن له أن يدفع إليه أرض الروم، فوجه معه مسلمة حتى نزل بها، وجمع كل طعام حولها وحصر أهلها وأتاهم إليون فملكوه، فكتب إلى مسلمة يخبره بالذي كان، ويسأله أن يدخل من الطعام ما يعيش به القوم، ويصدقونه بأن أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم في أمان من السباء والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة في حمل الطعام، وقد هيأ إليون السفن والرجال، فأذن له، فما بقي في تلك الحظائر إلا ما لا يذكر، حمل في ليلة، وأصبح إليون محاربا، وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب بها، فلقي الجند ما لم يلق جيش، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وكل شيء غير التراب، وسليمان مقيم بدابق، ونزل الشتاء فلم يقدر يمدهم حتى هلك سليمان.

    مبايعة سليمان لابنه أيوب وليا للعهد
    وفي هذه السنة بايع سليمان بن عبد الملك لابنه أيوب بن سليمان وجعله ولي عهده، فحدثني عمر بن شبة، عن علي بن محمد، قال: كان عبد الملك أخذ على الوليد وسليمان أن يبايعا لابن عاتكة ولمروان بن عبد الملك من بعده، قال: فحدثني طارق بن المبارك، قال: مات مروان بن عبد الملك في خلافة سليمان منصرفه من مكة، فبايع سليمان حين مات مروان لأيوب، وأمسك عن يزيد وتربص به، ورجا أن يهلك، فهلك أيوب وهو ولي عهده.
    وفي هذه السنة- فيما زعم الواقدي- غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل أنطاكية، وأصاب الوليد ناسا من ضواحي الروم وأسر منهم بشرا كثيرا.

    غزو جرجان وطبرستان
    فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن يزيد بن المهلب لما قدم خراسان أقام ثلاثة أشهر أو أربعة، ثم أقبل إلى دهستان وجرجان، وبعث ابنه مخلدا على خراسان، وجاء حتى نزل بدهستان، وكان أهلها طائفة من الترك، فأقام عليها، وحاصر أهلها، معه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام ووجوه أهل خراسان والري، وهو في مائة ألف مقاتل سوى الموالي والمماليك والمتطوعين، فكانوا يخرجون فيقاتلون الناس، فلا يلبثهم الناس أن يهزموهم فيدخلون حصنهم، ثم يخرجون أحيانا فيقاتلون فيشتد قتالهم.
    وكان جهم وجمال ابنا زحر من يزيد بمكان، وكان يكرمهما، وكان محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي له لسان وبأس، غير أنه كان يفسد نفسه بالشراب، وكان لا يكثر غشيان يزيد وأهل بيته، وكأنه أيضا حجزه عن ذلك ما رأى من حسن أثرهم على ابني زحر جهم وجمال وكان إذا نادى المنادي: يا خيل الله اركبي وأبشري كان أول فارس من أهل العسكر يبدر إلى موقف البأس عند الروع محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة، فنودي ذات يوم في الناس، فبدر الناس ابن أبي سبرة، فإنه لواقف على تل إذ مر به عثمان بن المفضل، فقال له: يا بن أبي سبرة، ما قدرت على أن أسبقك إلى الموقف قط، فقال: وما يغني ذلك عني، وأنتم ترشحون غلمان مذحج، وتجهلون حق ذوي الأسنان والتجارب والبلاء! فقال: أما إنك لو تريد ما قبلنا لم نعدل عنك ما أنت له أهل.
    قال: وخرج الناس فاقتتلوا قتالا شديدا فحمل محمد بن أبي سبرة على تركي قد صد الناس عنه، فاختلفا ضربتين، فثبت سيف التركي في بيضة ابن أبي سبرة، وضربه ابن أبي سبرة فقتله، ثم أقبل وسيفه في يده يقطر دما، وسيف التركي في بيضته، فنظر الناس إلى أحسن منظر رأوه من فارس، ونظر يزيد إلى ائتلاق السيفين والبيضة والسلاح فقال: من هذا؟ فقالوا: ابن أبي سبرة، فقال: لله أبوه! أي رجل هو لولا إسرافه على نفسه! وخرج يزيد بعد ذلك يوما وهو يرتاد مكانا يدخل منه على القوم، فلم يشعر بشيء حتى هجم عليه جماعة من الترك- وكان معه وجوه الناس وفرسانهم، وكان في نحو من أربعمائة، والعدو في نحو من أربعة آلاف- فقاتلهم ساعة، ثم قالوا ليزيد: أيها الأمير، انصرف ونحن نقاتل عنك، فأبى أن يفعل، وغشي القتال يومئذ بنفسه، وكان كأحدهم، وقاتل ابن أبي سبرة وابنا زحر والحجاج بن جارية الخثعمي وجل أصحابه، فأحسنوا القتال، حتى إذا أرادوا الانصراف جعل الحجاج بن جارية على الساقة، فكان يقاتل من ورائه حتى انتهى إلى الماء، وقد كانوا عطشوا فشربوا، وانصرف عنهم العدو، ولم يظفروا منهم بشيء، فقال سفيان ابن صفوان الخثعمي:
    لولا ابن جارية الأغر جبينه ... لسقيت كأسا مرة المتجرع
    وحماك في فرسانه وخيوله ... حتى وردت الماء غير متعتع
    ثم إنه ألح عليها وأنزل الجنود من كل جانب حولها، وقطع عنهم المواد، فلما جهدوا، وعجزوا عن قتال المسلمين، واشتد عليهم الحصار والبلاء، بعث صول دهقان دهستان إلى يزيد: إني أصالحك على أن تؤمنني على نفسي وأهل بيتي ومالي، وأدفع إليك المدينة وما فيها وأهلها.
    فصالحه، وقبل منه، ووفى له، ودخل المدينة فأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز ومن السبي شيئا لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرا، وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد الملك.
    ثم خرج حتى أتى جرجان، وقد كانوا يصالحون أهل الكوفة على مائه الف، ومائتي الف أحيانا، وثلاثمائة ألف، وصالحوهم عليها، فلما أتاهم يزيد استقبلوه بالصلح وهابوه وزادوه، واستخلف عليهم رجلا من الأزد يقال له: أسد بن عبد الله، ودخل يزيد إلى الإصبهبذ في طبرستان فكان معه الفعلة يقطعون الشجر، ويصلحون الطرق، حتى انتهوا إليه، فنزل به فحصره وغلب على أرضه، وأخذ الإصبهبذ يعرض على يزيد الصلح ويريده على ما كان يؤخذ منه، فيأبى رجاء افتتاحها فبعث ذات يوم أخاه أبا عيينة في أهل المصرين، فأصعد في الجبل إليهم، وقد بعث الإصبهبذ إلى الديلم، فاستجاش بهم، فاقتتلوا، فحازهم المسلمون ساعة وكشفوهم، وخرج رأس الديلم يسأل المبارزة، فخرج إليه ابن أبي سبرة فقتله، فكانت هزيمتهم حتى انتهى المسلمون إلى فم الشعب، فذهبوا ليصعدوا فيه، وأشرف عليهم العدو يرشقونهم بالنشاب، ويرمونهم بالحجارة، فانهزم الناس من فم الشعب من غير كبير قتال ولا قوة من عدوهم على اتباعهم وطلبهم، وأقبلوا يركب بعضهم بعضا، حتى أخذوا يتساقطون في اللهوب، ويتدهدى الرجل من رأس الجبل حتى نزلوا إلى عسكر يزيد لا يعبئون بالشر شيئا.
    وأقام يزيد بمكانه على حاله، وأقبل الإصبهبذ يكاتب أهل جرجان ويسألهم أن يثبوا بأصحاب يزيد، وأن يقطعوا عليه مادته والطرق فيما بينه وبين العرب، ويعدهم أن يكافئهم على ذلك، فوثبوا بمن كان يزيد خلف من المسلمين، فقتلوا منهم من قدروا عليه، واجتمع بقيتهم فتحصنوا في جانب، فلم يزالوا فيه حتى خرج إليهم يزيد وأقام يزيد على الإصبهبذ في ارضه حتى صالحه على سبعمائة الف درهم وأربعمائة الف نقدا ومائتي الف وأربعمائة حمار موقره زعفرانا، وأربعمائة رجل؟ على راس كل رجل برنس، على البرنس طيلسان ولجام من فضة وسرقة من حرير، وقد كانوا صالحوا قبل ذلك على مائتي ألف درهم.
    ثم خرج منها يزيد وأصحابه كأنهم فل، ولولا ما صنع أهل جرجان لم يخرج من طبرستان حتى يفتحها.
    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

    قال علي: قال أبو بكر الهذلي: كان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفعوا عليه أنه أخذ خريطة، فسأله يزيد عنها، فأتاه بها، فدعا يزيد الذي رفع عليه فشتمه، وقال لشهر: هي لك، قال: لا حاجة لي فيها، فقال القطامي الكلبي- ويقال: سنان بن مكمل النميري:
    لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر
    أخذت به شيئا طفيفا وبعته ... من ابن جونبوذ ان هذا هو الغدر
    وقال مرة النخعي لشهر:
    يا بن المهلب ما أردت إلى امرئ ... لولاك كان كصالح القراء
    قال علي في حديثه، عمن ذكر خبر جرجان عنهم: وزاد فيه على ابن مجاهد، عن خالد بن صبيح أن يزيد بن المهلب لما صالح صولا طمع في طبرستان أن يفتحها، فاعتزم على أن يسير إليها، فاستعمل عبد الله بن المعمر اليشكري على البياسان ودهستان، وخلف معه أربعة آلاف، ثم أقبل إلى أداني جرجان مما يلي طبرستان، واستعمل على أندرستان أسد ابن عمرو- أو ابن عبد الله بن الربعة- وهي مما يلي طبرستان، وخلفه، في أربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ فأرسل إليه يسأله الصلح.
    وأن يخرج من طبرستان، فأبى يزيد، ورجا أن يفتحها، فوجه أخاه أبا عيينة من وجه، وخالد بن يزيد ابنه من وجه، وأبا الجهم الكلبي من وجه، وقال: إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس فسار أبو عيينة في أهل المصرين ومعه هريم بن أبي طحمة وقال يزيد لأبي عيينة: شاور هريما فإنه ناصح وأقام يزيد معسكرا.
    قال: واستجاش الإصبهبذ بأهل جيلان وأهل الديلم، فأتوه فالتقوا في سند جبل، فانهزم المشركون، وأتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب فدخله المسلمون، فصعد المشركون في الجبل، وأتبعهم المسلمون، فرماهم العدو بالنشاب والحجارة، فانهزم أبو عيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضا يساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكف العدو عن أتباعهم، وخافهم الإصبهبذ، فكتب إلى المرزبان ابن عم فيروز بن قول وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان: إنا قد قتلنا يزيد وأصحابه فاقتل من في البياسان من العرب فخرج إلى أهل البياسان والمسلمون غارون في منازلهم، قد أجمعوا على قتلهم، فقتلوا جميعا في ليلة، فأصبح عبد الله بن المعمر مقتولا وأربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أحد، وقتل من بني العم خمسون رجلا، قتل الحسين بن عبد الرحمن واسماعيل ابن إبراهيم بن شماس وكتب إلى الإصبهبذ يأخذ بالمضايق والطرق.
    وبلغ يزيد قتل عبد الله بن المعمر وأصحابه، فأعظموا ذلك، وهالهم، ففزع يزيد إلى حيان النبطي وقال: لا يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين، قد جاءنا عن جرجان ما جاءنا، وقد أخذ هذا بالطرق، فاعمل في الصلح، قال: نعم، فأتى حيان الإصبهبذ فقال: أنا رجل منكم، وإن كان الدين قد فرق بيني وبينكم، فانى لكم ناصح، وأنت أحب إلي من يزيد، وقد بعث يستمد، وأمداده منه قريبة، وإنما أصابوا منه طرفا، ولست آمن ان يأتيك مالا تقوم له، فأرح نفسك منه، وصالحه فإنك إن صالحته صير حده على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم من قتلوا، فصالحه على سبعمائة الف- وقال على بن مجاهد: على خمسمائة الف- وأربعمائة وقر زعفران او قيمته من العين، وأربعمائة رجل، على كل رجل برنس وطيلسان، ومع كل رجل جام فضة وسرقة خز وكسوة.
    ثم رجع إلى يزيد بن المهلب فقال: ابعث من يحمل صلحهم الذي صالحتهم عليه، قال: من عندهم أو من عندنا؟ قال: من عندهم وكان يزيد قد طابت نفسه على أن يعطيهم ما سألوا، ويرجع إلى جرجان فأرسل يزيد من يحمل ما صالحهم عليه حيان، وانصرف إلى جرجان، وكان يزيد قد غرم حيانا مائتي الف، فخاف ألا يناصحه.
    والسبب الذى له اغرم حيان فيه ما حدثني علي بن مجاهد، عن خالد بن صبيح، قال: كنت مؤدبا لولد حيان، فدعاني فقال لي: اكتب كتابا إلى مخلد بن يزيد- ومخلد يومئذ ببلخ، ويزيد بمرو- فتناولت القرطاس، فقال: اكتب: من حيان مولى مصقلة إلى مخلد بن يزيد، فغمزني مقاتل ابن حيان الا تكتب، وأقبل على أبيه فقال: يا أبت تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك! قال: نعم يا بني، فإن لم يرض لقي ما لقي قتيبة ثم قال لي: اكتب، فكتبت، فبعث مخلد بكتابه إلى أبيه، فأغرم يزيد حيان مائتي ألف درهم.

    فتح جرجان
    وفي هذه السنة فتح يزيد جرجان الفتح الآخر بعد غدرهم بجنده ونقضهم العهد، قال علي، عن الرهط الذين ذكر أنهم حدثوه بخبر جرجان وطبرستان: ثم إن يزيد لما صالح أهل طبرستان قصد لجرجان، فأعطى الله عهدا، لئن ظفر بهم الا يقلع عنهم، ولا يرفع عنهم السيف حتى يطحن بدمائهم، ويختبز من ذلك الطحين، ويأكل منه، فلما بلغ المرزبان أنه قد صالح الإصبهبذ وتوجه إلى جرجان، جمع أصحابه وأتى وجاه، فتحصن فيها، وصاحبها لا يحتاج إلى عدة من طعام ولا شراب وأقبل يزيد حتى نزل عليها وهم متحصنون فيها، وحولها غياض فليس يعرف لها إلا طريق واحد، فأقام بذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء، ولا يعرف لهم مأتى إلا من وجه واحد، فكانوا يخرجون في الأيام فيقاتلونه ويرجعون إلى حصنهم، فبينا هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان كان مع يزيد يتصيد ومعه شاكرية له.
    وقال هشام بن محمد، عن أبي مخنف: فخرج رجل من عسكره من طيئ يتصيد، فأبصر وعلا يرقي في الجبل، فأتبعه، وقال لمن معه: قفوا مكانكم، ووقل في الجبل يقتص الأثر، فما شعر بشيء حتى هجم على عسكرهم، فرجع يريد اصحابه، فخاف الا يهتدي، فجعل يخرق قباءه ويعقد على الشجر علامات، حتى وصل إلى أصحابه، ثم رجع إلى العسكر ويقال: إن الذي كان يتصيد الهياج بن عبد الرحمن الأزدي من أهل طوس، وكان منهوما بالصيد، فلما رجع إلى العسكر أتى عامر بن أينم الواشجي صاحب شرطة يزيد، فمنعوه من الدخول، فصاح: إن عندي نصيحة.
    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

    وقال هشام عن أبي مخنف: جاء حتى رفع ذلك الى ابني زحر بن قيس، فانطلق به ابنا زحر حتى أدخلاه على يزيد فأعلمه، فضمن له بضمان الجهنية- أم ولد كانت ليزيد- على شيء قد سماه.
    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

    وقال علي بن محمد في حديثه عن أصحابه: فدعا به يزيد فقال: ما عندك؟ قال: أتريد أن تدخل وجاه بغير قتال؟ قال: نعم، قال: جعالتي؟ قال: احتكم، قال: أربعة آلاف، قال: لك دية، قال: عجلوا لي أربعة آلاف، ثم أنتم بعد من وراء الإحسان فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب ألف وأربعمائة، فقال: الطريق لا يحمل هذه الجماعة لالتفاف الغياض، فاختار منهم ثلاثمائة، فوجههم، واستعمل عليهم جهم بن زحر.
    وقال بعضهم: استعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وقال له: إن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت، وإياك أن أراك عندي منهزما، وضم إليه جهم بن زحر، وقال يزيد للرجل الذي ندب الناس معه: متى تصل إليهم؟ قال: غدا عند العصر فيما بين الصلاتين، قال: امضوا على بركة الله، فإني سأجهد على مناهضتهم غدا عند صلاة الظهر فساروا، فلما قارب انتصاف النهار من غد أمر يزيد الناس أن يشعلوا النار في حطب كان جمعه في حصاره إياهم، فصيره آكاما، فأضرموه نارا، فلم تزل الشمس حتى صار حول عسكره أمثال الجبال من النيران، ونظر العدو إلى النار، فهالهم ما رأوا من كثرتها، فخرجوا إليهم وأمر يزيد الناس حين زالت الشمس فصلوا، فجمعوا بين الصلاتين، ثم زحفوا إليهم فاقتتلوا، وسار الآخرون بقية يومهم والغد، فهجموا على عسكر الترك قبيل العصر، وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتل من هذا الوجه، فما شعروا إلا بالتكبير من ورائهم، فانقطعوا جميعا إلى حصنهم، وركبهم المسلمون، فأعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكم يزيد، فسبى ذراريهم، وقتل مقاتلتهم، وصلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثني عشر ألفا إلى الأندرهز- وادي جرجان- وقال: من طلبهم بثأر فليقتل، فكان الرجل من المسلمين يقتل الأربعة والخمسة في الوادي، وأجرى الماء في الوادي على الدم، وعليه أرحاء ليطحن بدمائهم، ولتبر يمينه، فطحن واختبز وأكل وبنى مدينة جرجان وقال بعضهم: قتل يزيد من أهل جرجان أربعين ألفا، ولم تكن قبل ذلك مدينة ورجع إلى خراسان واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفي.
    [فيه نكارة، إضافة إلى وجود مجاهيل في إسناد هذه الرواية فإنه لحكمة ما لم يعتد أئمة الحديث برواية الرجل الذي لم يوثقه سوى ابن حبان وللا أن العلماء تساهلوا في رواية التاريخ لما ذكرنا رواية هؤلاء في قسم الصحيح، ومع ذلك فإننا قد ضربنا بعرض الحائط كل رواية من طريق رواة هذا إذا كان لهم في المتن نكارة، وأية نكارة أشد من هذا الذي ذكره الطبري هنا عن شيوخ المدائني؟! فكيف يختبز المسلمون عن دماء سفحت والدم المسموح حرام؟]

    وأما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف أنه قال: دعا يزيد جهم ابن زحر فبعث معه أربعمائة رجل حتى أخذوا في المكان الذي دلوا عليه وقد أمرهم يزيد فقال: إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا، حتى إذا كان في السحر فكبروا، ثم انطلقوا نحو باب المدينة، فإنكم تجدوني وقد نهضت بجميع الناس إلى بابها، فلما دخل ابن زحر المدينة أمهل حتى إذا كانت
    الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدا إلا قتله وكبر، ففزع أهل المدينة فزعا لم يدخلهم مثله قط فيما مضى، فلم يرعهم إلا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبرون فدهشوا، فألقى الله في قلوبهم الرعب، وأقبلوا لا يدرون أين يتوجهون! غير أن عصابة منهم ليسوا بالكثير قد أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة، فدقت يد جهم، وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبثوهم أن قتلوهم إلا قليلا وسمع يزيد بن المهلب التكبير، فوثب في الناس إلى الباب، فوجدوهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد عليه من يمنعه ولا من يدفع عنه كبير دفع، ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجذوع فرسخين عن يمين الطريق ويساره، فصلبهم أربعة فراسخ، وسبى أهلها، وأصاب ما كان فيها.
    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

    قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي أيوب بن سليمان بن عبد الملك، فحدثت عن علي بن محمد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، عن شيخ من أهل الري أدرك يزيد، قال: أتى يزيد بن المهلب الري حين فرغ من جرجان، فبلغه وفاة أيوب بن سليمان وهو يسير في باغ أبي صالح على باب الري، فارتجز راجز بين يديه فقال:
    إن يك أيوب مضى لشأنه ... فإن داود لفي مكانه
    يقيم ما قد زال من سلطانه

    ثم دخلت سنة تسع وتسعين
    ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
    وفاة سليمان بن عبد الملك
    وقال علي: قال المفضل بن المهلب: دخلت على سليمان بدابق يوم
    جمعة، فدعا بثياب فلبسها، فلم تعجبه، فدعا بغيرها بثياب خضر سوسية بعث بها يزيد بن المهلب، فلبسها واعتم وقال: يا بن المهلب، أعجبتك؟ قلت: نعم، فحسر عن ذراعيه ثم قال: أنا الملك الفتى، فصلى الجمعة، ثم لم يجمع بعدها، وكتب وصيته ودعا ابن أبي نعيم صاحب الخاتم فختمه.
    قال علي: قال بعض أهل العلم: إن سليمان لبس يوما حلة خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرآة فقال: أنا الملك الفتى، فما عاش بعد ذلك إلا أسبوعا.
    قال علي: وحدثنا سحيم بن حفص، قال: نظرت إلى سليمان جارية له يوما، فقال: ما تنظرين؟ فقالت:
    أنت خير المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
    ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس غير أنك فان
    فنفض عمامته.
    قال علي: كان قاضى سليمان سليمان بن حبيب المحاربي، وكان ابن أبي عيينة يقص عنده.
    وحدثت عن أبي عبيدة، عن رؤبة بن العجاج، قال: حج سليمان بن عبد الملك، وحج الشعراء معه، وحججت معهم، فلما كان بالمدينة راجعا تلقوه بنحو من أربعمائة أسير من الروم، فقعد سليمان، وأقربهم منه مجلسا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ص، فقدم بطريقهم فقال: يا عبد الله، اضرب عنقه، فقام فما أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسي سيفه فضربه فأبان الرأس، وأطن الساعد وبعض الغل، فقال سليمان: أما والله ما من جودة السيف جادت الضربة، ولكن لحسبه، وجعل يدفع البقية إلى الوجوه وإلى الناس يقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم، فدست إليه بنو عبس سيفا في قراب أبيض، فضربه فأبان راسه، ودفع الى الفرزدق اسير فلم يجد سيفا، فدسوا له سيفا ددانا مثنيا لا يقطع، فضرب به الأسير ضربات، فلم يصنع شيئا، فضحك سليمان والقوم، وشمت بالفرزدق بنو عبس أخوال سليمان، فألقى السيف وأنشأ يقول، ويعتذر الى سليمان، وياتسى بن بو سيف ورقاء عن رأس خالد:
    ان يك سيف خان أو قدر أتى ... بتأخير نفس حتفها غير شاهد
    فسيف بني عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
    كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... وتقطع أحيانا مناط القلائد
    [قلنا: في إسناده رؤبة بن العجاج، قال ابن القطان: دع رؤبة العجاج. وضعفه غير واحد.
    الضعفاء والمتروكين (1/277) لابن الجوزي وللعقيلي (2/64) ولقد أبهم الطبري اسم الوسيط بينه وبين رؤبة]

    وورقاء هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، ضرب خالد بن جعفر بن كلاب، وخالد مكب على أبيه زهير قد ضربه بالسيف وصرعه، فأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدا، فلم يصنع شيئا، فقال ورقاء ابن زهير:
    رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
    فشلت يميني يوم أضرب خالدا ... ويحصنه مني الحديد المظاهر
    وقال الفرزدق في مقامه ذلك:
    أيعجب الناس أن أضحكت خيرهم ... خليفة الله يستسقي به المطر
    فما نبا السيف عن جبن ودهش ... عند الإمام ولكن أخر القدر
    ولو ضربت على عمرو مقلده ... لخر جثمانه ما فوقه شعر
    وما يعجل نفسا قبل ميتتها ... جمع اليدين ولا الصمصامه الذكر
    وقال جرير في ذلك:
    بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
    ضربت به عند الإمام فأرعشت ... يداك، وقالوا محدث غير صارم



    وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
    أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

    تعليق


    • #47
      رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

      ثم دخلت سنة مائة
      ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها

      فمن ذلك خروج الخارجة التي خرجت على عمر بن عبد العزيز بالعراق.
      *ذكر الخبر عن أمرهم:
      ذكر محمد بن عمر أن ابن أبي الزناد حدثه، قال خرجت حرورية بالعراق، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب عامل العراق يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنه نبيه ص فلما أعذر في دعائهم بعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحرورية، فبلغ عمر، فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهزهم من الرقة، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخل بينه وبينهم. فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم .

      خبر خروج شوذب الخارجي
      وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن الذي خرج على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز شوذب- واسمه بسطام من بني يشكر- لكان مخرجه ب***ى في ثمانين فارسا أكثرهم من ربيعة، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد، الا تحركهم إلا أن يسفكوا دما، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلا صليبا حازما فوجهه إليهم، ووجه معه جندا، وأوصه بما أمرتك به. فعقد عبد الحميد لمحمد بن جرير بن عبد الله البجلي في الفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وقد قدم عليه محمد بن جرير، فقام بإزائه لا يحركه ولا يهيجه، فكان في كتاب عمر إليه: أنه بلغني أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني، فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا فلم يحرك بسطام شيئا، وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك- قال أبو عبيدة: أحد الرجلين اللذين بعثهما شوذب إلى عمر ممزوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر- قال: فيقال: أرسل نفرا فيهم هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين، فاختاروهما، فدخلا عليه فناظراه، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمنك! قال: فقال: انظراني ثلاثا، فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد، فدسوا إليه من سقاه سما، فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلا ثلاثا حتى مات.
      وفي هذه السنة أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطى وعمرو ابن قيس الكندي من أهل حمص الصائفة.
      وفيها شخص عمر بن هبيرة الفزاري إلى الجزيرة عاملا لعمر عليها.

      خبر القبض على يزيد بن المهلب
      ذكر الخبر عن سبب ذلك، وكيف وصل إليه حتى استوثق منه.
      اختلف أهل السير في ذلك، فأما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف أن عمر بن عبد العزيز لما جاء يزيد بن المهلب فنزل واسطا، ثم ركب السفن يريد البصرة، بعث عدي بن أرطاة إلى البصرة أميرا، فبعث عدي موسى بن الوجيه الحميري، فلحقه في نهر معقل عند الجسر، جسر
      البصرة فأوثقه، ثم بعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فقدم به عليه موسى ابن الوجيه، فدعا به عمر بن عبد العزيز- وقد كان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة، ولا أحب مثلهم، وكان يزيد بن المهلب يبغض عمر ويقول: إني لأظنه مرائيا، فلما ولي عمر عرف يزيد أن عمر كان من الرياء بعيدا ولما دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك، فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بشيء سمعت، ولا بأمر أكرهه، فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبعث إلى الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان، وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس، ولا يمر بكورة إلا أعطاهم فيها أموالا عظاما ثم خرج حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فدخل عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله يا أمير المؤمنين صنع لهذه الأمة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ! أنا أتحمل ما عليه، فصالحني على ما إياه تسأل، فقال عمر: لا الا ان تحمل جميع ما نسأله اياه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بينة فخذ بها، وإن لم تكن بينة فصدق مقالة يزيد، وإلا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه. فقال له عمر: ما أجد إلا أخذه بجميع المال فلما خرج مخلد قال: هذا خير عندي من أبيه، فلم يلبث مخلدا إلا قليلا حتى مات، فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئا ألبسه جبة من صوف، وحمله على جمل، ثم قال: سيروا به إلى دهلك، فلما أخرج فمر به على الناس أخذ يقول: ما لي عشيرة، ما لي يذهب بي إلى دهلك! إنما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب الخارب، سبحان الله! أما لي عشيرة! فدخل على عمر سلامة بن نعيم الخولاني، فقال: يا أمير المؤمنين، اردد يزيد إلى محبسه، فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه، فإني قد رأيت قومه غضبوا له فرده إلى محبسه، فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر.
      [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

      وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كتب عمر بن عبد العزيز الى عدى ابن أرطاة يأمره بتوجيه يزيد بن المهلب، ودفعه إلى من بعين التمر من الجند، فوجهه عدي بن أرطاة مع وكيع بن حسان بن أبي سود التميمي مغلولا مقيدا في سفينة، فلما انتهى به إلى نهر أبان، عرض لوكيع ناس من الأزد لينتزعوه منه، فوثب وكيع فانتضى سيفه، وقطع قلس السفينة، وأخذ سيف يزيد ابن المهلب، وحلف بطلاق امرأته ليضربن عنقه إن لم يتفرقوا، فناداهم يزيد بن المهلب، فأعلمهم يمين وكيع، فتفرقوا، ومضى به حتى سلمه إلى الجند الذين بعين التمر، ورجع وكيع إلى عدي بن أرطاة، ومضى الجند الذين بعين التمر بيزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز، فحبسه في السجن.

      عزل الجراح بن عبد الله عن خراسان
      قال أبو جعفر: وفي هذه السنة عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله عن خراسان، وولاها عبد الرحمن بن نعيم القشيري، فكانت ولاية الجراح بخراسان سنة وخمسة أشهر، قدمها سنة تسع وتسعين، وخرج منها لأيام بقيت من شهر رمضان سنة مائة.
      *ذكر سبب عزل عمر إياه:
      وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بن محمد عن كليب بن خلف عن إدريس بن حنظلة، والمفضل عن جده وعلي بن مجاهد عن خالد ابن عبد العزيز، أن يزيد بن المهلب ولى جهم بن زحر جرجان حين شخص عنها، فلما كان من أمر يزيد ما كان وجه عامل العراق من العراق واليا على جرجان، فقدم الوالي عليها من العراق، فأخذه جهم فقيده وقيد رهطا قدموا معه، ثم خرج في خمسين من اليمن يريد الجراح بخراسان، فأطلق أهل جرجان عاملهم، فقال الجراح لجهم: لولا أنك ابن عمي لم أسوغك هذا، فقال له جهم: ولولا أنك ابن عمي لم آتك- وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنتي حصين بن الحارث وابن عمه، لأن الحكم وجعفي ابنا سعد- فقال له الجراح: خالفت إمامك، وخرجت عاصيا، فاغز لعلك أن تظفر، فيصلح أمرك عند خليفتك فوجهه إلى الختل، فخرج، فلما قرب منهم سار متنكرا في ثلاثة، وخلف في عسكره ابن عمه القاسم بن حبيب- وهو ختنه على ابنته أم الأسود- حتى دخل على صاحب الختل فقال له: أخلني، فأخلاه، فاعتزى، فنزل صاحب الختل عن سريره وأعطاه حاجته- ويقولون: الختل موالي النعمان- وأصاب مغنما، فكتب الجراح إلى عمر: وأوفد وفدا، رجلين من العرب، ورجلا من الموالي من بني ضبة ويكنى أبا الصيداء واسمه صالح بن طريف، كان فاضلا في دينه وقال بعضهم: المولى سعيد أخو خالد أو يزيد النحوي فتكلم العربيان والآخر جالس، فقال له عمر: أما أنت من الوفد؟ قال: بلى، قال: فما يمنعك من الكلام! قال: يا أمير المؤمنين، عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا، فيقول: أتيتكم حفيا، وأنا اليوم عصبي! والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم وبلغ من جفائه أن كم درعه يبلغ نصف درعه، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج، قد عمل بالظلم والعدوان فقال عمر: إذن مثلك فليوفد.
      وكتب عمر إلى الجراح: أنظر من صلى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام، وإنما ذلك نفورا من الجزية، فامتحنهم بالختان.
      فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدا ص داعيا ولم يبعثه خاتنا وقال عمر: ابغوني رجلا صدوقا، أسأله عن خراسان، فقيل له: قد وجدته، عليك بأبي مجلز فكتب إلى الجراح: أن أقبل واحمل أبا مجلز وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي وعلى جزيتها عبيد الله- أو عبد الله- بن حبيب.
      فخطب الجراح فقال: يا أهل خراسان، جئتكم في ثيابي هذه التي علي وعلى فرسي، لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي- ولم يكن عنده إلا فرس قد شاب وجهه، وبغلة قد شاب وجهها، فخرج في شهر رمضان واستخلف عبد الرحمن بن نعيم، فلما قدم قال له عمر: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان، قال: قد صدق من وصفك بالجفاء، هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج! وكان الجراح يقول: أنا والله عصبي عقبي- يريد من العصبية.
      وكان الجراح لما قدم خراسان كتب إلى عمر: أني قدمت خراسان فوجدت قوما قد أبطرتهم الفتنة فهم ينزون فيها نزوا، أحب الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حق الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك فكتب إليه عمر:
      يا بن أم الجراح، أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربن مؤمنا ولا معاهدا سوطا إلا في حق، واحذر القصاص فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
      ولما أراد الجراح الشخوص من خراسان إلى عمر بن عبد العزيز أخذ عشرين ألفا وقال بعضهم: عشرة آلاف من بيت المال وقال: هي علي سلفا حتى أؤديها إلى الخليفة، فقدم على عمر، فقال له عمر: متى خرجت؟ قال: لأيام بقين من شهر رمضان، وعلي دين فاقضه، قال: لو أقمت حتى تفطر ثم خرجت قضيت عنك فأدى عنه قومه في أعطياتهم.
      [قلنا: هذا الخبر الطويل رواه الطبري من طريق المدائني وإن لم يذكر الطبري الواسطة بينه وبين المدائني فإننا اعتبرنا قوله (ذكر المدائني) غير منقطع لأنه درس مرويات المدائني واطلع على ما كتبه من طريق ابن شبة وغيره من أئمة التاريخ وإن كنا من قبل نعده انقطاعا فإننا اضطررنا إلى هذه الليونة وغلا تركنا فجوات كبيرة في التاريخ افسلامي ومع ذلك فإننا لم نتنازل عن منهجنا في عدم قبول هذه الروايات وبهذه الأسانيد إن وجدنا نكارة فيها أو طعنا في عدالة الصحابة أو تزويرا للحقائق التاريخية، والله أعلم.
      والمدائني بدوره روى الخبر بإسناد مركب من طريق شيوخه الثلاثة وبأسانيد لا تخلو من مجهول الحال أو ضعيف أو متروك ومتنها لا يخلو من نكارة كالآتي:
      في المتن تناقض واضح فكيف يوصف الجراح بن عبد الله بأنه عمل بالظلم والعدوان في منتصف الرواية، ثم يذكر بعد ذلك بأسطر بأنه لم يصب شيئا من أموال الناس وخرج منهم بسيفه وفرسه ثم إن الرواية تذكر أنه جاف مع الرعية وأن عشرين ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج وهذا يخالف ما ذكرته الروايات الصحيحة وما ذكره أئمة التاريخ المنتقدمين والمتأخرين من أن الجراح كان رجلا صالحا عابدا، محبا للجهاد والموت في سبيل الله في ساحد المعركة وأن العباد في جميع البلاد قد حزنوا على موته؟
      كما سنذكر كل ذلك ضمن أحداث سنة (112ه) عند الحديث عن مقتله.
      فكيف يحزن العباد في جميع البلاد على موت رجل جاف ظالم؟!
      ألا إن هذا من افتراء المتروكين الكذابين من أمثال علي بن مجاهد الكابلي وغيره والله تعالى أعلم، والحمد لله على نعمة الإسناد]

      ثم دخلت سنة إحدى ومائة
      ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
      خبر هرب يزيد بن المهلب من سجنه
      *ذكر الخبر عن سبب هربه منه وكيف كان هربه منه:
      ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن عمر بن عبد العزيز لما كلم في يزيد بن المهلب حين أراد نفيه إلى دهلك، وقيل له: إنا نخشى أن ينتزعه قومه، رده إلى محبسه فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر، فأخذ يعمل بعد في الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك، لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي عقيل- كانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف عند يزيد بن عبد الملك، فولدت له الوليد بن يزيد المقتول- فكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقا فكان يخشى ذلك، فبعث يزيد بن المهلب إلى مواليه، فأعدوا له إبلا وكان مرض عمر في دير سمعان، فلما اشتد مرض عمر أمر بإبله فأتي بها، فلما تبين له أنه قد ثقل نزل من محبسه، فخرج حتى مضى إلى المكان الذي واعدهم فيه، فلم يجدهم جاءوا، فجزع اصحابه وضجروا، فقال لأصحابه: اترونني أرجع إلى السجن! لا والله لا أرجع إليه أبدا ثم إن الإبل جاءت، فاحتمل، فخرج ومعه عاتكه امراته ابنه الفرات ابن معاويه العامريه من بنى البكاء في شق المحمل، فمضى.
      فلما جاز كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي، ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك، فقال عمر: اللهم إن كان يزيد يريد بهذه الأمة شرا فاكفهم شره، واردد كيده في نحره ومضى يزيد بن المهلب حتى مر بحدث الزقاق، وفيه الهذيل بن زفر معه قيس، فأتبعوا يزيد بن المهلب حيث مر بهم، فأصابوا طرفا من ثقله وغلمة من وصفائه، فأرسل الهذيل بن زفر في آثارهم، فردهم فقال: ما تطلبون؟ أخبروني، أتطلبون يزيد بن المهلب أو أحدا من قومه بتبل؟ فقالوا: لا، قال: فما تريدون؟ إنما هو رجل كان في إسار، فخاف على نفسه فهرب.
      [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

      وزعم الواقدي أن يزيد بن المهلب إنما هرب من سجن عمر بعد موت عمر

      خبر وفاة عمر بن عبد العزيز
      وقال بعضهم: كان له أربعون سنة:
      وقال هشام: توفي عمر وهو ابن أربعين سنة وأشهر، وكان يكنى أبا حفص وله يقول عويف القوافي، وقد حضره في جنازة شهدها معه:
      أجبني أبا حفص لقيت محمدا ... على حوضه مستبشرا وراكا
      فأنت امرؤ كلتا يديك مفيدة ... شمالك خير من يمين سواكا
      وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان يقال له: اشج بنى اميه، وذلك أن دابة من دواب أبيه كانت شجته فقيل له: اشج بنى اميه.
      حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: كنت أسمع ابن عمر كثيرا يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر، في وجهه علامة، يملأ الأرض عدلا!
      وحدثت عن منصور بن أبي مزاحم، قال: حدثنا مروان بن شجاع، عن سالم الأفطس، أن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة وهو غلام بدمشق، فأتيت به أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فضمته إليها، وجعلت تمسح الدم عن وجهه ودخل أبوه عليها على تلك الحال، فأقبلت عليه تعذله وتلومه، وتقول: ضيعت ابني، ولم تضم إليه خادما ولا حاضنا يحطه من مثل هذا! فقال لها: اسكتي يا أم عاصم، فطوباك إذ كان أشج بني أمية!



      وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
      أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

      تعليق


      • #48
        رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

        ثم دخلت سنة أربع ومائة
        ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

        [ذكر الوقعة بين الحرشي والسغد]
        ففي هذه السنة كانت وقعة الحرشي بأهل السغد وقتله من قتل من دهاقينها.
        [انظر البداية والنهاية 07/183)]

        ذكر الخبر عن أمره وأمرهم في هذه الوقعة:
        ذكر علي عن أصحابه أن الحرشي غزا في سنة أربع ومائة فقطع النهر.
        وعرض الناس، ثم سار فنزل قصر الريح على فرسخين من الدبوسية، ولم يجتمع إليه جنده.
        قال: فأمر الناس بالرحيل، فقال له هلال بن عليم الحنظلي: يا هناه، إنك وزيرا خير منك أميرا، الأرض حرب شاغرة برجلها، ولم يجتمع لك جندك، وقد أمرت بالرحيل! قال: فكيف لي؟ قال: تأمر بالنزول، ففعل.
        وخرج النيلان ابن عم ملك فرغانة إلى الحرشي، وهو نازل على مغون فقال له: إن أهل السغد بخجندة، وأخبره خبرهم وقال: عاجلهم قبل أن يصيروا إلى الشعب، فليس لهم علينا جوار حتى يمضي الأجل فوجه الحرشي مع النيلان عبد الرحمن القشيري وزياد بن عبد الرحمن القشيري في جماعة، ثم ندم على ما فعل فقال: جاءني علج لا أدري صدق أم كذب، فغررت بجند من المسلمين وارتحل في أثرهم حتى نزل في أشروسنة، فصالحهم بشيء يسير، فبينا هو يتعشى إذ قيل له: هذا عطاء الدبوسي- وكان فيمن وجهه مع القشيري- ففزع وسقطت اللقمة من يده، ودعا بعطاء، فدخل عليه، فقال: ويلك! قاتلتم أحدا؟ فقال: لا، قال: الحمد لله، وتعشى، وأخبره بما قدم له عليه فسار جوادا مغذا، حتى لحق القشيري بعد ثالثة، وسار فلما انتهى إلى خجندة، قال للفضل بن بسام: ما ترى؟ قال: أرى المعاجلة، قال: لا أرى ذلك، إن جرح رجل فإلى أين يرجع! أو قتل قتيل فإلى من يحمل! ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب، فنزل فرفع الأبنية وأخذ في التأهب، فلم يخرج أحد من العدو، فجبن الناس الحرشي، وقالوا: كان هذا يذكر بأسه بالعراق ورأيه، فلما صار بخراسان ماق قال: فحمل رجل من العرب، فضرب باب خجندة بعمود ففتح الباب، وقد كانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقا، وغطوه بقصب، وعلوه بالتراب مكيدة، وأرادوا إذا التقوا إن انهزموا أن يكونوا قد عرفوا الطريق، ويشكل على المسلمين فيسقطوا في الخندق.
        قال: فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا، وأخطئوهم الطريق، فسقطوا في الخندق فأخرجوا من الخندق أربعين رجلا، على الرجل درعان درعان، وحصرهم الحرشي، ونصب عليهم المجانيق، فأرسلوا إلى ملك فرغانة: غدرت بنا، وسألوه أن ينصرهم، فقال لهم: لم أغدر ولا أنصركم، فانظروا لأنفسكم، فقد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم في جواري فلما أيسوا من نصره طلبوا الصلح، وسألوا الأمان وأن يردهم إلى السغد، فاشترط عليهم أن يردوا من في أيديهم من نساء العرب وذراريهم، وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج، ولا يغتالوا أحدا، ولا يتخلف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثا حلت دماؤهم.
        قال: وكان السفير فيما بينهم موسى بن مشكان مولى آل بسام، فخرج إليه كارزنج، فقال له: إن لي حاجة أحب أن تشفعني فيها، قال: وما هي؟ قال: أحب إن جنى منهم رجل جناية بعد الصلح ألا تأخذني بما جنى، فقال الحرشي: ولي حاجة فاقضها، قال: وما هي؟ قال: لا يلحقني في شرطي ما أكره قال: فأخرج الملوك والتجار من الجانب الشرقي، وترك أهل خجندة الذين هم أهلها على حالهم، فقال كارزنج للحرشي: ما تصنع؟ قال: أخاف عليكم معرة الجند قال: وعظماؤهم مع الحرشي في العسكر نزلوا على معارفهم من الجند، ونزل كارزنج على أيوب بن أبي حسان، فبلغ الحرشي أنهم قتلوا امرأة من نساء كن في أيديهم، فقال لهم: بلغني أن ثابتا الأشتيخني قتل امرأة ودفنها تحت حائط، فجحدوا فأرسل الحرشي إلى قاضي خجندة، فنظروا فإذا المرأة مقتولة قال: فدعا الحرشي بثابت، فأرسل كارزنج غلامه إلى باب السرادق ليأتيه بالخبر، وسأل الحرشي ثابتا وغيره عن المرأة، فجحد ثابت وتيقن الحرشي أنه قتلها فقتله فرجع غلام كارزنج إليه بقتل ثابت، فجعل يقبض على لحيته ويقرضها بأسنانه، وخاف كارزنج أن يستعرضهم الحرشي، فقال لأيوب بن أبي حسان: إني ضيفك وصديقك، فلا يجمل بك أن يقتل صديقك في سراويل خلق، قال: فخذ سراويلي. قال: وهذا لا يجمل، أقتل في سراويلاتكم! فسرح غلامك الى جلنج ابن أخي يجيئونى بسراويل جديد- وكان قد قال لابن أخيه: إذا أرسلت إليك أطلب سراويل فاعلم أنه القتل- فلما بعث بسراويل أخرج فرندة خضراء فقطعها عصائب، وعصبها برءوس شاكريته، ثم خرج هو وشاكريته. فاعترض الناس فقتل ناسا، ومر بيحيى بن حضين فنفحه نفحة على رجله، فلم يزل يخمع منها وتضعضع أهل العسكر، ولقي الناس منه شرا، حتى انتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود في طريق ضيق، فقتله ثابت بسيف عثمان بن مسعود وكان في أيدي السغد أسراء من المسلمين فقتلوا منهم خمسين ومائة، ويقال: قتلوا منهم أربعين، قال: فأفلت منهم غلام فأخبر الحرشي- ويقال: بل أتاه رجل فأخبره- فسألهم فجحدوا، فأرسل إليهم من علم علمهم، فوجد الخبر حقا، فأمر بقتلهم، وعزل التجار عنهم- وكان التجار أربعمائة، كان معهم مال عظيم قدموا به من الصين- قال: فامتنع أهل السغد، ولم يكن لهم سلاح، فقاتلوا بالخشب، فقتلوا عن آخرهم فلما كان الغد دعا الحراثين- ولم يعلموا ما صنع أصحابهم- فكان يختم في عنق الرجل ويخرج من حائط إلى حائط فيقتل، وكانوا ثلاثة آلاف- ويقال سبعة آلاف- فأرسل جرير بن هميان والحسن بن أبي العمرطة ويزيد بن أبي زينب فأحصوا أموال التجار- وكانوا اعتزلوا وقالوا: لا نقاتل- فاصطفى أموال السغد وذراريهم، فأخذ منه ما أعجبه، ثم دعا مسلم بن بديل العدوي، عدي الرباب، فقال: قد وليتك المقسم، قال: بعد ما عمل فيه عمالك ليلة! وله غيري، فولاه عبيد الله بن زهير بن حيان العدوي، فأخرج الخمس، وقسم الأموال، وكتب الحرشي إلى يزيد بن عبد الملك، ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة، فكان هذا مما وجد فيه عليه عمر بن هبيرة، فقال ثابت قطنة يذكر ما أصابوا من عظمائهم:
        أقر العين مصرع كارزنج ... وكشين وما لاقى بيار
        وديواشنى وما لاقى جلنج ... بحصن خجند إذ دمروا فباروا
        ويروى أقر العين مصرع كارزنج، وكشكيش، ويقال: إن ديواشني دهقان أهل سمرقند، واسمه ديواشنج فأعربوه ديواشني.
        ويقال: كان على أقباض خجندة علباء بن أحمر اليشكري، فاشترى رجل منه جونة بدرهمين، فوجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضع يده على لحيته كأنه رمد، فرد الجونة، وأخذ الدرهمين، فطلب فلم يوجد.
        قال: وسرح الحرشي سليمان بن أبي السري مولى بني عوافة إلى قلعة لا يطيف بها وادي السغد إلا من وجه واحد ومعه شوكر بن حميك وخوارزم شاه وعورم صاحب أخرون وشومان، فوجه سليمان بن أبي السري على مقدمته المسيب بن بشر الرياحي، فتلقوه من القلعة على فرسخ في قرية يقال لها كوم، فهزمهم المسيب حتى ردهم إلى القلعة فحصرهم سليمان، ودهقانها يقال له ديواشني.
        قال فكتب إليه الحرشي فعرض عليه أن يمده، فأرسل إليه: ملتقانا ضيق فسر إلى كس، فأنا في كفاية الله إن شاء الله فطلب الديواشنى ان يزل على حكم الحرشي، وأن يوجهه مع المسيب بن بشر إلى الحرشي، فوفي له سليمان ووجهه إلى سعيد الحرشي، فألطفه وأكرمه مكيدة، فطلب أهل القلعة الصلح بعد مسيرة على ألا يعرض لمائة أهل بيت منهم ونسائهم وأبنائهم ويسلمون القلعة فكتب سليمان إلى الحرشي أن يبعث الأمناء في قبض ما في القلعة.
        قال: فبعث محمد بن عزيز الكندي وعلباء بن أحمر اليشكري، فباعوا ما في القلعة مزايدة، فأخذ الخمس، وقسم الباقي بينهم وخرج الحرشي إلى كس فصالحوه على عشرة آلاف رأس ويقال: صالح دهقان كس، واسمه ويك- على ستة آلاف رأس، يوفيه في أربعين يوما على ألا يأتيه فلما فرغ من كس خرج إلى ربنجن، فقتل الديواشني، وصلبه على ناوس، وكتب على أهل ربنجن كتابا بمائة إن فقد من موضعه، وولى نصر بن سيار قبض صلح كس، ثم عزل سورة بن الحر وولى نصر بن سيار، واستعمل سليمان بن أبي السري على كس، ونسف حربها وخراجها، وبعث برأس الديواشني إلى العراق، ويده اليسرى إلى سليمان بن ابى السري إلى طخارستان.
        قال: وكانت خزار منيعة، فقال المجشر بن مزاحم لسعيد بن عمرو الحرشي: ألا أدلك على من يفتحها لك بغير قتال؟ قال: بلى، قال: المسربل بن الخريت بن راشد الناجي، فوجهه إليها- وكان المسربل صديقا لملكها، واسم الملك سبقري وكانوا يحبون المسربل- فأخبر الملك ما صنع الحرشي بأهل خجندة وخوفه، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تنزل بأمان، قال: فما أصنع بمن لحق بي من عوام الناس؟ قال: نصيرهم معك في أمانك، فصالحهم فآمنوه وبلاده.
        قال: ورجع الحرشي إلى مرو ومعه سبقري، فلما نزل أسنان وقدم مهاجر بن يزيد الحرشي، وامره ان يوافيه ببرذون بن كشانيشاه قتل سبقري وصلبه ومعه أمانه- ويقال: كان هذا دهقان ابن ماجر قدم على ابن هبيرة فأخذ أمانا لأهل السغد، فحبسه الحرشي في قهندز مرو، فلما قدم مرو دعا به، وقتله وصلبه في الميدان، فقال الراجز:
        إذا سعيد سار في الأخماس ... في رهج يأخذ بالأنفاس
        دارت على الترك أمر الكاس ... وطارت الترك على الأحلاس
        ولوا فرارا عطل القياس.

        ذكر الخبر عن سبب عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن ابن الضحاك عن المدينة وما كان ولاه من الأعمال
        وكان سبب ذلك- فيما ذكر محمد بن عمر، عن عبد الله بن محمد بن أبي يحيى- قال: خطب عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري فاطمة ابنة الحسين، فقالت: والله ما أريد النكاح، ولقد قعدت على بني هؤلاء، وجعلت تحاجزه وتكره أن تنابذه لما تخاف منه قال: وألح عليها وقال: والله لئن لم تفعلي لأجلدن أكبر بنيك في الخمر- يعني عبد الله بن الحسن- فبينا هو كذلك، وكان على ديوان المدينة ابن هرمز رجل من أهل الشام، فكتب إليه يزيد أن يرفع حسابه، ويدفع الديوان، فدخل على فاطمة بنت الحسين يودعها، فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك، وما يتعرض مني قال: وبعثت رسولا بكتاب إلى يزيد تخبره وتذكر قرابتها ورحمها، وتذكر ما ينال ابن الضحاك منها، وما يتوعدها به.
        قال: فقدم ابن هرمز والرسول معا قال: فدخل ابن هرمز على يزيد، فاستخبره عن المدينة، وقال: هل كان من مغربة خبر؟ فلم يذكر ابن هرمز من شأن ابنة الحسين، فقال الحاجب: أصلح الله الأمير! بالباب رسول فاطمة بنت الحسين فقال ابن هرمز: أصلح الله الأمير! إن فاطمة بنت الحسين يوم خرجت حملتني رسالة إليك، فأخبره الخبر.
        قال: فنزل من أعلى فراشه، وقال: لا أم لك! ألم أسألك هل من مغربة خبر، وهذا عندك لا تخبرنيه! قال: وجعل يضرب بخيزران في يديه وهو يقول: لقد اجترأ ابن الضحاك! هل من رجل يسمعني صوته في العذاب وأنا على فراشي؟ قيل له: عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النضري. قال: فدعا بقرطاس، فكتب بيده:
        إلى عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النضري وهو بالطائف: سلام عليك، أما بعد فإني قد وليتك المدينة، فإذا جاءك كتابي هذا فاهبط واعزل عنها ابن الضحاك، وأغرمه أربعين ألف دينار، وعذبه حتى أسمع صوته وأنا على فراشي.
        قال: وأخذ البريد الكتاب، وقدم به المدينة، ولم يدخل على ابن الضحاك
        وقد أوجست نفس ابن الضحاك، فأرسل إلى البريد، فكشف له عن طرف المفرش، فإذا ألف دينار، فقال: هذه ألف دينار لك ولك العهد والميثاق، لئن أنت أخبرتني خبر وجهك هذا دفعتها إليك، فأخبره، فاستنظر البريد ثلاثا حتى يسير، ففعل ثم خرج ابن الضحاك، فأغذ السير حتى نزل على مسلمة بن عبد الملك، فقال: أنا في جوارك، فغدا مسلمة على يزيد فرققه وذكر حاجة جاء لها، فقال: كل حاجة تكلمت فيها هي في يدك ما لم يكن ابن الضحاك، فقال: هو والله ابن الضحاك! فقال: والله لا أعفيه أبدا وقد فعل ما فعل، قال: فرده إلى المدينة إلى النضري.
        قال عبد الله بن محمد: فرأيته في المدينة عليه جبة من صوف يسأل الناس، وقد عذب ولقي شرا، وقدم النضري يوم السبت للنصف من شوال سنة أربع ومائة.
        قال محمد بن عمر: حدثني إبراهيم بن عبد الله بن أبي فروة، عن الزهري، قال: قلت لعبد الرحمن بن الضحاك: إنك تقدم على قومك وهم ينكرون كل شيء خالف فعلهم، فالزم ما أجمعوا عليه، وشاور القاسم ابن محمد وسالم بن عبد الله، فإنهما لا يألوانك رشدا قال الزهري: فلم يأخذ بشيء من ذلك، وعادى الأنصار طرا، وضرب أبا بكر بن حزم ظلما وعدوانا في باطل، فما بقي منهم شاعر إلا هجاه، ولا صالح إلا عابه وأتاه بالقبيح، فلما ولي هشام رأيته ذليلا.
        [وقد ذكر ابن كثير هذه القصة (07/12-13-14) مختصرا وانظر البداية والنهاية (7/183)]

        وفي هذه السنة غزا الجراح بن عبد الله الحكمي- وهو أمير على أرمينية وأذربيجان- أرض الترك ففتح على يديه بلنجر، وهزم الترك وغرقهم وعامه
        ذراريهم في الماء، وسبوا ما شاءوا، وفتح الحصون التي تلي بلنجر وجلا عامة أهلها.
        وفيها ولد- فيما ذكر- أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي في شهر ربيع الآخر.
        وفيها دخل أبو محمد الصادق وعدة من أصحابه من خراسان الى محمد ابن علي، وقد ولد أبو العباس قبل ذلك بخمس عشرة ليلة، فأخرجه إليهم في خرقة، وقال لهم: والله ليتمن هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدوكم.
        وفي هذه السنة عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان، وولاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي.

        ذكر الخبر عن سبب عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان
        ذكر أن سبب ذلك كان من موجدة وجدها عمر على الحرشي في أمر الديواشني، وذلك أنه كان كتب إليه يأمره بتخليته وقتله، وكان يستخف بأمر ابن هبيرة، وكان البريد والرسول إذا ورد من العراق قال له: كيف أبو المثنى؟ ويقول لكاتبه: اكتب إلى أبي المثنى ولا يقول: الأمير، ويكثر أن يقول: قال أبو المثنى وفعل أبو المثنى، فبلغ ذلك ابن هبيرة فدعا جميل بن عمران، فقال له: بلغني أشياء عن الحرشي، فاخرج إلى خراسان، وأظهر أنك قدمت تنظر في الدواوين، واعلم لي علمه. فقدم جميل، فقال له الحرشي: كيف تركت أبا المثنى؟ فجعل ينظر في الدواوين فقيل للحرشي: ما قدم جميل لينظر في الدواوين، وما قدم إلا ليعلم علمك، فسم بطيخة، وبعث بها إلى جميل، فأكلها فمرض، وتساقط شعره، ورجع إلى ابن هبيرة، فعولج واستبل
        [أي برئ وشفي. القاموس المحيط ص1251]

        وصح، فقال لابن هبيرة: الأمر أعظم مما بلغك، ما يرى سعيد إلا أنك عامل من عماله فغضب عليه وعزله وعذبه، ونفح في بطنه النمل
        [النمل هنا: بثور صغار مع ورم يسير. القاموس المحيط ص1376]

        وكان يقول حين عزله: لو سألني عمر درهما يضعه في عينه ما أعطيته، فلما عذب أدى، فقال له رجل: ألم تزعم أنك لا تعطيه درهما! قال: لا تعنفني، إنه لما أصابني الحديد جزعت، فقال أذينة بن كليب- أو كليب بن أذينة:
        تصبر أبا يحيى فقد كنت- علمنا ... - صبورا ونهاضا بثقل المغارم
        [انظر البداية والنهاية (7/184)]

        وقال علي بن محمد: إنما غضب عليه ابن هبيرة أنه وجه معقل بن عروة إلى هراة، إما عاملا وإما في غير ذلك من أموره، فنزل قبل أن يمر على الحرشي، وأتى هراة، فلم ينفذ له ما قدم فيه، وكتب إلى الحرشي، فكتب الحرشي إلى عامله: أن احمل إلي معقلا، فحمله، فقال له الحرشي: ما منعك من إتياني قبل أن تأتي هراة؟ قال: أنا عامل لابن هبيرة ولاني كما ولاك، فضربه مائتين وحلقه
        [حلقه: وسمه بحلقة في فخذه. القاموس المحيط ص1130]

        فعزله ابن هبيرة، واستعمل على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة، فكتب الى الحرشي يلخنه، فقال سعيد: بل هو ابن اللخناء وكتب إلى مسلم أن احمل إلي الحرشي مع معقل بن عروة، فدفعه إليه فأساء به وضيق عليه، ثم أمره يوما فعذبه، وقال: اقتله بالعذاب. فلما أمسى ابن هبيرة سمر فقال: من سيد قيس؟ قالوا: الأمير، قال: دعوا هذا، سيد قيس الكوثر بن زفر، لو بوق بليل لوافاه عشرون ألفا، لا يقولون: لم دعوتنا ولا يسألونه، وهذا الحمار الذي في الحبس- قد أمرت بقتله- فارسها، وأما خير قيس لها فعسى أن أكونه، إنه لم يعرض إلي أمر أرى أني أقدر فيه على منفعة وخير إلا جررته إليهم، فقال له أعرابي من بني فزارة: ما أنت كما تقول، لو كنت كذلك ما أمرت بقتل فارسها فأرسل إلى معقل أن كف عما كنت أمرتك به.
        قال علي: قال مسلم بن المغيرة: لما هرب ابن هبيرة أرسل خالد في طلبه سعيد بن عمرو الحرشي، فلحقه بموضع من الفرات يقطعه إلى الجانب الآخر في سفينة، وفي صدر السفينة غلام لابن هبيرة يقال له قبيض، فعرفه الحرشي فقال له: قبيض؟ قال: نعم، قال: أفي السفينة أبو المثنى؟ قال: نعم. قال: فخرج إليه ابن هبيرة، فقال له الحرشي: أبا المثنى، ما ظنك بي؟ قال: ظني بك أنك لا تدفع رجلا من قومك إلى رجل من قريش، قال: هو ذاك، قال: فالنجاء.
        قال علي: قال أبو إسحاق بن ربيعة: لما حبس ابن هبيرة الحرشي دخل عليه معقل بن عروة القشيري، فقال: أصلح الله الأمير! قيدت فارس قيس وفضحته، وما أنا براض عنه، غير أني لم أحب أن تبلغ منه ما بلغت، قال: أنت بيني وبينه، قدمت العراق فوليته البصرة، ثم وليته خراسان، فبعث إلي ببرذون حطم
        [الحطم: داء في قوائم الدابة. القاموس المحيط ص1415]

        واستخف بأمري، وخان فعزلته، وقلت له: يا بن نسعه، فقال لي: يا بن بسرة فقال معقل: وفعل ابن الفاعلة! ودخل على الحرشي السجن، فقال: يا بن نسعة، أمك دخلت واشتريت بثمانين عنزا جربا، كانت مع الرعاء ترادفها الرجال مطية الصادر والوارد، تجعلها ندا لبنت الحارث بن عمرو بن حرجة! وافترى عليه، فلما عزل ابن هبيرة، وقدم خالد العراق استعدى الحرشي على معقل ابن عروة، وأقام البينة أنه قذفه، فقال للحرشي: اجلده، فحده، وقال: لولا أن ابن هبيرة وهن في عضدي لنقبت عن قلبك، فقال رجل من بني كلاب لمعقل: أسأت إلى ابن عمك وقذفته، فأداله الله منك، فصرت لا شهادة لك في المسلمين، وكان معقل حين ضرب الحد قذف الحرشي أيضا، فأمر خالد بإعادة الحد، فقال القاضي: لا يحد قال: وأم عمر ابن هبيرة بسرة بنت حسان، عدوية من عدي الرباب.
        [أبو إسحاق: مجهول-ولطالما ورد ذكر ألفاظ السب والشتم من طريق رواة المجاهيل وكأن الأمراء لم يكونوا يعرفوا غير ألفاظ السب والشتم اللاذع ولا يصح ذلك]

        قال: ثم سمر ليلة ومسلم في سمره، فتخلف مسلم بعد السمار، وفي يد ابن هبيرة سفرجلة، فرمى بها، وقال: أيسرك أن أوليك خراسان؟ قال: نعم، قال: غدوة إن شاء الله قال: فلما أصبح جلس، ودخل الناس، فعقد لمسلم على خراسان وكتب عهده، وأمره بالسير، وكتب إلى عمال الخراج أن يكاتبوا مسلم بن سعيد، ودعا بجبلة بن عبد الرحمن مولى باهلة فولاه كرمان، فقال جبلة: ما صنعت بي المولويه! كان مسلم يطمع أن ألي ولاية عظيمة فأوليه كورة، فعقد له على خراسان وعقد لي على كرمان! قال: فسار مسلم فقدم خراسان في آخر سنة أربع ومائة- أو ثلاث ومائة- نصف النهار، فوافق باب دار الإمارة مغلقا، فأتى دار الدواب فوجد الباب مغلقا فدخل المسجد، فوجد باب المقصورة مغلقا، فصلى وخرج وصيف من باب المقصورة فقيل له: الأمير، فمشى بين يديه حتى أدخله مجلس الوالي في دار الإمارة، وأعلم الحرشي، وقيل له: قدم مسلم بن سعيد ابن أسلم، فأرسل إليه: أقدمت أميرا أو وزيرا أو زائرا؟ فأرسل إليه: مثلي لا يقدم خراسان زائرا ولا وزيرا، فأتاه الحرشي فشتمه وأمر بحبسه، فقيل له: إن أخرجته نهارا قتل، فأمر بحبسه عنده حتى أمسى، ثم حبسه ليلا وقيده، ثم أمر صاحب السجن أن يزيده قيدا فأتاه حزينا، فقال: مالك؟ فقال: أمرت أن أزيدك قيدا، فقال لكاتبه: اكتب إليه: إن صاحب سجنك ذكر أنك أمرته أن يزيدني قيدا، فإن كان أمرا ممن فوقك فسمعا وطاعة، وإن كان رأيا رأيته فسيرك الحقحقة،
        [الحقحقة: أرفع السير وأتعبه للظهر. القاموس المحيط ص1130]
        وتمثل:
        هم إن يثقفوني يقتلوني ... ومن أثقف فليس إلى خلود
        [من أبيات لخالد بن جعفر بن كلاب، ذكرها صاحب الأغاني في 11 : 83، وفي اللسان: ثقفته ثقف، أي: صادفته]

        ويروى:
        فإما تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقف فليس إلى خلود
        هم الأعداء ان شهدوا وغابوا ... أولو الأحقاد والأكباد سود
        أريغوني إراغتكم فإني ... وحذفة كالشجا تحت الوريد
        ويروى: أريدوني إرادتكم.
        قال: وبعث مسلم على كورة رجلا من قبله على حربها قال: وكان ابن هبيرة حريصا، أخذ قهرمانا ليزيد بن المهلب، له علم بخراسان وبأشرافهم، فحبسه فلم يدع منهم شريفا إلا قرفه
        [قرفه: اتهمه ورماه. القاموس المحيط ص1091]

        فبعث أبا عبيدة العنبري ورجلا يقال له خالد، وكتب إلى الحرشي وأمره أن يدفع الذين سماهم إليه يستأديهم فلم يفعل، فرد رسول ابن هبيرة، فلما استعمل ابن هبيرة مسلم بن سعيد أمره بجباية تلك الأموال، فلما قدم مسلم أراد أخذ الناس بتلك الأموال التي فرفت عليهم، فقيل له: إن فعلت هذا بهؤلاء لم يكن لك بخراسان قرار، وإن لم تعمل في هذا حتى توضع عنهم فسدت عليك وعليهم خراسان، لأن هؤلاء الذين تريد أن تأخذهم بهذه الأموال أعيان البلد قرفوا بالباطل، إنما كان على مهزم بن جابر ثلاثمائة الف فزادوا مائه الف فصارت أربعمائة ألف، وعامة من سموا لك ممن كثر عليه بمنزله.
        فكتب مسلم بذلك إلى ابن هبيرة، وأوفد وفدا فيهم مهزم بن جابر، فقال له مهزم بن جابر: أيها الأمير، إن الذي رفع إليك الظلم والباطل، ما علينا من هذا كله لو صدق إلا القليل الذي لو أخذنا به أديناه، فقال ابن هبيرة: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها» ، فقال: اقرأ ما بعدها: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»
        [سورة النساء:58]
        فقال ابن هبيرة:
        لا بد من هذا المال، قال: أما والله لئن أخذته لتأخذنه من قوم شديدة شوكتهم ونكايتهم في عدوك، وليضرن ذلك بأهل خراسان في عدتهم وكراعهم وحلقتهم، ونحن في ثغر نكابد فيه عدوا لا ينقضي حربهم، إن أحدنا ليلبس الحديد حتى يخلص صدؤه إلى جلده، حتى إن الخادم التي تخدم الرجل لتصرف وجهها عن مولاها وعن الرجل الذي تخدمه لريح الحديد، وأنتم في بلادكم متفضلون في الرقاق وفي المعصفرة، والذين قرفوا بهذا المال وجوه أهل خراسان وأهل الولايات والكلف العظام في المغازي. وقبلنا قوم قدموا علينا من كل فج عميق، فجاءوا على الحمرات، فولوا الولايات، فاقتطعوا الأموال، فهي عندهم موقره جمة.
        فكتب ابن هبيرة إلى مسلم بن سعيد بما قال الوفد، وكتب إليه أن استخرج هذه الأموال ممن ذكر الوفد أنها عندهم فلما أتى مسلما كتاب ابن هبيرة أخذ أهل العهد بتلك الأموال، وأمر حاجب بن عمرو الحارثي أن يعذبهم، ففعل وأخذ منهم ما فرق عليهم.
        وفيها كانت غزوة سعيد بن عبد الملك أرض الروم، فبعث سرية في نحو من ألف مقاتل، فأصيبوا- فيما ذكر- جميعا.
        وفيها غزا مسلم بن سعيد الترك، فلم يفتح شيئا، فقفل ثم غزا أفشينة (مدينة من مدائن السغد) بعد في هذه السنة، فصالح ملكها وأهلها.
        ذكر الخبر عن ذلك:
        ذكر علي بن محمد عن أصحابه، أن مسلم بن سعيد مرزب بهرام سيس فجعله المرزبان وأن مسلما غزا في آخر الصيف من سنة خمس ومائة، فلم يفتح شيئا وقفل، فاتبعه الترك فلحقوه، والناس يعبرون نهر بلخ وتميم على الساقة، وعبيد الله بن زهير بن حيان على خيل تميم، فحاموا عن الناس حتى عبروا ومات يزيد بن عبد الملك، وقام هشام، وغزا مسلم أفشين فصالح ملكها على ستة آلاف رأس، ودفع إليه القلعة، فانصرف لتمام سنة خمس ومائة.
        قال علي: قال أبو ماوية أو غيره من اليهود ليزيد بن عبد الملك: إنك تملك أربعين سنة، فقال رجل من اليهود: كذب لعنه الله، إنما رأى أنه يملك أربعين قصبة، والقصبة شهر، فجعل الشهر سنة.

        ذكر بعض سيره وأموره
        حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي، قال: كان يزيد بن عاتكة من فتيانهم، فقال يوما وقد طرب، وعنده حبابة وسلامة: دعوني أطير، فقالت حبابة: إلى من تدع الأمة! فلما مات قالت سلامة القس:
        لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بالخشوع
        [الأغاني: 8 : 346-348، قال: (والشعر للأحوص والنوح لمعبد، صنعه لسلامة وناحت به على يزيد]

        قد لعمري بت ليلي ... كأخي الداء الوجيع
        ثم بات الهم مني ... دون من لي من ضجيع
        [في رواية الأغاني:
        ونجى الهم مني ... باب أدنى من ضلوعي]

        للذي حل بنا اليوم ... من الأمر الفظيع
        كلما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعي
        قد خلا من سيد كان ... لنا غير مضيع
        ثم نادت: وا امير المؤمنيناه! والشعر لبعض الأنصار.
        قال علي: حج يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان بن عبد الملك فاشترى حبابة- وكان اسمها العالية- بأربعة آلاف دينار من عثمان بن سهل ابن حنيف، فقال سليمان: هممت أن أحجر على يزيد، فرد يزيد حبابة فاشتراها رجل من أهل مصر، فقالت سعدة ليزيد: يا أمير المؤمنين، هل بقي من الدنيا شيء تتمناه بعد؟ قال: نعم حبابة، فأرسلت سعدة رجلا فاشتراها باربعه آلاف دينار، وصنعتها
        [صنعتها؛ أي زينتها ونظفتها]

        حتى ذهب عنها كلال السفر، فأتت بها يزيد، فأجلستها من وراء الستر، فقالت: يا أمير المؤمنين، أبقي شيء من الدنيا تتمناه؟ قال: ألم تسأليني عن هذا مرة فأعلمتك! فرفعت الستر وقالت: هذه حبابه، وقامت وخلتها عنده، فحظيت سعدة عند يزيد وأكرمها وحباها وسعدة امرأة يزيد، وهي من آل عثمان ابن عفان.
        [الخبر في الأغاني 15 : 124؛ مع اختلاف في الرواية]

        قال علي عن يونس بن حبيب: إن حبابة جارية يزيد بن عبد الملك غنت يوما:
        بين التراقي واللهاة حرارة ... ما تطمئن وما تسوغ فتبرد
        فأهوى ليطير فقالت: يا أمير المؤمنين، إن لنا فيك حاجة، فمرضت وثقلت
        [ثقلت: أي اشتد مرضها. القاموس المحيط ص1256]

        فقال: كيف أنت يا حبابة؟ فلم تجبه، فبكى وقال:
        لئن تسل عنك النفس أو تذهل الهوى ... فباليأس يسلو القلب لا بالتجلد
        وسمع جارية لها تتمثل:
        كفى حزنا بالهائم الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا
        فكان يتمثل بهذا.
        قال عمر: قال علي: مكث يزيد بن عبد الملك بعد موت حبابة سبعة أيام لا يخرج إلى الناس، أشار عليه بذلك مسلمة، وخاف أن يظهر منه شيء يسفهه عند الناس.
        [هذا خبر باطل.
        ورحم الله الطبري لم يسمع خبرا عن خلفاء بني أمية والعباس إلا وسجله هذا في تأريخه وهذا الخبر أورده الطبري عن المدائني ولم يولد المدائني إلا بعد ربع قرن من الزمان من بعد وفاة يزيد فكيف عرف ذلك والشطر الأخبر من الخبر أورده عن يونس بن حبيب ولم يبين من يونس هذا والذي في كتب التراجم بهذا الاسم لم يرو عنه المدائني بل ليس من هذه الطبقة قطعا.
        والخبر أورده البلاذري وابن عساكر من طرق لا تخلو من متروك أو كذاب أو وضاع (ابن جعدبة، الهيثم بن عدي، الواقدي) فكيف يثبت هذا الخبر المنكر؟ أضف إلى أمور أخرى تكذب هذه الروايات ذكرناها بالتفصيل في قسم الصحيح فليراجع هناك]

        خلافة هشام بن عبد الملك
        وأمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، وكانت حمقاء، أمرها أهلها ألا تكلم عبد الملك حتى تلد، وكانت تثني الوسائد وتركب الوسادة وتزجرها كأنها دابة، وتشترى الكندر
        [الكندر: اللبان. القاموس المحيط ص606]

        فتمضغه وتعمل منه تماثيل، وتصنع التماثيل على الوسائد، وقد سمت كل تمثال باسم جارية، وتنادي: يا فلانة ويا فلانة، فطلقها عبد الملك لحمقها وسار عبد الملك إلى مصعب فقتله، فلما قتله بلغه مولد هشام، فسماه منصورا، يتفاءل بذلك، وسمته أمه باسم أبيها هشام، فلم ينكر ذلك عبد الملك، وكان هشام يكنى أبا الوليد.
        وذكر محمد بن عمر عمن حدثه أن الخلافة أتت هشاما وهو بالزيتونة في منزله في دويرة له هناك.
        قال محمد بن عمر: وقد رأيتها صغيرة، فجاءه البريد بالعصا والخاتم، وسلم عليه بالخلافة، فركب هشام من الرصافة حتى أتى دمشق.
        وفي هذه السنة قدم بكير بن ماهان من السغد- وكان بها مع الجنيد بن عبد الرحمن ترجمانا له- فلما عزل الجنيد بن عبد الرحمن، قدم الكوفة ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب، فلقي أبا عكرمة الصادق وميسرة ومحمد بن خنيس وسالما الأعين وأبا يحيى مولى بني سلمة، فذكروا له أمر دعوة بني هاشم، فقبل ذلك ورضيه، وأنفق ما معه عليهم، ودخل الى محمد ابن علي ومات ميسرة فوجه محمد بن علي بكير بن ماهان إلى العراق مكان ميسرة، فأقامه مقامه.
        [انظر البداية والنهاية (7/186)]

        وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، والنضري على المدينة.
        قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل، عن أبيه، قال: كان إبراهيم بن هشام بن إسماعيل حج، فأرسل إلى عطاء بن ابى رباح: متى أخطب بمكة؟ قال: بعد الظهر، قبل التروية بيوم، فخطب قبل الظهر، وقال: أمرني رسولي بهذا عن عطاء، فقال عطاء: ما امرته الا بعد الظهر، قال: فاستحيا إبراهيم بن هشام يومئذ، وعدوه منه جهلا.
        ذكر محمد بن سلام الجمحي، عن عبد القاهر بن السري، عن عمر بن يزيد بن عمير الأسيدي
        [في ابن الأثير: (الأسيدي، بضم الهمزة وتشديد الياء؛ هكذا يقول المحدثون، وأما النحاة فإنهم يخففون الياء؛ وهي عند الجميع نسبة إلى أسيد بن عمرو بن تميم بضم الهمزة وتشديد الياء)]

        قال: دخلت على هشام بن عبد الملك، وعنده خالد بن عبد الله القسري، وهو يذكر طاعة أهل اليمن، قال: فصفقت تصفيقة بيدي دق الهواء منها، فقلت: تالله ما رأيت هكذا خطأ ولا مثله خطلا! والله ما فتحت فتنة في الإسلام إلا بأهل اليمن، هم قتلوا أمير المؤمنين عثمان، وهم خلعوا أمير المؤمنين عبد الملك، وإن سيوفنا لتقطر من دماء آل المهلب قال: فلما قمت تبعني رجل من آل مروان كان حاضرا، فقال: يا أخا بني تميم، ورت بك زنادي، قد سمعت مقالتك، وأمير المؤمنين مول خالدا العراق، وليست لك بدار.


        ثم دخلت سنة ست ومائة
        ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث


        حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة، قال: مات سالم بن عبد الله سنة خمس ومائة في عقب ذي الحجة، فصلى عليه هشام بن عبد الملك بالبقيع، فرأيت القاسم بن محمد بن أبي بكر جالسا عند القبر وقد أقبل هشام ما عليه إلا دراعة، فوقف على القاسم فسلم عليه، فقام إليه القاسم فسأله هشام: كيف أنت يا أبا محمد؟ كيف حالك؟ قال: بخير، قال: إني أحب والله أن يجعلكم بخير ورأى في الناس كثرة، فضرب عليهم بعث أربعة آلاف، فسمي عام الأربعة آلاف.
        وفيها استقضى إبراهيم بن هشام محمد بن صفوان الجمحى ثم عزله، واستقضى الصلت الكندى

        ذكر الخبر عن الحرب بين اليمانيه والمضرية وربيعة
        [ذكر الطبري هذا الخبر بلا إسناد (فيما قيل) ولم نجد لهذه الواقعة أصلا ولو بسند معضل أو منقطع لا عند خليفة ولا غيره من المتقدمين والله أعلم]

        وفي هذه السنة كانت الوقعة التي كانت بين المضرية واليمانية وربيعة بالبروقان من أرض بلخ.
        ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة:
        وكان سبب ذلك- فيما قيل- إن مسلم بن سعيد غزا، فقطع النهر، وتباطأ الناس عنه، وكان ممن تباطأ عنه البختري بن درهم، فلما أتى النهر رد نصر بن سيار وسليم بن سليمان بن عبد الله بن خازم وبلعاء بن مجاهد بن بلعاء العنبري وأبا حفص بن وائل الحنظلي وعقبة بن شهاب المازني وسالم بن ذؤابة إلى بلخ، وعليهم جميعا نصر بن سيار، وأمرهم أن يخرجوا الناس إليه فأحرق نصر باب البختري وزياد بن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بن مسلم من دخول بلخ- وكان عليها- وقطع مسلم بن سعيد النهر فنزل نصر البروقان، فأتاه أهل صغانيان، وأتاه مسلمة العقفاني من بني تميم، وحسان بن خالد الأسدي، كل واحد منهما في خمسمائة، وأتاه سنان الأعرابي وزرعة بن علقمة وسلمة بن أوس والحجاج بن هارون النميري في أهل بيته، وتجمعت بكر والأزد بالبروقان، رأسهم البختري، وعسكر بالبروقان على نصف فرسخ منهم، فأرسل نصر إلى أهل بلخ: قد أخذتم أعطياتكم فالحقوا بأميركم، فقد قطع النهر فخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو ابن مسلم، وقال قوم من ربيعة: إن مسلم بن سعيد يريد أن يخلع، فهو يكرهنا على الخروج فأرسلت تغلب إلى عمرو بن مسلم: إنك منا، وأنشدوه شعرا قاله رجل عزا بأهله إلى تغلب- وكان بنو قتيبة من باهلة- فقالوا: إنا من تغلب، فكرهت بكر أن يكونوا في تغلب فتكثر تغلب، فقال رجل منهم:
        زعمت قتيبة أنها من وائل ... نسب بعيد يا قتيبة فاصعدي
        وذكر أن بني معن من الأزد يدعون باهلة، وذكر عن شريك بن أبي قيلة المعني أن عمرو بن مسلم كان يقف على مجالس بني معن، فيقول: لئن لم نكن منكم ما نحن بعرب، وقال عمرو بن مسلم حين عزاه التغلبي إلى بني تغلب: أما القرابة فلا أعرفها، وأما المنع فإني سأمنعكم، فسفر الضحاك بن مزاحم ويزيد بن المفضل الحداني، وكلما نصرا وناشداه فانصرف فحمل أصحاب عمرو بن مسلم والبختري على نصر، ونادوا: يال بكر! وجالوا، وكر نصر عليهم، فكان أول قتيل رجل من باهلة، ومع عمرو بن مسلم البختري وزياد بن طريف الباهلي، فقتل من أصحاب عمرو بن مسلم في المعركة ثمانية عشر رجلا، وقتل كردان أخو الفرافصة ومسعدة ورجل من بكر بن وائل يقال له إسحاق، سوى من قتل في السكك، وانهزم عمرو بن مسلم إلى القصر وأرسل إلى نصر: ابعث إلى بلعاء بن مجاهد، فأتاه بلعاء، فقال: خذ لي أمانا منه، فآمنه نصر، وقال: لولا أني أشمت بك بكر بن وائل لقتلتك.
        وقيل: أصابوا عمرو بن مسلم في طاحونة، فأتوا به نصرا في عنقه حبل، فآمنه نصر، وقال له ولزياد بن طريف والبختري بن درهم: الحقوا بأميركم.
        وقيل: بل التقى نصر وعمرو بالبروقان، فقتل من بكر بن وائل واليمن ثلاثون، فقالت بكر: علا م نقاتل إخواننا وأميرنا، وقد تقربنا إلى هذا الرجل فأنكر قرابتنا! فاعتزلوا وقاتلت الأزد، ثم انهزموا ودخلوا حصنا فحصرهم نصر، ثم أخذ عمرو بن مسلم والبختري أحد بني عباد وزياد بن طريف الباهلي، فضربهم نصر مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم، وألبسهم المسوح وقيل: أخذ البختري في غيضه كان دخلها، فقال نصر في يوم البروقان:
        أرى العين لجت في ابتدار وما الذي ... يرد عليها بالدموع ابتدارها!
        فما أنا بالواني إذا الحرب شمرت ... تحرق في شطر الخميسين نارها
        ولكنني أدعو لها خندف التي ... تطلع بالعبء الثقيل فقارها
        وما حفظت بكر هنالك حلفها ... فصار عليها عار قيس وعارها
        فإن تك بكر بالعراق تنزرت ... ففي أرض مرو علها وازورارها
        وقد جربت يوم البروقان وقعة ... لخندف إذ حانت وآن بوارها
        أتتني لقيس في بجيلة وقعة ... وقد كان قبل اليوم طال انتظارها
        يعني حين أخذ يوسف بن عمر خالدا وعياله.
        وذكر علي بن محمد أن الوليد بن مسلم قال: قاتل عمرو بن مسلم نصر بن سيار فهزمه عمرو، فقال لرجل من بني تميم كان معه: كيف ترى استاه قومك يا أخا بني تميم؟ يعيره بهزيمتهم، ثم كرت تميم فهزموا أصحاب عمرو، فانجلى الرهج وبلعاء بن مجاهد في جمع من بني تميم يشلهم، فقال التميمي لعمرو: هذه استاه قومي قال: وانهزم عمرو، فقال بلعاء لأصحابه: لا تقتلوا الأسرى ولكن جردوهم، وجوبوا سراويلاتهم عن أدبارهم، ففعلوا، فقال بيان العنبري يذكر حربهم بالبروقان:
        أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ... لآل تميم أرجفت كل مرجف
        تظل عيون البرش بكر بن وائل ... إذا ذكرت قتلى البروقان تذرف
        هم أسلموا للموت عمرو بن مسلم ... وولوا شلالا والأسنة ترعف
        وكانت من الفتيان في الحرب عادة ... ولم يصبروا عند القنا المتقصف

        ذكر الخبر عن غزوة مسلم بن سعيد هذه الغزوة:
        ذكر علي بن محمد عن أشياخه أن مسلما غزا في هذه السنة، فخطب الناس في ميدان يزيد، وقال: ما أخلف بعدي شيئا أهم عندي من قوم يتخلفون بعدي مخلقى الرقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين، اللهم افعل بهم وافعل! وقد أمرت نصرا ألا يجد متخلفا إلا قتله، وما أرثي لهم من عذاب ينزله الله بهم- يعني عمرو بن مسلم وأصحابه- فلما صار ببخارى أتاه كتاب من خالد بن عبد الله القسري بولايته على العراق، وكتب إليه: أتمم غزاتك فسار إلى فرغانة، فقال أبو الضحاك الرواحي- أحد بني رواحة من بني عبس، وعداده في الأزد، وكان ينظر في الحساب: ليس على متخلف العام معصية، فتخلف أربعة آلاف. وسار مسلم بن سعيد، فلما صار بفرغانة بلغه أن خاقان قد أقبل إليه، وأتاه شميل- أو شبيل- بن عبد الرحمن المازني، فقال: عاينت عسكر خاقان في موضع كذا وكذا، فأرسل إلى عبد الله بن أبي عبد الله الكرماني مولى بني سليم، فأمره بالاستعداد للمسير، فلما أصبح ارتحل بالعسكر، فسار ثلاث مراحل في يوم، ثم سار من غد حتى قطع وادي السبوح فأقبل إليهم خاقان، وتوافت إليه الخيل، فأنزل عبد الله بن أبي عبد الله قوما من العرفاء والموالي، فأغار الترك على الذين أنزلهم عبد الله ذلك الموضع فقتلوهم، وأصابوا دواب لمسلم وقتل المسيب بن بشر الرياحي، وقتل البراء- وكان من فرسان المهلب- وقتل أخو غوزك وثار الناس في وجوههم، فأخرجوهم من العسكر، ودفع مسلم لواءه إلى عامر بن مالك الحماني، ورحل بالناس فساروا ثمانية أيام، وهم مطيفون بهم، فلما كانت الليلة التاسعة أراد النزول، فشاور الناس فأشاروا عليه بالنزول، وقالوا: إذا أصبحنا وردنا الماء، والماء منا غير بعيد، وإنك إن نزلت المرج تفرق الناس في الثمار، وانتهب عسكرك، فقال لسوره بن الحر: يا أبا العلاء، ما ترى؟ قال: أرى ما رأى الناس ونزلوا قال: ولم يرفع بناء في العسكر، وأحرق الناس ما ثقل من الآنية والأمتعة، فحرقوا قيمة ألف ألف وأصبح الناس فساروا، فوردوا الماء فإذا دون النهر أهل فرغانة والشاش، فقال مسلم بن سعيد: أعزم على كل رجل إلا اخترط سيفه، ففعلوا فصارت الدنيا كلها سيوفا، فتركوا الماء وعبروا، فأقام يوما، ثم قطع من غد، وأتبعهم ابن الخاقان قال: فأرسل حميد بن عبد الله وهو على الساقة إلى مسلم: قف ساعة فإن خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم- وهو مثقل جراحة- فوقف الناس، فعطف على الترك، فأسر أهل السغد وقائدهم وقائد الترك في سبعة، وانصرف البقية، ومضى حميد ورمي بنشابة في ركبته، فمات.
        وعطش الناس، وقد كان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي حمل عشرين قربة على إبله، فلما رأى جهد الناس أخرجها، فشربوا جرعا، واستسقى يوم العطش مسلم بن سعيد فأتوه بإناء، فأخذه جابر- أو حارثة- بن كثير أخو سليمان بن كثير من فيه، فقال مسلم: دعوه، فما نازعني شربتي إلا من حر دخله، فأتوا خجندة، وقد أصابتهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس فإذا فارسان يسألان عن عبد الرحمن بن نعيم، فأتياه بعهده على خراسان من أسد بن عبد الله، فأقرأه عبد الرحمن مسلما، فقال: سمعا وطاعة، قال: وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل.
        قال: وكان أعظم الناس غنى يوم العطش إسحاق بن محمد الغداني، فقال حاجب الفيل لثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب:
        نقضي الأمور وبكر غير شاهدها ... بين المجاذيف والسكان مشغول
        ما يعرف الناس منه غير قطنته ... وما سواها من الآباء مجهول
        وكان لعبد الرحمن بن نعيم من الولد نعيم وشديد وعبد السلام وإبراهيم والمقداد، وكان أشدهم نعيم وشديد، فلما عزل مسلم بن سعيد، قال الخزرج التغلبي: قاتلنا الترك، فأحاطوا بالمسلمين حتى أيقنوا بالهلاك، فنظرت إليهم وقد اصفرت وجوههم، فحمل حوثرة بن يزيد بن الحر بن الحنيف بن نصر بن يزيد بن جعونة على الترك في أربعة آلاف، فقاتلهم ساعة ثم رجع، وأقبل نصر بن سيار في ثلاثين فارسا، فقاتلهم حتى أزالهم عن مواضعهم، وحمل الناس عليهم، فانهزم الترك.
        قال: وحوثرة هذا هو ابن أخي رقبة بن الحر قال: وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد حين ولاه خراسان: ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنه لسانك والمعبر عنك، وحث صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمال العذر قال: وما عمال العذر؟ قال: مر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم، فإذا اختاروا رجلا فوله، فإن كان خيرا كان لك، وإن كان شرا كان لهم دونك، وكنت معذورا.
        قال: وكان مسلم بن سعيد كتب إلى ابن هبيرة أن يوجه إليه توبة بن أبي أسيد مولى بني العنبر، فكتب ابن هبيرة إلى عامله بالبصرة: احمل إلي توبة بن أبي أسيد، فحمله فقدم- وكان رجلا جميلا جهيرا له سمت- فلما دخل على ابن هبيرة، قال ابن هبيرة: مثل هذا فليول، ووجه به إلى مسلم، فقال له مسلم: هذا خاتمي فاعمل برأيك، فلم يزل معه حتى قدم أسد بن عبد الله، فأراد توبة أن يشخص مع مسلم، فقال له أسد: أقم معي فأنا أحوج إليك من مسلم فأقام معه، فأحسن إلى الناس وألان جانبه، وأحسن إلى الجند وأعطاهم أرزاقهم، فقال له اسد: حلفهم بالطلاق فلا يتخلف أحد عن مغزاه، ولا يدخل بديلا، فأبى ذلك توبة فلم يحلفهم بالطلاق.
        قال: وكان الناس بعد توبة يحلفون الجند بتلك الايمان، فلما قدم عاصم ابن عبد الله أراد أن يحلف الناس بالطلاق فأبوا، وقالوا: نحلف بأيمان توبة، قال: فهم يعرفون ذلك، يقولون: أيمان توبة.
        [انظر البداية والنهاية (7/185)]

        قال الواقدي: حدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: كتب الى هشام بن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة أن اكتب لي سنن الحج، فكتبتها له، وتلقاه أبو الزناد قال أبو الزناد: فإني يومئذ في الموكب خلفه، وقد لقيه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، وهشام يسير، فنزل له، فسلم عليه، ثم سار إلى جنبه، فصاح هشام: أبو الزناد! فتقدمت، فسرت إلى جنبه الآخر، فأسمع سعيدا يقول: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين، وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب، فأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة، قال: فشق على هشام، وثقل عليه كلامه، ثم قال: ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنة، قدمنا حجاجا ثم قطع كلامه وأقبل علي فقال: يا عبد الله بن ذكوان، فرغت مما كتبت إليك؟ فقلت: نعم، فقال أبو الزناد: وثقل على سعيد ما حضرته يتكلم به عند هشام، فرأيته منكسرا كلما رآني.
        [هذا الخبر لا يصح والواقدي متروك ولم يتابعه على هذا الخبر غيره]

        وفي هذه السنة كلم إبراهيم بن محمد بن طلحة هشام بن عبد الملك- وهشام واقف قد صلى في الحجر- فقال له: أسألك بالله وبحرمة هذا البيت والبلد الذي خرجت معظما لحقه، إلا رددت علي ظلامتي! قال: أي ظلامة؟ قال: داري، قال: فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: ظلمني والله، قال: فعن الوليد بن عبد الملك؟ قال: ظلمني والله، قال: فعن سليمان؟ قال: ظلمني، قال: فعن عمر بن عبد العزيز؟ قال: يرحمه الله، ردها والله علي، قال: فعن يزيد بن عبد الملك؟ قال: ظلمني والله، هو قبضها مني بعد قبضي لها، وهي في يديك قال هشام: أما والله لو كان فيك ضرب لضربتك، فقال إبراهيم: في والله ضرب بالسيف والسوط. فانصرف هشام والأبرش خلفه فقال: أبا مجاشع، كيف سمعت هذا اللسان؟ قال: ما اجود هذا اللسان! قال: هذه قريش وألسنتها، ولا يزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا.
        وفيها استعمل خالد أخاه أسد بن عبد الله أميرا على خراسان، فقدمها ومسلم بن سعيد غاز بفرغانة، فذكر عن أسد أنه لما أتى النهر ليقطع، منعه الأشهب بن عبيد التميمي أحد بني غالب، وكان على السفن بآمل، فقال له أسد: أقطعني، فقال: لا سبيل إلى إقطاعك، لأني نهيت عن ذلك، قال: لاطفوه وأطعموه، فأبى، قال: فإني الأمير، ففعل، فقال أسد:
        اعرفوا هذا حتى نشركه في أمانتنا، فقطع النهر، فأتى السغد، فنزل مرجها، وعلى خراج سمرقند هانئ بن هانئ، فخرج في الناس يتلقى أسدا، فأتوه بالمرج، وهو جالس على حجر، فتفاءل الناس، فقالوا: أسد على حجر! ما عند هذا خير فقال له هانئ: أقدمت أميرا فنفعل بك ما نفعل بالأمراء؟
        قال: نعم، قدمت أميرا ثم دعا بالغداء فتغدى بالمرج، وقال: من ينشط بالمسير وله أربعة عشر درهما- ويقال: قال ثلاثة عشر درهما- وها هي في كمي؟ وإنه ليبكي ويقول: إنما أنا رجل مثلكم وركب فدخل سمرقند وبعث رجلين معهما عهد عبد الرحمن بن نعيم على الجند، فقدم الرجلان على عبد الرحمن بن نعيم، وهو في وادي أفشين على الساقة- وكانت الساقة على أهل سمرقند الموالي وأهل الكوفة- فسألا عن عبد الرحمن فقالوا: هو في الساقة، فأتياه بعهد وكتاب بالقفل والإذن لهم فيه، فقرأ الكتاب ثم أتى به مسلما وبعهده، فقال مسلم: سمعا وطاعه، فقام عمرو ابن هلال السدوسي- ويقال التيمى- فقنعه سوطين لما كان منه بالبروقان إلى بكر بن وائل، وشتمه حسين بن عثمان بن بشر بن المحتفز، فغضب عبد الرحمن بن نعيم، فزجرهما ثم أغلظ لهما، وأمر بهما فدفعا، وقفل بالناس وشخص معه مسلم.
        فذكر علي بن محمد عن أصحابه، أنهم قدموا على أسد، وهو بسمرقند، فشخص أسد إلى مرو، وعزل هانئا، واستعمل على سمرقند الحسن بن أبي العمرطة الكندي من ولد آكل المرار قال: فقدمت على الحسن امرأته الجنوب ابنة القعقاع بن الأعلم رأس الأزد، ويعقوب بن القعقاع قاضي خراسان، فخرج يتلقاها، وغزاهم الترك، فقيل له: هؤلاء الترك قد أتوك- وكانوا سبعة آلاف- فقال: ما أتونا بل أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم، وايم الله مع هذا لأدنينكم منهم، ولأقرنن نواصي خيلكم بنواصي خيلهم.
        قال: ثم خرج فتباطأ حتى أغاروا وانصرفوا، فقال الناس: خرج إلى امرأته يتلقاها مسرعا، وخرج إلى العدو متباطئا فبلغه فخطبهم، فقال: تقولون وتعيبون! اللهم اقطع آثارهم وعجل أقدارهم، وأنزل بهم الضراء وارفع عنهم السراء! فشتمه الناس في أنفسهم.
        وكان خليفته حين خرج إلى الترك ثابت قطنة، فخطب الناس فحصر فقال: من يطع الله ورسوله فقد ضل، وارتج عليه، فلم ينطق بكلمة، فلما نزل عن المنبر قال:
        إن لم أكن فيكم خطيبا فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
        [أورد الجاحظ الشعر في البيان والتبيين 1 : 231، وروايته:
        فغلا أكن فيهم خطيبا فإنني ... بسمر القنا والسيف جد خطيب]

        فقيل له: لو قلت هذا على المنبر، لكنت خطيبا، فقال حاجب الفيل اليشكري يعيره حصره:
        أبا العلاء لقد لاقيت معضلة ... يوم العروبة من كرب وتخنيق
        تلوي اللسان إذا رمت الكلام به ... كما هوى زلق من شاهق النيق
        لما رمتك عيون الناس ضاحية ... أنشأت تجرض لما قمت بالريق
        أما القران فلا تهدى لمحكمة ... من القران ولا تهدى لتوفيق
        وفي هذه السنة ولد عبد الصمد بن علي في رجب.



        وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
        أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

        تعليق


        • #49
          رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

          ثم دخلت سنة سبع ومائة
          ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث

          فمن ذلك ما كان من خروج عباد الرعيني باليمن محكما، فقتله يوسف ابن عمر، وقتل معه اصحابه كلهم وكانوا ثلاثمائه.
          [انظر المنتظم لابن الجوزي(7/117) والبداية والنهاية(7/186)]

          وفيها وجه بكير بْن ماهان أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بْن خنيس وعمار العبادي في عدة من شيعتهم، معهم زياد خال الوليد الأزرق دعاة إلى خراسان، فجاء رجل من كندة إلى أسد بْن عبد الله، فوشى بهم إليه، فأتى بأبي عكرمة ومحمد بْن خنيس وعامة أصحابه، ونجا عمار، فقطع أسد أيدي من ظفر به منهم وأرجلهم، وصلبهم فأقبل عمار إلى بكير بْن ماهان، فأخبره الخبر، فكتب به إلى محمد بْن علي، فأجابه: الحمد لله الذي صدق مقالتكم ودعوتكم، وقد بقيت منكم قتلى ستقتل.
          [راجع المنتظم(7/117) والبداية والنهاية (7/186)]

          وفي هذه السنة حمل مسلم بْن سعيد إلى خالد بن عبد الله، وكان اسد ابن عبد الله له مكرما بخراسان لم يعرض له ولم يحبسه، فقدم مسلم وابن هبيرة مجمع على الهرب، فنهاه عن ذلك مسلم، وقال له: إن القوم فينا أحسن رأيا منكم فيهم.
          ذكر الخبر عن غزوة أسد هذه الغزوة:
          ذكر علي بن محمد عن أشياخه، أن أسدا غزا الغور، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق، فأمر أسد باتخاذ توابيت ووضع فيها الرجال، ودلاها بالسلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه، فقال ثابت قطنة:
          أرى أسدا تضمن مفظعات ... تهيبها الملوك ذوو الحجاب
          سما بالخيل في أكناف مرو ... وتوفزهن بين هلا وهاب
          إلى غورين حيث حوى أزب ... وصك بالسيوف وبالحراب
          هدانا الله بالقتلى تراها ... مصلبة بأفواه الشعاب
          ملاحم لم تدع لسراة كلب ... مهاترة ولا لبني كلاب
          فأوردها النهاب وآب منها ... بأفضل ما يصاب من النهاب
          وكان إذا أناخ بدار قوم ... أراها المخزيات من العذاب
          ألم يزر الجبال جبال ملع ... ترى من دونها قطع السحاب
          بأرعن لم يدع لهم شريدا ... وعاقبها الممض من العقاب
          وملع من جبال خوط فيها تعمل الحزم الملعية.
          وفي هذه السنة نقل أسد من كان بالبروقان من الجند إلى بلخ، فأقطع كل من كان له بالبروقان مسكن مسكنا بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن أقطعه مسكنا، وأراد أن ينزلهم على الأخماس، فقيل له: إنهم يتعصبون، فخلط بينهم، وكان قسم لعمارة مدينة بلخ الفعلة على كل كورة على قدر خراجها، وولى بناء مدينة بلخ برمك أبا خالد بْن برمك، - وكان البروقان منزل الأمراء وبين البروقان وبين بلخ فرسخان وبين المدينة والنوبهار قدر غلوتين- فقال أبو البريد في بنيان أسد مدينة بلخ:
          شعفت فؤادك فالهوى لك شاعف ... رئم على طفل بحومل عاطف
          ترعى البرير بجانبي متهدل ... ريان لا يعشو إليه آلف
          بمحاضر من منحني عطفت له ... بقر ترجح زانهن روادف
          إن المباركة التي أحصنتها ... عصم الذليل بها وقر الخائف
          فأراك فيها ما رأى من صالح ... فتحا وأبواب السماء رواعف
          فمضى لك الاسم الذي يرضى به ... عنك البصير بما نويت اللاطف
          يا خير ملك ساس أمر رعية ... إني على صدق اليمين لحالف
          الله آمنها بصنعك بعد ما ... كانت قلوب خوفهن رواجف

          ثم دخلت سنة ثمان ومائة
          ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث


          وفيها أيضا غزا إبراهيم بْن هشام ففتح أيضا حصنا من حصون الروم.
          [انظر المنتظم(7/121) والبداية والنهاية (7/190)]

          وفيها وجه بكير بن ماهان الى خراسان عدة، فيهم عمار العبادي، فوشى بهم رجل إلى أسد بْن عبد الله، فأخذ عمارا فقطع يديه ورجليه ونجا أصحابه، فقدموا على بكير بْن ماهان فأخبروه الخبر، فكتب بذلك إلى محمد بْن علي، فكتب إليه في جواب الكتاب: الحمد لله الذي صدق دعوتكم ونجى شيعتكم.
          [انظر المنتظم(7/121)]

          وفيها كان الحريق بدابق، فذكر مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نافع حدثه عن أبيه، قَالَ: احترق المرعى حتى احترق الدواب والرجال.

          غزو الختل
          وفيها غزا أسد بْن عبد الله الختل، فذكر عن علي بْن محمد أن خاقان أتى أسدا وقد انصرف إلى القواديان، وقطع النهر، ولم يكن بينهم قتال في تلك الغزاة وذكر عن أبي عبيدة، أنه قَالَ: بل هزموا أسدا وفضحوه، فتغنى عليه الصبيان:
          از ختلان آمذى ... برو تباه آمذي
          قَالَ: وكان السبل محاربا له، فاستجلب خاقان، وكان أسد قد أظهر أنه يشتو بسرخ دره، فأمر أسد الناس فارتحلوا، ووجه راياته، وسار في ليلة مظلمة إلى سرخ دره، فكبر الناس، فقال أسد: ما للناس؟ قالوا:
          هذه علامتهم إذا ففلوا، فقال لعروة المنادي: ناد أن الأمير يريد غورين، ومضى وأقبل خاقان حين انصرفوا إلى غورين النهر فقطع النهر، فلم يلتق هو ولا هم، ورجع إلى بلخ، فقال الشاعر في ذلك يمدح اسد بن عبد الله:
          ندبت لي من كل خمس ألفين ... من كل لحاف عريض الدفين
          قال: ومضى المسلمون إلى الغوريان فقاتلوهم يوما، وصبروا لهم، وبرز رجل من المشركين، فوقف أمام أصحابه وركز رمحه، وقد أعلم بعصابة خضراء- وسلم بْن أحوز واقف مع نصر بن سيار- فقال سلم لنصر: قد عرفت رأي أسد، وأنا حامل على هذا العلج، فلعلي أن أقتله فيرضى.
          فقال: شأنك، فحمل عليه، فما اختلج رمحه حتى غشيه سلم فطعنه فإذا هو بين يدي فرسه، ففحص برجله، فرجع سلم فوقف، فقال لنصر: أنا حامل حمله أخرى، فحمل حتى إذا دنا منهم اعترضه رجل من العدو، فاختلفا ضربتين، فقتله سلم، فرجع سلم جريحا، فقال نصر لسلم: قف لي حتى أحمل عليهم، فحمل حتى خالط العدو، فصرع رجلين ورجع جريحا، فوقف فقال: أترى ما صنعنا يرضيه؟ لا أرضاه الله! فقال: لا والله فيما أظن وأتاهما رسول أسد فقال: يقول لكما الأمير: قد رأيت موقفكما منذ اليوم وقلة غنائكما عن المسلمين، لعنكما الله! فقالا: آمين إن عدنا لمثل هذا وتحاجزوا يومئذ، ثم عادوا من الغد فلم يلبث المشركون أن انهزموا، وحوى المسلمون عسكرهم، وظهروا على البلاد فأسروا وسبوا وغنموا، وقال بعضهم رجع أسد في سنة ثمان ومائة مفلولا من الختل، فقال اهل خراسان:
          از ختلان آمذى برو تباه آمذي ... بيدل فراز آمذي
          [مثل سابقه زاد عليه ما معه: "رجع مكسور الخاطر"]

          قال: وكان أصاب الجند في غزاة الختل جوع شديد، فبعث اسد
          بكبشين مع غلام له، وقال: لا تبعهما باقل من خمسمائة، فلما مضى الغلام، قَالَ أسد: لا يشتريهما إلا ابن الشخير، وكان في المسلحة، فدخل ابن الشخير حين أمسى، فوجد الشاتين في السوق، فاشتراهما بخمسمائة، فذبح إحداهما وبعث بالأخرى إلى بعض إخوانه، فلما رجع الغلام إلى أسد أخبره بالقصة، فبعث إليه أسد بألف درهم.
          قَالَ: وابن الشخير هو عثمان بْن عبد الله بْن الشخير، أخو مطرف بْن عبد الله بْن الشخير الحرشي.

          ثم دخلت سنة تسع ومائة
          ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا
          خبر مقتل عمر بن يزيد الأسيدي

          وفيها قتل عمر بْن يزيد الأسيدي، قتله مالك بْن المنذر بْن الجارود.
          ذكر الخبر عن ذلك:
          وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن خالد بْن عبد الله شهد عمر بْن يزيد أيام حرب يزيد بْن المهلب، فأعجب به يزيد بْن عبد الملك، وقال: هذا رجل العراق، فغاظ ذلك خالدا، فأمر مالك بْن المنذر وهو على شرطه البصرة أن يعظم عمر بْن يزيد، ولا يعصى له أمرا حتى يعرفه الناس، ثم أقبل يعتل عليه حتى يقتله، ففعل ذلك، فذكر يوما عبد الأعلى بْن عبد الله بْن عامر، فافترى عليه مالك، فقال له عمر بْن يزيد: تفتري على مثل عبد الأعلى! فأغلظ له مالك، فضربه بالسياط حتى قتله.

          غزو غورين
          وفيها غزا أسد بْن عبد الله غورين، وقال ثابت قطنة:
          أرى أسدا في الحرب إذ نزلت به ... وقارع أهل الحرب فاز وأوجبا
          تناول أرض السبل، خاقان ردؤه ... فحرق ما استعصى عليه وخربا
          أتتك وفود الترك ما بين كابل ... وغورين إذ لم يهربوا منك مهربا
          فما يغمر الأعداء من ليث غابة ... أبي ضاريات حرشوه فعقبا
          أزب كأن الورس فوق ذراعه ... كريه المحيا قد أسن وجربا
          ألم يك في الحصن المبارك عصمة ... لجندك إذ هاب الجبان وأرهبا!
          بنى لك عبد الله حصنا ورثته ... قديما إذا عد القديم وأنجبا.

          ذكر الخبر عن عزل هشام خالدا وأخاه عن خراسان:
          وكان سبب ذلك أن أسدا أخا خالد تعصب حتى أفسد الناس، فقال أبو البريد- فيما ذكر علي بْن محمد لبعض الأزد: ادخلنى على ابن عمك عبد الرحمن ابن صبح، وأوصه بي، وأخبره عني، فأدخله عليه- وهو عامل لأسد على بلخ- فقال: أصلح الله الأمير! هذا أبو البريد البكري أخونا وناصرنا، وهو شاعر أهل المشرق، وهو الذي يقول:
          إن تنقض الأزد حلفا كان أكده ... في سالف الدهر عباد ومسعود
          ومالك وسويد أكداه معا ... لما تجرد فيها أي تجريد
          حتى تنادوا أتاك الله ضاحية ... وفي الجلود من الإيقاع تقصيد
          قَالَ: فجذب أبو البريد يده، وقال: لعنك الله من شفيع كذب! أصلحك الله! ولكني الذي أقول:
          الأزد إخوتنا وهم حلفاؤنا ... ما بيننا نكث ولا تبديل
          قال: صدقت، وضحك وأبو البريد من بني علباء بن شيبان بن ذهل ابن ثعلبة.
          قَالَ: وتعصب على نصر بْن سيار ونفر معه من مضر، فضربهم بالسياط، وخطب في يوم جمعه فقال في خطبته: قبح الله هذه الوجوه! وجوه أهل الشقاق والنفاق، والشغب والفساد اللهم فرق بيني وبينهم، وأخرجني إلى مهاجري ووطني، وقل من يروم ما قبلي أو يترمرم، وأمير المؤمنين خالي، وخالد بْن عبد الله أخي، ومعي اثنا عشر ألف سيف يمان.
          ثم نزل عن منبره، فلما صلى ودخل عليه الناس، وأخذوا مجالسهم، أخرج كتابا من تحت فراشه، فقرأه على الناس، فيه ذكر نصر بْن سيار وعبد الرحمن بن نعيم الغامدي وسورة بْن الحر الأباني- أبان بْن دارم- والبختري بْن أبي درهم من بني الحارث بْن عباد، فدعاهم فأنبهم، فأزم القوم، فلم يتكلم منهم أحد، فتكلم سورة، فذكر حاله وطاعته ومناصحته، وأنه ليس ينبغي له أن يقبل قول عدو مبطل، وأن يجمع بينهم وبين من قرفهم بالباطل فلم يقبل قوله، وأمر بهم فجردوا، فضرب عبد الرحمن بْن نعيم، فإذا رجل عظم البطن، أرسح، فلما ضرب التوى، وجعل سراويله يزل عن موضعه، فقام رجل من أهل بيته، فأخذ رداء له هرويا، وقام مادا ثوبه بيده، وهو ينظر إلى أسد، يريد أن يأذن له فيؤزره فأومى إليه أن أفعل، فدنا منه فأزره- ويقال بل أزره أبو نميلة- وقال له: اتزر أبا زهير، فإن الأمير وال مؤدب ويقال: بل ضربهم في نواحي مجلسه.
          فلما فرغ قَالَ: أين تيس بني حمان؟ - وهو يريد ضربه، وقد كان ضربه قبل- فقال: هذا تيس بني حمان، وهو قريب العهد بعقوبة الأمير، وهو عامر بْن مالك بْن مسلمة بْن يزيد بْن حجر بْن خيسق بْن حمان بْن كعب بْن سعد وقيل إنه حلقهم بعد الضرب، ودفعهم إلى عبد ربه بْن أبي صالح مولى بني سليم- وكان من الحرس- وعيسى بن ابى بريق، ووجههم الى خالد، وكتب اليه: انهم أرادوا الوثوب عليه، فكان ابن ابى بريق كلما نبت شعر احدهم حلقه، وكان البختري بن أبي درهم، يقول: لوددت أنه ضربني وهذا شهرا- يعني نصر بْن سيار لما كان بينهما بالبروقان- فأرسل بنو تميم إلى نصر: إن شئتم انتزعناكم من أيديهم، فكفهم نصر، فلما قدم بهم على خالد لام أسدا وعنفه، وقال: ألا بعثت برءوسهم! فقال عرفجة التميمي:
          فكيف وأنصار الخليفة كلهم ... عناة وأعداء الخليفة تطلق
          بكيت ولم أملك دموعي وحق لي ... ونصر شهاب الحرب في الغل موثق
          وقال نصر:
          بعثت بالعتاب في غير ذنب ... في كتاب تلوم أم تميم
          إن أكن موثقا أسيرا لديهم ... في هموم وكربة وسهوم
          رهن قسر فما وجدت بلاء ... كأسار الكرام عند اللئيم
          أبلغ المدعين قسرا وقسر ... أهل عود القناة ذات الوصوم
          هل فطمتم عن الخيانة والغدر ... أم أنتم كالحاكر المستديم؟
          وقال الفرزدق:
          أخالد لولا الله لم تعط طاعة ... ولولا بنو مروان لم توثقوا نصرا
          إذا للقيتم دون شد وثاقه ... بنى الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا
          وخطب أسد بْن عبد الله على منبر بلخ، فقال في خطبته: يا أهل بلخ، لقبتموني الزاغ والله لأزيغن قلوبكم.

          ذكر الخبر عن دعاة بنى العباس
          وذكر علي بْن محمد أن أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد بْن عبد الله الأولى، بعثه محمد بْن على ابن عبد الله بْن العباس، وقال له: ادع الناس إلينا وانزل في اليمن، والطف بمضر ونهاه عن رجل من أبرشهر، يقال له غالب، لأنه كان مفرطا في حب بني فاطمة.
          ويقال: أول من جاء أهل خراسان بكتاب محمد بن على حرب بْن عثمان، مولى بني قيس بْن ثعلبة من أهل بلخ.
          قَالَ: فلما قدم زياد أبو محمد، ودعا إلى بني العباس، وذكر سيرة بني مروان وظلمهم، وجعل يطعم الناس الطعام، فقدم عليه غالب من أبرشهر، فكانت بينهم منازعة، غالب يفضل آل أبي طالب وزياد يفضل بني العباس. ففارقه غالب، وأقام زياد بمرو شتوة، وكان يختلف إليه من أهل مرو يحيى بْن عقيل الخزاعي وإبراهيم بْن الخطاب العدوي.
          قَالَ: وكان ينزل برزن سويد الكاتب في دور آل الرقاد، وكان على خراج مرو الحسن بْن شيخ، فبلغه أمره، فأخبر به أسد بْن عبد الله، فدعا به- وكان معه رجل يكنى أبا موسى- فلما نظر أليه أسد، قَالَ له: أعرفك؟ قَالَ: نعم، قَالَ له أسد: رأيتك في حانوت بدمشق، قَالَ: نعم، قَالَ لزياد: فما هذا الذي بلغني عنك؟ قَالَ: رفع إليك الباطل، إنما قدمت خراسان في تجارة، وقد فرقت مالي على الناس، فإذا صار إلي خرجت. قَالَ له أسد: اخرج عن بلادي، فانصرف، فعاد إلى أمره، فعاود الحسن أسدا، وعظم عليه أمره، فأرسل إليه، فلما نظر إليه، قَالَ: ألم أنهك عن المقام بخراسان! قَالَ: ليس عليك أيها الأمير مني بأس، فاحفظه وأمر بقتلهم، فقال له أبو موسى: فاقض ما أنت قاض فازداد غضبا، وقال له: أنزلتني منزلة فرعون! فقال له: ما أنزلتك ولكن الله أنزلك. فقتلوا، وكانوا عشرة من أهل بيت الكوفة، فلم ينج منهم يومئذ إلا غلامان استصغرهما، وأمر بالباقين فقتلوا بكشانشاه.
          وقال قوم: أمر أسد بزياد أن يخط وسطه، فمد بين اثنين، فضرب فنبا السيف عنه، فكبر أهل السوق، فقال أسد: ما هذا؟ فقيل له، لم يحك السيف فيه فأعطى أبا يعقوب سيفا، فخرج في سراويل والناس قد اجتمعوا عليه، فضربه، فنبا السيف، فضربه ضربة أخرى، فقطعه باثنتين.
          وكان أسد استعمل عيسى بْن شداد البرجمي إمرته الأولى في وجه وجهه على ثابت قطنة، فغضب، فهجا أسدا، فقال:
          أرى كل قوم يعرفون أباهم ... وأبو بجيلة بينهم يتذبذب
          إني وجدت أبي أباك فلا تكن ... إلبا علي مع العدو تجلب
          أرمي بسهمي من رماك بسهمه ... وعدو من عاديت غير مكذب
          اسد بن عبد الله جلل عفوه ... أهل الذنوب فكيف من لم يذنب!
          أجعلتني للبرجمي حقيبة ... والبرجمي هو اللئيم المحقب
          عبد إذا استبق الكرام رأيته ... يأتي سكينا حاملا في الموكب
          إني أعوذ بقبر كرز أن أرى ... تبعا لعبد من تميم محقب.
          وكان أول من اتخذ الرابطة بخراسان واستعمل على الرابطة عبد الملك بْن دثار الباهلي، وتولى أشرس صغير الأمور وكبيرها بنفسه.
          قَالَ: وكان أشرس لما قدم خراسان كبر الناس فرحا به، فقال رجل:
          لقد سمع الرحمن تكبير أمة ... غداة أتاها من سليم إمامها
          إمام هدى قوى لهم أمرهم به ... وكانت عجافا ما تمخ عظامها
          وركب حين قدم حمارا، فقال له حيان النبطي: أيها الأمير، إن كنت تريد أن تكون والي خراسان فاركب الخيل، وشد حزام فرسك، والزم السوط خاصرته حتى تقدم النار، وإلا فارجع قَالَ: ارجع إذن، ولا أقتحم النار يا حيان ثم أقام وركب الخيل.
          قَالَ علي: وقال يحيى بْن حضين: رأيت في المنام قبل قدوم أشرس قائلا يقول: أتاكم الوعر الصدر، الضعيف الناهضة، المشئوم الطائر، فانتبهت فزعا ورأيت في الليلة الثانية: أتاكم الوعر الصدر، الضعيف الناهضة، المشئوم الطائر، الخائن قومه، جغر، ثم قَالَ:
          لقد ضاع جيش كان جغر أميرهم ... فهل من تلاف قبل دوس القبائل
          فإن صرفت عنهم به فلعله ... وإلا يكونوا من أحاديث قائل
          وكان أشرس يلقب جغرا بخراسان
          وقال الواقدي: خطب الناس إبراهيم بْن هشام بمنى في هذه السنة الغد من يوم النحر بعد الظهر فقال سلوني، فأنا ابن الوحيد، لا تسألون أحدا أعلم مني فقام إليه رجل من أهل العراق فسأله عن الأضحية، أواجبة هي أم لا؟ فما درى أي شيء يقول له! فنزل.

          ثم دخلت سنة عشر ومائة
          وفي هذه السنة دعا الأشرس أهل الذمة من أهل سمرقند ومن وراء النهر إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فأجابوا إلى ذلك، فلما أسلموا وضع عليهم الجزية، وطالبهم بها، فنصبوا له الحرب.
          [وانظر البداية والنهاية(7/190) فقد ذكره ابن كثير بلا إسناد ولم نجد للخبر أصلا صحيحا والله أعلم]

          ذكر الخبر عما كان من أمر أشرس وأمر أهل سمرقند ومن وليهم في ذلك:
          ذكر أن أشرس قَالَ في عمله بخراسان: ابغوني رجلا له ورع وفضل أوجهه إلى من وراء النهر، فيدعوهم إلى الإسلام فأشاروا عليه بأبي الصيداء صالح بن طريف، مولى بنى ضبة، فقال: لست بالماهر بالفارسية، فضموا معه الربيع بْن عمران التميمي، فقال أبو الصيداء: اخرج على شريطه أن من أسلم لم يؤخذ منه الجزية، فإنما خراج خراسان على رءوس الرجال، قَالَ أشرس: نعم، قَالَ أبو الصيداء لأصحابه: فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم، قالوا: نعم.
          فشخص إلى سمرقند، وعليها الحسن بْن أبي العمر طه الكندي على حربها وخراجها، فدعا أبو الصيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس، فكتب غوزك إلى أشرس:
          إن الخراج قد انكسر، فكتب أشرس إلى ابن أبي العمرطة: إن في الخراج قوة للمسلمين، وقد بلغني أن أهل السغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما دخلوا في الإسلام تعوذا من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفرائض وحسن إسلامه، وقرأ سورة من القرآن، فارفع عنه خراجه ثم عزل اشرس ابن ابى العمرطه عن الخراج، وصيره إلى هانئ بْن هانئ، وضم إليه الأشحيذ، فقال ابن أبي العمرطة لأبي الصيداء: لست من الخراج الآن في شيء، فدونك هانئا والأشحيذ، فقام أبو الصيداء يمنعهم من أخذ الجزية ممن أسلم، فكتب هانئ: إن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد فجاء دهاقين بخاري إلى أشرس فقالوا: ممن تأخذ الخراج، وقد صار الناس كلهم عربا؟ فكتب أشرس إلى هانئ وإلى العمال: خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه، فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنعوا، واعتزل من أهل السغد سبعة آلاف، فنزلوا على سبعة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصيداء وربيع بْن عمران التميمي والقاسم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وبشر بْن جرموز الضبي وخالد بْن عبد الله النحوي وبشر بْن زنبور الأزدي وعامر بْن قشير- أو بشير، الخجندي، وبيان العنبري وإسماعيل بْن عقبة، لينصروهم.
          قَالَ: فعزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الحرب، واستعمل مكانه المجشر بْن مزاحم السلمي، وضم إليه عميرة بْن سعد الشيباني.
          قَالَ: فلما قدم المجشر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو وأصحابه، فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة، فحبسهما، فقال أبو الصيداء: غدرتم ورجعتم عما قلتم! فقال له هانئ: ليس بغدر ما كان فيه حقن الدماء وحمل أبا الصيداء إلى الأشرس، وحبس ثابت قطنة عنده، فلما حمل أبو الصيداء اجتمع أصحابه وولوا أمرهم أبا فاطمة، ليقاتلوا هانئا، فقال لهم: كفوا حتى أكتب إلى أشرس فيأتينا رأيه فنعمل بأمره فكتبوا إلى أشرس، فكتب أشرس: ضعوا عليهم الخراج، فرجع أصحاب أبي الصيداء، فضعف أمرهم، فتتبع الرؤساء منهم فأخذوا، وحملوا إلى مرو، وبقي ثابت محبوسا، وأشرك أشرس مع هانئ بْن هانئ سليمان بْن أبي السرى مولى بنى عوافه في الخراج، فألح هانئ والعمال في جباية الخراج، واستخفوا بعظماء العجم، وسلط المجشر عميرة بْن سعد على الدهاقين، فأقيموا وخرقت ثيابهم، وألقيت مناطقهم في أعناقهم، وأخذوا الجزية ممن أسلم من الضعفاء، فكفرت السغد وبخارى، واستجاشوا الترك، فلم يزل ثابت قطنة في حبس المجشر، حتى قدم نصر بْن سيار واليا على المجشر، فحمل ثابتا إلى أشرس مع إبراهيم بْن عبد الله الليثي فحبسه وكان نصر بن سيار ألطفه، وأحسن إليه، فمدحه ثابت قطنة، وهو محبوس عند أشرس فقال:
          ما هاج شوقك من نوى وأحجار ... ومن رسوم عفاها صوب أمطار!
          لم يبق منها ومن أعلام عرصتها ... إلا شجيج وإلا موقد النار
          ومائل في ديار الحي بعدهم ... مثل الربيئة في أهدامه العاري
          ديار ليلى قفار لا أنيس بها ... دون الحجون وأين الحجن من داري!
          بدلت منها وقد شط المزار بها ... وادي المخافة لا يسري بها الساري
          بين السماوة في حزم مشرقة ... ومعنق دوننا آذية جار
          نقارع الترك ما تنفك نائحة ... منا ومنهم على ذي نجدة شار
          إن كان ظني بنصر صادقا أبدا ... فيما ادبر من نقضي وامرارى
          يصرف الجند حتى يستفي بهم ... نهبا عظيما ويحوي ملك جبار
          وتعثر الخيل في الأقياد آونة ... تحوي النهاب إلى طلاب أوتار
          حتى يروها دوين السرح بارقة ... فيها لواء كظل الأجدل الضاري
          لا يمنع الثغر إلا ذو محافظة ... من الخضارم سباق بأوتار
          إني وإن كنت من جذم الذي نضرت ... منه الفروع وزندي الثاقب الواري
          لذاكر منك أمرا قد سبقت به ... من كان قبلك يا نصر بْن سيار
          ناضلت عني نضال الحر إذ قصرت ... دوني العشيرة واستبطأت أنصاري
          وصار كل صديق كنت آمله ... ألبا علي ورث الحبل من جاري
          وما تلبست بالأمر الذي وقعوا ... به علي ولا دنست أطماري
          ولا عصيت إماما كان طاعته ... حقا علي ولا قارفت من عار
          قَالَ علي: ويقال إن أشرس قطع النهر، ونزل بيكند، فلم يجد بها ماء، فلما أصبحوا ارتحلوا، فلما دنوا من قصر بخاراخداه- وكان منزله منهم على ميل- تلقاهم ألف فارس، فأحاطوا بالعسكر وسطع رهج الغبار، فلم يكن الرجل يقدر أن ينظر إلى صاحبه قَالَ: فانقطع منهم ستة آلاف، فيهم قطن بْن قتيبة وغوزك من الدهاقين، فانتهوا إلى قصر من قصور بخارى، وهم يرون أن أشرس قد هلك، وأشرس في قصور بخارى، فلم يلتقوا إلا بعد يومين، ولحق غوزك في تلك الوقعة بالترك، وكان قد دخل القصر مع قطن، فأرسل إليه قطن رجلا، فصاحوا برسول قطن، ولحق بالترك.
          قَالَ: ويقال إن غوزك وقع يومئذ وسط خيل، فلم يجد بدا من اللحاق بهم ويقال إن أشرس أرسل إلى غوزك يطلب منه طاسا، فقال لرسول أشرس: إنه لم يبق معى شيء اتدهن به غير الطاس، فاصفح عنه فأرسل إليه: اشرب في قرعة، وابعث إلي بالطاس، ففارقه.
          قَالَ: وكان على سمرقند نصر بْن سيار، وعلى خراجها عميرة بْن سعد الشيباني، وهم محصورون، وكان عميرة ممن قدم مع أشرس، وأقبل قريش ابن أبي كهمس على فرس، فقال لقطن: قد نزل الأمير والناس، فلم يفقد أحد من الجند غيرك، فمضى قطن والناس إلى العسكر، وكان بينهم ميل.

          ذكر وقعه كمرجة
          قَالَ: ويقال إن أشرس نزل قريبا من مدينة بخارى على قدر فرسخ، وذلك المنزل يقال له المسجد، ثم تحول منه إلى مرج يقال له بوادرة، فأتاهم سبابة- أو شبابة- مولى قيس بْن عبد الله الباهلي، وهم نزول بكمرجة- وكانت كمرجة من أشرف أيام خراسان وأعظمها أيام أشرس في ولايته- فقال لهم: إن خاقان مار بكم غدا، فأرى لكم أن تظهروا عدتكم، فيرى جدا واحتشادا، فينقطع طمعه منكم فقال له رجل منهم: استوثقوا من هذا فإنه جاء ليفت في أعضادكم، قالوا: لا نفعل، هذا مولانا وقد عرفناه بالنصيحة، فلم يقبلوا منه، وفعلوا ما أمرهم به المولى، وصبحهم خاقان، فلما حاذى بهم ارتفع إلى طريق بخارى كأنه يريدها، فتحدر بجنوده من وراء تل بينهم وبينه، فنزلوا وتأهبوا وهم لا يشعرون بهم فلما كان ذلك ما فاجأهم أن طلعوا على التل، فإذا جبل حديد: أهل فرغانة والطاربند وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى قَالَ: فأسقط في أيدي القوم، فقال لهم كليب بْن قنان الذهلي: هم يريدون مزاحفتكم فسربوا دوابكم المجففة في طريق النهر، كأنكم تريدون أن تسقوها، فإذا جردتموها فخذوا طريق الباب، وتسربوا الأول فالأول، فلما رآهم الترك يتسربون شدوا عليهم في مضايق، وكانوا هم أعلم بالطريق من الترك، وسبقوهم إلى الباب فلحقوهم عنده، فقتلوا رجلا كان يقال له المهلب، كان حاميتهم، وهو رجل من العرب، فقاتلوهم فغلبوهم على الباب الخارج من الخندق فدخلوه، فاقتتلوا، وجاء رجل من العرب بحزمة قصب قد أشعلها، فرمى بها وجوههم فتنحوا، وأخلوا عن قتلى وجرحى، فلما أمسوا انصرف الترك، وأحرق العرب القنطرة، فأتاهم خسرو بْن يزدجرد في ثلاثين رجلا، فقال: يا معشر العرب، لم تقتلون أنفسكم وأنا الذي جئت بخاقان ليرد علي مملكتي، وأنا آخذ لكم الأمان! فشتموه، فانصرف.
          قَالَ: وجاءهم بازغري في مائتين- وكان داهية- من وراء النهر، وكان خاقان لا يخالفه، ومعه رجلان من قرابة خاقان، ومعه أفراس من رابطة أشرس، فقال: آمنونا حتى ندنو منكم، فأعرض عليكم ما أرسلني إليكم به خاقان فآمنوه، فدنا من المدينة، وأشرفوا عليه ومعه أسراء من العرب، فقال بازغري: يا معشر العرب، أحدروا إلي رجلا منكم أكلمه برسالة خاقان، فأحدروا حبيبا مولى مهرة من أهل درقين، فكلموه فلم يفهم، فقال: أحدروا إلي رجلا يعقل عني، فأحدروا يزيد بْن سعيد الباهلي، وكان يشدو شدوا من التركية، فقال: هذه خيل الرابطة ووجوه العرب معه أسراء وقال: إن خاقان أرسلني إليكم، وهو يقول لكم: إني أجعل من كان عطاؤه منكم ستمائه ألفا، ومن كان عطاؤه ثلاثمائه ستمائه، وهو مجمع بعد هذا على الإحسان إليكم، فقال له يزيد: هذا أمر لا يلتئم، كيف يكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاء! لا يكون بيننا وبينكم صلح. فغضب بازغري، فقال التركيان اللذان معه: ألا نضرب عنقه؟ قَالَ: لا، نزل إلينا بأمان وفهم ما قالا له يزيد، فخاف فقال: بلى يا بازغرى الا ان
          أن تجعلونا نصفين، فيكون نصف في أثقالنا ويسير النصف معه، فإن ظفر خاقان فنحن معه، وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن أهل السغد.
          فرضي بازغري والتركيان بما قَالَ، فقال له: اعرض على القوم ما تراضينا به، وأقبل فأخذ بطرف الحبل فجذبوه حتى صار على سور المدينة، فنادى: يا أهل كمرجة، اجتمعوا، فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان، فما ترون؟ قالوا: لا نجيب ولا نرضى، قَالَ: يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين، قالوا: نموت جميعا قبل ذلك قَالَ: فأعلموهم. قَالَ: فأشرفوا عليهم، وقالوا: يا بازغري، أتبيع الأسرى في أيديكم فنفادي بهم؟ فأما ما دعوتنا إليه فلا نجيبكم إليه، قَالَ لهم: أفلا تشترون أنفسكم منا؟ فما أنتم عندنا إلا بمنزلة من في أيدينا منكم- وكان في أيديهم الحجاج بْن حميد النضري- فقالوا له: يا حجاج، ألا تكلم؟ قَالَ: علي رقباء، وأمر خاقان بقطع الشجر، فجعلوا يلقون الحطب الرطب، ويلقي أهل كمرجة الحطب اليابس، حتى سوى الخندق، ليقطعوا إليهم، فأشعلوا فيه النيران، فهاجت ريح شديدة- صنعا من الله عز وجل- قَالَ: فاشتعلت النار في الحطب، فاحترق ما عملوا في ستة أيام في ساعة من نهار، ورميناهم فأوجعناهم وشغلناهم بالجراحات قَالَ: وأصابت بازغري نشابة في صرته، فاحتقن بوله، فمات من ليلته، فقطع أتراكه آذانهم، وأصبحوا بشر، منكسين رءوسهم يبكونه، ودخل عليهم أمر عظيم فلما امتد النهار جاءوا بالأسرى وهم مائة، فيهم أبو العوجاء العتكي واصحابه، فقتلوهم، ورموا اليهم برأس الحجاج ابن حميد النضري وكان مع المسلمين مائتان من أولاد المشركين كانوا رهائن في أيديهم، فقتلوهم واستماتوا، واشتد القتال، وقاموا على باب الخندق فسار على السور خمسة أعلام، فقال كليب: من لي بهؤلاء؟ فقال ظهير بْن مقاتل الطفاوي: أنا لك بهم، فذهب يسعى وقال لفتيان: امشوا خلفي، وهو جريح، قَالَ: فقتل يومئذ من الأعلام اثنان، ونجا ثلاثة قَالَ: فقال ملك من الملوك لمحمد بن وساج: العجب إنه لم يبق ملك فيما وراء النهر الا
          قاتل بكمرجة غيري، وعز علي ألا أقاتل مع أكفائي ولم ير مكاني فلم يزل أهل كمرجة بذلك، حتى أقبلت جنود العرب، فنزلت فرغانة.
          فعير خاقان أهل السغد وفرغانة والشاش والدهاقين، وقال لهم: زعمتم أن في هذه خمسين حمارا، وإنا نفتحها في خمسة أيام، فصارت الخمسة الأيام شهرين وشتمهم وأمرهم بالرحلة، فقالوا: ما ندع جهدا، ولكن أحضرنا غدا فانظر، فلما كان من الغد جاء خاقان فوقف، فقام إليه ملك الطاربند، فاستأذنه في القتال والدخول عليهم، قَالَ: لا أرى أن تقاتل في هذا الموضع- وكان خاقان يعظمه- فقال: اجعل لي جاريتين من جواري العرب، وأنا أخرج عليهم، فأذن له، فقاتل فقتل منهم ثمانية، وجاء حتى وقف على ثلمة وإلى جنب الثلمة بيت فيه خرق يفضي إلى الثلمة، وفي البيت رجل من بني تميم مريض، فرماه بكلوب فتعلق بدرعه، ثم نادى النساء والصبيان، فجذبوه فسقط لوجهه وركبته، ورماه رجل بحجر، فأصاب أصل أذنه فصرع، وطعنه رجل فقتله وجاء شاب أمرد من الترك، فقتله وأخذ سلبه وسيفه، فغلبناهم على جسده- قَالَ: ويقال: إن الذي انتدب لهذا فارس أهل الشاش- فكانوا قد اتخذوا صناعا، وألصقوها بحائط الخندق، فنصبوا قبالة ما اتخذوا أبوابا له، فأقعدوا الرماة وراءها، وفيهم غالب بْن المهاجر الطائي عم أبي العباس الطوسي ورجلان، أحدهما شيباني والآخر ناجي، فجاء فاطلع في الخندق، فرماه الناجي فلم يخطئ قصبه انفه، وعليه كاشخوده تبتية، فلم تضره الرمية، ورماه الشيباني وليس يرى منه غير عينيه، فرماه غالب ابن المهاجر، فدخلت النشابة في صدره، فنكس فلم يدخل خاقان شيء أشد منه.
          قَالَ: فيقال: إنه إنما قتل الحجاج وأصحابه يومئذ لما دخله من الجزع، وأرسل إلى المسلمين أنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة ننزلها دون افتتاحها، أو ترحلهم عنها فقال له كليب بْن قنان: وليس من ديننا ان نعطى بأيدينا حتى نقتل، فاصنعوا ما بدا لكم، فرأى الترك أن مقامهم عليهم ضرر، فأعطوهم الأمان على أن يرحل هو وهم عنهم بأهاليهم وأموالهم إلى سمرقند أو الدبوسية، فقال لهم: اختاروا لأنفسكم في خروجكم من هذه المدينة.
          قَالَ: ورأى أهل كمرجة ما هم فيه من الحصار والشدة، فقالوا:
          نشاور أهل سمرقند، فبعثوا غالب بْن المهاجر الطائي، فانحدر في موضع من الوادي، فمضى إلى قصر يسمى فرزاونة، والدهقان الذي بها صديق له، فقال له: إني بعثت إلى سمرقند، فاحملني، فقال: ما أجد دابة إلا بعض دواب خاقان، فإن له في روضة خمسين دابة، فخرجا جميعا إلى تلك الروضة، فأخذ برذونا فركبه، وكان إلفه برذون آخر، فتبعه فأتى سمرقند من ليلته، فأخبرهم بأمرهم، فأشاروا عليه بالدبوسية، وقالوا: هي أقرب، فرجع إلى أصحابه، فأخذوا من الترك رهائن ألا يعرضوا لهم، وسألوهم رجلا من الترك يتقوون به مع رجال منهم، فقال لهم الترك: اختاروا من شئتم، فاختاروا كورصول يكون معهم، فكان معهم حتى وصلوا إلى حيث أرادوا. ويقال: إن خاقان لما رأى أنه لا يصل إليهم شتم أصحابه، وأمرهم بالارتحال عنهم، وكلمه المختار بْن غوزك وملوك السغد وقالوا: لا تفعل أيها الملك، ولكن أعطهم أمانا يخرجون عنها، ويرون أنك إنما فعلت ذلك بهم من أجل غوزك أنه مع العرب في طاعتها، وأن ابنه المختار طلب إليك في ذلك مخافة على أبيه، فأجابهم إلى ذلك، فسرح إليهم كورصول يكون معهم، يمنعهم ممن أرادهم.
          قَالَ: فصار الرهن من الترك في أيديهم، وارتحل خاقان، وأظهر أنه يريد سمرقند- وكان الرهن الذي في أيديهم من ملوكهم- فلما ارتحل خاقان- قَالَ كورصول للعرب: ارتحلوا، قالوا: نكره أن نرتحل والترك لم يمضوا، ولا نأمنهم أن يعرضوا لبعض النساء فتحمى العرب فنصير إلى مثل ما كنا فيه من الحرب.
          قَالَ: فكف عنهم، حتى مضى خاقان والترك، فلما صلوا الظهر أمرهم
          كورصول بالرحلة، وقال: إنما الشدة والموت والخوف حتى تسيروا فرسخين، ثم تصيروا إلى قرى متصلة، فارتحلوا وفي يد الترك من الرهن من العرب نفر، منهم شعيب البكري أو النصري، وسباع بْن النعمان وسعيد بْن عطية، وفي أيدي العرب من الترك خمسة، قد أردفوا خلف كل رجل من الترك رجلا من العرب معه خنجر، وليس على التركي غير قباء، فساروا بهم.
          ثم قَالَ العجم لكورصول: إن الدبوسية فيها عشرة آلاف مقاتل، فلا نأمن أن يخرجوا علينا، فقال لهم العرب: إن قاتلوكم قاتلناهم معكم.
          فساروا، فلما صار بينهم وبين الدبوسية قدر فرسخ أو اقل نظر أهلها الى فرسان وبياذقه وجمع فظنوا أن كمرجة قد فتحت، وأن خاقان قصد لهم قَالَ: وقربنا منهم وقد تأهبوا للحرب، فوجه كليب بْن قنان رجلا من بني ناجية يقال له الضحاك على برذون يركض، وعلى الدبوسية عقيل بْن وراد السغدي، فأتاهم الضحاك وهم صفوف، فرسان ورجالة، فأخبرهم الخبر، فأقبل أهل الدبوسية يركضون، فحمل من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحا.
          ثم إن كليبا أرسل إلى محمد بْن كراز ومحمد بْن درهم ليعلما سباع ابن النعمان وسعيد بْن عطية أنهم قد بلغوا مأمنهم، ثم خلوا عن الرهن، فجعلت العرب ترسل رجلا من الرهن الذين في أيديهم من الترك، وترسل الترك رجلا من الرهن الذين في أيديهم من العرب، حتى بقي سباع بْن النعمان في أيدي الترك، ورجل من الترك في أيدي العرب، وجعل كل فريق منهم يخاف على صاحبه الغدر، فقال سباع: خلوا رهينة الترك، فخلوه وبقي سباع في أيديهم، فقال له كورصول: لم فعلت هذا؟ قَالَ: وثقت برأيك في، وقلت: ترفع نفسك عن الغدر في مثل هذا، فوصله وسلحه وحمله على برذون، ورده إلى أصحابه.
          قَالَ: وكان حصار كمرجة ثمانية وخمسين يوما، فيقال إنهم لم يسقوا إبلهم خمسة وثلاثين يوما
          قَالَ: وكان خاقان قسم في أصحابه الغنم، فقال: كلوا لحومها واملئوا جلودها ترابا، واكبسوا خندقكم، ففعلوا فكبسوه، فبعث الله عليهم سحابة فمطرت، فاحتمل المطر ما ألقوا، فألقاه في النهر الأعظم.
          وكان مع أهل كمرجة قوم من الخوارج، فيهم ابن شنج مولى بنى ناجية.

          ذكر ردة اهل كردر
          وفي هذه السنة ارتد أهل كردر، فقاتلهم المسلمون وظفروا بهم، وقد كان الترك أعانوا أهل كردر، فوجه أشرس إلى من قرب من كردر من المسلمين ألف رجل ردءا لهم، فصاروا إليهم، وقد هزم المسلمون الترك، فظفروا بأهل كردر وقال عرفجة الدارمي:
          نحن كفينا أهل مرو وغيرهم ... ونحن نفينا الترك عن أهل كردر
          فإن تجعلوا ما قد غنمنا لغيرنا ... فقد يظلم المرء الكريم فيصبر
          وفي هذه السنة جعل خالد بْن عبد الله الصلاة بالبصرة مع الشرطة، والأحداث والقضاء إلى بلال بْن أبي بردة، فجمع ذلك كله له، وعزل به ثمامة بْن عبد الله بْن أنس عن القضاء.
          وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام بْن إسماعيل، كذلك قَالَ أبو معشر والواقدي وغيرهما، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر.
          وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة ومكة والطائف إبراهيم بْن هشام، وعلى الكوفة والبصرة والعراق كلها خالد بْن عبد الله، وعلى خراسان اشرس ابن عبد الله.



          وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
          أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

          تعليق


          • #50
            رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

            ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة
            ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث

            قال الواقدي: غزا سنة إحدى عشرة ومائة على جيش البحر عبد الله بْن أبي مريم، وأمر هشام على عامة الناس من أهل الشام ومصر الحكم بن قيس ابن مخرمة بْن المطلب بن عبد مناف.
            وفيها سارت الترك إلى أذربيجان، فلقيهم الحارث بْن عمرو فهزمهم.
            [انظر المنتظم(7/143) والبداية والنهاية(7/194)]

            قَالَ: وكان سبب استعماله إياه أنه أهدى لأم حكيم بنت يحيى بْن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جوهر، فأعجبت هشاما، فأهدى لهشام قلادة أخرى، فاستعمله على خراسان، وحمله على ثمانية من البريد، فسأله أكثر من تلك الدواب فلم يفعل، فقدم خراسان في خمسمائة- وأشرس بْن عبد الله يقاتل أهل بخارى والسغد- فسأل عن رجل يسير معه إلى ما وراء النهر، فدل على الخطاب بْن محرز السلمي خليفة أشرس، فلما قدم آمل أشار عليه الخطاب أن يقيم ويكتب إلى من بزم ومن حوله، فيقدموا عليه، فأبى وقطع النهر، وأرسل إلى أشرس أن أمدني بخيل، وخاف أن يقتطع قبل أن يصل إليه، فوجه إليه أشرس عامر بْن مالك الحماني، فلما كان في بعض الطريق عرض له الترك والسغد ليقطعوه قبل أن يصل إلى الجنيد، فدخل عامر حائطا حصينا، فقاتلهم على ثلمة الحائط، ومعه ورد بْن زياد بْن أدهم بْن كلثوم، ابن أخي الأسود بْن كلثوم، فرماه رجل من العدو بنشابة، فأصاب عرض منخره، فأنفذ المنخرين، فقال له عامر بْن مالك:
            يا أبا الزاهرية، كأنك دجاجة مقرق
            [القرق: صوت الدجاجة، والدجاجة تقع على الذكر والأنثى والتاء دخلته على أنه الواحد. القاموس المحيط ص1188]

            وقتل عظيم من عظماء الترك عند الثلمة، وخاقان على تل خلفه أجمة، فخرج عاصم بْن عمير السمرقندي وواصل بْن عمرو القيسي في شاكرية، فاستدارا حتى صارا من وراء ذلك الماء، فضموا خشبا وقصبا وما قدروا عليه، حتى اتخذوا رصفا،
            [الرصف: ما يرصف بعضه إلى بعض في مسيل؛ خشب أو حجارة. القاموس المحيط ص1051]

            فعبروا عليه فلم يشعر خاقان إلا بالتكبير، وحمل واصل والشاكرية على العدو فقاتلوهم، فقتل تحت واصل برذون، وهزم خاقان وأصحابه.
            وخرج عامر بْن مالك من الحائط، ومضى إلى الجنيد وهو في سبعة آلاف، فتلقى الجنيد وأقبل معه، وعلى مقدمة الجنيد عمارة بْن حريم فلما انتهى إلى فرسخين من بيكند، تلقته خيل الترك فقاتلهم، فكاد الجنيد أن يهلك ومن معه، ثم أظهره الله، فسار حتى قدم العسكر وظفر الجنيد، وقتل الترك، وزحف إليه خاقان فالتقوا دون زرمان من بلاد سمرقند، وقطن ابن قتيبة على ساقة الجنيد، وواصل في أهل بخارى- وكان ينزلها- فاسر ملك الشاش، وأسر الجنيد من الترك ابن أخي خاقان في هذه الغزاة، فبعث به إلى الخليفة، وكان الجنيد استخلف في غزاته هذه مجشر بْن مزاحم على مرو، وولى سورة بْن الحر من بني أبان بْن دارم بلخ، وأوفد لما أصاب في وجهه ذلك عمارة بْن معاوية العدوي ومحمد بْن الجراح العبدي وعبد ربه بْن أبي صالح السلمي إلى هشام بْن عبد الملك ثم انصرفوا، فتواقفوا بالترمذ، فأقاموا بها شهرين.
            ثم أتى الجنيد مرو وقد ظفر، فقال خاقان: هذا غلام مترف، هزمني العام وأنا مهلكه في قابل، فاستعمل الجنيد عماله، ولم يستعمل إلا مضريا، استعمل قطن بْن قتيبة على بخارى، والوليد بْن القعقاع العبسي على هراة، وحبيب بْن مرة العبسي على شرطه، وعلى بلخ مسلم بْن عبد الرحمن الباهلي وكان نصر بْن سيار على بلخ، والذي بينه وبين الباهليين متباعد لما كان بينهم بالبروقان، فأرسل مسلم إلى نصر فصادفوه نائما، فجاءوا به في قميص ليس عليه سراويل، ملببا، فجعل يضم عليه قميصيه، فاستحيا مسلم، وقال: شيخ من مضر جئتم به على هذه الحال! ثم عزل الجنيد مسلما عن بلخ، وولاها يحيى بْن ضبيعة، واستعمل على خراج سمرقند شداد بْن خالد الباهلي، وكان مع الجنيد السمهري بْن قعنب.

            ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة
            ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث

            قَالَ: وكان الجنيد يذكر خالد بْن عبد الله، ويقول: ربذة من الربذ، صنبور ابن صنبور، قل ابْن قل، هيفة من الهيف- وزعم أن الهيفة الضبع، والعجرة الخنزيرة، والقل: الفرد- قَالَ: وقدمت الجنود مع عمرو بْن مسلم الباهلي في أهل البصره وعبد الرحمن بْن نعيم الغامدي في أهل الكوفة وهو بالصغانيان، فسرح معهم الحوثرة بْن يزيد العنبري فيمن انتدب معه من التجار وغيرهم، وأمرهم أن يحملوا ذراري أهل سمرقند، ويدعوا فيها المقاتلة ففعلوا.
            قَالَ أبو جعفر: وقد قيل: إن وقعة الشعب بين الجنيد وخاقان كانت في سنة ثلاث عشرة ومائة.
            وقال نصر بْن سيار يذكر يوم الشعب وقتال العبيد:
            إني نشأت وحسادي ذوو عدد ... يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا
            إن تحسدوني على مثل البلاء لكم ... يوما فمثل بلائي جر لي الحسدا
            يأبى الإله الذي أعلى بقدرته ... كعبي عليكم وأعطى فوقكم عددا
            أرمي العدو بأفراس مكلمة ... حتى اتخذن على حسادهن يدا
            من ذا الذي منكم في الشعب إذ وردوا ... لم يتخذ حومة الأثقال معتمدا!
            فما حفظتم من الله الوصاة ولا ... أنتم بصبر طلبتم حسن ما وعدا
            ولا نهاكم عن التوثاب في عتب ... إلا العبيد بضرب يكسر العمدا
            هلا شكرتم دفاعى عن جنيد كم ... وقع القنا وشهاب الحرب قد وقدا!
            وقال ابن عرس العبدي، يمدح نصرا يوم الشعب ويذم الجنيد، لأن نصرا أبلى يومئذ:
            يا نصر أنت فتى نزار كلها ... فلك المآثر والفعال الأرفع
            فرجت عن كل القبائل كربة ... بالشعب حين تخاضعوا وتضعضعوا
            يوم الجنيد إذ القنا متشاجر ... والنحر دام والخوافق تلمع
            ما زلت ترميهم بنفس حرة ... حتى تفرج جمعهم وتصدعوا
            فالناس كل بعدها عتقاؤكم ... ولك المكارم والمعالي أجمع
            وقال الشرعبي الطائي:
            تذكرت هندا في بلاد غريبة ... فيا لك شوقا، هل لشملك مجمع!
            تذكرتها والشاش بيني وبينها ... وشعب عصام والمنايا تطلع
            بلاد بها خاقان جم زحوفه ... ونيلان في سبعين ألفا مقنع
            إذا دب خاقان وسارت جنوده ... أتتنا المنايا عند ذلك شرع
            هنالك- هند- ما لنا النصف منهم ... وما إن لنا يا هند في القوم مطمع
            ألا رب خود خدلة قد رايتها ... يسوق جهم من السغد أصمع
            أحامي عليها حين ولى خليلها ... تنادي إليها المسلمين فتسمع
            تنادي بأعلى صوتها صف قومها ... ألا رجل منكم يغار فيرجع!
            ألا رجل منكم كريم يردني ... يرى الموت في بعض المواطن ينفع!
            فما جاوبوها غير أن نصيفها ... بكف الفتى بين البرازيق أشنع
            إلى الله أشكو نبوة في قلوبها ... ورعبا ملا أجوافها يتوسع
            فمن مبلغ عني ألوكا صحيفة ... إلى خالد من قبل أن نتوزع
            بأن بقايانا وأن أميرنا ... إذا ما عددناه الذليل الموقع
            هم أطمعوا خاقان فينا وجنده ... ألا ليتنا كنا هشيما يزعزع
            وقال ابن عرس- واسمه خالد بْن المعارك من بني غنم بْن وديعة بْن لكيز بْن أفصى وذكر علي بْن محمد عن شيخ من عبد القيس أن أمه كانت أمة، فباعه أخوه تميم بْن معارك من عمرو بْن لقيط أحد بنى عامر بن الحارث، فاعتقه عمرو لما حضرته الوفاة، فقال: يا أبا يعقوب، كم لي عندك من المال؟ قَالَ: ثمانون ألفا، قَالَ: أنت حر وما في يديك لك قال: فكان عمرو ينزل مرو الروذ، وقد اقتتلت عبد القيس في ابن عرس، فردوه إلى قومه، فقال ابن عرس للجنيد:
            أين حماة الحرب من معشر ... كانوا جمال المنسر الحارد!
            بادوا بآجال توافوا لها ... والعائر الممهل كالبائد
            فالعين تجرى دمعها مسبلا ... ما لدموع العين من ذائد
            انظر ترى للميت من رجعة ... أم هل ترى في الدهر من خالد!
            كنا قديما يتقى بأسنا ... وندرأ الصادر بالوارد
            حتى منينا بالذي شامنا ... من بعد عز ناصر آئد
            كعاقر الناقة لا ينثني ... مبتدئا ذي حنق جاهد
            فتقت ما لم يلتئم صدعه ... بالجحفل المحتشد الزائد
            تبكي لها إن كشفت ساقها ... جدعا وعقرا لك من قائد!
            تركتنا أجزاء معبوطة ... يقسمها الجازر للناهد
            ترقت الأسياف مسلولة ... تزيل بين العضد والساعد
            تساقط الهامات من وقعها ... بين جناحي مبرق راعد
            إذ أنت كالطفله في خدرها ... لم تدر يوما كيدة الكائد
            إنا أناس حربنا صعبة ... تعصف بالقائم والقاعد
            أضحت سمرقند وأشياعها ... أحدوثة الغائب والشاهد
            وكم ثوى في الشعب من حازم ... جلد القوى ذي مرة ماجد
            يستنجد الخطب ويغشى الوغى ... لا هائب غس ولا ناكد
            [الغس: الضعيف اللئيم. القاموس المحيط ص723]

            ليتك يوم الشعب في حفرة ... مرموسة بالمدر الجامد
            تلعب بك الحرب وأبناؤها ... لعب صقور بقطا وارد
            طار لها قلبك من خيفة ... ما قلبك الطائر بالعائد
            لا تحسبن الحرب يوم الضحى ... كشربك المزاء بالبارد
            [المزاء: الخمر اللذيذة الطعم، سميت بذلك للذعها في الفم. لسان العرب(5/410)]

            أبغضت من عينك تبريجها ... وصورة في جسد فاسد
            جنيد ما عيصك منسوبه ... نبعا ولا جدك بالصاعد
            [منسوبه، بالرفع بدل اشتمال مما قبله]

            خمسون ألفا قتلوا ضيعة ... وأنت منهم دعوة الناشد
            لا تمرين الحرب من قابل ... ما أنت في العدوة بالحامد
            قلدته طوقا على نحره ... طوق الحمام الغرد الفارد
            قصيدة حبرها شاعر ... تسعى بها البرد الى خالد

            ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة
            ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث


            فمما كان فيها من ذلك هلاك عبد الوهاب بْن بخت، وهو مع البطال عبد الله بأرض الروم، فذكر محمد بْن عمر، عن عبد العزيز بْن عمر، أن عبد الوهاب بْن بخت غزا مع البطال سنة ثلاث عشرة ومائة، فانهزم الناس عن البطال وانكشفوا، فجعل عبد الوهاب يكر فرسه وهو يقول:
            [انظر سيرته في البداية والنهاية(7/196)]

            ما رأيت فرسا أجبن منه، وسفك الله دمي إن لم أسفك دمك ثم ألقى بيضته عن رأسه وصاح: أنا عبد الوهاب بْن بخت، أمن الجنة تفرون! ثم تقدم في نحور العدو، فمر برجل وهو يقول: وا عطشاه! فقال: تقدم، الري أمامك، فخالط القوم فقتل وقتل فرسه.
            ومن ذلك ما كان من تفريق مسلمة بْن عبد الملك الجيوش في بلاد خاقان ففتحت مدائن وحصون على يديه، وقتل منهم، وأسر وسبي، وحرق خلق كثير من الترك أنفسهم بالنار، ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر وقتل ابن خاقان.
            [انظر المنتظم(7/157) والبداية والنهاية(7/196)]

            ومن ذلك غزوة معاوية بْن هشام أرض الروم فرابط من ناحية مرعش ثم رجع. وفي هذه السنة صار من دعاة بني العباس جماعة إلى خراسان، فأخذ الجنيد بْن عبد الرحمن رجلا منهم فقتله، وقال: من أصيب منهم فدمه هدر.
            [انظر المنتظم(7/157) والبداية والنهاية(7/196)]

            ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة
            ذكر الأخبار عما كَانَ فِيهَا من الأحداث

            وفي هذه السنة أصاب الناس بخراسان قحط شديد ومجاعة، فكتب الجنيد إلى الكور: إن مرو كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فاحملوا إليها الطعام.
            [انظر المنتظم(1/157)]

            قَالَ علي بْن محمد: أعطى الجنيد في هذه السنة رجلا درهما، فاشترى به رغيفا، فقال لهم: تشكون الجوع ورغيف بدرهم! لقد رأيتني بالهند وإن الحبة من الحبوب لتباع عددا بالدرهم، وقال: إن مرو كما قَالَ الله عز وجل: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً» .

            ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة
            ذكر ما كان فيها من الأحداث

            ذكر علي بْن محمد، عن أشياخه، أن الجنيد بْن عبد الرحمن تزوج الفاضلة بنت يزيد بْن المهلب، فغضب هشام على الجنيد، وولى عاصم بْن عبد الله خراسان، وكان الجنيد سقى بطنه، فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فازهق نفسه، فقدم عاصم وقد مات الجنيد.
            قال: وذكروا ان جبله بن أبي رواد دخل على الجنيد عائدا، فقال:
            يا جبلة، ما يقول الناس؟ قَالَ: قلت يتوجعون للأمير، قَالَ: ليس عن هذا سألتك، ما يقولون؟ وأشار نحو الشام بيده قَالَ: قلت: يقدم على خراسان يزيد بْن شجرة الرهاوي، قَالَ: ذلك سيد أهل الشام، قَالَ: ومن؟ قلت: عصمة أو عصام، وكنيت عن عاصم، فقال: إن قدم عاصم فعدو جاهد، لا مرحبا به ولا أهلا.
            قَالَ: فمات في مرضه ذلك في المحرم سنة ست عشرة ومائة، واستخلف عمارة بْن حريم وقدم عاصم بْن عبد الله، فحبس عمارة بْن حريم وعمال الجنيد وعذبهم وكانت وفاته بمرو، فقال ابو الجويرية عيسى ابن عصمه يرثيه:
            هلك الجود والجنيد جميعا ... فعلى الجود والجنيد السلام
            أصبحا ثاويين في أرض مرو ... ما تغنت على الغصون الحمام
            كنتما نزهة الكرام فلما ... مت مات الندى ومات الكرام
            ثم إن أبا الجويرية أتى خالد بْن عبد الله القسري وامتدحه، فقال له خالد: ألست القائل: هلك الجود والجنيد جميعا.
            مالك عندنا شيء، فخرج فقال:
            تظل لامعة الآفاق تحملنا ... إلى عمارة والقود السراهيد
            قصيدة امتدح بها عمارة بْن حريم، ابن عم الجنيد، وعمارة هو جد أبي الهيذام صاحب العصبية بالشام.
            قَالَ: وقدم عاصم بْن عبد الله فحبس عماره بن حريم وعمال الجنيد وعذبهم
            [انظر البداية والنهاية(7/197) ولم نجد لهذا الخبر أصلا صحيحا والله أعلم]

            ذكر الخبر عن ذلك:
            ذكر علي عن أشياخه، قَالَ: لما قدم عاصم خراسان واليا، اقبل الحارث ابن سريج من النخذ حتى وصل إلى الفارياب، وقدم أمامه بشر بن جرموز. قَالَ: فوجه عاصم الخطاب بْن محرز السلمي ومنصور بْن عمر بن ابى الخرقاء السلمي وهلال بْن عليم التميمي والأشهب الحنظلي وجرير بْن هميان السدوسي ومقاتل بْن حيان النبطي مولى مصقلة إلى الحارث، وكان خطاب ومقاتل بْن حيان قالا: لا تلقوه إلا بأمان، فأبي عليهما القوم، فلما انتهوا إليه بالفارياب قيدهم وحبسهم، ووكل بهم رجلا يحفظهم قَالَ: فأوثقوه وخرجوا من السجن، فركبوا دوابهم، وساقوا دواب البريد، فمروا بالطالقان فهم سهرب صاحب الطالقان بهم، ثم أمسك وتركهم فلما قدموا مرو أمرهم عاصم فخطبوا وتناولوا الحارث، وذكروا خبث سيرته وغدره ثم مضى الحارث إلى بلخ وعليها نصر، فقاتلوه، فهزم أهل بلخ ومضى نصر إلى مرو.
            وذكر بعضهم: لما أقبل الحارث إلى بلخ وكان عليها التجيبي بْن ضبيعة المري ونصر بْن سيار، وولاهما الجنيد قَالَ: فانتهى إلى قنطرة عطاء وهي على نهر بلخ على فرسخين من المدينة، فتلقى نصر بْن سيار في عشرة آلاف والحارث بْن سريج في أربعة آلاف، فدعاهم الحارث إلى الكتاب والسنة والبيعه للرضا، فقال قطن بْن عبد الرحمن بْن جزي الباهلي: يا حارث، أنت تدعو إلى كتاب الله والسنة، والله لو أن جبريل عن يمينك وميكائيل عن يسارك ما أجبتك، فقاتلهم فأصابته رمية في عينه، فكان أول قتيل. فانهزم أهل بلخ إلى المدينة، وأتبعهم الحارث حتى دخلها، وخرج نصر من باب آخر، فأمر الحارث بالكف عنهم، فقال رجل من أصحاب الحارث: إني لأمشي في بعض طرق بلخ إذ مررت بنساء يبكين وامرأة تقول: يا أبتاه! ليت شعري من دهاك! وأعرابي إلى جنبي يسير، فقال:
            من هذه الباكية؟ فقيل له: ابنة قطن بْن عبد الرحمن بْن جزي، فقال الأعرابي: أنا وأبيك دهيتك، فقلت: أنت قتلته؟ قَالَ: نعم.
            قَالَ: ويقال: قدم نصر والتجيبي على بلخ، فحبسه نصر، فلم يزل محبوسا حتى هزم الحارث نصرا، وكان التجيبي ضرب الحارث أربعين سوطا في إمرة الجنيد، فحوله الحارث إلى قلعة باذكر بزم، فجاء رجل من بني حنيفة فادعى عليه أنه قتل أخاه أيام كان على هراة، فدفعه الحارث إلى الحنفي، فقال له التجيبي: أفتدي منك بمائة ألف، فلم يقبل منه وقتله وقوم يقولون: قتل التجيبي في ولاية نصر قبل أن يأتيه الحارث.
            قَالَ: ولما غلب الحارث علي بلخ استعمل عليها رجلا من ولد عبد الله ابن خازم، وسار، فلما كان بالجوزجان دعا وابصة بْن زرارة العبدي، ودعا دجاجة ووحشا العجليين وبشر بْن جرموز وأبا فاطمة، فقال: ما ترون؟ فقال أبو فاطمة: مرو بيضة خراسان، وفرسانهم كثير، لو لم يلقوك إلا بعبيدهم لانتصفوا منك، فأقم فإن أتوك قاتلتهم وإن أقاموا قطعت المادة عنهم، قَالَ: لا أرى ذلك، ولكن أسير إليهم فأقبل الحارث إلى مرو، وقد غلب على بلخ والجوزجان والفارياب والطالقان ومرو الروذ، فقال أهل الدين من أهل مرو: إن مضى إلى أبرشهر ولم يأتنا فرق جماعتنا، وإن أتانا نكب.
            قَالَ: وبلغ عاصما أن أهل مرو يكاتبون الحارث، قَالَ: فأجمع على الخروج وقال: يا اهل خراسان، قد بايعتم الحارث بن سريج، لا يقصد مدينة إلا خليتموها له، إني لاحق بأرض قومي أبرشهر، وكاتب منها إلى أمير المؤمنين حتى يمدني بعشرة آلاف من أهل الشام فقال له المجشر بْن مزاحم: إن أعطوك بيعتهم بالطلاق والعتاق فأقم، وإن أبوا فسر حتى تنزل أبرشهر، وتكتب إلى أمير المؤمنين فيمدك بأهل الشام فقال خالد بن هريم احد بنى ثعلبه بن يربوع وأبو محارب هلال بْن عليم: والله لا نخليك والذهاب، فيلزمنا دينك عند أمير المؤمنين، ونحن معك حتى نموت إن بذلت الأموال. قَالَ: افعل، قَالَ يزيد بْن قران الرياحي: ان لم اقاتل معك ما قاتلت فابنه الأبرد بْن قرة الرياحي طالق ثلاثا- وكانت عنده- فقال عاصم: أكلكم على هذا؟ قالوا: نعم وكان سلمة بْن أبي عبد الله صاحب حرسه يحلفهم بالطلاق.
            قَالَ: وأقبل الحارث بْن سريج إلى مرو في جمع كثير- يقال في ستين ألفا- ومعه فرسان الأزد وتميم، منهم محمد بْن المثنى وحماد بْن عامر ابن مالك الحماني وداود الأعسر وبشر بْن أنيف الرياحي وعطاء الدبوسي. ومن الدهاقين الجوزجان وترسل دهقان الفارياب وسهرب ملك الطالقان، وقرياقس دهقان مرو، في أشباههم.
            قَالَ: وخرج عاصم في أهل مرو وفي غيرهم، فعسكر بجياسر عند البيعه،
            وأعطى الجند دينارا دينارا، فخف عنه الناس، فأعطاهم ثلاثة دنانير ثلاثة دنانير، وأعطى الجند وغيرهم، فلما قرب بعضهم من بعض أمر بالقناطر فكسرت، وجاء أصحاب الحارث فقالوا: تحصروننا في البرية! دعونا نقطع إليكم فنناظركم فيما خرجنا له، فأبوا وذهب رجالتهم يصلحون القناطر، فأتاهم رجالة أهل مرو فقاتلوهم، فمال محمد بْن المثنى الفراهيذي برايته إلى عاصم فأمالها في ألفين فأتى الأزد، ومال حماد بْن عامر بْن مالك الحماني إلى عاصم، وأتى بني تميم.
            قَالَ سلمة الأزدي: كان الحارث بعث الى عاصم رسلا- منهم محمد ابن مسلم العنبري- يسألونه العمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وعلى الحارث بْن سريج يومئذ السواد قَالَ: فلما مال محمد بْن المثنى بدأ أصحاب الحارث بالحملة، والتقى الناس، فكان أول قتيل غياث بْن كلثوم من أهل الجارود، فانهزم أصحاب الحارث، فغرق بشر كثير من أصحاب الحارث في أنهار مرو والنهر الأعظم، ومضت الدهاقين إلى بلادهم، فضرب يومئذ خالد بْن علباء بْن حبيب بْن الجارود على وجهه، وأرسل عاصم بْن عبد الله المؤمن بْن خالد الحنفي وعلباء بْن أحمر اليشكري ويحيى بْن عقيل الخزاعي ومقاتل بْن حيان النبطي إلى الحارث يسأله ما يريد؟ فبعث الحارث محمد بْن مسلم العنبري وحده، فقال لهم: ان الحارث وإخوانكم يقرءونكم السلام، ويقولون لكم: قد عطشنا وعطشت دوابنا، فدعونا ننزل الليلة، وتختلف الرسل فيما بيننا ونتناظر، فإن وافقناكم على الذي تريدون وإلا كنتم من وراء أمركم، فأبوا عليه وقالوا مقالا غليظا، فقال مقاتل ابن حيان النبطي: يا أهل خراسان، إنا كنا بمنزلة بيت واحد وثغرنا واحد، ويدنا على عدونا واحدة، وقد أنكرنا ما صنع صاحبكم، وجه إليه أميرنا بالفقهاء والقراء من أصحابه، فوجه رجلا واحدا قَالَ محمد: إنما أتيتكم مبلغا، لطلب كتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم، وسيأتيكم الذي تطلبون من غد إن شاء الله تعالى.
            وانصرف محمد بْن مسلم إلى الحارث، فلما انتصف الليل سار الحارث فبلغ عاصما، فلما أصبح سار إليه فالتقوا، وعلى ميمنة الحارث رابض بْن عبد الله بْن زرارة التغلبي، فاقتتلوا قتالا شديدا، فحمل يحيى بْن حضين- وهو رأس بكر بْن وائل، وعلى بكر بن وائل زياد بْن الحارث بْن سريج- فقتلوا قتلا ذريعا، فقطع الحارث وادي مرو، فضرب رواقا عند منازل الرهبان، وكف عنه عاصم قَالَ: وكانت القتلى مائة، وقتل سعيد بْن سعد بْن جزء الأزدي، وغرق خازم بْن موسى بْن عبد الله بْن خازم- وكان مع الحارث بْن سريج- واجتمع إلى الحارث زهاء ثلاثة آلاف، فقال القاسم بْن مسلم: لما هزم الحارث كف عنه عاصم، ولو ألح عليه لأهلكه.
            وأرسل إلى الحارث: إني راد عليك ما ضمنت لك ولأصحابك، على أن ترتحل، ففعل.
            قَالَ: وكان خالد بْن عبيد الله بْن حبيب أتى الحارث ليلة هزم، وكان أصحابه أجمعوا على مفارقة الحارث، وقالوا: ألم تزعم أنه لا يرد لك راية! فأتاهم فسكنهم.
            وكان عطاء الدبوسي من الفرسان، فقال لغلامه يوم زرق: أسرج لي برذوني لعلي ألاعب هذه الحمارة، فركب ودعا إلى البراز، فبرز له رجل من أهل الطالقان، فقال بلغته: اى كير خر.

            ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة
            ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث


            ذكر الخبر عن سبب عزل هشام عاصما وتوليته خالدا خراسان
            وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي عن أشياخه- أن عاصم بْن عبد الله كتب إلى هشام بْن عبد الملك: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد كان من أمر أمير المؤمنين إلي ما يحق به علي نصيحته، وإن خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى صاحب العراق، فتكون موادها ومنافعها ومعونتها في الأحداث والنوائب من قريب، لتباعد أمير المؤمنين عنها. وتباطؤ غياثه عنها.
            فلما مضى كتابه خرج إلى أصحابه يحيى بْن حضين والمجشر بْن مزاحم وأصحابهم، فأخبرهم، فقال له المجشر بعد ما مضى الكتاب: كأنك بأسد قد طلع عليك فقدم أسد بْن عبد الله، بعث به هشام بعد كتاب عاصم بشهر، فبعث الكميت بْن زيد الأسدي إلى أهل مرو بهذا الشعر:
            ألا أبلغ جماعة أهل مرو ... على ما كان من نأى وبعد
            رسالة ناصح يهدي سلاما ... ويأمر في الذي ركبوا بجد
            وأبلغ حارثا عنا اعتذارا ... إليه بأن من قبلي بجهد
            ولولا ذاك قد زارتك خيل ... من المصرين بالفرسان تردي
            فلا تهنوا ولا ترضوا بخسف ... ولا يغرركم أسد بعهد
            وكونوا كالبغايا إن خدعتم ... وإن اقررتم ضيما لوغد
            وإلا فارفعوا الرايات سودا ... على أهل الضلالة والتعدي
            فكيف وأنتم سبعون ألفا ... رماكم خالد بشبيه قرد
            ومن ولى بذمته رزينا ... وشيعته ولم يوف بعهد
            ومن غشى قضاعة ثوب خزي ... بقتل أبي سلامان بْن سعد
            فمهلا يا قضاع فلا تكوني ... توابع لا أصول لها بنجد
            وكنت إذا دعوت بني نزار ... أتاك الدهم من سبط وجعد
            فجدع من قضاعة كل أنف ... ولا فازت على يوم بمجد
            قَالَ: ورزين الذي ذكر كان خرج على خالد بْن عبد الله بالكوفة، فأعطاه الأمان ثم لم يف به.
            وقال فيه نصر بْن سيار حين أقبل الحارث إلى مرو وسود راياته- وكان الحارث يرى رأى المرجئة:
            دع عنك دنيا وأهلا أنت تاركهم ... ما خير دنيا وأهل لا يدومونا!
            إلا بقية أيام إلى أجل ... فاطلب من الله أهلا لا يموتونا
            اكثر تقى الله في الإسرار مجتهدا ... إن التقى خيره ما كان مكنونا
            واعلم بأنك بالأعمال مرتهن ... فكن لذاك كثير الهم محزونا
            إني أرى الغبن المردي بصاحبه ... من كان في هذه الأيام مغبونا
            تكون للمرء أطوارا فتمنحه ... يوما عثارا وطورا تمنح اللينا
            بينا الفتى في نعيم العيش حوله ... دهر فأمسى به عن ذاك مزبونا
            تحلو له مرة حتى يسر بها ... حينا وتمقره طعما أحايينا
            هل غابر من بقايا الدهر تنظره ... إلا كما قد مضى فيما تقضونا
            فامنح جهادك من لم يرج آخره ... وكن عدوا لقوم لا يصلونا
            واقتل مواليهم منا وناصرهم ... حينا تكفرهم والعنهم حينا
            والعائبين علينا ديننا وهم ... شر العباد إذا خابرتهم دينا
            والقائلين سبيل الله بغيتنا ... لبعد ما نكبوا عما يقولونا
            فاقتلهم غضبا لله منتصرا ... منهم به ودع المرتاب مفتونا
            إرجاؤكم لزَّكم والشرك في قرن ... فأنتم أهل إشراك ومرجونا
            لا يبعد الله في الأجداث غيركم ... إذ كان دينكم بالشرك مقرونا
            ألقى به الله رعبا في نحوركم ... والله يقضي لنا الحسنى ويعلينا
            كيما نكون الموالي عند خائفة ... عما تروم به الإسلام والدينا
            وهل تعيبون منا كاذبين به ... غال ومهتضم، حسبي الذي فينا
            يأبى الذي كان يبلي الله أولكم ... على النفاق وما قد كان يبلينا
            قال: ثم عاد الحارث لمحاربة عاصم، فلما بلغ عاصما أن أسد بْن عبد الله قد أقبل، وأنه قد سير على مقدمته محمد بْن مالك الهمداني، وأنه قد نزل الدندانقان، صالح الحارث، وكتب بينه وبينه كتابا على أن ينزل الحارث أي كور خراسان شاء، وعلى أن يكتبا جميعا إلى هشام، يسألانه كتاب الله وسنة نبيه، فإن أبى اجتمعا جميعا عليه فختم على الكتاب بعض الرؤساء، وابى يحيى ابن حضين أن يختم، وقال: هذا خلع لأمير المؤمنين، فقال خلف بْن خليفة ليحيى:
            أبى هم قلبك إلا اجتماعا ... ويأبى رقادك إلا امتناعا
            بغير سماع ولم تلقني ... أحاول من ذات لهو سماعا
            حفظنا أمية في ملكها ... ونخطر من دونها ان تراعى
            ندافع عنها وعن ملكها ... إذا لم نجد بيديها امتناعا
            أبى شعب ما بيننا في القديم ... وبين أمية إلا انصداعا
            ألم نختطف هامه ابن الزبير ... وتنتزع الملك منه انتزاعا
            جعلنا الخلافة في أهلها ... إذا اصطرع الناس فيها اصطراعا
            نصرنا أمية بالمشرفي ... إذا انخلع الملك عنها انخلاعا
            ومنا الذي شد أهل العراق ... ولو غاب يحيى عن الثغر ضاعا
            على ابن سريج نقضنا الأمور ... وقد كان أحكمها ما استطاعا
            حكيم مقالته حكمة ... إذا شتت القوم كانت جماعا
            عشية زرق وقد أزمعوا ... قمعنا من الناكثين الزماعا
            ولولا فتى وائل لم يكن ... لينضج فيها رئيس كراعا
            فقل لأمية ترعى لنا ... أيادي لم نجزها واصطناعا
            أتلهين عن قتل ساداتنا ... ونأبى لحقك إلا اتباعا
            أمن لم يبعك من المشترين ... كآخر صادف سوقا فباعا!
            أبى ابن حضين لما تصنعين ... إلا اضطلاعا وإلا اتباعا
            ولو يأمن الحارث الوائلين ... لراعك في بعض من كان راعا
            وقد كان اصعر ذا نيرب ... أشاع الضلالة فيما أشاعا
            كفينا أمية مختومة ... أطاع بها عاصم من أطاعا
            فلولا مراكز راياتنا ... من الجند خاف الجنود الضياعا
            وصلنا القديم لها بالحديث ... وتأبى أمية إلا انقطاعا
            ذخائر في غيرنا نفعها ... وما إن عرفنا لهن انتفاعا
            ولو قدمتها وبان الحجاب ... لارتعت بين حشاك ارتياعا
            فأين الوفاء لأهل الوفاء ... والشكر أحسن من أن يضاعا!
            وأين ادخار بني وائل ... إذا الذخر في الناس كان ارتجاعا!
            ألم تعلمي أن أسيافنا ... تداوى العليل وتشفي الصداعا!
            إذا ابن حضين غدا باللواء ... اسلم أهل القلاع القلاعا
            إذا ابن حضين غدا باللواء ... أشار النسور به والضباعا
            إذا ابن حضين غدا باللواء ... ذكى وكانت معد جداعا
            قَالَ: وكان عاصم بْن سليمان بْن عبد الله بْن شراحيل اليشكري من أهل الرأي، فأشار على يحيى بنقض الصحيفة، وقال له: غمرات ثم ينجلين، وهي المغمضات، فغمض.
            قَالَ: وكان عاصم بْن عبد الله في قرية بأعلى مرو لكندة، ونزل الحارث قرية لبني العنبر، فالتقوا بالخيل والرجال، ومع عاصم رجل من بنى عبس في خمسمائة من أهل الشام وإبراهيم بْن عاصم العقيلي في مثل ذلك، فنادى منادي عاصم: من جاء برأس فله ثلاثمائة درهم، فجاء رجل من عماله برأس وهو عاض على أنفه، ثم جاءه رجل من بني ليث- يقال له ليث بْن عبد الله- برأس، ثم جاء آخر برأس، فقيل لعاصم: إن طمع الناس في هذا لم يدعوا ملاحا ولا علجا إلا أتوك برأسه، فنادى مناديه: لا يأتنا أحد برأس، فمن أتانا به فليس له عندنا شيء، وانهزم أصحاب الحارث فأسروا منهم أسارى، وأسروا عبد الله بْن عمرو المازني رأس أهل مرو الروذ، وكان الأسراء ثمانين، أكثرهم من بني تميم، فقتلهم عاصم بْن عبد الله على نهر الداندنقان وكانت اليمانية بعثت من الشام رجلا يعدل بألف يكنى أبا داود، أيام العصبية في خمسمائة، فكان لا يمر بقرية من قرى خراسان إلا قَالَ: كأنكم بي قد مررت راجعا حاملا رأس الحارث بْن سريج، فلما التقوا دعا إلى البراز، فبرز له الحارث بْن سريج، فضربه فوق منكبه الأيسر فصرعه، وحامى عليه أصحابه فحملوه فخولط، فكان يقول: يا أبرشهر الحارث بْن سريجاه! يا أصحاب المعموراه! ورمى فرس الحارس بْن سريج في لبانه، فنزع النشابة، واستحضره وألح عليه بالضرب حتى نزقه
            [نزقه: ضربه ضربا شديدا. القاموس المحيط ص1194]

            وعرقه، وشغله عن ألم الجراحة.
            قَالَ: وحمل عليه رجل من أهل الشام، فلما ظن أن الرمح مخالطه، مال عن فرسه واتبع الشامي، فقال له: أسألك بحرمة الإسلام في دمي! قَالَ:
            انزل عن فرسك، فنزل وركبه الحارث، فقال الشامي: خذ السرج، فو الله إنه خير من الفرس، فقال رجل من عبد القيس:
            تولت قريش لذة العيش واتقت ... بنا كل فج من خراسان أغبرا
            فليت قريشا أصبحوا ذات ليلة ... يعومون في لج من البحر أخضرا
            قَالَ: وعظم أهل الشام يحيى بْن حضين لما صنع في أمر الكتاب الذي كتبه عاصم، وكتبوا كتابا، وبعثوا مع محمد بْن مسلم العنبري ورجل من أهل الشام، فلقوا أسد بْن عبد الله بالري- ويقال: لقوه ببيهق- فقال:
            ارجعوا فإني أصلح هذا الأمر، فقال له محمد بْن مسلم: هدمت داري، فقال: أبنيها لك، وأرد عليكم كل مظلمة.
            قَالَ: وكتب أسد إلى خالد ينتحل أنه هزم الحارث، ويخبره بأمر يحيى.
            قَالَ: فأجاز خالد يحيى بْن حضين بعشرة آلاف دينار وكساه مائة حله.
            قَالَ: وكانت ولاية عاصم أقل من سنة- قيل كانت سبعة أشهر- وقدم اسد ابن عبد الله وقد انصرف الحارث، فحبس عاصما وسأله عما أنفق، وحاسبه فأخذه بمائة ألف درهم، وقال: إنك لم تغز ولم تخرج من مرو، ووافق عمارة بْن حريم وعمال الجنيد محبوسين عنده، فقال لهم: أسير فيكم بسيرتنا أم بسيره قومكم؟ قالوا: بسيرتك، فخلى سبيلهم.
            قَالَ علي عن شيوخه: قالوا: لما بلغ هشام بن عبد الملك امر الحارث ابن سريج، كتب إلى خالد بْن عبد الله: ابعث أخاك يصلح ما أفسد، فإن كانت رجية فلتكن به قَالَ: فوجه أخاه أسدا إلى خراسان، فقدم أسد وما يملك عاصم من خراسان إلا مرو وناحية أبرشهر، والحارث بْن سريج بمرو الروذ وخالد بْن عبيد الله الهجري بآمل، ويخاف إن قصد للحارث بمرو الروذ دخل خالد بْن عبيد الله مرو من قبل آمل، وإن قصد لخالد دخلها الحارث من قبل مرو الروذ، فأجمع على أن يوجه عبد الرحمن بْن نعيم الغامدي في أهل الكوفة وأهل الشام في طلب الحارث إلى ناحية مرو الروذ وسار أسد بالناس إلى آمل، واستعمل على بني تميم الحوثرة بْن يزيد العنبري، فلقيهم خيل لأهل آمل، عليهم زياد القرشي مولى حيان النبطي عند ركايا عثمان، فهزمهم حتى انتهوا إلى باب المدينة، ثم كروا على الناس، فقتل غلام لأسد بْن عبد الله يقال له جبلة، وهو صاحب علمه، وتحصنوا في ثلاث مدائن لهم.
            قَالَ: فنزل عليهم أسد وحصرهم، ونصب عليهم المجانيق، وعليهم خالد ابن عبيد الله الهجري من أصحاب الحارث، فطلبوا الامان، فخرج اليهم رويد ابن طارق القطعي ومولى لهم، فقال: ما تطلبون؟ قالوا: كتاب الله وسنه نبيه ص، قَالَ: فلكم ذلك، قالوا: على ألا تأخذ أهل هذه المدن بجنايتنا فأعطاهم ذلك، واستعمل عليهم يحيى بْن نعيم الشيباني أحد بني ثعلبة بْن شيبان، ابن أخي مصقلة بْن هبيرة ثم أقبل أسد في طريق زم يريد مدينة بلخ، فتلقاه مولى لمسلم بْن عبد الرحمن، فأخبره أن أهل بلخ قد بايعوا سليمان بْن عبد الله بْن خازم فقدم بلخ، واتخذ سفنا وسار منها إلى الترمذ، فوجد الحارث محاصرا سنانا الأعرابي السلمي، ومعه بنو الحجاج بْن هارون النميري، وبنو زرعة وآل عطية الأعور النضري في أهل الترمذ، والسبل مع الحارث، فنزل أسد دون النهر، ولم يطق القطوع إليهم ولا أن يمدهم، وخرج أهل الترمذ من المدينة، فقاتلوا الحارث قتالا شديدا، وكان الحارث استطرد لهم، ثم كر عليهم، فانهزموا فقتل يزيد بْن الهيثم بْن
            المنخل وعاصم بْن معول النجلي في خمسين ومائة من أهل الشام وغيرهم، وكان بشر بْن جرموز وأبو فاطمة الإيادي ومن كان مع الحارث من القرى يأتون أبواب الترمذ، فيبكون ويشكون بني مروان وجورهم، ويسألونهم النزول إليهم على أن يمالئوهم على حرب بني مروان فيأبون عليهم، فقال السبل وهو مع الحارث: يا حارث، إن الترمذ قد بنيت بالطبول والمزامير، ولا تفتح بالبكاء وإنما تفتح بالسيف، فقاتل إن كان بك قتال وتركه السبل وأتى بلاده.
            قَالَ: وكان أسد حين مر بأرض زم تعرض للقاسم الشيباني وهو في حصن بزم يقال له باذكر، ومضى حتى أتى الترمذ، فنزل دون النهر، ووضع سريره على شاطئ النهر، وجعل الناس يعبرون، فمن سفلت سفينته عن سفن المدينة قاتلهم الحارث في سفينة، فالتقوا في سفينة فيها أصحاب أسد، فيهم أصغر بْن عيناء الحميري، وسفينة أصحاب الحارث فيها داود الأعسر، فرمى أصغر فصك السفينة، وقال: أنا الغلام الأحمري، فقال داود الأعسر: لأمر ما انتميت إليه، لا أرض لك! وألزق سفينته بسفينة أصغر فاقتتلوا، وأقبل الأشكند- وقد أراد الحارث الانصراف- فقال له: إنما جئتك ناصرا لك، وكمن الأشكند وراء دير، وأقبل الحارث بأصحابه، وخرج إليه أهل الترمذ فاستطرد لهم فاتبعوه، ونصر مع أسد جالس ينظر، فأظهر الكراهية، وعرف أن الحارث قد كادهم، فظن أسد أنه إنما فعل ذلك شفقة على الحارث حين ولى، فأراد أسد معاتبة نصر، فإذا الأشكند قد خرج عليهم، فحمل على أهل الترمذ فهربوا وقتل في المعركة يزيد بْن الهيثم بْن المنخل الجرموزي من الأزد وعاصم بْن معول- وكان من فرسان أهل الشام- ثم ارتحل أسد إلى بلخ، وخرج أهل الترمذ إلى الحارث فهزموه، وقتلوا أبا فاطمة وعكرمة وقوما من أهل البصائر، ثم سار أسد الى سمرقند في طريق زم، فما قدم زم بعث إلى الهيثم الشيباني- وهو في باذكر، وهو من أصحاب الحارث- فقال: إنكم إنما أنكرتم على قومكم ما كان من سوء سيرتهم، ولم يبلغ ذلك النساء ولا استحلال الفروج ولا غلبة المشركين على مثل سمرقند، وأنا أريد سمرقند، وعلي عهد الله وذمته ألا يبدأك مني شر، ولك المؤاساة واللطف والكرامة والأمان ولمن معك، وأنت إن غمصت ما دعوتك إليه فعلي عهد الله وذمة أمير المؤمنين وذمة الأمير خالد إن أنت رميت بسهم ألا اؤمنك بعده، وإن جعلت لك ألف أمان لا أفي لك به فخرج إليه على ما أعطاه من الأمان فآمنه، وسار معه إلى سمرقند فأعطاهم عطاءين، وحملهم على ما كان من دواب ساقها معه، وحمل معه طعاما من بخارى، وساق معه شياء كثيرة من شاء الأكراد قسمها فيهم، ثم ارتفع إلى ورغسر وماء سمرقند منها، فسكر الوادي وصرفه عن سمرقند، وكان يحمل الحجارة بيديه حتى يطرحها في السكر،
            [سكر النهر: سد فاه، والسكر: الشق ومنفرج الماء. القاموس ص524]

            ثم قفل من سمرقند حتى نزل بلخ.
            وقد زعم بعضهم أن الذي ذكرت من أمر أسد وأمر اصحاب الحارث كان في سنه ثمان عشره.
            [انظر البداية والنهاية(7/197)]

            امر اسد بن عبد الله مع دعاه بنى العباس
            وفي هذه السنة أخذ أسد بْن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس بخراسان، فقتل بعضهم، ومثل ببعضهم، وحبس بعضهم، وكان فيمن أخذ سليمان بْن كثير ومالك بْن الهيثم وموسى بْن كعب ولاهز بْن قريظ وخالد بْن إبراهيم وطلحة بْن رزيق، فأتى بهم، فقال لهم: يا فسقة، ألم يقل الله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ»
            [سورة المائدة: الآية:95]

            فذكر أن سليمان بْن كثير قَالَ: أتكلم أم أسكت؟ قَالَ: بل تكلم، قَالَ: نحن والله كما قَالَ الشاعر:
            لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان، بالماء اعتصاري
            [لعدي بن زيد، الأغاني2 : 164، والاعتصار أن يغص الإنسان بالطعام فيعتصر الماء، وهو أن يشربه قليلا قليلا]

            تدري ما قصتنا؟ صيدت والله العقارب بيدك أيها الأمير، إنا أناس من قومك، وإن هذه المضرية إنما رفعوا إليك هذا لأنا كنا أشد الناس على قتيبة بْن مسلم، وإنما طلبوا بثأرهم فتكلم ابن شريك بْن الصامت الباهلي، وقال: إن هؤلاء القوم قد أخذوا مرة بعد مرة، فقال مالك بْن الهيثم: أصلح الله الأمير! ينبغي لك أن تعتبر كلام هذا بغيره، فقالوا: كأنك يا أخا باهلة تطلبنا بثأر قتيبة! نحن والله كنا أشد الناس عليه، فبعث بهم أسد إلى الحبس، ثم دعا عبد الرحمن بْن نعيم فَقَالَ لَهُ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تمن بهم على عشائرهم، قَالَ: فالتميميان اللذان معهم؟ قَالَ: تخلي سبيلهما، قَالَ: أنا إذا من عبد الله بْن يزيد نفي، قَالَ: فكيف تصنع بالربعي؟ قَالَ: أخلي والله سبيله ثم دعا بموسى بْن كعب وأمر به فألجم بلجام حمار، وأمر باللجام أن يجذب فجذب حتى تحطمت أسنانه، ثم قَالَ: اكسروا وجهه، فدق أنفه، ووجأ لحيته، فندر ضرس له ثم دعا بلاهز بْن قريط، فقال لاهز: والله ما في هذا الحق أن تصنع بنا هذا، وتترك اليمانيين والربعيين، فضربه ثلاثمائه سوط، ثم قَالَ: اصلبوه، فقال الحسن بْن زيد الأزدي: هو لي جار وهو بريء مما قذف به، قَالَ: فالآخرون؟ قَالَ: أعرفهم بالبراءه، فخلى سبيلهم.

            ثم دخلت سنه ثمان عشرة ومائة
            ولايه عمار بن يزيد على شيعه بنى العباس بخراسان

            وفيها وجه بكير بْن ماهان عمار بْن يزيد إلى خراسان واليا على شيعة بني العباس، فنزل- فيما ذكر- مرو، وغير اسمه وتسمى بخداش، ودعا إلى محمد بْن علي، فسارع إليه الناس، وقبلوا ما جاءهم به، وسمعوا إليه وأطاعوا، ثم غير ما دعاهم إليه، وتكذب وأظهر دين الخرمية، ودعا إليه ورخص لبعضهم في نساء بعض، وأخبرهم أن ذلك عن أمر محمد بْن علي، فبلغ أسد بْن عبد الله خبره، فوضع عليه العيون حتى ظفر به، فأتي به، وقد تجهز لغزو بلخ، فسأله عن حاله، فأغلظ خداش له القول، فأمر به فقطعت يده، وقلع لسانه وسملت عينه.
            [انظر المنتظم(7/186) والبداية والنهاية(7/198)]

            ذكر ما كان من الحارث بن سريج مع اصحابه
            فذكر محمد بْن علي عن أشياخه، قَالَ: لما قدم اسد آمل في مبدئه، أتوه بخداش صاحب الهاشمية، فأمر به قرعة الطبيب، فقطع لسانه، وسمل عينه، فقال: الحمد لله الذي انتقم لأبي بكر وعمر منك! ثم دفعه إلى يحيى بْن نعيم الشيباني عامل آمل فلما قفل من سمرقند كتب إلى يحيى فقتله وصلبه بآمل، وأتى أسد بحزور مولى المهاجر بن داره الضبي، فضرب عنقه بشاطئ النهر ثم نزل أسد منصرفه من سمرقند بلخ، فسرح جديعا الكرماني إلى القلعة التي فيها ثقل الحارث وثقل أصحابه- واسم القلعة التبوشكان من طخارستان العليا، وفيها بنو برزى التغلبيون، وهم أصهار الحارث- فحصرهم الكرماني حتى فتحها، فقتل مقاتلتهم وقتل بني برزى، وسبى عامة أهلها من العرب والموالي والذراري، وباعهم فيمن يزيد في سوق بلخ، فقال علي بْن يعلى- وكان شهد ذلك: نقم على الحارث أربعمائة وخمسون رجلا من أصحابه، وكان رئيسهم جرير بْن ميمون القاضي، وفيهم بشر بْن أنيف الحنظلي وداود الأعسر الخوارزمي فقال الحارث: إن كنتم لا بد مفارقي وطلبتم الأمان، فاطلبوه وأنا شاهد، فإنه أجدر أن يجيبوكم، وإن ارتحلت قبل ذلك لم يعطوا الأمان، فقالوا: ارتحل أنت وخلنا ثم بعثوا بشر بْن أنيف ورجلا آخر، فطلبوا الأمان فآمنهما أسد ووصلهما، فغدروا بأهل القلعة، وأخبراه أن القوم ليس لهم طعام ولا ماء، فسرح أسد الكرماني في ستة آلاف، منهم سالم بْن منصور البجلي، على ألفين، والأزهر بْن جرموز النميري في اصحابه، وجند بلخ وهم الفان وخمسمائة من اهل الشام، وعليهم صالح بْن القعقاع الأزدي، فوجه الكرماني منصور بْن سالم في أصحابه، فقطع نهر ضرغام، وبات ليله وأصبح، فأقام حتى متع النهار، ثم سار يومه قريبا من سبعة عشر فرسخا، فأتعب خيله، ثم انتهى إلى كشتم من ارض جبغويه، فانتهى إلى حائط فيه زرع قد قصب، فأرسل أهل العسكر دوابهم فيه، وبينهم وبين القلعة أربع فراسخ ثم ارتحل فلما صار إلى الوادي جاءته الطلائع فأخبرته بمجيء القوم ورأسهم المهاجر بْن ميمون، فلما صاروا إلى الكرماني كابدهم فانصرفوا، وسار حتى نزل جانبا من القلعة، وكان أول ما نزل في زهاء خمسمائة في مسجد كان الحارث بناه، فلما أصبح تتامت إليه الخيل، وتلاحقت من أصحاب الأزهر وأهل بلخ.
            فلما اجتمعوا خطبهم الكرماني، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أهل بلخ، لا أجد لكم مثلا غير الزانية، من أتاها أمكنته من رجلها، أتاكم الحارث في ألف رجل من العجم فأمكنتموه من مدينتكم، فقتل أشرافكم، وطرد أميركم، ثم سرتم معه من مكانفيه إلى مرو فخذلتموه، ثم انصرف إليكم منهزما فأمكنتموه من المدينة، والذي نفسي بيده لا يبلغني عن رجل منكم كتب كتابا إليهم في سهم إلا قطعت يده ورجله وصلبته، فأما من كان معي من أهل مرو فهم خاصتي، ولست أخاف غدرهم، ثم نهد إلى القلعة فأقام بها يوما وليلة من غير قتال، فلما كان من الغد نادى مناد: إنا قد نبذنا إليكم بالعهد، فقاتلوهم، وقد عطش القوم وجاعوا، فسألوا أن ينزلوا على الحكم ويترك لهم نساؤهم وأولادهم، فنزلوا على حكم أسد، فأقام أياما وقدم المهلب بْن عبد العزيز العتكي بكتاب اسد، ان احملوا إلي خمسين رجلا منهم، فيهم المهاجر بْن ميمون ونظراؤه من وجوههم، فحملوا إليهم فقتلهم، وكتب إلى الكرماني أن يصير الذين بقوا عنده أثلاثا، فثلث يصلبهم، وثلث يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلث يقطع أيديهم، ففعل ذلك الكرماني، وأخرج أثقالهم فباعها فيمن يزيد، وكان الذين قتلهم وصلبهم أربعمائة واتخذ أسد مدينة بلخ دارا في سنة ثمان عشرة ومائة، ونقل إليها الدواوين واتخذ المصانع، ثم غزا طخارستان ثم ارض جبغويه، ففتح وأصاب سبيا.
            وقيل إنه ولد في الليلة التي ضرب فيها علي بْن أبي طالب وذلك ليلة سبع عشرة من رمضان من سنة أربعين، فسماه أبوه عليا، وقال: سميته باسم أحب الخلق إلي، وكناه أبا الحسن، فلما قدم على عبد الملك بْن مروان أكرمه وأجلسه على سريره، وسأله عن كنيته فأخبره، فقال: لا يجتمع في عسكري هذا الاسم والكنية لأحد، وسأله: هل ولد له من ولد؟ وكان قد ولد له يومئذ محمد بْن علي، فأخبره بذلك، فكناه أبا محمد.


            وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
            أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

            تعليق


            • #51
              رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

              ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة
              ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث

              فمن ذلك غزوة الوليد بْن القعقاع العبسي أرض الروم.
              [النتظم (7/192)]

              وفيها غزا أسد بْن عبد الله الختل، فافتتح قلعة زغرزك، وسار منها إلى خداش، وملأ يديه من السبي والشاء، وكان الجيش قد هرب الى الصين.

              ذكر غزو الترك ومقتل خاقان
              وفيها لقي أسد خاقان صاحب الترك فقتله، وقتل بشرا كثيرا من أصحابه، وسلم أسد والمسلمون، وانصرفوا بغنائم كثيرة وسبي.
              [انظر البداية والنهاية (7/199)]

              ذكر الخبر عن هذه الغزوة:
              ذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أنهم قالوا: كتب ابن السائجي إلى خاقان أبي مزاحم- وإنما كني أبا مزاحم لأنه كان يزاحم العرب- وهو موالث، يعلمه دخول أسد الختل وتفرق جنوده فيها، وأنه بحال مضيعة فلما أتاه كتابه أمر أصحابه بالجهاز- وكان لخاقان مرج وجبل حمى لا يقربهما احد، ولا يتصيد فيهما، يتركان للجهاد فضاء، ما كان في المرج ثلاثة أيام، وما في الجبل ثلاثة أيام- فتجهزوا وارتعوا ودبغوا مسوك الصيد، واتخذوا منها أوعية، واتخذوا القسي والنشاب، ودعا خاقان ببرذون مسرج ملجم، وأمر بشاة فقطعت ثم علقت في المعاليق، ثم أخذ شيئا من ملح فصيره في كيس، وجعله في منطقته، وأمر كل تركي أن يفعل مثل ذلك، وقال: هذا زادكم حتى تلقوا العرب بالختل.
              وأخذ طريق خشوراغ، فلما أحس ابن السائجي أن خاقان قد أقبل بعث إلى أسد: اخرج عن الختل فإن خاقان قد أظلك فشتم رسوله، ولم يصدقه، فبعث صاحب الختل: إني لم أكذبك، وأنا الذي أعلمته دخولك، وتفرق جندك، وأعلمته أنها فرصة له، وسألته المدد، غير أنك أمعرت البلاد، وأصبت الغنائم، فإن لقيك على هذه الحال ظفر بك، وعادتني العرب أبدا ما بقيت واستطال علي خاقان واشتدت مؤونته، وامتن علي بقوله: أخرجت العرب من بلادك، ورددت عليك ملكك، فعرف أسد أنه قد صدقه، فأمر بالأثقال أن تقدم، وولى عليها إبراهيم بْن عاصم العقيلي الجزري، الذي كان ولي سجستان بعد، وأخرج معه المشيخة، فيهم كثير ابن أمية، أبو سليمان بْن كثير الخزاعي وفضيل بْن حيان المهري وسنان بْن داود القطعي، وكان على أهل العالية سنان الأعرابي السلمي، وعلى الاقباض عثمان ابن شباب الهمذاني، جد قاضي مرو، فسارت الأثقال، فكتب أسد إلى داود بْن شعيب والأصبغ بن ذؤاله الكلبي- وقد كان وجههما في وجه: إن خاقان قد أقبل، فانضما إلى الأثقال، إلى إبراهيم بْن عاصم.
              قَالَ: ووقع إلى داود والأصبغ رجل دبوسي، فأشاع أن خاقان قد كسر المسلمين، وقتل أسدا.
              وقال الأصبغ: إن كان أسد ومن معه أصيبوا فإن فينا هشاما ننحاز إليه، فقال داود بْن شعيب: قبح الله الحياة بعد أهل خراسان! فقال الأصبغ: حبذا الحياة بعد أهل خراسان! قتل الجراح ومن معه فما ضر المسلمين كثير ضر، فإن هلك أسد وأهل خراسان فلن يخذل الله دينه، وإن الله حي قيوم، وأمير المؤمنين حي وجنود المسلمين كثير فقال داود: أفلا ننظر ما فعل أسد فنخرج على علم! فسارا حتى شارفا عسكر إبراهيم فإذا هما بالنيران، فقال داود: هذه نيران المسلمين أراها متقاربة ونيران الأتراك متفرقة، فقال الأصبغ: هم في مضيق ودنوا فسمعوا نهيق الحمير، فقال داود: أما علمت أن الترك ليس لهم حمير! فقال الأصبغ: أصابوها بالأمس، ولم يستطيعوا أكلها في يوم ولا اثنين، فقال داود: نسرح فارسين فيكبران، فبعثا فارسين، فلما دنوا من العسكر كبرا، فأجابهما العسكر بالتكبير، فأقبلوا إلى العسكر الذي فيه الأثقال، ومع إبراهيم أهل الصغانيان وصغان خذاه، فقام إبراهيم بْن عاصم مبادرا.
              قَالَ: وأقبل أسد من الختل نحو جبل الملح يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد قطع إبراهيم بْن عاصم بالسبي وما أصاب فأشرف أسد على النهر وقد أتاه أن خاقان قد سار من سوياب سبع عشرة ليلة، فقام إليه أبو تمام بْن زحر وعبد الرحمن بْن خنفر الأزديان، فقالا: أصلح الله الأمير! إن الله قد أحسن بلاءك في هذه الغزوة فغنمت وسلمت فاقطع هذه النطفة، واجعلها وراء ظهرك فأمر بهما فوجئت رقابهما، وأخرجا من العسكر وأقام يومه. فلما كان من الغد ارتحل وفي النهر ثلاثة وعشرون موضعا يخوضه الناس، وفي موضع مجتمع ماء يبلغ دفتي السرج، فخاضه الناس، وأمر أن يحمل كل رجل شاة، وحمل هو بنفسه شاة، فقال له عثمان بْن عبد الله بْن مطرف ابن الشخير: إن الذي أنت فيه من حمل الشاة ليس بأخطر مما تخاف، وقد فرقت الناس وشغلتهم، وقد أظلك عدوك، فدع هذا الشاء لعنة الله عليه، وأمر الناس بالاستعداد فقال أسد: والله لا يعبر رجل ليست معه شاة حتى تفنى هذه الغنم إلا قطعت يده، فجعل الناس يحملون الشاء، الفارس يحملها بين يديه والراجل على عنقه، وخاض الناس ويقال: لما حفرت سنابك الخيل النهر صار بعض المواضع سباخه فكان بعضهم يميل فيقع عن دابته، فأمر أسد بالشاء أن تقذف، وخاض الناس، فما استكملوا العبور حتى طلعت عليهم الترك بالدهم، فقتلوا من لم يقطع، وجعل الناس يقتحمون النهر- ويقال كانت المسلحة على الأزد وتميم، وقد خلف ضعفة الناس- وركب أسد النهر، وأمر بالإبل أن يقطع بها إلى ما وراء النهر، حتى تحمل عليها الأثقال، وأقبل رهج من ناحية الختل، فإذا خاقان، فلما توافى معه صدر من جنده حمل على الأزد وبني تميم فانكشفوا، وركض أسد حتى انصرف إلى معسكره، وبعث إلى أصحاب الأثقال الذين كان سرح أمامه. أن انزلوا وخندقوا مكانكم في بطن الوادي قَالَ: وأقبل خاقان، فظن المسلمون أنه لا يقطع إليهم وبينهم وبينه النهر، فلما نظر خاقان إلى النهر أمر الأشكند- وهو يومئذ اصبهبذ نسف- أن يسير في الصف حتى يبلغ أقصاه، ويسأل الفرسان وأهل البصر بالحرب والماء: هل يطاق قطوع النهر والحمل على أسد؟ فكلهم يقول: لا يطاق، حتى انتهى إلى الأشتيخن، فقال: بلى يطاق، لأنا خمسون الف فارس، فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة رد بعضنا عن بعض الماء فذهب جريته قَالَ: فضربوا بكوساتهم فظن أسد ومن معه أنه منهم وعيد، فأقحموا دوابهم، فجعلت تنخر أشد النخير، فلما رأى المسلمون اقتحام الترك ولوا إلى العسكر، وعبرت الترك فسطع رهج عظيم لا يبصر الرجل دابته، ولا يعرف بعضهم بعضا، فدخل المسلمون عسكرهم وحووا ما كان خارجا، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه الترك، فأدبروا، وبات أسد، فلما أصبح- وقد كان عبأ أصحابه من الليل تخوفا من غدر خاقان وغدوه عليه، ولم ير شيئا- دعا وجوه الناس فاستشارهم، فقالوا له: اقبل العافية، قَالَ: ما هذه عافية، بل هي بلية، لقينا خاقان أمس فظفر بنا وأصاب من الجند والسلاح، فما منعه منا اليوم إلا أنه قد وقع في يديه أسراء فأخبروه بموضع الأثقال أمامنا، فترك لقاءنا طمعا فيها فارتحل فبعث أمامه الطلائع، فرجع بعضهم فأخبره أنه عاين طوقات الترك وأعلاما من اعلام الاشكند، في بشر قليل فسار والدواب مثقلة، فقيل له: انزل أيها الأمير واقبل العافية، قَالَ: وأين العافية فأقبلها! إنما هي بلية وذهاب الأنفس والأموال فلما أمسى أسد صار إلى منزل، فاستشار الناس: أينزلون أم يسيرون؟ فقال الناس: اقبل العافية، وما عسى أن يكون ذهاب المال بعافيتنا وعافية أهل خراسان! ونصر بْن سيار مطرق، فقال أسد: ما لك يا بن سيار مطرقا لا تتكلم! قَالَ: أصلح الله الأمير! خلتان كلتاهما لك، إن تسر تغث من مع الأثقال وتخلصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا فقد قطعت قحمه لا بد من قطوعها فقبل رأيه وسار يومه كله.
              قَالَ: ودعا أسد سعيدا الصغير- وكان فارسا مولى باهلة، وكان عالما بأرض الختل- فكتب كتابا إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد، فإن خاقان قد توجه إلى ما قبلك، وقال: سر بالكتاب إلى إبراهيم حيث كان قبل الليل، فإن لم تفعل فأسد بريء من الإسلام إن لم يقتلك، وإن أنت لحقت بالحارث فعلى اسد مثل الذى حلف، ان لم يبع امرأتك الدلال في سوق بلخ وجميع أهل بيتك قَالَ سعيد: فادفع إلي فرسك الكميت الذنوب قَالَ: لعمري لئن جدت بدمك، وبخلت عليك بالفرس إني للئيم فدفعه إليه، فسار على دابة من جنائبه، وغلامه على فرس له، ومعه فرس أسد يجنبه، فلما حاذى الترك وقد قصدوا الأثقال طلبته طلائعهم، فتحول على فرس أسد، فلم يلحقوه، فأتى إبراهيم بالكتاب، وتبعه بعض الطلائع- يقال عشرون رجلا- حتى رأوا عسكر إبراهيم، فرجعوا إلى خاقان فأخبروه. فغدا خاقان على الأثقال، وقد خندق إبراهيم خندقا، فأتاهم وهم قيام عليه، فأمر أهل السغد بقتالهم، فلما دنوا من مسلحة المسلمين ثاروا في وجوههم فهزموهم، وقتلوا منهم رجلا، فقال خاقان: اركبوا، وصعد خاقان تلا فجعل ينظر العورة، ووجه القتال، قَالَ: وهكذا كان يفعل، ينفرد في رجلين أو ثلاثة، فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة فلما صعد التل رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة، فدعا بعض قواد الترك، فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر في مقطع وصفه حتى يصيروا إلى الجزيرة، ثم ينحدروا في الجزيرة حتى يأتوا عسكر المسلمين من دبر، وأمرهم أن يبدءوا بالأعاجم وأهل الصغانيان، وأن يدعوا غيرهم، فإنهم من العرب، وقد عرفهم بأبنيتهم وأعلامهم، وقال لهم: إن أقام القوم في خندقهم فأقبلوا إليكم دخلنا نحن خندقهم، وإن ثبتوا على خندقهم فادخلوا من دبره عليهم ففعلوا ودخلوا عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صغان خذاه وعامة أصحابه، واحتووا على أموالهم، ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا عامة ما فيه، وترك المسلمون التعبئة واجتمعوا في موضع، وأحسوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة سوداء،
              فإذا أسد في جنده قد أتاهم، فجعلت الترك ترتفع عنهم إلى الموضع الذي كان فيه خاقان، وإبراهيم يتعجب من كفهم وقد ظفروا وقتلوا من قتلوا وأصابوا ما أصابوا، وهو لا يطمع في أسد.
              قَالَ: وكان أسد قد أغذ السير، فأقبل حتى وقف على التل الذي كان عليه خاقان، وتنحى خاقان إلى ناحية الجبل، فخرج إليه من بقي ممن كان مع الأثقال، وقد قتل منهم بشر كثير، قتل يومئذ بركة بْن خولى الراسبى وكثير بن أمية ومشيخة من خزاعة وخرجت امرأة صغان خذاه إلى أسد، فبكت زوجها، فبكى أسد معها حتى علا صوته، ومضى خاقان يقود الأسراء من الجند في الأوهاق ويسوق الإبل موقرة والجواري.
              [الوهق: الحيل. لسان العرب (10/385)]

              قَالَ: وكان مصعب بْن عمرو الخزاعي ونفر من أهل خراسان قد أجمعوا على مواقفتهم، فكفهم أسد، وقال: هؤلاء قوم قد طابت لهم الريح واستكلبوا، فلا تعرضوا لهم وكان مع خاقان رجل من أصحاب الحارث بْن سريج فأمره فنادى: يا أسد، أما كان لك فيما وراء النهر مغزى! إنك لشديد الحرص، قد كان لك عن الختل مندوحة، وهي أرض آبائي وأجدادي فقال أسد: كان ما رأيت، ولعل الله أن ينتقم منك قَالَ كورمغانون- وكان من عظماء الترك: لم أر يوما كان أحسن من يوم الأثقال، قيل له: وكيف ذلك؟ قَالَ: أصبت أموالا عظيمة، ولم أر عدوا أسمج من أسراء العرب، يعدو أحدهم فلا يكاد يبرح مكانه.
              وقال بعضهم: سار خاقان إلى الأثقال، فارتحل أسد، فلما أشرف على الظهر، ورأى المسلمين الترك فامتنعوا، وقد كانوا قاتلوا المسلمين فامتنعوا، فأتوا الأعاجم الذين كانوا مع المسلمين فقاتلوهم، فأسروا أولادهم.
              قَالَ: فأردف كل رجل منهم وصيفا أو وصيفة، ثم أقبلوا إلى عسكر أسد عند مغيب الشمس قَالَ: وسار أسد بالناس، حتى نزل مع الثقل. وصبحوا أسدا من الغد، وذلك يوم الفطر، فكادوا يمنعونهم من الصلاة.
              ثم انصرفوا ومضى أسد إلى بلخ، فعسكر في مرجها حتى أتى الشتاء، ثم
              تفرق الناس في الدور، ودخل المدينة، ففي هذه الغزاة قيل له بالفارسية:
              أز ختلان آمديه ... برو تباه آمديه
              آبار باز آمديه ... خشك نزار آمديه
              قَالَ: وكان الحارث بْن سريج بناحية طخارستان، فانضم إلى خاقان، فلما كان ليلة الأضحى قيل لأسد: إن خاقان نزل جزة، فأمر بالنيران فرفعت على المدينة، فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة بلخ، فأصبح أسد فصلى وخطب الناس، وقال: إن عدو الله الحارث بْن سريج استجلب طاغيته ليطفئ نور الله، ويبدل دينه، والله مذله إن شاء الله وإن عدوكم الكلب أصاب من إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله وقال: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربكم، وأخلصوا له الدعاء ففعلوا ثم رفعوا رءوسهم، وهم لا يشكون في الفتح، ثم نزل عن المنبر وضحى وشاور الناس في المسير إلى خاقان، فقال قوم: أنت شاب، ولست ممن تخوف من غارة، على شاة ودابة تخاطر بخروجك قَالَ: والله لأخرجن، فإما ظفر وإما شهادة.
              ويقال: أقبل خاقان، وقد استمد من وراء النهر واهل طخارستان وجبغويه الطخاري بملوكهم وشاكريتهم بثلاثين ألفا، فنزلوا خلم، وفيها مسلحة، عليها أبو العوجاء بْن سعيد العبدي، فناوشهم فلم يظفروا منه بشيء، فساروا على حاميتهم في طريق فيروز بخشين من طخارستان فكتب أبو العوجاء إلى أسد بمسيرهم قَالَ: فجمع الناس، فأقرأهم كتاب أبي العوجاء وكتاب الفرافصة صاحب مسلحة جزة بعد مرور خاقان به، فشاور أسد الناس، فقال قوم: تأخذ بأبواب مدينة بلخ، وتكتب إلى خالد والخليفة تستمده وقال آخرون: تأخذ في طريق زم، وتسبق خاقان إلى مرو.
              وقال قوم: بل تخرج إليهم وتستنصر الله عليهم، فوافق قولهم رأي أسد
              وما كان عزم عليه من لقائهم ويقال: إن خاقان حين فارق أسدا، ارتفع حتى صار بأرض طخارستان عند جبغويه، فلما كان وسط الشتاء أقبل فمر بجزة، وصار إلى الجوزجان وبث الغارات، وذلك أن الحارث بْن سريج أخبره أنه لا نهوض بأسد، وأنه لم يبق معه كبير جند، فقال البختري ابن مجاهد مولى بني شيبان: بل بث الخيول حتى تنزل الجوزجان فلما بث الخيل، قَالَ له البختري: كيف رأيت رأيي؟ قَالَ: وكيف رأيت صنع الله عز وجل حين أخذ برأيك! فأخذ أسد من جبلة بْن أبي رواد عشرين ومائة ألف درهم، وأمر للناس بعشرين عشرين، ومعه من الجنود من أهل خراسان وأهل الشام سبعة آلاف رجل، واستخلف على بلخ الكرماني بْن علي، وأمره ألا يدع أحدا يخرج من مدينتها، وإن ضرب الترك باب المدينة فقال له نصر بْن سيار الليثي والقاسم بْن بخيت المراغي من الأزد وسليم بْن سليمان السلمي وعمرو بْن مسلم بْن عمرو ومحمد بْن عبد العزيز العتكي وعيسى الأعرج الحنظلي والبختري بْن أبي درهم البكري وسعيد الأحمر وسعيد الصغير مولى باهلة: أصلح الله الأمير، ائذن لنا في الخروج، ولا تهجن طاعتنا فأذن لهم ثم خرج فنزل بابا من أبواب بلخ وضربت له قبة، فازتان،
              [الفازة: بناء من خرق وغيرها يبنى للعساكر. لسان العرب (5/393)]

              وألصق إحداهما بالأخرى، وصلى بالناس ركعتين طولهما، ثم استقبل القبلة ونادى في الناس: ادعوا الله، وأطال في الدعاء، ودعا بالنصر، وأمن الناس على دعائه، فقال: نصرتم ورب الكعبة! ثم انفتل من دعائه فقال: نصرتم ورب الكعبة إن شاء الله، ثلاث مرات، ثم نادى مناديه: برئت ذمة الله من رجل حمل امرأة ممن كان من الجند، قالوا: إن أسدا إنما خرج هاربا، فخلف أم بكر أم ولده وولده، فنظر فإذا جارية على بعير، فقال: سلوا لمن هذه الجارية؟ فذهب بعض الأساورة فسأل ثم رجع، فقال: لزياد بْن الحارث البكري- وزياد جالس- فقطب اسد، وقال: لا تنتهون حتى أسطو بالرجل منكم يكرم علي، فأضرب ظهره وبطنه، فقال زياد: إن كانت لي فهى حره، لا والله أيها الأمير ما معي امرأة، فإن هذا عدو حاسد.
              وسار أسد، فلما كان عند قنطرة عطاء، قَالَ لمسعود بْن عمرو الكرماني، وهو يومئذ خليفة الكرماني على الأزد: ابغني خمسين رجلا ودابة أخلفهم على هذه القنطرة، فلا تدع أحدا ممن جازها أن يرجع إليها، فقال مسعود: ومن أين أقدر على خمسين رجلا! فأمر به فصرع عن دابته، وأمر بضرب عنقه، فقام إليه قوم فكلموه فكف عنه، فلما جاز القنطرة نزل منزلا، فأقام فيه حتى أصبح، وأراد المقام يومه، فقال له العذافر بْن زيد: ليأتمر الأمير على المقام يومه حتى يتلاحق الناس قَالَ: فأمر بالرحيل وقال: لا حاجة لنا إلى المتخلفين، ثم ارتحل، وعلى مقدمته سالم بن منصور البجلي في ثلاثمائه، فلقى ثلاثمائه من الترك طليعة لخاقان، فأسر قائدهم وسبعة منهم معه، وهرب بقيتهم، فأتى به أسد قَالَ: فبكى التركي، قَالَ: ما يبكيك؟ قَالَ: لست أبكي لنفسي، ولكني أبكي لهلاك خاقان، قَالَ: كيف؟ قَالَ: لأنه قد فرق جنوده فيما بينه وبين مرو.
              قَالَ: وسار أسد، حتى نزل السدرة- قرية ببلخ- وعلى خيل أهل العالية ريحان بْن زياد العامري العبدلي من بني عبد الله بْن كعب قَالَ:
              فعزله، وصير على أهل العالية منصور بْن سالم، ثم ارتحل من السدرة، فنزل خريستان، فسمع أسد صهيل فرس، فقال: لمن هذا؟ فقيل: للعقار بْن ذعير، فتطير من اسمه واسم أبيه، فقال: ردوه، قَالَ: إني مقتول بجراتى على الترك، قَالَ: أسد: قتلك الله! ثم سار حتى إذا شارف العين الحارة استقبله بشر بْن رزين- أو رزين بْن بشر- فقال بشارة ورزانة، ما وراءك يا رزين؟ قَالَ: إن لم تغثنا غلبنا على مدينتنا، قَالَ: قل للمقدام بْن عبد الرحمن يطاول رمحى، فسار فنزل من مدينة الجوزجان بفرسخين، ثم أصبحنا وقد تراءت الخيلان، فقال خاقان للحارث: من هذا؟ فقال: هذا محمد ابن المثنى ورأيته، ويقال: إن طلائع لخاقان انصرفت إليه فأخبرته أن رهجا ساطعا طلع من قبل بلخ، فدعا خاقان الحارث، فقال: ألم تزعم أن أسدا ليس به نهوض! وهذا رهج قد أقبل من ناحية بلخ، قَالَ الحارث: هذا اللص الذي كنت قد أخبرتك أنه من أصحابي فبعث خاقان طلائع، فقال: انظروا هل ترون على الإبل سريرا وكراسي؟ فجاءته الطلائع، فأخبروه أنهم عاينوها، فقال خاقان: اللصوص لا يحملون الأسرة والكراسي، وهذا أسد قد أتاك فسار أسد غلوة فلقيه سالم بْن جناح، فقال: أبشر أيها الأمير، قد حزرتهم ولا يبلغون أربعة آلاف، وأرجو أن يكون عقيرة الله فقال المجشر بْن مزاحم، وهو يسايره: أنزل أيها الأمير رجالك، فضرب وجه دابته، وقال: لو أطعت يا مجشر ما كنا قدمنا هاهنا، وسار غير بعيد، وقال: يا أهل الصباح، انزلوا، فنزلوا وقربوا دوابهم، وأخذوا النبل والقسي. قَالَ: وخاقان في مرج قد بات فيه تلك الليلة.
              قَالَ: وقال عمرو بْن أبي موسى: ارتحل أسد حين صلى الغداة، فمر بالجوزجان وقد استباحها خاقان حتى بلغت خيله الشبورقان قَالَ: وقصور الجوزجان إذ ذاك ذليلة قَالَ: وأتاه المقدام بْن عبد الرحمن بْن نعيم الغامدي في مقاتلته وأهل الجوزجان- وكان عاملها- فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: أقيموا في مدينتكم، وقال للجوزجان بْن الجوزجان: سر معي، وكان على التعبئه القاسم بن بخيت المراغي، فجعل الأزد وبني تميم والجوزجان بْن الجوزجان وشاكريته ميمنته، وأضاف إليهم أهل فلسطين، عليهم مصعب بْن عمرو الخزاعي، وأهل قنسرين عليهم صغراء بْن أحمر، وجعل ربيعة ميسرة، عليهم يحيى بْن حضين، وضم إليهم أهل حمص عليهم جعفر بن حنظلة البهراني، وأهل الأزد وعليهم سليمان بن عمرو المقرئ من حمير، وعلى المقدمة منصور بْن مسلم البجلي، وأضاف إليهم أهل دمشق عليهم حملة بْن نعيم الكلبي، وأضاف إليهم الحرس والشرطة وغلمان أسد.
              قَالَ: وعبى خاقان الحارث بن سريج واصحابه وملك السغد وصاحب الشاش وخرابغره أبا خاناخره، جد كاوس وصاحب الختل جبغويه، والترك
              كلهم ميمنة فلما التقوا حمل الحارث ومن معه من أهل السغد والبابية وغيرهم على الميسرة، وفيها ربيعة وجندان من أهل الشام، فهزمهم فلم يردهم شيء دون رواق أسد، فشدت عليهم الميمنة- وهم الأزد وبنو تميم والجوزجان- فما وصلوا إليهم حتى انهزم الحارث والأتراك، وحمل الناس جميعا، فقال أسد: اللهم إنهم عصوني فانصرهم، وذهب الترك في الأرض عباديد لا يلوون على أحد، فتبعهم الناس مقدار ثلاثة فراسخ يقتلون من يقدرون عليه، حتى انتهوا إلى أغنامهم، فاستاقوا أكثر من خمس وخمسين ومائة ألف شاة ودواب كثيرة وأخذ خاقان طريقا غير الجادة في الجبل، والحارث بْن سريج يحميه، ولحقهم أسد عند الظهر ويقال: لما واقف أسد خاقان يوم خريستان كان بينهم نهر عميق، فأمر أسد برواقه فرفع، فقال رجل من بني قيس بْن ثعلبة: يا أهل الشام، أهكذا رأيكم، إذا حضر الناس رفعتم الأبنية! فأمر به فحط، وهاجت ريح الحرب التي تسمى الهفافة، فهزمهم الله، واستقبلوا القبلة يدعون الله ويكبرون واقبل خاقان في قريب من أربعمائة فارس عليهم الحمرة، وقال لرجل يقال له سوري: إنما أنت ملك الجوزجان إن أسلمت العرب، فمن رايت من اهل الجوزجان موليا فاقتله وقال الجوزجان لعثمان بْن عبد الله الشخير: إني لأعلم ببلادي وطرقها، فهل لك في أمر فيه هلاك خاقان ولك فيه ذكر ما بقيت؟ قَالَ: ما هو؟ قَالَ: تتبعني، قَالَ: نعم، فأخذ طريقا يسمى ورادك، فأشرفوا على طوقات خاقان وهم آمنون، فأمر خاقان بالكوسات فضربت ضربة الانصراف وقد شبت الحرب، فلم يقدر الترك على الانصراف، ثم ضربت الثانية فلم يقدروا، ثم ضربت الثالثة فلم يقدروا لاشتغالهم، فحمل ابن الشخير والجوزجان على الطوقات، وولى خاقان مدبرا منهزما، فحوى المسلمون عسكرهم وتركوا قدورهم تغلي ونساء من نساء العرب والمواليات ومن نساء الترك، ووحل بخاقان برذونه فحماه الحارث بْن سريج قَالَ: ولم يعلم الناس أنه خاقان، ووجد عسكر الترك مشحونا من كل شيء من آنية الفضة وصناجات الترك وأراد الخصي أن يحمل امرأة خاقان، فأعجلوه عن ذلك، فطعنها بخنجر فوجدوها تتحرك، فأخذوا خفها وهو من لبود مضرب.
              [ في اللسان: كل شعر أو صوف متلبد بعضه على بعض فهو لبد ولبدة، والجمع ألباد ولبود على توهم طرح الهاء. اللسان (3/368)]

              قَالَ: فبعث أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان، واستنقذ من كان في أيديهم من المسلمين.
              قَالَ: وأقام أسد خمسة أيام قَالَ: فكانت الخيول التي فرق تقبل فيصيبهم أسد، فاغتنم الظفر وانصرف إلى بلخ يوم التاسع من خروجه، فقال ابن السجف المجاشعي:
              لو سرت في الأرض تقيس الأرضا ... تقيس منها طولها والعرضا
              لم تلق خيرا مرة ونقضا ... من الأمير أسد وامضى
              أفضى إلينا، الخير حين أفضى ... وجمع الشمل وكان رفضا
              ما فاته خاقان إلا ركضا ... قد فض من جموعه ما فضا
              يا بن سريج قد لقيت حمضا ... حمضا به يشفى صداع المرضى
              قَالَ: وارتحل أسد، فنزل جزة الجوزجان من غد، وخاقان بها، فارتحل هاربا منه وندب أسد الناس، فانتدب ناس كثير من أهل الشام وأهل العراق، فاستعمل عليهم جعفر بْن حنظلة البهراني، فساروا ونزلوا مدينة تسمى ورد من أرض جزة، فباتوا بها فأصابهم ريح ومطر- ويقال:
              أصابهم الثلج- فرجعوا ومضى خاقان فنزل على جبغويه الطخاري، وانصرف البهراني إلى أسد، ورجع أسد إلى بلخ، فلقوا خيل الترك التي كانت بمرو الروذ منصرفة لتغير على بلخ، فقتلوا من قدروا عليه منهم، وكان الترك قد بلغوا بيعة مرو الروذ، وأصاب أسد يومئذ أربعة آلاف درع، فلما صار ببلخ أمر الناس بالصوم لافتتاح الله عليهم.
              قَالَ: وكان أسد يوجه الكرماني في السرايا، فكانوا لا يزالون يصيبون الرجل والرجلين والثلاثة وأكثر من الترك، ومضى خاقان إلى طخارستان العليا، فأقام عند جبغويه الخزلخى تعززا به، وأمر بصنيعة الكوسات، فلما جفت وصلحت أصواتها ارتحل إلى بلاده، فلما ورد شروسنة، تلقاه خرابغره ابو خاناخره، جد كاوس أبي أفشين باللعابين، وأعد له هدايا ودواب له ولجنده- وكان الذي بينهما متباعدا- فلما رجع منهزما أحب أن يتخذ عنده يدا، فأتاه بكل ما قدر عليه ثم أتى خاقان بلاده، وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحارث بْن سريج وأصحابه على خمسة آلاف برذون، وفرق براذين في قواد الترك، فلاعب خاقان يوما كورصول بالنرد على خطر تدرجة،
              [ الخطر: السبق يتراهن عليه. القاموس المحيط ص494]
              فقمر كورصول الترقشي، فطلب منه التدرجة، فقال: أنثى، فقال: الآخر ذكر، فتنازعا، فكسر كورصول يد خاقان، فحلف خاقان ليكسرن يد كورصول، وبلغ كورصول، فتنحى وجمع جمعا من أصحابه، فبيت خاقان فقتله، فأصبحت الترك فتفرقوا عنه وتركوه مجردا، فأتاه زريق بْن طفيل الكشاني وأهل بيت الحموكيين- وهم من عظماء الترك- فحمله ودفنه، وصنع به ما يصنع بمثله إذا قتل. فتفرقت الترك في الغارات بعضها على بعض، وانحاز بعضهم إلى الشاش، فعند ذلك طمع أهل السغد في الرجعة إليها قال: فلم يسلم من خيل الترك التي تفرقت في الغارات إلا زر بْن الكسي، فإنه سلم حتى صار إلى طخارستان، وكان أسد بعث من مدينة بلخ سيف بْن وصاف العجلي على فرس، فسار حتى نزل الشبورقان قَالَ: وفيها إبراهيم بْن هشام مسلحة، فحمله منها على البريد حتى قدم على خالد بْن عبد الله، فأخبره، ففظع به هشام فلم يصدقه، وقال للربيع حاجبه: ويحك! إن هذا الشيخ قد أتانا بالطامه الكبرى إذا كان صادقا، ولا أراه صادقا، اذهب فعده ثم سله عما يقوله وأتني بما يقول. فانطلق إليه ففعل الذي أمره به، فأخبره بالذي أخبر به هشاما قَالَ: فدخل عليه أمر عظيم، فدعا به بعد، فقال: من القاسم بْن بخيت منكم؟ قَالَ: ذلك صاحب العسكر، قَالَ: فإنه قد أقبل، قَالَ: فإن كان قد أقبل فقد فتح الله على أمير المؤمنين- وكان أسد وجهه حين فتح الله عليه- فأقبل القاسم بْن بخيت، فكبر على الباب، ثم دخل يكبر وهشام يكبر لتكبيره، حتى انتهى إليه، فقال: الفتح يا أمير المؤمنين، وأخبره الخبر، فنزل هشام عن سريره فسجد سجدة الشكر، وهي واحدة عندهم قَالَ: فحسدت القيسية أسدا وخالدا، وأشاروا على هشام أن يكتب إلى خالد بْن عبد الله، فيأمر أخاه أن يوجه مقاتل بْن حيان، فكتب إليه، فدعا أسد مقاتل بْن حيان على رءوس الناس، فقال: سر إلى أمير المؤمنين فأخبره بالذي عاينت وقل الحق، فإنك لا تقول غير الحق إن شاء الله، وخذ من بيت المال حاجتك. قالوا: إذا لا يأخذ شيئا، قَالَ: أعطه من المال كذا وكذا، ومن الكسوة كذا وكذا، وجهزه.
              فسار فقدم على هشام بْن عبد الملك وهو والأبرش جالسان، فسأله فقال: غزونا الختل، فأصبنا أمرا عظيما، وانذر أسد بالترك فلم نحفل بهم حتى لحقوا واستنقذوا من غنائمنا، واستباحوا بعض عسكرنا، ثم دفعونا دفعة قريبا من خلم، فانتهى الناس الى مشاتيهم، ثم جاءنا مسير خاقان إلى الجوزجان، ونحن قريبو العهد بالعدو، فسار بنا حتى التقينا برستاق بيننا وبين أرض الجوزجان، فقاتلناهم وقد حازوا ذراري من ذراري المسلمين، فحملوا على ميسرتنا فكشفوهم ثم حملت ميمنتنا عليهم، فأعطانا الله عليهم الظفر، وتبعناهم فراسخ حتى استبحنا عسكر خاقان، فأجلى عنه- وهشام متكئ فاستوى جالسا عند ذكره عسكر خاقان- فقال ثلاثا: أنتم استبحتم عسكر خاقان! قَالَ: نعم، قَالَ: ثم ماذا؟ قال: دخلوا الختل وانصرفوا. قَالَ هشام: إن أسدا لضعيف، قَالَ: مهلا يا أمير المؤمنين، ما أسد بضعيف وما أطاق فوق ما صنع، فقال له هشام: حاجتك؟ قَالَ: إن يزيد بْن المهلب أخذ من أبي حيان مائة ألف درهم بغير حق، فقال له هشام: لا أكلفك شاهدا، احلف بالله إنه كما قلت، فحلف، فردها عليه من بيت مال خراسان، وكتب إلى خالد أن يكتب إلى أسد فيها، فكتب إليه، فأعطاه أسد مائة ألف درهم، فقسمها بين ورثة حيان على كتاب الله وفرائضه. ويقال: بل كتب إلى أسد أن يستخبر عن ذلك، فإن كان ما ذكر حقا أعطي مائة ألف درهم.
              وكان الذي جاء بفتح خراسان إلى مرو عبد السلام بْن الأشهب بْن عتبة الحنظلي قَالَ: فأوفد أسد إلى خالد بْن عبد الله وفدا في هزيمته يوم سان، ومعهم طوقات خاقان ورءوس من قتلوا منهم، فأوفدهم خالد إلى هشام، فأحلفهم أنهم صدقوا، فحلفوا، فوصلهم، فقال أبو الهندي الأسدي لأسد يذكر وقعة سان:
              أبا منذر رمت الأمور فقستها ... وساءلت عنها كالحريص المساوم
              فما كان ذو رأي من الناس قسته ... برأيك إلا مثل رأي البهائم
              أبا منذر لولا مسيرك لم يكن ... عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم
              ولا حج بيت الله- مذ حج- راكب ... ولا عمر البطحاء بعد المواسم
              فكم من قتيل بين سان وجزة ... كثير الأيادي من ملوك قماقم
              تركت بأرض الجوزجان تزوره ... سباع وعقبان لحز الغلاصم
              وذي سوقة فيه من السيف خطة ... به رمق حامت عليه الحوائم
              فمن هارب منا ومن دائن لنا ... أسير يقاسي مبهمات الأداهم
              فدتك نفوس من تميم وعامر ... ومن مضر الحمراء عند المآزم
              هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت ... جلائبه ترجو احتواء المغانم
              قَالَ: وكان السبل أوصى عند موته ابن السائجى حين استخلفه بثلاث خصال، فقال: لا تستطل على أهل الختل استطالتي التي كانت عليهم،
              فإني ملك ولست بملك، إنما أنت رجل منهم، فلا يحتملون لك ما يحتملون للملوك، ولا تدع أن تطلب الجيش حتى ترده إلى بلادكم، فإنه الملك بعدي والملوك هم النظام، والناس ما لم يكن لهم نظام طغام، ولا تحاربوا العرب واحتالوا لهم كل حيلة تدفعونهم بها عن أنفسكم ما قدرتم فقال له ابن السائجى: أما ما ذكرت من تركي الاستطالة على أهل الختل فإني قد عرفت ذلك، وأما ما أوصيت من رد الجيش فقد صدق الملك، وأما قولك: لا تحاربوا العرب، فكيف تنهى عن حربهم، وقد كنت أكثر الملوك لهم محاربة! قَالَ: قد أحسنت إذ سألت عما لا تعلم، إني قد جربت قوتكم بقوتي، فلم أجدكم تقعون مني موقعا، فكنت إذا حاربتهم لم أفلت منهم إلا جريضا، وإنكم إن حاربتموهم هلكتم في أول محاربتكم إياهم.
              قال وكان الجيش، قد هرب إلى الصين، وابن السائجى الذي أخبر أسد بْن عبد الله بمسير خاقان اليه، فكره محاربه اسد.
              [لم نجد لهذه المعركة وتفاصيلها المذكورة عند الطبري ما يؤيدها من مرويات خليفة بن خياط وغيره من المتقدمين ولقد ذكره الطبري عن المدائني عن أشياخه فالله اعلم]

              وذكر أبو زيد أن أبا بكر بْن حفص الزهري، قَالَ: أخبرني محمد بْن عقيل، عن سعيد بن مردابند، مولى عمرو بْن حريث، قَالَ: رأيت خالدا حين أتى بالمغيرة وبيان في ستة رهط أو سبعة، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان
              [أطنان: جمع طن؛ وهو حزمة القصب. القاموس المحيط ص1566]

              قصب ونفط فأحضرا، ثم أمر المغيرة أن يتناول طنا فكع عنه وتأنى، فصبت السياط على رأسه، فتناول طنا فاحتضنه، فشد عليه، ثم صب عليه وعلى الطن نفط، ثم ألهبت فيهما النار فاحترقا، ثم أمر الرهط ففعلوا، ثم أمر بيانا آخرهم فقدم إلى الطن مبادرا فاحتضنه، فقال خالد: ويلكم! في كل أمر تحمقون، هلا رأيتم هذا المغيرة! ثم أحرقه.
              قَالَ أبو زيد: لما قتل خالد المغيرة وبيانا أرسل إلى مالك بْن أعين الجهني فسأله فصدقه عن نفسه، فأطلقه، فلما خلا مالك بمن يثق به- وكان فيهم أبو مسلم صاحب خراسان- قَالَ:
              ضربت له بين الطريقين لاحبا ... وطنت عليه الشمس فيمن يطينها
              وألقيته في شبهة حين سالني ... كما اشتبها في الخط سين وشينها
              فقال أبو مسلم حين ظهر أمره: لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه.
              قَالَ أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، قَالَ: خرج المغيرة بْن سعيد في سبعة نفر، وكانوا يدعون الوصفاء، وكان خروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسري بخروجهم وهو على المنبر، فقال: أطعموني ماء، فنعى ذلك عليه ابن نوفل،
              [هو يحيى بن نوفل، والشعر في البيان والتبيين: 2؛266،276، مع اختلاف في الرواية]
              فقال:
              أخالد لا جزاك الله خيرا ... وأير في أمك من أمير
              تمنى الفخر في قيس وقسر ... كأنك من سراة بني جرير
              وأمك علجة وأبوك وغد ... وما الاذناب عدلا للصدور
              جرير من ذوي يمن أصيل ... كريم الأصل ذو خطر كبير
              وأنت زعمت انك من يزيد ... وقد ادحقتم دحق العبور
              [الدحق: الدفع. لسان العرب (10/95)]

              وكنت لدى المغيرة عبد سوء ... تبول من المخافة للزئير
              وقلت لما أصابك: أطعموني ... شرابا ثم بلت على السرير
              لأعلاج ثمانية وشيخ ... كبير السن ليس بذي نصير.

              خبر مقتل بهلول بن بشر
              وفي هذه السنة حكم بهلول بْن بشر الملقب كثارة فقتل.
              ذكر الخبر عن مخرجه ومقتله:
              ذكر أبو عبيدة معمر بْن المثنى أن بهلولا كان يتأله،
              [يتأله: يتعبد. القاموس المحيط ص1603]

              وكان له قوت دانق، وكان مشهورا بالبأس عند هشام بْن عبد الملك، فخرج يريد الحج، فأمر غلامه أن يبتاع له خلا بدرهم، فجاءه غلامه بخمر، فامر بردها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية- وهي من السواد- فكلمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك، فمضى بهلول في حجه حتى فرغ منه، وعزم على الخروج على السلطان، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فاتعدوا قرية من قرى الموصل، فاجتمع بها أربعون رجلا، وأمروا عليهم البهلول، وأجمعوا على ألا يمروا بأحد إلا أخبروه أنهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، ووجههم إلى خالد لينفذهم في أعمالهم، فجعلوا لا يمرون بعامل إلا أخبروه بذلك وأخذوا دواب من دواب البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع فيها الغلام الخل فأعطي خمرا، قَالَ بهلول: نبدأ بهذا العامل الذي قَالَ ما قَالَ، فقال له أصحابه: نحن نريد قتل خالد، فان بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره، فننشدك الله ان تقتل هذا فيفلت منا خالد الذي يهدم المساجد، ويبني البيع والكنائس، ويولي المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات، لعلنا نقتله فيريح الله منه قَالَ:
              والله لا أدع ما يلزمني لما بعده، وأرجو أن أقتل هذا الذي قَالَ لي ما قَالَ وأدرك خالدا فاقتله، وإن تركت هذا وأتيت خالدا شهر أمرنا فأفلت هذا، وقد قَالَ الله عز وجل: «قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» ، قالوا: أنت ورأيك فأتاه فقتله، فنذر بهم الناس وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطريق هرابا، وخرجت البرد إلى خالد فأخبروه أن خارجة قد خرجت، وهم لا يدرون حينئذ من رئيسهم.
              فخرج خالد من واسط حتى اتى الحيرة وهو حينئذ في الحلق، وقد قدم في تلك الأيام قائد من أهل الشام من بني القين في جيش قد وجهوا مددا لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحيرة، فلذلك قصدها خالد، فدعا رئيسهم فقال: قاتل هؤلاء المارقة، فإن من قتل منهم رجلا أعطيته عطاء سوى ما قبض بالشام، وأعفيته من الخروج إلى أرض الهند- وكان الخروج إلى أرض الهند شاقا عليهم- فسارعوا إلى ذلك، فقالوا: نقتل هؤلاء النفر ونرجع إلى بلادنا فتوجه القينى اليهم في ستمائه، وضم إليهم خالد مائتين من شرط الكوفة، فالتقوا على الفرات، فعبأ القيني أصحابه، وعزل شرط الكوفة، فقال: لا تكونوا معنا- وإنما يريد في نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم فيكون الظفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد- وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتى عرف مكانه، ثم تنكر له، ومعه لواء أسود، فحمل عليه فطعنه في فرج درعه، فأنفذه فقال: قتلتني قتلك الله! فقال بهلول: إلى النار أبعدك الله.
              وولى أهل الشام مع شرط أهل الكوفة منهزمين حتى بلغوا باب الكوفة، وبهلول وأصحابه يقتلونهم فأما الشاميون فإنهم كانوا على خيل جياد ففاتوه، وأما شرط الكوفة فإنه لحقهم، فقالوا: اتق الله فينا فانا مكرهون مقهورون، فجعل يقرع رءوسهم بالرمح، ويقول: الحقوا! النجاء النجاء! ووجد البهلول مع القيني بدرة فأخذها .
              وكان بالكوفة ستة نفر يرون رأي البهلول، فخرجوا إليه يريدون اللحاق به فقتلوا، وخرج إليهم البهلول وحمل البدرة بين يديه، فقال: من قتل هؤلاء النفر حتى أعطيه هذه الدراهم؟ فجعل هذا يقول: أنا، وهذا يقول: أنا، حتى عرفهم، وهم يرون أنه من قبل خالد جاء ليعطيهم مالا لقتلهم من قتلوا فقال بهلول لأهل القرية: أصدق هؤلاء، هم قتلوا النفر؟ قالوا: نعم، وخشي بهلول أنهم ادعوا ذلك طمعا في المال، فقال لأهل القرية: انصرفوا أنتم، وأمر بأولئك فقتلوا، وعاب عليه أصحابه فحاجهم، فأقروا له بالحجة .
              وبلغت هزيمة القوم خالدا وخبر من قتل من أهل صريفين، فوجه قائدا من بني شيبان أحد بني حوشب بْن يزيد بْن رويم، فلقيهم فيما بين الموصل والكوفة، فشد عليهم البهلول، فقال: نشدتك بالرحم! فإني جانح مستجير! فكف عنه، وانهزم أصحابه، فأتوا خالدا وهو مقيم بالحيرة ينتظر، فلم يرعه إلا الفل قد هجم عليه، فارتحل البهلول من يومه يريد الموصل، فخافه عامل الموصل، فكتب إلى هشام: إن خارجة خرجت فعاثت وأفسدت، وأنه لا يأمن على ناحيته، ويسأله جندا يقاتلهم به، فكتب إليه هشام: وجه إليهم كثارة بْن بشر- وكان هشام لا يعرف البهلول إلا بلقبه- فكتب إليه العامل: إن الخارج هو كثارة.
              قَالَ: ثم قَالَ البهلول لأصحابه: إنا والله ما نصنع بابن النصرانية شيئا- يعني خالدا- وما خرجت إلا لله، فلم لا نطلب الرأس الذي يسلط خالدا وذوي خالد! فتوجه يريد هشاما بالشام، فخاف عمال هشام موجدته إن تركوه يجوز بلادهم حتى ينتهى الى الشام، فجند له خالد جندا من أهل العراق، وجند له عامل الجزيرة جندا من أهل الجزيرة، ووجه إليه هشام جندا من أهل الشام، فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول حتى انتهى إليهم- ويقال: التقوا بالكحيل دون الموصل- فأقبل بهلول، فنزل على باب الدير، فقالوا له: تزحزح عن باب الدير حتى نخرج إليك، فتنحى وخرجوا، فلما رأى كثرتهم وهو في سبعين جعل من أصحابه ميمنة وميسرة، ثم أقبل عليهم فقال: أكلكم يرجو أن يقتلنا ثم يأتي بلده وأهله سالما؟ قالوا: إنا نرجو ذلك إن شاء الله، فشد على رجل منهم فقتله، فقال: أما هذا فلا يأتي أهله أبدا، فلم يزل ذلك ديدنه حتى قتل منهم ستة نفر، فانهزموا، فدخلوا الدير فحاصرهم، وجاءتهم الأمداد فكانوا عشرين ألفا، فقال له أصحابه: ألا نعقر دوابنا، ثم نشد عليهم شدة واحدة؟ فقال: لا تفعلوا حتى نبلي الله عذرا ما استمسكنا على دوابنا، فقاتلوهم يومهم ذلك كله إلى جنح العصر حتى أكثروا فيهم القتل والجراح.
              ثم ان بهلولا وأصحابه عقروا دوابهم وترجلوا، وأصلتوا لهم السيوف، فأوجعوا فيهم، فقتل عامة أصحاب بهلول وهو يقاتل ويذود عن أصحابه، وحمل عليه رجل من جديلة قيس يكنى أبا الموت، فطعنه فصرعه، فوافاه من بقي من أصحابه، فقالوا له: ول أمرنا من بعدك من يقوم به، فقال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني، فإن هلك دعامة فأمير المؤمنين عمرو اليشكري، وكان أبو الموت إنما ختل البهلول ومات بهلول من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلاهم، فقال رجل من شعرائهم:
              لبئس أمير المؤمنين دعامة ... دعامة في الهيجاء شر الدعائم
              وقال الضحاك بْن قيس يرثي بهلولا، ويذكر أصحابه:
              بدلت بعد أبي بشر وصحبته ... قوما علي مع الأحزاب أعوانا
              كأنهم لم يكونوا من صحابتنا ... ولم يكونوا لنا بالأمس خلانا
              يا عين أذري دموعا منك تهتانا ... وابكي لنا صحبة بانوا وإخوانا
              خلوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها ... وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا
              قَالَ أبو عبيدة: لما قتل بهلول خرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل ثم خرج العنزي صاحب الأشهب- وبهذا كان يعرف- على خالد في ستين، فوجه إليه خالد السمط بْن مسلم البجلي في أربعة آلاف، فالتقوا بناحية الفرات، فشد العنزي على السمط، فضربه بين أصابعه فألقى سيفه، وشلت يده، وحمل عليهم فانهزمت الحرورية فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم، فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم.
              قَالَ أبو عبيدة: ثم خرج وزير السختياني على خالد في نفر، وكان مخرجه بالحيرة، فجعل لا يمر بقرية إلا أحرقها، ولا أحد إلا قتله، وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال، فوجه اليه خالد قائدا من أصحابه وشرطا من شرط الكوفة، فقاتلوه وهو في نفير، فقاتل حتى قتل عامة أصحابه، وأثخن بالجراح، فأخذ مرتثا، فأتى به خالد، فأقبل على خالد فوعظه، وتلا عليه آيات من القرآن فأعجب خالدا ما سمع منه، فأمسك عن قتله وحبسه عنده، وكان لا يزال يبعث إليه في الليالي فيؤتى به فيحادثه ويسائله، فبلغ ذلك هشاما وسعى به إليه، وقيل: أخذ حروريا قد قتل وحرق وأباح الأموال، فاستبقاه فاتخذه سميرا فغضب هشام، وكتب إلى خالد يشتمه، ويقول: لا تستبق فاسقا قتل وحرق، وأباح الأموال، فكان خالد يقول: إني أنفس به عن الموت لما كان يسمع من بيانه وفصاحته فكتب فيه إلى هشام يرقق من أمره- ويقال: بل لم يكتب ولكنه كان يؤخر أمره ويدفع عنه- حتى كتب إليه هشام يؤنبه ويأمره بقتله وإحراقه، فلما جاءه أمر عزيمة لا يستطيع دفعه بعث إليه وإلى نفر من أصحابه كانوا أخذوا معه، فامر بهم فادخلوا المسجد، وأدخلت أطنان القصب فشدوا فيها، ثم صب عليهم النفط، ثم أخرجوا فنصبوا في الرحبة، ورموا بالنيران، فما منهم أحد إلا من اضطراب وأظهر جزعا، إلا وزيرا فإنه لم يتحرك، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
              وفي هذه السنة غزا أسد بْن عبد الله الختل وفيها قتل اسد بدرطاخان ملك الختل.

              ذكر الخبر عن غزوة أسد الختل هذه الغزوة وسبب قتله بدر طرخان
              ذكر علي بْن محمد عن أشياخه الذين ذكرناهم قبل انهم قالوا: غزا اسد ابن عبد الله الختل وهي غزوة بدر طرخان، فوجه مصعب بْن عمرو الخزاعي إليها، فلم يزل مصعب يسير حتى نزل بقرب بدر طرخان، فطلب الأمان على أن يخرج إلى أسد فأجابه مصعب، فخرج إلى أسد فطلب منه أشياء فامتنع، ثم ساله بدر طرخان أن يقبل منه ألف ألف درهم، فقال له أسد: إنك رجل غريب من أهل الباميان، اخرج من الختل كما دخلتها فقال له بدر طرخان: دخلت أنت خراسان على عشرة من المحذفة، ولو خرجت منها اليوم لم تستقل على خمسمائة بعير، وغير ذلك أني دخلت الختل بشيء فاردده علي حتى أخرج منها كما دخلتها قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ: دخلتها شابا فكسبت المال بالسيف، ورزق الله أهلا وولدا، فاردد علي شبابي حتى أخرج منها، هل ترى أن أخرج من أهلي وولدي! فما بقائي بعد أهلي وولدي! فغضب أسد.
              قَالَ: وكان بدر طرخان يثق بالأمان، فقال له أسد: اختم في عنقك، فإني أخاف عليك معرة الجند، قَالَ: لست أريد ذلك، وأنا أكتفي من قبلك برجل يبلغ بي مصعبا فأبى أسد إلا أن يختم في عنقه، فختم في رقبته ودفعه إلى أبي الأسد مولاه، فسار به أبو الأسد، فانتهى إلى عسكر المصعب عند المساء وكان سلمة بْن أبي عبد الله في الموالي مع مصعب، فوافى أبو الأسد سلمة، وهو يضع الدراجة في موضعها، فقال سلمة لأبي الأسد: ما صنع الأمير في امر بدر طرخان؟ فقص الذى عرض عليه بدر طرخان وإباء أسد ذلك، وسرحه معه إلى المصعب ليدخله الحصن، فقال سلمة: إن الأمير لم يصب فيما صنع، وسينظر في ذلك ويندم، إنما كان ينبغي له أن يقبض ما عرض عليه أو يحبسه فلا يدخله حصنه، فإنا إنما دخلناه بقناطر اتخذناها، ومضايق أصلحناها، وكان يمنعه أن يغير علينا رجاء الصلح، فإما إذ يئس من الصلح فإنه لا يدع الجهد فدعه الليلة في قبتي، ولا تنطلق به إلى مصعب، فإنه ساعة ينظر إليه يدخله حصنه.
              قال: فأقام ابو الأسد وبدر طرخان معه في قبة سلمة، وأقبل أسد بالناس في طريق ضيق، فتقطع الجند، ومضى أسد حتى انتهى إلى نهر وقد عطش- ولم يكن أحد من خدمه- فاستسقى، وكان السغدي بْن عبد الرحمن ابو طعمه الحزمي معه شاكري له، ومع الشاكري قرن تبتي، فأخذ السغدي القرن، فجعل فيه سويقا، وصب عليه ماء من النهر، وحركه وسقى أسدا وقوما من رؤساء الجند، فنزل أسد في ظل شجرة، ودعا برجل من الحرس، فوضع رأسه في فخذه، وجاء المجشر بْن مزاحم السلمي يقود فرسه حتى قعد تجاهه حيث ينظر أسدا، فقال أسد: كيف أنت يا أبا العدبس؟ قَالَ: كنت أمس أحسن حالا مني اليوم، قَالَ: وكيف ذاك؟ قَالَ: كان بدر طرخان في أيدينا وعرض ما عرض، فلا الأمير قبل منه ما عرض عليه ولا هو شد يده عليه، لكنه خلى سبيله، وأمر بإدخاله حصنه لما عنده- زعم- من الوفاء فندم أسد عند ذلك، ودعا بدليل من أهل الختل ورجل من أهل الشام نافذ، فاره الفرس فأتى بهما، فقال للشامي: إن أنت أدركت بدرطرخان قبل أن يدخل حصنه فلك ألف درهم، فتوجها حتى انتهيا إلى عسكر مصعب، فنادى الشامي: ما فعل العلج؟ قيل: عند سلمة، وانصرف الدليل إلى أسد بالخبر، واقام الشامي مع بدرطرخان في قبة سلمه، وبعث اسد الى بدر طرخان فحوله اليه فشتمه، فعرف بدر طرخان أنه قد نقض عهده، فرفع حصاة فرمى بها إلى السماء، وقال: هذا عهد الله، وأخذ أخرى فرمى بها إلى السماء، وقال:
              هذا عهد محمد ص، وأخذ يصنع كذلك بعهد أمير المؤمنين وعهد المسلمين، فأمر أسد بقطع يده، وقال أسد: من هاهنا من أولياء
              ابى فديك رجل من الأزد قتله بدر طرخان، فقام رجل من الأزد فقال:
              أنا، قَالَ: اضرب عنقه، ففعل وغلب أسد على القلعة العظمى، وبقيت قلعة فوقها صغيرة فيها ولده وأمواله، فلم يوصل إليهم، وفرق أسد الخيل في أودية الختل.
              [وقد ذكر ابن كثير هذه الوقعة بلا إسناد (البداية والنهاية 7/201)]

              قَالَ: وقدم أسد مرو، وعليها أيوب بْن أبي حسان التميمي، فعزله واستعمل خالد بْن شديد، ابن عمه فلما شخص إلى بلخ بلغه أن عمارة بْن حريم تزوج الفاضلة بنت يزيد بْن المهلب، فكتب إلى خالد بْن شديد:
              احمل عمارة على طلاق ابنة يزيد، فإن أبى فاضربه مائة سوط، فبعث إليه فأتاه وعنده العذافر بْن زيد التميمي، فأمره بطلاقها، ففعل بعد إباء منه، وقال عذافر: عمارة والله فتى قيس وسيدها، وما بها عليه أبهة، أي ليست بأشرف منه فتوفي خالد بْن شديد، واستخلف الاشعث بن جعفر البجلي.
              وفيها شرى
              [شرى؛ أي اتخذ مذهب الشراة؛ وهم الخوارج. القاموس المحيط ص1676]
              الصحاري بْن شبيب، وحكم بجبل.
              ذكر خبره:
              ذكر عن أبي عبيدة معمر بْن المثنى أن الصحاري بْن شبيب أتى خالدا يسأله الفريضة، فقال: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة! فودعه ابن شبيب، ومضى، وندم خالد وخاف أن يفتق عليه فتقا، فأرسل إليه يدعوه، فقال:
              أنا كنت عنده آنفا، فأبوا أن يدعوه، فشد عليهم بسيفه، فتركوه فركب وسار حتى جاوز واسطا، ثم عقر فرسه وركب زورقا ليخفي مكانه، ثم قصد إلى نفر من بني تيم اللات بْن ثعلبة، كانوا بجبل، فأتاهم متقلدا سيفا فأخبرهم خبره وخبر خالد، فقالوا له: وما كنت ترجو بالفريضة! كنت لأن تخرج إلى ابن النصرانية فتضربه بسيفك أحرى فقال: إني والله ما اردت الفريضة، وما أردت إلا التوصل إليه لئلا ينكرني، ثم أقتل ابن النصرانية غيلة بقتله فلانا- وكان خالد قبل ذلك قد قتل رجلا من قعدة الصفرية صبرا- ثم دعاهم الصحاري إلى الوثوب معه فأجابه بعضهم، وقال بعضهم: ننتظر، وأبى بعضهم وقالوا: نحن في عافية، فلما رأى ذلك قَالَ:
              لم أرد منه الفريضة إلا ... طمعا في قتله أن أنالا
              فأريح الأرض منه وممن ... عاث فيها وعن الحق مالا
              كل جبار عنيد أراه ... ترك الحق وسن الضلالا
              إنني شار بنفسي لربي ... تارك قيلا لديهم وقالا
              بائع أهلي ومالي أرجو ... في جنان الخلد أهلا ومالا
              قال: فبايعه نحو من ثلاثين، فشرى بجبل، ثم سار حتى أتى المبارك.
              فبلغ ذلك خالدا، فقال: قد كنت خفتها منه ثم وجه اليه خالد جندا، فلقوه بناحية المناذر، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم انطووا عليه فقتلوه وقتلوا جميع أصحابه.
              [ذكر ابن كثير هذه الحادثة مختصرا وبدون إسناد انظر البداية والنهاية 7/201]


              ثم دخلت سنة عشرين ومائة
              ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث

              ذكر الخبر عن سبب وفاته:
              وكان سبب ذلك أنه كانت به- فيما ذكر- دبيلة
              [الدبيلة: دمل كبير يظهر في الجوف. النهاية (1/552)]
              في جوفه، فحضر المهرجان وهو ببلخ، فقدم عليه الأمراء والدهاقين، فكان ممن قدم عليه إبراهيم بْن عبد الرحمن الحنفي عامله على هراة وخراسان، ودهقان هراة، فقد ما بهدية قومت بألف ألف، فكان فيما قدما به قصران: قصر من فضة وقصر من ذهب، وأباريق من ذهب وأباريق من فضة وصحاف من ذهب وفضة، فأقبلا وأسد جالس على السرير، وأشراف خراسان على الكراسي، فوضعا القصرين، ثم وضعا خلفهما الأباريق والصحاف والديباج المروي والقوهي والهروي وغير ذلك، حتى امتلأ السماط، وكان فيما جاء به الدهقان أسدا كرة من ذهب، ثم قام الدهقان خطيبا، فقال: أصلح الله الأمير! إنا معشر العجم، أكلنا الدنيا أربعمائة سنة، أكلناها بالحلم والعقل والوقار، ليس فينا كتاب ناطق، ولا نبي مرسل، وكانت الرجال عندنا ثلاثة: ميمون النقيبة أينما توجه فتح الله على يده، والذي يليه رجل تمت مروته في بيته فان كان كذلك رجى وعظم، وقود وقدم، ورجل رحب صدره، وبسط يده فرجي، فإذا كان كذلك قود وقدم، وإن الله جعل صفات هؤلاء الثلاثة الذين أكلنا الدنيا بهم أربعمائة سنة فيك أيها الأمير، وما نعلم أحدا هو أتم كتخدانية منك، إنك ضبطت أهل بيتك وحشمك ومواليك، فليس منهم أحد يستطيع أن يتعدى على صغير ولا كبير، ولا غنى ولا فقير، فهذا تمام الكتخدانية، ثم بنيت الإيوانات في المفاوز، فيجيء الجائي من المشرق والآخر من المغرب، فلا يجدان عيبا إلا أن يقولا: سبحان الله ما أحسن ما بني! ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في مائة ألف، معه الحارث ابن سريج فهزمته وفللته، وقتلت أصحابه، وأبحت عسكره وأما رحب صدرك وبسط يدك، فإنا ما ندري أي المالين أقر لعينك؟ أمال قدم عليك، أم مال خرج من عندك! بل أنت بما خرج أقر عينا فضحك أسد، وقال: أنت خير دهاقين خراسان وأحسنهم هدية، وناوله تفاحة كانت في يده، وسجد له دهقان هراة، وأطرق أسد ينظر إلى تلك الهدايا، فنظر عن يمينه، فقال: يا عذافر بْن يزيد، مر من يحمل هذا القصر الذهب، ثم قَالَ: يا معن بْن أحمر رأس قيس- أو قَالَ قنسرين- مر بهذا القصر يحمل، ثم قَالَ: يا فلان خذ إبريقا، ويا فلان خذ إبريقا، وأعطى الصحاف حتى بقيت صحفتان، فقال: قم يا بن الصيداء، فخذ صحيفة، قَالَ: فأخذ واحدة فرزنها فوضعها، ثم أخذ الأخرى فرزنها، فقال له أسد: ما لك؟ قَالَ: آخذ أرزنهما، قَالَ: خذهما جميعا، وأعطى العرفاء وأصحاب البلاء، فقام أبو اليعفور- وكان يسير أمام صاحب خراسان في المغازي- فنادى: هلم إلى الطريق، فقال أسد: ما أحسن ما ذكرت بنفسك! خذ ديباجتين، وقام ميمون العذاب فقال: إلي، إلى يساركم، إلى الجادة، فقال: ما أحسن ما ذكرت نفسك! خذ ديباجة، قَالَ: فأعطى ما كان في السماط كله، فقال نهر بْن توسعة:
              تقلون إن نادى لروع مثوب ... وأنتم غداة المهرجان كثير
              ثم مرض أسد، فأفاق إفاقة فخرج يوما، فأتي بكمثرى أول ما جاء، فأطعم الناس منه واحدة واحدة، وأخذ كمثراة فرمى بها إلى خراسان دهقان هراة، فانقطعت الدبيلة، فهلك. واستخلف جعفرا البهراني، وهو جعفر بْن حنظلة سنة عشرين ومائة فعمل أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بْن سيار في رجب سنة إحدى وعشرين ومائة، فقال ابن عرس العبدي:
              نعى أسد بْن عبد الله ناع ... فريع القلب للملك المطاع
              ببلخ وافق المقدار يسري ... وما لقضاء ربك من دفاع
              فجودي عين بالعبرات سحا ... ألم يحزنك تفريق الجماع!
              أتاه حمامه فى جوف صيغ ... وكم بالصيغ من بطل شجاع!
              كتائب قد يجيبون المنادي ... على جرد مسومة سراع
              سقيت الغيث إنك كنت غيثا ... مريعا عند مرتاد النجاع
              وقال سليمان بْن قتة مولى بني تيم بْن مرة- وكان صديقا لأسد:
              سقى الله بلخا، سهل بلخ وحزنها ... ومروى خراسان السحاب المجمما
              وما بي لتسقاه ولكن حفرة ... بها غيبوا شلوا كريما وأعظما
              مراجم أقوام ومردى عظيمة ... وطلاب أوتار عفرنا عثمثما
              لقد كان يعطي السيف في الروع حقه ... ويروي السنان الزّاغبىّ المقوّما
              [هذا الخبر الطويل (7/139-141) ذكره الطبري بلا إسناد وكذلك ذكره ابن كثير بلا إسناد (البداية والنهاية 7/201)]

              امر شيعه بنى العباس بخراسان
              قَالَ أبو جعفر: وفي هذه السنة وجهت شيعة بني العباس بخراسان إلى محمد بْن علي بْن العباس سليمان بْن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه.
              ذكر الخبر عن سبب توجيههم سليمان إلى محمد:
              وكان السبب في ذلك موجدة كانت من محمد بْن علي على من كان بخراسان من شيعته من أجل طاعتهم، كانت لخداش الذي ذكرنا خبره قبل وقبولهم منه ما روي عليه من الكذب، فترك مكاتبتهم، فلما أبطأ عليهم كتابه، اجتمعوا فذكروا ذلك بينهم، فأجمعوا على الرضا بسليمان بْن كثير ليلقاه بأمرهم، ويخبره عنهم، ويرجع إليهم بما يرد عليه، فقدم- فيما ذكر- سليمان بْن كثير على محمد بْن علي وهو متنكر لمن بخراسان من شيعته، فأخبره عنهم، فعنفهم في اتباعهم خداشا وما كان دعا إليه، وقال: لعن الله خداشا ومن كان على دينه! ثم صرف سليمان إلى خراسان، وكتب إليهم معه كتابا، فقدم عليهم، ومعه الكتاب مختوما، ففضوا خاتمه فلم يجدوا فيه شيئا، إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، فغلظ ذلك عليهم وعلموا أن ما كان خداش أتاهم به لأمره مخالف.
              وفي هذه السنة وجه محمد بْن علي بكر بْن ماهان إلى شيعته بخراسان بعد منصرف سليمان بْن كثير من عنده إليهم، وكتب معه إليهم كتابا يعلمهم أن خداشا حمل شيعته على غير منهاجه فقدم عليهم بكير بكتابه فلم يصدقوه واستخفوا به، فانصرف بكير إلى محمد بْن علي، فبعث معه بعصي مضببة بعضها بالحديد وبعضها بالشبه، فقدم بها بكير وجمع النقباء والشيعة، ودفع إلى كل رجل منهم عصا، فعلموا أنهم مخالفون لسيرته، فرجعوا وتابوا.
              [ذكره الطبري كعادته في ذكر دعوة بني العباس بلا إسناد وانظر البداية والنهاية 7/202]

              وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن اعماله التي كان ولاه إياها كلها.
              ذكر سبب عزل هشام خالدا
              قد قيل في ذلك أقوال، نذكر ما حضرنا من ذلك ذكره، فمما قيل في ذلك: إن فروخ أبا المثنى كان قد تقبل من ضياع هشام بْن عبد الملك بموضع يقال له رستاق الرمان أو نهر الرمان- وكان يدعى بذلك فروخ الرماني- فثقل مكانه على خالد، فقال خالد لحسان النبطي: ويحك! اخرج إلى أمير المؤمنين فزد على فروخ، فخرج فزاد عليه ألف ألف درهم، فبعث هشام رجلين من صلحاء اهل الشام، فحازا الضياع، فصار حسان أثقل على خالد من فروخ، فجعل يضر به، فيقول له حسان: لا تفسدني وأنا صنيعتك! فأبى إلا الإضرار به، فلما قدم عليه بثق البثوق على الضياع، ثم خرج إلى هشام، فقال: إن خالدا بثق البثوق على ضياعك. فوجه هشام رجلا، فنظر إليها ثم رجع إلى هشام فأخبره، فقال حسان لخادم من خدم هشام: إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام، فلك عندي ألف دينار، قَالَ: فعجل لي الألف وأقول ما شئت، قَالَ: فعجلها له وقال له: بك صبيا من صبيان هشام، فإذا بكى فقل له: اسكت، والله لكأنك ابن خالد القسري الذي غلته ثلاثة عشر ألف ألف فسمعها هشام فأغضى عليها ثم دخل عليه حسان بعد ذلك، فقال له هشام: ادن مني فدنا منه، فقال: كم غلة خالد؟ قَالَ: ثلاثة عشر ألف ألف، قَالَ: فكيف لم تخبرني بهذا! قَالَ: وهل سألتني؟ فوقرت في نفس هشام، فأزمع على عزله.
              وقيل: كان خالد يقول لابنه يزيد: ما أنت بدون مسلمة بْن هشام، فإنك لتفخر على الناس بثلاث لا يفخر بمثلها أحد: سكرت دجلة ولم يتكلف ذلك أحد، ولي سقاية بمكة، ولي ولاية العراق.
              وقيل: إنما أغضب هشاما على خالد أن رجلا من قريش دخل على خالد فاستخف به وعضه بلسانه، فكتب إلى هشام يشكوه، فكتب هشام إلى خالد:
              أما بعد، فإن أمير المؤمنين- وإن كان أطلق لك يدك ورأيك فيمن استرعاك أمره، واستحفظك عليه، للذي رجا من كفايتك، ووثق به من حسن تدبيرك- لم يفرشك غره أهل بيته لتطأه بقدمك، ولا تحد إليه بصرك، فكيف بك وقد بسطت على غرتهم بالعراق لسانك بالتوبيخ، تريد بذلك تصغير خطره، واحتقار قدره، زعمت بالنصفة
              [النصفة: الانتصاف. القاموس المحيط ص1107]
              منه حتى أخرجك ذلك إلى الإغلاظ في اللفظ عليه في مجلس العامة، غير متحلحل له
              [غير متحلحل؛ أي غير متزحزح؛ يقال حلحله؛ إذا أزاله عن مكانه. القاموس المحيط ص1275]
              حين رأيته مقبلا من صدر مهادك الذي مهد له الله، وفي قومك من يعلوك بحسبه، ويغمرك بأوليته، فنلت مهادك بما رفع به آل عمرو من ضعتك خاصة، مساوين بك فروع غرر القبائل وقرومها
              [القروم: جمع قرم؛ وهو السيد. القاموس المحيط ص 1481]
              قبل أمير المؤمنين، حتى حللت هضبة أصبحت تنحو بها
              [تنحو بها؛ أي تطل وتشرف. القاموس المحيط ص1724]
              عليهم مفتخرا هذا إن لم يدهده بك قلة شكرك متحطما وقيذا
              [دهده الحجر فتدهده: دحرجه فتدحرج لسان العرب (3/434)، والوقيذ: الصريع. القاموس المحيط ص433]
              فهلا- يا بن مجرشة
              [المجرشة: الماشطة؛ يقال: جرش رأسه بالمشط؛ إذا حكه. القاموس المحيط ص 756]
              قومك- أعظمت رجلهم عليك داخلا، ووسعت مجلسه إذ رأيته إليك مقبلا، وتجافيت له عن صدر فراشك مكرما، ثم فاوضته مقبلا ببشرك، إكراما لأمير المؤمنين فإذا اطمأن به مجلسه نازعته بحيي السرار،
              [السرار: المسارة؛ أي جادلته في سرار مقرون بالحياء. القاموس المحيط ص 521]
              معظما لقرابته، عارفا لحقه، فهو سن البيتين ونابهم،
              [ناب القوم: سيدهم. القاموس المحيط ص179]
              وابن شيخ آل أبي العاص وحرب وغرتهم. وبالله يقسم أمير المؤمنين لك لولا ما تقدم من حرمتك وما يكره من شماتة عدوك بك لوضع منك ما رفع، حتى يردك إلى حال تفقد بها أهل الحوائج بعراقك، وتزاحم المواكب ببابك وما أقربني من أن أجعلك تابعا لمن كان لك تبعا، فانهض على أي حال ألفاك رسول أمير المؤمنين وكتابه، من ليل او نهار، ماشيا على قدمك بمن معك من خولك، حتى تقف على باب ابن عمرو صاغرا،
              [صاغرا: ذليلا. القاموس المحيط ص545]
              مستأذنا عليه، متنصلا إليه، أذن لك أو منعك، فإن حركته عواطف رحمة احتملك، وإن احتملته أنفة وحمية من دخولك عليك فقف ببابه حولا غير متحلحل ولا زائل، ثم أمرك بعد إليه، عزل أو ولى، انتصر أو عفا، فلعنك الله من متكل عليه بالثقة، ما أكثر هفواتك، وأقذع
              [القذع: الخنا والفحش. القاموس المحيط ص967]
              لأهل الشرف ألفاظك، التي لا تزال تبلغ أمير المؤمنين من إقدامك بها على من هو أولى بما أنت فيه من ولاية مصري العراق، وأقدم وأقوم وقد كتب أمير المؤمنين إلى ابن عمه بما كتب به إليك من إنكاره عليك، ليرى في العفو عنك والسخط عليك رأيه، مفوضا ذلك إليه مبسوطة فيه يده، محمودا عند أمير المؤمنين على أيهما آتى إليك، موفقا إن شاء الله تعالى.
              وكتب إلى ابن عمرو:
              أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، وفهم ما ذكرت من بسط خالد عليك لسانه في مجلس العامه محتقرا لقدرك، مستصغرا لقرابتك من أمير المؤمنين، وعواطف رحمه عليك وإمساكك عنه، تعظيما لأمير المؤمنين وسلطانه وتمسكا بوثائق عصم
              [العصم: جمع عصمة؛ وهي ما يعتصم به من عقد أو سبب. القاموس المحيط ص 1469]
              طاعته، مع مؤلم ما تداخلك من قبائح ألفاظه وشرارة منطقه، وإكثابه عليك عند إطراقك عنه، مرويا فيما أطلق أمير المؤمنين من لسانه،
              [الشرارة: مصدر؛ كالشر القاموس المحيط ص 531، وأكثب عليه: حمل وكر. القاموس المحيط ص 165، وروى في الأمر: نظر وفكر. القاموس المحيط ص1665]
              وأطال من عنانه، ورفع من ضعته، ونوه من خموله، وكذلك أنتم آل سعيد في مثلها عند هذر الذنابي
              [هذر في كلامه، كضرب ونصر: هذى، والذنابي: أذناب الناس وسفلتهم. القاموس المحيط ص 639]
              وطائشة أحلامها، صمت من غير إفحام، بل بأحلام تخف بالجبال وزنا وقد حمد أمير المؤمنين تعظيمك إياه، وتوقيرك سلطانه وشكره، وقد جعل أمر خالد إليك في عزلك إياه أو إقراره، فإن عزلته أمضى عزلك إياه، وإن أقررته فتلك منة لك عليه لا يشركك أمير المؤمنين فيها وقد كتب إليه أمير المؤمنين بما يطرد عنه سنة الهاجع عند وصوله إليه، يأمره بإتيانك راجلا على أية حال صادفه كتاب امير المؤمنين فيها، وألفاه رسوله الموجه إليه من ليله أو نهاره، حتى يقف ببابك، أذنت له أو حجبته، أقررته أو عزلته، وتقدم أمير المؤمنين إلى رسوله في ضربه بين يديك على رأسه عشرين سوطا إلا أن تكره أن يناله ذلك بسببك لحرمة خدمته، فأيهما رأيت إمضاءه كان لأمير المؤمنين في برك وعظم حرمتك وقرابتك وصلة رحمك موافقا، وإليه حبيبا، فيما ينوي من قضاء حق آل أبي العاص وسعيد فكاتب أمير المؤمنين فيما بدا لك مبتدئا ومجيبا ومحادثا وطالبا، ما عسى أن ينزل بك أهلك من أهل بيت أمير المؤمنين من حوائجهم التي تقعد بهم الحشمة عن تناولها من قبله لبعد دارهم عنه، وقلة إمكان الخروج لإنزالها به، غير محتشم من أمير المؤمنين، ولا مستوحش من تكرارها عليه، على قدر قرابتهم وأديانهم وأنسابهم، مستمنحا ومسترفدا، وطالبا مستزيدا، تجد أمير المؤمنين إليك سريعا بالبر لما يحاول من صلة قرابتهم، وقضاء حقوقهم، وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي، وإليه يرغب في العون على قضاء حق قرابته، وعليه يتوكل، وبه يثق والله وليه ومولاه والسلام.
              وقيل: إن خالدا كان كثيرا ما يذكر هشاما، فيقول: ابن الحمقاء. وكانت أم هشام تستحمق، وقد ذكرنا خبرها قبل.
              وذكر أنه كتب إلى هشام كتابا غاظه، فكتب اليه هشام: يا بن أم خالد، قد بلغني أنك تقول: ما ولاية العراق لي بشرف، فيابْن اللخناء، كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفا، وأنت من بجيلة القليلة الذليلة! أما والله إني لأظن أن أول من يأتيك صغير من قريش، يشد يديك إلى عنقك.
              وذكر أن هشاما كتب إليه: قد بلغني قولك: أنا خالد بْن عبد الله بْن يزيد بْن أسد بْن كرز، ما أنا بأشرف الخمسة أما والله لأردنك إلى بغلتك وطيلسانك الفيروزي.
              وذكر أن هشاما بلغه أنه يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاج إليك بنو أمير المؤمنين! فظهر الغضب في وجهه.
              وقيل: إن هشاما قدم عليه رجل من أهل الشام، فقال: إني سمعت خالدا ذكر أمير المؤمنين بما لا تنطلق به الشفتان، قَالَ: قَالَ: الأحول؟ قَالَ: لا، بل قَالَ أشد من ذلك، قَالَ: فما هو؟ قَالَ: لا أقوله أبدا، فلم يزل يبلغه عنه ما يكره حتى تغير له.
              وذكر أن دهقانا دخل على خالد، فقال: أيها الأمير، إن غلة. ابنك قد زادت على عشرة آلاف ألف، ولا آمن أن يبلغ هذا أمير المؤمنين فيستكثره. وإن الناس يحبون جسدك، وأنا أحب جسدك وروحك، قَالَ: إن أسد بْن عبد الله قد كلمني بمثل هذا، فأنت أمرته؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ويحك! دع ابني، فلربما طلب الدرهم فلم يقدر عليه.
              ثم عزم هشام- لما كثر عليه ما يتصل به عن خالد من الأمور التي كان يكرهها- على عزله، فلما عزم على ذلك أخفى ما قد عزم له عليه من أمره.

              ذكر الخبر عن عمل هشام عزل خالد حين صح عزمه على عزله
              ذكر عمر أن عبيد بْن جناد حدثه أنه سمع أباه وبعض الكتبة يذكر أن هشاما أخفى عزل خالد، وكتب إلى يوسف بخطه- وهو على اليمن- أن يقبل في ثلاثين من أصحابه فخرج يوسف حتى صار الى الكوفه، فعرس قريبا منها، وقد ختن طارق- خليفة خالد على الخراج- ولده، فأهدى له ألف عتيق وألف وصيف وألف وصيفة، سوى الأموال والثياب وغير ذلك، فمر العاس بيوسف وأصحابه ويوسف يصلي ورائحة الطيب تنفح من ثيابه، فقال: ما أنتم؟ قالوا: سفار، قَالَ: فأين تريدون؟ قالوا: بعض المواضع، فأتوا طارقا وأصحابه، فقالوا: إنا رأينا قوما أنكرناهم، والرأي أن نقتلهم، فإن كانوا خوارج استرحنا منهم، وإن كانوا يريدونكم عرفتم ذلك فاستعددتم على أمرهم فنهوهم عن قتلهم، فطافوا، فلما كان في السحر وقد انتقل يوسف وصار إلى دور ثقيف، فمر بهم العاس، فقال: ما أنتم؟ فقالوا: سفار، قَالَ: فأين تريدون؟ قالوا: بعض المواضع، فأتوا طارقا وأصحابه، فقالوا: قد صاروا إلى دور ثقيف والرأي أن نقتلهم، فمنعوهم وأمر يوسف بعض الثقفيين، فقال: اجمع لي من بها من مضر ففعل، فدخل المسجد مع الفجر، فأمر المؤذن بالإقامة، فقال: حتى يأتي الامام، فانتهره فأقام، وتقدم يوسف فقرأ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وسَأَلَ سائِلٌ، ثم أرسل إلى خالد وطارق وأصحابهما، فأخذوا وان القدور لتغلي.
              [لم نجد لوالد عبيد بن جناد ترجمة ولم نجد ما يؤيد هذا الخبر من مصدر متقدم والخبر فيه نكارة ومبالغة واضحة تدل على أن الخبر غير صحيح بل موضوع والله اعلم]

              قَالَ عمر: قَالَ علي بْن محمد، قَالَ: قَالَ الربيع بْن سابور مولى بني الحريش- وكان هشام جعل إليه الخاتم مع الحرس: اتى هشاما كتاب خالد فغاظه، وقدم عليه في ذلك اليوم جندب مولى يوسف بْن عمر بكتاب يوسف، فقرأه ثم قَالَ لسالم مولى عنبسة بْن عبد الملك: أجبه عن لسانك، وكتب هو بخطه كتابا صغيرا، ثم قَالَ لي: ائتني بكتاب سالم- وكان سالم على الديوان- فأتيته به، فأدرج فيه الكتاب الصغير، ثم قَالَ لي: اختمه ففعلت، ثم دعا برسول يوسف، فقال: إن صاحبك لمتعد طوره، ويسأل فوق قدره، ثم قَالَ لي: مزق ثيابه ثم أمر به فضرب أسواطا، فقال: أخرجه عني وادفع إليه كتابه فدفعت إليه الكتاب، وقلت له: ويلك! النجاء! فارتاب بشير بْن أبي ثلجة من أهل الأردن، وكان خليفة سالم وقال: هذه حيلة، وقد ولى يوسف العراق، فكتب إلى عامل لسالم على أجمة سالم، يقال له عياض: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني، فإذا أتاك فالبسه واحمد الله، وأعلم ذلك طارقا فبعث عياض إلى طارق بْن أبي زياد بالكتاب، وندم بشير على كتابه، وكتب إلى عياض: إن أهلك قد بدا لهم في إمساك الثوب فلا تتكل عليه، فجاء عياض بالكتاب الآخر إلى طارق، فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول، ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر الخبر فكتب بهذا وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط، فسار يوما وليلة، فصبحهم، فرآه داود البربري- وكان على حجابة خالد وحرسه وعلى ديوان الرسائل- فأعلم خالدا، فغضب، وقال: قدم بغير إذن، فأذن له، فلما رآه قَالَ: ما أقدمك؟ قَالَ: أمر كنت أخطأت فيه، قَالَ: وما هو؟ قَالَ: وفاة أسد رحمه الله، كتبت إلى الأمير أعزيه عنه، وإنما كان ينبغي لي أن آتيه ماشيا فرق خالد ودمعت عيناه، وقال: ارجع إلى عملك، قَالَ: أردت أن أذكر للأمير أمرا أسره، قَالَ: ما دون داود سر، قَالَ: أمر من أمري، فغضب داود وخرج، وأخبر طارق خالدا، قَالَ: فما الرأي؟ قَالَ: تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه من شيء إن كان بلغه عنك قَالَ: فبئس الرجل أنا إذا إن ركبت إليه بغير إذنه، قَالَ: فشيء آخر، قَالَ: وما هو؟ قَالَ: تسير في عملك، وأتقدمك إلى الشام، فأستأذنه لك، فإنك لا تبلغ أقصى عملك حتى يأتيك إذنه، قَالَ: ولا هذا، قَالَ: فأذهب فأضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهدك مستقبلا، قَالَ: وما يبلغ ذاك؟ قَالَ: مائة ألف ألف، قَالَ: ومن أين آخذ هذا! والله ما أجد عشرة آلاف درهم، قَالَ: أتحمل أنا وسعيد بْن راشد أربعين ألف ألف درهم، والزينبي وأبان بْن الوليد عشرين ألف ألف، وتفرق الباقي على العمال، قَالَ: إني إذا للئيم، إن كنت سوغت قوما شيئا ثم أرجع فيه، فقال طارق: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستأنف الدنيا، وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال، وهي عند تجار أهل الكوفة، فيتقاعسون ويتربصون بنا فنقتل، ويأكلون تلك الأموال فأبى خالد فودعه طارق وبكى، وقال: هذا آخر ما نلتقي في الدنيا، ومضى.
              ودخل داود، فأخبره خالد بقول طارق، فقال: قد علم أنك لا تخرج بغير إذن، فأراد أن يختلك ويأتي الشام، فيتقبل بالعراق هو وابن أخيه سعيد بْن راشد فرجع طارق إلى الكوفة، وخرج خالد الى الحمه.
              قال: وقدم رسول يوسف عليه اليمن، فقال له: ما وراءك؟ قَالَ: الشر، أمير المؤمنين ساخط، وقد ضربني ولم يكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان ففض الكتاب فقرأه، فلما انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطه: أن سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم بذاك أحد، وخذ ابن النصرانية وعماله فاشفني منهم، فقال يوسف: انظروا
              دليلا عالما بالطريق، فأتى بعدة، فاختار منهم رجلا وسار من يومه، واستخلف على اليمن ابنه الصلت فشيعه، فلما أراد أن ينصرف سأله:
              أين تريد؟ فضربه مائة سوط، وقال: يا بن اللخناء، أيخفى عليك إذا استقر بي منزل، فسار، فكان إذا اتى إلى طريقين سأل، فإذا قيل: هذا إلى العراق، قَالَ: أعرق، حتى أتى الكوفة.
              قَالَ عمر: قَالَ علي عن بشر بْن عيسى، عن أبيه، قَالَ: قَالَ حسان النبطي: هيأت لهشام طيبا، فإني لبين يديه وهو ينظر إلى ذلك الطيب إذ قَالَ لي: يا حسان، في كم يقدم القادم من العراق إلى اليمن؟ قَالَ: قلت: لا أدري، فقال:
              أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
              قَالَ: فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء كتاب يوسف من العراق قد قدمها، وذلك في جمادى الآخرة سنة عشرين ومائة.
              قَالَ عمر: قَالَ علي: قَالَ سالم زنبيل: لما صرنا إلى النجف قَالَ لي يوسف: انطلق فاتنى بطارق، فلم أستطع أن آبي عليه، وقلت في نفسي:
              من لي بطارق في سلطانه! ثم أتيت الكوفة، فقلت لغلمان طارق: استأذنوا لي على طارق، فضربوني فصحت له: ويلك يا طارق! أنا سالم رسول يوسف، وقد قدم على العراق فخرج فصاح بالغلمان، وقال: أنا آتيه.
              قَالَ: وروي أن يوسف قَالَ لكيسان: انطلق فاتنى بطارق، فإن كان قد أقبل فاحمله على أكاف، وإن لم يكن أقبل فأت به سحبا قَالَ: فأتيته بالحيرة دار عبد المسيح- وهو سيد أهل الحيرة- فقلت له: إن يوسف قد قدم على العراق، وهو يأمرك أن تشد طارقا وتأتيه به، فخرج هو وولده وغلمانه حتى أتوا منزل طارق- وكان لطارق غلام شجاع معه غلمان شجعاء لهم سلاح وعدة- فقال لطارق: إن أذنت لي خرجت إلى هؤلاء فيمن معي فقتلتهم، ثم طرت على وجهك فذهبت حيث شئت قَالَ: فأذن لكيسان، فقال: أخبرني عن الأمير، يريد المال؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأنا أعطيه ما سأل، وأقبلوا إلى يوسف فتوافوا بالحيرة، فلما عاينه ضربه ضربا مبرحا - يقال خمسمائة سوط- ودخل الكوفة، وأرسل عطاء بْن مقدم إلى خالد بالحمة. قَالَ عطاء: فأتيت الحاجب فقلت: استأذن لي على أبي الهيثم، فدخل وهو متغير الوجه فقال له خالد: مالك؟ قَالَ: خير، قَالَ: ما عندك خير، قَالَ: عطاء بْن مقدم، قَالَ: استأذن لي على أبي الهيثم، فقال: ائذن له، فدخلت: فقال: ويل أمها سخطة! قَالَ: فلم أستقر حتى دخل الحكم بْن الصلت، فقعد معه، فقال له خالد: ما كان ليلي علي أحد هو أحب إلي منكم.
              وخطب يوسف بالكوفة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني بأخذ عمال ابْن النصرانية، وأن أشفيه منهم، وسأفعل وأزيد والله يا أهل العراق، ولأقتلن منافقيكم بالسيف وجناتكم بالعذاب وفساقكم ثم نزل ومضى إلى واسط، وأتي بخالد وهو بواسط.
              قَالَ عمر: قَالَ حدثني الحكم بْن النضر: قَالَ: سمعت أبا عبيدة يقول: لما حبس يوسف خالدا صالحه عنه أبان بْن الوليد وأصحابه على تسعة آلاف ألف درهم، ثم ندم يوسف، وقيل له: لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف درهم قَالَ: ما كنت لأرجع وقد رهنت لساني بشيء وأخبر أصحاب خالد خالدا، فقال: قد أسأتم حين أعطيتموه عند أول وهلة تسعة آلاف ألف، ما آمن أن يأخذها ثم يعود عليكم، فارجعوا فجاءوا فقالوا: إنا قد أخبرنا خالدا فلم يرض بما ضمنا، وأخبرنا أن المال لا يمكنه، فقال: أنتم أعلم وصاحبكم، فأما أنا فلا أرجع عليكم، فإن رجعتم لم أمنعكم، قالوا: فإنا قد رجعنا، قَالَ: وقد فعلتم! قالوا: نعم، قال: فمنكم اتى النقض، فو الله لا ارضى بتسعه آلاف الف ولا مثليها ولا مثلها، فأخذ أكثر من ذلك. وقد قيل: إنه أخذ مائة ألف ألف .
              قَالَ الهيثم بْن عدي: أخبرني الحسن بْن عمارة، عن العريان بْن الهيثم، قَالَ: كنت كثيرا ما أقول لأصحابي: إني أحسب هذا الرجل قد تخلى منه، أن قريشا لا تحتمل هذا ونحوه، وهم أهل حسد، وهذا يظهر ما يظهر، فقلت له يوما: أيها الأمير، إن الناس قد رموك بأبصارهم، وهي قريش، وليس بينك وبينها إل، وهم يجدون منك بدا، وأنت لا تجد منهم بدا، فأنشدك الله إلا ما كتبت إلى هشام تخبره عن أموالك، وتعرض عليه منها ما أحب، فما أقدرك على أن تتخذ مثلها، وهو لا يستفسدك، وإن كان حريصا على ذلك فلعمري لأن يذهب بعض ويبقى بعض خير من أن تذهب كلها، وما كان يستحسن فيما بينك وبينه أن يأخذها كلها، ولا آمن أن يأتيه باغ أو حاسد فيقبل منه، فلأن تعطيه طائعا خير من أن تعطيه كارها فقال: ما أنت بمتهم، ولا يكون ذلك أبدا قَالَ: فقلت أطعني واجعلني رسولك، فو الله لا يحل عقدة إلا شددتها، ولا يشد عقدة إلا حللتها قَالَ: إنا والله لا نعطي على الذل، قَالَ: قلت: هل كانت لك هذه الضياع إلا في سلطانه! وهل تستطيع الامتناع منه إن أخذها! قَالَ: لا، قلت: فبادره، فإنه يحفظها لك ويشكرك عليها، ولو لم تكن له عندك يد إلا ما ابتدأك به كنت جديرا أن تحفظه، قَالَ: لا والله لا يكون ذلك أبدا، قَالَ: قلت فما كنت صانعا إذا عزلك وأخذ ضياعك فاصنعه، فإن إخوته وولده وأهل بيته قد سبقوا لك، وأكثروا عليه فيك، ولك صنائع تعود عليهم بما بدا لك، ثم استدرك استتمام ما كان منك إلى صنائعك من هشام قَالَ: قد أبصرت ما تقول وليس إلى ذلك سبيل وكان العريان يقول: كأنكم به قد عزل، وأخذ ما له وتجنى عليه ثم لا ينتفع بشيء قَالَ: فكان كذلك.
              قَالَ الهيثم: وحدثني ابن عياش، أن بلال بْن أبي بردة كتب إلى خالد وهو عامله على البصرة حين بلغه تعتب هشام عليه: أنه حدث أمر لا أجد بدا من مشافهتك فيه، فإن رأيت أن تأذن لي، فإنما هي ليلة ويومها إليك، ويوم عندك، وليلة ويومها منصرفا فكتب إليه: أن أقبل إذا شئت فركب هو وموليان له الجمازات، فسار يوما وليلة، ثم صلى المغرب بالكوفة، وهي ثمانون فرسخا، فأخبر خالد بمكانه، فأتاه وقد تعصب، فقال: أبا عمرو، أتعبت نفسك، قَالَ: أجل، قَالَ: متى عهدك بالبصرة؟ قَالَ: أمس، قَالَ: أحق ما تقول! قَالَ: هو والله ما قلت، قَالَ: فما أنصبك؟ قَالَ: ما بلغني من تعتب أمير المؤمنين وقوله، وما بغاك به ولده واهل بيته، فان رايت ان أتعرض له وأعرض عليه بعض أموالنا، ثم ندعوه منها إلى ما أحب وأنفسنا به طيبة، ثم أعرض عليه مالك، فما أخذ منه فعلينا العوض منه بعد قَالَ: ما اتهمك وحتى أنظر، قَالَ: إني أخاف أن تعاجل، قَالَ: كلا، قَالَ: إن قريشا من قد عرفت، ولا سيما سرعتهم إليك قَالَ: يا بلال، إني والله ما أعطي شيئا قسرا أبدا قَالَ أيها الأمير، أتكلم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: إن هشاما أعذر منك، يقول: استعملتك. وليس لك شيء، فلم تر من الحق عليك أن تعرض علي بعض ما صار إليك، وأخاف أن يزين له حسان النبطي ما لا تستطيع إدراكه، فاغتنم هذه الفترة. قَالَ: أنا ناظر في ذلك فانصرف راشدا فانصرف بلال وهو يقول: كأنكم بهذا الرجل قد بعث إليه رجل بعيد أتى،
              [الآتي: الدخيل في القوم. القاموس المحيط ص1624]
              به حمز،
              [الحمز: الشدة. القاموس المحيط ص 654]
              بغيض النفس سخيف الدين، قليل الحياء، يأخذه بالاحن والترات فكان كما قَالَ.
              قَالَ ابن عياش: وكان بلال قد اتخذ دارا بالكوفة، وإنما استأذن خالدا لينظر إلى داره، فما نزلها إلا مقيدا، ثم جعلت سجنا إلى اليوم.
              قَالَ ابن عياش: كان خالد يخطب فيقول: إنكم زعمتم أني أغلي أسعاركم، فعلى من يغليها لعنة الله! وكان هشام كتب إلى خالد لا تبيعن من الغلات شيئا حتى تباع غلات أمير المؤمنين حتى بلغت كيلجة درهما.
              [ الكيلجة: مكيال عندهم. القاموس المحيط ص260]
              قَالَ الهيثم، عن ابن عياش: كانت ولاية خالد في شوال سنة خمس ومائة ثم عزل في جمادى الأولى سنة عشرين ومائه.
              وقيل: إن يوسف لما قدم العراق أراد أن يولي خراسان سلم بْن قتيبة، فكتب بذلك إلى هشام، ويستأذنه فيه، فكتب إليه هشام: إن سلم بْن قتيبة رجل ليس له بخراسان عشيرة، ولو كان له بها عشيرة لم يقتل بها أبوه.
              وقيل إن يوسف كتب إلى الكرماني بولاية خراسان مع رجل من بني سليم وهو بمرو، فخرج إلى الناس يخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أسدا وقدومه خراسان، وما كانوا فيه من الجهد والفتنة، وما صنع لهم على يديه ثم ذكر أخاه خالدا بالجميل، وأثنى عليه، وذكر قدوم يوسف العراق، وحث الناس على الطاعة ولزوم الجماعة، ثم قَالَ: غفر الله للميت- يعني أسدا- وعافى الله المعزول، وبارك للقادم ثم نزل.

              ذكر الخبر عن سبب ولاية نصر بْن سيار خراسان
              ذكر علي بْن محمد عن شيوخه أن وفاة أسد بْن عبد الله لما انتهت إلى
              هشام بْن عبد الملك استشار أصحابه في رجل يصلح لخراسان، فأشاروا عليه بأقوام، وكتبوا له أسماءهم، فكان ممن كتب له عثمان بْن عبد الله بْن الشخير ويحيى بْن حضين بْن المنذر الرقاشي ونصر بْن سيار الليثي وقطن بْن قتيبة بْن مسلم والمجشر بْن مزاحم السلمي أحد بني حرام، فأما عثمان بن عبد الله ابن الشخير، فقيل له: إنه صاحب شراب، وقيل له: المجشر شيخ هم، وقيل له: ابن حضين رجل فيه تيه وعظمة، وقيل له: قطن بْن قتيبة موتور، فاختار نصر بن سيار، فقيل له: ليست له بها عشيرة، فقال هشام: أنا عشيرته فولاه وبعث بعهده مع عبد الكريم بْن سليط بْن عقبة الهفاني، هفان بْن عدي بْن حنيفة فأقبل عبد الكريم بعهده، ومعه أبو المهند كاتبه مولى بني حنيفة، فلما قدم سرخس ولا يعلم به أحد، وعلى سرخس حفص بْن عمر بْن عباد التيمي أخو تميم بْن عمر، فأخبره أبو المهند، فوجه حفص رسولا، فحمله إلى نصر، ونفذ ابن سليط إلى مرو، فأخبر أبو المهند الكرماني، فوجه الكرماني نصر بن حبيب بْن بحر بْن ماسك بْن عمر الكرماني إلى نصر بْن سيار، فسبق رسول حفص إلى نصر بْن سيار، فكان أول من سلم عليه بالإمرة، فقال له نصر: لعلك شاعر مكار! فدفع إليه الكتاب وكان جعفر بْن حنظلة ولى عمرو بْن مسلم مرو، وعزل الكرماني وولى منصور بْن عمر أبرشهر، وولى نصر بْن سيار بخارى، فقال جعفر ابن حنظلة: دعوت نصرا قبل أن يأتيه عهده بأيام، فعرضت عليه أن أوليه بخارى، فشاور البختري بْن مجاهد، فقال له البختري، وهو مولى بني شيبان: لا تقبلها، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأنك شيخ مضر بخراسان، فكأنك بعهدك قد جاء على خراسان كلها، فلما أتاه عهده بعث إلي البختري فقال البختري لأصحابه: قد ولي نصر بْن سيار خراسان، فلما أتاه سلم عليه بالإمرة، فقال له: إني علمت؟ قَالَ: لما بعثت إلي، وكنت قبل ذلك تأتيني، علمت أنك قد وليت.
              قَالَ: وقد قيل إن هشاما قَالَ لعبد الكريم حين أتاه خبر أسد بْن عبد الله بموته: من ترى أن نولي خراسان، فقد بلغني أن لك بها وبأهلها علما؟
              قَالَ عبد الكريم: قلت: يا أمير المؤمنين، أما رجل خراسان حزما ونجدة فالكرماني، فأعرض بوجهه، وقال: ما اسمه؟ قلت: جديع بْن علي، قَالَ: لا حاجة لي فيه، وتطير، وقال: سم لي غيره، قلت: اللسن المجرب يحيى بْن نعيم بْن هبيرة الشيباني أبو الميلاء، قَالَ: ربيعة لا تسد بها الثغور- قَالَ عبد الكريم: فقلت في نفسي: كره ربيعة واليمن، فأرميه بمضر- فقلت: عقيل بْن معقل الليثي، إن اغتفرت هنة، قَالَ: ما هي؟
              قلت: ليس بالعفيف، قَالَ: لا حاجة لي به، قلت: منصور بْن أبي الخرقاء السلمي، إن اغتفرت نكرة فإنه مشئوم، قَالَ: غيره، قلت: المجشر بْن مزاحم السلمي، عاقل شجاع، له رأي مع كذب فيه، قَالَ: لا خير في الكذب، قلت: يحيى بْن حضين، قَالَ: ألم أخبرك أن ربيعة لا تسد بها الثغور! قَالَ: فكان إذا ذكرت له ربيعة، واليمن أعرض قَالَ عبد الكريم: وأخرت نصرا وهو أرجل القوم وأحزمهم وأعلمهم بالسياسة، فقلت: نصر بْن سيار الليثي، قَالَ: هو لها، قلت: إن اغتفرت واحدة، فإنه عفيف مجرب عاقل، قَالَ: ما هي؟ قلت: عشيرته بها قليلة، قَالَ: لا أبا لك، أتريد عشيرة أكثر مني! أنا عشيرته.
              وقال آخرون: لما قدم يوسف بْن عمر العراق قال: أشيروا على برجل اوله خراسان، فأشاروا عليه بمسلمة بْن سليمان بْن عبد الله ابن خازم وقديد بْن منيع المنقري ونصر بْن سيار وعمرو بْن مسلم ومسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم ومنصور بْن أبي الخرقاء وسلم بْن قتيبة ويونس بْن عبد ربه وزياد بْن عبد الرحمن القشيري، فكتب يوسف بأسمائهم إلى هشام، وأطرى القيسية، وجعل آخر من كتب اسمه نصر بْن سيار الكناني، فقال هشام:
              ما بال الكناني آخرهم! وكان في كتاب يوسف إليه: يا أمير المؤمنين، نصر بخراسان قليل العشيرة فكتب إليه هشام: قد فهمت كتابك وإطراءك القيسية وذكرت نصرا وقلة عشيرته، فكيف يقل من أنا عشيرته! ولكنك تقيست علي، وأنا متخندف عليك، ابعث بعهد نصر، فلم يقل من عشيرته أمير المؤمنين، بله ما إن تميما أكثر أهل خراسان فكتب إلى نصر أن يكاتب يوسف بْن عمر، وبعث يوسف سلما وافدا إلى هشام، وأثنى عليه فلم يوله، ثم أوفد شريك بْن عبد ربه النميري، وأثنى عليه ليوليه خراسان، فأبى عليه هشام.
              قَالَ: وأوفد نصر من خراسان الحكم بْن يزيد بْن عمير الأسدي إلى هشام، وأثنى عليه نصر، فضربه يوسف ومنعه من الخروج إلى خراسان، فلما قدم يزيد بْن عمر بْن هبيرة استعمل الحكم بْن يزيد على كرمان، وبعث بعهد نصر مع عبد الكريم الحنفي- ومعه كاتبه أبو المهند مولى بني حنيفة- فلما أتى سرخس وقع الثلج، فأقام ونزل على حفص بْن عمر بْن عباد التيمي، فقال له: قدمت بعهد نصر على خراسان، قَالَ: وهو عامل يومئذ على سرخس- فدعا حفص غلامه، فحمله على فرس وأعطاه مالا، وقال له: طر واقتل الفرس، فإن قام عليك فاشتر غيره حتى تأتي نصرا قَالَ: فخرج الغلام حتى قدم على نصر ببلخ، فيجده في السوق، فدفع إليه الكتاب، فقال: أتدري ما في هذا الكتاب؟ قَالَ: لا، فأمسكه بيده، وأتى منزله، فقال الناس: أتى نصرا عهده على خراسان، فأتاه قوم من خاصته، فسألوه فقال: ما جاءني شيء، فمكث يومه، فدخل عليه من الغد أبو حفص بْن علي، أحد بني حنظلة- وهو صهره، وكانت ابنته تحت نصر، وكان أهوج كثير المال، فقال له: إن الناس قد خاضوا وأكثروا في ولايتك، فهل جاءك شيء؟ فقال: ما جاءني شيء، فقام ليخرج فقال: مكانك، وأقرأه الكتاب، فقال: ما كان حفص ليكتب إليك إلا بحق، قَالَ: فبينا هو يكلمه إذ استأذن عليه عبد الكريم، فدفع إليه عهده، فوصله بعشرة آلاف درهم ثم استعمل نصر على بلخ مسلم بْن عبد الرحمن بن مسلم، واستعمل وشاح ابن بكير بْن وشاح على مرو الروذ، والحارث بْن عبد الله بْن الحشرج على هراة، وزياد بْن عبد الرحمن القشيري على أبرشهر، وأبا حفص بْن علي ختنه على خوارزم، وقطن بْن قتيبة على السغد فقال رجل من أهل الشام من اليمانية: ما رأيت عصبية مثل هذه! قَالَ: بلى، التي كانت قبل هذه فلم يستعمل أربع سنين إلا مضريا، وعمرت خراسان عمارة لم تعمر قبل ذلك مثلها، ووضع الخراج، وأحسن الولاية والجباية، فقال سوار بْن الأشعر:
              أضحت خراسان بعد الخوف آمنة ... من ظلم كل غشوم الحكم جبار
              لما أتى يوسفا أخبار ما لقيت ... اختار نصرا لها، نصر بْن سيار
              وقال نصر بْن سيار فيمن كره ولايته:
              تعز عن الصبابة لا تلام ... كذلك لا يلم بك احتمام
              أإن سخطت كبيرة بعد قرب ... كلفت بها وباشرك السقام!
              ترجى اليوم ما وعدت حديثا ... وقد كذبت مواعدها الكرام
              ألم تر ان ما صنع الغواني ... عسير لا يريع به الكلام
              أبت لي طاعتي وأبى بلائي ... وفوزي حين يعترك الخصام
              وإنا لا نضيع لنا ملما ... ولا حسبا إذا ضاع الذمام
              ولا نغضي على غدر وإنا ... نقيم على الوفاء فلا نلام
              خليفتنا الذي فازت يداه ... بقدح الحمد والملك الهمام
              نسوسهم به ولنا عليهم ... إذا قلنا مكارمه جسام
              أبو العاصي أبوه وعبد ... شمس وحرب والقماقمة الكرام
              ومروان أبو الخلفاء عال ... عليه المجد فهو لهم نظام
              وبيت خليفة الرحمن فينا ... وبيتاه المقدس والحرام
              ونحن الأكرمون إذا نسبنا ... وعرنين البرية والسنام
              فأمسينا لنا من كل حي ... خراطيم البرية والزمام
              لنا أيد نريش بها ونبري ... وأيد في بوادرها السمام
              وبأس في الكريهة حين نلقى ... إذا كان النذير بها الحسام
              قال: وأتى نصرا عهده في رجب من سنة عشرين ومائة، وقال له البختري:
              اقرأ عهدك واخطب الناس، فخطب الناس فقال في خطبته: استمسكوا أصحابنا بجدتكم، فقد عرفنا خيركم وشركم.




              وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
              أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

              تعليق


              • #52
                رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة
                (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

                فمن ذلك غزوة مسلمة بْن هشام بْن عبد الملك الروم، فافتتح بها مطامير. وغزوة مروان بْن محمد بلاد صاحب سرير الذهب، فافتتح قلاعه وخرب أرضه، وأذعن له بالجزية، في كل سنة ألف رأس يؤديه إليه، وأخذ منه بذلك الرهن، وملكه مروان على أرضه.
                [انظر البداية والنهاية (7/203) والمنتظم (7/207)]

                وفيها ولد العباس بن محمد.
                اختلف في سبب خروجه، فأما الهيثم بْن عدي فإنه قَالَ- فيما ذكر عنه، عن عبد الله بْن عياش- قَالَ: قدم زيد بْن علي ومحمد بْن عمر بْن علي بْن أبي طالب وداود بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس على خالد بْن عبد الله وهو على العراق، فأجازهم ورجعوا إلى المدينة، فلما ولي بن يوسف بْن عمر كتب إلى هشام بأسمائهم وبما أجازهم به، وكتب يذكر أن خالدا ابتاع من زيد بْن علي أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم رد الأرض عليه فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسرحهم إليه ففعل، فسألهم هشام فأقروا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، فسأل زيدا عن الأرض فأنكرها، وحلفوا لهشام فصدقهم.
                وأما هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي، فإنه ذكر أن أبا مخنف حدثه أن أول أمر زيد بْن علي كان أن يزيد بْن خالد القسري ادعى مالا قبل زيد بْن علي ومحمد بْن عمر بْن علي بْن أبي طالب وداود بْن علي بْن عبد الله بْن العباس ابن عبد المطلب وإبراهيم بْن سعد بْن عبد الرحمن بْن عوف الزهري وأيوب بْن سلمة بْن عبد الله بْن الوليد بْن المغيرة المخزومي، فكتب فيهم يوسف بْن عمر إلى هشام بْن عبد الملك- وزيد بْن على يومئذ بالرصافة يخاصم بنى الحسن ابن الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي صدقه رسول الله ص، ومحمد بْن عمر بْن علي يومئذ مع زيد بْن علي- فلما قدمت كتب يوسف ابن عمر على هشام بْن عبد الملك بعث إليهم فذكر لهم ما كتب به يوسف ابن عمر إليه مما ادعى قبلهم يزيد بْن خالد، فأنكروا، فقال لهم هشام: فإنا باعثون بكم اليه يجمع بينكم وبينه، فقال له زيد بْن علي: أنشدك الله والرحم أن تبعث بي إلى يوسف بْن عمر! قَالَ: وما الذي تخاف من يوسف بْن عمر؟ قَالَ: أخاف أن يعتدي علي، قَالَ له هشام: ليس ذلك له، ودعا هشام كاتبه فكتب إلى يوسف بْن عمر:
                أما بعد، فإذا قدم عليك فلان وفلان، فاجمع بينهم وبين يزيد بْن خالد القسري، فإن هم أقروا بما ادعى عليهم فسرح بهم إلي، وإن هم أنكروا فسله بينة، فإن هو لم يقم البينة فاستحلفهم بعد العصر بالله الذي لا إله إلا هو، ما استودعهم يزيد بْن خالد القسري وديعة ولا له قبلهم، شيء! ثم خل سبيلهم.
                فقالوا لهشام: إنا نخاف أن يتعدى كتابك، ويطول علينا، قَالَ: كلا، أنا باعث معكم رجلا من الحرس يأخذه بذلك، حتى يعجل الفراغ، فقالوا: جزاك الله والرحم خيرا، لقد حكمت بالعدل فسرح بهم إلى يوسف، واحتبس أيوب بْن سلمة، لأن أم هشام بْن عبد الملك ابنه هشام ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو في أخواله، فلم يؤخذ بشيء من ذلك القرف.
                فلما قدموا على يوسف، ادخلوا عليه، فأجلس زيد بْن علي قريبا منه، وألطفه في المسألة، ثم سألهم عن المال، فأنكروا جميعا، وقالوا: لم يستودعنا مالا، ولا له قبلنا حق، فأخرج يوسف يزيد بْن خالد إليهم، فجمع بينه وبينهم، وقال له: هذا زيد بْن علي، وهذا محمد بْن عمر بْن علي، وهذا فلان وفلان الذين كنت ادعيت عليهم ما ادعيت، فقال: ما لي قبلهم قليل ولا كثير، فقال يوسف: أفبي تهزأ أم بأمير المؤمنين! فعذبه يومئذ عذابا ظن أنه قد قتله، ثم أخرجهم إلى المسجد بعد صلاة العصر، فاستحلفهم فحلفوا له، وامر بالقوم فبسط عليهم، ما عدا زيد بْن علي فإنه كف عنه فلم يقتدر عند القوم على شيء فكتب إلى هشام يعلمه الحال، فكتب إليه هشام: أن استحلفهم، وخل سبيلهم، فخلى عنهم فخرجوا فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بْن علي بالكوفة.
                وذكر عبيد بْن جناد، عن عطاء بْن مسلم الخفاف أن زيد بْن علي رأى في منامه أنه أضرم في العراق نارا، ثم أطفأها ثم مات فهالته، فقال لابنه يحيى: يا بني، إني رأيت رؤيا قد راعتني، فقصها عليه وجاءه كتاب هشام بْن عبد الملك بأمره بالقدوم عليه، فقدم، فقال له: الحق بأميرك يوسف، فقال له: نشدتك بالله يا أمير المؤمنين، فو الله ما آمن إن بعثتني إليه ألا أجتمع أنا وأنت حيين على ظهر الأرض بعدها، فقال: الحق بيوسف كما تؤمر، فقدم عليه.
                وقد قيل: إن هشام بْن عبد الملك إنما استقدم زيدا من المدينة عن كتاب يوسف بْن عمر، وكان السبب في ذلك- فيما زعم أبو عبيدة- أن يوسف بْن عمر عذب خالد بْن عبد الله، فادعى خالد أنه استودع زيد بْن علي وداود بن على ابن عبد الله بْن عباس ورجلين من قريش: أحدهما مخزومي والآخر جمحي مالا عظيما، فكتب بذلك يوسف إلى هشام، فكتب هشام إلى خاله ابراهيم ابن هشام- وهو عامله على المدينة- يأمره بحملهم إليه فدعا إبراهيم بْن هشام زيدا وداود، فسألهما عما ذكر خالد، فحلفا ما أودعهما خالد شيئا، فقال: إنكما عندي لصادقان، ولكن كتاب أمير المؤمنين قد جاء بما تريان، فلا بد من إنفاذه فحملهما إلى الشام، فحلفا بالأيمان الغلاظ ما أودعهما خالد شيئا قط وقال داود: كنت قدمت عليه العراق، فأمر لي بمائة ألف درهم، فقال هشام: أنتما عندي أصدق من ابن النصرانية، فأقدما على يوسف، حتى يجمع بينكما وبينه فتكذباه في وجهه. وقيل: إن زيدا إنما قدم على هشام مخاصما ابن عمه عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي، ذكر ذلك عن جويرية بْن أسماء، قَالَ: شهدت زيد بْن علي وجعفر بْن حسن بْن حسن يختصمان في ولاية وقوف علي، وكان زيد يخاصم عن بني حسين، وجعفر يخاصم عن بني حسن، فكان جعفر وزيد يتبالغان بين يدي الوالي إلى كل غاية، ثم يقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفا، فلما مات جعفر قَالَ عبد الله: من يكفينا زيدا؟ قَالَ حسن بْن حسن بْن حسن: أنا أكفيكه، قَالَ: كلا، إنا نخاف لسانك ويدك، ولكني أنا، قَالَ: إذن لا تبلغ حاجتك وحجتك، قَالَ: أما حجتي فسأبلغها، فتنازعا إلى الوالي- والوالي يومئذ عندهم فيما قيل إبراهيم بْن هشام- قَالَ: فقال عبد الله لزيد: أتطمع أن تنالها وأنت لأمة سندية! قَالَ:
                قد كان إسماعيل لأمة، فنال أكثر منها، فسكت عبد الله، وتبالغا يومئذ كل غاية، فلما كان الغد أحضرهم الوالي، وأحضر قريشا والأنصار، فتنازعا، فاعترض رجل من الأنصار، فدخل بينهما، فقال له زيد: وما أنت والدخول بيننا، وأنت رجل من قحطان! قَالَ: أنا والله خير منك نفسا وأبا وأما. قَال: فسكت زيد، وانبرى له رجل من قريش فقال: كذبت، لعمر الله لهو خير منك نفسا وأبا وأما وأولا وآخرا، وفوق الأرض وتحتها، فقال الوالي: وما أنت وهذا! فأخذ القرشي كفا من الحصى، فضرب به الأرض وقال: والله ما على هذا من صبر، وفطن عبد الله وزيد لشماتة الوالي بهما، فذهب عبد الله ليتكلم، فطلب إليه زيد فسكت، وقال زيد للوالي: أما والله لقد جمعتنا لأمر ما كان أبو بكر ولا عمر ليجمعانا على مثله، وإني أشهد الله ألا أنازعه إليك محقا ولا مبطلا ما كنت حيا ثم قال لعبد الله: انهض يا بن عم، فنهضا وتفرق الناس.
                وقال بعضهم: لم يزل زيد ينازع جعفر بْن حسن ثم عبد الله بعده،
                حتى ولى هشام بْن عبد الملك خالد بْن عبد الملك بْن الحارث بْن الحكم المدينة، فتنازعا، فأغلظ عبد الله لزيد، وقال: يا بن الهندكية! فتضاحك زيد، وقال: قد فعلتها يا أبا محمد! ثم ذكر أمه بشيء.
                وذكر المدائني أن عبد الله لما قَالَ ذلك لزيد قَالَ زيد: أجل والله، لقد صبرت بعد وفاة سيدها فما تعتبت بابها إذ لم يصبر غيرها قَالَ: ثم ندم زيد واستحيا من عمته، فلم يدخل عليها زمانا، فاسلت اليه: يا بن أخي، إني لأعلم أن أمك عندك كأم عبد الله عنده.
                وقيل: إن فاطمة أرسلت إلى زيد: أن سب عبد الله أمك فاسبب أمه، وإنها قَالَت لعبد الله: أقلت لأم زيد كذا وكذا؟ قَالَ: نعم، قالت: فبئس والله ما صنعت! اما والله لنعم دخيلة القوم كانت!
                فذكر أن خالد بْن عبد الملك، قَالَ لهما: اغدوا علينا غدا، فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما فباتت المدينة تغلي كالمرجل، يقول قائل:
                كذا وقائل كذا، قائل يقول قَالَ زيد كذا، وقائل يقول: قَالَ عبد الله كذا.
                فلما كان الغد جلس خالد في المجلس في المسجد، واجتمع الناس، فمن شامت ومن مهموم، فدعا بهما خالد، وهو يحب أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد: لا تعجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا، ثم أقبل على خالد فقال له: يا خالد، لقد جمعت ذرية رسول الله ص لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر، قَالَ خالد: أما لهذا السفيه أحد! فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم، فقال: يا بن ابى تراب وابن حسين السفيه، ما ترى لوال عليك حقا ولا طاعة! فقال زيد: اسكت أيها القحطاني، فإنا لا نجيب مثلك، قَالَ: ولم ترغب عنى! فو الله إني لخير منك، وأبي خير من أبيك، وأمي خير من أمك! فتضاحك زيد، وقال: يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب، افذهبت الاحساب! فو الله إنه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم.
                فتكلم عبد الله بْن واقد بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فقال: كذبت والله ايها القحطانى، فو الله لهو خير منك نفسا وأبا وأما ومحتدا، وتناوله بكلام كثير، قَالَ القحطاني: دعنا منك يا بن واقد، فأخذ ابن واقد كفا من حصى، فضرب بها الأرض، ثم قَالَ له: والله ما لنا على هذا صبر، وقام.
                وشخص زيد إلى هشام بْن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص، فكلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها: ارجع إلى أميرك، فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبدا، وما أسأل مالا، إنما أنا رجل مخاصم، ثم أذن له يوما بعد طول حبس.
                فذكر عمر بْن شبة، عن أيوب بْن عمر بْن ابى عمرو، قَالَ: حدثني محمد بْن عبد العزيز الزهري قَالَ: لما قدم زيد بْن علي على هشام بْن عبد الملك أعلمه حاجبه بمكانه، فرقي هشام إلى علية له طويلة، ثم أذن له، وأمر خادما أن يتبعه، وقال: لا يرينك، واسمع ما يقول قال: فاتعبته الدرجة- وكان بادنا- فوقف في بعضها، فقال: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل، فلما صار إلى هشام قضى حوائجه، ثم مضى نحو الكوفة، ونسي هشام أن يسأل الخادم حتى مضى لذلك أيام، ثم سأله فأخبره، فالتفت إلى الأبرش فقال. والله ليأتينك خلعه أول شيء، وكان كما قَالَ .
                [في إسناده محمد بن عبد العزيز الزهري وهو منكر الحديث]

                رجع الحديث إلى حديث هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي عن أبي مخنف قَالَ:
                فجعلت الشيعة تختلف إلى زيد بْن علي، وتأمره بالخروج، ويقولون: إنا لنرجو أن تكون المنصور، وأن يكون هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية.
                فأقام بالكوفة، فجعل يوسف بْن عمر يسأل عنه، فيقال: هو هاهنا، فيبعث إليه أن اشخص، فيقول: نعم، ويعتل له بالوجع فمكث ما شاء الله، ثم سأل أيضا عنه فقيل له: هو مقيم بالكوفة بعد لم يبرح، فبعث إليه، فاستحثه بالشخوص، فاعتل عليه بأشياء يبتاعها، وأخبره أنه في جهازه، ورأى جد يوسف في أمره فتهيأ، ثم شخص حتى أتى القادسية وقال بعض الناس: أرسل معه رسولا حتى بلغه العذيب، فلحقته الشيعة، فقالوا له: أين تذهب عنا ومعك مائة ألف رجل من أهل الكوفة، يضربون دونك بأسيافهم غدا وليس قبلك من أهل الشام إلا عدة قليلة، لو أن قبيلة من قبائلنا نحو مذحج أو همدان أو تميم أو بكر نصبت لهم لكفتكهم بإذن الله تعالى! فننشدك الله لما رجعت، فلم يزالوا به حتى ردوه إلى الكوفة.
                وأما أبو عبيدة، فذكر عنه، أنه قَالَ: صدق هشام زيدا ومن كان يوسف قرفه بما قرفه به، ووجههم إلى يوسف، وقال: إنهم قد حلفوا لي، وقبلت أيمانهم وأبرأتهم من المال، وإنما وجهت بهم إليك لتجمع بينهم وبين خالد فيكذبوه قَالَ: ووصلهم هشام، فلما قدموا على يوسف أنزلهم وأكرمهم، وبعث إلى خالد فأتى به، فقال: قد حلف القوم، وهذا كتاب أمير المؤمنين ببراءتهم، فهل عندك بينة بما ادعيت؟ فلم تكن له بينة، فقال القوم لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قَالَ: غلظ علي العذاب فادعيت ما ادعيت، وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم فأطلقهم يوسف، فمضى القرشيان: الجمحي والمخزومي إلى المدينة، وتخلف الهاشميان: داود بن على وزيد ابن علي بالكوفة.
                وذكر عن أبي عبيدة، أنه قَالَ: أتبعوه إلى الثعلبية وقالوا له: نحن اربعون
                ألفا، إن رجعت إلى الكوفة لم يتخلف عنك أحد، وأعطوه المواثيق والأيمان المغلظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدي. فيحلفون له، فيقول داود بْن على: يا بن عم، إن هؤلاء يغرونك من نفسك! أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك، جدك علي بْن أبي طالب حتى قتل! والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه، وانتهبوا فسطاطه، وجرحوه! او ليس قد أخرجوا جدك الحسين، وحلفوا له بأوكد الأيمان ثم خذلوه وأسلموه، ثم لم يرضوا بذلك حتى قتلوه! فلا تفعل ولا ترجع معهم فقالوا: إن هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أحق بهذا الأمر منكم، فقال: زيد لداود: إن عليا كان يقاتله معاوية بدهائه ونكرائه بأهل الشام، وإن الحسين قاتله يزيد بْن معاوية والأمر عليهم مقبل، فقال له داود: إني لخائف إن رجعت معهم ألا يكون أحد أشد عليك منهم، وأنت أعلم ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة.
                وذكر عمر عن ابى إسحاق- شيخ من أهل أصبهان حدثه- أن عبد الله ابن حسن كتب الى زيد بن على: يا بن عم، إن أهل الكوفة نفخ العلانية، خور السريرة، هوج في الرخاء، جزع في اللقاء، تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، لا يبيتون بعده في الأحداث، ولا ينوءون بدولة مرجوة، ولقد تواترت إلى كتبهم بدعوتهم، فصممت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم، يأسا منهم وإطراحا لهم، وما لهم مثل إلا ما قَالَ علي بْن أبي طالب:
                إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خزتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم.

                ذكر الخبر عن غزوه نصر بن سيار ما وراء النهر
                وفي هذه السنة غزا نصر بْن سيار ما وراء النهر مرتين، ثم غزا الثالثة، فقتل كور صول.
                ذكر الخبر عن غزواته هذه:
                ذكر علي عن شيوخه، أن نصرا غزا من بلخ ما وراء النهر من ناحية باب الحديد، ثم قفل إلى مرو، فخطب الناس، فقال: ألا إن بهرامسيس كان مانح المجوس، يمنحهم ويدفع عنهم، ويحمل أثقالهم على المسلمين، ألا إن أشبداد بْن جريجور كان مانح النصارى، ألا إن عقيبة اليهودي كان مانح اليهود يفعل ذلك ألا إني مانح المسلمين أمنحهم وأدفع عنهم، وأحمل أثقالهم على المشركين، ألا إنه لا يقبل مني إلا توفي الخراج على ما كتب ورفع وقد استعملت عليكم منصور بْن عمر بْن أبي الخرقاء، وأمرته بالعدل عليكم، فأيما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه، أو ثقل عليه في خراجه، وخفف مثل ذلك عن المشركين، فليرفع ذلك الى المنصور بْن عمر، يحوله عن المسلم إلى المشرك قَالَ: فما كانت الجمعة الثانية، حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم، كانوا يؤدون الجزية عن رءوسهم وثمانون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم، فحول ذلك عليهم، وألقاه عن المسلمين ثم صنف الخراج حتى وضعه مواضعة، ثم وظف الوظيفة التي جرى عليها الصلح قَالَ: فكانت مرو يؤخذ منها مائة ألف سوى الخراج أيام بني أمية ثم غزا الثانية إلى ورغسر وسمرقند ثم قفل، ثم غزا الثانيه إلى الشاش من مرو، فحال بينه وبين قطوع النهر نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفا، استأجر كل رجل منهم في كل شهر بشقه حرير، الشقه يومئذ بخمسة وعشرين درهما، فكانت بينهم مراماة، فمنع نصرا من القطوع إلى الشاش وكان الحارث بْن سريج يومئذ بأرض الترك، فأقبل معهم، فكان بإزاء نصر، فرمى نصرا، وهو على سريره على شاطئ النهر بحسبان،
                [الحسبان: السهام الصغار. القاموس المحيط ص95]
                فوقع السهم في شدق وصيف لنصر يوضئه، فتحول نصر عن سريره، ورمى فرسا لرجل من أهل الشام فنفق وعبر كورصول في أربعين رجلا، فبيت أهل العسكر، وساق شاء لأهل بخارى، وكانوا في الساقة، وأطاف بالعسكر في ليلة مظلمة، ومع نصر أهل بخارى وسمرقند وكس وأشروسنة، وهم عشرون ألفا، فنادى نصر في الأخماس: ألا لا يخرجن أحد من بنائه، واثبتوا على مواضعكم فخرج عاصم بْن عمير وهو على جند أهل سمرقند، حتى مرت خيل كورصول، وقد كانت الترك صاحت صيحة، فظن أهل العسكر أن الترك قد قطعوا كلهم فلما مرت خيل كورصول على ذلك حمل على آخرهم، فأسر رجلا، فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبة، فجاءوا به إلى نصر، فإذا هو شيخ يسحب درعه شبرا، وعليه رانا ديباج فيهما حلق، وقباء فرند مكفف بالديباج، فقال له نصر: من أنت؟ قَالَ: كورصول، فقال نصر: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله! قَالَ: فما ترجو من قتل شيخ، وأنا أعطيك ألف بعير من إبل الترك، وألف برذون تقوي بها جندك، وخل سبيلي! فقال نصر لمن حوله من أهل الشام وأهل خراسان: ما تقولون؟ فقالوا: خل سبيله، فسأله عن سنه، قَالَ: لا أدري، قَالَ: كم غزوت؟ قَالَ: اثنتين وسبعين غزوة، قَالَ: أشهدت يوم العطش؟ قَالَ: نعم، قَالَ: لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي بعد ما ذكرت من مشاهدك وقال لعاصم بْن عمير السغدي: قم إلى سلبه فخذه، فلما أيقن بالقتل، قَالَ: من أسرني؟ قَالَ نصر وهو يضحك: يزيد بْن قران الحنظلي- وأشار إليه- قَالَ: هذا لا يستطيع أن يغسل استه- أو قَالَ: لا يستطيع أن يتم بوله- فكيف يأسرني! فأخبرني من أسرني، فإني أهل أن أقتل سبع قتلات، قيل له: عاصم بْن عمير، قَالَ: لست أجد مس القتل إذ كان الذي أسرني فارسا من فرسان العرب فقتله وصلبه على شاطئ النهر قال: وعاصم بن عمير هو الهزار مرد، قتل بنهاوند أيام قحطبة.
                قَالَ: فلما قتل كورصول تخدرت الترك وجاءوا بأبنيته فحرقوها، وقطعوا آذانهم، وجردوا وجوههم، وطفقوا يبكون عليه، فلما أمسى نصر وأراد الرحلة، بعث إلى كورصول بقارورة نفط، فصبها عليه، وأشعل فيه النار لئلا يحملوا عظامه قَالَ: وكان ذلك أشد عليهم من قتله.
                وارتفع نصر إلى فرغانة، فسبى منها ثلاثين ألف رأس، قَالَ: فقال عنبر بْن برعمة الأزدي: كتب يوسف بْن عمر إلى نصر: سر إلى هذا الغارز ذنبه بالشاش- يعني الحارث بْن سريج- فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش، فخرب بلادهم، واسب ذراريهم، وإياك وورطه المسلمين.
                قَالَ: فدعا نصر الناس، فقرأ عليهم الكتاب، وقال: ما ترون؟ فقال يحيى بْن حضين: امض لأمر أمير المؤمنين وأمر الأمير، فقال نصر: يا يحيى، تكلمت ليالي عاصم بكلمة، فبلغت الخليفة فحظيت بها، وزيد في عطائك، وفرض لأهل بيتك، وبلغت الدرجة الرفيعة، فقلت: أقول مثلها.
                سر يا يحيى، فقد وليتك مقدمتي، فأقبل الناس على يحيى يلومونه، فقال نصر يومئذ: وأي ورطة أشد من أن تكون في السفر وهم في القرار!
                قَالَ: فسار إلى الشاش، فأتاه الحارث بْن سريج فنصب عرادتين
                [العرادة: شبه المنجنيق، صغيرة. القاموس المحيط ص381]
                تلقاء بني تميم، فقيل له: هؤلاء بنو تميم، فنقلهما فنصبهما على الأزد- ويقال: على بكر بْن وائل- وأغار عليهم الأخرم، وهو فارس الترك، فقتله المسلمون، وأسروا سبعة من أصحابه، فأمر نصر بْن سيار برأس الأخرم، فرمي به في عسكرهم بمنجنيق، فلما رأوه ضجوا ضجة عظيمة، ثم ارتحلوا منهزمين، ورجع نصر، وأراد أن يعبر، فحيل بينه وبين ذلك، فقال أبو نميلة صالح بْن الأبار:
                كنا وأوبة نصر عند غيبته ... كراقب النوء حتى جاده المطر
                اودى باخرم منه عارض برد ... مسترجف بمنايا القوم منهمر
                وأقبل نصر فنزل سمرقند في السنة التي لقي فيها الحارث بْن سريج، فأتاه بخارى خذاه منصرفا، وكانت المسلحة عليهم، ومعهم دهقانان من دهاقين بخارى، وكانا أسلما على يدي نصر، وقد أجمعا على الفتك بواصل بْن عمرو القيسى عامل بخارى وببخار اخذاه يتظلمان من بخار اخذاه، - واسمه طوق شياده- فقال بخار اخذاه لنصر: أصلح الله الأمير! قد علمت أنهما قد أسلما على يديك، فما بالهما معلقي الخناجر عليهما! فقال لهما نصر: ما بالكما معلقي الخناجر وقد أسلمتما! قَالَ: بيننا وبين بخار اخذاه عداوة فلا نأمنه على أنفسنا فأمر نصر هارون بْن السياوش مولى بني سليم- وكان يكون على الرابطة- فاجتذبهما فقطعهما، ونهض بخار اخذاه إلى نصر يساره في أمرهما، فقالا: نموت كريمين، فشد أحدهما على واصل ابن عمرو فطعنه في بطنه بسكين، وضربه واصل بسيفه على رأسه، فأطار قحف رأسه فقتله، ومضى الآخر الى بخار اخذاه- وأقيمت الصلاة، وبخار اخذاه جالس على كرسي- فوثب نصر، فدخل السرادق، واحضر بخار اخذاه، فعثر عند باب السرادق فطعنه، وشد عليه الجوزجان بْن الجوزجان، فضربه بجرز كان معه فقتله، وحمل بخار اخذاه فادخل سرادق نصر، ودعا له نصر بوسادة فاتكأ عليها، وأتاه قرعة الطبيب، فجعل يعالجه وأوصى إلى نصر، ومات من ساعته، ودفن واصل في السرادق، وصلى عليه نصر واما طوق شياده فكشطوا عنه لحمه، وحملوا عظامه إلى بخارى.
                قال: وسار نصر إلى الشاش، فلما قدم أشروسنة عرض دهقانها أباراخرة مالا، ثم نفذ إلى الشاش، واستعمل على فرغانة محمد بْن خالد الأزدي، وجهه إليها في عشرة نفر، ورد من فرغانه أخا جيش فيمن كان معه من دهاقين الختل وغيرهم، وانصرف منها بتماثيل كثيرة، فنصبها في أشروسنة.
                وقال بعضهم: لما أتى نصر الشاش تلقاه قدر ملكها بالصلح والهدية والرهن، واشترط عليه إخراج الحارث بْن سريج من بلده، فأخرجه إلى فاراب، واستعمل على الشاش نيزك بْن صالح مولى عمرو بْن العاص، ثم سار حتى نزل قباء من أرض فرغانة، وقد كانوا أحسوا بمجيئه، فأحرقوا الحشيش وحبسوا الميرة ووجه نصر إلى ولي عهد صاحب فرغانة في بقية سنة إحدى وعشرين ومائة، فحاصروه في قلعة من قلاعها، فغفل عنهم المسلمون، فخرجوا على دوابهم فاستاقوها، وأسروا ناسا من المسلمين، فوجه إليهم نصر رجالا من بني تميم، ومعهم محمد بن المثنى- وكان فارسا- فكايدهم المسلمون، فأهملوا دوابهم وكمنوا لهم، فخرجوا فاستاقوا بعضها، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم، وقتلوا الدهقان، وأسروا منهم أسراء، وحمل ابن الدهقان المقتول على ابن المثنى، فختله محمد بْن المثنى، فأسره، وهو غلام أمرد، فأتى به نصرا، فضرب عنقه.
                وكان نصر بعث سليمان بْن صول إلى صاحب فرغانة بكتاب الصلح بينهما قَالَ سليمان: فقدمت عليه فقال لي: من أنت؟ قلت: شاكري خليفة كاتب الأمير، قَالَ: فقال: أدخلوه الخزائن ليرى ما أعددنا، فقيل له: قم، قَالَ: قلت ليس بي مشي، قَالَ: قدموا له دابة يركبها، قَالَ: فدخلت خزائنه، فقلت في نفسي: يا سليمان، شمت بك اسرايل وبشر بْن عبيد، ليس هذا إلا لكراهة الصلح، وسأنصرف بخفي حنين. قَالَ: فرجعت إليه، فقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟ قلت: سهلا كثير الماء والمرعى، فكره ما قلت له، فقال: ما علمك؟ فقلت: قد غزوت غرشستان وغور والختل وطبرستان، فكيف لا أعلم! قَالَ: فكيف رأيت ما أعددنا؟ قلت: رأيت عدة حسنة، ولكن أما علمت أن صاحب الحصار لا يسلم من خصال! قَالَ: وما هن؟ قلت: لا يأمن أقرب الناس إليه وأحبهم إليه وأوثقهم في نفسه أن يثب به يطلب مرتبته، ويتقرب بذلك، أو يفنى ما قد جمع، فيسلم برمته، أو يصيبه داء فيموت فقطب وكره ما قلت له وقال: انصرف إلى منزلك، فانصرفت فأقمت يومين، وأنا لا أشك في تركه الصلح، فدعاني فحملت كتاب الصلح مع غلامي، وقلت له: إن أتاك رسولي يطلب الكتاب فانصرف إلى المنزل، ولا تظهر الكتاب، وقل لي: إني خلفت الكتاب في المنزل فدخلت عليه، فسألني عن الكتاب، فقلت: خلفته في المنزل فقال: ابعث من يجيئك به، فقبل الصلح، وأحسن جائزتي، وسرح معي أمه، وكانت صاحبة أمره.
                قَالَ: فقدمت على نصر، فلما نظر إلي قَالَ: ما مثلك إلا كما قَالَ الأول: فأرسل حكيما ولا توصه.
                [الأغاني:6 :82، وصدره *إذا كنت في حاجة مرسلا*]

                فأخبرته، فقال: وفقت، وأذن لأمه عليه، وجعل يكلمها والترجمان يعبر عنها، فدخل تميم بْن نصر، فقال للترجمان: قل لها: تعرفين هذا؟
                فقالت: لا، فقال: هذا تميم بْن نصر، فقالت: والله ما أرى له حلاوة الصغير، ولا نبل الكبير.
                قَالَ أبو إسحاق بْن ربيعة: قالت لنصر: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك: وزير يباثه بكتاب نفسه وما شجر في صدره من الكلام، ويشاوره ويثق بنصيحته، وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهي، وزوجة إذا دخل عليها مغتما فنظر إلى وجهها زال غمه، وحصن إذا فزع أو جهد فزع إليه فأنجاه- تعني البرذون- وسيف إذا قارع الأقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين وقع بها. من الأرض عاش بها.
                ثم دخل تميم بن نصر في الازفله
                [الأزفلة: الجماعة من الناس، القاموس المحيط ص1305]
                وجماعة، فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا فتى خراسان، هذا تميم بْن نصر، قالت: ما له نبل الكبار ولا حلاوة الصغار.
                ثم دخل الحجاج بْن قتيبة فقالت: من هذا؟ فقالوا: الحجاج بْن قتيبة، قَالَ: فحيته، وسألت عنه، وقالت: يا معشر العرب، ما لكم وفاء، لا يصلح بعضكم لبعض قتيبة الذي وطن لكم ما أرى، وهذا ابنه تقعده دونك! فحقك أن تجلسه هذا المجلس، وتجلس أنت مجلسه.

                ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة
                (ذكر الخبر عما كان فيها من احداث)
                خبر مقتل زيد بن على


                فمن ذلك مقتل زيد بْن علي.
                ذكر الخبر عن ذلك:
                ذكر هشام عن أبي مخنف، أن زيد بْن علي لما أمر أصحابه بالتأهب للخروج والاستعداد، أخذ من كان يريد الوفاء له بالبيعة فيما أمرهم به من ذلك، فانطلق سليمان بْن سراقة البارقي إلى يوسف بْن عمر، فأخبره خبره، وأعلمه أنه يختلف إلى رجل منهم يقال له عامر، وإلى رجل من بني تميم يقال له طعمة، ابن أخت لبارق، وهو نازل فيهم فبعث يوسف يطلب زيد بْن علي في منزلهما فلم يوجد عندهما، وأخذ الرجلان، فأتي بهما، فلما كلمهما استبان له أمر زيد وأصحابه وتخوف زيد بْن علي أن يؤخذ، فتعجل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة قَالَ: وعلى أهل الكوفة يومئذ الحكم بْن الصلت، وعلى شرطه عمرو بْن عبد الرحمن، رجل من القارة، وكانت ثقيف أخواله، وكان فيهم ومعه عبيد الله بْن العباس الكندي، في أناس من أهل الشام، ويوسف بْن عمر بالحيرة قَالَ: فلما رأى أصحاب زيد بْن علي الذين بايعوه أن يوسف بْن عمر قد بلغه أمر زيد، وأنه يدس إليه، ويستبحث عن أمره، اجتمعت إليه جماعة من رءوسهم، فقالوا: رحمك الله! ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قَالَ زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يتبرأ منهما ولا يقول فيهما إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل هذا البيت، إلا أن وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم! فقال لهم زيد: إن أشد ما أقول فيما ذكرتم إنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس أجمعين، وإن القوم استأثروا علينا، ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد ولوا فعدلوا في الناس، وعملوا بالكتاب والسنة قالوا: فلم يظلمك هؤلاء! وان كان أولئك لم يظلموك، فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين! فقال: وان هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم، وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى السنن أن تحيا، وإلى البدع أن تطفأ، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل ففارقوه ونكثوا بيعته، وقالوا: سبق الإمام- وكانوا يزعمون أن أبا جعفر محمد بْن علي أخا زيد بْن علي هو الإمام، وكان قد هلك يومئذ- وكان ابنه جعفر بْن محمد حيا، فقالوا: جعفر امامنا اليوم بعد أبيه، وهو أحق بالأمر بعد أبيه، ولا نتبع زيد بْن علي فليس بإمام فسماهم زيد الرافضة، فهم اليوم يزعمون أن الذي سماهم الرافضة المغيرة
                [هو المغيرة بن سعيد العجلي، وانظر ص 128 ، 129]
                حيث فارقوه وكانت منهم طائفة قبل خروج زيد مروا إلى جعفر بْن محمد بْن علي، فقالوا له: إن زيد بْن علي فينا يبايع، أفترى لنا أن نبايعه؟ فقال لهم: نعم بايعوه، فهو والله أفضلنا وسيدنا وخيرنا فجاءوا، فكتموا ما أمرهم به.
                قَالَ: واستتب لزيد بْن علي خروجه، فواعد أصحابه ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة.
                وبلغ يوسف بْن عمر أن زيدا قد ازمع على الخروج، فبعث الى الحكم ابن الصلت، فأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم يحصرهم فيه، فبعث الحكم إلى العرفاء والشرط والمناكب
                [المناكب: قوم دون العرفاء، وفي حديث النخعي: كان يتوسط العرفاء والمناكب]
                والمقاتلة، فأدخلهم المسجد، ثم نادى مناديه: ألا إن الأمير يقول: من أدركناه في رحله فقد برئت منه الذمة، ادخلوا المسجد الأعظم فأتى الناس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم، وطلبوا زيدا في دار معاوية بْن إسحاق بْن زيد بْن حارثة الأنصاري، فخرج ليلا، وذلك ليلة الأربعاء، في ليلة شديدة البرد، من دار معاوية بْن إسحاق، فرفعوا الهرادى
                [في اللسان: "الهردية: قصبات تضم ملوية بطاقات الكرم تحمل عليها قضبانه" اللسان:3/436]
                فيها النيران، ونادوا: يا منصور. أمت، أمت يا منصور فكلما أكلت النار هرديا رفعوا آخر، فما زالوا كذلك حتى طلع الفجر، فلما أصبحوا بعث زيد بْن علي القاسم التنعي ثم الحضرمي ورجلا آخر من أصحابه، يناديان بشعارهما، فلما كانوا في صحراء عبد القيس لقيهم جعفر بْن العباس الكندي، فشدوا عليه وعلى أصحابه، فقتل الرجل الذي كان مع القاسم التنعي، وارتث القاسم، فأتي به الحكم، فكلمه فلم يرد عليه شيئا، فأمر به فضربت عنقه على باب القصر، فكان أول من قتل من اصحاب زيد ابن علي هو وصاحبه وأمر الحكم بْن الصلت بدروب السوق فغلقت، وغلقت أبواب المسجد على أهل الكوفة وعلى أرباع الكوفة يومئذ، على ربع أهل المدينة إبراهيم بْن عبد الله بْن جرير البجلي، وعلى مذحج وأسد عمرو ابن أبي بذل العبدي، وعلى كندة وربيعة المنذر بن محمد بن اشعث بْن قيس الكندي، وعلى تميم وهمدان محمد بْن مالك الهمداني ثم الخيواني.
                قَالَ: وبعث الحكم بْن الصلت إلى يوسف بْن عمر، فأخبره الخبر، فأمر يوسف مناديه فنادى في أهل الشام: من يأتي الكوفة فيقترب من هؤلاء القوم فيأتيني بخبرهم؟ فقال جعفر بْن العباس الكندي: أنا، فركب في خمسين فارسا، ثم أقبل حتى انتهى إلى جبانة سالم السلولي، فاستخبرهم، ثم رجع إلى يوسف بْن عمر فأخبره، فلما أصبح خرج إلى تل قريب من الحيرة، فنزل عليه ومعه قريش وأشراف الناس، وعلى شرطته يومئذ العباس بْن سعيد المزني، فبعث الريان بْن سلمة الإراشي في الفين ومعه ثلاثمائة من القيقانية رجالا معهم النشاب.
                وأصبح زيد بْن علي، فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلا، فقال زيد: سبحان الله! أين الناس! فقيل له: هم في المسجد الأعظم محصورون، فقال: لا والله ما هذا لمن بايعنا بعذر وسمع نصر ابن خزيمة النداء، فاقبل اليه، فلقى عمر بْن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم بْن الصلت في خيله من جهينة عند دار الزبير بن ابى حكمه في الطريق الذي يخرج إلى مسجد بني عدي، فقال نصر بْن خزيمة: يا منصور أمت، فلم يرد عليه شيئا، فشد عليه نصر وأصحابه، فقتل عمر بْن عبد الرحمن، وانهزم من كان معه، وأقبل زيد بْن علي من جبانة سالم حتى انتهى الى جبانه الصائديين، وبها خمسمائة من أهل الشام، فحمل عليهم زيد بْن علي فيمن معه فهزمهم وكان تحت زيد بْن علي يومئذ برذون أدهم بهيم، اشتراه رجل من بني نهد بْن كهمس بْن مروان النجاري بخمسة وعشرين دينارا، فلما قتل زيد بعد ذلك أخذه الحكم بْن الصلت.
                قَالَ: وانتهى زيد بْن علي إلى باب دار رجل من الأزد، يقال له أنس ابن عمرو- وكان فيمن بايعه- فنودي وهو في الدار فجعل يجيب، فناداه زيد يا أنس: اخرج إلي رحمك الله، فقد جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً فلم يخرج إليه، فقال زيد: ما أخلفكم! قد فعلتموها، الله حسيبكم!
                قَالَ: ثم إن زيدا مضى حتى انتهى إلى الكناسة، فحمل على جماعة بها من أهل الشام فهزمهم، ثم خرج حتى ظهر إلى الجبانة ويوسف بْن عمر على التل ينظر إليه هو وأصحابه، وبين يديه حزام بْن مرة المزني وزمزم بْن سليم الثعلبي، وهما على المجففة، ومعه نحو من مائتي رجل، والله لو أقبل على يوسف لقتله، والريان بْن سلمة يتبع أثر زيد بْن علي بالكوفة في أهل الشام.
                ثم إن زيدا أخذ ذات اليمين على مصلى خالد بْن عبد الله حتى دخل الكوفة، وكانت فرقة من أصحاب زيد بْن علي حيث وجه إلى الكناسة قد انشعبت نحو جبانة مخنف بْن سليم ثم قَالَ بعضهم لبعض: ألا ننطلق نحو جبانة كندة! قَالَ: فما زاد الرجل على أن تكلم بهذا الكلام. وطلع أهل الشام، فلما رأوهم دخلوا زقاقا فمضوا فيه، وتخلف رجل منهم، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم خرج إليهم فقاتلهم ساعة ثم إنهم صرعوه، فجعلوا يضربونه بأسيافهم، فنادى رجل منهم مقنع بالحديد:
                أن اكشفوا المغفر ثم اضربوا رأسه بعمود حديد، ففعلوا، وقتل وحمل أصحابه عليهم فكشفوهم عنه وقد قتل، وانصرف أهل الشام، وقد اقتطعوا رجلا، ونجا سائرهم فذهب ذلك الرجل حتى دخل دار عبد الله بْن عوف، فدخل أهل الشام عليه فأسروه، فذهب به إلى يوسف بْن عمر فقتله.
                قَالَ: وأقبل زيد بْن علي، وقد رأى خذلان الناس إياه، فقال: يا نصر بْن خزيمة، أتخاف أن يكون قد جعلوها حسينية! فقال له: جعلني الله لك الفداء! اما انا فو الله لأضربن معك بسيفي هذا حتى أموت، فكان قتاله يومئذ بالكوفة ثم إن نصر بْن خزيمة قَالَ لزيد بْن علي: جعلني الله لك الفداء! إن الناس في المسجد الأعظم محصورون، فامض بنا نحوهم، فخرج بهم زيد نحو المسجد، فمر على دار خالد بْن عرفطه وبلغ عبيد الله ابن العباس الكندي إقباله، فخرج في أهل الشام، وأقبل زيد فالتقوا على باب عمر بْن سعد بْن أبي وقاص، فكع
                [كع: جبن وضعف. القاموس المحيط ص981]
                صاحب لواء عبيد الله- وكان لواؤه مع سلمان مولاه- فلما أراد عبيد الله الحملة ورآه قد كع عنه، قال: احمل يا بن الخبيثة! فحمل عليهم، فلم ينصرف حتى خضب لواؤه بالدم.
                ثم إن عبيد الله برز فخرج اليه واصل الحناط، فاضطربا بسيفهما، فقال للأحول: خذها مني وأنا الغلام الحناط! وقال الآخر: قطع الله يدي إن كلت بقفيز أبدا ثم ضربه فلم يصنع شيئا وانهزم عبيد الله بْن العباس وأصحابه، حتى انتهوا الى دار عمرو من حريث وجاء زيد وأصحابه حتى انتهوا إلى باب الفيل، فجعل أصحاب زيد يدخلون راياتهم من فوق الأبواب، ويقولون: يا أهل المسجد، اخرجوا وجعل نصر بْن خزيمة يناديهم، ويقول: يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذل إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا، فإنكم لستم في دين ولا دنيا فأشرف عليهم أهل الشام، فجعلوا يرمونهم بالحجارة من فوق المسجد- وكان يومئذ جمع كبير بالكوفة في نواحيها، وقيل في جبانة سالم- وانصرف الريان بْن سلمة إلى الحيرة عند المساء، وانصرف زيد بْن علي فيمن معه، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة، فنزل دار الرزق، فأتاه الريان بْن سلمة، فقاتله عند دار الرزق قتالا شديدا، فجرح من أهل الشام وقتل منهم ناس كثير، وتبعهم أصحاب زيد من دار الرزق، حتى انتهوا إلى المسجد، فرجع أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنا، فلما كان من الغد غداة يوم الخميس، دعا يوسف بْن عمر الريان بْن سلمة، فلم يوجد حاضرا تلك الساعة.
                وقال بعضهم: بل أتاه وليس عليه سلاحه فأفف به، وقال له: أف لك من صاحب خيل! اجلس فدعا العباس بْن سعيد المزني صاحب شرطته، فبعثه في أهل الشام، فسار حتى انتهى إلى زيد بْن على في دار الرزق، وثم خشب للتجار كثير، فالطريق متضايق وخرج زيد في أصحابه، وعلى مجنبتيه نصر بْن خزيمة العبسي ومعاوية بْن إسحاق الأنصاري، فلما رآهم العباس- ولم يكن معه رجال- نادى: يا أهل الشام، الارض والارض! فنزل ناس كثير ممن معه، فاقتتلوا قتالا شديدا في المعركة وقد كان رجل من أهل الشام من بني عبس يقال له نائل بْن فروة قَالَ ليوسف بْن عمر:
                والله لئن أنا ملأت عيني من نصر بْن خزيمة لأقتلنه أو ليقتلني، فقال له يوسف: خذ هذا السيف، فدفع إليه سيفا لا يمر بشيء إلا قطعه فلما التقى أصحاب العباس بْن سعيد وأصحاب زيد واقتتلوا، بصر نائل بْن فروة بنصر بْن خزيمة، فأقبل نحوه، فضرب نصرا فقطع فخذه، وضربه نصر ضربة فقتله، فلم يلبث نصر أن مات، واقتتلوا قتالا شديدا.
                ثم إن زيد بْن علي هزمهم وقتل من أهل الشام نحوا من سبعين رجلا، فانصرفوا وهم بشر حال وقد كان العباس بْن سعيد نادى في أصحابه أن اركبوا، فإن الخيل لا تطيق الرجال في المضيق فركبوا، فلما كان العشي عبأهم يوسف بْن عمر ثم سرحهم، فأقبلوا حتى التقوا هم وأصحاب زيد، فحمل عليهم زيد في أصحابه فكشفهم، ثم تبعهم حتى أخرجهم إلى السبخة، ثم شد عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجاله، حتى أخذوا على المسناه.
                [المسناة: ضفيرة تبنى للسيل لترد الماء. القاموس المحيط ص1672]

                ثم ان زيدا ظهر لهم فيما بين بارق ورؤاس، فقاتلهم هنالك قتالا شديدا.
                وصاحب لوائه يومئذ رجل يقال له عبد الصمد بْن أبي مالك بْن مسروح، من بنى سعد بن زيد، خليف العباس بْن عبد المطلب، وكان مسروح السعدي تزوج صفية بنت العباس بْن عبد المطلب، فجعلت خيلهم لا تثبت لخيله ورجله، فبعث العباس إلى يوسف بْن عمر يعلمه ذلك، فقال له: ابعث إلي الناشبة، فبعث إليهم سليمان بْن كيسان الكلبي في القيقانية والبخارية، وهم ناشبة، فجعلوا يرمون زيدا وأصحابه، وكان زيد حريصا على أن يصرفهم حين انتهوا إلى السبخة، فأبوا عليه، فقاتل معاوية بْن إسحاق الأنصاري بين يدي زيد بْن علي قتالا شديدا، فقتل بين يديه، وثبت زيد بْن علي ومن معه حتى إذا جنح الليل رمي بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فتشبث في الدماغ، فرجع ورجع أصحابه، ولا يظن أهل الشام أنهم رجعوا إلا للمساء والليل.
                قَالَ: فحدثني سلمة بْن ثابت الليثي- وكان مع زيد بْن علي، وكان آخر من انصرف من الناس يومئذ، هو وغلام لمعاوية بْن إسحاق- قَالَ: أقبلت أنا وصاحبي نقص أثر زيد بْن علي، فنجده قد أنزل، وأدخل بيت حران ابن كريمة مولى لبعض العرب في سكة البريد في دور أرحب وشاكر.
                قَالَ سلمة بْن ثابت: فدخلت عليه، فقلت له: جعلني الله فداك أبا الحسين! وانطلق أصحابه فجاءوا بطبيب يقال له شقير مولى لبنى رؤاس فانزع النصل من جبهته، وانا انظر اليه، فو الله ما عدا أن أنزعه جعل يصيح، ثم لم يلبث أن قضى، فقال القوم: أين ندفنه، وأين نواريه؟
                فقال بعض أصحابه: نلبسه درعه ونطرحه في الماء، وقال بعضهم: بل نحتز رأسه ونضعه بين القتلى، فقال ابنه يحيى: لا والله لا ناكل لحم أبي الكلاب. وقال بعضهم: لا بل نحمله إلى العباسية فندفنه.
                قَالَ سلمة: فأشرت عليهم أن ننطلق به إلى الحفرة التي يؤخذ منها الطين فندفنه فيها، فقبلوا رأيي وانطلقنا، وحفرنا له بين حفرتين، وفيه حينئذ ماء كثير، حتى إذا نحن أمكنا له دفناه، وأجرينا عليه الماء، وكان معنا عبد له سندي قَالَ: ثم انصرفنا حتى نأتي جبانة السبيع، ومعنا ابنه، فلم نزل بها، وتصدع الناس عنا، وبقيت في رهط معه لا يكونون عشرة، فقلت له: أين تريد؟ هذا الصبح قد غشيك- ومعه أبو الصبار العبدي- قَالَ: فقال: النهرين، فقلت له: إن كنت إنما تريد النهرين- فظننت أنه يريد أن يتشطط الفرات ويقاتلهم- فقلت له: لا تبرح مكانك، تقاتلهم حتى تقتل، أو يقضي الله ما هو قاض فقال لي: أنا أريد نهري كربلاء.
                فقلت له: فالنجاء قبل الصبح، فخرج من الكوفة، وأنا معه وأبو الصبار ورهط معنا، فلما خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين، فصلينا الغداة بالنخيلة، ثم توجهنا سراعا قبل نينوى، فقال لي: إني أريد سابقا مولى بشر بْن عبد الملك بْن بشر، فأسرع السير، وكنت إذا لقيت القوم أستطعمهم فأطعم الأرغفة فأطعمها إياه، فيأكل ونأكل معه، فانتهينا إلى نينوى وقد أظلمنا، فأتينا منزل سابق، فدعوت على الباب، فخرج إلينا فقلت له:
                أما أنا فآتي الفيوم، فأكون به، فإذا بدا لك أن ترسل إلي فأرسل. قَالَ: ثم إني مضيت وخلفته عند سابق، فذلك آخر عهدي به.
                قَالَ: ثم إن يوسف بْن عمر بعث أهل الشام يطلبون الجرحى في دور أهل الكوفة، فكانوا يخرجون النساء إلى صحن الدار، ويطوفون البيت يلتمسون الجرحى.
                قَالَ: ثم دل غلام زيد بْن علي السندي يوم الجمعة على زيد، فبعث الحكم بْن الصلت العباس بْن سعيد المزني وابن الحكم بن الصلت، فانطلقا فاستخرجاه، فكره العباس أن يغلب عليه ابن الحكم بْن الصلت فتركه وسرح بشيرا إلى يوسف بْن عمر غداة يوم الجمعة برأس زيد بْن علي مع الحجاج بْن القاسم بْن محمد بْن الحكم بْن أبي عقيل، فقال أبو الجويرية مولى جهينة:
                قل للذين انتهكوا المحارم ... ورفعوا الشمع بصحرا سالم
                كيف وجدتم وقعة الأكارم ... يا يوسف بْن الحكم بْن القاسم!
                قَالَ: ولما أتى يوسف بْن عمر البشير، امر بزيد فصلب بالكناسة،
                هو ونصر بْن خزيمة ومعاوية بْن إسحاق بْن زيد بْن حارثة الأنصاري وزياد النهدي، وكان يوسف قد نادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، فجاء محمد بْن عباد برأس نصر بْن خزيمة، فأمر له يوسف بْن عمر بألف درهم، وجاء الأحول مولى الأشعريين برأس معاوية بْن إسحاق، فقال: أنت قتلته؟ فقال: أصلح الله الأمير! ليس أنا قتلته، ولكني رايته فعرفته، فقال:
                اعطوه سبعمائة درهم، ولم يمنعه ان يتم له ألفا، إلا أنه زعم أنه لم يقتله.
                وقد قيل: إن يوسف بْن عمر لم يعلم بأمر زيد ورجوعه من الطريق إلى الكوفة بعد ما شخص إلا بإعلام هشام بْن عبد الملك إياه، وذلك أن رجلا من بني أمية كتب- فيما ذكر- إلى هشام، يذكر له أمر زيد، فكتب هشام إلى يوسف يشتمه ويجهله، ويقول: إنك لغافل، وزيد غارز ذنبه بالكوفه يبايع له فالحح في طلبه، فأعطه الأمان فإن لم يقبل فقاتله فكتب يوسف إلى الحكم بْن الصلت من آل أبي عقيل وهو خليفته على الكوفة بطلبه، فطلبه فخفي عليه موضعه، فدس يوسف مملوكا خراسانيا ألكن، وأعطاه خمسة آلاف درهم، وأمره أن يلطف لبعض الشيعة فيخبره أنه قد قدم من خراسان حبا لأهل البيت، وأن معه مالا يريد أن يقويهم به، فلم يزل المملوك يلقى الشيعة، ويخبرهم عن المال الذي معه حتى أدخلوه على زيد، فخرج فدل يوسف على موضعه، فوجه يوسف إليه الخيل، فنادى أصحابه بشعارهم، فلم يجتمع إليه منهم الا ثلاثمائة او اقل، فجعل يقول: كان داود ابن علي أعلم بكم، قد حذرني خذلانكم فلم أحذر!
                وقيل: إن الذي دل على موضع زيد الذي كان دفن فيه- وكان دفن في نهر يعقوب فيما قيل، وكان أصحابه قد سكروا النهر ثم حفروا له في بطنه، فدفنوه في ثيابه ثم أجروا عليه الماء- عبد قصار كان به، فاستجعل جعلا على أن يدلهم على موضعه، ثم دلهم، فاستخرجوه، فقطعوا رأسه، وصلبوا جسده، ثم أمروا بحراسته لئلا ينزل، فمكث يحرس زمانا.
                وقيل إنه كان فيمن يحرسه زهير بْن معاوية أبو خيثمة، وبعث برأسه إلى هشام فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق، ثم أرسل به إلى المدينة، ومكث البدن مصلوبا حتى مات هشام، ثم أمر به الوليد فانزل واحرق وقيل: ان حكيم ابن شريك كان هو الذي سعى بزيد إلى يوسف.
                فأما أبو عبيدة معمر بْن المثنى فإنه قَالَ في أمر يحيى بْن زيد: لما قتل زيد عمد رجل من بني أسد إلى يحيى بْن زيد، فقال له: قد قتل أبوك، وأهل خراسان لكم شيعة، فالرأي أن تخرج إليها قَالَ: وكيف لي بذلك؟ قَالَ: تتوارى حتى يكف عنك الطلب ثم تخرج، فواراه عنده ليلة، ثم خاف فأتى عبد الملك بْن بشر بْن مروان، فقال له: إن قرابة زيد بك قريبة، وحقه عليك واجب، قَالَ له: أجل، ولقد كان العفو عنه أقرب إلى التقوى، قَالَ: فقد قتل وهذا ابنه غلاما حدثا لا ذنب له، وإن علم يوسف بْن عمر بمكانه قتله، فتجيره وتواريه عندك، قَالَ: نعم وكرامة فأتاه به فواراه عنده فبلغ الخبر يوسف، فأرسل إلى عبد الملك: قد بلغني مكان هذا الغلام عندك، وأعطي الله عهدا، لئن لم تأتني به لأكتبن فيك إلى أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك: أتاك الباطل والزور، أنا أواري من ينازعني سلطاني ويدعي فيه أكثر من حقي! ما كنت أخشاك على قبول مثل هذا علي ولا الاستماع من صاحبه، فقال: صدق والله ابن بشر، ما كان ليواري مثل هذا، ولا يستر عليه، فكف عن طلبه، فلما سكن الطلب خرج يحيى في نفر من الزيدية إلى خراسان.
                وخطب يوسف بعد قتل زيد بالكوفة فقال:
                يا أهل الكوفة، إن يحيى بن زيد يتنقل في حجال نسائكم كما كان يفعل أبوه، والله لو ابدى لي صفحته لعرقت خصييه كما عرقت خصيي أبيه.
                وذكر عن رجل من الأنصار قَالَ: لما جيء برأس زيد فصلب بالمدينة في سنة ثلاث وعشرين ومائة، أقبل شاعر من شعراء الأنصار فقام بحياله، فقال:
                الا يا ناقض الميثاق ... أبشر بالذي ساكا
                نقضت العهد والميثاق ... قدما كان قدماكا
                لقد أخلف إبليس الذي ... قد كان مناكا
                قال: فقيل له: ويلك! أتقول هذا لمثل زيد! فقال: إن الأمير غضبان فأردت أن أرضيه، فرد عليه بعض شعرائهم:
                ألا يا شاعر السوء ... لقد أصبحت أفاكا
                اشتم ابن رسول الله ... يرضى من تولاكا
                ألا صبحك الله ... بخزي ثم مساكا
                ويوم الحشر لا شك ... بأن النار مثواكا
                وقيل: كان خراش بْن حوشب بْن يزيد الشيبانى على شرط يوسف ابن عمر، فهو الذي نبش زيدا، وصلبه، فقال السيد:
                بت ليلي مسهدا ... ساهر الطرف مقصدا
                ولقد قلت قولة ... وأطلت التبلدا
                لعن الله حوشبا ... وخراشا ومزيدا
                ويزيدا فإنه ... كان أعتى وأعندا
                ألف ألف وألف ... ألف من اللعن سرمدا
                إنهم حاربوا الإله ... وآذوا محمدا
                شركوا في دم المطهر ... زيد تعندا
                ثم عالوه فوق جذع ... صريعا مجردا
                يا خراش بْن حوشب ... أنت أشقى الورى غدا
                قَالَ أبو مخنف: ولما قتل يوسف زيد بْن علي أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر، فقال:
                يا أهل المدرة الخبيثة، إني والله مَا تقرن بي الصعبة، وَلا يقعقع لي بالشنان، ولا اخوف بالذنب هيهات! حبيت بالساعد الأشد، أبشروا يا أهل الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق، ولقد هممت أن أخرب بلادكم ودوركم، وأحرمكم أموالكم أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم ما تكرهون عليه، فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا من حارب الله ورسوله، إلا حكيم بْن شريك المحاربي، ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم، ولو أذن لقتلت مقاتلتكم، وسبيت ذراريكم.
                [من عادة أبي مخنف التالف الهالك أن يستغرق في ذكر تفاصيل لا يؤيده فيها أحد من الثقات وكذلك الأمر هنا والله أعلم (133-144) من هذا الجزء]

                وفيها ولد الفضل بْن صالح ومحمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي.
                وفيها وجه يوسف بْن عمر بْن شبرمة على سجستان، فاستقضى ابن أبي ليلى.

                ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة
                (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

                ذكر خبر صلح نصر بن سيار مع السغد

                فمن ذلك ما جرى بين أهل السغد ونصر بْن سيار من الصلح.
                ذكر الخبر عن ذلك وسببه:
                ذكر علي بْن محمد، عن شيوخه، أن خاقان لما قتل في ولاية أسد، تفرقت الترك في غارة بعضها على بعض، فطمع أهل السغد في الرجعة إليها، وانحاز قوم منهم إلى الشاش، فلما ولى نصر بْن سيار أرسل إليهم يدعوهم إلى الفيئة والمراجعة إلى بلادهم، وأعطاهم كل ما أرادوا.
                قَالَ: وكانوا سألوا شروطا أنكرها أمراء خراسان، منها الا يعاقب من كان مسلما وارتد عن الإسلام، ولا يعدى عليهم في دين لأحد من الناس، ولا يؤخذون بقبالة عليهم في بيت المال، ولا يؤخذ أسراء المسلمين من أيديهم إلا بقضية قاض وشهادة العدول، فعاب الناس ذلك على نصر، وكلموه فقال: أما والله لو عاينتم شوكتهم في المسلمين ونكايتهم مثل الذي عاينت ما أنكرتم ذلك! فأرسل رسولا إلى هشام في ذلك، فلما قدم الرسول أبى أن ينفذ ذلك لنصر، فقال الرسول: جربت يا أمير المؤمنين حربنا وصلحنا، فاختر لنفسك فغضب هشام، فقال الأبرش الكلبي: يا أمير المؤمنين، تألف القوم واحمل لهم، فقد عرفت نكايتهم كانت في المسلمين، فأنفذ هشام ما سأل.
                [انظر البداية والنهاية (7/210)]

                وفي هذه السنة أوفد يوسف بن عمر الحكم بن الصلت الى هشام بْن عبد الملك، يسأله ضم خراسان إليه وعزل نصر بْن سيار.
                *ذكر الخبر عن سبب ذلك وما كان من الأمر فيه:
                ذكر علي عن شيوخه، قَالَ: لما طالت ولاية نصر بْن سيار، ودانت له خراسان، كتب يوسف بْن عمر إلى هشام حسدا له: إن خراسان دبرة دبرة
                [الدبرة، بالتحريك: قرحة الدابة، ودبرت فهي دبرة، كفرحة، أي أنها موطن للقلاقل. القاموس المحيط ص499]
                فإن رأى أمير المؤمنين أن يضمها إلى العراق فأسرح إليها الحكم بْن الصلت، فإنه كان مع الجنيد، وولي جسيم أعمالها، فأعمر بلاد أمير المؤمنين بالحكم. وأنا باعث بالحكم بْن الصلت إلى أمير المؤمنين، فإنه أديب أريب، ونصيحته لأمير المؤمنين مثل نصيحتنا ومودتنا أهل البيت. فلما أتى هشاما كتابه بعث إلى دار الضيافة، فوجد فيها مقاتل بن على السغدى، فأتوه به، فقال: أمن خراسان أنت؟ قَالَ: نعم، وأنا صاحب الترك- قَالَ: وكان قدم على هشام بخمسين ومائة من الترك- فقال:
                أتعرف الحكم بْن الصلت؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فما ولي بخراسان؟ قَالَ: ولي قرية يقال لها الفارياب، خراجها سبعون ألفا، فأسره الحارث بْن سريج، قَالَ: ويحك! وكيف أفلت منه! قَالَ: عرك أذنه، وقفده وخلى سبيله قَالَ:
                فقدم عليه الحكم بعد بخراج العراق، فرأى له جمالا وبيانا، فكتب إلى يوسف: إن الحكم قدم وهو على ما وصفت، وفيما قبلك له سعة، وخل الكناني وعمله.
                وفي هذه السنة غزا نصر فرغانة غزوته الثانية، واوفد مغراء بْن أحمر إلى العراق، فوقع فيه عند هشام.
                *ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من هشام ويوسف بْن عمر فيه:
                ذكر أن نصرا وجه مغراء بْن أحمر إلى العراق وافدا، منصرفه من غزوته الثانية فرغانة، فقال له يوسف بْن عمر: يا بن أحمر، يغلبكم ابن الأقطع يا معشر قيس على سلطانكم! فقال: قد كان ذلك أصلح الله الأمير! قَالَ: فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه فقدموا على هشام، فسألهم عن أمر خراسان، فتكلم مغراء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر يوسف بْن عمر بخير، فقال: ويحك! أخبرني عن خراسان، قَالَ: ليس لك جند يا امير المؤمنين احد ولا انجد منهم، من سواذق في السماء وفرسان مثل الفيله، وعدة وعدد من قوم ليس لهم قائد، قَالَ: ويحك! فما فعل الكناني؟ قَالَ: لا يعرف ولده من الكبر فرد عليه مقالته، وبعث إلى دار الضيافة، فأتي بشبيل بْن عبد الرحمن المازني، فقال له هشام: أخبرني عن نصر، قَالَ: ليس بالشيخ يخشى خرفه، ولا الشاب يخشى سفهه، المجرب المجرب، قد ولي عامة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته فكتب إلى يوسف بذلك، فوضع يوسف الأرصاد، فلما انتهوا إلى الموصل تركوا طريق البريد، وتكادوا حتى قدموا بيهق- وقد كتب إلى نصر بقول شبيل- وكان إبراهيم بْن بسام في الوفد، فمكر به يوسف، ونعى له نصرا، وأخبره أنه قد ولى الحكم بْن الصلت بْن أبي عقيل خراسان فقسم له ابراهيم امر خراسان كله، حتى قدم عليه إبراهيم بْن زياد رسول نصر، فعرف أن يوسف قد مكر به وقال: أهلكني يوسف.
                وقيل: إن نصرا أوفد مغراء، وأوفد معه حملة بْن نعيم الكلبي، فلما قدموا على يوسف، أطمع يوسف مغراء، ان هو تنقص نصرا عند هشام أن يوليه السند فلما قدما عليه ذكر مغراء بأس نصر ونجدته ورأيه، وأطنب في ذلك، ثم قَالَ: لو كان الله متعنا منه ببقية! فاستوى هشام جالسا، ثم قَالَ: ببقية ماذا؟ قَالَ: لا يعرف الرجل إلا بجرمه، ولا يفهم عنه حتى يدنى منه، وما يكاد يفهم صوته من الضعف لأجل كبره فقام حملة الكلبي، فقال: يا أمير المؤمنين، كذب والله، ما هو كما قَالَ، هو هو فقال هشام: إن نصرا ليس كما وصف، وهذا أمر يوسف بن عمر حسد لنصر، وقد كان يوسف كتب إلى هشام يذكر كبر نصر وضعفه، ويذكر له سلم بْن قتيبة فكتب إليه هشام: إله عن ذكر الكناني، فلما قدم مغراء على يوسف، قَالَ له: قد علمت بلاء نصر عندي، وقد صنعت به ما قد علمت، فليس لي في صحبته خير، ولا لي بخراسان مقام، فأمره بالمقام وكتب إلى نصر: إني قد حولت اسمه، فأشخص إلي من قبلك من أهله.
                وقيل: إن يوسف لما أمر مغراء بعيب نصر، قَالَ: كيف أعيبه مع بلائه وآثاره الجميلة عندي وعند قومى! فلم يزل به، فقال: فبم اعيبه؟
                اعيب تجربته أم طاعته؟ أم يمن نقيبته أم سياسته؟ قَالَ: عبه بالكبر فلما دخل على هشام تكلم مغراء، فذكر نصرا بأحسن ما يكون، ثم قَالَ في آخر كلامه: لولا، فاستوى هشام جالسا، فقال: ما لولا! قَالَ: لولا أن الدهر قد غلب عليه، قَالَ: ما بلغ به ويحك الدهر! قَالَ: ما يعرف الرجل إلا من قريب، ولا يعرفه إلا بصوته، وقد ضعف عن الغزو والركوب. فشق ذلك على هشام فتكلم حملة بن نعيم فلما بلغ نصرا قول مغراء بعث هارون بْن السياوش إلى الحكم بْن نميلة، وهو في السراجين يعرض الجند، فأخذ برجله فسحبه عن طنفسة له، وكسر لواءه على رأسه، وضرب بطنفسته وجهه، وقال: كذلك يفعل الله بأصحاب الغدر!
                وذكر علي بْن محمد، عن الحارث بْن أفلح بْن مالك بن أسماء بْن خارجة: لما ولي
                [في إسناده الحارث بن أفلح ذكره العقيلي والساجي في الضعفاء وقال ابن معين ليس بثقة (لسان الميزان 2/تر2175)]
                نصر خراسان أدنى مغراء بْن أحمر بْن مالك بْن ساريه النميرى والحكم ابن نميلة بْن مالك والحجاج بْن هارون بْن مالك، وكان مغراء بْن أحمر النميري رأس أهل قنسرين، فآثر نصر مغراء وسنى منزلته، وشفعه في حوائجه، واستعمل ابن عمه الحكم بْن نميلة على الجوزجان، ثم عقد للحكم على أهل العالية، وكان أبوه بالبصرة عليهم، وكان بعده عكابة بْن نميلة، ثم أوفد نصر وفدا من أهل الشام وأهل خراسان، وصير عليهم مغراء، وكان في الوفد حملة بْن نعيم الكلبي، فقال عثمان بْن صدقة بْن وثاب لمسلم بن عبد الرحمن ابن مسلم عامل طخارستان:
                خيرني مسلم مراكبه ... فقلت حسبي من مسلم حكما
                هذا فتى عامر وسيدها ... كفى بمن ساد عامرا كرما
                يعني الحكم بْن نميلة.
                قَالَ: فتغير نصر لقيس وأوحشه ما صنع مغراء قَالَ: وكان أبو نميلة صالح الأبار مولى بني عبس، خرج مع يحيى بْن زيد بْن علي بْن حسين، فلم يزل معه حتى قتل بالجوزجان وكان نصر قد وجد عليه لذلك، فأتى عبيد الله بْن بسام صاحب نصر، فقال:
                قد كنت في همة حيران مكتئبا ... حتى كفاني عبيد الله تهمامي
                ناديته فسما للمجد مبتهجا ... كغرة البدر جلى وجه إظلام
                فاسم برأي أبي ليث وصولته ... إن كنت يوم حفاظ بامرئ سام
                تظفر يداك بمن تمت مروته ... واختصه ربه منه بإكرام
                ماضي العزائم ليثي مضاربه ... على الكريهة يوم الروع مقدام
                لا هذر ساحة النادي ولا مذل ... فيه ولا مسكت إسكات إفحام
                له من الحلم ثوباه ومجلسه ... إذا المجالس شانت أهل أحلام
                قال: فأدخله عبيد الله على نصر، فقال أبو نميلة: أصلحك الله! إني ضعيف، فإن رأيت أن تأذن لراويتى! فأذن له، فأنشده:
                فاز قدح الكلبي فاعتقدت ... مغراء في سعيه عروق لئيم
                فأبيني نمير ثم أبيني ... ألعبد مغراء أم لصميم
                فلئن كان منكم ما يكون ... الغدر والكفر من خصال الكريم
                ولئن كان أصله كان عبدا ... ما عليكم من غدره من شتيم
                وليته ليث وأي ولاة ... بأياد بيض وامر عظيم!
                اسمنته حتى إذا راح مغبوطا ... بخير من سيبها المقسوم
                كاد ساداته بأهون من نهقه ... عير بقفره مرقوم
                فضربنا لغيرنا مثل الكلب ... ذميما والذم للمذموم
                وحمدنا ليثا ويأخذ بالفضل ... ذوو الجود والندى والحلوم
                فاعلمن يا بني القساورة الغلب ... واهل الصفا وأهل الحطيم
                أن في شكر صالحينا لما يد ... حض قول المرهق الموصوم
                قد رأى الله ما اتيت ولن ينقص ... نبح الكلاب زهر النجوم
                فلما فرغ قَالَ نصر: صدقت، وتكلمت القيسية واعتذروا قَالَ: وأهان نصر قيسا وباعدهم حين فعل مغراء ما فعل، فقال في ذلك بعض الشعراء:
                لقد بغض الله الكرام إليكم ... كما بغض الرحمن قيسا إلى نصر
                رأيت أبا ليث يهين سراتهم ... ويدني إليه كل ذي والث غمر

                ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة
                (ذكر الاخبار عما كان فيها من الاحداث)

                فمما كان فيها من ذلك مقدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفة يريدون مكة، وشرى بكير بْن ماهان- في قول بعض أهل السير- أبا مسلم صاحب دعوة بني العباس من عيسى بْن معقل العجلي.
                *ذكر الخبر عن سبب ذلك:
                وقد اختلف في ذلك، فأما علي بْن محمد، فإنه ذكر أن حمزة بْن طلحة السلمي حدثه عن أبيه، قَالَ: كان بكير بْن ماهان كاتبا لبعض عمال السند، فقدمها، فاجتمعوا بالكوفة في دار، فغمز بهم فأخذوا، فحبس بكير وخلى عن الباقين، وفي الحبس يونس أبو عاصم وعيسى بْن معقل العجلي، ومعه أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير فأجابوه إلى رأيه، فقال لعيسى بْن معقل: ما هذا الغلام؟ قَالَ: مملوك، قَالَ: تبيعه؟ قَالَ: هو لك، قَالَ: أحب أن تأخذ ثمنه، قَالَ: هو لك بما شئت، فاعطاه أربعمائة درهم، ثم أخرجوا من السجن، فبعث به إلى إبراهيم فدفعه إبراهيم إلى أبي موسى السراج، فسمع منه وحفظ، ثم صار إلى أن اختلف إلى خراسان.
                [في إسناده مجهول والله أعلم والخبر ذكره فيما سبق تبعا للطبري (البداية والنهاية 7/210)]

                وقال غيره: توجه سليمان بْن كثير ومالك بْن الهيثم ولاهز بْن قريظ، وقحطبة بْن شبيب من خراسان، وهم يريدون مكة في سنة أربع وعشرين ومائة، فلما دخلوا الكوفة أتوا عاصم بْن يونس العجلي، وهو في الحبس، قد اتهم بالدعاء إلى ولد العباس، ومعه عيسى وإدريس ابنا معقل، حبسهما يوسف بْن عمر فيمن حبس من عمال خالد بْن عبد الله، ومعهما أبو مسلم يخدمهما، فرأوا فيه العلامات، فقالوا: من هذا؟ قالوا: غلام معنا من السراجين- وقد كان أبو مسلم يسمع عيسى وإدريس يتكلمان في هذا الرأي فإذا سمعهما بكى- فلما رأوا ذلك منه دعوه إلى ما هم عليه، فأجاب وقبل.
                وفي هذه السنة غزا سليمان بْن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فسلم وغنم.
                [انظر البداية والنهاية (7/210)]

                وفيها مات- في قول الواقدي- محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس.
                [قال ابن كثير والصحيح أنه توفي في التي بعدها (البداية والنهاية 7/210)]

                وحج في هذه السنة عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك معه امرأته أم سلمة بنت هشام بْن عبد الملك.
                وذكر محمد بْن عمر أن يزيد مولى أبي الزناد حدثه، قَالَ: رأيت محمد ابن هشام على بابها يرسل بالسلام وألطافه على بابها كثيره، ويعتذر فتأبى، حتى كان يأيس من قبول هديته، ثم أمرت بقبضها.
                [انظر البداية والنهاية (7/211)]


                ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة
                (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
                ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاته


                حدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثني علي بْن محمد، قَالَ: حدثني شيبة بْن عثمان، قَالَ: حدثني عمرو بْن كليع، قَالَ: حدثني سالم أبو العلاء، قَالَ: خرج علينا هشام بْن عبد الملك يوما وهو كئيب، يعرف ذلك فيه،
                مسترخ عليه ثيابه، وقد أرخى عنان دابته، فسار ساعة ثم انتبه، فجمع ثيابه وأخذ بعنان دابته، وقال للربيع: ادع الأبرش، فدعي فسار بيني وبين الأبرش، فقال له الأبرش: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت منك شيئا غمني، قَالَ: وما هو؟ قَالَ: رأيتك قد خرجت على حال غمني، قَالَ: ويحك يا أبرش! وكيف لا أغتم وقد زعم أهل العلم أني ميت إلى ثلاثة وثلاثين يوما! قَالَ سالم: فرجعت إلى منزلي، فكتبت في قرطاس: زعم أمير المؤمنين يوم كذا وكذا أنه يسافر إلى ثلاثة وثلاثين يوما فلما كان في الليلة التي استكمل فيها ثلاثة وثلاثين يوما إذا خادم يدق الباب يقول: أجب أمير المؤمنين، واحمل معك دواء الذبحة- وقد كان أخذه مرة فتعالج فأفاق- فخرجت ومعي الدواء فتغرغر به، فازداد الوجع شدة، ثم سكن فقال لي: يا سالم، قد سكن بعض ما كنت أجد، فانصرف إلى أهلك، وخلف الدواء عندي فانصرفت، فما كان إلا ساعة حتى سمعت الصراخ عليه، فقالوا: مات أمير المؤمنين! فلما مات أغلق الخزان الأبواب، فطلبوا قمقما يسخن فيه الماء لغسله، فما وجدوه حتى استعاروا قمقما من بعض الجيران، فقال بعض من حضر ذلك: إن في هذا لمعتبرا لمن اعتبر وكانت وفاته بالذبحة، فلما مات صلى عليه ابنه مسلمة بْن هشام.
                وحدثني أحمد، قَالَ علي: لم يكن أحد يسير في أيام هشام في موكب إلا مسلمة بْن عبد الملك قَالَ: ورأى هشام يوما سالما في موكب، فزجره وقال: لأعلمن متى سرت في موكب وكان يقدم الرجل الغريب فيسير معه، فيقف سالم، ويقول: حاجتك، ويمنعه أن يسير معه، وكان سالم كأنه هو أمر هشاما.
                قَالَ: ولم يكن أحد من بني مروان يأخذ العطاء إلا عليه الغزو، فمنهم من يغزو، ومنهم من يخرج بدلا.
                قَالَ: وكان لهشام بْن عبد الملك مولى يقال له يعقوب، فكان يأخذ عطاء هشام مائتي دينار ودينارا، يفضل بدينار، فيأخذها يعقوب ويغزو وكانوا يصيرون أنفسهم في أعوان الديوان، وفي بعض ما يجوز لهم المقام به، ويوضع به الغزو عنهم وكان داود وعيسى ابنا علي بْن عبد الله بْن عباس- وهما لأم- في أعوان السوق بالعراق لخالد بْن عبد الله، فأقاما عنده، فوصلهما، ولولا ذلك لم يستطع أن يحبسهما، فصيرهما في الأعوان، فسمرا، وكانا يسامرانه ويحدثانه.
                قَالَ: فولى هشام بعض مواليه ضيعة له، فعمرها فجاءت بغلة عظيمة كبيرة ثم عمرها أيضا، فأضعفت الغلة، وبعث بها مع ابنه، فقدم بها على هشام، فأخبره خبر الضيعة فجزاه خيرا، فرأى منه انبساطا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي حاجة، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: زيادة عشرة دنانير في العطاء، فقال: ما يخيل إلى أحدكم أن عشرة دنانير في العطاء إلا بقدر الجوز! لا لعمري لا أفعل.
                حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، قَالَ: قَالَ حماد الأبح: قَالَ هشام لغيلان: ويحك يا غيلان! قد أكثر الناس فيك، فنازعنا بأمرك، فإن كان حقا اتبعناك، وإن كان باطلا نزعت عنه، قَالَ: نعم، فدعا هشام ميمون بْن مهران ليكلمه، فقال له ميمون: سل، فان اقوى ما تكونون إذا سألتم، قَالَ له: أشاء الله أن يعصى؟ فقال له ميمون: أفعصي كارها! فسكت، فقال هشام: أجبه فلم يجبه، فقال له هشام: لا أقالني الله إن أقلته، وأمر بقطع يديه ورجليه.
                حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي عن رجل من غنى، عن بشر مولى هشام، قال: اتى هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطنبور
                [الطنبور: من آلات الطرب؛ ذو عنق طويل وستة أوتار، والبربط: العود. القاموس المحيط ص554]
                على رأسه وضربه، فبكى الشيخ قَالَ بشر: فقلت له - وأنا أعزيه: عليك بالصبر، فقال: أتراني أبكي للضرب! إنما أبكي لاحتقاره للبربط إذ سماه طنبورا!
                قَالَ: وأغلظ رجل لهشام، فقال له هشام: ليس لك أن تغلظ لإمامك! قَالَ: وتفقد هشام بعض ولده- ولم يحضر الجمعة- فقال له: ما منعك من الصلاة؟ قَالَ: نفقت دابتي، قَالَ: أفعجزت عن المشي فتركت الجمعة! فمنعه الدابة سنة.
                قَالَ: وكتب سليمان بْن هشام إلى أبيه: إن بغلتي قد عجزت عني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابة فعل فكتب إليه: قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وما ذكرت من ضعف دابتك، وقد ظن أمير المؤمنين أن ذلك من قلة تعهدك لعلفها، وأن علفها يضيع، فتعهد دابتك في القيام عليها بنفسك، ويرى أمير المؤمنين رأيه في حملانك.
                [حملانك؛ أي حملك. القاموس المحيط ص1276]

                قَالَ: وكتب إليه بعض عماله: إني قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن،
                [الدراقن: شجر مثمر مشهور من الفصيلة الوردية وهو الخوخ بلغة أهل مصر، وله أنواع وفي غوطة دمشق نوع جيد يعرف بالدراقن الزهري]
                فليكتب إلي أمير المؤمنين بوصولها فكتب إليه: قد وصل إلى أمير المؤمنين الدراقن الذي بعثت به فأعجبه، فزد أمير المؤمنين منه، واستوثق من الوعاء.
                قَالَ: وكتب إلى بعض عماله: قد وصلت الكمأة التي بعثت بها إلى أمير المؤمنين، وهي أربعون، وقد تغير بعضها، ولم تؤت في ذلك إلا من حشوها، فإذا بعثت إلى أمير المؤمنين منها شيئا فأجد حشوها في الظرف الذي تجعلها فيه بالرمل، حتى لا تضطرب ولا يصيب بعضها بعضا.
                حدثني أحمد، قَالَ: حدثني علي، قَالَ: حدثنا الحارث بْن يزيد، قَالَ: حدثني مولى لهشام، قَالَ: بعث معي مولى لهشام كان على بعض ضياعه بطيرين ظريفين، فدخلت إليه وهو جالس على سرير في عرصة الدار، فقال: أرسلهما في الدار، قَالَ: فأرسلتهما فنظر إليهما، فقلت: يا أمير المؤمنين، جائزتي، قَالَ: ويلك! وما جائزة طيرين؟ قلت: ما كان، قَالَ: خذ أحدهما، فعدوت في الدار عليهما، فقال: ما لك؟ قلت: اختار خيرهما، قال: اتختار أيضا خيرهما وتدع شرهما لي! دعهما ونحن نعطيك اربعين درهما او خمسين درهما.
                [في إسناده مجهول وهو راوي الخبر ولم يتابعه أحد فكيف يصح؟]

                قَالَ: وأقطع هشام أرضا يقال لها دورين، فأرسل في قبضها، فإذا هي خراب، فقال لذويد كاتب كان بالشام: ويحك! كيف الحيلة؟ قال:
                ما تجعل لي؟ قال: أربعمائة دينار، فكتب دورين وقراها، ثم أمضاها في الدواوين، فأخذ شيئا كثيرا، فلما ولي هشام دخل عليه ذويد، فقال له هشام: دورين وقراها! لا والله لا تلي لي ولاية أبدا، وأخرجه من الشام.
                قَالَ: وقال بعض آل مروان لهشام: أتطمع في الخلافة وأنت بخيل جبان؟ قَالَ: ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيف!
                قَالَ: وقال هشام يوما للأبرش: او ضعت أعنزك؟ قَالَ: إي والله، قَالَ: لكن أعنزي تأخر ولادها، فاخرج بنا إلى أعنزك نصب من ألبانها، قَالَ: نعم، أفأقدم قوما؟ قَالَ: لا، قَالَ: أفأقدم خباء حتى يضرب لنا؟ قَالَ:
                نعم، فبعث برجلين بخباء فضرب، وغدا هشام والأبرش وغدا الناس، فقعد هشام والأبرش، كل واحد منهما على كرسي، وقدم إلى كل واحد منهما شاة، فحلب هشام الشاة بيده، وقال: تعلم يا أبرش أني لم أبس الحلب! ثم أمر بملة فعجنت وأوقد النار بيده، ثم فحصها وألقى الملة، وجعل يقلبها بالمحراث، ويقول: يا أبرش، كيف ترى رفقي! حتى نضجت ثم أخرجها، وجعل يقلبها بالمحراث، ويقول: جبينك جبينك والأبرش يقول: لبيك لبيك- وهذا شيء تقوله الصبيان إذا خبزت لهم الملة- ثم تغدى وتغدى الناس ورجع.
                قَالَ: وقدم علباء بْن منظور الليثي على هشام، فأنشده:
                قالت عليه واعتزمت لرحلة ... زوراء بالأذنين ذات تسدر
                أين الرحيل وأهل بيتك كلهم ... كل عليك كبيرهم كالأصغر!
                فأصاغر أمثال سلكان القطا ... لا في ثرى مال ولا في معشر
                إني إلى ملك الشام لراحل ... وإليه يرحل كل عبد موقر
                فلأتركنك إن حييت غنية ... بندى الخليفة ذي الفعال الأزهر
                إنا أناس ميت ديواننا ... ومتى يصبه ندى الخليفة ينشر
                فقال له هشام: هذا الذي كنت تحاول، وقد أحسنت المسألة فامر له بخمسمائة درهم، وألحق له عيلا في العطاء.
                قَالَ: وأتى هشاما محمد بْن زيد بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فقال:
                مالك عندي شيء، ثم قَالَ: إياك أن يغرك أحد فيقول: لم يعرفك أمير المؤمنين، إني قد عرفتك، أنت محمد بْن زيد بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فلا تقيمن وتنفق ما معك، فليس لك عندي صله، فالحق بأهلك.
                قَالَ: ووقف هشام يوما قريبا من حائط فيه زيتون، ومعه عثمان بْن حيان المري، وعثمان قائم يكاد رأسه يوازي رأس أمير المؤمنين وهو يكلمه إذ سمع نفض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: القطوه لقطا، ولا تنفضوه نفضا، فتتفقأ عيونه، وتتكسر غصونه.
                قَالَ: وحج هشام، فأخذ الأبرش مخنثين ومعهم البرابط، فقال هشام: احبسوهم وبيعوا متاعهم- وما درى ما هو- وصيروا ثمنه في بيت المال، فإذا صلحوا فردوا عليهم الثمن.
                [ذكر الطبري أخبارا من ص154 إلى ص 155 ولم ينسب هذه الأقوال إلى أحد وإنما أورد الخبر هكذا ولم نجد لهذه الأقوال صدى في مصادر متقدمة موثوقة والله أعلم]

                وكان هشام بْن عبد الملك ينزل الرصافة- وهي فيما ذكر- من أرض قنسرين وكان سبب نزوله إياها- فيما حدثني أحمد بْن زهير بْن حرب، عن علي بْن محمد- قال: كان الخلفاء وأبناء الخلفاء يتبدون ويهربون من الطاعون، فينزلون البرية خارجا عن الناس، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج، فإن الخلفاء لا يطعنون، ولم نر خليفة طعن، قَالَ: أتريدون أن تجربوا بي! فنزل الرصافة وهي برية، ابتنى بها قصرين.
                والرصافة مدينة رومية بنتها الروم.
                وكان هشام أحول، فحدثني أحمد، عن علي، قَالَ: بعث خالد بْن عبد الله إلى هشام بْن عبد الملك بحاد فحدا بين يديه بأرجوزة أبي النجم:
                والشمس في الأفق كعين احول ... صغواء قد همت ولما تفعل
                فغضب هشام وطرده.
                وحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عاصم الضبي، قَالَ: مر بي معاوية بْن هشام، وأنا أنظر إليه في رحبة أبي شريك- وأبو شريك رجل من العجم كانت تنسب إليه وهي مزرعة- وقد اختبز خبزه، فوقف علي، فقلت: الغداء! فنزل وأخرجتها، فوضعتها في لبن، فأكل ثم جاء الناس، فقلت: من هذا؟ قالوا: معاويه بن هشام، فامر لي بصلة وركب وثار بين يديه ثعلب، فركض خلفه، فما تبعه غلوة، حتى عثر به فرسه فسقط فاحتملوه ميتا، فقال هشام: تالله لقد أجمعت أن أرشحه للخلافة، ويتبع ثعلبا!
                [في إسناد الطبري تصحيف واضح والصواب كما ذكر البلاذري عن أبي عاصم عن رجل من بني ضبة أي أن في الإسناد مجهول. (أنساب الأشراف 8/3577)]

                قَالَ: وكانت عند معاوية بْن هشام ابنة إسماعيل بْن جرير وامرأة أخرى، فأخرج هشام كل واحدة منهما من نصف الثمن بأربعين ألفا.
                حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، قَالَ:
                حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: مَشَيْتُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى دَارِهِ عِنْدَ الْحَمَّامِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ طَالَ مُلْكُ هِشَامٍ وَسُلْطَانُهُ، وَقَدْ قَرُبَ مِنَ الْعِشْرِينَ وَقَدْ زَعَمَ النَّاسُ أَنَّ سُلَيْمَانَ سَأَلَ رَبَّهُ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَزَعَمَ النَّاسُ أَنَّهَا الْعِشْرُونَ، فَقَالَ:
                مَا أَدْرِي مَا أَحَادِيثُ النَّاسِ! وَلَكِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ ابيه، عن على، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" لَنْ يُعَمِّرَ اللَّهُ مُلْكًا فِي أُمَّةِ نَبِيٍّ مَضَى قَبْلَهُ مَا بَلَغَ بِذَلِكَ النَّبِيِّ مِنَ الْعُمُرِ"
                [الخبر أخرجه الحاكم في المستدرك كما عند الطبري من طريق حسين بن يزيد عن شهاب بن عبد ربه (المستدرك 2/587) والحسين بن يزيد ضعيف وشهاب بن عبد ربه لم نجد له ترجمة والحديث سكت عنه الحاكم وقال الذهبي لا يصح، (مختصر استدراك الحافظ على المستدرك/2/1035/ح433) وقال ابن خثيمة ليس حديث فيه توقيت غير هذا (انظر البداية والنهاية 7/201)]

                خلافة الوليد بْن يزيد بْن عبد الملك بْن مروان
                (ذكر الخبر عن بعض أسباب ولايته الخلافه)

                قد مضى ذكرى سبب عقد أبيه يزيد بْن عبد الملك بْن مروان له الخلافة بعد أخيه هشام بْن عبد الملك، وكان الوليد بْن يزيد يوم عقد له أبوه يزيد ذلك ابن إحدى عشرة سنة، فلم يمت يزيد حتى بلغ ابنه الوليد خمس عشرة سنة، فندم يزيد على استخلافه هشاما أخاه بعده، وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد، قَالَ: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك! فتوفي يزيد بْن عبد الملك وابنه الوليد ابن خمس عشرة سنة وولي هشام وهو للوليد مكرم معظم مقرب، فلم يزل ذلك من أمرهما حتى ظهر من الوليد بْن يزيد مجون وشرب الشراب، حمله على ذلك
                [غير صحيح]
                فيما حدثني أحمد بْن زهير، عن علي ابن محمد، عن جويرية بْن أسماء وإسحاق بْن أيوب وعامر بْن الأسود وغيرهم- عبد الصمد بن عبد الأعلى الشبانى أخو عبد الله بْن عبد الأعلى- وكان مؤدب الوليد- واتخذ الوليد ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاه الحج سنة تسع وعشرة ومائة، فحمل معه كلابا في صناديق، فسقط منها صندوق- فيما ذكر علي بْن محمد عمن سميت من شيوخه- عن البعير وفيه كلب، فأجالوا على الكري السياط، فأوجعوه ضربا وحمل معه قبة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه خمرا، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة، ويجلس فيها، فخوفه أصحابه وقالوا: لا نأمن الناس عليك وعلينا معك، فلم يحركها وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف به، وبلغ ذلك هشاما فطمع في خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام، فاراده على أن يخلعها ويبايع لمسلمة، فأبى، فقال له: اجعلها له من بعدك، فأبى، فتنكر له هشام واضربه، وعمل سرا في البيعة لابنه، فأجابه قوم
                [هذا خبر غير صحيح ولم أجد من المؤرخين المتأخرين من درس هذه المسألة دراسة متمعنة.
                ولعل الدكتور حسين عطوان هو من أعطى هذه المسألة مساحة جيدة في كتابه –الوليد بن يزيد- عرض ونقد – وقد توصل إلى نتائج جيدة إلا أنه نوزع في جوانب أخرى وكالآتي:
                يقول الدكتور حسين عطوان: ولا أصل لما رواه أحمد بن زهير من أن الوليد أخذ معه كلابا في صناديق أو خمرا أو قبة ليضعها فوق الكعبة ويشرب فيها ولا أصداء له عند غيره من تلاميذ البلاذري (لعلع يقصد المدائني) وهو يخلط بين حج الوليد أثناء ولايته للعهد وبين تفكيره في الحج خلال خلافته وتحذير خالد بن عبد الله القسري له/ص296.
                ويوق أيضا: "هو اول من غمز الوليد بأنه خطط لتشييد مقصف له فوق ظهر الكعبة هو اليعقوبي إذ اتهمه بذلك في سياق توقيمه لسيايته/296". ويقول أيضا: "والغالب أن اليعقوبي هو الذي صنع خبر توجيه الوليد مهندسا لينشيء له مقصفا فوق ظهر الكعبة ثم أخذه عنه معاصروه من الإخباريين كأحمد بن زهير/297 ويوقل أخيرا: وأحمد بن زهير من القدرية الذين ثار متقدموهم بالوليد مع يزيد بن الوليد ومن أتباع العباسيين وكأنه مزج فيما سرد من أخبار الوليد بين رواية المدائني وتشنيع اليعقوبي وهو معاصر لليعقوبي/297.
                قلت: أما أن رواية الطبري من طريق أحمد بن زهير فهي غير صحيحة كما قال الدكتور عطوان – ولكن العلة ليست في أحمد بن زهير فهو إمام حافظ معروف باطلاعه الواسع بالتاريخ وقد وصفه الخطيب البغدادي بالبصير بأيام الناس وأنسابهم ولم نعلم فيه جرحا – ومعاصرته لليعقوبي لا تعني بالضرورة تأثره به.
                ونحن لا نختلف مع الدكتور عطوان في أن مزجا قد حصل في هذا الخبر إلا أنه من قبل المدائني الذي درج على خلط المتون المتعددة مع بعضها ويكتفي بذكر الإسناد المركب في بداية الخبر ثم يذكر متونهم مجتمعة. ومن دون تمييز فيخلط بذلك بين متن رواة الثقاة وغيره من الضعفاء والمجاهيل بل وأحيانا المتروكين الهالكين كأبي مخنف وقد صرح بذلك في مواضع كثيرة من تاريخ الطبري.
                ومن خلال دراستنا لروايات الطبري وتخريجها وجدنا المدائني يأتي بالنكارات عادة في حالة الخلط هذه –وبينا ذلك في مواضعها-.
                وأما قول الأستاذ عطوان بأن أصل الرواية عند ابن عساكر (أشرف فوق الكعبة) بدلا من (أشرب) فصحيح والذي في المخطوط من تأريخ ابن عساكر (أُشرف).
                كما في مخطوطة المكتبة الظاهرية /3381/مجلدا/الورقة465 وكما أشار عطوان وكذلك محقق مختصر تأريخ دمشق لابن منظور.
                وأما أن المزج بين حج الوليد أيام كان واليا للعهد وبين نيته الحج أيام خلافته فهذا صحيح.
                ومما لا نوافق للأستاذ عطوان فيه أن الوليد قد أمر ببناء القبة دون إرسال مهندس وما غلى ذلك ولكن كان قصده من وراء ذلك ان يطوف هو وحاشيته في ظل القبة فلا يتعرض للحر والتعب ويطوف الناس من خلف القبة ما عارضته الأمة بقيادة علمائها وبعض أمرائها وكانت النتيجة الفشل الذريع إلا أن الذي لم يصح أنه أمر بصناديق لتوضع فيها كلاب أو خمر وما إلى ذلك من الكذب ولقد ذكرنا في قسم الصحيح رواية الإمام سفيان بن عيينة وبسند صحيح من أنه أراد أن ينصب قبة فوق الكعبة فلم يتم له ذلك نظرا للمعارضة الشديدة التي أبداها العلماء وهدمت القبة قبل أن تصل إلى مكة، وانظر قسم الصحيح (7/209)]

                قَالَ: فكان ممن أجابه خالاه: محمد وإبراهيم ابنا هشام بْن إسماعيل المخزومي، وبنو القعقاع بْن خليد العبسي وغيرهم من خاصته.
                قَالَ: وتمادى الوليد في الشراب وطلب اللذات فأفرط، فقال له هشام:
                ويحك يا وليد! والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا! ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر به! فكتب إليه الوليد:
                يايها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
                [في الأغاني: 7 : 3، وقال: "بل قال ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى ونحله غياه"]
                نشربها صرفا وممزوجة ... بالسخن أحيانا وبالفاتر
                فغضب هشام على ابنه مسلمة- وكان يكنى أبا شاكر- وقال له:
                يعيرني بك الوليد وأنا أرشحك للخلافة! فالزم الأدب واحضر الجماعة.
                وولاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك والوقار واللين، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لأهل المدينة:
                يايها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
                الواهب الجرد بأرسانها ... ليس بزنديق ولا كافر
                يعرض بالوليد.
                وأم مسلمه بْن هشام أم حكيم بنت يحيى بْن الحكم بْن أبي العاص فقال الكميت:
                إن الخلافة كائن أوتادها ... بعد الوليد إلى ابن أم حكيم
                فقال خالد بْن عبد الله القسرى: انا بريء من خليفة يكنى أبا شاكر، فغضب مسلمة بْن هشام على خالد، فلما مات أسد بن عبد الله أخو خالد ابن عبد الله، كتب أبو شاكر إلى خالد بْن عبد الله بشعر هجا به يحيى بْن نوفل خالدا وأخاه أسدا حين مات:
                أراح من خالد وأهلكه ... رب أراح العباد من أسد
                أما أبوه فكان مؤتشبا ... عبدا لئيما لأعبد قفد
                [مؤتشب: أي غير صريح في نسبه. القاموس المحيط ص 76، والعبد الأقفد: الكز اليدين والرجلين القصير الأصابع. القاموس المحيط ص398]

                وبعث بالطومار مع رسول على البريد إلى خالد، فظن أنه عزاه عن أخيه، ففض الخاتم، فلم ير في الطومار غير الهجاء، فقال: ما رأيت كاليوم تعزية!
                وكان هشام يعيب الوليد ويتنقصه، وكثر عبثه به وبأصحابه وتقصيره به، فلما رأى ذلك الوليد خرج وخرج معه ناس من خاصته ومواليه، فنزل بالأزرق، بين أرض بلقين وفزارة، على ماء يقال له الاغدف، وخلف كاتبه عياض ابن مسلم مولى عبد الملك بْن مروان بالرصافة، فقال له: اكتب إلي بما يحدث قبلكم وأخرج معه عبد الصمد بْن عبد الأعلى، فشربوا يوما فلما أخذ فيهم الشراب، قَالَ الوليد لعبد الصمد: يا أبا وهب، قل أبياتا، فقال:
                [الأغاني 7 : 8]
                ألم تر للنجم إذ شيعا ... يبادر في برجه المرجعا
                تحير عن قصد مجراته ... أتى الغور والتمس المطلعا
                فقلت وأعجبني شأنه ... وقد لاح إذ لاح لي مطمعا:
                لعل الوليد دنا ملكه ... فأمسى إليه قد استجمعا
                وكنا نؤمل في ملكه ... كتأميل ذي الجدب ان يمرعا
                عقدنا له محكمات الأمور ... طوعا فكان لها موضعا
                وروي الشعر، فبلغ هشاما، فقطع عن الوليد ما كان يجري عليه، وكتب إلى الوليد: بلغني عنك أنك اتخذت عبد الصمد خدنا ومحدثا ونديما، وقد حقق ذلك عندي ما بلغني عنك، ولم أبرئك من سوء، فأخرج عبد الصمد مذموما مدحورا فأخرجه، وقال فيه:
                لقد قذفوا أبا وهب بأمر ... كبير بل يزيد على الكبير
                [الأغاني 7 : 9]
                فأشهد أنهم كذبوا عليه ... شهادة عالم بهم خبير
                وكتب الوليد إلى هشام يعلمه إخراج عبد الصمد، واعتذر إليه مما بلغه
                من منادمته، وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه- وكان ابن سهيل من أهل اليمن وقد ولي دمشق غير مرة، وكان ابن سهيل من خاصة الوليد- فضرب هشام ابن سهيل وسيره، وأخذ عياض بْن مسلم كاتب الوليد، وبلغه أنه يكتب بالأخبار إلى الوليد، فضربه ضربا مبرحا، وألبسه المسوح. فبلغ الوليد، فقال: من يثق بالناس، ومن يصطنع المعروف! هذا الأحول المشئوم قدمه أبي على أهل بيته فصيره ولى عهده، ثم يصنع بي ما ترون: لا يعلم أن لي في أحد هوى إلا عبث به، كتب إلي أن أخرج عبد الصمد فاخرجته اليه، وكتبت إليه أن يأذن لابن سهيل في الخروج إلي، فضربه وسيره، وقد علم رأيي فيه، وقد علم انقطاع عياض بْن مسلم إلي، وتحرمه بي ومكانه مني وأنه كاتبي، فضربه وحبسه، يضارني بذلك، اللهم أجرني منه! وقال:
                انا النذير لمسدى نعمة أبدا ... إلى المقاريف ما لم يخبر الدخلا
                [الأغاني: 7 : 10. المقاريف: الأنذال. القاموس المحيط ص 1091]
                إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرا ... وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا
                أتشمخون ومنا رأس نعمتكم ... ستعلمون إذا كانت لنا دولا
                انظر فإن كنت لم تقدر على مثل ... له سوى الكلب فاضربه له مثلا
                بينا يسمنه للصيد صاحبه ... حتى إذ ما قوى من بعد ما هزلا
                عدا عليه فلم تضرره عدوته ... ولو أطاق له أكلا لقد أكلا
                وكتب إلى هشام:
                لقد بلغني الذي أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع عني، ومحو ما محا من أصحابي وحرمي وأهلي، ولم أكن أخاف أن يبتلي الله أمير المؤمنين بذلك ولا أبالي به منه، فإن يكن ابن سهيل كان منه ما كان فبحسب العير أن يكون قدر الذئب، ولم يبلغ من صنيعي في ابن سهيل واستصلاحه، وكتابي إلى أمير المؤمنين فيه كنه ما بلغ أمير المؤمنين من قطيعتي، فإن يكن ذلك لشيء في نفس أمير المؤمنين علي، فقد سبب الله لي من العهد، وكتب لي من العمر، وقسم لي من الرزق ما لا يقدر أحد دون الله على قطع شيء منه دون مدته، ولا صرف شيء عن مواقعه، فقدر الله يجري بمقاديره فيما أحب الناس أو كرهوا، ولا تأخير لعاجله ولا تعجيل لآجله، فالناس بين ذلك يقترفون الآثام على نفوسهم من الله، ولا يستوجبون العقوبة عليه، وأمير المؤمنين أحق أمته بالبصر بذلك والحفظ له، والله الموفق لأمير المؤمنين بحسن القضاء له في الأمور.
                [الأغاني: 7 : 12 ، 13، وبعدها هناك: طوكتب له الوليد في آخر كتابه:
                أليس عظيما أن أرى كل وارد ... حياضك يوما صادرا بالنوافل
                فأرجع محمود الرجاء مصردا ... بتحلئة عن ورد تلك المناهل
                فأصبحت ممن كنت آمل منكم ... ولي بلاق ما رجا كل آمل
                كمقتبض يوما عرض هبوة ... يشد عليها كفه بالأنامل]

                فقال هشام لأبي الزبير: يا نسطاس، أترى الناس يرضون بالوليد إن حدث بي حدث؟ قَالَ: بل يطيل الله عمرك يا أمير المؤمنين، قَالَ: ويحك! لا بد من الموت، أفترى الناس يرضون بالوليد؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، إن له في أعناق الناس بيعة، فقال هشام: لئن رضي الناس بالوليد ما أظن الحديث الذي رواه الناس: أن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار، إلا باطلا.
                وكتب هشام إلى الوليد:
                قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به من قطع ما قطع عنك وغير ذلك، وأمير المؤمنين يستغفر الله من اجرائه ما كان يجرى عليك، ولا يتخوف على نفسه اقتراف الماثم في الذي أحدث من قطع ما قطع، ومحو من محا من صحابتك، لأمرين: أما أحدهما فإيثار أمير المؤمنين إياك بما كان يجري عليك، وهو يعلم وضعك له وإنفاقكه في غير سبيله، وأما الآخر فإثبات صحابتك، وإدرار أرزاقهم عليهم، لا ينالهم ما ينال المسلمين في كل عام من مكروه عند قطع البعوث، وهم معك تجول بهم في سفهك، ولأمير المؤمنين احرى في نفسه للتقصير في القتر عليك منه للاعتداء عليك فيها، مع أن الله قد نصر أمير المؤمنين في قطع ما قطع عنك من ذلك ما يرجو به تكفير ما يتخوف مما سلف فيه منه وأما ابن سهيل فلعمري لئن كان نزل منك بما نزل، وكان أهلا أن تسر فيه أو تساء، ما جعله الله كذلك، وهل زاد ابن سهيل- لله أبوك- على أن كان مغنيا زفانا،
                [الزفان: الرقاص، القاموس المحيط ص1553]
                قد بلغ في السفه غايته! وليس ابن سهيل مع ذلك بشر ممن تستصحبه في الأمور التي يكرم أمير المؤمنين نفسه عن ذكرها، مما كنت لعمر الله أهلا للتوبيخ به، ولئن كان أمير المؤمنين على ظنك به في الحرص على فسادك، إنك إذا لغير إل عن هوى أمير المؤمنين من ذلك.
                وأما ما ذكرت مما سبب الله لك، فإن الله قد ابتدأ أمير المؤمنين بذلك، واصطفاه له، والله بالغ أمره لقد أصبح أمير المؤمنين وهو على اليقين من ربه، أنه لا يملك لنفسه فيما أعطاه من كرامته ضرا ولا نفعا، وإن الله ولي ذلك منه، وانه لا بد له من مزايلته، والله أرأف بعباده وأرحم من أن يولي أمرهم غير الرضي له منهم وإن أمير المؤمنين من حسن ظنه بربه لعلى أحسن الرجاء أن يوليه تسبيب ذلك لمن هو أهله في الرضا له به ولهم، فإن بلاء الله عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره، أو يؤديه شكره، إلا بعون منه، ولئن كان قدر لأمير المؤمنين تعجيل وفاة، إن في الذي هو مفض إليه إن شاء الله من كرامة الله لخلفا من الدنيا ولعمري إن كتابك إلى أمير المؤمنين بما كتبت به لغير مستنكر من سفهك وحمقك، فاربع على نفسك من غلوائها، وارقأ على ظلعك، فإن لله سطوات وعينا، يصيب بذلك من يشاء، ويأذن فيه لمن يشاء ممن شاء الله، وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق لأحب الأمور إليه وأرضاها له.
                فكتب الوليد إلى هشام:
                رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي ... فلو كنت ذا إرب لهدمت ما تبني
                [الأغاني: 7 : 8، وفي ابن الأثير: "تبنى دائما"]
                تثير على الباقين مجنى ضغينة ... فويل لهم إن مت من شر ما تجنى!
                كأني بهم والليت افضل قولهم ... الا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغني
                كفرت يدا من منعم لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن
                قَالَ: فلم يزل الوليد مقيما في تلك البرية حتى مات هشام، فلما كان صبيحة اليوم الذي جاءته فيه الخلافة، أرسل إلى أبي الزبير المنذر بْن أبي عمرو، فأتاه فقال له. يا أبا الزبير، ما أتت علي ليلة منذ عقلت عقلي أطول من هذه الليلة، عرضت لي هموم، وحدثت نفسي فيها بأمور من أمر هذا الرجل، الذي قد أولع بي- يعني هشاما- فأركب بنا نتنفس، فركبا، فسارا ميلين، ووقف على كثيب، وجعل يشكو هشامًا إذ نظر إلى رهج، فقال: هؤلاء رسل هشام، نسأل الله من خيرهم، إذ بدا رجلان على البريد مقبلان، أحدهما مولى لأبي محمد السفياني، والآخر جردبة.
                فلما قربا أتيا الوليد، فنزلا يعدوان حتى دنوا منه، فسلما عليه بالخلافة، فوجم، وجعل جردبة يكرر عليه السلام بالخلافة، فقال: ويحك! أمات هشام! قَالَ: نعم، قَالَ فممن كتابك؟ قَالَ: من مولاك سالم بْن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل فقرا الكتاب وانصرفا، فدعا مولى أبي محمد السفياني فسأله عن كاتبه عياض بْن مسلم، فقال: يا أمير المؤمنين، لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام أمر الله فلما صار في حد لا ترجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزان، أن احتفظوا بما في أيديكم، فلا يصلن أحد منه إلى شيء وأفاق هشام إفاقة، فطلب شيئا فمنعوه فقال: أرانا كنا خزانا للوليد! ومات من ساعته وخرج عياض من السجن، فختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه، فما وجدوا له قمقما يسخن له فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا كفنا من الخزائن، فكفنه غالب مولى هشام، فكتب الوليد إلى العباس بْن الوليد بْن عبد الملك بْن مروان أن يأتي الرصافة، فيحصي ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذ عماله وحشمه، إلا مسلمة بْن هشام، فإنه كتب اليه الا يعرض له، ولا يدخل منزله، فإنه كان يكثر أن يكلم أباه في الرفق به، ويكفه عنه فقدم العباس الرصافة فأحكم ما كتب به إليه الوليد، وكتب إلى الوليد بأخذ بني هشام وحشمه وإحصاء أموال هشام، فقال الوليد:
                ليت هشاما كان حيا يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا
                [الأغاني: 7 : 18]

                ويروى:
                ليت هشاما عاش حتى يرى ... مكياله الأوفر قد طبعا
                كلناه بالصاع الذي كاله ... وما ظلمناه به إصبعا
                وما أتينا ذاك عن بدعة ... أحله الفرقان لي أجمعا
                فاستعمل الوليد العمال، وجاءته بيعته من الآفاق، وكتب إليه العمال، وجاءته الوفود، وكتب إليه مروان بْن محمد:
                بارك الله لأمير المؤمنين فيما أصاره إليه من ولاية عباده، ووراثة بلاده، وكان من تغشى غمرة سكرة الولاية ما حمل هشاما على ما حاول من تصغير ما عظم الله من حق أمير المؤمنين، ورام من الأمر المستصعب عليه، الذي أجابه إليه المدخولون
                [المدخول: من في عقله دخل؛ أي فساد. القاموس المحيط ص 1290]
                في آرائهم واديانهم، فوجد ما طمع فيه مستصعبا، وزاحمته الأقدار بأشد مناكبها وكان أمير المؤمنين بمكان من الله حاطه فيه حتى أزره بأكرم مناطق الخلافة، فقام بما أراه الله له أهلا، ونهض مستقلا بما حمل منها، مثبتة ولايته في سابق الزبر
                [الزبر: جمع زبور؛ وهو الكتاب. القاموس المحيط ص 509]
                بالأجل المسمى، وخصه الله بها على خلقه وهو يرى حالاتهم، فقلده طوقها، ورمى إليه بأزمة الخلافة، وعظم الأمور.
                فالحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لخلافته، ووثائق عرى دينه، وذب
                له عما كاده فيه الظالمون، فرفعه ووضعهم، فمن أقام على تلك الخسيسة من الأمور اوبق نفسه،
                [أوبق نفسه: أي أهلكها. القاموس المحيط ص1197]
                واسخط ربه، ومن عدلت به التوبة نازعا عن الباطل إلى حق وجد الله توابا رحيما.
                أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله انى عند ما انتهى إلي من قيامه بولاية خلافة الله، نهضت الى منبري، على سيفان مستعدا بهما لأهل الغش، حتى أعلمت من قبلي ما امتن الله به عليهم من ولاية أمير المؤمنين، فاستبشروا بذلك، وقالوا: لم تأتنا ولاية خليفة كانت آمالنا فيها أعظم ولا هي لنا أسر من ولاية أمير المؤمنين، وقد بسطت يدي لبيعتك فجددتها ووكدتها بوثائق العهود وترداد المواثيق وتغليظ الأيمان، فكلهم حسنت إجابتهم وطاعتهم، فأثبهم يا أمير المؤمنين بطاعتهم من مال الله الذي آتاك، فإنك أجودهم جودا وأبسطهم يدا، وقد انتظروك راجين فضلك قبلهم بالرحم الذي استرحموك، وزدهم زيادة يفضل بها من كان قبلك، حتى يظهر بذلك فضلك عليهم وعلى رعيتك، ولولا ما أحاول من سد الثغر
                [الثغر: موضع المخافة من فروج البلدان. القاموس المحيط ص 458]
                الذي أنا به، لخفت أن يحملني الشوق إلى أمير المؤمنين أن أستخلف رجلا على غير أمره، وأقدم لمعاينة أمير المؤمنين، فإنها لا يعدلها عندي عادل نعمة وإن عظمت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في المسير إليه لأشافهه بأمور كرهت الكتاب بها فعل.
                فلما ولي الوليد أجرى على زمني أهل الشام وعميانهم وكساهم، وأمر لكل إنسان منهم بخادم، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة، وزادهم على ما كان يخرج لهم هشام، وزاد الناس جميعا في العطاء عشرة عشرة، ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة عشرة، لأهل الشام خاصة، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في جوائزهم الضعف وكان وهو ولي عهد يطعم من وفد إليه من أهل الصائفة قافلا، ويطعم من صدر عن الحج بمنزل يقال له زيزاء ثلاثة أيام، ويعلف دوابهم، ولم يقل في شيء يسأله: لا، فقيل له: إن في قولك: أنظر، عدة ما يقيم عليها الطالب، فقال: لا أعود لساني شيئا لم أعتده، وقال:
                ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق ... بأن سماء الضر عنكم ستقلع
                [الأغاني: 7 : 21]
                سيوشك إلحاق معا وزيادة ... وأعطية مني عليكم تبرع
                محرمكم ديوانكم وعطاؤكم ... به يكتب الكتاب شهرا وتطبع
                وفي هذه السنة عقد الوليد بْن يزيد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده، وجعلهما وليي عهده، أحدهما بعد الآخر، وجعل الحكم مقدما على عثمان، وكتب بذلك إلى الأمصار، وكان ممن كتب إليه بذلك يوسف بْن عمر، وهو عامل الوليد يومئذ على العراق، وكتب بذلك يوسف إلى نصر بْن سيار، وكانت نسخة الكتاب إليه:
                بسم الله الرحمن الرحيم من يوسف بْن عمر إلى نصر بْن سيار، أما بعد فإني بعثت إليك نسخة كتاب أمير المؤمنين الذي كتب به إلى من قبلي في الذي ولي الحكم ابن أمير المؤمنين وعثمان ابن أمير المؤمنين من العهد بعده مع عقال بْن شبة التميمي وعبد الملك القيني، وأمرتهما بالكلام في ذلك، فإذا قدما عليك فأجمع لقراءة كتاب أمير المؤمنين الناس، ومرهم فليحشدوا له، وقم فيهم بالذي كتب أمير المؤمنين، فإذا فرغت فقم بقراءة الكتاب، وأذن لمن أراد أن يقوم بخطبة، ثم بايع الناس لهما على اسم الله وبركته، وخذ عليهم العهد والميثاق على الذي نسخت لك في آخر كتابي هذا الذي نسخ لنا أمير المؤمنين في كتابه، فافهمه وبايع عليه، نسأل الله أن يبارك لأمير المؤمنين ورعيته في الذي قضى لهم على لسان أمير المؤمنين، وأن يصلح الحكم وعثمان، ويبارك فيهما، والسلام عليك.
                وكتب النصر يوم الخميس للنصف من شعبان سنة خمس وعشرين ومائة.
                بسم الله الرحمن الرحيم تبايع لعبد الله الوليد أمير المؤمنين والحكم ابن أمير المؤمنين ان كان من بعده وعثمان بن أمير المؤمنين إن كان بعد الحكم على السمع والطاعة، وإن حدث بواحد منهما حدث فأمير المؤمنين أملك في ولده ورعيته، يقدم من أحب، ويؤخر من أحب عليك بذلك عهد الله وميثاقه، فقال الشاعر في ذلك:
                نبايع عثمان بعد الوليد ... للعهد فينا ونرجو يزيدا
                كما كان إذ ذاك في ملكه ... يزيد يرجي لذاك الوليدا
                على أنها شسعت شسعة ... فنحن نؤملها أن تعودا
                فان هي عادت فارض القريب ... عنها ليؤيس منها البعيدا
                قَالَ أحمد: قَالَ علي عن شيوخه الذين ذكرت: فقدم عقال بْن شبة وعبد الملك بْن نعيم على نصر، وقدما بالكتاب وهو:
                أما بعد، فإن الله تباركت أسماؤه، وجل ثناؤه، وتعالى ذكره، اختار الاسلام دينا لنفسه، وجعله دين خيرته من خلقه، ثم اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس، فبعثهم به، وأمرهم به، وكان بينهم وبين من مضى من الأمم، وخلا من القرون قرنا فقرنا، يدعون إلى التي هي أحسن، ويهدون إلى صراط مستقيم، حتى انتهت كرامة الله في نبوته إلى محمد صلوات الله عليه، على حين دروس من العلم، وعمى من الناس، وتشتيت من الهوى، وتفرق من السبل، وطموس من أعلام الحق، فأبان الله به الهدى، وكشف به العمى، واستنقذ به من الضلالة والردى، وأبهج به الدين، وجعله رحمه للعالمين، وختم به وحيه، وجمع له ما أكرم به الأنبياء قبله، وقفى به على آثارهم، مصدقا لما نزل معهم، ومهيمنا عليه، وداعيا إليه، وآمرا به، حتى كان من أجابه من أمته، ودخل في الدين الذي أكرمهم الله به، مصدقين لما سلف من أنبياء الله فيما يكذبهم فيه قومهم، منتصحين لهم فيما ينهونه، ذابين لحرمهم عما كانوا منتهكين، معظمين منها لما كانوا
                مصغرين، فليس من أمه محمد ص أحد كان يسمع لأحد من أنبياء الله فيما بعثه الله به مكذبا، ولا عليه في ذلك طاعنا، ولا له مؤذيا، بتسفيه له، او رد عليه، او جحد ما انزل الله عليه ومعه، فلم يبق كافر إلا استحل بذلك دمه، وقطع الأسباب التي كانت بينه وبينه، وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو عشيرتهم ثم استخلف خلفاءه على منهاج نبوته، حين قبض نبيه ص، وختم به وحيه لإنفاذ حكمه، وإقامة سنته وحدوده، والأخذ بفرائضه وحقوقه، تأييدا بهم للإسلام، وتشييدا بهم لعراه، وتقوية بهم لقوى حبله، ودفعا بهم عن حريمه، وعدلا بهم بين عباده، وإصلاحا بهم لبلاده، فإنه تبارك وتعالى يقول: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» ، فتتابع خلفاء الله على ما أورثهم الله عليه من أمر أنبيائه، واستخلفهم عليه منه، لا يتعرض لحقهم أحد إلا صرعه الله، ولا يفارق جماعتهم أحد إلا أهلكه الله، ولا يستخف بولايتهم، ويتهم قضاء الله فيهم أحد إلا أمكنهم الله منه، وسلطهم عليه، وجعله نكالا وموعظة لغيره، وكذلك صنع الله بمن فارق الطاعة التي أمر بلزومها والأخذ بها، والأثرة لها، والتي قامت السموات والارض بها، قَالَ الله تبارك وتعالى:
                «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» ، وقال عز ذكره: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» .
                فبالخلافة أبقى الله من أبقى في الأرض من عباده، وإليها صيره، وبطاعة من ولاه إياها سعد من ألهمها ونصرها، فإن الله عز وجل علم أن لا قوام
                لشيء، ولا صلاح له إلا بالطاعة التي يحفظ الله بها حقه، ويمضي بها أمره، وينكل
                [أنكله عن حاجته: دفعه عنها. القاموس المحيط ص1376]
                بها عن معاصيه، ويوقف عن محارمه، ويذب عن حرماته، فمن أخذ بحظه منها كان لله وليا ولأمره مطيعا، ولرشده مصيبا، ولعاجل الخير وآجله مخصوصا، ومن تركها ورغب عنها وحاد الله فيها أضاع نصيبه، وعصى ربه، وخسر دنياه وآخرته، وكان ممن غلبت عليه الشقوة، واستحوذت عليه الأمور الغاوية، التي تورد أهلها أفظع المشارع،
                [المشارع: جمع مشرعة؛ وهو مورد الشاربة. القاموس المحيط ص 946]
                وتقودهم إلى شر المصارع، فيما يحل الله بهم في الدنيا من الذلة والنقمة، ويصيرهم فيما عندهم من العذاب والحسرة.
                والطاعة رأس هذا الأمر وذروته وسنامه وملاكه وزمامه، وعصمته وقوامه، بعد كلمة الإخلاص التي ميز الله بها بين العباد وبالطاعة نال المفلحون من الله منازلهم، واستوجبوا عليه ثوابهم، وفي المعصية مما يحل بغيرهم من نقماته، ويصيبهم عليه، ويحق من سخطه وعذابه، وبترك الطاعة والإضاعة لها والخروج منها والادبار عنها والتبذل للمعصية بها، أهلك الله من ضل وعتا، وعمى وغلا، وفارق مناهج البر والتقوى.
                فالزموا طاعة الله فيما عراكم ونالكم، وألم بكم من الأمور، وناصحوها واستوثقوا عليها، وسارعوا إليها وخالصوها، وابتغوا القربة إلى الله بها، فإنكم قد رأيتم مواقع الله لأهلها في إعلائه إياهم وإفلاجه
                [أفلج ااه حجته: نصرها وأظهرها. الاقموس المحيط ص258]
                حجتهم، ودفعه باطل من حادهم وناواهم وساماهم وأراد إطفاء نور الله الذي معهم وخبرتم مع ذلك ما يصير إليه أهل المعصية من التوبيخ لهم والتقصير بهم، حتى يؤول أمرهم إلى تبار وصغار، وذلة وبوار، وفي ذلك لمن كان له رأي وموعظة عبرة ينتفع بواضحها، ويتمسك بحظوتها، ويعرف خيرة قضاء الله لأهلها.
                ثم إن الله- وله الحمد والمن والفضل- هدى الأمة لأفضل الأمور عاقبة لها في حقن دمائها، والتئام ألفتها، واجتماع كلمتها، واعتدال عمودها،
                وإصلاح دهمائها،
                [الدهماء: جماعة الناس. القاموس المحيط ص1433]
                وذخر النعمة عليها في دنياها، بعد خلافته التي جعلها لهم نظاما، ولأمرهم قواما، وهو العهد الذي ألهم الله خلفاءه توكيده والنظر للمسلمين في جسيم أمرهم فيه، ليكون لهم عند ما يحدث بخلفائهم ثقة في المفزع وملتجأ في الأمر، ولما للشعث، وصلاحا لذات البين، وتثبيتا لأرجاء الإسلام، وقطعا لنزغات الشيطان، فيما يتطلع إليه أولياؤه، ويوثبهم عليه من تلف هذا الدين وانصداع شعب أهله، واختلافهم فيما جمعهم الله عليه منه، فلا يريهم الله في ذلك إلا ما ساءهم، وأكذب أمانيهم، ويجدون الله قد أحكم بما قضى لأوليائه من ذلك عقد أمورهم، ونفى عنهم من أراد فيها إدغالا أو بها إغلالا، أو لما شدد الله منها توهينا، أو فيما تولى الله منها اعتمادا، فأكمل الله بها لخلفائه وحزبه البر الذين أودعهم طاعته أحسن الذي عودهم، وسبب لهم من إعزازه وإكرامه وإعلائه وتمكينه، فأمر هذا العهد من تمام الإسلام وكمال ما استوجب الله على أهله من المنن العظام، ومما جعل الله فيه لمن أجراه على يديه، وقضى به على لسانه، ووفقه لمن ولاه هذا الأمر عنده أفضل الذخر، وعند المسلمين أحسن الأثر فيما يؤثر بهم من منفعته، ويتسع لهم من نعمته، ويستندون إليه من عزه، ويدخلون فيه من وزره الذى يجعل الله لهم به منعة، ويحرزهم به من كل مهلكة، ويجمعهم به من كل فرقة، ويقمع به أهل النفاق، ويعصمهم به من كل اختلاف وشقاق فاحمدوا الله ربكم الرءوف بكم، الصانع لكم في أموركم على الذي دلكم عليه من هذا العهد، الذي جعله لكم سكنا ومعولا تطمئنون إليه، وتستظلون في أفنانه، ويستنهج لكم به مثنى أعناقكم، وسمات وجوهكم، وملتقى نواصيكم في أمر دينكم ودنياكم، فإن لذلك خطرا عظيما من النعمة، وإن فيه من الله بلاء حسنا في سعة العافيه، يعرفه ذوو الألباب والنيات المريئون من أعمالهم في العواقب، والعارفون منار مناهج الرشد، فأنتم حقيقون بشكر الله فيما حفظ به دينكم وأمر جماعتكم من ذلك، جديرون بمعرفة كنه واجب حقه فيه، وحمده على الذي عزم لكم منه، فلتكن منزلة ذلك منكم، وفضيلته في أنفسكم على قدر حسن بلاء الله عندكم فيه إن شاء اللَّه، ولا قوة إلا بالله.
                ثم إن أمير المؤمنين لم يكن منذ استخلفه الله بشيء من الأمور أشد اهتماما وعناية منه بهذا العهد، لعلمه بمنزلته من أمر المسلمين، وما أراهم الله فيه من الأمور التي يغتبطون بها، ويكرمهم بما يقضي لهم ويختار له ولهم فيه جهده، ويستقضي له ولهم فيه إلهه ووليه، الذي بيده الحكم وعند الغيب، وهو على كل شيء قدير ويسأله أن يعينه من ذلك على الذي هو أرشد له خاصة وللمسلمين عامة.
                فرأى أمير المؤمنين أن يعهد لكم عهدا بعد عهد، تكونون فيه على مثل الذي كان عليه من كان قبلكم، في مهلة من انفساح الأمل وطمأنينة النفس، وصلاح ذات البين، وعلم موضع الأمر الذي جعله الله لأهله عصمة ونجاة وصلاحا وحياة، ولكل منافق وفاسق يحب تلف هذا الدين وفساد أهله وقما وخسارا وقدعا
                [الوقم: الإذلال القاموس المحيط ص 1507، والقدع: الكف. القاموس المحيط 967]
                فولى أمير المؤمنين ذلك الحكم ابن أمير المؤمنين، وعثمان بن أمير المؤمنين من بعده، وهما ممن يرجو أمير المؤمنين أن يكون الله خلقه لذلك وصاغه، وأكمل فيه أحسن مناقب من كان يوليه إياه، في وفاء الرأي وصحة الدين، وجزالة المروءة والمعرفة بصالح الأمور، ولم يألكم أمير المؤمنين ولا نفسه في ذلك اجتهادا وخيرا.
                فبايعوا للحكم بن أمير المؤمنين باسم الله وبركته ولأخيه من بعده، على السمع والطاعة، واحتسبوا في ذلك أحسن ما كان الله يريكم ويبليكم ويعودكم ويعرفكم في أشباهه فيما مضى، من اليسر الواسع والخير العام، والفضل العظيم الذي أصبحتم في رجائه وخفضه وأمنه ونعمته، وسلامته وعصمته. فهو الأمر الذي استبطأتموه واستسرعتم إليه، وحمدتم الله على إمضائه إياه، وقضائه لكم، وأحدثتم فيه شكرا، ورأيتموه لكم حظا، تستبقونه وتجهدون أنفسكم في أداء حق الله عليكم، فإنه قد سبق لكم في ذلك من نعم الله وكرامته وحسن قسمه ما أنتم حقيقون أن تكون رغبتكم فيه، وحدبكم عليه، على قدر الذي أبلاكم الله، وصنع لكم منه.
                وأمير المؤمنين مع ذلك إن حدث بواحد من وليي عهده حدث، أولى بأن يجعل مكانه وبالمنزل الذي كان به من أحب أن يجعل من أمته أو ولده، ويقدمه بين يدي الباقي منهما إن شاء، أو أن يؤخره بعده فاعلموا ذلك وافهموه.
                نسأل الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أن يبارك لأمير المؤمنين ولكم في الذي قضى به على لسانه من ذلك وقدر منه، وأن يجعل عاقبته عافية وسرورا وغبطة، فإن ذلك بيده ولا يملكه إلا هو، ولا يرغب فيه إلا إليه والسلام عليكم ورحمة الله.
                وكتب سمال يوم الثلاثاء لثمان بقين من رجب سنه خمس وعشرين ومائه.
                وفيها وفد يوسف بن عمر على الوليد، فاشترى نصرا وعماله منه فرد إليه الوليد ولاية خراسان.
                وفي هذه السنة كتب يوسف بْن عمر إلى نصر بْن سيار يأمره بالقدوم عليه، ويحمل معه ما قدر عليه من الهدايا والأموال.
                *ذكر الخبر عما كان من أمر يوسف ونصر في ذلك :
                ذكر علي عن شيوخه، أن يوسف كتب إلى نصر بذلك، وأمره أن يقدم معه بعياله أجمعين، فلما أتى نصرا كتابه، قسم على أهل خراسان الهدايا وعلى عماله، فلم يدع بخراسان جارية ولا عبدا ولا برذونا فارها إلا أعده، واشترى ألف مملوك، وأعطاهم السلاح، وحملهم على الخيل.
                قَالَ: وقال بعضهم: كان قد اعد خمسمائة وصيفة، وأمر بصنعة أباريق الذهب والفضة وتماثيل الظباء ورءوس السباع والأيائل وغير ذلك، فلما فرغ من ذلك كله كتب إليه الوليد يستحثه، فسرح الهدايا حتى بلغ
                أوائلها بيهق، فكتب إليه الوليد يأمره أن يبعث إليه ببرابط وطنابير، فقال بعض شعرائهم:
                فابشر يا أمين الله ... أبشر بتباشير
                بإبل يحمل المال ... عليها كالانابير
                بغال تحمل الخمر ... حقائبها طنابير
                ودل البربريات ... بصوت البم والزير
                وقرع الدف أحيانا ... ونفخ بالمزامير
                فهذا لك في الدنيا ... وفي الجنة تحبير
                قَالَ: وقدم الأزرق بْن قرة المسمعي من الترمذ أيام هشام على نصر، فقال لنصر: إني أريت الوليد بْن يزيد في المنام، وهو ولي عهد، شبه الهارب من هشام، ورأيته على سرير، فشرب عسلا وسقاني بعضه فأعطاه نصر أربعة آلاف دينار وكسوه، وبعثه الى الوليد، وكتب اليه نصر.
                فأتى الأزرق الوليد، فدفع إليه المال والكسوة، فسر بذلك الوليد، وألطف الأزرق، وجزى نصرا خيرا، وانصرف الأزرق، فبلغه قبل أن يصل إلى نصر موت هشام، ونصر لا علم له بما صنع الأزرق، ثم قدم عليه فأخبره، فلما ولي الوليد كتب إلى الأزرق وإلى نصر، وأمر رسوله أن يبتدئ بالأزرق فيدفع إليه كتابه، فأتاه ليلا، فدفع إليه كتابه وكتاب نصر، فلم يقرأ الأزرق كتابه، واتى نصرا بالكتابين، فكان في كتاب الوليد إلى نصر يأمره أن يتخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل صناجة بخراسان يقدر عليها، وكل بازي وبرذون فاره، ثم يسير بذلك كله بنفسه في وجوه أهل خراسان فقال رجل من باهلة: كان قوم من المنجمين يخبرون نصرا بفتنة تكون، فبعث نصر إلى صدقة بْن وثاب وهو ببلخ- وكان منجما- وكان عنده وألح عليه يوسف بالقدوم، فلم يزل يتباطأ، فوجه يوسف رسولا وأمره بلزومه يستحثه بالقدوم، أو ينادي في الناس أنه قد خلع، فلما جاءه الرسول أجازه وأرضاه، وتحول إلى قصره الذي هو دار الإمارة اليوم، فلم يأت لذلك إلا يسير حتى وقعت الفتنة، فتحول نصر إلى قصره بماجان، واستخلف عصمة بْن عبد الله الأسدي على خراسان، وولى المهلب بْن إياس العدوي الخراج، وولى موسى بْن ورقاء الناجي الشاش، وحسان من أهل صغانيان الأسدي سمرقند، ومقاتل بْن علي السغدي آمل، وأمرهم إذا بلغهم خروجه من مرو أن يستحلبوا الترك، وأن يغيروا على ما وراء النهر، لينصرف إليهم بعد خروجه، يعتل بذلك، فبينا هو يسير يوما إلى العراق طرقه ليلا مولى لبني ليث، فلما أصبح أذن للناس، وبعث إلى رسل الوليد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: قد كان في مسيري ما قد علمتم، وبعثي بالهدايا ما رأيتم، فطرقني فلان ليلا، فأخبرني أن الوليد قد قتل، وأن الفتنة قد وقعت بالشام، وقدم منصور بْن جمهور العراق، وقد هرب يوسف ابن عمر، ونحن في بلاد قد علمتم حالها وكثرة عدونا ثم دعا بالقادم فأحلفه أن ما جاء به لحق! فحلف، فقال سلم بْن أحوز: أصلح الله الأمير، لو حلفت لكنت صادقا، إنه بعض مكايد قريش، أرادوا تهجين طاعتك، فسر ولا تهجنا قَالَ: يا سلم أنت رجل لك علم بالحروب، ولك مع ذلك حسن طاعة لبني أمية، فأما مثل هذا من الأمور فرأيك فيه رأي أمة هماء.
                [الهماء: التي انكسرت ثنيتها. القاموس المحيط ص72]

                ثم قَالَ نصر: لم أشهد بعد ابن خازم امرا مفظعا الا كنت المفزع في الرأي، فقال الناس: قد علمنا ذلك، فالرأي رأيك.

                وفي هذه السنة وجه الوليد بْن يزيد خاله يوسف بْن محمد بْن يوسف الثقفي واليا على المدينة ومكة والطائف، ودفع إليه إبراهيم ومحمد ابني هشام بْن إسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين، فقدم بهما المدينة يوم السبت لاثنتي عشرة بقيت من شعبان سنة خمس وعشرين ومائة، فأقامهما للناس بالمدينة ثم كتب الوليد اليه يأمره أن يبعث بهما إلى يوسف بْن عمر، وهو يومئذ عامله على العراق، فلما قدما عليه عذبهما حتى قتلهما، وقد كان رفع عليهما عند الوليد أنهما أخذا مالا كثيرا.
                وفي هذه السنة عزل يوسف بْن محمد بْن سعد بْن إبراهيم عن قضاء المدينة، وولاهما يحيى بن سعيد الأنصاري.

                غزو قبرس
                وفيها غزى الوليد بْن يزيد أخاه الغمر بْن يزيد بْن عبد الملك، وأمر على جيش البحر الأسود بْن بلال المحاربي، وأمره أن يسير إلى قبرس فيخيرهم بين المسير إلى الشام إن شاءوا، وإن شاءوا إلى الروم، فاختارت طائفة منهم جوار المسلمين، فنقلهم الأسود إلى الشام، واختار آخرون أرض الروم فانتقلوا إليها.

                وفيها قدم سليمان بْن كثير ومالك بْن الهيثم ولاهز بْن قريظ وقحطبة بن شبيب مكة، فلقوا- في قول بعض أهل السير- محمد بْن علي فأخبروه بقصة أبي مسلم وما رأوا منه، فقال لهم: أحر هو أم عبد؟ قالوا: أما عيسى فيزعم أنه عبد، وأما هو فيزعم أنه حر، قَالَ: فاشتروه وأعتقوه، وأعطوا محمد بْن علي مائتي ألف درهم وكسوة بثلاثين ألف درهم، فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامي هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم إبراهيم بْن محمد، فإني أثق به وأوصيكم به خيرا، فقد أوصيته بكم فصدروا من عنده.
                وحج بالناس في هذه السنة يوسف بْن محمد بْن يوسف الثقفي، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر.

                *ذكر الخبر عن مقتله:
                قد مضى ذكرنا قبل أمر مصير يحيى بْن زيد بْن علي إلى خراسان. وسبب ذلك، ونذكر الان سبب مقتله، إذا كان ذلك فِي هَذِهِ السنة.
                ذكر هِشَام بْن مُحَمَّدٍ الكلبي عن أبي مخنف، قَالَ: أقام يحيى بْن زيد بْن علي عند الحريش بْن عمرو بْن داود ببلخ حتى هلك هشام بْن عبد الملك، وولي الوليد بْن يزيد بْن عبد الملك فكتب يوسف بْن عمر إلى نصر بْن سيار بمسير يحيى بْن زيد وبمنزله الذي كان ينزل، حتى أخبره أنه عند الحريش، وقال له: ابعث إليه وخذه أشد الأخذ فبعث نصر بْن سيار إلى عقيل بْن معقل العجلي، يأمره أن يأخذ الحريش ولا يفارقه حتى تزهق نفسه أو يأتيه بيحيى بْن زيد بْن علي فبعث إليه عقيل، فسأله عنه، فقال: لا علم لي به، فجلده سمائه سوط، فقال له الحريش: والله لو أنه كان تحت قدمي ما رفعتهما لك عنه، فلما رأى ذلك قريش بْن الحريش أتى عقيلا، فقال: لا تقتل أبي وأنا أدلك عليه، فأرسل معه فدله عليه، وهو في بيت في جوف بيت، فأخذه ومعه يزيد بْن عمر والفضل مولى عبد القيس- كان أقبل معه من الكوفة- فأتى به نصر بْن سيار فحبسه، وكتب إلى يوسف بْن عمر يخبره بذلك، فكتب بذلك يوسف إلى الوليد بْن يزيد، فكتب الوليد إلى نصر بْن سيار، يأمره أن يؤمنه ويخلي سبيله وسبيل اصحابه، فدعاه نصر ابن سيار، فأمره بتقوى الله وحذره الفتنة، وأمره أن يلحق بالوليد بْن يزيد، وأمر له بألفي درهم وبغلين، فخرج هو وأصحابه حتى انتهى إلى سرخس، فأقام بها وعليها عبد الله بْن قيس بْن عباد، فكتب إليه نصر بْن سيار أن يشخصه عنها، وكتب إلى الحسن بْن زيد التميمي- وكان رأس بني تميم، وكان على طوس- أن انظر يحيى بْن زيد، فإذا مر بكم فلا تدعه يقيم بطوس حتى يخرج منها، وأمرهما إذا هو مر بهما ألا يفارقاه حتى يدفعاه إلى عمرو بْن زرارة بأبرشهر فأشخصه عبد الله بْن قيس من سرخس، ومر بالحسن بْن زيد فأمره أن يمضي، ووكل به سرحان بْن فروخ بْن مجاهد بْن بلعاء العنبري أبا الفضل، وكان على مسلحة.
                قَالَ: فدخلت عليه، فذكر نصر بْن سيار وما أعطاه، فإذا هو كالمستقل له، فذكر أمير المؤمنين الوليد بْن يزيد، فاثنى عليه، وذكر مجيئه باصحابه معه، وأنه لم يأت بهم إلا مخافة أن يسم أو يغم، وعرض بيوسف، وذكر أنه إياه يتخوف، وقد كان أراد أن يقع فيه. ثم كف، فقلت له: قل ما أحببت رحمك الله، فليس عليك مني عين، فقد أتى إليك ما يستحق أن تقول فيه.
                ثم قَالَ: العجب من هذا الذي يقيم الأحراس أو أمر الأحراس قَالَ- وهو حينئذ يتفصح: والله لو شئت أن أبعث اليه، فاوتى به مربوطا قَالَ: فقلت له: لا والله ما بك صنع هذا، ولكن هذا شيء يصنع في هذا المكان أبدا، لمكان بيت المال قَالَ: واعتذرت إليه من مسيري معه، وكنت أسير معه على رأس فرسخ، فأقبلنا معه حتى وقعنا إلى عمرو بْن زرارة، فأمر له بألف درهم، ثم أشخصه حتى انتهى إلى بيهق، وخاف اغتيال يوسف إياه، فأقبل من بيهق- وهي أقصى أرض خراسان، وأدناه من قومس- فأقبل في سبعين رجلا إلى عمرو بْن زرارة، ومر به تجار، فأخذ دوابهم، وقال:
                علينا أثمانها فكتب عمرو بْن زرارة إلى نصر بْن سيار، فكتب نصر إلى عبد الله بْن قيس وإلى الحسن بْن زيد أن يمضيا إلى عمرو بْن زرارة، فهو عليهم، ثم ينصبوا ليحيى بْن زيد فيقاتلوه فجاءوا حتى انتهوا إلى عمرو بن زراره، واجتمعوا فكانوا عشره آلاف، وأتاهم يحيى بن زيد، وليس هو إلا في سبعين رجلا، فهزمهم وقتل عمرو بْن زرارة، وأصاب دواب كثيرة.
                وجاء يحيى بْن زيد حتى مر بهراة، وعليها مغلس بْن زياد العامري، فلم
                يعرض واحد منهما لصاحبه، فقطعها يحيى بْن زيد، وسرح نصر بْن سيار سلم بْن أحوز في طلب يحيى بْن زيد، فأتى هراة حين خرج منها يحيى بْن زيد فأتبعه فلحقه بالجوزجان بقرية منها، وعليها حماد بْن عمرو السغدي.
                قَالَ: ولحق بيحيى بْن زيد رجل من بني حنيفة يقال له أبو العجلان، فقتل يومئذ معه، ولحق به الحسحاس الأزدي فقطع نصر بعد ذلك يده ورجله.
                قال: فبعث سلم بن احوز سوره بْن محمد بْن عزيز الكندي على ميمنته، وحماد بْن عمرو السغدي على ميسرته، فقاتله قتالا شديدا، فذكروا أن رجلا من عنزة يقال له عيسى، مولى عيسى بْن سليمان العنزي رماه بنشابة، فأصاب جبهته.
                قَالَ: وقد كان محمد شهد ذلك اليوم، فأمره سلم بتعبئه الناس، فتمارض عليه، فعبى الناس سورة بْن محمد بْن عزيز الكندي، فاقتتلوا فقتلوا من عند آخرهم ومر سورة بيحيى بْن زيد فأخذ رأسه، وأخذ العنزي سلبه وقميصه، وغلبه سورة على رأسه.
                فلما قتل يحيى بْن زيد وبلغ خبره الوليد بْن يزيد، كتب- فيما ذكر هشام عن موسى بْن حبيب، أنه حدثه- إلى يوسف بْن عمر: إذا أتاك كتابي هذا، فانظر عجل العراق فأحرقه ثم انسفه في اليم نسفا قَالَ: فأمر يوسف خراش بْن حوشب، فأنزله من جذعه وأحرقه بالنار، ثم رضه فجعله في قوصرة، ثم جعله في سفينة، ثم ذراه في الفرات.

                وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                تعليق


                • #53
                  رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                  قَالَ: وقال عمرو بْن سعيد الثقفي: أوفدني يوسف بْن عمر إلى الوليد فلما قدمت قَالَ لي: كيف رأيت الفاسق؟ يعني بالفاسق الوليد- ثم قَالَ:
                  إياك أن يسمع هذا منك أحد، فقلت: حبيبة بنت عبد الرحمن بْن جبير طالق إن سمعته أذني ما دمت حيا، فضحك قَالَ: فثقل الوليد على الناس، ورماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه، وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة، وكتب على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها ورموه بالزندقة، وكان أشدهم فيه قولا يزيد بْن الوليد بْن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، ويقول: ما يسعنا الرضا بالوليد، حتى حمل الناس على الفتك به.
                  وقال علي عن الحكم بْن النعمان، قَالَ: أجمع الوليد على عزل يوسف واستعمال عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج، فكتب إلى يوسف: إنك كتبت إلى أمير المؤمنين تذكر تخريب ابن النصرانية البلاد، وقد كنت على ما ذكرت من ذلك تحمل إلى هشام ما تحمل، وقد ينبغي أن تكون قد عمرت البلاد حتى رددتها إلى ما كانت عليه، فاشخص إلى أمير المؤمنين، فصدق ظنه بك فيما تحمل إليه لعمارتك البلاد، وليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك، لما جعل الله بينك وبين أمير المؤمنين من القرابة، فإنك خاله، وأحق الناس بالتوفير عليه، ولما قد علمت مما أمر به أمير المؤمنين لأهل الشام وغيرهم من الزيادة في أعطياتهم، وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام إياهم، حتى أضر ذلك ببيوت الأموال قَالَ: فخرج يوسف واستخلف ابن عمه يوسف بْن محمد، وحمل من الأموال والأمتعة والآنية ما لم يحمل من العراق مثله فقدم- وخالد بْن عبد الله محبوس- فلقيه حسان النبطي ليلا، فأخبره أن الوليد عازم على تولية عبد الملك بْن محمد ابن الحجاج، وأنه لا بد ليوسف فيها من إصلاح أمر وزرائه، فقال: ليس عندي فضل درهم، قال: فعندي خمسمائة ألف درهم، فإن شئت فهي لك، وإن شئت فارددها إذا تيسرت قَالَ: فأنت أعرف بالقوم ومنازلهم من الخليفة مني، ففرقها على قدر علمك فيهم، ففعل وقدم يوسف والقوم يعظمونه، فقال له حسان: لا تغد على الوليد، ولكن رح إليه رواحا، واكتب على لسان خليفتك كتابا إليك: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر. وادخل على الوليد والكتاب معك متحازنا، فاقرئه الكتاب، ومر ابان ابن عبد الرحمن النميري يشتري خالدا منه بأربعين ألف ألف ففعل يوسف، فقال له الوليد: ارجع إلى عملك، فقال له أبان: ادفع إلي خالدا وأدفع إليك أربعين ألف ألف درهم، قَالَ: ومن يضمن عنك؟ قَالَ: يوسف، قَالَ: أتضمن عنه؟ قَالَ: بل ادفعه إلي، فأنا أستأديه خمسين ألف ألف، فدفعه إليه، فحمله في محمل بغير وطاء.
                  قَالَ محمد بْن محمد بْن القاسم: فرحمته، فجمعت ألطافا كانت معنا من أخبصة يابسة وغيرها في منديل، وأنا على ناقة فارهة، فتغفلت يوسف، فأسرعت ودنوت من خالد، ورميت بالمنديل في محمله، فقال لي: هذا من متاع عمان- يعني أن أخي الفيض كان على عمان، فبعث إلي بمال جسيم- فقلت في نفسي: هذا على هذه الحالة وهو لا يدع هذا! ففطن يوسف بي فقال لي: ما قلت لابن النصرانية؟ فقلت: عرضت عليه الحاجة، قال: احسنت، هو اسير، ولو فطن بما ألقيت إليه للقيني منه أذى.
                  وقدم الكوفة فقتله في العذاب، فقال الوليد بْن يزيد- فيما زعم الهيثم بْن عدي- شعرا يوبخ به أهل اليمن في تركهم نصرة خالد بْن عبد الله.
                  وأما احمد بن زهير، فانه حدثه عن علي بْن محمد، عن محمد بْن سعيد العامري عامر كلب، أن هذا الشعر قَالَه بعض شعراء اليمن على لسان الوليد يحرض عليه اليمانيه:
                  الم تهتج فتذكر الوصالا ... وحبلا كان متصلا فزالا
                  بلى فالدمع منك له سجام ... كماء المزن ينسجل انسجالا
                  فدع عنك ادكارك آل سعدى ... فنحن الأكثرون حصى ومالا
                  ونحن المالكون الناس قسرا ... نسومهم المذلة والنكالا
                  وطئنا الأشعرين بعز قيس ... فيا لك وطأة لن تستقالا!
                  وهذا خالد فينا أسيرا ... ألا منعوه إن كانوا رجالا!
                  عظيمهم وسيدهم قديما ... جعلنا المخزيات له ظلالا
                  فلو كانت قبائل ذات عز ... لما ذهبت صنائعه ضلالا
                  ولا تركوه مسلوبا أسيرا ... يسامر من سلاسلنا الثقالا
                  - ورواه المدائني: يعالج من سلاسلنا-
                  وكندة والسكون فما استقالوا ... ولا برحت خيولهم الرحالا
                  بها سمنا البرية كل خسف ... وهدمنا السهولة والجبالا
                  ولكن الوقائع ضعضعتهم ... وجذتهم وردتهم شلالا
                  فما زالوا لنا أبدا عبيدا ... نسومهم المذلة والسفالا
                  فأصبحت الغداة علي تاج ... لملك الناس ما يبغي انتقالا
                  فقال عمران بْن هلباء الكلبي يجيبه:
                  قفي صدر المطية يا حلالا ... وجذي حبل من قطع الوصالا
                  ألم يحزنك أن ذوي يمان ... يرى من حاذ قيلهم جلالا
                  جعلنا للقبائل من نزار ... غداة المرج أياما طوالا
                  بنا ملك المملك من قريش ... وأودى جد من أودى فزالا
                  متى تلق السكون وتلق كلبا ... بعبس تخش من ملك زوالا
                  كذاك المرء ما لم يلف عدلا ... يكون عليه منطقه وبالا
                  أعدوا آل حمير إذ دعيتم ... سيوف الهند والأسل النهالا
                  وكل مقلص نهد القصيرى ... وذا فودين والقب الجبالا
                  يذرن بكل معترك قتيلا ... عليه الطير قد مذل السؤالا
                  لئن عيرتمونا ما فعلنا ... لقد قلتم وجدكم مقالا
                  لإخوان الأشاعث قتلوهم فما ... وطئوا ولا لاقوا نكالا
                  وأبناء المهلب نحن صلنا ... وقائعهم وما صلتم مصالا
                  وقد كانت جذام على أخيهم ... ولخم يقتلونهم شلالا
                  هربنا أن نساعدكم عليهم ... وقد أخطأ مساعدكم وفالا
                  فإن عدتم فإن لنا سيوفا ... صوارم نستجد لها الصقالا
                  سنبكي خالدا بمهندات ... ولا تذهب صنائعه ضلالا
                  ألم يك خالد غيث اليتامى ... إذا حضروا وكنت لهم هزالا!
                  يكفن خالد موتى نزار ... ويثري حيهم نشبا ومالا
                  لو أن الجائرين عليه كانوا ... بساحة قومه كانوا نكالا
                  ستلقى ان بقيت مسومات ... عوابس لا يزايلن الحلالا
                  فحدثني أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، قَالَ: فازداد الناس على الوليد حنقا لما رُوِيَ هذا الشعر، فقال ابن بيض:
                  وصلت سماء الضر بالضر بعد ما ... زعمت سماء الضر عنا ستقلع
                  فليت هشاما كان حيا يسوسنا ... وكنا كما كنا نُرًجِّي ونطمع
                  [ابن الأثير: وقال أيضا:
                  يا وليد الخنى تركت الطريقا ... واضحا وارتكبت فجا عميقا
                  وتماديت واعتديت وأسرفـــــ ... ــــــــت وأغويت وانبعثت فسوقا
                  أبدا هات ثم هات وهاتي ... ثم هاتي حتى تخر صعيقا
                  أنت السكران ما تفيق فما تر ... تق فتقا وقد فتقت فتوقا]

                  وكان هشام استعمل الوليد بْن القعقاع على قنسرين وعبد الملك بْن القعقاع على حمص، فضرب الوليد بْن القعقاع ابن هبيرة مائة سوط، فلما قام الوليد هرب بنو القعقاع منه، فعاذوا بقبر يزيد بْن عبد الملك، فبعث إليهم، فدفعهم إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة- وكان على قنسرين- فعذبهم، فمات في العذاب الوليد بْن القعقاع وعبد الملك بْن القعقاع ورجلان معهما من آل القعقاع، واضطغن على الوليد آل الوليد وآل هشام وآل القعقاع واليمانية بما صنع بخالد بْن عبد الله فأتت اليمانية يزيد بْن الوليد، فأرادوه على البيعة، فشاور عمرو بْن يزيد الحكمي، فقال: لا يبايعك الناس على هذا، وشاور أخاك العباس بْن الوليد، فإنه سيد بني مروان، فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن العباس قد بايعك وكانت الشام تلك الأيام وبية، فخرجوا إلى البوادي، وكان يزيد بْن الوليد مُتَبَدِّيًا، وكان العباس بالقسطل بينهما أميال يسيرة.
                  فحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثني علي، قَالَ: أتى يزيد أخاه العباس، فأخبره وشاوره، وعاب الوليد، فقال له العباس: مهلا يا يزيد، فان في نقض عهد الله فساد الدين والدنيا فرجع يزيد إلى منزله، ودب في الناس فبايعوه سرا، ودس الأحنف الكلبي ويزيد بْن عنبسة ال***كي وقوما من ثقاته من وجوه الناس وأشرافهم، فدعوا الناس سرا، ثم عاود أخاه العباس ومعه قطن مولاهم، فشاوره في ذلك، وأخبره ان قوما يأتونه يريدونه على البيعه، فزبره العباس، وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقا، ولأحملنك إلى أمير المؤمنين! فخرج يزيد وقطن، فأرسل العباس إلى قطن، فقال: ويحك يا قطن! أترى يزيد جادا! قَالَ: جعلت فداك! ما أظن ذاك، ولكنه قد دخله مما صنع الوليد ببني هشام وبني الوليد وما يسمع مع الناس من الاستخفاف بالدين وتهاونه ما قد ضاق به ذرعا قَالَ: أما والله إني لأظنه أشأم سخلة في بني مروان، ولولا ما أخاف من عجلة الوليد مع تحامله علينا لشددت يزيد وثاقا، وحملته إليه، فأزجره عن أمره، فإنه يسمع إليك فقال يزيد لقطن: ما قَالَ لك العباس حين رآك؟ فأخبره، فقال له: والله لا أكف.
                  وبلغ معاوية بْن عمرو بْن عتبة خوض الناس، فأتى الوليد فقال: يا أمير المؤمنين، إنك تبسط لساني بالإنس بك، وأكفه بالهيبة لك، وانا اسمع مالا تسمع وأخاف عليك ما أراك تأمن، أفأتكلم ناصحا، أو أسكت مطيعا؟ قَالَ: كل مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه، ولو علم بنو مروان أنهم إنما يوقدون على رضف
                  [الرضف: الحجارة المحماة. القاموس المحيط ص 1051]
                  يلقونه في أجوافهم ما فعلوا، ونعود ونسمع منك.
                  وبلغ مروان بْن محمد بأرمينية أن يزيد يؤلب الناس، ويدعو الى خلع الوليد، فكتب إلى سعيد بْن عبد الملك بْن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم- وكان سعيد يتأله إن الله جعل لكل أهل بيت أركانا يعتمدون عليها، ويتقون بها المخاوف، وأنت بحمد ربك ركن من أركان أهل بيتك، وقد بلغني أن قوما من سفهاء أهل بيتك قد استنوا أمرا- إن تمت لهم رويتهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم- استفتحوا بابا لن يغلقه الله عنهم حتى تسفك دماء كثيرة منهم، وأنا مشتغل بأعظم ثغور المسلمين فرجا، ولو جمعتني وإياهم لرممت فساد أمرهم بيدي ولساني، ولخفت الله في ترك ذلك، لعلمي ما في عواقب الفرقة من فساد الدين والدنيا، وأنه لن ينتقل سلطان قوم قط الا بتشتيت كلمتهم، وان كلمتهم إذا تشتت طمع فيهم عدوهم وأنت أقرب إليهم مني، فاحتل لعلم ذلك واظهار المتابعة لهم، فإذا صرت إلى علم ذلك فتهددهم بإظهار أسرارهم، وخذهم بلسانك، وخوفهم العواقب، لعل الله أن يرد إليهم ما قد عزب عنهم من دينهم وعقولهم، فإن فيما سعوا فيه تعير النعم وذهاب الدولة، فعاجل الأمر وحبل الإلفة مشدود، والناس سكون، والثغور محفوظة، فإن للجماعة دوله من الفرقة وللسعه دافعا من الفقر، وللعدد منتقصا، ودول الليالي مختلفة على أهل الدنيا، والتقلب مع الزيادة والنقصان، وقد امتدت بنا- أهل البيت- متتابعات من النعم، قد يعيبها جميع الأمم وأعداء النعم وأهل الحسد لأهلها، وبحسد إبليس خرج آدم من الجنة وقد أمل القوم في الفتنة أملا، لعل أنفسهم تهلك دون ما أملوا، ولكل أهل بيت مشائيم يغير الله النعمة بهم- فاعاذك الله من ذلك- فاجعلني من أمرهم على علم حفظ الله لك دينك، وأخرجك مما أدخلك فيه، وغلب لك نفسك على رشدك.
                  فأعظم سعيد ذلك، وبعث بكتابه الى العباس، فدعا العباس يزيد فعذله وتهدده، فحذره يزيد، وقال: يا أخي، أخاف أن يكون بعض من حسدنا هذه النعمة من عدونا اراد ان يغرى بيننا، وحلف له أنه لم يفعل فصدقه.
                  قَالَ: فلما اجتمع ليزيد امره وهو متبد، أقبل إلى دمشق وبينه وبين دمشق أربع ليال، متنكرا في سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود على مرحلة من دمشق، فرمى يزيد بنفسه فنام وقال القوم لمولى لعباد بْن زياد: اما عندك طعام فنشريه؟ قَالَ: أما لبيع فلا، ولكن عندي قراكم وما يسعكم.
                  فأتاهم بدجاج وفراخ وعسل وسمن وشوانيز، فطعموا ثم سار فدخل
                  دمشق ليلا، وقد بايع ليزيد أكثر أهل دمشق سرا، وبايع أهل المزة غير معاوية بْن مصاد الكلبي- وهو سيد أهل المزة- فمضى يزيد من ليلته إلى منزل معاوية بْن مصاد ماشيا في نفير من أصحابه- وبين دمشق وبين المزة ميل أو أكثر- فأصابهم مطر شديد، فاتوا منزل معاوية بْن مصاد، فضربوا بابه، ففتح لهم، فدخلوا، فقال ليزيد: الفراش أصلحك الله! قَالَ: إن في رجلي طينا، وأكره أن أفسد بساطك، فقال: الذي تريدنا عليه أفسد فكلمه يزيد فبايعه معاوية- ويقال هشام بْن مصاد- ورجع يزيد إلى دمشق، فأخذ طريق القناة، وهو على حمار أسود، فنزل دار ثابت بْن سليمان بْن سعد الخشني، وخرج الوليد بْن روح، وحلف لا يدخل دمشق إلا في السلاح، فلبس سلاحه، وكفر عليه الثياب، وأخذ طريق النيرب- وهو على فرس أبلق- حتى وافى يزيد، وعلى دمشق عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج بْن يوسف فخاف الوباء، فخرج فنزل قطنا، واستخلف ابنه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج كثير بْن عبد الله السلمي، فأجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل:
                  إن يزيد خارج فلم يصدق وأرسل يزيد إلى أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذنوا العتمة، فدخلوا المسجد، فصلوا- وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل- فلما صلى الناس صاح بهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد، فجعلوا يخرجون من باب المقصورة ويدخلون من باب آخر حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد بْن عنبسة إلى يزيد بْن الوليد، فأعلمه وأخذ بيده، وقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه، فقام وقال: اللهم إن كان هذا لك رضا فأعني عليه وسددني له، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني بموت.
                  وأقبل في اثني عشر رجلا، فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلا من أصحابهم، فلما كانوا عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل من
                  أصحابهم، فمضوا إلى المسجد فدخلوه، فأخذوا باب المقصورة فضربوه وقالوا: رسل الوليد، ففتح لهم الباب خادم فأخذوه ودخلوا، وأخذوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزان بيت المال وصاحب البريد، وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ وأرسل يزيد من ليلته إلى محمد بن عبيده- مولى سعيد ابن العاص وهو على بعلبك- فأخذه، وأرسل من ليلته الى عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج بْن يوسف، فأخذه ووجه إلى الثنية إلى أصحابه ليأتوه، وقال للبوابين: لا تفتحوا الباب غدوة إلا لمن أخبركم بشعارنا فتركوا الأبواب بالسلاسل وكان في المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة، ولم يكن الخزان قبضوه، فأصابوا سلاحا كثيرا، فلما أصبحوا جاء أهل المزة وابن عصام، فما انتصف النهار حتى تبايع الناس، ويزيد يتمثل قول النابغة:
                  إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
                  فجعل أصحاب يزيد يتعجبون، ويقولون: انظروا إلى هذا، هو قبيل الصبح يسبح، وهو الآن ينشد الشعر!
                  وحدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني دكين بن الشماخ الكلبي وأبو علاقة بْن صالح السلاماني أن يزيد بْن الوليد نادى بأمره مناد: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف درهم؟ فاجتمع إليه أقل من ألف رجل، فأمر رجلا فنادى: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف وخمسمائة؟
                  فانتدب اليه يومئذ الف وخمسمائة، فعقد لمنصور بْن جمهور على طائفة، وعقد ليعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم الكلبي على طائفه اخرى، وعقد لهرم ابن عبد الله بْن دحية على طائفة أخرى، وعقد لحميد بْن حبيب اللخمي على طائفة أخرى، وعليهم جميعا عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك، فخرج عبد العزيز فعسكر بالحيرة.
                  [الأغاني: 7 : 87]

                  وحدثني
                  [الأغاني: 7 : 79 وما بعدها]
                  أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثنا علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني يعقوب بْن إبراهيم بْن الوليد أن مولى للوليد لما خرج يزيد بْن الوليد، خرج على فرس له، فأتى الوليد من يومه، فنفق فرسه حين بلغه، فأخبر الوليد الخبر، فضربه مائة سوط وحبسه، ثم دعا أبا محمد ابن عبد الله بْن يزيد بْن معاوية فأجازه، ووجهه إلى دمشق، فخرج أبو محمد، فلما انتهى إلى ذنبة أقام، فوجه يزيد بْن الوليد إليه عبد الرحمن بْن مصاد، فسالمه أبو محمد، وبايع ليزيد بْن الوليد وأتى الوليد الخبر، وهو بالأغدف- والأغدف من عمان- فقال بيهس بْن زميل الكلابي- ويقال قاله يزيد بْن خالد بْن يزيد بْن معاوية: يا أمير المؤمنين، سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة، ووجه الجنود إلى يزيد فيقتل أو يؤسر فقال عبد الله بن عنبسة ابن سعيد بْن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ويعذر، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره فقال يزيد بْن خالد: وماذا يخاف على حرمه! وإنما أتاه عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك وهو ابن عمهن، فأخذ بقول ابن عنبسة، فقال له الأبرش سعيد بْن الوليد الكلبي: يا أمير المؤمنين، تدمر حصينة، وبها قومي يمنعونك، فقَالَ: ما أرى أن نأتي تدمر وأهلها بنو عامر، وهم الذين خرجوا علي، ولكن دلني على منزل حصين، فقال: ارى أن تنزل القرية، قَالَ: أكرهها، قَالَ: فهذا الهزيم. قَالَ: أكره اسمه، قَالَ: فهذا البخراء، قصر النعمان بْن بشير، قَالَ: ويحك! ما أقبح أسماء مياهكم! فأقبل في طريق السماوة، وترك الريف، وهو في مائتين، فقال:
                  إذا لم يكن خير مع الشر لم تجد ... نصيحا ولا ذا حاجة حين تفزع
                  إذا ما هم هموا بإحدى هناتهم ... حسرت لهم رأسي فلا أتقنع
                  فمر بشبكة الضحاك بْن قيس الفهري، وفيها من ولده وولد ولده أربعون رجلا، فساروا معه وقالوا: إنا عزل، فلو أمرت لنا بسلاح! فما أعطاهم سيفا ولا رمحا، فقال له بيهس بْن زميل: أما إذ أبيت أن تمضي إلى حمص وتدمر فهذا الحصن البخراء فإنه حصين، وهو من بناء العجم فانزله، قَالَ: إني أخاف الطاعون، قَالَ: الذي يراد بك أشد من الطاعون، فنزل حصن البخراء.
                  قَالَ: فندب يزيد بْن الوليد الناس إلى الوليد مع عبد العزيز، ونادى مناديه: من سار معه فله ألفان، فانتدب ألفا رجل، فأعطاهم ألفين ألفين وقال: موعدكم بذنبة، فوافى بذنبة ألف ومائتان، وقال: موعدكم مصنعة بني عبد العزيز بْن الوليد بالبرية، فوافاه ثمانمائه، فسار، فتلقاهم ثقل
                  [الثقل: المتاع. القاموس المحيط ص 1256]
                  الوليد فأخذوه، ونزلوا قريبا من الوليد، فأتاه رسول العباس بْن الوليد: إني آتيك.
                  فقال الوليد: أخرجوا سريرا، فأخرجوا سريرا فجلس عليه وقال: أعلي توثب الرجال، وانا اثب على الأسد واتخصر
                  [تخصر: أخذ المخصرة بيده. القاموس المحيط ص492]
                  الأفاعي! وهم ينتظرون العباس. فقاتلهم عبد العزيز، وعلى الميمنة عمرو بْن حوي ال***كي وعلى المقدمة منصور بْن جمهور وعلى الرجالة عمارة بْن أبي كلثم الأزدي، ودعا عبد العزيز ببغل له أدهم فركبه، وبعث إليهم زياد بْن حصين الكلبي يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فقتله قطري مولى الوليد، فانكشف أصحاب يزيد، فترجل عبد العزيز، فكر أصحابه، وقد قتل من أصحابه عدة وحملت رءوسهم إلى الوليد وهو على باب حصن البخراء قد أخرج لواء مروان بْن الحكم الذي كان عقده بالجابية، وقتل من أصحاب الوليد بْن يزيد عثمان الخشبي، قتله جناح بْن نعيم الكلبي، وكان من أولاد الخشبية الذين كانوا مع المختار.
                  وبلغ عبد العزيز مسير العباس بْن الوليد، فأرسل منصور بْن جمهور في خيل، وقال: إنكم تلقون العباس في الشعب، ومعه بنوه في الشعب فخذوهم فخرج منصور في الخيل فلما صاروا بالشعب إذا هم بالعباس في ثلاثين من بنيه، فقالوا له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم، فقال له منصور: والله لئن تقدمت لأنفذن حصينك- يعني درعك- وقال نوح بْن عمرو بْن حوي ال***كي: الذي لقي العباس بْن الوليد يعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم الكلبي- فعدل به الى عبد العزيز، فأبى عليه فقال: يا بن قسطنطين، لئن أبيت لأضربن الذي فيه عيناك، فنظر العباس إلى هرم بْن عبد الله بْن دحية، فقال: من هذا؟ قَالَ: يعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم، قَالَ: أما والله إن كان لبغيضا إلى أبيه أن يقف ابنه هذا الموقف، وعدل به إلى عسكر عبد العزيز، ولم يكن مع العباس أصحابه، كان تقدمهم مع بنيه فقال: إنا لله! فأتوا به عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك يزيد بْن الوليد، فبايع ووقف ونصبوا راية، وقالوا: هذه راية العباس بْن الوليد، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد بْن الوليد، فقال العباس: إنا لله! خدعة من خدع الشيطان! هلك بنو مروان فتفرق الناس عن الوليد، فأتوا العباس وعبد العزيز وظاهر الوليد بين درعين، واتوه بفرسيه: السندي والزائد، فقاتلهم قتالا شديدا فناداهم رجل: اقتلوا عدو الله قتله قوم لوط، ارموه بالحجارة.
                  [بعدها في الأغاني 7 : 79 : "فرموه بالحجارة؛ فلما سمع ذلك دخل القصر، وأغلق الباب" وقال:
                  دعوا لي سلمى والطلاء وقينة ... وكأسا ألا حسبي بذلك مالا
                  إذا ما صفا عيش برملة عالج ... وعانقت سلمى لا أريد بدالا
                  خذوا ملككم، لا ثبت الله ملككم ... ثباتا يساوي ما حييت عقال
                  وخلوا عناني قبل عير وما جرى ... ولا تحسدوني أن أموت هزالا]

                  فلما سمع ذلك دخل القصر، وأغلق الباب، وأحاط عبد العزيز وأصحابه بالقصر، فدنا الوليد من الباب، فقال أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه! فقال له يزيد بْن عنبسة ال***كي: كلمني، قَالَ له: من أنت؟ قَالَ: أنا يزيد بْن عنبسة، قَالَ: يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطياتكم! ألم أرفع المؤن عنكم! ألم أعط فقراءكم! ألم أخدم زمناكم! فقال: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله، قَالَ:
                  حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل لي لسعة عما ذكرت ورجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفا، وقال: يوم كيوم عثمان،
                  [يريد عثمان بن عفان فإنه لما قتل كان يقرأ في المصحف، وجرى دمه عليه]
                  ونشر المصحف يقرأ، فعلوا الحائط، فكان أول من علا الحائط يزيد بْن عنبسة ال***كي، فنزل إليه وسيف لوليد إلى جنبه، فقال له يزيد: نح سيفك، فقال له الوليد: لو أردت السيف لكانت لي ولك حاله فيهم
                  [من الأغاني]
                  غير هذه، فأخذ بيد الوليد، وهو
                  [الأغاني: "وهو يريد أن يدخله بيتا ويؤامر فيه، فنزل من الجائط عشرة؛ فيهم منصور بن جمهور وعبد الرحمن وقيس مولى يزيد بن عبد الملك والسري بن زياد بن أبرهة، فضربه عبد الرحمن السلمي على رأسه ضربة، وضربه السري بن زياد على وجهه، وجروه بين خمسة ليخرجوه"]
                  يريد أن يحبسه ويؤامر فيه فنزل من الحائط عشرة: منصور بْن جمهور وحبال بْن عمرو الكلبي وعبد الرحمن بْن عجلان مولى يزيد بْن عبد الملك وحميد بْن نصر اللخمي والسري بْن زياد بْن أبي كبشة وعبد السلام اللخمي، فضربه عبد السلام على رأسه، وضربه السري على وجهه، وجروه بين خمسة ليخرجوه فصاحت امرأة كانت معه في الدار، فكفوا عنه ولم يخرجوه، واحتز أبو علاقة القضاعي رأسه فأخذ عقبا
                  [العقب: العصب الذي تعمل منه الأوتار. القاموس المحيط ص 149]
                  فخاط الضربة التي في وجهه، وقدم بالرأس على يزيد روح بْن مقبل، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق الوليد وأسر من كان معه، والعباس- ويزيد يتغدى- فسجد ومن كان معه، وقام يزيد بْن عنبسة ال***كي، وأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله، فاختلج يزيد يده من كفه، وقال: اللهم إن كان هذا لك رضا فسددني، وقال ليزيد بْن عنبسة: هل كلمكم الوليد؟ قَالَ: نعم، كلمني من وراء الباب، وقال: أما فيكم
                  [ح: "ما"]
                  ذو حسب فأكلمه! فكلمته ووبخته، فقال: حسبك، فقد لعمري أغرقت وأكثرت، أما والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم.
                  وحدثني أحمد عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني المثنى بْن معاوية، قَالَ: اقبل الوليد فنزل اللؤلؤه، وامر ابنه الحكم والمؤمل ابن العباس أن يفرضا لمن أتاهما ستين دينارا في العطاء، فأقبلت أنا وابن عمي سليمان بْن محمد بْن عبد الله إلى عسكر الوليد، فقربني المؤمل وأدناني. وقال: أدخلك على أمير المؤمنين، وأكلمه حتى يفرض لك في مائة دينار.
                  قَالَ المثنى: فخرج الوليد من اللؤلؤة فنزل المليكة، فأتاه رسول عمرو بْن قيس من حمص يخبره أن عمرا قد وجه اليه خمسمائة فارس، عليهم عبد الرحمن بْن أبي الجنوب البهراني، فدعا الوليد الضحاك بْن أيمن من
                  بني عوف بْن كلب، فأمره أن يأتي ابن أبي الجنوب- وهو بالغوير- فيستعجله، ثم يأتي الوليد بالمليكة فلما أصبح أمر الناس بالرحيل، وخرج على برذون كميت، عليه قباء خز وعمامة خز، محتزما بريطة رقيقة قد طواها، وعلى كتفيه ريطة صفراء فوق السيف، فلقيه بنو سليم بْن كيسان في ستة عشر فارسا، ثم سار قليلا، فتلقاه بنو النعمان بْن بشير في فوارس، ثم أتاه الوليد ابن أخي الأبرش في بني عامر من كلب، فحمله الوليد وكساه، وسار الوليد على الطريق ثم عدل في تلعة يقال لها المشبهة، فلقيه ابن أبي الجنوب في أهل حمص ثم أتى البخراء، فضج أهل العسكر، وقالوا: ليس معنا علف لدوابنا، فأمر رجلا فنادى: إن أمير المؤمنين قد اشترى زروع القرية، فقالوا: ما نصنع بالقصيل!
                  [القصيل: الزرع يجز أخضر لعلف الدواب]
                  تضعف عليه دوابنا، وإنما أرادوا الدراهم.
                  قَالَ المثنى: أتيت الوليد، فدخلت من مؤخر الفسطاط، فدعا بالغداء، فلما وضع بين يديه أتاه رسول أم كلثوم بنت عبد الله بْن يزيد بْن عبد الملك يقال له عمرو بْن مرة، فأخبره أن عبد العزيز بْن الحجاج، قد نزل اللؤلؤة، فلم يلتفت إليه، وأتاه خالد بْن عثمان المخراش- وكان على شرطه- برجل من بني حارثة بْن جناب، فقال له: إني كنت بدمشق مع عبد العزيز، وقد اتيتك بالخبر، وهذه الف وخمسمائة قد أخذتها- وحل هميانا من وسطه، وأراه- وقد نزل اللؤلؤة، وهو غاد منها إليك، فلم يجبه والتفت إلى رجل إلى جنبه، وكلمه بكلام لم أسمعه، فسألت بعض من كان بيني وبينه عما قَالَ، فقال: سأله عن النهر الذي حفره بالأردن: كم بقي منه؟ وأقبل عبد العزيز من اللؤلؤة، فأتى المليكة فحازها، ووجه منصور بْن جمهور، فأخذ شرقي القرى- وهو تل مشرف في أرض ملساء على طريق نهيا إلى البخراء- وكان العباس بْن الوليد تهيأ في نحو من خمسين ومائة من مواليه وولده، فبعث العباس رجلا من بني ناجية يقال له حبيش إلى الوليد يخيره بين أن يأتيه فيكون معه، أو يسير إلى يزيد بْن الوليد فاتهم الوليد العباس، فأرسل إليه يأمره أن يأتيه فيكون معه، فلقي منصور بْن جمهور الرسول، فسأله عن الأمر فأخبره، فقال له منصور: قل له: والله لئن رحلت من موضعك قبل طلوع الفجر لأقتلنك ومن معك، فإذا أصبح فليأخذ حيث أحب فأقام العباس يتهيأ، فلما كان في السحر سمعنا تكبير أصحاب عبد العزيز قد أقبلوا إلى البخراء، فخرج خالد بْن عثمان المخراش، فعبأ الناس، فلم يكن بينهم قتال حتى طلعت الشمس، وكان مع أصحاب يزيد بْن الوليد كتاب معلق في رمح، فيه: إنا ندعوكم إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يصير الأمر شورى فاقتتلوا فقتل عثمان الخشبي، وقتل من أصحاب الوليد زهاء ستين رجلا، وأقبل منصور بْن جمهور على طريق نهيا، فأتى عسكر الوليد من خلفهم، فأقبل الى الوليد وهو في فسطاطه، ليس بينه وبين منصور أحد. فلما رأيته خرجت أنا وعاصم بْن هبيرة المعافري خليفة المخراش، فانكشف أصحاب عبد العزيز، ونكص أصحاب منصور، وصرع سمي بْن المغيرة وقتل، وعدل منصور إلى عبد العزيز وكان الأبرش على فرس له يدعى الأديم، عليه قلنسوة ذات أذنين، قد شدها تحت لحيته، فجعل يصيح بابن أخيه: يا بن اللخناء، قدم رايتك، فقال له: لا أجد متقدما، إنها بنو عامر.
                  وأقبل العباس بْن الوليد فمنعه أصحاب عبد العزيز، وشد مولى لسليمان بْن عبد الله بْن دحية- يقال له التركي- على الحارس بْن العباس بْن الوليد، فطعنه طعنه اذراه عن فرسه، فعدل العباس إلى عبد العزيز، فأسقط في أيدي أصحاب الوليد وانكسروا فبعث الوليد بْن يزيد الوليد بْن خالد إلى عبد العزيز بْن الحجاج بأن يعطيه خمسين ألف دينار، ويجعل له ولاية حمص ما بقي، ويؤمنه على كل حدث، على أن ينصرف ويكف، فأبى ولم يجبه، فقال له الوليد: ارجع إليه فعاوده أيضا، فأتاه الوليد فلم يجبه إلى شيء، فانصرف الوليد، حتى إذا كان غير بعيد عطف دابته، فدنا من عبد العزيز، فقال له: أتجعل لي خمسة آلاف دينار وللأبرش مثلها، وأن أكون كأخص رجل من قومي منزلة وآتيك، فأدخل معك فيما دخلت فيه؟
                  فقال له عبد العزيز: على أن تحمل الساعة على أصحاب الوليد، ففعل وكان على ميمنة الوليد معاوية بْن أبي سفيان بْن يزيد بْن خالد، فقال لعبد العزيز: أتجعل لي عشرين ألف دينار وولاية الأردن والشركه في الأمر على ان اصير معكم؟ قَالَ: على أن تحمل على أصحاب الوليد من ساعتك، ففعل، فانهزم أصحاب الوليد وقام الوليد فدخل البخراء، وأقبل عبد العزيز فوقف على الباب وعليه سلسلة، فجعل الرجل بعد الرجل يدخل من تحت السلسلة.
                  وأتى عبد العزيز عبد السلام بْن بكير بْن شماخ اللخمي، فقال له: إنه يقول: أخرج على حكمك، قَالَ: فليخرج، فلما ولي قيل له: ما تصنع بخروجه! دعه يكفيكه الناس فدعا عبد السلام فقال: لا حاجة لي فيما عرض علي، فنظرت إلى شاب طويل على فرس، فدنا من حائط القصر فعلاه، ثم صار إلى داخل القصر قَالَ: فدخلت القصر، فإذا الوليد قائم في قميص قصب وسراويل وشي، ومعه سيف في غمد والناس يشتمونه، فأقبل إليه بشر بْن شيبان مولى كنانة بْن عمير، وهو الذي دخل من الحائط، فمضى الوليد يريد الباب- أظنه أراد أن يأتي عبد العزيز- وعبد السلام عن يمينه ورسول عمرو بْن قيس عن يساره، فضربه على راسه، وتعاروه الناس بأسيافهم فقتل، فطرح عبد السلام نفسه عليه يحتز رأسه- وكان يزيد بْن الوليد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف- وأقبل أبو الأسد مولى خالد بْن عبد الله القسري فسلخ من جلد الوليد قدر الكف، فأتى بها يزيد بْن خالد بْن عبد الله، وكان محبوسا في عسكر الوليد، فانتهب الناس عسكر الوليد وخزائنه، وأتاني يزيد العليمي أبو البطريق بْن يزيد، وكانت ابنته عند الحكم بْن الوليد، فقال: امنع لي متاع ابنتي، فما وصل أحد إلى شيء زعم أنه له.
                  قَالَ أحمد: قَالَ علي: قَالَ عمرو بْن مروان الكلبي: لما قتل الوليد قطعت كفه اليسرى، فبعث بها إلى يزيد بْن الوليد، فسبقت الرأس، قدم بها ليلة الجمعة، وانى برأسه من الغد، فنصبه الناس بعد الصلاة وكان أهل دمشق قد أرجفوا بعبد العزيز، فلما أتاهم رأس الوليد سكتوا وكفوا.
                  قَالَ: وأمر يزيد بنصب الرأس، فقال له يزيد بْن فروة مولى بني مروان.
                  إنما تنصب رءوس الخوارج، وهذا ابن عمك، وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن ترق له قلوب الناس، ويغضب له أهل بيته، فقال: والله لانصبته، فنصبه على رمح، ثم قَالَ له: انطلق به، فطف به في مدينة دمشق، وأدخله دار أبيه ففعل، فصاح الناس وأهل الدار، ثم رده إلى يزيد، فقال: انطلق به إلى منزلك، فمكث عنده قريبا من شهر، ثم قَالَ له: ادفعه إلى أخيه سليمان- وكان سليمان أخو الوليد ممن سعى على أخيه- فغسل ابن فروة الرأس، ووضعه في سفط، وأتى به سليمان، فنظر إليه سليمان، فقال: بعدا له! أشهد أنه كان شروبا للخمر، ماجنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي الفاسق فخرج ابن فروة من الدار، فتلقته مولاة للوليد، فقال لها: ويحك! ما أشد ما شتمه! زعم أنه أراده على نفسه! فقالت: كذب والله الخبيث، ما فعل، ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل، وما كان ليقدر على الامتناع منه.
                  وحدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني يزيد بْن مصاد عن عبد الرحمن بْن مصاد، قَالَ: بعثني يزيد بْن الوليد إلى أبي محمد السفياني- وكان الوليد وجهه حين بلغه خبر يزيد واليا على دمشق وأتى ذنبة، وبلغ يزيد خبره، فوجهني إليه- فأتيته، فسالم وبايع ليزيد، قَالَ: فلم نرم حتى رفع لنا شخص مقبل من ناحية البرية، فبعثت إليه، فأتيت به فإذا هو الغزيل أبو كامل المغني، على بغلة للوليد تدعى مريم، فأخبرنا أن الوليد قد قتل، فانصرفت إلى يزيد، فوجدت الخبر قد أتاه قبل أن آتيه.
                  حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني دكين بْن شماخ الكلبي ثم العامري، قَالَ: رأيت بشر بْن هلباء العامري يوم قتل الوليد ضرب باب البخراء بالسيف، وهو يقول:
                  سنبكى خالدا بمهندت ... ولا تذهب صنائعه ضلالا
                  وحدثني أحمد، عن علي، عن أبي عاصم الزيادي، قَالَ: ادعى قتل الوليد عشرة، وقال: إني رأيت جلدة رأس الوليد في يد وجه الفلس، فقال: أنا قتلته، وأخذت هذه الجلدة، وجاء رجل فاحتز رأسه، وبقيت هذه الجلدة في يدي واسم وجه الفلس عبد الرحمن، قَالَ: وقال الحكم بْن النعمان مولى الوليد بْن عبد الملك: قدم برأس الوليد على يزيد منصور بْن جمهور في عشرة، فيهم روح بْن مقبل، فقال روح: يا أمير المؤمنين، أبشر بقتل الفاسق وأسر العباس، وكان فيمن قدم بالرأس عبد الرحمن وجه الفلس، وبشر مولى كنانة من كلب، فأعطى يزيد كل رجل منهم عشرة آلاف.
                  قَالَ: وقال الوليد يوم قتل وهو يقاتلهم: من جاء برأس فله خمسمائة، فجاء قوم بارؤس، فقال الوليد: اكتبوا أسماءهم، فقال رجل من مواليه ممن جاء برأس: يا أمير المؤمنين، ليس هذا بيوم يعمل فيه بنسيئة!
                  قَالَ: وكان مع الوليد مالك بْن أبي السمح المغني وعمرو الوادي، فلما تفرق عن الوليد اصحابه، وحصر، قَالَ مالك لعمرو: اذهب بنا، فقال عمرو: ليس هذا من الوفاء، ونحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل، فقال مالك: ويلك! والله لئن ظفروا بنا لا يقتل أحد قبلي وقبلك، فيوضع رأسه بين رأسينا، ويقال للناس: انظروا من كان معه في هذه الحال، فلا يعيبونه بشيء أشد من هذا، فهربا.
                  وكان يكنى أبا العباس، وأمه أم الحجاج بنت محمد بْن يوسف الثقفي، وكان شديد البطش، طويل أصابع الرجلين، كان يوتد له سكة حديد فيها خيط ويشد الخيط في رجله، ثم يثب على الدابة، فينتزع السكة ويركب، ما يمس الدابة بيده.
                  وكان شاعرا شروبا للخمر، حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، عن ابن أبي الزناد، قَالَ: قَالَ أبي: كنت عند هشام وعنده الزهري، فذكرا الوليد، فتقصاه وعاباه عيبا شديدا، ولم أعرض في شيء مما كانا فيه، فاستأذن الوليد، فأذن له، وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلا، ثم قام فلما مات هشام كتب في فحملت إليه فرحب بي، وقال: كيف حالك يا بن ذكوان؟ وألطف المسألة بي، ثم قَالَ: أتذكر يوم الأحول وعنده الفاسق الزهري، وهما يعيبانني؟ قلت: أذكر ذلك، فلم أعرض في شيء مما كانا فيه، قَالَ: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان قائما على رأس هشام؟ قلت: نعم، قال: فانه نم الى بما قالا، وايم الله لو بقي الفاسق- يعني الزهري- لقتلته، قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت ثم قال: يا بن ذكوان، ذهب الأحول بعمري، فقلت: بل يطيل الله لك عمرك يا أمير المؤمنين، ويمتع الأمة ببقائك، فدعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وتحدثنا حتى جاءت العشاء الآخرة فصلينا وجلس، وقال: اسقني، فجاءوا بإناء مغطى، وجاء ثلاث جوار فصففن بين يديه، بيني وبينه، ثم شرب، وذهبنا فتحدثنا، واستسقى فصنعن مثل ما صنعن أولا، قَالَ: فما زال على يتحدث ويستسقي ويصنعن مثل ذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحا.
                  [في إسناده عبد الرحمن بن أبي الزناد قال ابن معين ليس بشيء وقال النسائي لا يحتج بحديثه وقال ابن عدي هو ممن يكتب حديثه، ولم نجد له متابعا والله أعلم]
                  ***
                  وفي هذه السنة قتل خالد بْن عبد الله القسري.
                  *ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك:
                  قد تقدم ذكرنا الخبر عن عزل هشام إياه عن عمله وولايته العراق وخراسان واستعماله على العراق يوسف بْن عمر، وكان- فيما ذكر- عمل لهشام على ذلك خمس عشرة سنة غير أشهر، وذلك أنه- فيما قيل- ولي العراق لهشام سنة خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة ولما عزله هشام وقدم عليه يوسف واسطا أخذه وحبسه بها، ثم شخص يوسف بْن عمر إلى الحيرة، فلم يزل محبوسا بالحيرة تمام ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل بْن عبد الله وابنه يزيد بْن خالد وابن أخيه المنذر بْن أسد بْن عبد الله واستأذن يوسف هشاما في إطلاق يده عليه وتعذيبه، فلم يأذن له حتى أكثر عليه، واعتل عليه بانكسار الخراج وذهاب الأموال، فأذن له مرة واحدة، وبعث حرسيا يشهد ذلك، وحلف: لئن أتى على خالد أجله وهو في يده ليقتلنه، فدعا به يوسف، فجلس على دكان بالحيرة وحضر الناس، وبسط عليه، فلم يكلمه واحدة حتى شتمه يوسف، فقال: يا بن الكاهن- يعني شق بْن صعب الكاهن- فقال له خالد: إنك لأحمق، تعيرني بشرفي! ولكنك يا بن السباء، إنما كان أبوك سباء خمر- يعني يبيع الخمر- ثم رده إلى حبسه، ثم كتب إليه هشام يأمره بتخلية سبيله في شوال سنة إحدى وعشرين ومائة، فنزل خالد في قصر إسماعيل بْن عبد الله بدوران، خلف جسر الكوفة، وخرج يزيد بْن خالد وحده، فاخذ على بلاد طيّئ، حتى ورد دمشق، وخرج خالد ومعه إسماعيل والوليد، قد جهزهم عبد الرحمن بْن عنبسة بن سعيد ابن العاص، وبعث بالأثقال إلى قصر بني مقاتل، وكان يوسف قد بعث خيلا، فأخذت الزاد والأثقال والإبل وموالي لخالد كانوا فيها، فضرب وباع
                  ما أخذ لهم، ورد بعض الموالي إلى الرق، فقدم خالد قصر بني مقاتل، وقد أخذ كل شيء لهم، فسار إلى هيت، ثم تحملوا إلى القرية- وهي بإزاء باب الرصافه- فأقام بها بَقِيَّةَ شَوَّالٍ وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وصفر، لا يأذن لهم هشام في القدوم عليه، والأبرش يكاتب خالدا وخرج زيد بْن علي فقتل.
                  قَالَ الهيثم بْن عدي- فيما ذكر عنه-: وكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعا، حتى كانت همة أحدهم قوت عياله، فلما ولي خالد العراق أعطاهم الأموال فقووا بها حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة، وما خرج زيد إلا عن رأي خالد، والدليل على ذلك نزول خالد بالقرية على مدرجه العراق يستنشي أخبارها.
                  [يستنشي الأخبار: يبحث عنها. القاموس المحيط ص 1730]

                  فسكت هشام حتى فرغ من قراءة الكتاب، ثم قَالَ للحكم بْن حزن القيني- وكان على الوفد، وقد أمره يوسف بتصديق ما كتب به، ففعل- فقال له هشام: كذبت وكذب من أرسلك، ومهما اتهمنا خالدا فلسنا نتهمه في طاعة، وأمر به فوجئت عنقه وبلغ الخبر خالدا فسار حتى نزل دمشق فأقام حتى حضرت الصائفة، فخرج فيها ومعه يزيد وهشام ابنا خالد بْن عبد الله، وعلى دمشق يومئذ كلثوم بْن عياض القسري، وكان متحاملا على خالد، فلما أدربوا
                  [يقال أدرب القوم؛ إذا دخلوا أرض العدو من بلاد الروم. القاموس المحيط ص 106]
                  ظهر في دور دمشق حريق، كل ليلة يلقيه رجل من أهل العراق يقال له أبو العمرس وأصحاب له، فإذا وقع الحريق أغاروا يسرقون وكان إسماعيل بْن عبد الله والمنذر بْن أسد بْن عبد الله وسعيد ومحمد ابنا خالد بالساحل لحدث كان من الروم، فكتب كلثوم إلى هشام يذكر الحريق، ويخبره أنه لم يكن قط، وإنه عمل موالي خالد، يريدون الوثوب على بيت المال فكتب إليه هشام يأمره أن يحبس آل خالد، الصغير منهم والكبير، ومواليهم والنساء، فأخذ إسماعيل والمنذر ومحمد وسعيد من الساحل فقدم بهم في الجوامع ومن كان معهم من مواليهم، وحبس أم جرير بنت
                  خالد والرائقة وجميع النساء والصبيان، ثم ظهر على أبي العمرس، فأخذ ومن كان معه فكتب الوليد بْن عبد الرحمن عامل خراج دمشق إلى هشام يخبره بأخذ أبي العمرس ومن كان معه، سماهم رجلا رجلا، ونسبهم إلى قبائلهم وأمصارهم، ولم يذكر فيهم أحد من موالي خالد، فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويعنفه، ويأمره بتخلية سبيل جميع من حبس منهم، فأرسلهم جميعا واحتبس الموالي رجاء أن يكلمه فيهم خالد إذا قدم من الصائفة فلما أقبل الناس وخرجوا عن الدرب بلغ خالدا حبس أهله، ولم يبلغه تخليتهم، فدخل يزيد بْن خالد في غمار الناس حتى أتى حمص، وأقبل خالد حتى نزل منزله من دمشق، فلما أصبح أتاه الناس، فبعث الى ابنتيه: زينب وعاتكة، فقال: إني قد كبرت وأحببت أن تليا خدمتي، فسرتا بذلك- ودخل عليه إسماعيل أخوه ويزيد وسعيد ابناه، وأمر بالإذن، فقامت ابنتاه لتتنحيا، فقال: وما لهما تتنحيان، وهشام في كل يوم يسوقهن إلى الحبس! فدخل الناس، فقام إسماعيل وابناه دون ابنتيه يسترونهما فقال خالد: خرجت غازيا في سبيل الله، سامعا مطيعا، فخلفت في عقبي وأخذ حرمي وحرم أهل بيتي، فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بأهل الشرك! فما منع عصابة منكم أن تقوم فتقول: علام حبس حرم هذا السامع المطيع! أخفتم أن تقتلوا جميعا! أخافكم الله! ثم قَالَ: ما لي ولهشام! ليكفن عني هشام أو لأدعون إلى عراقي الهوى شامي الدار حجازي الأصل- يعني محمد بن على بن عبد الله ابن عباس- وقد أذنت لكم أن تبلغوا هشاما فلما بلغه ما قَالَ، قَالَ: خرف أبو الهيثم.
                  وذكر أبو زيد أن أحمد بْن معاوية حدثه عن أبي الخطاب، قَالَ: قَالَ خالد: أما والله، لئن ساء صاحب الرصافة- يعني هشاما- لننصبن لنا الشامي الحجازي العراقي، ولو نخر نخرة تداعت من أقطارها.
                  فبلغت هشاما، فكتب إليه: إنك هذاءة هذرة،
                  [هذأه بلسانه: إذا أسمعه ما يكره. القاموس المحيط ص72 ، والهذر: الكلام الباطل. القاموس المحيط ص 638]
                  أببجيلة القليله الذليلة تتهددنى! قال: فو الله ما نصره أحد بيد ولا بلسان إلا رجل من عبس، فإنه قَالَ:
                  ألا إن بحر الجود أصبح ساجيا ... أسير ثقيف موثقا في السلاسل
                  فإن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل
                  فأقام خالد ويزيد وجماعة أهل بيته بدمشق، ويوسف ملح على هشام يسأله أن يوجه إليه يزيد وكتب هشام إلى كلثوم بْن عياض يأمره بأخذ يزيد والبعثة به إلى يوسف، فوجه كلثوم إلى يزيد خيلا وهو في منزله، فشد عليهم يزيد، فأفرجوا له، ثم مضى على فرسه، وجاءت الخيل إلى كلثوم فاخبروه، فأرسل إلى خالد الغد من يوم تنحى يزيد خيلا، فدعا خالد بثيابه فلبسها وتصارخ النساء، فقال رجل منهم: لو أمرت هؤلاء النسوة فسكتن! فقال: ولم؟ أما والله لولا الطاعة لعلم عبد بني قسر أنه لا ينال هذه مني، فأعلموه مقالتي، فإن كان عربيا كما يزعم، فليطلب جده مني ثم مضى معهم فحبس في حبس دمشق وسار إسماعيل من يومه حتى قدم الرصافة على هشام، فدخل على أبي الزبير حاجبه فأخبره بحبس خالد، فدخل أبو الزبير على هشام فأعلمه، فكتب إلى كلثوم يعنفه، ويقول: خليت عمن أمرتك بحبسه، وحبست من لم آمرك بحبسه ويأمره بتخلية سبيل خالد، فخلاه.
                  وكان هشام إذا أراد أمرا أمر الأبرش فكتب به إلى خالد، فكتب الأبرش:
                  إنه بلغ أمير المؤمنين أن عبد الرحمن بْن ثويب الضنى- ضنه سعد اخوه عذره ابن سعد- قام إليك، فقال: يا خالد إني لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم وأنت كريم، والله جواد وأنت جواد، والله رحيم وأنت رحيم، والله حليم وأنت حليم حتى عد عشرا، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن تحقق عنده ذلك ليستحلن دمك، فاكتب إلي بالأمر على وجهه لأخبر به أمير المؤمنين.
                  فكتب إليه خالد: إن ذلك المجلس كان أكثر أهلا من أن يجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرف ما كان فيه الى غيره، قام الى عبد الرحمن ابن ثويب، فقال: يا خالد أني لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم يحب كل كريم، والله يحبك وأنا أحبك لحب الله إياك، حتى عدد عشر خصال، ولكن أعظم من ذلك قيام ابن شقي الحميري إلى أمير المؤمنين، وقوله: يا أمير المؤمنين، خليفتك في أهلك أكرم عليك أم رسولك؟ فقال أمير المؤمنين: بل خليفتي في أهلي، فقال ابن شقي: فأنت خليفة الله ومحمد رسوله، ولعمري لضلالة رجل من بجيلة إن ضل أهون على العامة والخاصة من ضلال أمير المؤمنين فأقرأ الأبرش هشاما كتابه، فقال خرف أبو الهيثم.
                  فأقام خالد بدمشق خلافة هشام حتى هلك، فلما هلك هشام، وقام الوليد، قدم عليه أشراف الأجناد، فيهم خالد، فلم يأذن لأحد منهم، واشتكى خالد، فاستأذن فأذن له، فرجع الى دمشق، فأقام أشهرا، ثم كتب إليه الوليد: إن أمير المؤمنين قد علم حال الخمسين الالف الف، التي تعلم، فأقدم على أمير المؤمنين مع رسوله، فقد أمره ألا يعجلك عن جهاز.
                  فبعث خالد إلى عدة من ثقاته، منهم عمارة بْن أبي كلثوم الأزدي، فأقرأهم الكتاب، وقال: أشيروا علي، فقالوا: إن الوليد ليس بمأمون عليك، فالرأي ان تدخل دمشق، فتأخذ بيوت الأموال وتدعو إلى من أحببت، فأكثر الناس قومك، ولن يختلف عليك رجلان، قَالَ: أو ماذا؟ قالوا: تأخذ بيوت الأموال، وتقيم حتى تتوثق لنفسك، قال: أو ماذا؟ قالوا: او تتوارى.
                  قَالَ: أما قولكم: تدعو إلى من أحببت، فإني أكره أن تكون الفرقة والاختلاف على يدي، وأما قولكم: تتوثق لنفسك، فأنتم لا تأمنون علي الوليد، ولا ذنب لي، فكيف ترجون وفاءه لي وقد أخذت بيوت الأموال! واما التوارى، فو الله. ما قنعت رأسي خوفا من أحد قط، فالآن وقد بلغت من السن ما بلغت! لا، ولكن أمضي وأستعين بالله.
                  فخرج حتى قدم على الوليد، فلم يدع به، ولم يكلمه وهو في بيته، معه مواليه وخدمه، حتى قدم برأس يحيى بْن زيد من خراسان، فجمع الناس في رواق، وجلس الوليد، وجاء الحاجب فوقف، فقال له خالد: إن حالي ما ترى، لا أقدر على المشي، وإنما أحمل في كرسي، فقال الحاجب: لا يدخل عليه أحد يحمل، ثم أذن لثلاثة نفر، ثم قَالَ: قم يا خالد، فقال: حالي ما ذكرت لك، ثم أذن لرجل أو رجلين، فقال: قم يا خالد، فقال: إن حالي ما ذكرت لك، حتى أذن لعشرة، ثم قَالَ: قم يا خالد، وأذن للناس كلهم، وأمر بخالد فحمل على كرسيه، فدخل به والوليد جالس على سريره، والموائد موضوعة، والناس بين يديه سماطان، وشبه ابن عقال- أو عقال بْن شبة- يخطب، ورأس يحيى بْن زيد منصوب، فميل بخالد إلى أحد السماطين، فلما فرغ الخطيب قام الوليد وصرف الناس، وحمل خالد إلى أهله، فلما نزع ثيابه جاءه رسول الوليد فرده، فلما صار إلى باب السرادق وقف فخرج إليه رسول الوليد، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: أين يزيد بْن خالد؟ فقال: كان أصابه من هشام ظفر، ثم طلبه فهرب منه، وكنا نراه عند أمير المؤمنين حتى استخلفه الله، فلما لم يظهر ظنناه ببلاد قومه من السراة، وما أوشكه فرجع إليه الرسول، فقال: لا ولكنك خلفته طلبا للفتنة فقال خالد للرسول: قد علم أمير المؤمنين إنا أهل بيت طاعة، أنا وأبي وجدي- قَالَ خالد: وقد كنت أعلم بسرعة رجعة الرسول، أن الوليد قريب حيث يسمع كلامي- فرجع الرسول، فقال: يقول لك أمير المؤمنين، لتأتين به أو لأزهقن نفسك فرفع خالد صوته، وقال: قل له: هذا أردت، وعليه درت، والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما لك عنه، فاصنع ما بدا لك! فامر الوليد غيلان صاحب حرسه بالبسط عليه، وقال له: أسمعني صوته، فذهب به غيلان إلى رحله، فعذبه بالسلاسل، فلم يتكلم، فرجع غيلان إلى الوليد، فقال: والله ما أعذب إنسانا، والله ما يتكلم ولا يتأوه، فقال: اكفف عنه واحبسه عندك فحبسه حتى قدم يوسف بْن عمر بمال من العراق، ثم أداروا الأمر بينهم، وجلس الوليد للناس ويوسف عنده، فتكلم أبان بْن عبد الرحمن النميري في خالد، فقال يوسف: أنا أشتريه بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد: إن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلا
                  دفعتك إليه، فقال خالد: ما عهدت العرب تباع، والله لو سألني أن أضمن هذا- ورفع عودا من الأرض- ما ضمنته، فر رأيك.
                  فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه ودرعه عباءه ولحفه بأخرى، وحمله في محمل بغير وطاء، وزميله أبو قحافة المري ابن أخي الوليد بْن تليد- وكان عامل هشام على الموصل، فانطلق به حتى نزل المحدثة، على مرحلة من عسكر الوليد ثم دعا به فذكر أمه، فقال: وما ذكر الأمهات لعنك الله! والله لا أكلمك كلمة أبدا فبسط عليه، وعذبه عذابا شديدا وهو لا يكلمه كلمة ثم ارتحل به حتى إذا كان ببعض الطريق بعث إليه زيد بْن تميم القيني بشربة سويق حب رمان مع مولى له يقال له سالم النفاط، فبلغ يوسف فضرب زيدا خمسمائة سوط، وضرب سالما ألف سوط ثم قدم يوسف الحيرة فدعا به وبإبراهيم ومحمد ابني هشام فبسط على خالد، فلم يكلمه، وصبر ابراهيم ابن هشام وخرع محمد بْن هشام فمكث خالد يوما في العذاب، ثم وضع على صدره المضرسة فقتله من الليل، ودفن بناحية الحيرة في عباءته التي كان فيها، وذلك في المحرم سنة ست وعشرين ومائة في قول الهيثم بْن عدي، فأقبل عامر بْن سهلة الأشعري فعقر فرسه على قبره، فضربه يوسف سبعمائة سوط.
                  قَالَ أبو زيد: حدثني أبو نعيم قَالَ: حدثني رجل، قَالَ: شهدت خالدا حين أتى به يوسف، فدعا بعود فوضع على قدميه، ثم قامت عليه الرجال حتى كسرت قدماه، فو الله ما تكلم ولا عبس، ثم على ساقيه حتى كسرتا، ثم على فخذيه ثم على حقويه ثم على صدره حتى مات، فو الله ما تكلم ولا عبس، فقال خلف بْن خليفة لما قتل الوليد بْن يزيد:
                  لقد سكنت كلب واسباق مذحج ... صدى كان يزقو ليله غير راقد
                  تركن أمير المؤمنين بخالد ... مكبا على خيشومه غير ساجد
                  فإن تقطعوا منا مناط قلادة ... قطعنا به منكم مناط قلائد
                  وإن تشغلونا عن ندانا فإننا ... شغلنا الوليد عن غناء الولائد
                  وإن سافر القسري سفرة هالك ... فإن أبا العباس ليس بشاهد
                  وقال حسان بْن جعدة الجعفري يكذب خلف بْن خليفة في قوله هذا:
                  إن امرأ يدعي قتل الوليد سوى ... أعمامه لمليء النفس بالكذب
                  ما كان إلا امرأ حانت منيته ... سارت إليه بنو مروان بالعرب
                  وقال أبو محجن مولى خالد:
                  سائل وليدا وسائل أهل عسكره ... غداة صبحه شؤبوبنا البرد
                  هل جاء من مضر نفس فتمنعه ... والخيل تحت عجاج الموت تطرد
                  من يهجنا جاهلا بالشعر ننقضه ... بالبيض إنا بها نهجو ونفتئد
                  وقال نصر بْن سعيد الأنصاري:
                  أبلغ يزيد بني كرز مغلغلة ... أني شفيت بغيب غير موتور
                  قطعت أوصال قنور على حنق ... بصارم من سيوف الهند مأثور
                  أمست حلائل قنور مجدعة ... لمصرع العبد قنور بْن قنور
                  ظلت كلاب دمشق وهي تنهشه ... كأن أعضاءه أعضاء خنزير
                  غادرن منه بقايا عند مصرعه ... أنقاض شلو على الاطناب مجرور
                  حكمت سيفك إذ لم ترض حكمهم ... والسيف يحكم حكما غير تعذير
                  لا ترض من خالد إن كنت متئرا ... إلا بكل عظيم الملك مشهور
                  أسعرت ملك نزار ثم رعتهم ... بالخيل تركض بالشم المغاوير
                  ما كان في آل قنور ولا ولدوا ... عدلا لبدر سماء ساطع النور

                  قَالَ عمرو بْن مروان: فحدثني يزيد بْن مصاد، قَالَ: كنت في عسكر سليمان، فلحقنا أهل حمص، وقد نزلوا السليمانية، فجعلوا الزيتون على أيمانهم، والجبل على شمائلهم، والجباب خلفهم، وليس عليهم مأتى إلا من وجه واحد، وقد نزلوا أول الليل، فأراحوا دوابهم، وخرجنا نسري ليلتنا كلها، حتى دفعنا إليهم، فلما متع النهار
                  [متع النهار: طال وامتد. القاموس المحيط ص 985]
                  واشتد الحر، ودوابنا قد كلت وثقل علينا الحديد، دنوت من مسرور بْن الوليد، فقلت له- وسليمان يسمع كلامي: أنشدك الله يا أبا سعيد أن يقدم الأمير جنده إلى القتال في هذه الحال! فأقبل سليمان فقال: يا غلام، اصبر نفسك، فو الله لا أنزل حتى يقضي الله بيني وبينهم ما هو قاض فتقدم وعلى ميمنته الطفيل بْن حارثة الكلبي، وعلى ميسرته الطفيل بْن زرارة الحبشي، فحملوا علينا حملة، فانهزمت الميمنة والميسرة أكثر من غلوتين، وسليمان في القلب لم يزل من مكانه، ثم حمل عليهم أصحاب سليمان حتى ردوهم إلى موضعهم، فلم يزالوا يحملون علينا ونحمل عليهم مرارا، فقتل منهم زهاء مائتي رجل، فيهم حرب بْن عبد الله بْن يزيد بْن معاوية، وأصيب من أصحاب سليمان نحو من خمسين رجلا، وخرج أبو الهلباء البهراني- وكان فارس أهل حمص- فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه حية بْن سلامة الكلبي فطعنه طعنة أذراه عن فرسه، وشد عليه أبو جعدة مولى لقريش من أهل دمشق فقتله، وخرج ثبيت ابن يزيد البهراني، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه أيراك السغدي، من أبناء ملوك السغد كان منقطعا إلى سليمان بْن هشام- وكان ثبيت قصيرا، وكان أيراك جسيما- فلما رآه ثبيت قد أقبل نحوه استطرد، فوقف أيراك ورماه بسهم فأثبت عضلة ساقه إلى لبده قَالَ: فبينا هم كذلك إذ أقبل عبد العزيز من ثنية العقاب، فشد عليهم، حتى دخل عسكرهم فقتل ونفذ إلينا.
                  قَالَ أحمد: قَالَ علي: قَالَ عمرو بْن مروان: فحدثني سليمان بْن زياد الغساني قَالَ: كنت مع عبد العزيز بْن الحجاج، فلما عاين عسكر أهل حمص، قَالَ لأصحابه: موعدكم التل الذي في وسط عسكرهم، والله لا يتخلف منكم أحد إلا ضربت عنقه ثم قَالَ لصاحب لوائه: تقدم، ثم حمل وحملنا معه، فما عرض لنا أحد إلا قتل حتى صرنا على التل، فتصدع عسكرهم، فكانت هزيمتهم، ونادى يزيد بْن خالد بن عبد الملك القسري: الله الله في قومك! فكف الناس، وكره ما صنع سليمان وعبد العزيز، وكاد يقع الشربين الذكوانية وسليمان وبين بني عامر من كلب، فكفوا عنهم، على ان يبايعوا ليزيد ابن الوليد وبعث سليمان بْن هشام إلى أبي محمد السفياني ويزيد بْن خالد بْن يزيد بْن معاوية فأخذا، فمر بهما على الطفيل بْن حارثة، فصاحا به: يا خالاه! ننشدك الله والرحم! فمضى معهما إلى سليمان فحبسهما، فخاف بنو عامر أن يقتلهما، فجاءت جماعة منهم، فكانت معهما في الفسطاط، ثم وجههما إلى يزيد بْن الوليد، فحبسهما في الخضراء مع ابني الوليد، وحبس أيضا يزيد بْن عثمان بْن محمد بْن أبي سفيان، خال عثمان بْن الوليد معهم ثم دخل سليمان وعبد العزيز إلى دمشق، ونزلا بعذراء واجتمع أمر أهل دمشق، وبايعوا يزيد بْن الوليد، وخرجوا إلى دمشق وحمص وأعطاهم يزيد العطاء، وأجاز الأشراف منهم معاوية بْن يزيد بْن الحصين والسمط بْن ثابت وعمرو بْن قيس وابن حوي والصقر بْن صفوان، واستعمل معاوية بْن يزيد بْن حصين من أهل حمص، وأقام الباقون بدمشق، ثم ساروا إلى أهل الأردن وفلسطين وقد قتل من أهل حمص يومئذ ثلاثمائة رجل.

                  قَالَ: وحدثني عثمان بْن داود الخولاني، قَالَ: وجهني يزيد بْن الوليد ومعي حذيفة بْن سعيد إلى محمد بْن عبد الملك ويزيد بْن سليمان، يدعوهما إلى طاعته، ويعدهما ويمنيهما، فبدأنا بأهل الأردن ومحمد بْن عبد الملك، فاجتمع إليه جماعة منهم، فكلمته فقال بعضهم: أصلح الله الأمير! اقتل هذا القدرى الخبيث، فكفهم عنى الحكم بن جرو القينى فأقيمت الصلاة فخلوت به، فقلت: إني رسول يزيد إليك، والله ما تركت ورائي راية تعقد إلا على رأس رجل من قومك، ولا درهم يخرج من بيت المال إلا في يد رجل منهم، وهو يحمل لك كذا وكذا قَالَ: أنت بذاك؟ قلت: نعم: ثم خرجت فأتيت ضبعان بْن روح، فقلت له مثل ذلك، وقلت له: إنه يوليك فلسطين ما بقي، فأجابني فانصرفت، فما أصبحت حتى رحل بأهل فلسطين.
                  حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: سمعت محمد بْن سعيد بْن حسان الأردني، قَالَ: كنت عينا ليزيد بْن الوليد بالأردن، فلما اجتمع له ما يريد ولاني خراج الأردن، فلما خالفوا يزيد بْن الوليد أتيت سليمان بْن هشام، فسألته أن يوجه معي خيلا، فأشن الغارة على طبرية، فأبى سليمان أن يوجه معي أحدا، فخرجت إلى يزيد بْن الوليد، فأخبرته الخبر، فكتب إلى سليمان كتابا بخطه، يأمره أن يوجه معي ما أردت، فأتيت به سليمان، فوجه معي مسلم بْن ذكوان في خمسة آلاف، فخرجت بهم ليلا حتى أنزلتهم البطيحة، فتفرقوا في القرى، وسرت أنا في طائفة منهم نحو طبرية، وكتبوا إلى عسكرهم، فقال أهل طبرية: علام نقيم والجنود تجوس منازلنا وتحكم في أهالينا! ومضوا إلى حجرة يزيد بْن سليمان ومحمد بْن عبد الملك، فانتهبوهما وأخذوا دوابهما وسلاحهما، ولحقوا بقراهم ومنازلهم، فلما تفرق أهل فلسطين والأردن، خرج سليمان حتى أتى الصنبرة، وأتاه أهل الأردن، فبايعوا ليزيد بْن الوليد، فلما كان يوم الجمعة وجه سليمان إلى طبرية، وركب مركبا في البحيرة، فجعل يسايرهم حتى أتى طبرية، فصلى بهم الجمعة، وبايع من حضر ثم انصرف إلى عسكره.
                  حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني عثمان بْن داود، قَالَ: لما نزل سليمان الصنبرة، أرسلني إلى يزيد بْن الوليد، وقال لي: أعلمه أنك قد علمت جفاء أهل فلسطين، وقد كفى الله مئونتهم، وقد أزمعت على أن أولي ابن سراقة فلسطين والأسود بْن بلال المحاربي الأردن فأتيت يزيد، فقلت له ما أمرني به سليمان، فقال:
                  أخبرني كيف قلت لضبعان بْن روح؟ فأخبرته، قَالَ: فما صنع؟ قلت:
                  ارتحل بأهل فلسطين، وارتحل ابن جرو بأهل الأردن قبل أن يصبحا.
                  قَالَ: فليسا بأحق بالوفاء منا، ارجع فمره الا ينصرف حتى ينزل الرملة، فيبايع أهلها، وقد استعملت إبراهيم بْن الوليد على الأردن وضبعان بْن روح على فلسطين ومسرور بْن الوليد على قنسرين وابن الحصين على حمص.
                  ثم دعا الناس إلى تجديد البيعة له، فكان أول من بايعه الأفقم يزيد بْن هشام وبايعه قيس بْن هانئ العبسي، فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله، ودم على ما أنت عليه، فما قام مقامك أحد من أهل بيتك، وإن قالوا: عمر بْن عبد العزيز فأنت أخذتها بحبل صالح، وإن عمر أخذها بحبل سوء. فبلغ مروان بْن محمد قوله، فقال: ما له قاتله الله ذمنا جميعا وذم عمر! فلما ولي مروان بعث رجلا فقال: إذا دخلت مسجد دمشق فانظر قيس ابن هانئ، فإنه طالما صلى فيه، فاقتله، فانطلق الرجل، فدخل مسجد دمشق، فرأى قيسا يصلي فقتله.
                  وفي هذه السنة عزل يزيد بْن الوليد يوسف بْن عمر عن العراق وولاها منصور بْن جمهور.
                  ذكر الخبر عن عزل يوسف بْن عمر وولاية منصور بْن جمهور:
                  ولما استوثق ليزيد بن الوليد على الطاعة أهل الشام، ندب- فيما قيل- لولاية العراق عبد العزيز بْن هارون بْن عبد الله بْن دحية بْن خليفة الكلبي، فقال له عبد العزيز: لو كان معي جند لقبلت، فتركه وولاها منصور بْن جمهور.
                  وأما أبو مخنف، فإنه قَالَ- فِيمَا ذكر هِشَام بْن مُحَمَّد عنه: قتل الوليد ابن يزيد بْن عبد الملك يوم الأربعاء، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وبايع الناس يزيد بْن الوليد بْن عبد الملك بدمشق، وسار منصور بْن جمهور من البخراء في اليوم الذي قتل فيه الوليد بْن يزيد إلى العراق، وهو سابع سبعة، فبلغ خبره يوسف بْن عمر فهرب وقدم منصور بْن جمهور الحيرة في أيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، فأخرج العطاء لا هل العطاء والأرزاق، واستعمل حريث بْن أبي الجهم على واسط، وكان عليها محمد بْن نباتة، فطرقه ليلا فحبسه وأوثقه، واستعمل جرير بْن يزيد بْن يزيد بْن جرير على البصرة، وأقام منصور وولى العمال، وبايع ليزيد بْن الوليد بالعراق، وفي كورها، وأقام بقية رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيام بقين منه.
                  وأما غير أبي مخنف فإنه قَالَ: كان منصور بْن جمهور أعرابيا جافيا غيلانيا، ولم يكن من أهل الدين، وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية، وحمية لقتل خالد، فشهد لذلك قتل الوليد، فقال يزيد له لما ولاه العراق:
                  قد وليتك العراق فسر إليه، واتق الله، واعلم أني إنما قتلت الوليد لفسقه
                  ولما أظهر من الجور، فلا ينبغي لك أن تركب مثل ما قتلناه عليه فدخل على يزيد بْن الوليد يزيد بْن حجرة الغساني- وكان دينا فاضلا ذا قدر في أهل الشام، قد قاتل الوليد ديانة- فقال: يا أمير المؤمنين، أوليت منصورا العراق؟ قَالَ: نعم، لبلائه وحسن معونته، قَالَ: يا أمير المؤمنين، انه ليس هناك في أعرابيته وجفائه في الدين قَالَ: فإذا لم أول منصورا في حسن معاونته فمن أولي! قَالَ: تولي رجلا من أهل الدين والصلاح والوقوف عند الشبهات، والعلم بالأحكام والحدود، وما لي لا أرى أحدا من قيس يغشاك، ولا يقف ببابك! قَالَ: لولا أنه ليس من شأني سفك الدماء لعاجلت قيسا، فو الله ما عزت إلا ذل الإسلام .
                  ولما بلغ يوسف بْن عمر قتل الوليد، جعل يعمد إلى من بحضرته من اليمانية فيلقيهم في السجون، ثم جعل يخلو بالرجل بعد الرجل من المضرية، فيقول له: ما عندك إن اضطرب حبل أو انفتق فتق؟ فيقول: أنا رجل من أهل الشام، أبايع من بايعوا، وأفعل ما فعلوا فلم ير عندهم ما يحب، فأطلق من في السجون من اليمانية، وأرسل إلى الحجاج بْن عبد الله البصري ومنصور ابن نصير- وكانا على خبر ما بينه وبين أهل الشام- فأمرهما بالكتاب إليه بالخبر، وجعل على طريق الشام أرصادا، وأقام بالحيرة وجلا وأقبل منصور حتى إذا كان بالجمع، كتب إلى سليمان بْن سليم بْن كيسان كتابا:
                  اما بعد، فإِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وإن الوليد بْن يزيد بدل نعمة الله كفرا، فسفك الدماء، فسفك الله دمه، وعجله إلى النار! وولى خلافته من هو خير منه، وأحسن هديا، يزيد بْن الوليد، وقد بايعه الناس، وولى على العراق الحارث بْن العباس بْن الوليد، ووجهني العباس لآخذ يوسف وعماله، وقد نزل الأبيض، ورائي على مرحلتين، فخذ يوسف وعماله، لا يفوتنك منهم، أحد، فاحبسهم قبلك وإياك أن تخالف، فيحل بك وبأهل بيتك ما لا قبل لك به، فاختر لنفسك أو دع.
                  وقيل إنه لما كان بعين التمر كتب إلى من بالحيرة من قواد أهل الشام يخبرهم بقتل الوليد، ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله وبعث بالكتب كلها إلى سليمان بْن سليم بْن كيسان، وأمره أن يفرقها على القواد، فأمسكها سليمان، ودخل على يوسف، فأقرأه كتاب منصور إليه، فبعل به.
                  [بعل به؛ أي: تبرم فلم يدر ما يصنع، والبعل: الضجر والتبرم بالشيء]

                  قَالَ حريث بْن أبي الجهم: كان مكثي بواسط، فما شعرت إلا بكتاب منصور بْن جمهور قد جاءني أن خذ عمال يوسف، فكنت أتولى أمره بواسط، فجمعت موالي وأصحابي، فركبنا نحوا من ثلاثين رجلا في السلاح، فأتينا المدينة، فقال البوابون: من أنت؟ قلت: حريث بْن أبي الجهم، فقالوا: نقسم بالله ما جاء بحريث الا امر منهم، ففتحوا الباب فدخلنا، فأخذنا العامل فاستسلم، وأصبحنا فأخذنا البيعة من الناس ليزيد بْن الوليد.
                  قَالَ: وذكر عمر بْن شجرة أن عمرو بْن محمد بْن القاسم كان على السند، فأخذ محمد بْن غزان- أو عزان- الكلبي، فضربه وبعث به إلى يوسف، فضربه وألزمه مالا عظيما يؤدي منه في كل جمعة نجما، وإن لم يفعل ضرب خمسة وعشرين سوطا، فجنت يده وبعض أصابعه، فلما ولى منصور ابن جمهور العراق ولاه السند وسجستان، فأتى سجستان فبايع ليزيد، ثم سار إلى السند، فأخذ عمرو بْن محمد، فأوثقه وأمر به حرسا يحرسونه، وقام إلى الصلاة، فتناول عمرو سيفا مع الحرس، فاتكأ عليه مسلولا حتى خالط جوفه، وتصايح الناس، فخرج ابن غزان فقال: ما دعاك الى ما صنعت؟ قَالَ: خفت العذاب، قَالَ: ما كنت أبلغ منك ما بلغته من نفسك فلبث ثلاثا ثم مات، وبايع ابن غزان ليزيد، فقال يوسف بْن عمر لسليمان بْن سليم بْن كيسان الكلبي حين أقرأه كتاب منصور بْن جمهور: ما الرأي؟ قَالَ: ليس لك إمام تقاتل معه، ولا يقاتل أهل الشام الحارث بْن العباس معك، ولا آمن عليك منصور بْن جمهور إن قدم عليك، وما الرأي إلا أن تلحق بشامك، قَالَ: هو رأيي، فكيف الحيلة؟ قَالَ: تظهر الطاعة ليزيد، وتدعو له في خطبتك، فإذا قرب منصور وجهت معك من أثق به. فلما نزل منصور بحيث يصبح الناس البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان بْن سليم، فأقام به ثلاثا، ثم وجه معه من أخذ به طريق السماوة حتى صار إلى البلقاء.
                  وقد قيل ان سليمان قال له: تستخفي وتدع منصورا والعمل، قَالَ: فعند من؟ قَالَ: عندي، وأضعك في ثقة، ثم مضى سليمان الى عمرو بن محمد ابن سعيد بْن العاص، فأخبره بالأمر، وسأله أن يؤوي يوسف، وقال:
                  أنت امرؤ من قريش، وأخوالك بكر بْن وائل، فآواه قَالَ عمرو: فلم أر رجلا كان مثل عتوه رعب رعبه، أتيته بجارية نفيسة، وقلت: تدفئه وتطيب نفسه، فو الله ما قربها ولا نظر إليها، ثم أرسل إلي يوما فأتيته، فقال:
                  قد أحسنت وأجملت، وقد بقيت لي حاجة، قلت: هاتها، قَالَ: تخرجني من الكوفة إلى الشام، قلت: نعم وصبحنا منصور بْن جمهور، فذكر الوليد فعابه، وذكر يزيد بن الوليد فقرظه، وذكر يوسف وجوره، وقامت الخطباء فشعثوا من الوليد ويوسف، فأتيته فأقصصت قصتهم، فجعلت لا أذكر رجلا ممن ذكره بسوء إلا قَالَ: لله علي أن أضربه مائة سوط، مائتي سوط، ثلاثمائة سوط، فجعلت اتعجب من طمعه في الولاية بعد، وتهدده الناس، فتركه سليمان بْن سليم، ثم أرسله إلى الشام فاختفى بها، ثم تحول إلى البلقاء.
                  ذكر علي بْن محمد أن يوسف بْن عمر وجه رجلا من بنى كلاب في خمسمائة، وقال لهم: إن مر بكم يزيد بْن الوليد فلا تدعنه يجوز فأتاهم منصور بْن جمهور في ثلاثين، فلم يهايجوه، فانتزع سلاحهم منهم، وأدخلهم الكوفة قَالَ: ولم يخرج مع يوسف من الكوفة إلا سفيان بْن سلامة بْن سليم بْن كيسان وغسان بْن قعاس العذري، ومعه من ولده لصلبه ستون بين ذكر وأنثى ودخل منصور الكوفة لأيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء والأرزاق، وأطلق من في سجون يوسف من العمال وأهل الخراج.
                  قَالَ: فلما بلغ يوسف البلقاء حينئذ بلغ خبره إلى يزيد بْن الوليد، فحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن يزيد بْن هريم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح مولى عثمان بْن عفان، قَالَ: سمعت محمد بْن سعيد الكلبي- وكان من قواد يزيد بْن الوليد- يقول: إن يزيد وجهه في طلب يوسف بْن عمر حيث بلغه أنه في أهله بالبلقاء، قَالَ: فخرجت في خمسين فارسا أو أكثر، حتى أحطت بداره بالبلقاء، فلم نزل نفتش، فلم نر شيئا، وكان يوسف قد لبس لبسة النساء، وجلس مع نسائه وبناته، ففتشهن فظفر به مع النساء، فجاء به في وثاق، فحبسه في السجن مع الغلامين ابني الوليد، فكان في الحبس ولاية يزيد كلها وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم، فلما قدم مروان الشام وقرب من دمشق ولى قتلهم يزيد ابن خالد، فأرسل يزيد مولى خالد- يكنى أبا الأسد- في عدة من أصحابه، فدخل السجن لشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بْن عمر فضرب عنقه.
                  وقيل: إن يزيد بْن الوليد لما بلغه مصير يوسف إلى البلقاء وجه إليه خمسين فارسا، فعرض له رجل من بنى نمير، فقال: يا بن عم، أنت والله مقتول فأطعني وامتنع، وائذن لي حتى أنتزعك من أيادي هؤلاء قَالَ: لا، قَالَ: فدعني أقتلك أنا، ولا يقتلك هذه اليمانية، فتغيظنا بقتلك، قَالَ: ما لي في واحدة مما عرضت علي خيار، قَالَ: فأنت أعلم.
                  ومضوا به إلى يزيد، فقال: ما أقدمك؟ قَالَ: قدم منصور بْن جمهور واليا فتركته والعمل، قَالَ: لا، ولكنك كرهت أن تلي لي فأمر بحبسه.
                  وقيل: إن يزيد دعا مسلم بْن ذكوان ومحمد بْن سعيد بْن مطرف الكلبي، فقال لهما، إنه بلغني أن الفاسق يوسف بْن عمر قد صار إلى البلقاء، فانطلقا فأتياني به، فطلباه فلم يجداه: فرهبا ابنا له، فقال: أنا أدلكما عليه، فقال: إنه انطلق إلى مزرعة له على ثلاثين ميلا، فأخذا معهما خمسين رجلا من جند البلقاء، فوجدوا أثره- وكان جالسا- فلما أحس بهم هرب وترك نعليه، ففتشا فوجداه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خز، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجروا برجله، فجعل يطلب إلى محمد بْن سعيد أن يرضي عنه كلبا، ويدفع عشرة آلاف دينار ودية كلثوم بْن عمير وهانئ بْن بشر، فأقبلا إلى يزيد، فلقيه عامل لسليمان على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته فهزها، ونتف بعضها- وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة- فأدخلاه على يزيد، فقبض على لحية نفسه- وإنها حينئذ لتجوز سرته- وجعل يقول: نتف والله يا أمير المؤمنين لحيتي، فما بقي فيها شعرة فأمر به يزيد فحبس في الخضراء، فدخل عليه محمد بْن راشد، فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت، فيلقي عليك حجرا! فقال: لا والله ما فطنت إلى هذا، فنشدتك الله إلا كلمت أمير المؤمنين في تحويلي إلى مجلس غير هذا، وإن كان أضيق منه! قَالَ: فأخبرت يزيد، فقال: ما غاب عنك من حمقه أكثر، وما حبسته إلا لاوجهه الى العراق، فيقام للناس، وتؤخذ المظالم من ماله ودمه.
                  ولما قتل يزيد بْن الوليد الوليد بْن يزيد، ووجه منصور بْن جمهور إلى العراق كتب يزيد بْن الوليد الى اهل العراق كتابا يذكر فيه مساوئ الوليد، فكان مما كتب به- فيما حدثني أحمد بْن زهير عن علي بْن محمد: أن الله اختار الإسلام دينا وارتضاه وطهره، وافترض فيه حقوقا أمر بها، ونهى عن أمور حرمها، ابتلاء لعباده في طاعتهم ومعصيتهم، فأكمل فيه كل منقبة خير وجسيم فضل، ثم تولاه، فكان له حافظا ولأهله المقيمين حدوده وليا، يحوطهم ويعرفهم بفضل الإسلام، فلم يكرم الله بالخلافة أحدا يأخذ بأمر الله وينتهي إليه فيناوئه أحد بميثاق او يحاول صرف ما حباه الله به، أو ينكث ناكث، الا كان كيده الاوهن، ومكره الابور، حتى يتم الله ما أعطاه، ويدخر له أجره ومثوبته، ويجعل عدوه الأضل سبيلا، الأخسر عملا.
                  فتناسخت خلفاء الله ولاة دينه، قاضين فيه بحكمه، متبعين فيه لكتابه، فكانت لهم بذلك من ولايته ونصرته ما تمت به النعم عليهم، قد رضي الله بهم لها حتى توفي هشام.
                  ثم أفضى الأمر إلى عدو الله الوليد، المنتهك للمحارم التي لا يأتي مثلها مسلم، ولا يقدم عليها كافر، تكرما عن غشيان مثلها فلما استفاض ذلك منه واستعلن، واشتد فيه البلاء، وسفكت فيه الدماء، وأخذت الأموال بغير حقها، مع امور فاحشه، لم يكن الله ليملى للعاملين بها إلا قليلا، سرت إليه مع انتظار مراجعته، وإعذار إلى الله وإلى المسلمين، منكرا لعمله وما اجترأ عليه من معاصي الله، متوخيا من الله إتمام الذي نويت، من اعتدال عمود الدين، والأخذ في أهله بما هو رضا، حتى أتيت جندا، وقد وغرت صدورهم على عدو الله، لما رأوا من عمله، فإن عدو الله لم يكن يرى من شرائع الإسلام شيئا إلا أراد تبديله، والعمل فيه بغير ما أنزل الله، وكان ذلك منه شائعا شاملا، عريان لم يجعل الله فيه سترا، ولا لأحد فيه شكا، فذكرت لهم الذي نقمت وخفت من فساد الدين والدنيا، وحضضتهم على تلافي دينهم، والمحاماة عنه، وهم في ذلك مستريبون، قد خافوا ان يكونوا قد ابقوا لأنفسهم بما قاموا عليه، إلى أن دعوتهم إلى تغييره فأسرعوا الإجابة.
                  فابتعث الله منهم بعثا يخبرهم، من أولي الدين والرضا، وبعثت عليهم عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك، حتى لقي عدو الله إلى جانب قرية يقال لها البخراء، فدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، ينظر المسلمون لأنفسهم من يقلدونه ممن اتفقوا عليه، فلم يجب عدو الله الى ذلك، وابى الا تتايعا في ضلالته، فبدرهم الحملة جهالة بالله، فوجد الله عزيزا حكيما، وأخذه أليما شديدا، فقتله الله على سوء عمله وعصبته، ممن صاحبوه من بطانته الخبيثة، لا يبلغون عشرة، ودخل من كان معه سواهم في الحق الذي دعوا إليه. فأطفأ الله جمرته وأراح العباد منه، فبعدا له ولمن كان على طريقته!
                  أحببت أن أعلمكم ذلك، وأعجل به إليكم، لتحمدوا الله وتشكروه، فإنكم قد أصبحتم اليوم على أمثل حالكم، إذ ولاتكم خياركم، والعدل مبسوط لكم، لا يسار فيكم بخلافه، فأكثروا على ذلك حمد ربكم، وتابعوا منصور بْن جمهور، فقد ارتضيته لكم، على أن عليكم عهد الله وميثاقه، وأعظم ما عهد وعقد على أحد من خلقه، لتسمعن وتطيعن لي، ولمن استخلفته من بعدي، ممن اتفقت عليه الأمة، ولكم علي مثل ذلك، لأعملن فيكم بأمر الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم، وأتبع سبيل من سلف من خياركم، نسأل الله ربنا وولينا أحسن توفيقه وخير قضائه.

                  ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور بن جمهور

                  وفي هذه السنة امتنع نصر بْن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور، وقد كان يزيد بْن الوليد ولاها منصورا مع العراق.
                  قَالَ أبو جعفر: قد ذكرت قبل من خبر نصر، وما كان من كتاب يوسف ابن عمر إليه بالمصير إليه مع هدايا الوليد بْن يزيد، وشخوص نصر من خراسان متوجها إلى العراق، وتباطئه في سفره، حتى قدم عليه الخبر بقتل الوليد، فذكر علي بْن محمد أن الباهلي أخبره، قَالَ: قدم على نصر بشر بْن نافع مولى سالم الليثي- وكان على سكك العراق- فقال: أقبل منصور بْن جمهور أميرا على العراق، وهرب يوسف بْن عمر، فوجه منصور أخاه منظور بْن جمهور على الري، فأقبلت مع منظور إلى الري، وقلت: أقدم على نصر فأخبره، فلما صرت بنيسابور حبسني حميد مولى نصر، وقال: لن تجاوزني أو تخبرني، فأخبرته، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ألا يخبر أحدا حتى أقدم على نصر فأخبره ففعل، فأقبلنا جميعا حتى قدمنا على نصر، وهو بقصره بماجان، فاستأذنا، فقال خصي له: هو نائم، فألححنا عليه، فانطلق فأعلمه، فخرج نصر حتى قبض على يدي وأدخلني، فلم يكلمني حتى صرت في البيت، فساءلني فأخبرته، فقال لحميد مولاه: انطلق به، فأته بجائزة، ثم أتاني يونس بْن عبد ربه وعبيد الله بْن بسام فأخبرتهما، وأتاني سلم بْن أحوز فاخبرته، قال: وكان خبر الوليد يوسف عند نصر، فاتوه حين بلغهم الخبر، فأرسل إلي فلما أخبرتهم كذبوني، فقلت: استوثق من هؤلاء، فلما مضت ثلاث على ذلك، جعل علي ثمانين رجلا حرسا، فأبطأ الخبر على ما كنت قدرت، فلما كانت الليلة التاسعة- وكانت ليلة نوروز- جاءهم الخبر على ما وصفت، فصرف إلي عامة تلك الهدايا، وأمر لي ببرذون بسرجه ولجامه، وأعطاني سرجا صينيا، وقال لي: أقم حتى أعطيك تمام مائة ألف قَالَ: فلما تيقن نصر قتل الوليد رد تلك الهدايا، وأعتق الرقيق، وقسم روقة الجواري
                  [روقة الجواري: أي: حسانهم. القاموس المحيط ص1147، وفي ابن الأثير: "حسان الجواري"]
                  في ولده وخاصته، وقسم تلك الآنية في عوام الناس، ووجه العمال، وأمرهم بحسن السيرة.
                  قَالَ: وأرجفت الأزد في خراسان أن منظور بْن جمهور قادم خراسان، فخطب نصر، فقال في خطبته: إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه.
                  ثم باح به بعد، فكان يقول: عبد الله المخذول المثبور.
                  قال: وولى نصر بن سيار ربيعة واليمن، وولي يعقوب بْن يحيى بْن حضين على أعلى طخارستان، ومسعدة بْن عبد الله اليشكري على خوارزم، وهو الذي يقول فيه خلف:
                  أقول لأصحابي معا دون كردر ... لمسعدة البكري غيث الأرامل
                  ثم أتبعه بأبان بْن الحكم الزهراني، واستعمل المغيرة بْن شعبة الجهضمي على قهستان وأمرهم بحسن السيرة، فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه، فقال في ذلك:
                  أقول لنصر وبايعته ... على جل بكر وأحلافها
                  يدي لك رهن ببكر العراق ... سيدها وابن وصافها
                  أخذت الوثيقة للمسلمين ... لأهل البلاد وألافها
                  إذا آل يحيى الى ما تريد ... اتتك الدماك بأخفافها
                  دعوت الجنود إلى بيعة ... فأنصفتها كل إنصافها
                  وطدت خراسان للمسلمين ... إن الأرض همت بإرجافها
                  وإن جمعت ألفة المسلمين ... صرفت الضراب لألافها
                  أجار وسلم أهل البلاد ... والنازلين بأطرافها
                  فصرت على الجند بالمشرقين ... لقوحا لهم در اخلافها
                  فنحن على ذاك حتى تبين ... مناهج سبل لعرافها
                  وحتى تبوح قريش بما ... تجن ضمائر أجوافها
                  فاقسمت للمعبرات الرتاع ... للعرو أوفي لأصوافها
                  إلى ما تؤدي قريش البطاح ... أخلافها بعد أشرافها
                  فإن كان من عز بز الضعيف ... ضربنا الخيول بأعرافها
                  وجدنا العلائف أنى يكون ... يحمى أواري أعلافها
                  إذا ما تشارك فيه كبت ... خواصرها بعد إخطافها
                  فنحن على عهدنا نستديم ... قريشا ونرضى بأحلافها
                  سنرضى بظلك كنا لها ... وظلك من ظل أكنافها
                  لعل قريشا إذا ناضلت ... تقرطس في بعض أهدافها
                  وتلبس أغشية بالعراق ... رمت دلو شرق بخطافها
                  وبالأسد منا وإن الأسود ... لها لبد فوق أكتافها
                  فإن حاذرت تلفا في النفار ... فالدهر أدنى لإتلافها
                  فقد ثبتت بك أقدامنا ... إذا انهار منهار أجرافها
                  وجدناك برا رءوفا بنا ... كرامة أم وإلطافها
                  ولم تك بيعتنا خلسة ... لأسرع نسفة خطافها
                  نكاح التي أسرعت بالحليل ... قبل تخضب أطرافها
                  فكشفها البعل قبل الصداق ... فاستقبلته بمعتافها
                  قال: وكان نصر ولى عبد الملك بْن عبد الله السلمي خوارزم، فكان يخطبهم ويقول في خطبته: ما أنا بالأعرابي الجلف، ولا الفزاري المستنبط، ولقد كرمتني الأمور وكرمتها، أما والله لأضعن السيف موضعه، والسوط موضعه، والسجن مدخله، ولتجدني غشمشما، أغشى الشجر، ولتستقيمن لي على الطريقه ورفض البكارة في السنن الأعظم، أو لأصكنكم صك القطامي القطا القارب يصكهن جانبا فجانبا.
                  قَالَ: فقدم رجل من بلقين خراسان، وجهه منصور بْن جمهور، فأخذه مولى لنصر، يقال له حميد، كان على سكه بنيسابور، فضربه وكسر أنفه، فشكاه إلى نصر، فأمر له نصر بعشرين ألفا وكساه، وقال: إن الذي كسر أنفك مولى لي وليس بكفء فأقصك منه، فلا تقل إلا خيرا قال: ما قبلت جائزتك، وانا اريد الا اذكر إلا خيرا.
                  قَالَ عصمة بْن عبد الله الأسدي: يا أخا بلقين، أخبر من تأتي أنا قد أعددنا قيسا لربيعة وتميما للأزد، وبقيت كنانة، ليس لها من يكافئها.
                  فقال نصر: كلما أصلحت أمرا أفسدتموه!
                  قَالَ أبو زيد عمر بْن شبة: حدثني أحمد بْن معاوية عن أبي الخطاب، قَالَ: قدم قدامة بْن مصعب العبدي ورجل من كندة على نصر بْن سيار من قبل منصور بْن جمهور، فقال: أمات أمير المؤمنين؟ قالا: نعم، قَالَ: وولي منصور بْن جمهور وهرب يوسف بْن عمر عن سرير العراق؟ قالا: نعم، قَالَ: أنا بجمهوركم من الكافرين، ثم حبسهما ووسع عليهما، ووجه رجلا حتى أتى فرأى منصورا يخطب بالكوفة فأخرجهما، وقال لقدامة: أوليكم رجل من كلب؟ قَالَ: نعم، إنما نحن بين قيس واليمن، قَالَ: فكيف لا يولاها رجل منكم! قَالَ: لأنا كما قَالَ الشاعر:
                  إذ ما خشينا من أمير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوما فعسكرا
                  فضحك نصر، وضمه إليه.
                  قَالَ: ولما قدم منصور بْن جمهور العراق ولى عبيد الله بْن العباس الكوفة- أو وجده واليا عليها فأقره- وولى شرطته ثمامة بْن حوشب ثم عزله وولى الحجاج بن ارطاه النخعى.

                  ذكر مخالفه مروان بن محمد

                  وفي هذه السنة كتب مروان بْن محمد إلى الغمر بْن يزيد، أخي الوليد بْن يزيد يأمره بدم أخيه الوليد.
                  ذكر نسخة ذلك الكتاب الذي كتب إليه:
                  حدثني أحمد عن علي، قَالَ: كتب مروان إلى الغمر بْن يزيد بعد قتل الوليد: أما بعد، فإن هذه الخلافة من الله على مناهج نبوة رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلدهم، يعزهم ويعز من يعزهم، والحين
                  [الحين: الهلاك والمحنة. القاموس المحيط ص1539]
                  على من ناواهم فابتغى غير سبيلهم، فلم يزالوا أهل رعاية لما استودعهم الله منها، يقوم بحقها ناهض بعد ناهض، بأنصار لها من المسلمين وكان أهل الشام أحسن خلقه فيه طاعه، واذبه عن حرمه واوفاه بعهده، وأشده نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب
                  [نكب عنه: عدل. القاموس المحيط ص178]
                  عن الحق، فاستدرت نعمة الله عليهم قد عمر بهم الإسلام، وكبت
                  [كبته: صرعه وأخزاه: القاموس المحيط ص202]
                  بهم الشرك وأهله، وقد نكثوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود، وقام بذلك من أشعل ضرامها، وإن كانت القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاية
                  [الولاية: الإمارة والسلطان. القاموس المحيط ص1732 ؛ والمعنى ذوو ولاية؛ أي أمراء من بني أمية]
                  من بني أمية، فإن دمه غير ضائع، وإن سكنت بهم الفتنة، والتأمت الأمور، فأمر اراده الله لا مرد له.
                  فاكتب بحالك فيما أبرموا وما ترى، فإني مطرق إلى أن أرى غيرا
                  [غير الدهر: حوادثه المغيرة. القاموس المحيطص 583]
                  فأسطو بانتقام، وأنتقم لدين الله. المنبوذة فرائضه، المتروكة مجانة، ومعي قوم أسكن الله طاعتي قلوبهم، أهل إقدام إلى ما قدمت بهم عليه، ولهم نظراء صدورهم مترعة ممتلئة لو يجدون منزعا،
                  [المنزع: الموضع الذي يصعد فيه الدلو إذا نزع من البئر؛ أي: لو يجدون مجالا وفرصة للانتقام. القاموس المحيط ص990]
                  والنقمه دوله تأتي من الله، ووقت مؤجل، ولم أشبه محمدا ولا مروان
                  [محمد أبوه ومروان جده]
                  - غير أن رايت غيرا- إن لم أشمر للقدرية إزاري، وأضربهم بسيفي جارحا وطاعنا، يرمى قضاء الله بي في ذلك حيث أخذ، او يرمى بهم في عقوبة الله حيث بلغ منهم فيها رضاه، وما إطراقي إلا لما أنتظر مما يأتيني عنك، فلا تهن عن ثأرك بأخيك، فإن الله جارك وكافيك، وكفى بالله طالبا ونصيرا.
                  حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، عن مسلم بْن ذكوان، قَالَ: كلم يزيد بْن الوليد العباس بْن الوليد في طفيل بْن حارثة الكلبي، وقال: إنه حمل حمالة، فإن رأيت أن تكتب إلى مروان بْن محمد في الوصاة به، وأن يأذن له أن يسأل عشيرته فيها- وكان مروان يمنع الناس أن يسألوا شيئا من ذلك عند العطاء- فأجابه وحمله على البريد.
                  وكان كتاب العباس ينفذ في الآفاق بكل ما يكتب به وكتب يزيد إلى مروان أنه اشترى من أبي عبيدة بْن الوليد ضيعة بثمانية عشر ألف دينار، وقد احتاج إلى أربعة آلاف دينار قَالَ مسلم بْن ذكوان: فدعاني يزيد، وقال: انطلق مع طفيل بهذا الكتاب، وكلمه في هذا الأمر قَالَ: فخرجنا ولم يعلم العباس بخروجي، فلما قدمنا خلاط، لقينا عمرو بْن حارثة الكلبي، فسألنا عن حالنا فأخبرناه، فقال: كذبتما، إن لكما ولمروان لقصة، قلنا: وما ذاك؟ قَالَ: أخلاني حين أردت الخروج، وقال لي: جماعة أهل المزة يكونون ألفا؟ قلت: وأكثر، قَالَ: وكم بينها وبين دمشق؟ قلت: يسمعهم المنادي، قَالَ: كم ترى عدة بني عامر يعنى بنى عامر من كلب، قلت: عشرون ألف رجل، فحرك أصبعه، ولوى وجهه قَالَ مسلم: فلما سمعت ذلك طمعت في مروان، وكتبت إليه على لسان يزيد: أما بعد، فإنني وجهت إليك ابن ذكوان مولاي بما سيذكره لك، وينهيه إليك، فألق إليه ما أحببت، فإنه من خيار أهلي وثقات موالي، وهو شعب حصين، ووعاء أمين، إن شاء الله فقدمنا على مروان، فدفع طفيل كتاب العباس إلى الحاجب، وأخبره أن معه كتاب يزيد بْن الوليد، فقرأه، فخرج الحاجب، وقال: أما معك كتاب غير هذا، ولا أوصاك بشيء! قلت: لا، ولكني معي مسلم بْن ذكوان، فدخل فأخبره، فخرج الحاجب، فقال: مر مولاه بالرواح.
                  قَالَ مسلم: فانصرفت، فلما حضرت المغرب أتيت المقصورة، فلما صلى مروان انصرفت لأعيد الصلاة، ولم أكن أعتد بصلاته، فلما استويت قائما جاءني خصي، فلما نظر إلي انصرفت وأوجزت الصلاة، فلحقته، فأدخلني على مروان، وهو في بيت من بيوت النساء، فسلمت وجلست، فقال: من أنت؟ فقلت: مسلم بْن ذكوان مولى يزيد، قَالَ: مولى عتاقة أو مولى تباعة؟ قلت: مولى عتاقة، قَالَ: ذاك أفضل، وفي كل ذلك فضل، فاذكر ما بدا لك قلت: إن رأى الأمير أن يجعل لي الأمان على ما قلته، أوافقه في ذلك أو أخالفه، فأعطاني ما أردت، فحمدت الله وصليت على نبيه، ووصفت ما أكرم الله به بني مروان من الخلافة ورضا العامة بهم، وكيف نقض الوليد العرى، وأفسد قلوب الناس، وذمته العامة، وذكرت حاله كلها فلما فرغت تكلم، فو الله ما حمد الله ولا تشهد، وقال: قد سمعت ما قلت، قد أحسنت وأصبت، ولنعم الرأي رأي يزيد، فأشهد الله أني قد بايعته، أبذل في هذا الأمر نفسي ومالي، لا أريد بِذَلِكَ إلا مَا عِنْدَ اللَّه، والله ما أصبحت أستزيد الوليد، لقد وصل وفرض وأشرك في ملكه، ولكني أشهد أنه لا يؤمن بيوم الحساب وسألني عن أمر يزيد، فكبرت الأمر وعظمته، فقال: اكتم أمرك، وقد قضيت حاجة صاحبك، وكفيته أمر حمالته، وأمرت له بألف درهم فأقمت أياما، ثم دعاني ذات يوم نصف النهار، ثم قَالَ: الحق بصاحبك، وقل له: سددك الله، امض على أمر الله، فإنك بعين الله وكتب جواب كتابي، وقال لي: إن قدرت أن تطوي أو تطير فطر، فإنه يخرج بالجزيرة إلى ست ليال أو سبع خارجة، وقد خفت أن يطول أمرهم فلا تقدر أن تجوز قلت: وما علم الأمير بذلك؟ فضحك، وقال: ليس من أهل هوى إلا وقد أعطيتهم الرضا حتى أخبروني بذات أنفسهم فقلت في نفسي: أنا واحد من أولئك، ثم قلت: لئن فعلت ذلك أصلحك الله، إنه قيل الخالد بْن يزيد بْن معاوية: أني أصبت هذا العلم؟ قَالَ: وافقت الرجال على أهوائهم، ودخلت معهم في آرائهم، حتى بذلوا لي ما عندهم، وأفضوا لي بذات انفسهم.
                  فودعته وخرجت فلما كنت بآمد لقيت البرد تتبع بعضها بعضا بقتل الوليد، وإذا عبد الملك بن مروان بن محمد قد وثب على عامل الوليد بالجزيرة، فأخرجه منها، ووضع الأرصاد على الطريق، فتركت البرد، واستأجرت دابة ودليلا، فقدمت على يزيد بْن الوليد.
                  ذكر الخبر عن عزل منصور بن جمهور عن العراق
                  وفي هذه السنة عزل يزيد بْن الوليد منصور بْن جمهور عن العراق، وولاها عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز بْن مروان.
                  * ذكر الخبر عن ذلك:
                  ذكر عن يزيد بْن الوليد أنه قَالَ لعبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز: إن أهل العراق يميلون إلى أبيك فسر إليها فقد وليتكها، فذكر عن أبي عبيدة، قَالَ: كان عبد الله بْن عمر متألها متألما، فقدم حين شخص إلى العراق بين يديه رسلا وكتبا إلى قواد الشام الذين بالعراق، وخاف ألا يسلم له منصور بْن جمهور العمل، فانقاد له كلهم، وسلم له منصور بْن جمهور، وانصرف إلى الشام، ففرق عبد الله بْن عمر عماله في الأعمال، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم، فنازعه قواد أهل الشام وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدونا! فقال عبد الله لأهل العراق: إني قد أردت أن أرد فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحق به، فنازعني هؤلاء فأنكروا علي.
                  فخرج أهل الكوفة إلى الجبانة، وتجمعوا، فأرسل إليهم قواد أهل الشام يعتذرون وينكرون، ويحلفون أنهم لم يقولوا شيئا مما بلغهم، وثار غوغاء الناس من الفريقين، فتناوشوا، وأصيب منهم رهط لم يعرفوا، وعبد الله بْن عمر بالحيرة، وعبيد الله بْن العباس الكندي بالكوفة، قد كان منصور بن جمهور استخلفه عليها فاراد أهل الكوفة إخراجه من القصر، فأرسل إلى عمر بْن الغضبان بْن القبعثري، فأتاه فنحى الناس عنه، وسكنهم وزجر سفاءهم حتى تحاجزوا، وأمن بعضهم بعضا وبلغ ذلك عبد الله بْن عمر، فأرسل إلى ابن الغضبان، فكساه وحمله، واحسن جائزته، وولاه شرطه وخراج السواد والمحاسبات، وأمره أن يفرض لقومه، ففرض في ستين وفي سبعين.

                  ذكر وقوع الخلاف بين اليمانيه والنزارية في خراسان

                  وفي هذه السنة وقع الاختلاف في خراسان بين اليمانية والنزارية، وأظهر الكرماني فيها الخلاف لنصر بْن سيار، واجتمع مع كل واحد منهما جماعة لنصرته.
                  *ذكر الخبر عما كان بينهما من ذلك وعن السبب الذي أحدث ذلك:
                  ذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أن عبد الله بْن عمر لما قدم العراق واليا عليها من قبل يزيد بْن الوليد، كتب إلى نصر بعهده على خراسان، قَالَ:
                  ويقال: بل أتاه كتابه بعد خروج الكرماني من حبس نصر، فقال المنجمون لنصر: إن خراسان سيكون بها فتنة، فأمر نصر برفع حاصل
                  [الحاصل من كل شيء: ما بقي منه. القاموس المحيط ص1272]
                  بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقا وذهبا من الآنية التي كان اتخذها للوليد ابن يزيد، وكان أول من تكلم رجل من كندة، أفوه طوال، فقال: العطاء العطاء! فلما كانت الجمعة الثانية، أمر نصر رجالا من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرقهم في المسجد مخافة أن يتكلم متكلم، فقام الكندي فقال: العطاء العطاء! فقام رجل مولى للأزد- وكان يلقب أبا الشياطين- فتكلم، وقام حماد الصائغ وأبو السليل البكري، فقالا: العطاء العطاء! فقال نصر: إياي والمعصية، عليكم بالطاعة والجماعة، فاتقوا الله واسمعوا ما توعظون به.
                  فصعد سلم بْن أحوز إلى نصر وهو على المنبر فكلمه، فقال: ما يغني عنا كلامك هذا شيئا ووثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا، ثم قَالَ: كأني بالرجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمه، فلطم وجهه في جمل يهدى له وثوب يكساه، ويقول: مولاي وظئري، وكأني بهم قد نبغ من تحت أرجلهم شر لا يطاق، وكأني بكم مطرحين في الأسواق كالجزر المنحورة، إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملوها، وأنتم يا أهل خراسان، مسلحة في نحور العدو، فإياكم ان
                  يختلف فيكم سيفان.
                  قَالَ علي: قَالَ عبد الله بْن المبارك، قَالَ نصر في خطبته: إني لمكفر ومع ذاك لمظلم، وعسى أن يكون ذلك خيرا لي إنكم تغشون أمرا تريدون فيه الفتنة، فلا أبقى الله عليكم، والله لقد نشرتكم وطويتكم، وطويتكم ونشرتكم، فما عندي منكم عشرة، وإني وإياكم كما قَالَ من كان قبلكم:
                  استمسكوا أصحابنا نحدو بكم ... فقد عرفنا خيركم وشركم
                  فاتقوا الله، فو الله لئن اختلف فيكم ليتمنين الرجل منكم أنه يخلع من ماله وولده ولم يكن رآه يا أهل خراسان، إنكم غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة أسلطان المجهول تريدون وتنتظرون! إن فيه لهلاككم معشر العرب، وتمثل بقول النابغة الذبياني:
                  فإن يغلب شقاؤكم عليكم ... فإني في صلاحكم سعيت
                  وقال الحارث بْن عبد الله بْن الحشرج بْن المغيرة بْن الورد الجعدي:
                  أبيت أرعى النجوم مرتفقا ... إذا استقلت تجري أوائلها
                  من فتنة أصبحت مجللة ... قد عم أهل الصلاة شاملها
                  من بخراسان والعراق ومن ... بالشام كل شجاه شاغلها
                  فالناس منها في لون مظلمة ... دهماء ملتجة غياطلها
                  يمسي السفيه الذي يعنف ... بالجهل سواء فيها وعاقلها
                  والناس في كربة يكاد لها ... تنبذ أولادها حواملها
                  يغدون منها في ظل مبهمه ... عمياء تغتالهم غوائلها
                  لا ينظر الناس في عواقبها ... إلا التي لا يبين قائلها
                  كرغوة البكر أو كصيحة حبلى ... طرقت حولها قوابلها
                  فجاء فينا أزرى بوجهته ... فيها خطوب حمر زلازلها
                  قَالَ: فلما أتى نصرا عهده من قبل عبد الله بْن عمر قَالَ الكرماني لأصحابه: الناس في فتنة، فانظروا لأموركم رجلا- وإنما سمي الكرماني لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بْن علي بْن شبيب بْن براري بْن صنيم المعني- فقالوا: أنت لنا، فقالت المضرية لنصر: الكرماني يفسد عليك، فأرسل إليه فاقتله، او فاحبسه، قَالَ: لا، ولكن لي أولاد ذكور وإناث، فأزوج بني من بناته وبنيه من بناتي، قالوا: لا، قَالَ: فأبعث إليه بمائة ألف درهم، فإنه بخيل ولا يعطي أصحابه شيئا، ويعلمون بها فيتفرقون عنه، قالوا: لا، هذه قوة له، قَالَ: فدعوه على حاله يتقينا ونتقيه، قالوا لا، قال:
                  فأرسل اليه فحبسه.
                  قَالَ: وبلغ نصرا أن الكرماني يقول: كانت غايتي في طاعه بنى مروان ان يقلد ولدى السيوف فأطلب بثأر بني المهلب، مع ما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيانا بما كان من صنيع أسد إليه فقال له عصمه ابن عبد الله الأسدي: إنها بدء فتنة، فتجن عليه فاحشة، وأظهر أنه مخالف واضرب عنقه وعنق سباع بْن النعمان الأزدي والفرافصة بْن ظهير البكرى، فانه لم يزل متغضبا على الله بتفضيله مضر على ربيعة.
                  وكان بخراسان وقال جميل بْن النعمان: إنك قد شرفته وإن كرهت قتله فادفعه إلي أقتله وقيل: إنما غضب عليه في مكاتبته بكر بْن فراس البهراني عامل جرجان، يعلمه حال منصور بن جمهور حين بعث عهد الكرماني مع أبي الزعفران مولى أسد بْن عبد الله، فطلبه نصر فلم يقدر عليه والذي كتب إلى الكرماني بقتل الوليد وقدوم منصور بْن جمهور على العراق صالح الأثرم الحرار.
                  وقيل: إن قوما أتوا نصرا، فقالوا: الكرماني يدعو إلى الفتنة وقال اصرم ابن قبيصة لنصر: لو أن جديعا لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهود وكان نصر والكرماني متصافيين، وقد كان الكرماني أحسن إلى نصر في ولاية أسد بْن عبد الله، فلما ولي نصر خراسان عزل الكرماني عن الرئاسة وصيرها لحرب بْن عامر بن ايثم الواشجى، فمات حرب فأعاد الكرماني عليها، فلم يلبث إلا يسيرا حتى عزله، وصيرها لجميل بْن النعمان قَالَ: فتباعد ما بين نصر والكرماني فحبس الكرماني في القهندز وكان على القهندز مقاتل بْن علي المرئي- ويقال المري.
                  قَالَ: ولما أراد نصر حبس الكرماني أمر عبيد الله بْن بسام صاحب حرسه، فأتاه به، فقال له نصر: يا كرماني، ألم يأتني كتاب يوسف بْن عمر يأمرني بقتلك، فراجعته وقلت له: شيخ خراسان وفارسها، وحقنت دمك! قَالَ: بلى، قَالَ ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس! قَالَ: بلى، قال الم أرش عليا ابنك على كره من قومك! قَالَ: بلى، قَالَ: فبدلت ذلك إجماعا على الفتنة! قَالَ الكرماني: لم يقل الأمير شيئا إلا وقد كان أكثر منه، فأنا لذلك شاكر، فإن كان الأمير حقن دمي فقد كان مني أيام أسد بْن عبد الله ما قد علم، فليستان الأمير ويتثبت فلست أحب الفتنة فقال عصمة بْن عبد الله الأسدي: كذبت، وأنت تريد الشغب، ومالا تناله وقال سلم بْن أحوز: اضرب عنقه أيها الأمير، فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بْن نعيم الغامدي: لجلساء فرعون خير منكم، إذ قالوا: «أَرْجِهْ وَأَخاهُ*» ، والله لا يقتلن الكرماني بقولك يا بن احوز وعلت الأصوات، فامر نصر سلما بحبس الكرماني، فحبس لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة، فكلمت الأزد، فقال نصر: انى حلفت ان احبسه ولا يبدؤه مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه قَالَ: فاختاروا يزيد النحوي، فكان معه في القهندز، وصير حرسه بني ناجية أصحاب عثمان وجهم ابني مسعود.
                  قَالَ: وبعث الأزد إلى نصر المغيرة بْن شعبة الجهضمي وخالد بْن شعيب بْن أبي صالح الحداني، فكلماه فيه قَالَ: فلبث في الحبس تسعة وعشرين يوما، فقال علي بْن وائل أحد بني ربيعة بْن حنظلة: دخلت على نصر، والكرماني جالس ناحية، وهو يقول: ما ذنبي إن كان ابو الزعفران جاء! فو الله ما واريته ولا أعلم مكانه.
                  وقد كانت الأزد يوم حبس الكرماني أرادت أن تنزعه من رسله، فناشدهم الله الكرماني ألا يفعلوا، ومضى مع رسل سلم بْن أحوز، وهو يضحك، فلما حبس تكلم عبد الملك بْن حرملة اليحمدي والمغيرة بْن شعبة وعبد الجبار بْن شعيب بْن عباد وجماعة من الأزد، فنزلوا نوش، وقالوا: لا نرضى أن يحبس الكرماني بغير جناية ولا حدث، فقال لهم شيوخ من اليحمد: لا تفعلوا وانظروا ما يكون من أميركم، فقالوا: لا نرضى، ليكفن عنا نصر أو لنبدأن بكم وأتاهم عبد العزيز بْن عباد بْن جابر بْن همام بْن حنظلة اليحمدي في مائة، ومحمد بْن المثنى وداود بْن شعيب، فباتوا بنوش مع عبد الملك بْن حرملة ومن كان معه، فلما أصبحوا أتوا حوزان، وأحرقوا منزل عزة أم ولد نصر- وأقاموا ثلاثة أيام، وقالوا: لا نرضى، فعند ذلك صيروا عليه الأمناء، فجعلوا معه يزيد النحوي وغيره، فجاء رجل من أهل نسف، فقال لجعفر غلام الكرماني: ما تجعلون لي إن أخرجته؟
                  قالوا: لك ما سألت، فأتى مجرى الماء من القهندز فوسعه، وأتى ولد الكرماني، وقال لهم: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج، فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب في الطعام، فدعا الكرماني يزيد النحوي وحصين بْن حكيم فتعشيا معه وخرجا، ودخل الكرماني السرب، فأخذوا بعضده، فانطوت على بطنه حية فلم تضره، فقال بعض الأزد: كانت الحية أزدية فلم تضره.
                  قَالَ: فانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، فلما خرج ركب بغلته دوامة- ويقال: بل ركب فرسه البشير- والقيد في رجله، فأتوا به قرية تسمى غلطان، وفيها عبد الملك بْن حرملة، فأطلق عنه.
                  قَالَ علي: وقال أبو الوليد زهير بْن هنيد العدوي: كان مع الكرماني غلامه بسام، فرأى خرقا على القهندز، فلم يزل يوسعه حتى أمكنه الخروج منه.
                  قَالَ: فأرسل الكرماني إلى محمد بْن المثنى وعبد الملك بْن حرملة: إني خارج الليلة، فاجتمعوا، وخرج فأتاهم فرقد مولاه، فأخبرهم، فلقوه في قريه حرب ابن عامر، وعليه ملحفه متقلدا سيفا، ومعه عبد الجبار بْن شعيب وابنا الكرماني: علي وعثمان، وجعفر غلامه، فأمر عمرو بْن بكر، أن يأتي غلطان وأندغ وأشترج معا، وأمرهم أن يوافوه على باب الريان بْن سنان اليحمدي بنوش في المرج- وكان مصلاهم في العيد- فأتاهم فأخبرهم، فخرج القوم من قراهم في السلاح، فصلى بهم الغداة، وهم زهاء ألف، فما ترجلت الشمس حتى صاروا ثلاثة آلاف، وأتاهم أهل السقادم، فسار على مرج نيران حتى أتى حوزان، فقال خلف بْن خليفة:
                  أصحروا للمرج أجلى للعمى ... فلقد أصحر أصحاب السرب
                  إن مرج الأزد مرج واسع ... تستوي الأقدام فيه والركب
                  وقيل: إن الأزد بايعت لعبد الملك بْن حرملة على كتاب الله عز وجل ليلة خرج الكرماني، فلما اجتمعوا في مرج نوش أقيمت الصلاة، فاختلف عبد الملك والكرماني ساعة، ثم قدمه عبد الملك، وصيرا الأمر له، فصلى الكرماني ولما هرب الكرماني أصبح نصر معسكرا بباب مرو الروذ بناحية ايردانه، فأقام يوما أو يومين.
                  وقيل: لما هرب الكرماني استخلف نصر عصمة بْن عبد الله الأسدي، وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الروذ، وخطب الناس، فنال من الكرماني، فقال: ولد بكرمان وكان كرمانيا، ثم سقط إلى هراة فكان هرويا، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت، ولا فرع نابت، ثم ذكر الأزد، فقال: إن يستوثقوا فأذل قوم، وإن يأبوا فهم كما قَالَ الأخطل:
                  [في ديوانه 13]
                  ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
                  ثم ندم على ما فرط منه، فقال: اذكروا الله، فإن ذكر الله شفاء، ذكر الله خير لا شر فيه، يذهب الذنب، وذكر الله براءة من النفاق.
                  ثم اجتمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سلم بْن أحوز إلى الكرماني في
                  المجففة في بشر كثير فسفر الناس بين نصر والكرماني، وسألوا نصرا أن يؤمنه ولا يحبسه، ويضمن عنه قومه ألا يخالفه فوضع يده في يد نصر فأمره بلزوم بيته، ثم بلغه عن نصر شيء، فخرج إلى قرية له، وخرج نصر فعسكر بالقناطر، فأتاه القاسم بْن نجيب، فكلمه فيه فآمنه، وقال له:
                  إن شئت خرج لك عن خراسان، وإن شئت أقام في داره- وكان رأي نصر إخراجه- فقال له سلم: إن أخرجته نوهت باسمه وذكره، وقال الناس: اخرجه لأنه هابه، فقال نصر: إن الذي أتخوفه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفي عن بلده صغر أمره فأبوا عليه، فكف عنه، وأعطى من كان معه عشرة عشرة وأتى الكرماني نصرا، فدخل سرادقه فآمنه ولحق عبد العزيز بْن عبد ربه بالحارث بْن سريج. وأتى نصرا عزل منصور بْن جمهور وولاية عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز في شوال سنة ست وعشرين ومائة، فخطب الناس، وذكر ابن جمهور، وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيب ابن الطيب، فغضب الكرماني لابن جمهور، فعاد في جمع الرجال واتخاذ السلاح وكان يحضر الجمعه في الف وخمسمائة وأكثر وأقل، فيصلي خارجا من المقصورة ثم يدخل على نصر، فيسلم ولا يجلس ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سلم بْن أحوز: إني والله ما أردت بك في حبسك سوءا، ولكن خفت أن تفسد أمر الناس، فأتني فقال الكرماني: لولا إنك في منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك أحسنت أدبك، فارجع إلى ابن الأقطع فأبلغه ما شئت من خير وشر فرجع إلى نصر فأخبره، فقال: عد إليه، فقال: لا والله، وما بي هيبة له ولكني أكره أن يسمعني فيك ما أكره فبعث إليه عصمة بْن عبد الله الأسدي، فقال: يا أبا علي، إني أخاف عليك عاقبة ما ابتدأت به في دينك ودنياك، ونحن نعرض عليك خصالا، فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك، وما نريد
                  بذلك إلا الإنذار إليك فقال الكرماني: إني أعلم أن نصرا لم يقل هذا لك ولكنك اردت ان يبلغه فتحظى، والله لا أكلمك كلمة بعد انقضاء كلامي حتى ترجع إلى منزلك، فيرسل من أحب غيرك فرجع عصمة، وقال:
                  ما رأيت علجا أعدى لطوره من الكرماني، وما أعجب منه، ولكن من يحيى بن حصين لعنهم الله! والله لهم أشد تعظيما له من اصحابه قال سلم ابن أحوز: إني أخاف فساد هذا الثغر والناس، فأرسل إليه قديدا وقال نصر لقديد بْن منيع: انطلق إليه، فأتاه فقال له: يا أبا علي، لقد لججت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعا، وتشمت بنا هذه الأعاجم، فقال:
                  يا قديد، إني لا أتهمك، وقد جاء ما لا أثق بنصر معه، [وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البكري أخوك ولا تثق به،] قَالَ: أما إذ وقع هذا في نفسك فأعطه رهنا، قَالَ: من؟ قَالَ: أعطه عليا وعثمان، قَالَ: فمن يعطيني؟ ولا خير فيه، قَالَ: يا أبا علي، أنشدك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك ورجع إلى نصر، فقال لعقيل بْن معقل الليثي: ما أخوفني أن يقع بهذا الثغر بلاء، فكلم ابن عمك، فقال عقيل لنصر: أيها الأمير، أنشدك الله أن تشأم عشيرتك، إن مروان بالشام تقاتله الخوارج، والناس في فتنه والأزد سفهاء وهم جيرانك. قَالَ: فما أصنع؟ إن علمت أمرا يصلح الناس فدونك، فقد عزم أنه لا يثق بي قَالَ: فأتى عقيل الكرماني، فقال: أبا علي، قد سننت سنة تطلب بعدك من الأمراء، إني أرى أمرا أخاف ان تذهب فيه العقول، قَالَ الكرماني: إن نصرا يريد أن آتيه ولا آمنه، ونريد أن يعتزل ونعتزل، ونختار رجلا من بكر بْن وائل، نرضاه جميعا، فيلي أمرنا جميعا حتى يأتي أمر من الخليفة، وهو يأبى هذا قَالَ: يا أبا علي، إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر، فأت أميرك وقل ما شئت تجب إليه، ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوا فيه، فقال الكرماني: إني لا اتهمك في نصيحه ولا عقل، ولكني لا أثق بنصر، فليحمل من مال خراسان ما شاء ويشخص قَالَ: فهل لك في أمر يجمع الأمر بينكما؟ تتزوج إليه ويتزوج إليك، قَالَ: لا آمنه على حال، قَالَ: ما بعد هذا خير، وإني خائف أن تهلك غدا بمضيعة، قَالَ: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له عقيل: أعود إليك؟ قَالَ: لا، ولكن أبلغه عني وقل له: لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد، فتركب منا ما لا بقية بعده، فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها وتهيأ ليخرج الى جرجان.

                  خبر الحارث بن سريج مع يزيد
                  وفي هذه السنة آمن يزيد بْن الوليد الحارث بْن سريج، وكتب له بذلك، فكتب إلى عبد الله بْن عمر يأمره برد ما كان أخذ منه من ماله وولده.
                  *ذكر الخبر عن سبب ذلك:
                  ذكر أن الفتنة لما وقعت بخراسان بين نصر والكرماني، خاف نصر قدوم الحارث بْن سريج عليه بأصحابه والترك، فيكون أمره أشد عليه من الكرماني وغيره، وطمع أن يناصحه، فأرسل إليه مقاتل بْن حيان النبطي وثعلبة بْن صفوان البناني وأنس بْن بجالة الأعرجي وهدبة الشعراوي وربيعة القرشي ليردوه عن بلاد الترك.
                  فذكر علي بْن محمد عن شيوخه أن خالد بْن زياد البدي من أهل الترمذ وخالد بْن عمرو مولى بني عامر، خرجا إلى يزيد بْن الوليد يطلبان الأمان للحارث بْن سريج، فقدما الكوفة، فلقيا سعيد خدينة، فقال لخالد ابن زياد: أتدري لم سموني خدينة؟ قَالَ: لا، قَالَ: أرادوني على قتل أهل اليمن فأبيت وسألا أبا حنيفة أن يكتب لهما إلى الأجلح- وكان من خاصة يزيد بْن الوليد- فكتب لهما إليه، فأدخلهما عليه، فقال له خالد بْن زياد: يا أمير المؤمنين، قتلت ابن عمك لإقامة كتاب الله، وعمالك يغشمون ويظلمون! قَالَ: لا أجد أعوانا غيرهم، وإني لأبغضهم، قَالَ: يا أمير المؤمنين، ول أهل البيوتات، وضم إلى كل عامل رجالا من أهل الخير والفقه يأخذونهم بما في عهدك، قَالَ: أفعل، وسألاه أمانا للحارث بْن سريج، فكتب له:
                  أما بعد، فإنا غضبنا لله، إذ عطلت حدوده، وبلغ بعباده كل مبلغ،
                  وسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فأردنا أن نعمل في هذه الأمة بكتاب الله جل وعز وسنه نبيه ص، ولا قوة إلا بالله، فقد أوضحنا لك عن ذات أنفسنا، فأقبل آمنا أنت ومن معك، فإنكم إخواننا وأعواننا وقد كتبت إلى عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز برد ما كان اصطفى من أموالكم وذراريكم.
                  فقدما الكوفة فدخلا على ابن عمر، فقال خالد بْن زياد: أصلح الله الأمير! ألا تامر عمالك بسيره ابيك؟ قال: او ليس سيرة عمر ظاهرة معروفة! قَالَ: فما ينفع الناس منها ولا يعمل بها! ثم قدما مرو فدفعا كتاب يزيد إلى نصر، فرد ما كان أخذ لهم مما قدر عليه ثم نفذا إلى الحارث، فلقيا مقاتل بْن حيان وأصحابه الذين وجههم نصر إلى الحارث وكان ابن عمر كتب إلى نصر: إنك آمنت الحارث بغير إذني ولا إذن الخليفة فأسقط في يديه، فبعث يزيد بْن الأحمر وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه في السفينة فلما لقيا مقاتلا بآمل قطع إليه مقاتل بنفسه، فكف عنه يزيد قَالَ: فأقبل الحارث يريد مرو- وكان مقامه بأرض الشرك اثنى عشرة سنة- وقدم معه القاسم الشيباني ومضرس بْن عمران قاضيه وعبد الله بْن سنان فقدم سمرقند وعليها منصور بْن عمر فلم يتلقه، وقال: ألحسن بلائه! وكتب إلى نصر يستأذنه في الحارث أن يثب به، فأيهما قتل صاحبه فإلى الجنة أو إلى النار وكتب إليه: لئن قدم الحارث على الأمير وقد ضر ببني أمية في سلطانهم، وهو والغ في دم بعد دم، قد طوى كشحا عن الدنيا بعد أن كان في سلطانهم أقراهم لضيف، وأشدهم بأسا، وأنفذهم غارة في الترك، ليفرقن عليك بني تميم وكان سردرخداه محبوسا عند منصور بْن عمر، لأنه قتل بياسان، فاستعدى ابنه جنده
                  [هو جنده بن بياسان]
                  منصورا، فحبسه، فكلم الحارث منصورا فيه، فخلى سبيله، فلزم الحارث ووفى له.

                  كتاب ابراهيم الامام الى شيعه بنى العباس
                  وفي هذه السنة- فيما زعم بعضهم- وجه إبراهيم بْن محمد الإمام أبا هاشم بكير بْن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصية فقدم مرو،
                  وجمع النقباء ومن بها من الدعاة، فنعى لهم الإمام محمد بْن علي، ودعاهم إلى إبراهيم، ودفع إليهم كتاب إبراهيم، فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم بْن محمد.

                  ذكر خلاف مروان بن محمد على يزيد
                  وفي هذه السنة أظهر مروان بْن محمد الخلاف على يزيد بْن الوليد، وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة، مظهرا أنه طالب بدم الوليد بْن يزيد فلما صار بحران بايع يزيد.
                  *ذكر الخبر عما كان منه في ذلك وعن السبب الذي حمله على الخلاف ثم البيعة:
                  حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم بْن خالد ابن يزيد بْن هريم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح مولى عثمان بْن عفان- وسألته عما شهد مما حدثنا به فقال: لم أزل في عسكر مروان بْن محمد- قَالَ: كان عبد الملك بْن مروان بْن محمد بْن مروان حين انصرف عن غزاته الصائفة مع الغمر بْن يزيد بحران، فأتاه قتل الوليد وهو بها، على الجزيرة عبدة بْن رباح الغساني عاملا للوليد عليها، فشخص منها- حيث بلغه قتل الوليد- إلى الشام، ووثب عبد الملك بْن مروان بْن محمد على حران ومدائن الجزيرة فضبطها، وولاها سليمان بْن عبد الله بْن علاثة، وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك، ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم فتهيأ مروان للمسير، وأظهر أنه يطلب بدم الوليد، وكره أن يدع الثغر معطلا حتى يحكم أمره، فوجه إلى أهل الباب إسحاق بْن مسلم العقيلي- وهو رأس قيس- وثابت بْن نعيم الجذامي من أهل فلسطين- وهو رأس اليمن- وكان سبب صحبة ثابت إياه ان مروان كان خلصه من حبس هشام بالرصافة وكان مروان يقدم على هشام المرة في السنتين، فيرفع إليه أمر الثغر وحاله ومصلحة من به من جنوده، وما ينبغي أن يعمل به في عدوه وكان سبب حبس هشام ثابتا ما قد ذكرنا قبل من أمره مع حنظلة بْن صفوان وإفساده عليه الجند الذين كان هشام وجههم معه لحرب البربر وأهل إفريقية، إذ قتلوا عامل هشام عليهم، كلثوم بْن عياض القسرى، فشكا ذلك من أمره حنظلة إلى هشام في كتاب كتبه اليه، فامر هشام حنظله بتوجيهه إليه في الحديد، فوجهه حنظلة إليه، فحبسه هشام، فلم يزل في حبسه حتى قدم مروان بْن محمد على هشام في بعض وفاداته- وقد ذكرنا بعض أمر كلثوم ابن عياض وأمر إفريقية معه في موضعه فيما مضى من كتابنا هذا- فلما قدم مروان على هشام أتاه رءوس أهل اليمانية، ممن كان مع هشام، فطلبوا إليه فيه، وكان ممن كلمه فيه كعب بْن حامد العبسي صاحب شرط هشام وعبد الرحمن بْن الضخم وسليمان بْن حبيب قاضيه، فاستوهبه مروان منه فوهبه له، فشخص إلى أرمينية، فولاه وحباه، فلما وجه مروان ثابتا مع إسحاق إلى أهل الباب، كتب إليهم معهما كتابا يعلمهم فيه حال ثغرهم وما لهم من الأجر في لزوم أمرهم ومراكزهم، وما في ثبوتهم فيه من دفع مكروه العدو عن ذراري المسلمين.
                  قَالَ: وحمل إليهم معهما أعطياتهم، وولى عليهم رجلا من أهل
                  فلسطين يقال له حميد بْن عبد الله اللخمي- وكان رضيا فيهم وكان وليهم قبل ذلك- فحمدوا ولايته فقاما فيهم بأمره، وأبلغاهم رسالته، وقرأ عليهم كتابه، فأجابوا إلى الثبوت في ثغرهم ولزوم مراكزهم ثم بلغه أن ثابتا قد كان يدس إلى قوادهم بالانصراف من ثغرهم واللحاق بأجنادهم، فلما انصرفا إليه تهيأ للمسير وعرض جنده، ودس ثابت بْن نعيم إلى من معه من أهل الشام بالانخزال عن مروان والانضام إليه ليسير بهم إلى أجنادهم، ويتولى أمرهم، فانخزلوا عن عسكرهم مع من فر ليلا وعسكروا على حدة. وبلغ مروان أمرهم فبات ليلته ومن معه في السلاح يتحارسون حتى أصبح، ثم خرج إليهم بمن معه ومن مع ثابت يضعفون على من مع مروان، فصافوهم ليقاتلوهم، فأمر مروان منادين فنادوا بين الصفين من الميمنة والميسرة والقلب، فنادوهم: يا أهل الشام، ما دعاكم إلى الانعزال! وما الذي نقمتم علي فيه من سيري! ألم ألكم بما تحبون، وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم! ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم! فأجابوه بأنا كنا نطيعك بطاعة خليفتنا وقد قتل خليفتنا وبايع أهل الشام يزيد بْن الوليد، فرضينا بولاية ثابت، ورأسناه ليسير بنا على ألويتنا حتى نرد إلى أجنادنا فأمر مناديه فنادى: أن قد كذبتم، وليس تريدون الذي قلتم، وإنما أردتم أن تركبوا رءوسكم، فتغصبوا من مررتم به من أهل الذمة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم، وما بيني وبينكم إلا السيف حتى تنقادوا إلي، فأسير بكم حتى أوردكم الفرات، ثم أخلي عن كل قائد وجنده، فتلحقون بأجنادكم فلما رأوا الجد منه انقادوا إليه ومالوا له، وأمكنوه من ثابت بْن نعيم وأولاده، وهم أربعة رجال: رفاعة، ونعيم، وبكر، وعمران قَالَ: فأمر بهم فأنزلوا عن خيولهم، وسلبوا سلاحهم، ووضع في أرجلهم السلاسل. ووكل بهم عدة من حرسه يحتفظون بهم، وشخص بجماعة من الجند من أهل الشام والجزيرة، وضمهم إلى عسكره، وضبطهم في مسيره، قلم يقدر احد منهم على ان يفسد ولا يظلم أحدا من أهل القرى، ولا يرزاه شيئا الا يثمن، حتى ورد حران ثم أمرهم باللحاق بأجنادهم، وحبس ثابتا معه، ودعا أهل الجزيرة إلى الفرض، ففرض لنيف وعشرين ألفا من أهل الجلد منهم، وتهيأ للمسير إلى يزيد، وكاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليه ما كان عبد الملك بْن مروان ولى أباه محمد بْن مروان من الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان، ووجه إليه محمد بْن عبد الله بْن علاثة ونفرا من وجوه الجزيرة.

                  وقال بعضهم: توفي وهو ابن سبع وثلاثين سنة وكان يكنى أبا خالد وأمه أم ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بْن يزدجرد بْن شهريار ابن كسرى وهو القائل:
                  أنا ابن كسرى وأبي مروان ... وقيصر جدي وجد خاقان
                  وقيل: إنه كان قدريا وكان- فيما حدثني أحمد، عن علي بْن محمد في صفته- أسمر طويلا، صغير الرأس، بوجهه خال وكان جميلا من رجل، في فمه بعض السعة، وليس بالمفرط.



                  وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                  أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                  تعليق


                  • #54
                    رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                    سنة سبع وعشرين ومائة
                    (ذكر ما كان فيها من الأحداث)


                    قَالَ: ويقال قدم عبد الله بْن معاوية الكوفة وجمع جمعا، فلم يعلم عبد الله بْن عمر حتى خرج في الجبانة مجمعا على الحرب، فالتقوا، وخالد بْن قطن الحارثي على أهل اليمن، فشد عليه الأصبغ بْن ذؤالة الكلبي في أهل الشام، فانهزم خالد وأهل الكوفة وأمسكت نزار عن نزار ورجعوا، وأقبل خمسون رجلا من الزيدية إلى دار ابن محرز القرشي يريدون القتال، فقتلوا، ولم يقتل من أهل الكوفة غيرهم.
                    قَالَ: وخرج ابن معاوية من الكوفة مع عبد الله بْن عباس التميمي إلى المدائن، ثم خرج منها فغلب على الماهين وهمذان وقومس وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، وقال:
                    فلا تركبن الصنيع الذي ... تلوم أخاك على مثله
                    ولا يعجبنك قول امرى ... يخالف ما قَالَ في فعله
                    وأما أبو عبيدة معمر بْن المثنى، فإنه زعم أن سبب ذلك أن عبد الله والحسن ويزيد بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر قدموا على عبد الله بْن عمر، فنزلوا في النخع، في دار مولى لهم، يقال له الوليد بْن سعيد، فأكرمهم ابن عمر واجازهم، واجرى عليهم كل يوم ثلاثمائة درهم، فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بْن الوليد، وبايع الناس أخاه إبراهيم بْن الوليد ومن بعده عبد العزيز ابن الحجاج بْن عبد الملك، فقدمت بيعتهما على عبد الله بن عمر بالكوفه، فبايع الناس لهما، وزادهم في العطاء مائة مائه، وكتب بيعتهما إلى الآفاق، فجاءته البيعة، فبينا هو كذلك، إذ أتاه الخبر بأن مروان بْن محمد قد سار في أهل الجزيرة إلى إبراهيم بْن الوليد، وأنه امتنع من البيعة له، فاحتبس عبد الله بْن عمر عبد الله بْن معاوية عنده، وزاده فيما كان يجري عليه، واعده لمروان ابن محمد إن هو ظفر بإبراهيم بْن الوليد ليبايع له، ويقاتل به مروان، فماج الناس في أمرهم، وقرب مروان من الشام، وخرج اليه ابراهيم فقاتله مروان، فهزمه وظفر بعسكره وخرج هاربا، وثبت عبد العزيز بْن الحجاج يقاتل حتى قتل وأقبل إسماعيل بْن عبد الله أخو خالد بْن عبد الله القسري هاربا حتى أتى الكوفة، وكان في عسكر إبراهيم، فافتعل كتابا على لسان إبراهيم بولاية الكوفة، فأرسل إلى اليمانية، فأخبرهم سرا أن إبراهيم بْن الوليد ولاه العراق، فقبلوا ذلك منه، وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فباكره صلاة الغداة، فقاتله من ساعته، ومعه عمر بن الغضبان، فلما رأى إسماعيل ذلك- ولا عهد معه وصاحبه الذي افتعل العهد على لسانه هارب منهزم- خاف أن يظهر أمره فيفتضح ويقتل، فقال لأصحابه: إني كاره لسفك الدماء، ولم أحس أن يبلغ الأمر ما بلغ، فكفوا أيديكم فتفرق القوم عنه، فقال لأهل بيته: إن إبراهيم قد هرب، ودخل مروان دمشق، فحكى ذلك عن أهل بيته، فانتشر الخبر، واشرأبت الفتنة، ووقعت العصبية بين الناس.
                    وكان سبب ذلك أن عبد الله بْن عمر كان أعطى مضر وربيعة عطايا عظاما، ولم يعط جعفر بْن نافع بْن القعقاع بْن شور الذهلي وعثمان بن الخيبرى أخا بنى تيم اللات بْن ثعلبة شيئا، ولم يسوهما بنظرائهما، فدخلا عليه، فكلماه كلاما غليظا، فغضب ابن عمر، وأمر بهما، فقام إليهما عبد الملك الطائي- وكان على شرطه يقوم على رأسه- فدفعهما، فدفعاه وخرجا مغضبين.
                    وكان ثمامة بْن حوشب بْن رويم الشيباني حاضرا، فخرج مغاضبا لصاحبيه، فخرجوا جميعا إلى الكوفة، وكان هذا وابن عمر بالحيرة، فلما دخلوا الكوفة نادوا: يا آل ربيعة، فثارت إليهم ربيعة، فاجتمعوا وتنمروا، وبلغ الخبر ابن عمر، فأرسل إليهم أخاه عاصما، فأتاهم وهم بدير هند قد اجتمعوا وحشدوا، فألقى نفسه بينهم، وقال: هذه يدي لكم فاحكموا، فاستحيوا وعظموا عاصما، وتشكروا له، وأقبل على صاحبيهم فسكتا وكفا، فلما أمسى ابن عمر أرسل من تحت ليلته إلى عمر بْن الغضبان بمائة ألف، فقسمها في قومه بني همام بْن مرة بْن ذهل بْن شيبان، وأرسل إلى ثمامة بْن حوشب بْن رويم بمائة ألف، فقسمها في قومه، وأرسل إلى جعفر بْن نافع بْن القعقاع بعشرة آلاف، وإلى عثمان بْن الخيبري بعشرة آلاف.
                    [لقد شكك الطبري في هذه التفاصيل بقوله في بداية الخبر: وأما أبو عبيدة فإنه زعم]
                    قَالَ أبو جعفر: فلما رأت الشيعة ضعفه اغتمزوا فيه، واجترءوا عليه وطمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر وكان الذى ولى ذلك هلال ابن أبي الورد مولى بني عجل، فثاروا في غوغاء الناس حتى أتوا المسجد، فاجتمعوا فيه وهلال القائم بالأمر، فبايعه ناس من الشيعة لعبد الله بْن معاوية، ثم مضوا من فورهم إلى عبد الله، فأخرجوه من دار الوليد بْن سعيد، حتى أدخلوه القصر، وحالوا بين عاصم بْن عمر وبين القصر، فلحق بأخيه عبد الله بالحيرة، وجاء ابن معاوية الكوفيون فبايعوه، فيهم عمر بْن الغضبان بْن القبعثري ومنصور بْن جمهور وإسماعيل بْن عبد الله القسري ومن كان من أهل الشام بالكوفة له أهل وأصل، فأقام بالكوفة أياما يبايعه الناس، وأتته البيعة من المدائن وفم النيل، واجتمع إليه الناس، فخرج يريد عبد الله بْن عمر بالحيرة، وبرز له عبد الله بْن عمر فيمن كان معه من أهل الشام، فخرج رجل من اهل الشام يسأله البراز، فبرز له القاسم بْن عبد الغفار، فقال له الشامي: لقد دعوت حين دعوت، وما أظن أن يخرج إلي رجل من بكر بْن وائل، والله ما أريد قتالك، ولكن أحببت أن ألقي إليك ما انتهى إلينا، اخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن، لا منصور ولا إسماعيل ولا غيرهما إلا وقد كاتب عبد الله بْن عمر، وجاءته كتب مضر، وما أرى لكم أيها الحي من ربيعه كتابا ولا رسولا، وليسوا مواقيعكم يومكم حتى تصبحوا فيواقعوكم، فإن استطعتم ألا تكون بكم الحزة فافعلوا، فإني رجل من قيس، وسنكون غدا بإزائكم، فإن أردتم الكتاب إلى صاحبنا أبلغته، وإن أردتم الوفاء لمن خرجتم معه فقد أبلغتكم حال الناس فدعا القاسم رجالا من قومه، فأعلمهم ما قَالَ له الرجل، وان ميمنه ابن عمر من ربيعة، ومضر ستقف بإزاء ميسرته وفيها ربيعة، فقال عبد الله بْن معاوية: إن هذه علامة ستظهر لنا إن أصبحنا، فإن أحب عمر بْن الغضبان فليلقني الليلة، وإن منعه شغل ما هو فيه فهو عذر، وقل له: إني لأظن القيسي قد كذب، فأتى الرسول عمر بذلك، فرده إليه بكتاب يعلمه ان رسولي هذا بمنزلتي عندي، ويأمره أن يتوثق من منصور وإسماعيل، وإنما أراد أن يعلمهما بذلك قَالَ: فأبى ابن معاوية أن يفعل، فأصبح الناس غادين على القتال، وقد جعل اليمن في الميمنة ومضر وربيعة في الميسرة، ونادى مناد: من أتى برأس فله كذا وكذا، أو بأسير فله كذا وكذا، والمال عند عمر بن الغضبان.
                    والتقى الناس واقتتلوا، وحمل عمر بْن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا، ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما الى الحيرة، ورجمت غوغاء الناس أهل اليمن من أهل الكوفة، فقتلوا فيهم أكثر من ثلاثين رجلا، وقتل الهاشمي العباس بْن عبد الله زوج ابنة الملاة.
                    ذكر عمر أن محمد بْن يحيى حدثه عن أبيه، عن عاتكة بنت الملاة،
                    تزوجت أزواجا، منهم العباس بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن الحارث بْن نوفل، قتل مع عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز في العصبية بالعراق وقتل مبكر ابن الحواري بْن زياد في غيرهم، ثم انكشفوا وفيهم عبد الله بْن معاوية حتى دخل نصر الكوفة، وبقيت الميسرة من مضر وربيعة ومن بإزائهم من أهل الشام، وحمل أهل القلب من اهل الشام على الزيدية فانكشفوا، حتى دخلوا الكوفة، وبقيت الميسرة وهم نحو خمسمائة رجل، واقبل عامر بن ضباره ونباته ابن حنظلة بْن قبيصة وعتبة بْن عبد الرحمن الثعلبي والنضر بْن سعيد بْن عمرو الحرشي، حتى وقفوا على ربيعة، فقالوا لعمر بْن الغضبان: أما نحن يا معشر ربيعة، فما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بأهل اليمن، ونتخوف عليكم مثلها، فانصرفوا فقال عمر: ما كنت ببارح أبدا حتى أموت، فقالوا: إن هذا ليس بمغن عنك ولا عن أصحابك شيئا، فأخذوا بعنان دابته فأدخلوه الكوفة.
                    قَالَ عمر: حدثني علي بْن محمد، عن سليمان بْن عبد الله النوفلي، قَالَ:
                    حدثني أبي، قَالَ: حدثنا خراش بْن المغيرة بْن عطية مولى لبني ليث، عن أبيه، قَالَ: كنت كاتب عبد الله بن عمر، فو الله إني لعنده يوما وهو بالحيرة إذ أتاه آت فقال: هذا عبد الله بْن معاوية قد أقبل في الخلق، فأطرق مليا وجاءه رئيس خبازيه، فقام بين يديه كأنه يؤذنه بادراك طعامه، فأومأ إليه عبد الله: أن هاته فجاء بالطعام، وقد شخصت قلوبنا، ونحن نتوقع أن يهجم علينا ابن معاوية ونحن معه، قَالَ: فجعلت أتفقده: هل أراه تغير في شيء من أمره من مطعم أو مشرب أو منظر أو أمر أو نهي؟ فلا والله، ما أنكرت من هيئته قليلا ولا كثيرا، وكان طعامه إذا أتي به وضع بين كل اثنين منا صحفة قَالَ: فوضعت بيني وبين فلان صحفة، وبين فلان وفلان صحفة أخرى، حتى عد من كان على خوانه، فلما فرغ من غدائه ووضوئه، أمر بالمال فأخرج، حتى اخرجت آنيه من ذهب وفضه وكسا، ففرق أكثر ذلك في قواده، ثم دعا مولى له أو مملوكا كان يتبرك به ويتفاءل باسمه- إما يدعى ميمونا أو فتحا أو اسما من الاسماء المتبرك بها- فقال له: خذ لواءك، وامض إلى تل كذا وكذا فاركزه عليه، وادع أصحابك، وأقم حتى آتيك ففعل وخرج عبد الله وخرجنا معه، حتى صار إلى التل فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية، فأمر عبد الله مناديا، فنادى: من جاء برأس فله خمسمائة، فو الله ما كان بأسرع من أن أتي برأس، فوضع بين يديه، فامر له بخمسمائة، فدفعت إلى الذي جاء به، فلما رأى اصحابه وفاءه لصاحب الراس، ثاروا بالقوم، فو الله ما كان إلا هنيهة حتى نظرت إلى نحو من خمسمائة رأس قد ألقيت بين يديه، وانكشف ابن معاوية ومن معه منهزمين، فكان أول من دخل الكوفة من أصحابه منهزما أبو البلاد مولى بني عبس وابنه سليمان بين يديه- وكان أبو البلاد متشيعا- فجعل أهل الكوفة ينادونهم كل يوم، وكأنهم يعيرونهم بانهزامه، فجعل يصيح بابنه سليمان: امض ودع النواضح
                    [النواضح: جمع ناضح؛ وهو البعير أو الثور أو الحمار يستقي عليه. القاموس المحيط ص 313]
                    ينفقن قَالَ: ومر عبد الله بْن معاوية فطوى الكوفة، ولم يعرج بها حتى أتى الجبل.
                    [لم نجد لسليمان النوفلي ولا لأبيه ترجمة، ويبدو أن هذا الإسناد ملفق فالمدائني الذي ولد سنة 130هـ أو بعده بقليل لا يحتاج إلى هذه السلسلة الطويلة ليصل إلى شاهد عيان وفي المتن نكارة ومبالغة واضحة]

                    *ذكر الخبر عن أمره وأمر نصر بعد قدومه عليه:
                    ذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أن الحارث سار إلى مرو، مخرجه من بلاد الترك، فقدمها يوم الأحد لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة، فتلقاه سلم بْن أحوز، والناس بكشماهن، فقال محمد بن الفضل ابن عطية العبسي: الحمد لله الذي أقر أعيننا بقدومك، وردك الى فئه الإسلام وإلى الجماعة قَالَ: يا بني، أما علمت أن الكثير إذا كانوا على معصية الله كانوا قليلا، وأن القليل إذا كانوا على طاعة الله كانوا كثيرا! وما قرت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرة عيني إلا أن يطاع الله فلما دخل مرو قَالَ: اللهم إني لم أنو قط في شيء مما بيني وبينهم إلا الوفاء، فإن أرادوا الغدر فانصرني عليهم وتلقاه نصر فانزله قصر بخاراخذاه، وأجرى عليه نزلا خمسين درهما في كل يوم، وكان يقتصر على لون واحد، وأطلق نصر من كان عنده من أهله، أطلق محمد بْن الحارث والألوف بنت الحارث وأم بكر، فلما أتاه ابنه محمد، قَالَ: اللهم اجعله بارا تقيا.
                    قَالَ: وقدم الوضاح بْن حبيب بْن بديل على نصر بْن سيار من عند عبد الله بْن عمر، وقد أصابه برد شديد، فكساه أثوابا، وأمر له بقرى وجاريتين، ثم أتى الحارث بن سريج، وعنده جماعة من أصحابه قيام على رأسه، فقال له: أنا بالعراق، نشهر عظم عمودك وثقله، وإني أحب أن أراه، فقال: ما هو إلا كبعض ما ترى مع هؤلاء- وأشار إلى أصحابه- ولكني إذا ضربت به شهرت ضربتني، قَالَ: وكان في عموده بالشامي ثمانية عشر رطلا.
                    قَالَ: ودخل الحارث بْن سريج على نصر، وعليه الجوشن
                    [في اللسان(5/88): "الجوشن من السلاح": زرد يلبس على الصدر]
                    الذي أصابه من خاقان، وكان خيره بين مائة ألف دينار دنبكانية وبين الجوشن، فاختار الجوشن فنظرت إليه المرزبانة بنت قديد، امرأة نصر بْن سيار، فأرسلت إليه بجرز لها سمور،
                    [الجرز، بالكسر: لباس النساء من الوبر والجلد. اللسان (5/318). وفي اللسان (4/380)السمور: دابة معروفة تسوى من جلودها فراء غالية الأثمان]
                    مع جارية لها فقالت، أقرئي ابن عمي السلام، وقولي له: اليوم بارد فاستدفئ بهذا الجرز السمور، فالحمد لله الذي أقدمك صالحا فقال للجارية: أقرئي بنت عمي السلام، وقولي لها: أعارية أم هدية؟ فقالت: بل هدية، فباعه بأربعة آلاف دينار وقسمها في أصحابه. وبعث إليه نصر بفرش كثيرة وفرس، فباع ذلك كله، وقسمه في أصحابه بالسوية وكان يجلس على برذعة، وتثنى له وسادة غليظة وعرض نصر على الحارث أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل، وارسل الى نصر: إني لست من هذه الدنيا ولا من هذه اللذات، ولا من تزويج عقائل العرب في شيء، وإنما أسأل كتاب الله عز وجل والعمل بالسنة واستعمال أهل الخير والفضل، فإن فعلت ساعدتك على عدوك.
                    وأرسل الحارث إلى الكرماني: إن أعطاني نصر العمل بكتاب الله وما سألته من استعمال أهل الخير والفضل عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل استعنت بالله عليه، وأعنتك إن ضمنت لي ما أريد من القيام بالعدل والسنة.
                    وكان كلما دخل عليه بنو تميم دعاهم إلى نفسه، فبايعه محمد بْن حمران ومحمد ابن حرب بْن جرفاس المنقريان والخليل بْن غزوان العدوى، وعبد الله ابن مجاعة وهبيرة بْن شراحيل السعديان، وعبد العزيز بن عبد ربه الليثى، وبشر ابن جرموز الضبي، ونهار بْن عبد الله بْن الحتات المجاشعي، وعبد الله النباتي.
                    وقال الحارث لنصر: خرجت من هذه المدينة منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور، وأنت تريدني عليه! فانضم الى الحارث ثلاثة آلاف.
                    ***
                    ذكر الخبر عن أمرهم وأمره وعن سبب ذلك:

                    حدثني أحمد، قَالَ حدثني عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: لما انصرف مروان إلى منزله من حران بعد فراغه من أهل الشام لم يلبث إلا ثلاثة أشهر، حتى خالفه أهل الشام وانتقضوا عليه، وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بْن نعيم، وراسلهم
                    وكاتبهم، وبلغ مروان خبرهم، فسار إليهم بنفسه، وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من كلب، فشخص إليهم الأصبغ بْن ذؤالة الكلبي ومعه بنون له ثلاثة رجال: حمزة وذؤالة وفرافصة ومعاوية ال***كي- وكان فارس أهل الشام- وعصمة بْن المقشعر وهشام بْن مصاد وطفيل بن حارثة ونحو ألف من فرسانهم، فدخلوا مدينة حمص ليلة الفطر من سنة سبع وعشرين ومائة.
                    قَالَ: ومروان بحماة ليس بينه وبين مدينة حمص إلا ثلاثون ميلا، فأتاه خبرهم صبيحة الفطر، فجد في السير، ومعه يومئذ إبراهيم بْن الوليد المخلوع وسليمان بْن هشام، وقد كانا راسلاه وطلبا إليه الأمان، فصارا معه في عسكره يكرمهما ويدنيهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه، ويسيران معه في موكبه.
                    فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين، والكلبية فيها قد ردموا أبوابها من داخل، وهو على عدة معه روابطه، فأحدقت خيله بالمدينة، ووقف حذاء باب من أبوابها، وأشرف على جماعة من الحائط، فناداهم مناديه:
                    ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا: فإنا على طاعتك لم ننكث، فقال لهم: فإن كنتم على ما تذكرون فافتحوا، ففتحوا الباب، فاقتحم منه عمرو بن الوضاح في الوضاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف فقاتلوهم في داخل المدينة، فلما كثرتهم خيل مروان، انتهوا إلى باب من أبواب المدينة يقال له باب تدمر، فخرجوا منه والروابط عليه فقاتلوهم، فقتل عامتهم، وافلت الأصبغ بن ذؤاله وال***كى واسر ابنا الأصبغ: ذؤالة وفرافصة في نيف وثلاثين رجلا منهم، فاتى بهم مروان فقتلهم وهو واقف، وأمر بجمع قتلاهم وهم خمسمائة او ستمائه، فصلبوا حول المدينة، وهدم من حائط مدينتها نحوا من غلوة وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق، فحاصروا أميرهم زامل بْن عمرو، وولوا عليهم يزيد بْن خالد القسري وثبت مع زامل المدينة وأهلها وقائد في نحو أربعمائة، يقال له أبو هبار القرشي فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد بْن الكوثر بْن زفر بْن الحارث- واسمه مجزأة- وعمرو بْن الوضاح في عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج أبو هبار وخيله من المدينة، فهزموهم واستباحوا عسكرهم وحرقوا المزة من قرى اليمانية، ولجأ يزيد بْن خالد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من أهل المزة، فدل عليهما زامل، فأرسل إليهما، فقتلا قبل أن يوصل بهما إليه، فبعث برأسيهما الى مروان بحمص، وخرج ثابت ابن نعيم من أهل فلسطين، حتى أتى مدينة طبرية، فحاصر أهلها، وعليها الوليد بْن معاوية بْن مروان، ابن أخي عبد الملك بْن مروان، فقاتلوه أياما، فكتب مروان إلى أبي الورد ان يشخص إليهم فيمدهم، قَالَ: فرحل من دمشق بعد أيام، فلما بلغهم دنوه خرجوا من المدينة على ثابت ومن معه، فاستباحوا عسكرهم، فانصرف إلى فلسطين منهزما، فجمع قومه وجنده، ومضى إليه أبو الورد فهزمه ثانية، وتفرق من معه، وأسر ثلاثة رجال من ولده، وهم نعيم وبكر وعمران، فبعث بهم إلى مروان فقدم بهم عليه، - وهو بدير أيوب- جرحى، فأمر بمداواة جراحاتهم، وتغيب ثابت بْن نعيم، فولى الرماحس بْن عبد العزيز الكناني فلسطين، وأفلت مع ثابت من ولده رفاعة ابن ثابت- وكان أخبثهم- فلحق بمنصور بْن جمهور، فأكرمه وولاه وخلفه مع أخ له يقال له منظور بْن جمهور، فوثب عليه فقتله، فبلغ منصورا وهو متوجه إلى الملتان، وكان أخوه بالمنصورة، فرجع إليه فأخذه، فبنى له أسطوانة من آجر مجوفة، وأدخله فيها، ثم سمره إليها، وبنى عليه.
                    قَالَ: وكتب مروان إلى الرماحس في طلب ثابت والتلطف له، فدل عليه رجل من قومه فأخذ ومعه نفر، فأتي به مروان موثقا بعد شهرين، فأمر به وببنيه الذين كانوا في يديه، فقطعت أيديهم وأرجلهم، ثم حملوا إلى دمشق، فرأيتهم مقطعين، فأقيموا على باب مسجدها، لأنه كان يبلغه أنهم يرجفون بثابت، ويقولون: إنه أتى مصر، فغلب عليها. وقتل عامل مروان بها وأقبل مروان من دير أيوب حتى بايع لابنيه عبيد الله وعبد الله، وزوجهما ابنتي هشام بْن عبد الملك، أم هشام وعائشة، وجمع لذلك اهل بيته جميعا، من ولد عبد الملك محمد وسعيد وبكار وولد الوليد وسليمان ويزيد وهشام وغيرهم من قريش ورءوس العرب، وقطع على أهل الشام بعثا وقواهم، وولى على كل جند منهم قائدا منهم، وأمرهم باللحاق بيزيد بْن عمر بْن هبيرة وكان قبل مسيره إلى الشام وجهه في عشرين ألفا من أهل قنسرين والجزيرة، وأمره أن ينزل دورين إلى أن يقدم، وصيره
                    مقدمة له، وانصرف من دير أيوب إلى دمشق، وقد استقامت له الشام كلها ما خلا تدمر، وأمر بثابت بْن نعيم وبنيه والنفر الذين قطعهم فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق، قَالَ: فرأيتهم حين قتلوا وصلبوا قَالَ: واستبقى رجلا منهم يقال له عمرو بْن الحارث الكلبي، وكان- فيما زعموا- عنده علم من أموال كان ثابت وضعها عند قوم، ومضى بمن معه، فنزل القسطل من أرض حمص مما يلي تدمر، بينهما مسيرة ثلاثة أيام، وبلغه أنهم قد عوروا
                    [عور البئر: أفسدها. القاموس المحيط 612. وفي اللسان (4/617): وفي حديث علي: أمره أن يعور آبار بدر، وان يدفنها ويطمها]
                    ما بينه وبينها من الآبار، وطموها بالصخر، فهيأ المزاد والقرب والأعلاف والإبل، فحمل ذلك له ولمن معه، فكلمه الابرش بن الوليد وسليمان ابن هشام وغيرهما، وسألوه أن يعذر إليهم، ويحتج عليهم فأجابهم إلى ذلك فوجه الأبرش إليهم أخاه عمرو بْن الوليد، وكتب إليهم يحذرهم ويعلمهم أنه يتخوف أن يكون هلاكه وهلاك قومه، فطردوه ولم يجيبوه، فسأله الأبرش أن يأذن له في التوجه إليهم، ويؤجله أياما، ففعل، فأتاهم فكلمهم وخوفهم وأعلمهم أنهم حمقى، وأنه لا طاقة لهم به وبمن معه، فأجابه عامتهم، وهرب من لم يثق به منهم إلى برية كلب وباديتهم، وهم ال***كي وعصمة بْن المقشعر وطفيل بْن حارثة ومعاوية بْن أبي سفيان بْن يزيد بْن معاوية، وكان صهر الأبرش على ابنته وكتب الأبرش إلى مروان يعلمه ذلك، فكتب إليه مروان: أن اهدم حائط مدينتهم، وانصرف إلي بمن بايعك منهم.
                    فانصرف إليه ومعه من رءوسهم الأصبغ بْن ذؤالة وابنه حمزة وجماعة من رءوسهم، وانصرف مروان بهم على طريق البرية على سورية ودير اللثق، حتى قدم الرصافة ومعه سليمان بْن هشام وعمه سعيد بْن عبد الملك وإخوته جميعا وإبراهيم المخلوع وجماعة من ولد الوليد وسليمان ويزيد، فأقاموا بها يوما، ثم شخص إلى الرقة فاستأذنه سليمان، وسأله أن يأذن له أن يقيم أياما ليقوي من معه من مواليه، ويجم ظهره ثم يتبعه، فأذن له ومضى مروان، فنزل عند واسط على شاطئ الفرات في عسكر كان ينزله، فأقام به ثلاثة أيام، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها، ليقدمه الى العراق لمحاربه الضحاك ابن قيس الشيبانى الحروري، فاقبل من نحو عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوادهم حتى حلوا بالرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته.
                    ويقال: إن عبد الله بْن عمر لما ولي العراق ولي الكوفة عبيد الله بْن العباس الكندي وعلى شرطه عمر بْن الغضبان بْن القبعثري، فلم يزالا على ذلك حتى مات يزيد بْن الوليد، وقام إبراهيم بْن الوليد، فأقر ابن عمر على العراق، فولى ابن عمر أخاه عاصما على الكوفة، وأقر ابن الغضبان على شرطه، فلم يزالوا على ذلك حتى خرج عبد الله بْن معاوية فاتهم عمر بْن الغضبان، فلما انقضى أمر عبد الله بْن معاوية ولى عبد الله بْن عمر عمر بْن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بن الخطاب الكوفة، وعلى شرطه الحكم بْن عتيبة الأسدي من أهل الشام، ثم عزل عمر بن عبد الحميد عن الكوفه، ثم عزل عمر بن الغضبان عن شرطه وولى الوليد بْن حسان الغساني، ثم ولى إسماعيل بْن عبد الله القسري وعلى شرطه أبان بْن الوليد، ثم عزل إسماعيل وولى عبد الصمد بْن أبان بْن النعمان بْن بشير الأنصاري، ثم عزل فولى عاصم بْن عمر، فقدم عليه الضحاك بْن قيس الشيباني.
                    ويقال: إنما قدم الضحاك وإسماعيل بْن عبد الله القسري في القصر وعبد الله بْن عمر بالحيرة وابن الحرشي بدير هند، فغلب الضحاك على الكوفة، وولى ملحان بْن معروف الشيباني عليها، وعلى شرطه الصفر من بني حنظلة- حروري- فخرج ابن الحرشي يريد الشام، فعارضه ملحان، فقتله ابن الحرشي فولى الضحاك على الكوفه حسان فولى حسان ابنه الحارث على شرطه.
                    وقال عبد الله بْن عمر يرثي أخاه عاصما لما قتله الخوارج:
                    رمى غرضي ريب الزمان فلم يدع ... غداة رمى للقوس في الكف منزعا
                    رمى غرضي الأقصى فأقصد عاصما ... أخا كان لي حرزا ومأوى ومفزعا
                    فإن تك أحزان وفائض عبرة ... أذابت عبيطا من دم الجوف منقعا
                    تجرعتها في عاصم واحتسيتها ... فأعظم منها ما احتسى وتجرعا
                    فليت المنايا كن خلفن عاصما ... فعشنا جميعا أو ذهبن بنا معا
                    وذكر أن عبد الله بْن عمر يقول: بلغني أن عين بْن عين بْن عين بْن عين يقتل ميم بْن ميم بْن ميم بْن ميم، وكان يأمل أن يقتله، فقتله عبد الله بن على ابن عبد الله بْن عباس بْن عبد المطلب، فذكر أن أصحاب ابن عمر لما انهزموا فلحقوا بواسط، قَالَ لابن عمر أصحابه: علام تقيم وقد هرب الناس! قَالَ: أتلوم وأنظر، فأقام يوما أو يومين لا يرى إلا هاربا، وقد امتلأت قلوبهم رعبا من الخوارج، فأمر عند ذلك بالرحيل إلى واسط، وجمع خالد بْن الغزيل أصحابه، فلحق بمروان وهو مقيم بالجزيرة، ونظر عبيد الله بْن العباس الكندي إلى ما لقي الناس، فلم يأمن على نفسه، فجنح إلى الضحاك فبايعه، وكان معه في عسكره، فقال أبو عطاء السندي يعيره باتباعه الضحاك، وقد قتل أخاه:
                    قل لعبيد الله لو كان جعفر ... هو الحي لم يجنح وأنت قتيل
                    ولم يتبع المراق والثأر فيهم ... وفي كفه عضب الذباب صقيل
                    إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا ... أباك، فماذا بعد ذاك تقول!
                    - فلما بلغ عبيد الله بْن العباس هذا البيت من قول ابى عطاء، قَالَ أقول:
                    أعضك الله ببظر أمك-
                    فلا وصلتك الرحم من ذي قرابة ... وطالب وتر، والذليل ذليل
                    تركت أخا شيبان يسلب بزه ... ونجاك خوار العنان مطول
                    قَالَ: فنزل ابن عمر منزل الحجاج بْن يوسف بواسط- فيما قيل- في اليمانية ونزل النضر وأخوه سليمان ابنا سعيد وحنظلة بْن نباتة وابناه محمد ونباتة في المضرية ذات اليمين إذا صعدت من البصرة، وخلوا الكوفة والحيرة للضحاك والشراة، وصارت في أيديهم، وعادت الحرب بين عبد الله بن عمر والنضر ابن سعيد الحرشي إلى ما كان عليه قبل قدوم الضحاك يطلب النضر أن يسلم إليه عبد الله بْن عمر ولاية العراق بكتاب مروان، وياتى عبد الله بْن عمر واليمانية مع ابن عمر والنزارية مع النضر، وذلك أن جند أهل اليمن كانوا مع يزيد الناقص تعصبا على الوليد حيث أسلم خالد بْن عبد الله القسري إلى يوسف بْن عمر حتى قتله، وكانت القيسية مع مروان، لأنه طلب بدم الوليد- وأخوال الوليد من قيس، ثم من ثقيف، أمه زينب بنت محمد بْن يوسف ابنة أخي الحجاج- فعادت الحرب بين ابن عمر والنضر، ودخل الضحاك الكوفة فأقام بها، واستعمل عليها ملحان الشيباني في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة، فأقبل منقضا في الشراة إلى واسط، متبعا لابن عمر والنضر، فنزل باب المضمار.
                    فلما رأى ذلك ابن عمر والنضر نكلا عن الحرب فيما بينهما، وصارت كلمتهما عليه واحدة، كما كانت بالكوفة، فجعل النضر وقواده يعبرون الجسر، فيقاتلون الضحاك وأصحابه مع ابن عمر ثم يعودون إلى مواضعهم، ولا يقيمون مع ابن عمر، فلم يزالوا على ذلك: شعبان وشهر رمضان وشوال، فاقتتلوا يوما من تلك الايام، فاشتد قتالهم، فشد منصور بْن جمهور على قائد
                    من قواد الضحاك، كان عظيم القدر في الشراة، يقال له عكرمة بْن شيبان، فضربه على باب القورج، فقطعه باثنين فقتله وبعث الضحاك قائدا من قواده يدعى شوالا من بني شيبان إلى باب الزاب، فقال: اضرمه عليهم نارا، فقد طال الحصار علينا، فانطلق شوال ومعه الخيبري، أحد بني شيبان في خيلهم، فلقيهم عبد الملك بْن علقمة، فقال لهم: أين تريدون؟ فقال له شوال: نريد باب الزاب، أمرني أمير المؤمنين بكذا وكذا، فقال: أنا معك، فرجع معه وهو حاسر، لا درع عليه، وكان من قواد الضحاك أيضا وكان أشد الناس، فانتهوا إلى الباب فأضرموه، فأخرج لهم عبد الله بْن عمر منصور بن جمهور في ستمائه فارس من كلب، فقاتلوهم أشد القتال، وجعل عبد الملك بْن علقمة يشد عليهم وهو حاسر، فقتل منهم عدة، فنظر إليه منصور بْن جمهور، فغاظه صنيعه، فشد عليه فضربه على حبل عاتقه فقطعه حتى بلغ حرقفته، فخر ميتا، وأقبلت امرأة من الخوارج شادة، حتى أخذت بلجام منصور بْن جمهور، فقالت: يا فاسق، أجب أمير المؤمنين، فضرب يدها- ويقال: ضرب عنان دابته فقطعه في يدها- ونجا.
                    فدخل المدينة الخيبري يريد منصورا، فاعترض عليه ابن عم له من كلب، فضربه الخيبرى فقتله فقال حبيب بن خدره مولى بنى هلال- وكان يزعم أنه من أبناء ملوك فارس- يرثي عبد الملك بْن علقمة:
                    وقائلة ودمع العين يجرى ... على روح ابن علقمة السلام
                    أأدركك الحمام وأنت سار ... وكل فتى لمصرعه حمام
                    فلا رعش البدين ولا هدان ... ولا وكل اللقاء ولا كهام
                    وما قتل على شار بعار ... ولكن يقتلون وهم كرام
                    طغام الناس ليس لهم سبيل ... شجاني يا بن علقمة الطغام
                    ثم إن منصورا قَالَ لابن عمر: ما رأيت في الناس مثل هؤلاء قط يعني الشراة- فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرضا، واجعلهم بينك وبين مروان، فإنك إن أعطيتهم الرضا خلوا عنا ومضوا الى مروان،
                    فكان حدهم وبأسهم عليه، وأقمت أنت مستريحا بموضعك هذا، فإن ظفروا بها كان ما أردت وكنت عندهم آمنا، وإن ظفر بهم واردت خلافه وقتاله قاتلته جاما مستريحا، مع أن أمره وأمرهم سيطول، ويوسعونه شرا.
                    فقال ابن عمر: لا تعجل حتى نتلوم وننظر، فقال: أي شيء ننتظر!
                    فما تستطيع أن تطلع معهم ولا تستقر، وإن خرجنا لم نقم لهم، فما انتظارنا بهم ومروان في راحة، وقد كفيناه حدهم وشغلناهم عنه! أما أنا فخارج لاحق بهم فخرج فوقف حيال صفهم وناداهم: إني جانح أريد أن أسلم وأسمع كلام الله- قَالَ: وهي محنتهم- فلحق بهم فبايعهم، وقال: قد أسلمت، فدعوا له بغداء فتغدى، ثم قَالَ لهم: من الفارس الذي أخذ بعناني يوم الزاب؟ يعني يوم ابن علقمة- فنادوا يا أم العنبر، فخرجت إليهم، فإذا أجمل الناس، فقالت له: أنت منصور؟ قَالَ: نعم، قالت:
                    قبح الله سيفك، اين ما تذكر منه! فو الله ما صنع شيئا، ولا ترك- تعني ألا يكون قتلها حين أخذت بعنانه فدخلت الجنة- وكان منصور لا يعلم يومئذ أنها امرأة، فقال: يا أمير المؤمنين، زوجنيها، قَالَ: إن لها زوجا- وكانت تحت عبيدة بْن سوار التغلبي- قَالَ: ثم إن عبد الله بْن عمر خرج إليهم في آخر شوال فبايعه.

                    خبر خروج سليمان بن هشام على مروان بن محمد
                    وفي هذه السنة- أعني سنة سبع وعشرين ومائه- خلع سليمان بن هشام ابن عبد الملك بْن مروان مروان بْن محمد ونصب الحرب.
                    *ذكر الخبر عن سبب ذلك وما جرى بينهما:
                    حدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثني عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ:
                    حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: لما شخص مروان من الرصافة إلى الرقة لتوجيه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضحاك بْن قيس الشيباني استأذنه سليمان بْن هشام في مقام أيام، لإجمام ظهره وإصلاح امره، فاذن له ومضى مروان، فأقبل نحو من عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوادهم، حتى جاءوا الرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته، وقالوا: أنت أرضى منه عند أهل الشام وأولى بالخلافة، فاستزله الشيطان، فأجابهم، وخرج اليهم باخوته وولده ومواليه، فعسكر بهم وسار بجمعهم إلى قنسرين، فكاتب أهل الشام فانقضوا إليه من كل وجه وجند، وأقبل مروان بعد أن شارف قرقيسيا منصرفا إليه، وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالثبوت في عسكره من دورين حتى نزل معسكره بواسط، واجتمع من كان بالهني من موالي سليمان وولد هشام، فدخلوا حصن الكامل بذراريهم فتحصنوا فيه، وأغلقوا الأبواب دونه، فأرسل إليهم: ماذا صنعتم؟ خلعتم طاعتي ونقضتم بيعتي بعد ما أعطيتموني من العهود والمواثيق! فردوا علي رسله: إنا مع سليمان على من خالفه فرد إليهم: إني أحذركم وأنذركم أن تعرضوا لأحد ممن تبعني من جندي أو يناله منكم أذى، فتحلوا بأنفسكم، ولا أمان لكم عندي فأرسلوا إليه: إنا سنكف.
                    ومضى مروان، فجعلوا يخرجون من حصنهم، فيغيرون على من اتبعه من أخريات الناس وشذان الجند، فيسلبونهم خيولهم وسلاحهم وبلغه ذلك، فتحرق عليهم غيظا واجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفا من أهل الشام والذكوانية وغيرهم، وعسكر في قرية لبني زفر يقال لها خساف من قنسرين من أرضها فلما دنا منه مروان قدم ال***كي في نحو سبعة آلاف، ووجه مروان عيسى بْن مسلم في نحو من عدتهم، فالتقوا فيما بين العسكرين، فاقتتلوا قتالا شديدا، والتقى ال***كي وعيسى، وكل واحد منهما فارس بطل، فاطعنا حتى تقصفت رماحهما، ثم صارا إلى السيوف، فضرب ال***كي مقدم فرس صاحبه، فسقط لجامه في صدره، وجال به فرسه، فاعترضه ال***كي، فضربه بالعمود فصرعه، ثم نزل إليه فأسره، وبارز فارسا من فرسان أنطاكية، يقال له سلساق قائد الصقالبة فأسره، وانهزمت مقدمه مروان وبلغه الخبر وهو في مسيره، فمضى وطوى على تعبئة، ولم ينزل حتى انتهى الى سليمان، وقد تعبا له، وتهيأ لقتاله، فلم يناظره حتى واقعه، فانهزم سليمان ومن معه، واتبعتهم خيوله تقتلهم وتأسرهم، وانتهوا إلى عسكرهم فاستباحوه، ووقف مروان موقفا، وأمر ابنيه فوقفا موقفين، ووقف كوثر صاحب شرطته في موضع، ثم أمرهم ألا يأتوا بأسير إلا قتلوه إلا عبدا مملوكا، فأحصى من قتلاهم يومئذ نيف على ثلاثين ألفا.
                    قَالَ: وقتل إبراهيم بْن سليمان أكبر ولده، وأتي بخال لهشام بْن عبد الملك يقال له خالد بْن هشام المخزومي- وكان بادنا كثير اللحم- فأدني إليه وهو يلهث، فقال له: يا فاسق، أما كان لك في خمر المدينة وقيانها ما يكفك عن الخروج مع الخراء تقاتلني! قَالَ: يا أمير المؤمنين، أكرهني، فأنشدك الله والرحم! قَالَ: وتكذب أيضا! كيف أكرهك وقد خرجت بالقيان والزقاق والبرابط معك في عسكره! فقتله قَالَ: وادعى كثير من الأسراء من الجند أنهم رقيق، فكف عن قتلهم، وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع ما بيع مما أصيب في عسكرهم.
                    [في المتن نكارة واضحة. فخال هشام معروف، ولا داعي إلى هذه العبارة (وأتي بخال ... ) وهو رجل معروف بالصلاح وانشغاله بالجهاد على الثغور؛ ومن مزايا المتون الملفقة كثرة ألفاظ السب والشتم البذيء كما ها هنا والله أعلم]

                    قَالَ: ومضى سليمان مفلولا حتى انتهى إلى حمص، فانضم إليه من أفلت ممن كان معه، فعسكر بها، وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانها، ووجه مروان يوم هزمه قوادا وروابط في جريدة خيل، وتقدم إليهم أن يسبقوا كل خبر، حتى يأتوا الكامل، فيحدقوا بها الى ان يأتيهم، حنقا عليهم، فأتوهم فنزلوا عليهم، وأقبل مروان نحوهم حتى نزل معسكره من واسط، فأرسل إليهم أن انزلوا على حكمي، فقالوا: لا حتى تؤمننا بأجمعنا، فدلف إليهم، ونصب عليهم المجانيق، فلما تتابعت الحجارة عليهم نزلوا على حكمه، فمثل بهم واحتملهم أهل الرقة فآووهم، وداووا جراحاتهم، وهلك بعضهم وبقي أكثرهم، وكانت عدتهم جميعا نحوا من ثلاثمائه ثم شخص إلى سليمان ومن تجمع معه بحمص، فلما دنا منهم اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: حتى متى ننهزم من مروان! هلموا فلنتبايع على الموت ولا نفترق بعد معاينته حتى نموت جميعا فمضى على ذلك من فرسانهم من قد وطن نفسه على الموت نحو من تسعمائة، وولى سليمان على شطرهم معاوية ال***كي، وعلى الشطر الثانى ثبيتا البهراني فتوجهوا إليه مجتمعين، على أن يبيتوه إن أصابوا منه غرة، وبلغه خبرهم وما كان منهم، فتحرز وزحف إليهم في الخنادق على احتراس وتعبئة، فراموا تبييته فلم يقدروا، فتهيئوا له وكمنوا في زيتون ظهر على طريقه، في قرية تسمى تل منس من جبل السماق، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبئة، فوضعوا السلاح فيمن معه، وانتبذ لهم، ونادى خيوله فثابت إليه من المقدمة والمجنبتين والساقة، فقاتلوهم من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، والتقى ال***كي وفارس من فرسان بني سليم، فاضطربا، فصرعه السلمي عن فرسه، ونزل إليه، وأعانه رجل من بني تميم، فأتياه به أسيرا وهو واقف، فقال: الحمد لله الذي أمكن منك فطالما بلغت منا! فقال: استبقني فإني فارس العرب، قَالَ: كذبت، الذي جاء بك أفرس منك، فأمر به فأوثق، وقتل ممن صبر معه نحو من ستة آلاف.
                    قَالَ: وأفلت ثبيت ومن انهزم معه، فلما أتوا سليمان خلف أخاه سعيد ابن هشام في مدينة حمص، وعرف أنه لا طاقة له به، ومضى هو إلى تدمر، فأقام بها، ونزل مروان على حمص، فحاصرهم بها عشرة أشهر. ونصب عليها نيفا وثمانين منجنيقا، فطرح عليهم حجارتها بالليل والنهار وهم في ذلك يخرجون إليه كل يوم فيقاتلونه، وربما بيتوا نواحي عسكره، وأغاروا على الموضع الذى يطمعون في اصابه العورة والفرضه منه.
                    فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل سألوه أن يؤمنهم على أن يمكنوه من سعيد بْن هشام وابنيه عثمان ومروان ومن رجل كان يسمى ال***كي، كان يغير على عسكرهم، ومن حبشي كان يشتمه ويفتري عليه، فأجابهم إلى ذلك وقبله وكانت قصة الحبشي انه كان يشرف من الحائط ويربط في ذكره ذكر حمار، ثم يقول: يا بني سليم، يا أولاد كذا وكذا، هذا لواؤكم! وكان يشتم مروان، فلما ظفر به دفعه إلى بني سليم، فقطعوا مذاكيره وأنفه، ومثلوا به، وأمر بقتل المتسمي ال***كي والاستيثاق من سعيد وابنيه، وأقبل متوجها إلى الضحاك.
                    وأما غير أبي هاشم مخلد بْن محمد، فإنه ذكر من أمر سليمان بْن هشام بعد انهزامه من وقعة خساف غير ما ذكره مخلد، والذي ذكره من ذلك أن سليمان بْن هشام بْن عبد الملك حين هزمه مروان يوم خساف أقبل هاربا، حتى صار إلى عبد الله بْن عمر، فخرج مع عبد الله بْن عمر إلى الضحاك، فبايعه، وأخبر عن مروان بفسق وجور وحضض عليه، وقال: أنا سائر معكم في موالي ومن اتبعني، فسار مع الضحاك حين سار إلى مروان، فقال شبيل ابن عزرة الضبعي في بيعتهم الضحاك:
                    ألم تر أن الله أظهر دينه ... فصلت قريش خلف بكر بْن وائل
                    فصارت كلمة ابن عمر وأصحابه واحدة على النضر بْن سعيد، فعلم أنه لا طاقة له بهم، فارتحل من ساعته يريد مروان بالشام.
                    وذكر أبو عبيدة أن بيهسا أخبره: لما دخل ذو القعدة سنة سبع وعشرين ومائة، استقام لمروان الشام ونفى عنها من كان يخالفه، فدعا يزيد بن عمر ابن هبيرة، فوجهه عاملا على العراق، وضم إليه اجناد الجزيرة، فاقبل حتى نزل سعيد بْن عبد الملك، وأرسل ابن عمر إلى الضحاك يعلمه ذلك.
                    قَالَ: فجعل الضحاك لنا ميسان وقال: إنها تكفيكم حتى ننظر عما تنجلي واستعمل ابن عمر عليها مولاه الحكم بْن النعمان.
                    فأما أبو مخنف فإنه قَالَ- فيما ذكر عنه هشام: إن عبد الله بْن عمر صالح الضحاك على أن بيد الضحاك ما كان غلب عليه من الكوفة وسوادها، وبيد ابن عمر ما كان بيده من كسكر وميسان ودستميسان وكور دجلة والأهواز وفارس، فارتحل الضحاك حتى لقي مروان بكفرتوثا من ارض الجزيرة.
                    وقال أبو عبيدة: تهيأ الضحاك ليسير إلى مروان، ومضى النضر يريد
                    الشام، فنزل القادسية، وبلغ ذلك ملحان الشيباني عامل الضحاك على الكوفة، فخرج إليه فقاتله وهو في قلة من الشراة، فقاتله فصبر حتى قتله النضر وقال ابن خدره يرثيه وعبد الملك بْن علقمة:
                    كائن كملحان من شار أخي ثقة ... وابن علقمة المستشهد الشاري
                    من صادق كنت أصفيه مخالصتي ... فباع داري بأعلى صفقة الدار
                    إخوان صدق أرجيهم وأخذلهم ... أشكو إلى الله خذلاني وإخفاري
                    وبلغ الضحاك قتل ملحان، فاستعمل على الكوفة المثنى بْن عمران من بني عائدة، ثم سار الضحاك في ذي القعدة، فأخذ الموصل، وانحط ابن هبيرة من نهر سعيد حتى نزل غزة من عين التمر، وبلغ ذلك المثنى بْن عمران العائذي، عامل الضحاك على الكوفة، فسار إليه فيمن معه من الشراة، ومعه منصور بْن جمهور، وكان صار إليه حين بايع الضحاك خلافا على مروان، فالتقوا بغزة، فاقتتلوا قتالا شديدا أياما متوالية، فقتل المثنى وعزيز وعمرو- وكانوا من رؤساء أصحاب الضحاك- وهرب منصور، وانهزمت الخوارج، فقال مسلم حاجب يزيد:
                    ارت للمثنى يوم غزه حتفه ... واذرت عزيز بين تلك الجنادل
                    وعمرا أزارته المنية بعد ما ... أطافت بمنصور كفات الحبائل
                    وقال غيلان بْن حريث في مدحه ابن هبيرة:
                    نصرت يوم العين إذ لقيتا ... كنصر داود على جالوتا
                    فلما قتل منهم من قتل في يوم العين، وهرب منصور بْن جمهور، أقبل لا يلوي حتى دخل الكوفة، فجمع بها جمعا من اليمانية والصفرية ومن كان تفرق منهم يوم قتل ملحان ومن تخلف منهم عن الضحاك، فجمعهم منصور جميعا، ثم سار بهم حتى نزل الروحاء، وأقبل ابن هبيرة في أجناده حتى لقيهم، فقاتلهم أياما ثم هزمهم، وقتل البرذون بْن مرزوق الشيباني، وهرب منصور ففي ذلك يقول غيلان بْن حريث:
                    ويوم روحاء العذيب دففوا ... على ابن مرزوق سمام مزعف
                    قَالَ: وأقبل ابن هبيرة حتى نزل الكوفة ونفى عنها الخوارج، وبلغ الضحاك ما لقي أصحابه، فدعا عبيدة بْن سوار التغلبي، فوجهه إليهم، وانحط ابن هبيرة يريد واسطا وعبد الله بْن عمر بها، وولى على الكوفة عبد الرحمن بْن بشير العجلي، وأقبل عبيدة بْن سوار مغذا في فرسان أصحابه، حتى نزل الصراة، ولحق به منصور بْن جمهور، وبلغ ذلك ابن هبيرة فسار إليهم فالتقوا بالصراة في سنة سبع وعشرين ومائة.
                    وفي هذه السنة توجه سليمان بْن كثير ولاهز بْن قريظة وقحطبة بْن شبيب- فيما ذكر- إلى مكة، فلقوا إبراهيم بْن محمد الإمام بها، وأعلموه أن معهم عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكا ومتاعا كثيرا، فأمرهم بدفع ذلك إلى ابن عروة مولى محمد بْن علي، وكانوا قدموا معهم بأبي مسلم ذلك العام، فقال ابن كثير لإبراهيم بْن محمد: إن هذا مولاك.
                    وفيها كتب بكير بْن ماهان إلى إبراهيم بْن محمد يخبره أنه في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنه قد استخلف حفص بن سليمان، وهو رضا للأمر، وكتب إبراهيم إلى أبي سلمة يأمره بالقيام بأمر أصحابه، وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو سلمة إلى خراسان فصدقوه، وقبلوا أمره، ودفعوا إليه ما اجتمع قبلهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم.



                    وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                    أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                    تعليق


                    • #55
                      رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                      ثم دخلت سنه ثمان وعشرين ومائه

                      *ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك:
                      قد مضى ذكر كتاب يزيد بْن الوليد للحارث بأمانه، وخروج الحارث من بلاد الترك إلى خراسان ومصيره إلى نصر بْن سيار، وما كان من نصر إليه، واجتماع من اجتمع إلى الحارث مستجيبين له فذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أن ابن هبيرة لما ولي العراق كتب إلى نصر بعهده، فبايع لمروان، فقال الحارث: إنما آمنني يزيد بْن الوليد، ومروان لا يجيز أمان يزيد، فلا آمنه فدعا إلى البيعة، فشتم أبو السليل مروان، فلما دعا الحارث إلى البيعة أتاه سلم بْن أحوز وخالد بْن هريم وقطن بْن محمد وعباد بْن الأبرد بْن قرة وحماد بْن عامر، وكلموه وقالوا له: لم يصير نصر سلطانه وولايته في أيدي قومك؟ ألم يخرجك من أرض الترك ومن حكم خاقان! وإنما أتى بك لئلا يجترئ عليك عدوك فخالفته، وفارقت أمر عشيرتك، واطمعت فيهم عدوهم، فنذكرك الله أن تفرق جماعتنا! فقال الحارث: إني لأرى في يدي الكرماني ولاية، والأمر في يد نصر، فلم يجبهم بما أرادوا، وخرج إلى حائط لحمزة بْن أبي صالح السلمي بإزاء قصر بخاراخذاه، فعسكر وأرسل إلى نصر، فقال له: اجعل الأمر شورى، فأبى نصر فخرج الحارث فأتى منازل يعقوب بْن داود، وأمر جهم بْن صفوان، مولى بني راسب، فقرأ كتابا سير فيه الحارث على الناس، فانصرفوا يكبرون، وأرسل الحارث إلى نصر: اعزل سلم بْن أحوز عن شرطك، واستعمل بشر بْن بسطام البرجمي، فوقع بينه وبين مغلس بن زياد كلام، فتفرقت قيس وتميم، فعزله واستعمل ابراهيم بن عبد الرحمن، واختاروا رجالا يسمون لهم قوما يعملون بكتاب الله فاختار نصر مقاتل بْن سليمان ومقاتل بْن حيان، واختار الحارث المغيرة بْن شعبة الجهضمي ومعاذ بْن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن يكتب ما يرضون من السنن، وما يختارونه من العمال، فيوليهم الثغرين، ثغر سمرقند وطخارستان، ويكتب إلى من عليهما ما يرضونه من السير والسنن.
                      فاستأذن سلم بْن أحوز نصرا في الفتك بالحارث، فأبى وولى إبراهيم الصائغ، وكان يوجه ابنه إسحاق بالفيروزج إلى مرو، وكان الحارث يظهر أنه صاحب الرايات السود، فأرسل إليه نصر: إن كنت كما تزعم، وأنكم تهدمون سور دمشق، وتزيلون أمر بني اميه، فخذ منى خمسمائة رأس ومائتي بعير، واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسر، فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت إني لفي يدك، وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك فقال الحارث: قد علمت أن هذا حق، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني فقال نصر: فقد استبان أنهم ليسوا على رأيك، ولا لهم مثل بصيرتك، وأنهم هم فساق ورعاع، فاذكرك الله في عشرين ألفا من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بينكم وعرض نصر على الحارث ان يوليه ما وراء النهر، ويعطيه ثلاثمائة ألف، فلم يقبل، فقال له نصر: فإن شئت فابدأ بالكرماني فإن قتلته فأنا في طاعتك.
                      قَالَ: ثم تناظر الحارث ونصر، فتراضيا أن يحكم بينهم مقاتل بْن حيان وجهم بْن صفوان، فحكما بأن يعتزل نصر، ويكون الأمر شورى.
                      فلم يقبل نصر وكان جهم يقص في بيته في عسكر الحارث، وخالف الحارث نصرا، ففرض نصر لقومه من بني سلمة وغيرهم، وصير سلما في المدينة في منزل ابن سوار، وضم إليه الرابطة وإلى هدبة بْن عامر الشعراوى فرسا، وصيره في المدينة، واستعمل على المدينة عبد السلام بْن يزيد بْن حيان السلمي، وحول السلاح والدواوين إلى القهندز، واتهم قوما من اصحابه أنهم كاتبوا الحارث، فأجلس عن يساره من اتهم ممن لا بلاء له عنده، وأجلس الذين ولاهم واصطنعهم عن يمينه، ثم تكلم وذكر بني مروان ومن خرج عليهم، كيف أظفر الله به، ثم قَالَ: أحمد الله وأذم من على يساري، وليت خراسان فكنت يا يونس بْن عبد ربه ممن أراد الهرب من كلف مئونات مرو، وأنت وأهل بيتك ممن أراد أسد بْن عبد الله أن يختم أعناقهم، ويجعلهم في الرجالة، فوليتكم إذ وليتكم واصطنعتكم وأمرتكم أن ترفعوا ما أصبتم إذا أردت المسير إلى الوليد، فمنكم من رفع ألف ألف وأكثر وأقل، ثم ملأتم الحارث علي، فهلا نظرتم إلى هؤلاء الأحرار الذين لزموني مؤاسين على غير بلاء! وأشار إلى هؤلاء الذين عن يمينه فاعتذر القوم إليه، فقبل عذرهم.
                      وقدم على نصر من كور خراسان حين بلغهم ما صار إليه من الفتنة جماعة، منهم عاصم بْن عمير الصريمي وأبو الذيال الناجى وعمرو الفادوسبان السغدى البخاري وحسان بْن خالد الأسدي من طخارستان في فوارس، وعقيل ابن معقل الليثي ومسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم وسعد الصغير في فرسان.
                      وكتب الحارث بْن سريج سيرته، فكانت تقرأ في طريق مرو والمساجد فأجابه قوم كثير، فقرأ رجل كتابه على باب نصر بماجان، فضربه غلمان نصر، فنابذه
                      [المنابذة: نقض العهد. القاموس المحيط ص 432]
                      الحارث، فأتى نصرا هبيرة بْن شراحيل ويزيد أبو خالد، فأعلماه، فدعا الحسن بْن سعد مولى قريش، فأمره فنادى: إن الحارث بْن سريج عدو الله قد نابذ وحارب، فاستعينوا اللَّهُ وَلا حول وَلا قوة إلا بِاللَّهِ.
                      وأرسل من ليلته عاصم بْن عمير إلى الحارث، وقال لخالد بْن عبد الرحمن: ما نفعل شعارنا غدا؟ فقال مقاتل بْن سليمان: إن الله بعث نبيا فقاتل عدوا له، فكان شعاره حم لا ينصرون، فكان شعارهم حم لا ينصرون وعلامتهم على الرماح الصوف.
                      وكان سلم بْن أحوز وعاصم بْن عمير وقطن وعقيل بن معقل ومسلم
                      ابن عبد الرحمن وسعيد الصغير وعامر بْن مالك والجماعة في طرف الطخارية ويحيى بْن حضين وربيعة في البخاريين ودل رجل من أهل مدينة مرو الحارث على نقب في الحائط، فمضى الحارث فنقب الحائط، فدخلوا المدينة من ناحية باب بالين وهم خمسون، ونادوا: يا منصور- بشعار الحارث- وأتوا باب نيق، فقاتلهم جهم بْن مسعود الناجي، فحمل رجل على جهم فطعنه في فيه فقتله، ثم خرجوا من باب نيق حتى أتوا قبة سلم بْن أحوز فقاتلهم عصمة بْن عبد الله الأسدي وخضر بْن خالد والأبرد بْن داود من آل الأبرد بْن قرة، وعلى باب بالين حازم بْن حاتم، فقتلوا كل من كان يحرسه، وانتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بْن منيع، ونهاهم الحارث أن ينتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بْن منيع ومنزل إبراهيم وعيسى ابني عبد الله السلمي إلا الدواب والسلاح، وذلك ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة.
                      قَالَ: وأتى نصرا رسول سلم يخبره دنو الحارث منه، وأرسل إليه: أخره حتى نصبح، ثم بعث إليه أيضا محمد بْن قطن بْن عمران الأسدي، أنه قد خرج عليه عامة أصحابه، فأرسل إليه: لا تبدأهم.
                      وكان الذي أهاج القتال، أن غلاما للنضر بْن محمد الفقيه يقال له عطية، صار إلى أصحاب سلم، فقال أصحاب الحارث: ردوه إلينا، فأبوا، فاقتتلوا، فرمي غلاما لعاصم في عينه فمات، فقاتلهم ومعه عقيل بْن معقل فهزمهم، فانتهوا إلى الحارث وهو يصلي الغداة في مسجد أبي بكرة، مولى بني تميم، فلما قضى الصلاة دنا منهم، فرجعوا حتى صاروا إلى طرف الطخارية، فدنا منه رجلان، فناداهما عاصم: عرقبا برذونه، فضرب الحارث أحدهما بعموده فقتله، ورجع الحارث إلى سكة السغد، فرأى أعين مولى حيان، فنهاه عن القتال، فقاتل فقتل، وعدل في سكة بني عصمة، فأتبعه حماد بْن عامر الحماني ومحمد بْن زرعة، فكسر رمحيهما، وحمل على مرزوق مولى سلم، فلما دنا منه رمى به فرسه، فدخل حانوتا، وضرب برذونه على مؤخره فنفق قَالَ: وركب سلم حين أصبح الى باب
                      نيق، فأمرهم بالخندق، فخندقوا وأمر مناديا، فنادى: من جاء برأس فله ثلاثمائة، فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث، وقاتلهم الليل كله، فلما أصبحنا أخذ أصحاب نصر على الرزيق، فأدركوا عبد الله بْن مجاعة بْن سعد، فقتلوه وانتهى سلم إلى عسكر الحارث، وانصرف إلى نصر فنهاه نصر، فقال: لست منتهيا حتى أدخل المدينة على هذا الدبوسي، فمضى معه محمد ابن قطن وعبيد الله بْن بسام إلى باب درسنكان- وهو القهندز- فوجده مردوما، فصعد عبد الله بْن مزيد الأسدي السور ومعه ثلاثة، ففتحوا الباب، ودخل بن أحوز، ووكل بالباب أبا مطهر حرب بْن سليمان، فقتل سلم يومئذ كاتب الحارث بْن سريج، واسمه يزيد بن داود، واتى عبد ربه ابن سيسن فقتله، ومضى سلم إلى باب نيق ففتحه، وقتل رجلا من الجزارين كان دل الحارث على النقب، فقال المنذر الرقاشي ابْن عم يحيى بْن حضين، يذكر صبر القاسم الشيباني:
                      ما قاتل القوم منكم غير صاحبنا ... في عصبة قاتلوا صبرا فما ذعروا
                      هم قاتلوا عند باب الحصن ما وهنوا ... حتى أتاهم غياث الله فانتصروا
                      فقاسم بعد أمر الله أحرزها ... وأنت في معزل عن ذاك مقتصر
                      ويقال: لما غلظ أمر الكرماني والحارث أرسل نصر إلى الكرماني، فأتاه على عهد، وحضرهم محمد بْن ثابت القاضي ومقدام بْن نعيم أخو عبد الرحمن ابن نعيم الغامدي وسلم بْن أحوز، فدعا نصر إلى الجماعة، فقال للكرماني: أنت أسعد الناس بذلك، فوقع بين سلم بْن أحوز والمقدام كلام، فأغلظ له سلم، فأعانه عليه أخوه، وغضب لهما السغدي بْن عبد الرحمن الحزمي، فقال سلم: لقد هممت أن أضرب أنفك بالسيف، فقال السغدي: لو مسست السيف لم ترجع إليك يدك، فخاف الكرماني أن يكون مكرا من نصر، فقام وتعلقوا به، فلم يجلس، وعاد إلى باب المقصورة.
                      قَالَ: فتلقوه بفرسه، فركب في المسجد، وقال نصر: أراد الغدر بي، وأرسل الحارث إلى نصر: إنا لا نرضى بك إماما، فأرسل إليه نصر: كيف
                      يكون لك عقل، وقد أفنيت عمرك في أرض الشرك وغزوت المسلمين بالمشركين!
                      أتراني أتضرع إليك أكثر مما تضرعت! قَالَ: فأسر يومئذ جهم بْن صفوان صاحب الجهمية، فقال لسلم: ان لي ولثا من ابنك حارث، قَالَ: ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما آمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأبرأك إلي عيسى بن مريم ما نجوت، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك، والله لا يقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت، وأمر عبد ربه بْن سيسن فقتله، فقال الناس: قتل أبو محرز- وكان جهم يكنى أبا محرز.
                      وأسر يومئذ هبيرة بْن شراحيل وعبد الله بْن مجاعة فقال: لا أبقى الله من استبقاكما، وإن كنتما من تميم ويقال: بل قتل هبيرة، لحقته الخيل عند دار قديد بْن منبع فقتل قَالَ: ولما هزم نصر الحارث، بعث الحارث ابنه حاتما إلى الكرماني، فقال له محمد بْن المثنى: هما عدواك، دعهما يضطربان، فبعث الكرماني السغدي بن عبد الرحمن الحزمي معه، فدخل السغدي المدينة من ناحية باب ميخان، فأتاه الحارث، فدخل فازه
                      [في اللسان (5/393): الفازة: مظلة تمد بعمود]
                      الكرماني، ومع الكرماني داود ابن شعيب الجدانى ومحمد بْن المثنى، فأقيمت الصلاة، فصلى بهم الكرماني، ثم ركب الحارث، فسار معه جماعة بْن محمد بْن عزيز أبو خلف، فلما كان الغد سار الكرماني إلى باب ميدان يزيد، فقاتل أصحاب نصر، فقتل سعد بْن سلم المراغي، وأخذوا علم عثمان بْن الكرماني، فأول من أتى الكرماني بهزيمة الحارث وهو معسكر بباب ماسرجسان على فرسخ من المدينة النضر ابن غلاق السغدي وعبد الواحد بْن المنخل ثم أتاه سواده بن سريج، وحاتم بن الحارث والخليل بن غزوان العذري، اتوه ببيعه الحارث بْن سريج.
                      وأول من بايع الكرماني يحيى بْن نعيم بْن هبيرة الشيباني، فوجه الكرماني إلى الحارث بْن سريج سورة بْن محمد الكندى الى اسمانير والسغدى بن عبد الرحمن أبا طعمة وصعبا أو صعيبا، وصباحا، فدخلوا المدينة من باب ميخان، حتى أتوا باب ركك، وأقبل الكرماني إلى باب حرب بْن عامر،
                      ووجه أصحابه إلى نصر يوم الأربعاء، فتراموا ثم تحاجزوا، ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال قَالَ: والتقوا يوم الجمعة، فانهزمت الأزد، حتى وصلوا إلى الكرماني، فأخذ اللواء بيده فقاتل به، وحمل الخضر بْن تميم وعليه تجفاف، فرموه بالنشاب، وحمل عليه حبيش مولى نصر فطعنه في حلقه، فأخذ الخضر السنان بشماله من خلفه، فشب به فرسه، وحمل فطعن حبيشا فأذراه عن برذونه، فقتله رجالة الكرماني بالعصي.
                      قَالَ: وانهزم أصحاب نصر، وأخذوا لهم ثمانين فرسا، وصرع تميم ابن نصر، فأخذوا له برذونين، أخذ أحدهما السغدي بن عبد الرحمن، وأخذ الآخر الخضر، ولحق الخضر بسلم بْن أحوز، فتناول من ابن أخيه عمودا فضربه فصرعه، فحمل عليه رجلان من بني تميم فهرب، فرمى سلم بنفسه تحت القناطر وبه بضع عشرة ضربة على بيضته فسقط، فحمله محمد بْن الحداد إلى عسكر نصر، وانصرفوا، فلما كان في بعض الليالي خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بْن عبد الله الأسدي، وكان يحمي أصحاب نصر، فأدركه صالح بْن القعقاع الأزدي، فقال له عصمة: تقدم يا مزوني، فقال صالح: اثبت يا خصى- وكان عقيما- فعطف فرسه فشب فسقط، فطعنه صالح فقتله.
                      وقاتل ابن الديليمري، وهو يرتجز، فقتل إلى جنب عصمة وقتل عبيد الله بْن حوتمة السلمي، رمى مروان البهراني بجرزه، فقتل، فأتى الكرماني برأسه فاسترجع- وكان له صديقا- وأخذ رجل يماني بعنان فرس مسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم فعرفه فتركه واقتتلوا ثلاثة أيام، فهزمت آخر يوم المضرية اليمن، فنادى الخليل بْن غزوان: يا معشر ربيعة واليمن، قد دخل الحارث السوق، وقتل ابن الأقطع، ففت في أعضاد المضرية وكان أول من انهزم إبراهيم بْن بسام الليثي، وترجل تميم بْن نصر، فأخذ برذونه عبد الرحمن بْن جامع الكندي، وقتلوا هياجا الكلبي ولقيط بْن أخضر، قتله غلام لهانئ البزار.
                      قَالَ: ويقال: لما كان يوم الجمعة تأهبوا للقتال، وهدموا الحيطان ليتسع لهم الموضع، فبعث نصر محمد بْن قطن إلى الكرماني: إنك لست مثل هذا الدبوسي، فاتق الله، لا تشرع في الفتنة قَالَ: وبعث تميم بْن نصر شاكريته، وهم في دار الجنوب بنت القعقاع، فرماهم أصحاب الكرماني من السطوح ونذروا بهم، فقال عقيل بْن معقل لمحمد بْن المثنى: علام نقتل أنفسنا لنصر والكرماني! هلم نرجع إلى بلدنا بطخارستان، فقال محمد: إن نصرا لم يف لنا، فلسنا ندع حربه وكان أصحاب الحارث والكرماني يرمون نصرا وأصحابه بعرادة، فضرب سرادقه وهو فيه فلم يحوله، فوجه اليهم سلم ابن أحوز فقاتلهم، فكان أول الظفر لنصر، فلما رأى الكرماني ذلك أخذ لواءه من محمد بْن محمد بْن عميرة، فقاتل به حتى كسره وأخذ محمد بْن المثنى والزاغ وحطان في كاربكل، حتى خرجوا على الرزيق، وتميم بْن نصر على قنطرة النهر، فقال محمد بْن المثنى لتميم حين انتهى إليه: تنح يا صبي وحمل محمد والزاغ معه راية صفراء، فصرعوا أعين مولى نصر، وقتلوه، وكان صاحب دواة نصر، وقتلوا نفرا من شاكريته وحمل الخضر بن تميم على سلم بْن أحوز فطعنه، فمال السنان، فضربه بجرز على صدره وأخرى على منكبه، وضربه على رأسه فسقط، وحمى نصر أصحابه في ثمانية، فمنعهم من دخول السوق.
                      قَالَ: ولما هزمت اليمانية مضر، أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية يعيرونني بانهزامكم، وأنا كاف، فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرماني، فبعث إليه نصر يزيد النحوي او خالدا يتوثق منه، أن يفي له بما أعطاه من الكف.
                      ويقال: إنما كف الحارث عن قتال نصر أن عمران بْن الفضل الأزدي وأهل بيته وعبد الجبار العدوي وخالد بْن عبيد الله بن حبيب العدوي وعامة أصحابه نقموا على الكرماني فعله باهل التبوشكان، وذلك ان أسدا وجهه اليهم، فنزلوا على حكم أسد، فبقر بطون خمسين رجلا وألقاهم في نهر بلخ، وقطع أيدي ثلاثمائة منهم وأرجلهم، وصلب ثلاثة، وباع أثقالهم فيمن يزيد، فنقموا على الحارث عونه الكرماني، وقتاله نصرا فقال نصر لأصحابه حين تغير الأمر بينه وبين الحارث: ان مضر، لا تجتمع لي ما كان الحارث مع الكرماني، لا يتفقان على أمر، فالرأي تركهما، فإنهما يختلفان وخرج إلى جلفر فيجد عبد الجبار الأحول العدوي وعمر بْن أبي الهيثم الصغدي، فقال لهما: أيسعكما المقام مع الكرماني؟ فقال عبد الجبار: وأنت فلا عدمت آسيا، ما أحلك هذا المحل!
                      فلما رجع نصر الى مرو امر به فضرب أربعمائة سوط، ومضى نصر إلى خرق، فأقام أربعة أيام بها، ومعه مسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم وسلم بْن أحوز وسنان الأعرابي، فقال نصر لنسائه: ان الحارث سيخلفنى فيكن ويحميكن فلما قرب من نيسابور أرسلوا إليه: ما أقدمك، وقد أظهرت من العصبية أمرا قد كان الله أطفأه؟ وكان عامل نصر على نيسابور ضرار ابن عيسى العامري، فأرسل إليه نصر بْن سيار سنانا الأعرابي ومسلم بْن عبد الرحمن وسلم بْن أحوز، فكلموهم فخرجوا، فتلقوا نصرا بالمواكب والجواري والهدايا، فقال سلم: جعلني الله فداك! هذا الحي من قيس، فإنما كانت عاتبة، فقال نصر:
                      أنا ابن خندف تنميني قبائلها ... للصالحات وعمي قيس عيلانا
                      وأقام عند نصر حين خرج من مرو يونس بْن عبد ربه ومحمد بْن قطن وخالد بْن عبد الرحمن في نظرائهم.
                      قَالَ: وتقدم عباد بْن عمر الأزدي وعبد الحكيم بْن سعيد العوذي وأبو جعفر عيسى بْن جرز على نصر من مكة بأبرشهر، فقال نصر لعبد الحكيم:
                      أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟ فقال عبد الحكيم: بل سفهاء قومك، طالت ولايتها في ولايتك، وصيرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي ربيعه واليمن حلماء وسفهاء فغلب السفهاء الحكماء فقال عباد: أتستقبل الأمير بهذا الكلام! قَالَ: دعه فقد صدق، فقال أبو جعفر عيسى بْن جرز- وهو من أهل قرية على نهر مرو: أيها الأمير، حسبك من هذه الأمور والولاية، فإنه قد أطل أمر عظيم، سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد، ويدعو إلى دولة تكون، فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون وتضطربون فقال نصر: ما أشبه أن يكون لقلة الوفاء، واستجراح الناس، وسوء ذات البين وجهت إلى الحارث وهو بأرض الترك، فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى وشغب، وظاهر علي فقال أبو جعفر عيسى: إن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرماني من ذلك ببعيد فوصله نصر قَالَ: وكان سلم بْن أحوز يقول: ما رأيت قوما أكرم إجابة، ولا أبذل لدمائهم من قيس.
                      قَالَ: فلما خرج نصر من مرو غلب عليها الكرماني، وقال للحارث: إنما أريد كتاب الله، فقال قحطبة: لو كان صادقا لأمددته ألف عنان، فقال مقاتل بْن حيان: أفي كتاب الله هدم الدور وانتهاب الأموال! فحبسه الكرماني في خيمة في العسكر، فكلمه معمر بْن مقاتل بْن حيان- أو معمر بْن حيان- فخلاه، فأتى الكرماني المسجد، ووقف الحارث، فخطب الكرماني الناس، وآمنهم غير محمد بْن الزبير ورجل آخر، فاستأمن لابن الزبير داود بْن أبي داود بْن يعقوب، ودخل الكاتب فآمنه، ومضى الحارث إلى باب دوران وسرخس، وعسكر الكرماني في مصلى أسد، وبعث إلى الحارث فأتاه، فأنكر الحارث هدم الدور وانتهاب الأموال، فهم الكرماني به، ثم كف عنه، فأقام أياما وخرج بشر بْن جرموز الضبي بخرقان، فدعا إلى الكتاب والسنة، وقال للحارث: إنما قاتلت معك طلب العدل، فأما إذ كنت مع الكرماني، فقد علمت أنك إنما تقاتل ليقال: غلب الحارث! وهؤلاء يقاتلون عصبية، فلست مقاتلا معك واعتزل في خمسه آلاف وخمسمائة- ويقال في أربعة آلاف- وقال: نحن الفئة العادلة، ندعو إلى الحق ولا نقاتل إلا من يقاتلنا وأتى الحارث مسجد عياض، فأرسل إلى الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرماني، وبعث الحارث ابنه محمدا فحمل ثقله من دار تميم بْن نصر، فكتب نصر إلى عشيرته ومضر، أن الزموا الحارث مناصحة
                      فأتوه، فقال الحارث: إنكم أصل العرب وفرعها، وأنتم قريب عهد بالهزيمة، فاخرجوا إلي بالأثقال، فقالوا: لم نكن نرضى بشيء دون لقائه وكان من مدبري عسكر الكرماني مقاتل بْن سليمان، فأتاه رجل من البخاريين، فقال: أعطني أجر المنجنيق التي نصبتها، فقال: أقم البينة أنك نصبتها من منفعة المسلمين، فشهد له شيبة بْن شيخ الأزدي، فأمر مقاتل فصك له إلى بيت المال قَالَ: فكتب أصحاب الحارث إلى الكرماني: نوصيكم بتقوى الله وطاعته وإيثار أئمة الهدى وتحريم ما حرم الله من دمائكم، فإن الله جعل اجتماعنا كان إلى الحارث ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحة في عباده، فعرضنا أنفسنا للحرب ودماءنا للسفك وأموالنا للتلف، فصغر ذلك كله عندنا في جنب ما نرجو من ثواب الله، ونحن وأنتم إخوان في الدين وأنصار على العدو، فاتقوا الله وراجعوا الحق، فإنا لا نريد سفك الدماء بغير حلها.
                      فأقاموا أياما، فأتى الحارث بْن سريج الحائط فثلم فيه ثلمة ناحية نوبان عند دار هشام بْن أبي الهيثم، فتفرق عن الحارث أهل البصائر وقالوا:
                      غدرت فأقام القاسم الشيباني وربيع التيمي في جماعة، ودخل الكرماني من باب سرخس، فحاذى الحارث، ومر المنخل بْن عمرو الأزدي فقتله السميدع، أحد بني العدوية، ونادى: يا لثارات لقيط! واقتتلوا، وجعل الكرماني على ميمنته داود بْن شعيب وإخوته: خالدا ومزيدا والمهلب، وعلى ميسرته سورة بْن محمد بْن عزيز الكندي، في كندة وربيعة فاشتد الأمر بينهم، فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث، والحارث على بغل فنزل عنه، وركب فرسا فضربه، فجرى وانهزم أصحابه، فبقي في أصحابه، فقتل عند شجرة، وقتل أخوه سوادة وبشر بْن جرموز وقطن بْن المغيرة بْن عجرد، وكف الكرماني، وقتل مع الحارث مائة، وقتل من أصحاب الكرماني مائة، وصلب الحارث عند مدينة مرو بغير رأس.
                      وكان قتل بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يوما، قتل يوم الأحد لست بقين من رجب وكان يقال: إن الحارث يقتل تحت زيتونة أو شجرة غبيراء.
                      فقتل كذلك سنة ثمان وعشرين ومائة وأصاب الكرماني صفائح ذهب للحارث فأخذها وحبس أم ولده ثم خلى عنها، وكانت عند حاجب بْن عمرو بْن سلمة بْن سكن بْن جون بْن دبيب قَالَ: وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال ابراهيم: بم تستحل ما له؟ فقال صالح من آل الوضاح: اسقني دمه، فحال بينه وبينه مقاتل بْن سليمان، فأتى به منزله.
                      وقالت أم كثير الضبية:
                      لا بارك الله في أنثى وعذبها ... تزوجت مضريا آخر الدهر
                      أبلغ رجال تميم قول موجعة ... أحللتموها بدار الذل والفقر
                      إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم ... حتى تعيدوا رجال الأزد في الظهر
                      إني استحيت لكم من بذل طاعتكم ... هذا المزونى يجبيكم على قهر
                      وقال عباد بْن الحارث:
                      ألا يا نصر قد برح الخفاء ... وقد طال التمني والرجاء
                      وأصبحت المزون بأرض مرو ... تقضي في الحكومة ما تشاء
                      يجوز قضاؤها في كل حكم ... على مضر وإن جار القضاء
                      وحمير في مجالسها قعود ... ترقرق في رقابهم الدماء
                      فإن مضر بذا رضيت وذلت ... فطال لها المذلة والشقاء
                      وإن هي أعتبت فيها وإلا ... فحل على عساكرها العفاء
                      وقال:
                      ألا يا ايها المرء ... الذى قد شفه الطرب
                      أفق ودع الذي قد ... كنت تطلبه ونطلب
                      فقد حدثت بحضرتنا ... أمور شأنها عجب
                      الأزد رأيتها ... عزت بمرو وذلت العرب
                      فجاز الصفر لما ... كان ذاك وبهرج الذهب
                      وقال أبو بكر بْن إبراهيم لعلي وعثمان ابني الكرماني.
                      إني لمرتحل أريد بمدحتي ... أخوين فوق ذرى الأنام ذراهما
                      سبقا الجياد فلم يزالا نجعه ... لا يعلم الضيف الغريب قرأهما
                      يستعليان ويجريان الى العلا ... ويعيش في كنفيهما حياهما
                      أعني عليا إنه ووزيره ... عثمان ليس يذل من والاهما
                      جريا لكيما يلحقا بأبيهما ... جري الجياد من البعيد مداهما
                      فلئن هما لحقا به لمنصب ... يستعليان ويلحقان أباهما
                      ولئن ابر عليهما فلطالما ... جريا فبذهما وبذ سواهما
                      فلأمدحنهما بما قد عاينت ... عيني وإن لم أحص كل نداهما
                      فهما التقيان المشار إليهما ... الحاملان الكاملان كلاهما
                      وهما أزالا عن عريكة ملكه ... نصرا ولاقى الذل إذ عاداهما
                      نفيا ابن أقطع بعد قتل حماته ... وتقسمت أسلابه خيلاهما
                      والحارث بْن سريج إذ قصدوا له ... حتى تعاور رأسه سيفاهما
                      أخذا بعفو أبيهما في قدره ... إذ عز قومهما ومن والاهما

                      وفي هذه السنة وجه إبراهيم بْن محمد أبا مسلم إلى خراسان، وكتب إلى أصحابه: إني قد أمرته بأمري، فاسمعوا منه واقبلوا قوله، فإني قد أمرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك، فأتاهم فلم يقبلوا قوله، وخرجوا من قابل، فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فاعلمه ابو مسلم انهم لم ينفذوا كتابه وأمره، فقال إبراهيم: إني قد عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علي، وذلك أنه كان عرض ذلك قبل أن يوجه أبا مسلم على سليمان بْن كثير، فقال: لا ألي اثنين أبدا، ثم عرضه على إبراهيم بْن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه أجمع رأيه على أبي مسلم، وامرهم بالسمع والطاعة، ثم قَالَ: يا عبد الرحمن، إنك رجل منا أهل البيت، فاحتفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم، وحل بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر، فإنهم العدو القريب الدار، فاقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شيء، وإن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، ولا تخالف هذا الشيخ- يعني سليمان بْن كثير- ولا تعصه، وإذا أشكل عليك امر فاكتف به منى.
                      [ذكر الطبري هذا الخبر بلا إسناد، وبين مولد الطبري وهذه السنة 128 ما يقرب من قرن من الزمان فكيف لنا أن نتأكد من صحة هذا الخبر. بل هو خبر باطل، وافمام إبراهيم الهاشمي لم يدع إلى قتل العرب، وكيف وهو عربي قرشي ويدعو إلى الرضا عن آل محمد؟؟ ألا إنه خبر باطل لا أصل له والحمد لله على نعمة الإسناد]

                      وقال الواقدي: وافتتح مروان حمص وهدم سورها، وأخذ نعيم بن ثابت الجزامى فقتله في شوال سنه ثمان، وقد ذكرنا من خالفه في ذلك قبل.
                      وقد حدثني محمد بْن حسن أن أبا حمزة مر بمعدن بني سليم وكثير بْن عبد الله عامل على المعدن، فسمع بعض كلامه، فأمر به فجلد سبعين سوطا، ثم مضى إلى مكة، فلما قدم أبو حمزة المدينة حين افتتحها تغيب كثير حتى كان من أمرهم ما كان.
                      [الخبر في الأغاني (20/99)]

                      *ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان الأمر فيه:
                      قَالَ علي بْن محمد عن شيوخه: لم يزل أبو مسلم يختلف إلى خراسان، حتى وقعت العصبية بها، فلما اضطرب الحبل، كتب سليمان بْن كثير إلى أبي سلمة الخلال يسأله أن يكتب إلى إبراهيم، يسأله أن يوجه رجلا من أهل بيته فكتب أبو سلمة إلى إبراهيم، فبعث أبا مسلم فلما كان في سنة تسع وعشرين ومائة، كتب إبراهيم إلى أبي مسلم يأمره بالقدوم عليه ليسأله عن أخبار الناس، فخرج في النصف من جمادى الآخرة مع سبعين نفسا من النقباء، فلما صار بالدندانقان من أرض خراسان عرض له كامل- أو أبو كامل- قَالَ: أين تريدون؟ قالوا: الحج، ثم خلا به أبو مسلم، فدعاه فأجابهم، وكف عنهم، ومضى أبو مسلم إلى بيورد، فأقام بها أياما، ثم سار إلى نسا، وكان بها عاصم بْن قيس السلمي عاملا لنصر بْن سيار الليثي، فلما قرب منها أرسل الفضل بْن سليمان الطوسي إلى أسيد بْن عبد الله الخزاعي ليعلمه قدومه، فمضى الفضل فدخل قرية من قرى نسا، فلقي رجلا من الشيعة يعرفه، فسأله عن أسيد، فانتهره، فقال: يا عبد الله، ما أنكرت من مسألتي عن منزل رجل؟ قَالَ: إنه كان في هذه القرية شر، سعي برجلين قدما إلى العامل، وقيل إنهما داعيان، فأخذهما، وأخذ الأحجم بْن عبد الله وغيلان بْن فضالة وغالب بْن سعيد والمهاجر بْن عثمان، فانصرف الفضل إلى أبي مسلم وأخبره، فتنكب الطريق، وأخذ في أسفل القرى، وأرسل طرخان الجمال إلى أسيد، فقال: أدعه لي ومن قدرت عليه من الشيعة، وإياك أن تكلم أحدا لم تعرفه، فأتى طرخان أسيدا فدعاه، وأعلمه بمكان أبي مسلم، فأتاه فسأله عن الأخبار، قَالَ: نعم، قدم الأزهر بْن شعيب وعبد الملك بْن سعد بكتب من الإمام إليك، فخلفا الكتب عندي وخرجا، فأخذا فلا أدري من سعي بهما! فبعث بهما العامل إلى عاصم بْن قيس، فضرب المهاجرين عثمان وناسا من الشيعة قَالَ: فأين الكتب؟ قَالَ: عندي، قَالَ: فاتنى بها فأتاه بالكتب فقرأها.
                      قَالَ: ثم سار حتى أتى قومس، وعليها بيهس بْن بديل العجلي، فأتاهم بيهس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: الحج، قَالَ: أفمعكم فضل برذون تبيعونه؟ قَالَ أبو مسلم: أما بيعا فلا، ولكن خذ أي دوابنا شئت، قَالَ: اعرضوها علي، فعرضوها، فأعجبه برذون منها سمند، فقال أبو مسلم: هو لك، قَالَ: لا اقبله الا بثمن، قال: احتكم، قال: سبعمائة، قال: هو لك وأتاه وهو بقومس كتاب من الإمام إليه وكتاب إلى سليمان بْن كثير، وكان في كتاب أبي مسلم: إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث ألفاك كتابي، ووجه إلي قحطبة بما معك يوافني به في الموسم فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجه قحطبة إلى الإمام، فلما كانوا بنسا عرض لهم صاحب مسلحه في قرية من قرى نسا، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: أردنا الحج، فبلغنا عن الطريق شيء خفناه، فأوصلهم إلى عاصم بْن قيس السلمي، فسألهم فأخبروه، فقال: ارتحلوا وامر المفضل بن الشرقى السلمى- وكان على شرطته- ان يزعجهم، فخلا به أبو مسلم وعرض عليه أمرهم، فأجابه، وقال: ارتحلوا. على مهل، ولا تعجلوا وأقام عندهم حتى ارتحلوا.
                      فقدم أبو مسلم مرو في أول يوم من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة، ودفع كتاب الإمام إلى سليمان بْن كثير، وكان فيه أن اظهر دعوتك ولا تريص، فقد آن ذلك فنصبوا أبا مسلم، وقالوا: رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم أو بعد ممن أجابهم، فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء إليهم ونزل أبو مسلم قرية من قرى خزاعة يقال لها سفيذنج، وشيبان والكرماني يقاتلان نصر بْن سيار، فبث أبو مسلم دعاته في الناس، وظهر أمره، وقال الناس: قدم رجل من بني هاشم، فأتوه من كل وجه، فظهر يوم الفطر في قرية خالد بْن إبراهيم فصلى بالناس يوم الفطر القاسم بْن مجاشع المرائي، ثم ارتحل فنزل بالين- ويقال قرية اللين- لخزاعة، فوافاه في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام اثنين وأربعين يوما، فكان أول فتح أبي مسلم من قبل موسى بْن كعب في بيورد، وتشاغل بقتل عاصم بْن قيس، ثم جاء فتح من قبل مروروذ.
                      قَالَ أبو جعفر: وأما أبو الخطاب فإنه قَالَ: كان مقدم أبي مسلم أرض مرو منصرفا من قومس، وقد أنفذ من قومس قحطبة بْن شبيب بالأموال التي كانت معه والعروض إلى الإمام إبراهيم بْن محمد، وانصرف إلى مرو، فقدمها في شعبان سنة تسع وعشرين ومائة لتسع خلون منه يوم الثلاثاء، فنزل قرية تدعى فنين على أبي الحكم عيسى بْن أعين النقيب، وهي قرية أبي داود النقيب، فوجه منها أبا داود ومعه عمرو بْن أعين إلى طخارستان فما دون بلخ بإظهار الدعوة في شهر رمضان من عامهم، ووجه النضر بْن صبيح التميمي ومعه شريك بْن غضي التميمي إلى مرو الروذ بإظهار الدعوة في شهر رمضان، ووجه أبا عاصم عبد الرحمن بْن سليم إلى الطالقان، ووجه أبا الجهم بْن عطية إلى العلاء بْن حريث بخوارزم بإظهار الدعوة في شهر رمضان لخمس بقين من الشهر، فإن أعجلهم عدوهم دون الوقت، فعرض لهم بالأذى والمكروه فقد حل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم، وأن يظهروا السيوف ويجردوها من أغمادها، ويجاهدوا أعداء الله ومن شغلهم عدوهم عن الوقت. فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت.
                      ثم تحول أبو مسلم عن منزل أبي الحكم عيسى بن اعين، فنزل على سليمان ابن كثير الخزاعي في قريته التي تدعى سفيذنج من ربع خرقان لليلتين خلتا من شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فلما كانت ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان سنه تسع وعشرين ومائه اعتقدوا اللواء الذي بعث به الإمام إليه الذي يدعى الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام التي تدعى السحاب على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، وهو يتلو: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» ، ولبس السواد هو وسليمان بْن كثير وأخوة سليمان ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج، منهم غيلان بْن عبد الله الخزاعي- وكان صهر سليمان على أخته أم عمرو بنت كثير- ومنهم حميد بْن رزين وأخوه عثمان بن رزين، فأوقدوا النيران ليلتهم أجمع للشيعة من سكان ربع خرقان- وكانت العلامة بين الشيعة- فتجمعوا له حين أصبحوا مغذين، وتاويل هذين الاسمين: الظل والسحاب، أن السحاب يطبق الأرض، وكذلك دعوة بني العباس، وتأويل الظل أن الأرض لا تخلو من الظل أبدا، وكذلك لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر.
                      وقدم على أبي مسلم الدعاة من أهل مرو بمن أجاب الدعوة، وكان أول من قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضاح الهرمز فرى عيسى بن شبيل
                      في تسعمائة رجل واربعه فرسان، ومن اهل هرمز فره سليمان بْن حسان وأخوه يزدان بْن حسان والهيثم بْن يزيد بْن كيسان، وبويع مولى نصر بْن معاوية وأبو خالد الحسن وجردي ومحمد بْن علوان، وقدم أهل السقادم مع أبي القاسم محرز بْن إبراهيم الجوباني في الف وثلاثمائة راجل وستة عشر فارسا، ومنهم من الدعاة أبو العباس المروزي وخذام بْن عمار وحمزة بْن زنيم، فجعل أهل السقادم يكبرون من ناحيتهم وأهل السقادم مع محرز بْن إبراهيم يجيبونهم بالتكبير، فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج، وذلك يوم السبت من بعد ظهور أبي مسلم بيومين، وأمر أبو مسلم أن يرم حصن سفيذنج ويحصن ويدرب، فلما حضر العيد يوم الفطر بسفيذنج أمر أبو مسلم سليمان بْن كثير أن يصلي به وبالشيعة، ونصب له منبرا في العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة- وكانت بنو أمية تبدأ بالخطبة والأذان، ثم الصلاة بالإقامة على صلاة يوم الجمعة، فيخطبون على المنابر جلوسا في الجمعة والأعياد- وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير ان يكبر الركعة الاولى ست تكبيرات تباعا، ثم يقرأ ويركع بالسابعة، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعا، ثم يقرا ويركع بالسادسه، ويفتتح الخطبة بالتكبير ويختمها بالقرآن، وكانت بنو أمية تكبر في الركعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد، وفي الثانية ثلاث تكبيرات
                      [لم يرد في خبر صحيح ولا ضعيف أن بني أمية قد غيروا في عدد تكبيرات صلاة العيد، فهذا غير صحيح، والخبر هنا بلا إسناد. أما تقديم الخطبة، فقد حدث مرات قليلة دون أن يكون من الأمور المتكررة، والمعهودة. بل أنكرها الصحابة كأبي سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما ولو كانت مستمرة في عهد الأمويين لغيرها عمر بن عبد العزيز، أو من بعده هشام فهما ممن قمع البدعة وأحيا الشنة والله أعلم]
                      فلما قضى سليمان بْن كثير الصلاة والخطبة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعده لهم أبو مسلم الخراساني، فطعموا مستبشرين وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب إلى نصر بْن سيار يكتب: للأمير نصر، فلما قوي أبو مسلم بمن اجتمع إليه في خندقه من الشيعة بدأ بنفسه، فكتب إلى نصر: اما بعد، فان الله تبارك أسماؤه وتعالى ذكره عير أقواما في القرآن فقال: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا».
                      فتعاظم نصر الكتاب وأنه بدأ بنفسه، وكسر له احدى عينيه واطال الفكره وقال: هذا كتاب له جواب فلما استقر بابى مسلم معسكره بالماخوان امر محرز ابن إبراهيم أن يخندق خندقا بجيرنج، ويجتمع إليه أصحابه ومن نزع إليه من الشيعة، فيقطع مادة نصر بْن سيار من مروروذ وبلخ وكور طخارستان.
                      ففعل ذلك محرز بْن إبراهيم، واجتمع له في خندق نحو من ألف رجل، فأمر أبو مسلم أبا صالح كامل بْن مظفر أن يوجه رجلا إلى خندق محرز بْن إبراهيم لعرض من فيه وإحصائهم في دفتر بأسمائهم وأسماء آبائهم وقراهم، فوجه ابو صالح حميدا الأزرق لذلك، وكان كاتبا، فأحصى في خندق محرز ثمانمائه رجل وأربعة رجال من أهل الكف، وكان فيهم من القواد المعروفين زياد بْن سيار الأزدي من قرية تدعى اسبوادق من ربع خرقان، وخذام بْن عمار الكندي من ربع السقادم ومن قرية تدعى بالأوايق، وحنيفة بْن قيس من ربع السقادم، ومن قرية تدعى الشنج، وعبدويه الجردامذ بْن عبد الكريم من أهل هراة، وكان يجلب الغنم إلى مرو، وحمزة بْن زنيم الباهلي من ربع خرقان من قريه تدعى ميلاذجرد، وأبو هاشم خليفة بْن مهران من ربع السقادم من قرية تدعى جوبان وأبو خديجة جيلان بْن السغدي وأبو نعيم موسى بْن صبيح فلم يزل محرز بْن إبراهيم مقيما في خندقه حتى دخل أبو مسلم حائط مرو، وعطل الخندق بماخوان وإلى أن عسكر بمار سرجس يريد نيسابور، فضم إليه محرز بْن إبراهيم اصحابه، وكان من الاحداث، وابو مسلم بسفيدنج أن نصر بْن سيار وجه مولى له يقال له يزيد في خيل عظيمة لمحاربة أبي مسلم بعد ثمانية عشر شهرا من ظهوره، فوجه اليه ابو مسلم مالك ابن الهيثم الخزاعي ومعه مصعب بْن قيس، فالتقوا بقرية تدعى آلين، فدعاهم مالك إلى الرضا من آل رسول الله ص، فاستكبروا عن ذلك، فصافهم مالك وهو في نحو من مائتين من أول النهار إلى وقت العصر.
                      وقدم على أبي مسلم صالح بْن سليمان الضبي وإبراهيم بْن يزيد وزياد بْن عيسى فوجههم إلى مالك بْن الهيثم، فقدموا عليه مع العصر، فقوي بهم أبو نصر، فقال يزيد مولى نصر بْن سيار لأصحابه: إن تركنا هؤلاء الليلة أتتهم الإمداد، فاحملوا على القوم، ففعلوا، وترجل أبو نصر وحض أصحابه، وقال: إني لأرجو أن يقطع الله من الكافرين طرفا، فاجتلدوا جلادا صادقا، وصبر الفريقان، فقتل من شيعة بني مروان أربعة وثلاثون رجلا، وأسر منهم ثمانية نفر، وحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر عميد القوم فأسره، وانهزم أصحابه، فوجه أبو نصر عبد الله الطائي بأسيره في رجال من الشيعة، ومعهم الأسرى والرءوس، وأقام أبو نصر في معسكره بسفيذنج، وفي الوفد أبو حماد المروزي وأبو عمرو الأعجمي، فأمر أبو مسلم بالرءوس فنصبت على باب الحائط الذي في معسكره، ودفع يزيد الأسلمي إلى أبي إسحاق خالد بْن عثمان، وأمره أن يعالج يزيد مولى نصر من جراحات كانت به، ويحسن تعاهده، وكتب إلى أبي نصر بالقدوم عليه، فلما اندمل يزيد مولى نصر من جراحاته دعاه أبو مسلم، فقال: إن شئت أن تقيم معنا وتدخل في دعوتنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالما، وأعطنا عهد الله الا تحاربنا والا تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت، فاختار الرجوع إلى مولاه، فخلى له الطريق وقال أبو مسلم: إن هذا سيرد عنكم اهل الورع والصلاح، فانا عندهم على غير الإسلام.
                      وقدم يزيد على نصر بْن سيار، فقال: لا مرحبا بك، والله ما ظننت استبقاك القوم الا ليتخذوك حجة علينا، فقال يزيد: فهو والله ما ظننت، وقد استحلفوني ألا أكذب عليهم، وأنا أقول: إنهم يصلون الصلوات لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون الكتاب، ويذكرون الله كثيرا، ويدعون إلى ولايه رسول الله ص، وما أحسب أمرهم إلا سيعلو، ولولا إنك مولاي أعتقتني من الرق ما رجعت إليك، ولأقمت معهم فهذه أول حرب كانت بين الشيعة وشيعة بني مروان.
                      قَالَ أبو جعفر: وقال غير الذين ذكرنا قولهم في أمر أبي مسلم وإظهاره الدعوة ومصيره إلى خراسان وشخوصه عنها وعوده إليها بعد الشخوص قولا خلاف قولهم، والذي قَالَ في ذلك: ان إبراهيم الإمام زوج أبا مسلم لما توجه إلى خراسان ابنة أبي النجم، وساق عنه صداقها، وكتب بذلك إلى النقباء، وأمرهم بالسمع والطاعة لأبي مسلم، وكان أبو مسلم- فيما زعم- من أهل خطرنية، من سواد الكوفة، وكان قهرمانا لإدريس بْن معقل العجلي، فآل أمره ومنتهى ولائه لمحمد بْن علي، ثم لإبراهيم بْن محمد، ثم للأئمة من أولاد محمد ابن علي فقدم خراسان وهو حديث السن، فلم يقبله سليمان بْن كثير وتخوف ألا يقوى على أمرهم، وخاف على نفسه وأصحابه، فردوه- وأبو داود خالد بْن إبراهيم غائب خلف نهر بلخ- فلما انصرف أبو داود، وقدم مرو أقرأه كتاب الإمام إبراهيم، فسأل عن الرجل الذي وجهه، فأخبروه أن سليمان بْن كثير رده، فأرسل إلى جميع النقباء، فاجتمعوا في منزل عمران بْن إسماعيل، فقال لهم أبو داود: أتاكم كتاب الإمام فيمن وجهه إليكم وأنا غائب فرددتموه، فما حجتكم في رده؟ فقال سليمان بْن كثير: لحداثة سنه، وتخوفا ألا يقدر على القيام بهذا الأمر، فأشفقنا على من دعونا إليه وعلى أنفسنا وعلى المجيبين لنا، فقال: هل فيكم أحد ينكر أن الله تبارك وتعالى اختار محمدا ص وانتخبه واصطفاه، وبعثه برسالته إلى جميع خلقه؟ فهل فيكم أحد ينكر ذلك؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتشكون أن الله تعالى نزل عليه كتابه فأتاه به جبريل الروح الأمين، أحل فيه حلاله، وحرم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وسن فيه سننه، وأنبأه فيه بما كان قبله، وما هو كائن بعده إلى يوم القيامة؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتشكون أن الله عز وجل قبضه إليه بعد ما أدى ما عليه من رسالة ربه؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتظنون أن ذلك العلم الذي أنزل عليه رفع معه أو خلفه؟ قالوا: بل خلفه، قَالَ: أفتظنونه خلفه عند غير عترته وأهل بيته، الأقرب فالأقرب؟ قالوا: لا، قَالَ: فهل أحد منكم إذا رأى من هذا الأمر إقبالا، وراى الناس له مجيبين بدا له أن يصرف ذلك إلى نفسه؟ قالوا: اللهم لا، وكيف يكون ذلك! قَالَ: لست أقول لكم فعلتم، ولكن الشيطان ربما نزع النزعة فيما يكون. وفيما لا يكون.
                      قَالَ: فهل فيكم أحد بدا له أن يصرف هذا الأمر عن أهل البيت إلى غيرهم من عتره النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتشكون أنهم معدن العلم واصحاب ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا، قَالَ: فأراكم شككتم في أمرهم ورددتم عليهم علمهم، ولو لم يعلموا أن هذا الرجل هو الذى ينبغى له ان يقوم بامرهم، لما بعثوه إليكم، وهو لا يتهم في موالاتهم ونصرتهم والقيام بحقهم.
                      [هذا خبر باطل لا سند له، وفي متنه نكارة. وعلم الشرع لم يكن حكرا على العترة وآل البيت رضي الله عنهم. بل حفظه علماء الصحابة بلا استثنا، وأدوه إلى من بعدهم بكل أمانة، وسامح الله الطبري كيف التقط هذه الأخبار المليئة بالنكارات ولم يعلق عليها ولو بكلمة، واكتفى بتبرئة ذمته في مقدمة تأريخه]

                      فبعثوا إلى أبي مسلم فردوه من قومس بقول أبي داود، وولوه أمرهم وسمعوا له وأطاعوا ولم تزل في نفس أبي مسلم على سليمان بْن كثير، ولم يزل يعرفها لأبي داود وسمعت الشيعة من النقباء وغيرهم لأبي مسلم، وأطاعوه وتنازعوا، وقبلوا ما جاء به، وبث الدعاة في أقطار خراسان، فدخل الناس أفواجا، وكثروا، وفشت الدعاة بخراسان كلها وكتب إليه إبراهيم الإمام يأمره أن يوافيه بالموسم في هذه السنة- وهي سنة تسع وعشرين ومائة-، ليأمره بأمره في إظهار دعوته، وأن يقدم معه بقحطبة بْن شبيب، ويحمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال، وقد كان اجتمع عنده ثلاثمائة ألف وستون ألف درهم، فاشترى بعامتها عروضا من متاع التجار، من القوهي والمروي والحرير والفرند، وصير بقيته سبائك ذهب وفضة وصيرها في الأقبية المحشوة، واشترى البغال وخرج في النصف من جمادى الآخرة، ومعه من النقباء قحطبة بْن شبيب والقاسم بْن مجاشع وطلحة بْن رزيق، ومن الشيعة واحد وأربعون رجلا، وتحمل من قرى خزاعة، وحمل أثقاله على واحد وعشرين بغلا، وحمل على كل بغل رجلا من الشيعة بسلاحه، وأخذ المفازة وعدا عن مسلحة نصر بْن سيار حتى انتهوا الى ابيورد.
                      فكتب أبو مسلم إلى عثمان بْن نهيك وأصحابه يأمرهم بالقدوم عليه، وبينه وبينهم خمسة فراسخ، فقدم عليه منهم خمسون رجلا، ثم ارتحلوا من أبيورد، حتى انتهوا إلى قرية يقال لها قافس، من قرى نسا، فبعث الفضل ابن سليمان إلى أندومان- قرية أسيد- فلقي بها رجلا من الشيعة، فسأله عن أسيد، فقال له الرجل: وما سؤالك عنه! فقد كان اليوم شر طويل من العامل أخذ، فأخذ معه الأحجم بْن عبد الله وغيلان بْن فضالة وغالب ابن سعيد والمهاجرين بْن عثمان، فحملوا إلى العامل عاصم بْن قيس بْن الحروري، فحبسهم وارتحل أبو مسلم وأصحابه حتى انتهوا إلى أندومان، فأتاه أبو مالك والشيعة من اهل نسا، فاخبره أبو مالك أن الكتاب الذي كان مع رسول الإمام عنده، فأمره أن يأتيه به، فأتاه بالكتاب وبلواء وراية، فإذا في الكتاب اليه يأمره بالانصراف حيثما يلقاه كتابه، وأن يظهر الدعوة فعقد اللواء الذي أتاه من الإمام على رمح، وعقد الراية، واجتمع إليه شيعة أهل نسا والدعاة والرءوس، ومعه أهل أبيورد الذين قدموا معه.
                      وبلغ ذلك عاصم بْن قيس الحروري، فبعث إلى أبي مسلم يسأله عن حاله، فأخبره أنه من الحاج الذين يريدون بيت الله، ومعه عدة من
                      أصحابه من التجار، وسأله أن يخلي سبيل من أحتبس من أصحابه حتى يخرج من بلاده، فسألوا أبا مسلم أن يكتب لهم شرطا على نفسه، ان يصرف من معه من العبيد وما معه من الدواب والسلاح، على أن يخلوا سبيل أصحابه الذين قدموا من بلاد الإمام وغيرهم فأجابهم أبو مسلم إلى ذلك، وخلى سبيل أصحابه، فأمر أبو مسلم الشيعة من أصحابه أن ينصرفوا، وقرأ عليهم كتاب الإمام، وأمرهم بإظهار الدعوة، فانصرف منهم طائفة وسار معه أبو مالك أسيد بْن عبد الله الخزاعي وزريق بْن شوذب ومن قدم عليه من أبيورد، وأمر من انصرف بالاستعداد ثم سار فيمن بقي من اصحابه ومعه قحطبه ابن شبيب، حتى نزلوا تخوم جرجان، وبعث إلى خالد بْن برمك وأبي عون يأمرهما بالقدوم عليه بما قبلهما من مال الشيعة، فقدما عليه، فأقام أياما حتى اجتمعت القوافل وجهز قحطبة بْن شبيب، ودفع إليه المال الذي كان معه، والأحمال بما فيها، ثم وجهه إلى إبراهيم بْن محمد، وسار أبو مسلم بمن معه حتى انتهى إلى نسا، ثم ارتحل منها إلى أبيورد حتى قدمها، ثم سار حتى أتى مرو متنكرا، فنزل قرية تدعى فنين من قرى خزاعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان، وقد كان واعد أصحابه أن يوافوه بمرو يوم الفطر.
                      ووجه أبا داود وعمرو بْن أعين إلى طخارستان، والنضر بْن صبيح إلى آمل وبخارى ومعه شريك بْن عيسى، وموسى بْن كعب إلى أبيورد ونسا، وخازم بْن خزيمة إلى مروروذ، وقدموا عليه، فصلى بهم القاسم بْن مجاشع التميمي يوم العيد، في مصلى آل قنبر، في قرية أبي داود خالد بْن إبراهيم.

                      ذكر تعاقد اهل خراسان على قتال ابى مسلم
                      وفي هذه السنة تحالفت وتعاقدت عامة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال ابى مسلم، وذلك حين كثر تباع أبي مسلم وقوي أمره. وفيها تحول أبو مسلم من معسكره بإسفيذنج إلى الماخوان.
                      *ذكر الخبر عن ذلك والسبب فيه:
                      قَالَ علي: أخبرنا الصباح مولى جبريل، عن مسلمة بْن يحيى، قال:
                      لما ظهر أبو مسلم، تسارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه، لا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم، وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم، لأنه دعا إلى خلع مروان بْن محمد، وأبو مسلم في قرية يقال لها بالين في خباء ليس له حرس ولا حجاب، وعظم أمره عند الناس، وقالوا: ظهر رجل من بني هاشم، له حلم ووقار وسكينة، فانطلق فتية من أهل مرو، نساك كانوا يطلبون الفقه، فأتوا أبا مسلم في معسكره، فسألوه عن نسبه، فقال: خبري خير لكم من نسبي، وسألوه عن أشياء من الفقه، فقال: أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا، ونحن في شغل، ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم، فاعفونا قالوا: والله ما نعرف لك نسبا، ولا نظنك تبقى إلا قليلا حتى تقتل، وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرغ أحد هذين، قَالَ أبو مسلم: بل أنا أقتلهما إن شاء الله.
                      فرجع الفتية فأتوا نصر بْن سيار فحدثوه، فقال: جزاكم الله خيرا، مثلكم تفقد هذا وعرفه وأتوا شيبان فأعلموه، فأرسل: إنا قد أشجى بعضنا بعضا، فأرسل إليه نصر: إن شئت فكف عني حتى أقاتله، وإن شئت فجامعني على حربه حتى أقتله أو أنفيه، ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه فهم شيبان أن يفعل، فظهر ذلك في العسكر، فأتت عيون أبي مسلم فأخبروه، فقال سليمان: ما هذا الأمر الذي بلغهم! تكلمت عند أحد بشيء؟ فأخبره خبر الفتية الذين أتوه، فقال: هذا لذاك إذا فكتبوا إلى علي بْن الكرماني: إنك موتور، قتل أبوك ونحن نعلم أنك لست على رأي شيبان، وإنما تقاتل لثأرك فامنع شيبان من صلح نصر، فدخل على شيبان، فكلمه فثناه عن رأيه، فأرسل نصر إلى شيبان: إنك لمغرور، وايم الله ليتفاقمن هذا الأمر حتى تستصغرني في جنبه.
                      [قال ابن الأثير: "وقال شعرا يخاطب به ربيعة واليمن، ويحثهم على الإنفاق معه على حرب أبي مسلم:
                      أبلغ ربيعة في مرو وفي يمن ... أن اغضبوا قبل ألا ينفع الغضب
                      ما بالكم تنشبون الحرب بينكم ... كأن أهل الحجى عن رأيكم غيب
                      وتتركون عدوا قد أحاط بكم ... ممن تأشب لا دين ولا حسب
                      لا عرب مثلكم في الناس تعرفهم ... ولا صريح موال إن هم نسبوا
                      من كان يسألني عن أهل دينهم ... فغن دينهم أن تهلك العرب
                      قوم يقولون قولا ما سمعت به ... عن النبي ولا جاءت به الكتب]

                      فبينا هم في أمرهم إذ بعث أبو مسلم النضر بْن نعيم الضبي إلى هراة وعليها عيسى بْن عقيل الليثي، فطرده عن هراة، فقدم عيسى على نصر منهزما، وغلب النضر على هراة قَالَ: فقال يحيى بْن نعيم بْن هبيرة: اختاروا إما أن تهلكوا أنتم قبل مضر أو مضر قبلكم، قالوا: وكيف ذاك؟ قَالَ: إن هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر، وقد صار في عسكره مثل عسكركم، قالوا: فما الرأي؟ قَالَ: صالحوا نصرا، فإنكم إن صالحتموه قاتلوا نصرا وتركوكم، لأن الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصرا صالحوه وقاتلوكم، ثم عادوا عليكم. قالوا: فما الرأي؟ قَالَ: قدموهم قبلكم ولو ساعة، فتقر أعينكم بقتلهم. فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه، فأرسل إلى سلم بْن أحوز، فكتب بينهم كتابا، فأتى شيبان وعن يمينه ابن الكرماني، وعن يساره يحيى ابن نعيم، فقال سلم لابن الكرماني: يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن يكون هلاك مضر على يديه! ثم توادعوا سنة، وكتبوا بينهم كتابا فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان: إنا نوادعك أشهرا، فتوادعنا ثلاثة أشهر، فقال ابن الكرماني: فإني ما صالحت نصرا، وإنما صالحه شيبان، وأنا لذلك كاره، وأنا موتور، ولا أدع قتاله فعاوده القتال، وأبى شيبان أن يعينه، وقال: لا يحل الغدر فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره على نصر بْن سيار، فأقبل أبو مسلم حتى أتى الماخوان، وأرسل إلى ابن الكرماني شبل بْن طهمان: إني معك على نصر، فقال ابن الكرماني: إني أحب أن يلقاني أبو مسلم، فأبلغه ذلك شبل، فأقام أبو مسلم أربعة عشر يوما، ثم سار إلى ابن الكرماني، وخلف عسكره بالماخوان، فتلقاه عثمان بْن الكرماني في خيل، وسار معه حتى دخل العسكر، وأتى لحجرة علي فوقف، فاذن له فدخل، فسلم على علي بالإمرة، وقد اتخذ له على منزلا في قصر لمخلد بْن الحسن الأزدي، فأقام يومين، ثم انصرف إلى عسكره بالماخوان، وذلك لخمس خلون من المحرم من سنة ثلاثين ومائة.
                      وأما أبو الخطاب، فإنه قَالَ: لما كثرت الشيعة في عسكر أبي مسلم، ضاقت به سفيذنج، فارتاد معسكرا فسيحا، فأصاب حاجته بالماخوان، - وهي قرية العلاء بْن حريث وأبي إسحاق خالد بن عثمان، وفيها ابو الجهم ابن عطية وإخوته- وكان مقامه بسفيذنج اثنين وأربعين يوما، وارتحل من سفيذنج إلى الماخوان، فنزل منزل أبي إسحاق خالد بْن عثمان يوم الأربعاء، لتسع ليال خلون من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين ومائة، فاحتفر بها خندقا، وجعل للخندق بابين، فعسكر فيه والشيعة، ووكل بأحد بابي الخندق مصعب بْن قيس الحنفي وبهدل بْن إياس الضبي، ووكل بالباب الآخر أبا شراحيل وأبا عمرو الأعجمي، واستعمل على الشرط أبا نصر مالك ابن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بْن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل ابن مظفر أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بْن صبيح، والقاسم بْن مجاشع النقيب التميمي على القضاء، وضم أبا الوضاح وعدة من أهل السقادم إلى مالك بْن الهيثم، وجعل أهل نوشان- وهم ثلاثة وثمانون رجلا- إلى أبي إسحاق في الحرس.
                      وكان القاسم بْن مجاشع يصلي بأبي مسلم الصلوات في الخندق، ويقص القصص بعد العصر، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أمية فنزل أبو مسلم خندق الماخوان، وهو كرجل من الشيعة في هيئته، حتى أتاه عبد الله بْن بسطام، فأتاه بالأروقة والفساطيط والمطابخ والمعالف للدواب وحياض الأدم للماء، فأول عامل استعمله أبو مسلم على شيء من العمل داود بْن كراز، فرد ابو مسلم العبيد عن أن يضاموا في خندقه، واحتفر لهم خندقا في قرية شوال، وولى الخندق داود بْن كراز فلما اجتمعت للعبيد جماعة، وجههم إلى موسى بْن كعب بأبيورد، وأمر أبو مسلم كامل بْن مظفر أن يعرض أهل الخندق باسمائهم وأسماء آبائهم فينسبهم الى القوى، ويجعل ذلك في دفتر، ففعل ذلك كامل أبو صالح، فبلغت عدتهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم ثلاثة دراهم لكل رجل، ثم اعطاهم أربعة على يدي أبي صالح كامل.
                      ثم إن أهل القبائل من مضر وربيعة وقحطان توادعوا على وضع الحرب، وعلى أن تجتمع كلمتهم على محاربة أبي مسلم، فإذا نفوه عن مرو نظروا في أمر أنفسهم وعلى ما يجتمعون عليه فكتبوا على أنفسهم بذلك كتابا وثيقا.
                      وبلغ أبا مسلم الخبر، فافظعه ذلك وأعظمه، فنظر أبو مسلم في أمره، فإذا ماخوان سافلة الماء، فتخوف أن يقطع عنه نصر بْن سيار الماء، فتحول إلى آلين- قرية أبي منصور طلحة بْن رزيق النقيب- وذلك بعد مقامه أربعة أشهر بخندق الماخوان، فنزل آلين في ذي الحجة من سنة تسع وعشرين ومائة، يوم الخميس لست خلون من ذي الحجة فخندق بآلين خندقا أمام القرية، فيما بينها وبين بلاش جرد، فصارت القرية من خلف الخندق، وجعل وجه دار المحتفز بن عثمان ابن بشر المزني في الخندق، وشرب أهل آلين من نهر يدعى الخرقان، لا يمكن نصر ابن سيار قطع الشرب عن آلين وحضر العيد يوم النحر، وأمر القاسم بْن مجاشع التميمي فصلى بأبي مسلم والشيعة في مصلى آلين، وعسكر نصر بْن سيار على نهر عياض، ووضع عاصم بْن عمرو ببلاش جرد، ووضع أبا الذيال بطوسان، ووضع بشر بْن أنيف اليربوعى بجلفر، ووضع حاتم بن الحارث ابن سريج بخرق، وهو يلتمس مواقعه أبي مسلم فأما أبو الذيال فأنزل جنده على أهلها مع أبي مسلم في الخندق، فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وذبحوا الدجاج والبقر والحمام، وكلفوهم الطعام والعلف، فشكت الشيعة ذلك إلى أبي مسلم، فوجه معهم خيلا، فلقوا أبا الذيال فهزموه، وأسروا من أصحابه ميمونا الأعسر الخوارزمي في نحو من ثلاثين رجلا، فكساهم أبو مسلم، وداوى جراحاتهم وخلى لهم الطريق.

                      *ذكر الخبر عن مقتله:
                      قد مضى قبل ذكرنا مقتل الحارث بْن سريج، وأن الكرماني هو الذي قتله ولما قتل الكرماني الحارث، خلصت له مرو بقتله إياه، وتنحى نصر ابن سيار عنها إلى أبرشهر، وقوي أمر الكرماني، فوجه نصر إليه- فيما قيل- سلم بْن أحوز، فسار في رابطة نصر وفرسانه، حتى لقي أصحاب الكرماني، فوجد يحيى بْن نعيم أبا الميلاء واقفا في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثنى في سبعمائة من فرسان الأزد، وابن الحسن بْن الشيخ الأزدي في ألف من فتيانهم، والحزمي السغدي في ألف رجل من أبناء اليمن، فلما تواقفوا قَالَ سلم بْن أحوز لمحمد بْن المثنى: يا محمد بْن المثنى، مر هذا الملاح بالخروج إلينا، فقال محمد لسلم: يا بن الفاعلة، لأبي علي تقول هذا! ودلف القوم بعضهم إلى بعض، فاجتلدوا بالسيوف، فانهزم سلم بْن أحوز، وقتل من أصحابه زيادة على مائة، وقتل من أصحاب محمد زيادة على عشرين، وقدم أصحاب نصر عليه فلولا، فقال له عقيل بْن معقل: يا نصر شأمت العرب، فأما إذ صنعت ما صنعت فجد وشمر عن ساق، فوجه عصمة بْن عبد الله الأسدي فوقف موقف سلم بْن أحوز، فنادى: يا محمد، لتعلمن أن السمك لا يغلب اللخم، فقال له محمد: يا بن الفاعلة، قف لنا إذا وأمر محمد السغدي فخرج إليه في أهل اليمن، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عصمة حتى أتى نصر بْن سيار، وقد قتل من اصحابه أربعمائة.
                      ثم أرسل نصر بْن سيار مالك بْن عمرو التميمي فأقبل في أصحابه، ثم نادى: يا بن المثنى، ابرز لي إن كنت رجلا! فبرز له، فضربه التميمي على حبل العاتق فلم يصنع شيئا، وضربه محمد بْن المثنى بعمود فشدخ رأسه، فالتحم القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا كأعظم ما يكون من القتال، فانهزم أصحاب نصر، وقد قتل منهم سبعمائة رجل، وقتل من اصحاب الكرماني ثلاثمائة رجل، ولم يزل الشر بينهم حتى خرجوا جميعا إلى الخندقين، فاقتتلوا قتالا شديدا، فلما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه، وأنه لا مدد لهم، جعل يكتب الكتب إلى شيبان، ثم يقول للرسول: اجعل طريقك على المضرية، فإنهم سيعرضون لك، ويأخذون كتبك، فكانوا يأخذونها فيقرءون فيها: إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم، فلا تثقن بهم ولا تطمئن إليهم، فإني أرجو أن يريك الله ما تحب، ولئن بقيت لا أدع لهم شعرا ولا ظفرا. ويرسل رسولا آخر في طريق آخر بكتاب فيه ذكر المضرية وإطراء اليمن بمثل ذلك، حتى صار هوى الفريقين جميعا معه، وجعل يكتب إلى نصر بْن سيار وإلى الكرماني: إن الإمام قد أوصاني بكم، ولست أعدو رأيه فيكم. وكتب إلى الكور بإظهار الأمر، فكان أول من سود- فيما ذكر- اسيد ابن عبد الله بنسا، ونادى: يا محمد، يا منصور وسود معه مقاتل بْن حكيم وابن غزوان، وسود أهل أبيورد وأهل مرو الروذ، وقرى مرو.
                      وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق نصر بْن سيار وخندق جديع الكرماني، وهابه الفريقان، وكثر أصحابه، فكتب نصر بن سيار الى مروان ابن محمد يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه ومن تبعه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بْن محمد، وكتب بأبيات شعر:
                      أرى بين الرماد وميض جمر ... فأحج بأن يكون له ضرام
                      فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب مبدؤها الكلام
                      فقلت من التعجب: ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام!
                      فكتب إليه الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك، فقال نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم ألا نصر عنده فكتب إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة يستمده، وكتب إليه بأبيات شعر:
                      أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ... وقد تبينت الأخير في الكذب
                      إن خراسان أرض قد رأيت بها ... بيضا لو أفرخ قد حدثت بالعجب
                      فراخ عامين إلا أنها كبرت ... لما يطرن وقد سربلن بالزغب
                      فإن يطرن ولم يحتل لهن بها ... يلهبن نيران حرب أيما لهب
                      فقال يزيد: لا غلبة إلا بكثرة، وليس عندي رجل وكتب نصر إلى مروان يخبره خبر أبي مسلم وظهوره وقوته، وأنه يدعو إلى إبراهيم بْن محمد، فألفى الكتاب مروان وقد أتاه رسول لأبي مسلم إلى إبراهيم، كان قد عاد من عند إبراهيم، ومعه كتاب إبراهيم إلى أبي مسلم جواب كتابه، يلعن فيه أبا مسلم ويسبه، حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ امكناه، ويأمره الا يدع بخراسان عربيا إلا قتله فدفع الرسول الكتاب إلى مروان، فكتب مروان إلى الوليد بْن معاوية بْن عبد الملك وهو على دمشق، يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء، فيسير إلى كرار الحميمة، فليأخذ إبراهيم بْن محمد ويشده وثاقا، وليبعث به إليه في خيل، فوجه الوليد إلى عامل البلقاء فأتى إبراهيم وهو في مسجد القرية، فأخذه وكتفه وحمله إلى الوليد، فحمله إلى مروان فحبسه مروان في السجن.
                      [هذا الخبر منكر. ذكره الطبري بلا غسناد وكيف يأمر الإمام إبراهيم أبا مسلم بقتل كل عربي لقيه بخراسان، ونقباء الدعوة العباسية عرب أقحاح، ومعظم جيوشهم من أهل الشام وغيرهم ن العرب، وإذا كان ذلك كذلك فلمَ لم يقتل أبو مسلم عرب أهل الشام في نهاوند، بعد أن انتصر عليهم، وكيف تثبت تهمة خطيرة كهذه بلا إسناد؟ وهل من المعقول أن يقول ذلك في ظرف هو في أمسّ الحاجة إلى استمالة قلوب الناس؟ وانظر تعليقنا على الخبر (7/344)]

                      رجع الحديث إلى حديث نصر والكرماني وبعث أبو مسلم حين عظم الأمر بين الكرماني ونصر إلى الكرماني: إني معك، فقبل ذلك الكرماني وانضم إليه أبو مسلم، فاشتد ذلك على نصر، فأرسل إلى الكرماني: ويلك لا تغترر! فو الله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه، ولكن هلم الى الموادعة، فتدخل مرو، فنكتب بيننا كتابا بصلح- وهو يريد أن يفرق بينه وبين أبي مسلم- فدخل الكرماني منزله، وأقام أبو مسلم في المعسكر، وخرج الكرماني حتى وقف في الرحبة في مائة فارس، وعليه قرطق خشكشونة ثم أرسل إلى نصر: اخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب، فأبصر نصر منه غرة، فوجه إليه ابن الحارث بْن سريج في نحو من ثلاثمائة فارس، فالتقوا في الرحبة، فاقتتلوا بها طويلا.
                      ثم إن الكرماني طعن في خاصرته فخر عن دابته، وحماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به، فقتل نصر الكرماني وصلبه، ومعه سمكة، فأقبل ابنه علي- وقد كان صار إلى أبي مسلم، وقد جمع جمعا كثيرا- فسار بهم إلى نصر بْن سيار فقاتله حتى أخرجه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو، وأقبل أبو مسلم حتى دخل مرو، فأتاه علي بْن جديع الكرماني فسلم عليه بالإمرة، وأعلمه أنه معه على مساعدته، وقال: مرني بأمرك، فقال: أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري.

                      *ذكر الخبر عن ذلك وعن السبب الذي وصل به إلى الغلبة عليها:
                      ذكر علي بْن محمد: أن عاصم بْن حفص التميمي وغيره حدثوه أن عبد الله ابن معاوية لما هزم بالكوفة، شخص إلى المدائن، فبايعه أهل المدائن، فأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج إلى الجبال فغلب عليها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، فلما غلب على ذلك أقام بأصبهان، وقد كان محارب بْن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس، فجاء يمشي في نعلين إلى دار الإمارة بإصطخر، فطرد العامل، عامل ابْن عمر عنها، وقال لرجل يقال له عماره: بايع الناس، فقال له اهل اصطخر: علام نبايع؟ قَالَ: على ما أحببتم وكرهتم فبايعوه لابن معاوية، وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليهم، وأصاب في غارته إبلا لثعلبة بْن حسان المازني فاستاقها ورجع.
                      فخرج ثعلبة يطلب إبله في قرية له تدعى أشهر- قَالَ: ومع ثعلبة مولى له- فقال له مولاه: هل لك ان نفتك بمحارب، فإن شئت ضربته وكفيتني الناس، وإن شئت ضربته وكفيتك الناس؟ قَالَ: ويحك! أردت ان تفتك
                      وتذهب الإبل ولم نلق الرجل! ثم دخل على محارب فرحب به ثم قال:
                      حاجتك! قال: ابلى، قال: نعم، لقد أخذت، وما أعرفها، وقد عرفتها، فدونك إبلك فأخذها، وقال لمولاه: هذا خير، وما اردت؟
                      قال: ذلك لو أخذناها كان أشفى وانضم إلى محارب القواد والأمراء من أهل الشام: فسار إلى مسلم بْن المسيب وهو بشيراز، عامل لابن عمر، فقتله في سنة ثمان وعشرين ومائة، ثم خرج محارب إلى أصبهان، فحول عبد الله بْن معاوية إلى إصطخر، واستعمل عبد الله أخاه الحسن على الجبال، فأقبل فنزل في دير على ميل من اصطخر، واستعمل أخاه يزيد على فارس فأقام، فأتاه الناس، بنو هاشم وغيرهم، وجبى المال، وبعث العمال، وكان معه منصور بْن جمهور وسليمان بْن هشام بْن عبد الملك وشيبان بْن الحلس بْن عبد العزيز الشيباني الخارجي، وأتاه أبو جعفر عبد الله، وعبد الله وعيسى ابنا علي وقدم يزيد بْن عمر بْن هبيرة على العراق، فأرسل نباتة بْن حنظلة الكلابي إلى عبد الله بْن معاوية، وبلغ سليمان بْن حبيب أن ابن هبيرة ولى نباتة الأهواز، فسرح داود بْن حاتم، فأقام بكربج دينار ليمنع نباتة من الأهواز، فقدم نباتة، فقاتله، فقتل داود، وهرب سليمان إلى سابور، وفيها الأكراد قد غلبوا عليها، وأخرجوا المسيح بن الحمارى، فقاتلهم سليمان، فطرد الأكراد عن سابور، وكتب إلى عبد الله بْن معاوية بالبيعة، فقال: عبد الرحمن ابن يزيد بْن المهلب: لا يفي لك، وإنما أراد أن يدفعك عنه، ويأكل سابور، فاكتب إليه فليقدم عليك إن كان صادقا فكتب إليه فقدم، وقال لأصحابه: ادخلوا معي، فإن منعكم أحد فقاتلوه، فدخلوا فقال لابن معاوية: أنا أطوع الناس لك، قَالَ: ارجع إلى عملك، فرجع.
                      ثم إن محارب بْن موسى نافر ابن معاوية، وجمع جمعا، فأتى سابور- وكان ابنه مخلد بْن محارب محبوسا بسابور، أخذه يزيد بْن معاوية فحبسه- فقال لمحارب: ابنك في يديه وتحاربه! أما تخاف أن يقتل ابنك! قَالَ: أبعده الله! فقاتله يزيد، فانهزم محارب، فأتى كرمان، فأقام بها حتى قدم محمد بْن الأشعث، فصار معه، ثم نافر ابن الأشعث فقتله وأربعة وعشرين ابنا له ولم يزل عبد الله بْن معاوية بإصطخر حتى أتاه ابن ضبارة مع داود ابن يزيد بْن عمر بْن هبيرة، فأمر ابن معاوية فكسروا قنطرة الكوفة، فوجه ابن هبيرة معن بْن زائدة من وجه آخر، فقال سليمان لأبان بْن معاوية بْن هشام: قد أتاك القوم، قَالَ: لم أومر بقتالهم، قَالَ: ولا تؤمر والله بهم أبدا، وأتاهم فقاتلهم عند مرو الشاذان، ومعن يرتجز:
                      ليس أمير القوم بالخب الخدع ... فر من الموت وفي الموت وقع
                      قال ابن المقفع او غيره:
                      فر من الموت وفيه قد وقع.
                      قَالَ: عمدا، قلت: قد عملت، فانهزم ابن معاوية، وكف معن عنهم، فقتل في المعركة رجل من آل أبي لهب، وكان يقال: يقتل رجل من بني هاشم بمرو الشاذان وأسروا أسراء كثيرة، فقتل ابن ضبارة عدة كثيرة، فيقال كان فيمن قتل يومئذ حكيم الفرد أبو المجد، ويقال: قتل بالأهواز، قتله نباتة.
                      ولما انهزم ابن معاوية هرب شيبان إلى جزيرة ابن كاوان ومنصور بْن جمهور إلى السند، وعبد الرحمن بْن يزيد إلى عمان، وعمرو بْن سهل بْن عبد العزيز إلى مصر، وبعث ببقية الأسراء إلى ابن هبيرة.
                      قَالَ حميد الطويل: أطلق أولئك الأسراء فلم يقتل منهم غير حصين بْن وعلة السدوسي، ولما أمر بقتله قَالَ: أقتل من بين الأسراء! قَالَ: نعم، أنت مشرك، أنت الذي تقول:
                      ولو آمر الشمس لم تشرق.
                      ومضى ابن معاوية من وجهه إلى سجستان ثم أتى خراسان ومنصور بْن جمهور إلى السند، فسار في طلبه معن بْن زائدة وعطية الثعلبي وغيره من بني ثعلبة، فلم يدركوه، فرجعوا وكان حصين بْن وعلة السدوسي مع يزيد بْن معاويه، فتركه معن بن زائده فبعث به معن إلى ابن ضبارة، فبعث به ابن ضبارة إلى واسط، وسار ابن ضبارة إلى عبد الله بْن معاوية بإصطخر، فنزل بإزائه على نهر إصطخر، فعبر ابن الصحصح في ألف، فلقيه من أصحاب عبد الله بْن معاوية أبان بْن معاوية بْن هشام فيمن كان معه من أهل الشام، ممن كان مع سليمان بْن هشام فاقتتلوا، فمال ابن نباتة إلى القنطرة، فلقيهم من كان مع ابن معاوية من الخوارج، فانهزم أبان والخوارج، فأسر منهم ألفا، فأتوا بهم ابن ضبارة، فخلى عنهم، وأخذ يومئذ عبد الله بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس في الأسراء، فنسبه ابن ضبارة، فقال: ما جاء بك إلى ابن معاوية، وقد عرفت خلافه أمير المؤمنين! قَالَ: كان علي دين فأديته فقام إليه حرب بْن قطن الكناني، فقال: ابن أختنا، فوهبه له، وقال: ما كنت لأقدم على رجل من قريش وقال له ابن ضبارة: إن الذي قد كنت معه قد عيب بأشياء، فعندك منها علم؟ قَالَ: نعم، وعابه ورمى أصحابه باللواط، فأتوا ابن ضبارة بغلمان عليهم أقبية قوهية مصبغة ألوانا، فأقامهم للناس وهم أكثر من مائة غلام، لينظروا إليهم وحمل ابن ضبارة عبد الله بْن علي على البريد إلى ابن هبيرة ليخبره أخباره، فحمله ابن هبيرة إلى مروان في أجناد أهل الشام، وكان يعيبه، وابن ضبارة يومئذ في مفازة كرمان في طلب عبد الله ابن معاوية، وقد أتى ابن هبيرة مقتل نباتة، فوجه ابن هبيرة كرب بْن مصقلة والحكم بْن أبي الأبيض العبسي وابن محمد السكوني، كلهم خطيب، فتكلموا في تقريظ ابن ضبارة، فكتب إليه أن سر بالناس إلى فارس، ثم جاءه كتاب ابن هبيرة: سر الى أصبهان.
                      [هذا خبر باطل. لم ينسبه الطبري إلى أحد من الرواة الذين شهدوا الواقعة وحضروا ذلك الحوار. وكل من لديه أدنى فهم وأبسط بصيرة يتبين نكارة ما في هذا المتن وبشاعة هذا الاتهام الموجه إلى أئمة أهل البيت الأطهار، فكيف بعبد الله بن معاوية الهاشمي يمارس الفاحشة ... غفر الله للطبري كيف جمع هذه الأخبار، ووقف بأعصاب باردة أمام هذا الاتهام الباطل الذي لا يصح إسنادا ولا متنا!!!]

                      زار الحجيج عصابة قد خالفوا ... دين الإله ففر عبد الواحد
                      ترك الحلائل والإمارة هاربا ... ومضى يخبط كالبعير الشارد
                      لو كان والده تنصل عرقه ... لصفت مضاربه بعرق الوالد
                      [رحم الله الطبري ما ضره لو لم يكتب هذه الأبيات التي تطعن في خليفة المسلمين الصالح سليمان بن عبد الملك (لو كان والده تنصل عرقه) أي والد عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك –علما بأن هذه الأبيات لرجل مجهول- وهي لا تقدم ولا تؤخر شيئا في مسار الواقعة التأريخية]




                      وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                      أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                      تعليق


                      • #56
                        رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                        ثم دخلت سنه ثلاثين ومائه
                        (ذكر خبر الاحداث التي كانت فيها)


                        *ذكر الخبر عن ذلك وسببه:
                        ذكر أبو الخطاب أن دخول أبي مسلم حائط مرو ونزوله دار الإمارة التي ينزلها عمال خراسان كان في سنة ثلاثين ومائة لتسع خلون من جمادى الآخرة يوم الخميس، وأن السبب في مسير علي بْن جديع مع أبي مسلم كان أن سليمان ابن كثير كان بإزاء علي بْن الكرماني حين تعاقد هو ونصر على حرب أبي مسلم، فقال سليمان بْن كثير لعلي بْن الكرماني: يقول لك أبو مسلم: أما تأنف من مصالحة نصر بْن سيار، وقد قتل بالأمس اباك وصلبه! ما كنت أحسبك تجامع نصر بْن سيار في مسجد تصليان فيه! فأدرك علي بْن الكرماني الحفيظة، فرجع عن رأيه وانتقض صلح العرب قال: ولما انتقض صلحهم بعث نصر ابن سيار إلى أبي مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعثت ربيعة وقحطان إلى أبي مسلم بمثل ذلك، فتراسلوا بذلك أياما، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما، ففعلوا وأمر أبو مسلم الشيعة أن يختاروا ربيعة وقحطان، فإن السلطان في مضر، وهم عمال مروان الجعدي، وهم قتلة يحيى بْن زيد فقدم الوفدان، فكان في وفد مضر عقيل بْن معقل بْن حسان الليثي وعبيد الله بْن عبد ربه الليثي والخطاب بن محرز السلمى، في رجال منهم وكان في وفد قحطان عثمان بْن الكرماني ومحمد بْن المثنى وسوره بن محمد ابن عزيز الكندي، في رجال منهم، فأمر أبو مسلم عثمان بْن الكرماني وأصحابه فدخلوا بستان المحتفز، وقد بسط لهم فيه، فقعدوا وجلس أبو مسلم في بيت في دار المحتفز، وأذن لعقيل بْن معقل وأصحابه من وفد مضر، فدخلوا إليه، ومع أبي مسلم في البيت سبعون رجلا من الشيعة، قرأ على الشيعة كتابا كتبه أبو مسلم ليختاروا أحد الفريقين، فلما فرغ من قراءة الكتاب، قام سليمان ابن كثير، فتكلم- وكان خطيبا مفوها- فاختار علي بْن الكرماني وأصحابه، وقام أبو منصور طلحة بْن رزيق النقيب فيهم- وكان فصيحا متكلما- فقال كمقالة سليمان بْن كثير، ثم قام مزيد بْن شقيق السلمي، فقال: مضر قتلة آل النبي ص وأعوان بني أمية وشيعة مروان الجعدي، ودماؤنا في أعناقهم، وأموالنا في أيديهم، والتباعات قبلهم، ونصر بْن سيار عامل مروان على خراسان ينفذ أموره، ويدعو له على منبره، ويسميه أمير المؤمنين، ونحن من ذلك إلى الله برآء وأن يكون مروان أمير المؤمنين، وأن يكون نصر على هدى وصواب، وقد اخترنا علي بْن الكرماني وأصحابه من قحطان وربيعة فقال السبعون الذين جمعوا في البيت بقول مزيد بْن شقيق.
                        فنهض وفد مضر عليهم الذلة والكآبة، ووجه معهم أبو مسلم القاسم بْن مجاشع في خيل حتى بلغوا مأمنهم، ورجع وفد علي بْن الكرماني مسرورين منصورين وكان مقام أبي مسلم بآلين تسعة وعشرين يوما، فرحل عن آلين راجعا إلى خندقه بالماخوان، وأمر أبو مسلم الشيعة أن يبتنوا المساكن، ويستعدوا للشتاء فقد أعفاهم الله من اجتماع كلمة العرب، وصيرهم بنا إلى افتراق الكلمة، وكان ذلك قدرا من الله مقدورا.
                        وكان دخول أبي مسلم الماخوان منصرفا عن آلين سنة ثلاثين ومائة، للنصف من صفر يوم الخميس، فأقام أبو مسلم في خندقه بالماخوان ثلاثة أشهر، تسعين يوما، ثم دخل حائط مرو يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة.
                        قَالَ: وكان حائط مرو إذ ذاك في يد نصر بْن سيار لأنه عامل خراسان،
                        فأرسل علي بْن الكرماني إلى أبي مسلم أن ادخل الحائط من قبلك، وأدخل أنا وعشيرتي من قبلي، فنغلب على الحائط فأرسل إليه أبو مسلم أن لست آمن أن يجتمع يدك ويد نصر على محاربتي، ولكن ادخل أنت فانشب الحرب بينك وبينه وبين أصحابه، فدخل علي بْن الكرماني فأنشب الحرب، وبعث أبو مسلم أبا علي شبل بْن طهمان النقيب في جند، فدخلوا الحائط، فنزل في قصر بخاراخذاه، فبعثوا إلى أبي مسلم أن ادخل، فدخل أبو مسلم من خندق الماخوان، وعلى مقدمته أسيد بْن عبد الله الخزاعي، وعلى ميمنته مالك بْن الهيثم الخزاعي، وعلى ميسرته القاسم بْن مجاشع التميمي، حتى دخل الحائط، والفريقان يقتتلان فأمرهما بالكف وهو يتلو من كتاب الله: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ» ومضى أبو مسلم حتى نزل قصر الإمارة بمرو الذي كان ينزله عمال خراسان، وكان ذلك لتسع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة، يوم الخميس.
                        وهرب نصر بْن سيار عن مرو الغد من يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الاولى من سنة ثلاثين ومائة، وصفت مرو لأبي مسلم فلما دخل أبو مسلم حائط مرو أمر أبا منصور طلحة بْن رزيق بأخذ البيعة على الجند من الهاشمية خاصة- وكان أبو منصور رجلا فصيحا نبيلا مفوها عالما بحجج الهاشمية وغوامض أمورهم، وهو أحد النقباء الاثني عشر، والنقباء الاثنا عشر هم الذين اختارهم محمد بْن علي من السبعين الذين كانوا استجابوا له حين بعث رسوله إلى خراسان سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة- وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمي أحدا، ومثل له مثالا ووصف من العدل صفة، فقدمها فدعا سرا، فأجابه ناس، فلما صاروا سبعين أخذ منهم اثنى عشر نقيبا.
                        منهم من خزاعة سليمان بْن كثير ومالك بن الهيثم وزياد بن صالح وطلحه ابن رزيق وعمرو بن اعين، ومن طيّئ قحطبة- واسمه زياد بْن شبيب بْن خالد بْن معدان- ومن تميم موسى بْن كعب أبو عيينة ولاهز بْن قريظ والقاسم بْن مجاشع، كلهم من بني امرئ القيس، وأسلم بْن سلام أبو سلام، ومن بكر بْن وائل أبو داود خالد بْن إبراهيم من بني عمرو بْن شيبان أخي سدوس وأبو علي الهروي.
                        ويقال: شبل بْن طهمان مكان عمرو بْن أعين وعيسى بْن كعب وأبو النجم عمران بْن إسماعيل مكان أبي علي الهروي، وهو ختن أبي مسلم.
                        ولم يكن في النقباء أحد والده حي غير ابى منصور طلحه بن رزيق بْن أسعد، وهو أبو زينب الخزاعي، وقد كان شهد حرب عبد الرحمن بْن محمد بْن الأشعث، وصحب المهلب بْن أبي صفرة وغزا معه، فكان أبو مسلم يشاوره في الأمور، ويسأله عما شهد من الحروب والمغازي، ويسأله عن الكنية بأبي منصور: يا أبا منصور، ما تقول؟ وما رأيك؟
                        قَالَ أبو الخطاب: فأخبرنا من شهد أبا منصور يأخذ البيعة على الهاشمية:
                        أبايعكم عَلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيه ص والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله ص، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، والطلاق والعتاق، والمشي إلى بيت الله، وعلى ألا تسألوا رزقا ولا طمعا حتى يبدأكم به ولاتكم، وإن كان عدو أحدكم تحت قدمه فلا تهيجوه إلا بأمر ولاتكم فلما حبس أبو مسلم سلم بْن أحوز ويونس بْن عبد ربه، وعقيل ابن معقل ومنصور بْن أبي الخرقاء وأصحابه، شاور أبا منصور، فقال: اجعل سوطك السيف، وسجنك القبر، فأقدمهم أبو مسلم فقتلهم، وكانت عدتهم أربعة وعشرين رجلا.
                        قَالَ علي: أخبرنا المفضل، قَالَ: لما قتل شيبان مر رجل من بكر بْن وائل- يقال له خفاف- برسل أبي مسلم الذين كان أرسلهم إلى شيبان، وهم في بيت، فأخرجهم وقتلهم.
                        وقيل: إن أبا مسلم وجه إلى شيبان عسكرا من قبله، عليهم خزيمة ابن خازم وبسام بن ابراهيم.
                        ذكر خبر قتل على وعثمان ابنى جديع
                        وفي هذه السنة قتل أبو مسلم عليا وعثمان ابني جديع الكرماني.
                        *ذكر سبب قتل أبي مسلم إياهما:
                        وكان السبب في ذلك- فيما قيل- إن أبا مسلم كان وجه موسى بن كعب الى ابيورد فافتتحها، او كتب إلى أبي مسلم بذلك، ووجه أبا داود إلى بلخ وبها زياد بْن عبد الرحمن القشيري، فلما بلغه قصد أبي داود بلخ خرج في أهل بلخ والترمذ وغيرهما من كور طخارستان إلى الجوزجان، فلما دنا أبو داود منهم، انصرفوا منهزمين إلى الترمذ، ودخل أبو داود مدينة بلخ، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجه مكانه يحيى بن نعيم أبا الميلاء على بلخ، فخرج أبو داود، فلقيه كتاب من أبي مسلم يأمره بالانصراف، فانصرف، وقدم عليه أبو الميلاء، فكاتب زياد بْن عبد الرحمن يحيى بْن نعيم أبو الميلاء أن يصير أيديهم واحدة، فأجابه، فرجع زياد بْن عبد الرحمن القشيري ومسلم ابن عبد الرحمن بْن مسلم الباهلي وعيسى بْن زرعة السلمي وأهل بلخ والترمذ وملوك طخارستان، وما خلف النهر وما دونه، فنزل زياد وأصحابه على فرسخ من مدينة بلخ، وخرج إليه يحيى بْن نعيم بمن معه حتى اجتمعوا، فصارت كلمتهم واحدة، مضريهم ويمانيهم وربعيهم ومن معهم من الأعاجم على قتال المسودة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بْن حيان النبطي، كراهة أن يكون من الفرق الثلاثة، وأمر أبو مسلم أبا داود بالعود، فأقبل أبو داود بمن معه حتى اجتمعوا على نهر السرجنان وكان زياد بْن عبد الرحمن وأصحابه قد وجهوا أبا سعيد القرشي مسلحة فيما بين العود وبين قريه يقال لها أمديان، لئلا يأتيهم أصحاب أبي داود من خلفهم وكانت أعلام أبي سعيد وراياته سودا، فلما اجتمع أبو داود وزياد وأصحابهما، واصطفوا للقتال، أمر أبو سعيد القرشي أصحابه أن يأتوا زيادا وأصحابه من خلفهم، فرجع وخرج عليهم من سكة العود وراياته سود، فظن أصحاب زياد أنهم كمين لأبي داود، وقد نشب القتال بين الفريقين، فانهزم زياد ومن معه، وتبعهم أبو داود، فوقع عامة أصحاب زياد في نهر السرجنان، وقتل عامة رجالهم المتخلفين، ونزل أبو داود عسكرهم، وحوى ما فيه، ولم يتبع زيادا ولا اصحابه واكثر من تبعهم سرعان من سرعان خيل أبي داود إلى مدينة بلخ لم يجاوزها ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى الترمذ، واقام ابو داود يومه ذلك ومن الغد، ولم يدخل مدينه بلخ واستصفى أموال من قتل بالسرجنان ومن هرب من العرب وغيرهم، واستقامت بلخ لأبي داود.
                        ثم كتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجه النضر بْن صبيح المري على بلخ وقدم أبو داود، واجتمع رأي أبي داود وأبي مسلم على أن يفرقا بين علي وعثمان ابني الكرماني، فبعث أبو مسلم عثمان عاملا على بلخ، فلما قدمها استخلف الفرافصة بْن ظهير العبسي على مدينة بلخ، وأقبلت المضرية من ترمذ، عليهم مسلم بْن عبد الرحمن الباهلي، فالتقوا وأصحاب عثمان بْن جديع بقرية بين البروقان وبين الدستجرد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب عثمان بْن جديع، وغلب المضرية ومسلم بْن عبد الرحمن على مدينة بلخ، وأخرجوا الفرافصة منها وبلغ عثمان بن جديع الخبر والنضر ابن صبيح، وهما بمرو الروذ، فأقبلا نحوهم، وبلغ أصحاب زياد بْن عبد الرحمن فهربوا من تحت ليلتهم، وعتب النضر في طلبهم، رجاء أن يفوتوا، ولقيهم أصحاب عثمان بْن جديع، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب عثمان بْن جديع، وأكثروا فيهم القتل، ومضت المضرية إلى أصحابها، ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم ومعه علي بْن جديع إلى نيسابور.
                        واتفق رأي أبي مسلم ورأي أبي داود على أن يقتل أبو مسلم عليا، ويقتل أبو داود عثمان في يوم واحد فلما قدم أبو داود بلخ بعث عثمان عاملا على الختل فيمن معه من يماني اهل مرو واهل بلخ وربيعهم فلما خرج من بلخ خرج أبو داود فاتبع الاثر فلحق عثمان على شاطئ نهر بوخش من أرض الختل، فوثب أبو داود على عثمان وأصحابه، فحبسهم جميعا ثم ضرب أعناقهم صبرا وقتل أبو مسلم في ذلك اليوم علي بْن الكرماني، وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمي له خاصته ليوليهم، ويأمر لهم بجوائز وكسا، فسماهم له فقتلهم جميعا.
                        قَالَ أبو جعفر: فأما غير الذين روى عنهم علي بْن محمد ما ذكرنا في أمر قحطبة وتوجيه أبي مسلم إياه إلى نصر وأصحابه، فإنه ذكر أن أبا مسلم لما قتل شيبان الخارجي وابني الكرماني، ونفى نصرا عن مرو، وغلب على خراسان، وجه عماله على بلادها، فاستعمل سباع بْن النعمان الأزدي على سمرقند وأبا داود خالد بْن إبراهيم على طخارستان، ووجه محمد بْن الأشعث إلى الطبسين وفارس، وجعل مالك بْن الهيثم على شرطته، ووجه قحطبة إلى طوس، ومعه عدة من القواد، منهم أبو عون عبد الملك بْن يزيد ومقاتل بْن حكيم العكي وخالد بْن برمك وخازم بْن خزيمة والمنذر بْن عبد الرحمن وعثمان ابن نهيك وجهور بْن مرار العجلي وأبو العباس الطوسي وعبد الله بْن عثمان الطائي وسلمة بْن محمد وأبو غانم عبد الحميد بْن ربعي وأبو حميد وأبو الجهم- وجعله أبو مسلم كاتبا لقحطبة على الجند- وعامر بْن إسماعيل ومحرز بْن إبراهيم، في عدة من القواد، فلقي من بطوس فانهزموا، وكان من مات منهم في الزحام أكثر ممن قتل، فبلغ عدة القتلى يومئذ بضعة عشر ألفا ووجه أبو مسلم القاسم بْن مجاشع إلى نيسابور على طريق المحجة، وكتب إلى قحطبة يأمره بقتال تميم بْن نصر بْن سيار والنابى بن سويد، ومن لجأ إليهما من أهل خراسان، وأن يصرف إليه موسى بْن كعب إلى من أبيورد فلما قدم قحطبة أبيورد صرف موسى بْن كعب إلى أبي مسلم، وكتب إلى مقاتل بْن حكيم يأمره أن يوجه رجلا إلى نيسابور، ويصرف منها القاسم بْن مجاشع، فوجه أبو مسلم علي بْن معقل في عشرة آلاف إلى تميم بن نصر، وامره إذا دخل قحطبة طوس أن يستقبله بمن معه وينضم إليه، فسار علي بْن معقل حتى نزل قرية يقال لها حلوان، وبلغ قحطبة مسير على ونزوله حيث نزل، فعجل السير إلى السوذقان، وهو معسكر تميم بْن نصر والنابي بْن سويد، ووجه على مقدمته اسيد بن عبد الله الخزاعي في ثلاثة آلاف رجل من شيعه أهل نسا وأبيورد، فسار حتى نزل قرية يقال لها حبوسان، فتعبا تميم والنابى لقتاله، فكتب أسيد إلى قحطبة يعلمه ما اجمعوا عليه من قتاله، وانه ان لم يعجل القدوم عليه حاكمهم إلى الله عز وجل وأخبره أنهما في ثلاثين ألفا من صناديد أهل خراسان وفرسانهم فوجه قحطبة مقاتل بْن حكيم العكي في ألف وخالد بْن برمك في ألف، فقدما على أسيد، وبلغ ذلك تميما والنابي فكسرهما ثم قدم عليهم قحطبة بمن معه وتعبأ لقتال تميم، وجعل على ميمنته مقاتل بْن حكيم وأبا عون عبد الملك بْن يزيد وخالد بْن برمك، وعلى ميسرته أسيد بْن عبد الله الخزاعي والحسن بْن قحطبة والمسيب بْن زهير وعبد الجبار بْن عبد الرحمن، وصار هو في القلب ثم زحف إليهم، فدعاهم إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى الرضا من آل محمد ص فلم يجيبوه، فأمر الميمنة والميسرة أن يحملوا، فاقتتلوا قتالا شديدا أشد ما يكون من القتال، فقتل تميم بْن نصر في المعركة، وقتل معه منهم مقتلة عظيمة، واستبيح عسكرهم، وأفلت النابي في عدة، فتحصنوا في المدينة، وأحاطت بهم الجنود، فنقبوا الحائط ودخلوا إلى المدينة، فقتلوا النابي ومن كان معه، وهرب عاصم بْن عمير السمرقندي وسالم بْن راوية السعيدي إلى نصر بْن سيار بنيسابور، فأخبراه بمقتل تميم والنابي ومن كان معهما، فلما غلب قحطبة على عسكرهم بما فيه صير إلى خالد بْن برمك قبض ذلك، ووجه مقاتل بْن حكيم العكي على مقدمته إلى نيسابور فبلغ ذلك نصر بْن سيار، فارتحل هاربا في أثر أهل أبرشهر حتى نزل قومس وتفرق عنه أصحابه، فسار إلى نباتة بْن حنظلة بجرجان، وقدم قحطبة نيسابور بجنوده.
                        وأقبل قحطبة إلى جرجان في ذي القعدة من سنة ثلاثين ومائة، ومعه أسيد ابن عبد الله الخزاعي وخالد بْن برمك وأبو عون عبد الملك بْن يزيد وموسى بْن كعب المرائى والمسيب بْن زهير وعبد الجبار بْن عبد الرحمن الأزدي، وعلى ميمنه موسى بْن كعب، وعلى ميسرته أسيد بْن عبد الله، وعلى مقدمته الحسن بْن قحطبة، فقال قحطبة: يا أهل خراسان، أتدرون إلى من تسيرون، ومن تقاتلون؟ إنما تقاتلون بقية قوم احرقوا بيت الله عز وجل وأقبل الحسن حتى نزل تخوم خراسان، ووجه الحسن عثمان بْن رفيع ونافعا المروزى وأبا خالد المروروذى ومسعدة الطائي إلى مسلحة نباتة، وعليها رجل يقال له ذؤيب، فبيتوه، فقتلوا ذؤيبا وسبعين رجلا من أصحابه، ثم رجعوا إلى عسكر الحسن، وقدم قحطبة فنزلوا بإزاء نباتة وأهل الشام في عدة لم ير الناس مثلها. فلما رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلموا بذلك وأظهروه وبلغ قحطبة، فقام فيهم خطيبا فقال:
                        يا أهل خراسان، هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوهم بعدلهم وحسن سيرتهم، حتى بدلوا وظلموا، فسخط الله عز وجل عليهم، فانتزع سلطانهم، وسلط عليهم أذل أمة كانت في الأرض عندهم،
                        فغلبوهم على بلادهم، واستنكحوا نساءهم، واسترقوا أولادهم، فكانوا بذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد، وينصرون المظلوم، ثم بدلوا وغيروا وجاروا في الحكم، وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله ص، فسلطكم عليهم لينتقم منهم بكم لتكونوا أشد عقوبة، لأنكم طلبتموهم بالثأر وقد عهد إلي الإمام أنكم تلقونهم في مثل هذه العدة فينصركم الله عز وجل عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم.
                        وقد قرئ على قحطبة كتاب أبي مسلم من أبي مسلم إلى قحطبة:
                        بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فناهض عدوك، فإن الله عز وجل ناصرك، فإذا ظهرت عليهم فأثخن في القتل.
                        فالتقوا في مستهل ذي الحجة سنة ثلاثين ومائة في يوم الجمعة، فقال قحطبة: يا اهل خراسان ان هذا اليوم قد فضله الله تبارك وتعالى على سائر الأيام والعمل فيه مضاعف، وهذا شهر عظيم فيه عيد من أعظم أعيادكم عند الله عز وجل، وقد أخبرنا الإمام أنكم تنصرون في هذا اليوم من هذا الشهر على عدوكم، فالقوه بجد وصبر واحتساب، ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ثم ناهضهم وعلى ميمنته الحسن بْن قحطبة، وعلى ميسرته خالد بْن برمك ومقاتل بْن حكيم العكي، فاقتتلوا وصبر بعضهم لبعض، فقتل نباتة، وانهزم أهل الشام فقتل منهم عشرة آلاف، وبعث قحطبة إلى أبي مسلم برأس نباتة وابنه حية.
                        قَالَ: وأخبرنا شيخ من بني عدي، عن أبيه، قَالَ: كان سالم بْن راوية التميمي ممن هرب من أبي مسلم، وخرج مع نصر، ثم صار مع نباتة، فقاتل قحطبة بجرجان، فانهزم الناس، وبقي يقاتل وحده، فحمل عليه عبد الله الطائي- وكان من فرسان قحطبة- فضربه سالم بْن راوية على وجهه، فأندر عينه، وقاتلهم حتى اضطر إلى المسجد، فدخله ودخلوا عليه، فكان لا يشد من ناحية الا كشفهم، فجعل ينادى: شربه! فو الله لا نقعن لهم شرا يومي هذا وحرقوا عليه سقف المسجد، فرموه بالحجارة حتى قتلوه وجاءوا برأسه إلى قحطبة، وليس في رأسه ولا وجهه مصح، فقال قحطبة: ما رأيت مثل هذا قط!

                        وقد زعم بعض الناس أن خزاعة دلت أبا حمزة على عورتهم، وأدخلوهم عليهم فقتلوهم، وكانت المقتلة على قريش، هم كانوا أكثر الناس، وبهم كانت الشوكة، وأصيب منهم عدد كثير.
                        قَالَ العباس: قَالَ هارون: وأخبرني بعض أصحابنا أن رجلا من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن وهو يقول: الحمد لله الذي أقر عيني بمقتل قريش، فقال لابنه: يا بني ابدأ به- وقد كان من أهل المدينة- قَالَ: فدنا منه ابنه فضرب عنقه، ثم قَالَ لابنه: أي بني، تقدم، فقاتلا حتى قتلا ثم ورد فلال الناس المدينة، وبكى الناس قتلاهم، فكانت المرأة تقيم على حميمها النواح، فما تبرح النساء حتى تأتيهن الأخبار عن رجالهن فتخرج النساء امرأة امراه، كل امراه تذهب الى حميمها فتنصرف حتى ما تبقى عندها امرأة.
                        قَالَ: وأنشدني أبو ضمرة هذه الأبيات في قتلى قديد الذين أصيبوا من قومه، رثاهم بعض أصحابهم فقال:
                        يا لهف نفسي ولهفي غير كاذبة ... على فوارس بالبطحاء أنجاد
                        عمرو وعمرو وعبد الله بينهما ... وابناهما خامس والحارث السادى

                        *ذكر الخبر عن دخول ابى حمزه المدينة وما كان منه فيها:
                        حدثني العباس بْن عيسى، قَالَ: حدثنا هارون بْن موسى الفروي، قَالَ: حدثني موسى بْن كثير، قَالَ: دخل ابو حمزه المدينة سنة ثلاثين ومائة، ومضى عبد الواحد بْن سليمان بْن عبد الملك إلى الشام، فرقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
                        يا اهل المدينة، سالناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم لعمر الله فيهم القول، وسألناكم: هل يقتلون بالظن؟ فقلتم لنا: نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام؟ فقلتم لنا: نعم، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم نناشدهم الله ألا تنحوا عنا وعنكم، فقلتم: لا يفعلون، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم نقاتلهم، فان نظهر نحن وأنتم نأت بمن يقيم فينا كتاب الله وسنة نبيه محمد ص، فقلتم: لا نقوى، فقلنا لكم: فخلوا بيننا وبينهم، فإن نظفر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنه نبيكم ص ونقسم فيئكم بينكم، فابيتم، وقاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم فأبعدكم الله وأسحقكم.
                        قَالَ محمد بْن عمر: حدثني حزام بْن هشام، قَالَ: كانت الحرورية أربعمائة، وعلى طائفة من الحرورية الحارث، وعلى طائفة بكار بْن محمد العدوي، عدي قريش، وعلى طائفة أبو حمزة، فالتقوا وقد تهيأ الناس بعد الأعذار من الخوارج إليهم، وقالوا لهم: إنا والله ما لنا حاجة بقتالكم، دعونا نمض إلى عدونا فأبى أهل المدينة، فالتقوا لسبع ليال خلون من صفر يوم الخميس سنة ثلاثين ومائة، فقتل أهل المدينة، لم يفلت منهم إلا الشريد، وقتل أميرهم عبد العزيز بْن عبد الله، واتهمت قريش خزاعة أن يكونوا داهنوا الحرورية. فقال لي حزام: والله لقد آويت رجالا من قريش منهم حتى آمن الناس، فكان بلج على مقدمتهم وقدمت الحرورية المدينة لتسع عشرة ليلة خلت من صفر.
                        حدثني العباس بْن عيسى، قَالَ: قَالَ هارون بْن موسى: أخبرني بعض أشياخنا، أن أبا حمزة لما دخل المدينة قام فخطب فقال في خطبته:
                        يا أهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بْن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم وكتبتم إليه تسألونه أن يضع أخراصكم عنكم، فكتب إليكم يضعها عنكم، فزاد الغني غنى، وزاد الفقير فقرا، فقلتم:
                        جزاك الله خيرا، فلا جزاكم الله خيرا ولا جزاه.
                        قَالَ العباس: قَالَ هارون: وأخبرني عبد الملك بْن الماجشون، قَالَ: لما لقي أبو حمزة وابن عطية، قَالَ أبو حمزة: لا تقاتلوهم حتى تخبروهم، قَالَ: فصاحوا بهم: ما تقولون في القرآن والعمل به؟ قَالَ: فصاح ابن عطية: نضعه في جوف الجوالق، قَالَ: فما تقولون في مال اليتيم؟ قَالَ:
                        نأكل ماله ونفجر بأمه في أشياء بلغني أنهم سألوهم عنها قَالَ: فلما سمعوا كلامهم، قاتلوهم حتى امسوا، فصاحوا: ويحك يا بن عطية! إن الله عز وجل قد جعل الليل سكنا، فاسكن نسكن قَالَ: فأبى فقاتلهم حتى قتلهم.
                        [هذا خبر منكر]

                        قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غزا الصائفة- فيما ذكر- الوليد بْن هشام، فنزل العمق وبنى حصن مرعش.
                        وفيها وقع الطاعون بالبصرة.
                        [بينما ذكر خليفة خبر طاعون البصرة ضمن أحداث سنة 131هـ عن المدائني تأريخ خليفة ص 421]

                        قَالَ علي: وأخبرنا المفضل بْن محمد الضبي، قَالَ: لما لقي قحطبة ابن ضبارة انهزم داود بْن يزيد بْن عمر، فسأل عنه عامر، فقيل: انهزم، فقال: لعن الله شرنا منقلبا! وقاتل حتى قتل.
                        قَالَ علي: وأخبرنا حفص بْن شبيب، قَالَ: حدثني من شهد قحطبة وكان معه، قَالَ: ما رأيت عسكرا قط جمع ما جمع أهل الشام بأصبهان من الخيل والسلاح والرقيق، كأنا افتتحنا مدينة، وأصبنا معهم ما لا يحصى من البرابط والطنابير والمزامير، ولقل بيت أو خباء ندخله إلا أصبنا فيه زكرة أو زقا من الخمر، فقال بعض الشعراء:
                        لما رمينا مضرا بالقب ... قرضبهم قحطبة القرضب
                        يدعون مروان كدعوى الرب
                        [هذا خبر باطل وكيف نعتمد على رجل لا نعرف اسمه (من شهد قحطبة) في غثبات هذه التهمة الكبيرة (وأصبنا معهم ما لا يحصى من البرابط ...) واعتمادا على هذه الأخبار الملفقة شوه المبتدعة والشعوبيون التأريخ الإسلامي. ولكن الحمد لله على نعمة الإسناد، وللاه قال من شاء ما شاء كما هنا]

                        قَالَ علي: وأخبرنا أبو الحسن الخراساني وجبلة بْن فروخ، قالا: لما قدم قحطبة نهاوند والحسن محاصرهم، أقام قحطبة عليهم، ووجه الحسن إلى مرج القلعة، فقدم الحسن خازم بْن خزيمة إلى حلوان، وعليها عبد الله
                        ابن العلاء الكندي، فهرب من حلوان وخلاها.
                        قَالَ علي: وأخبرنا محرز بْن إبراهيم، قَالَ: لما فتح قحطبة نهاوند، أرادوا أن يكتبوا إلى مروان باسم قحطبة، فقالوا: هذا اسم شنيع، اقلبوه فجاء هبط حق، فقالوا: الاول مع شنعته ايسر من هذا فردوه.

                        ذكر وقعه شهرزور وفتحها
                        وفي هذه السنة كانت وقعة أبي عون بشهرزور.
                        ذكر الخبر عنها وعما كان فيها:
                        ذكر علي أن أبا الحسن وجبلة بْن فروخ، حدثاه قالا: وجه قحطبة أبا عون عبد الملك بْن يزيد الخراساني ومالك بْن طريف الخراساني في أربعة آلاف إلى شهرزور، وبها عثمان بْن سفيان على مقدمة عبد الله بْن مروان، فقدم أبو عون ومالك، فنزلا على فرسخين من شهرزور، فأقاما به يوما وليلة، ثم ناهضا عثمان بْن سفيان في العشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين ومائة فقتل عثمان بْن سفيان، وبعث أبو عون بالبشارة مع إسماعيل بْن المتوكل، وأقام أبو عون في بلاد الموصل.
                        وقال بعضهم: لم يقتل عثمان بْن سفيان، ولكنه هرب إلى عبد الله بْن مروان، واستباح أبو عون عسكره، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة بعد قتال شديد وقال: كان قحطبة وجه أبا عون إلى شهرزور في ثلاثين ألفا بأمر أبي مسلم إياه بذلك قَالَ: ولما بلغ خبر أبي عون مروان وهو بحران، ارتحل منها ومعه جنود الشام والجزيرة والموصل، وحشرت بنو أمية معه أبناءهم مقبلا إلى أبي عون، حتى انتهى إلى الموصل، ثم أخذ في حفر الخنادق من خندق إلى خندق، حتى نزل الزاب الأكبر، وأقام أبو عون بشهرزور بقية ذي الحجة والمحرم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفرض فيها لخمسه آلاف رجل.
                        وذكر أن الوليد بْن عروة بلغه قتل عمه عبد الملك فمضى إلى الذين قتلوه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وبقر بطون نسائهم، وقتل الصبيان، وحرق بالنيران من قدر عليه منهم.



                        وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                        أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                        تعليق


                        • #57
                          رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                          ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة
                          (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)


                          وذكر علي أن الحسن بْن رشيد وجبلة بْن فروخ أخبراه أن قحطبة لما ترك ابن هبيرة ومضى يريد الكوفة، قَالَ حوثرة بْن سهيل الباهلي وناس من وجوه أهل الشام لابن هبيرة: قد مضى قحطبة إلى الكوفة، فاقصد أنت خراسان، ودعه ومروان فإنك تكسره، فبالحري أن يتبعك، فقال: ما هذا برأي، ما كان ليتبعني ويدع الكوفة، ولكن الرأي أن أبادره إلى الكوفة ولما عبر قحطبة الفرات، وسار على شاطئ الفرات ارتحل ابن هبيرة من معسكره بأرض الفلوجة، فاستعمل على مقدمته حوثرة بْن سهيل، وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيران على شاطئ الفرات، ابن هبيرة بين الفرات وسورا، وقحطبة في غربيه مما يلي البر ووقف قحطبة فعبر إليه رجل أعرابي في زورق، فسلم على قحطبة، فقال: ممن أنت؟ قَالَ: من طيّئ، فقال الأعرابي لقحطبة: اشرب من هذا واسقني سؤرك، فغرف قحطبة في قصعة فشرب وسقاه، فقال: الحمد لله الذي نسأ أجلي حتى رأيت هذا الجيش يشرب من هذا الماء قَالَ قحطبة: أتتك الرواية؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ممن أنت؟ قال: من طيّئ، ثم احد بني نبهان، فقال قحطبة: صدقني إمامي، أخبرني أن لي وقعة على هذا النهر لي فيها النصر، يا أخا بني نبهان، هل هاهنا مخاضة؟ قَالَ: نعم ولا أعرفها، وأدلك على من يعرفها، السندي بْن عصم فأرسل إليه قحطبة، فجاء وأبو السندي وعون، فدلوه على المخاضة وأمسى ووافته مقدمة ابن هبيرة في عشرين ألفا، عليهم حوثرة.
                          فذكر علي، عن ابن شهاب العبدى، قال: نزل قحطبه الجباريه فقال: صدقني الإمام أخبرني أن النصر بهذا المكان، وأعطى الجند أرزاقهم، فرد عليه كاتبه ستة عشر ألف درهم، فضل الدرهم والدرهمين وأكثر وأقل، فقال: لا تزالون بخير ما كنتم على هذا ووافته خيول الشام، وقد دلوه على مخاضة فقال: إنما أنتظر شهر حرام وليلة عاشوراء، وذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
                          رجع الحديث إلى حديث علي عن ابن شهاب العبدي: فاما صاحب علم قحطبه خيران او يسار مولاه، فقال له: اعبر، وقال لصاحب رايته مسعود بْن علاج رجل من بكر بْن وائل: اعبر، وقال لصاحب شرطته عبد الحميد بْن ربعي ابى غانم احد بنى نبهان من طيّئ: اعبر يا أبا غانم، وأبشر بالغنيمة وعبر جماعه حتى عبر أربعمائة، فقاتلوا أصحاب حوثرة حتى نحوهم عن الشريعة، ولقوا محمد بْن نباتة فقاتلوه، ورفعوا النيران، وانهزم أهل الشام، وفقدوا قحطبة فبايعوا حميد بْن قحطبة على كره منه، وجعلوا على الأثقال رجلا يقال له أبو نصر في مائتين، وسار حميد حتى نزل كربلاء، ثم دير الأعور ثم العباسية.
                          قَالَ علي: وذكر عبد الله بْن بدر قَالَ: كنت مع ابن هبيرة ليلة قحطبة فعبروا إلينا، فقاتلونا على مسناة عليها خمسة فوارس، فبعث ابن هبيرة محمد بن نباته، فتلقاهم فدفعناهم دفعا، وضرب معن بْن زائدة قحطبة على حبل عاتقه، فأسرع فيه السيف، فسقط قحطبة في الماء فأخرجوه، فقال: شدوا يدي، فشدوها بعمامة، فقال: إن مت فألقوني في الماء لا يعلم أحد بقتلي وكر عليهم أهل خراسان، فانكشف ابن نباتة وأهل الشام، فاتبعونا وقد أخذ طائفة في وجه، ولحقنا قوم من أهل خراسان، فقاتلناهم طويلا، فما نجونا إلا برجلين من أهل الشام قاتلوا عنا قتالا شديدا، فقال بعض الخراسانية: دعوا هؤلاء الكلاب بالفارسية فانصرفوا عنا ومات قحطبة وقال قبل موته: إذا قدمتم الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة، فسلموا هذا الأمر إليه ورجع ابن هبيرة إلى واسط.
                          وقد قيل في هلاك قحطبة قول غير الذي قاله من ذكرنا قوله من شيوخ علي بْن محمد، والذي قيل من ذلك أن قحطبة لما صار بحذاء ابن هبيرة من الجانب الغربي من الفرات، وبينهما الفرات، قدم الحسن ابنه على مقدمته، ثم أمر عبد الله الطائي ومسعود بْن علاج وأسد بْن المرزبان وأصحابهم بالعبور على خيولهم في الفرات، فعبروا بعد العصر، فطعن أول فارس لقيهم من أصحاب ابن هبيرة، فولوا منهزمين حتى بلغت هزيمتهم جسر سورا حتى اعترضهم سويد صاحب شرطة ابن هبيرة، فضرب وجوههم ووجوه دوابهم حتى ردهم إلى موضعهم، وذلك عند المغرب، حتى انتهوا إلى مسعود بن علاج ومن معه، فكثروهم، فأمر قحطبة المخارق بن غفار وعبد الله بسام وسلمه ابن محمد- وهم في جريدة خيل- أن يعبروا، فيكونوا ردءا لمسعود بْن علاج، فعبروا ولقيهم محمد بْن نباتة، فحصر سلمة ومن معه بقرية على شاطئ الفرات، وترجل سلمة ومن معه، وحمي القتال، فجعل محمد بْن نباتة يحمل على سلمة وأصحابه، فيقتل العشرة والعشرين، ويحمل سلمة وأصحابه على محمد بْن نباتة وأصحابه، فيقتل منهم المائة والمائتين، وبعث سلمة إلى قحطبة يستمده، فأمده بقواده جميعا، ثم عبر قحطبة بفرسانه، وأمر كل فارس أن يردف رجلا، وذلك ليلة الخميس لليال خلون من المحرم، ثم واقع قحطبة محمد بْن نباتة ومن معه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمهم قحطبة حتى ألحقهم بابن هبيرة، وانهزم ابن هبيرة بهزيمة ابن نباتة، وخلوا عسكرهم وما فيه من الأموال والسلاح والرثة والآنية وغير ذلك، ومضت بهم الهزيمة حتى قطعوا جسر الصراة، وساروا ليلتهم حتى أصبحوا بفم النيل، وأصبح أصحاب قحطبة وقد فقدوه، فلم يزالوا في رجاء منه إلى نصف النهار، ثم يئسوا منه وعلموا بغرقه، فأجمع القواد على الحسن بْن قحطبة فولوه الأمر وبايعوه، فقام بالأمر وتولاه، وأمر بإحصاء ما في عسكر ابن هبيرة، ووكل بذلك رجلا من اهل خراسان يكنى أبا النضر في مائتي فارس، وأمر بحمل الغنائم في السفن إلى الكوفة، ثم ارتحل الحسن بالجنود حتى نزل كربلاء، ثم ارتحل فنزل سورا، ثم نزل بعدها دير الأعور، ثم سار منه فنزل العباسية. وبلغ حوثرة هزيمة ابن هبيرة، فخرج بمن معه حتى لحق بابن هبيرة بواسط.
                          وكان سبب قتل قحطبة- فيما قَالَ هؤلاء- أن أحلم بْن إبراهيم بْن بسام مولى بني ليث قَالَ: لما رأيت قحطبة في الفرات، وقد سبحت به دابته حتى كادت تعبر به من الجانب الذي كنت فيه أنا وبسام بْن إبراهيم أخي- وكان بسام على مقدمة قحطبة- فذكرت من قتل من ولد نصر بْن سيار وأشياء ذكرتها منه، وقد أشفقت على أخي بسام بْن إبراهيم لشيء بلغه عنه، فقلت: لا طلبت بثأر أبدا إن نجوت الليلة قَالَ: فأتلقاه وقد صعدت به دابته لتخرج من الفرات وأنا على الشط، فضربته بالسيف على جبينه، فوثب فرسه، وأعجله الموت، فذهب في الفرات بسلاحه ثم أخبر ابن حصين السعدي بعد موت أحلم بْن إبراهيم بمثل ذلك، وقال: لولا أنه أقر بذلك عند موته ما أخبرت عنه بشيء.

                          وكان سبب قتال سلم بْن قتيبة سفيان بْن معاوية بْن يزيد بْن المهلب- فيما ذكر- أن أبا سلمة الخلال وجه إذ فرق العمال في البلدان بسام بْن إبراهيم مولى بني ليث إلى عبد الواحد بْن عمر بْن هبيرة وهو بالأهواز، فقاتله بسام حتى فضه، فلحق سلم بْن قتيبة الباهلي بالبصرة، وهو يومئذ عامل ليزيد بْن عمر بْن هبيرة وكتب أبو سلمة إلى الحسن بْن قحطبة أن يوجه إلى سلم من أحب من قواده، وكتب إلى سفيان بْن معاوية بعهده على البصرة، وأمره أن يظهر بها دعوة بني العباس، ويدعو الى القائم منهم، وينفى سلم ابن قتيبة فكتب سفيان إلى سلم يأمره بالتحول عن دار الإمارة، ويخبره بما أتاه من رأي أبي سلمة، فأبى سلم ذلك، وامتنع منه، وحشد مع سفيان جميع اليمانية وحلفاءهم من ربيعة وغيرهم، وجنح إليه قائد من قواد ابن هبيرة، وكان بعثه مددا لسلم في ألفي رجل من كلب، فأجمع السير إلى سلم بْن قتيبة، فاستعد له سلم، وحشد معه من قدر عليه من قيس وأحياء مضر ومن كان بالبصرة من بني أمية ومواليهم، وسارعت بنو أمية إلى نصره.
                          فقدم سفيان يوم الخميس وذلك في صفر، فأتى المربد سلم، فوقف منه عند سوق الإبل، ووجه الخيول في سكة المربد وسائر سكك البصرة للقاء من وجه إليه سفيان، ونادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، ومن جاء بأسير فله ألف درهم ومضى معاوية بْن سفيان بْن معاوية في ربيعة خاصة، فلقيه خيل من تميم في السكة التي تأخذ الى بنى عامر في سكة المربد عند الدار التي صارت لعمر بْن حبيب، فطعن رجل منهم فرس معاوية، فشب به فصرعه، فنزل إليه رجل من بني ضبة يقال له عياض، فقتله، وحمل رأسه إلى سلم بْن قتيبة، فأعطاه ألف درهم، فانكسر سفيان لقتل ابنه، فانهزم ومن معه، وخرج من فوره هو وأهل بيته حتى أتى القصر الأبيض فنزلوه، ثم ارتحلوا منه إلى كسكر.
                          وقدم على سلم بعد غلبته على البصرة جابر بْن توبة الكلابي والوليد بْن عتبة الفراسي، من ولد عبد الرحمن بْن سمرة في أربعة آلاف رجل، كتب إليهم ابن هبيرة أن يصيروا مددا لسلم وهو بالأهواز، فغدا جابر بمن معه على دور المهلب وسائر الأزد، فأغاروا عليهم، فقاتلهم من بقي من رجال الأزد قتالا شديدا حتى كثرت القتلى فيهم، فانهزموا، فسبى جابر ومن معه من أصحابه النساء، وهدموا الدور وانتهبوا، فكان ذلك من فعلهم ثلاثة أيام، فلم يزل سلم مقيما بالبصرة حتى بلغه قتل ابن هبيرة، فشخص عنها فاجتمع من البصرة من ولد الحارث بْن عبد المطلب إلى محمد بْن جعفر فولوه أمرهم فوليهم أياما يسيرة، حتى قدم البصرة أبو مالك عبد الله بْن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم، فوليها خمسة أيام، فلما قام أبو عباس ولاها سفيان بن معاويه.
                          [إلى هنا انتهى العصر الأموي]
                          ***
                          خلافة أبي العباس عبد الله بْن محمد بن على ابن عبد الله بْن عباس
                          (ذكر الخبر عن سبب خلافته)

                          وكان بدء ذلك- فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- انه اعلم العباس ابن عبد المطلب انه تؤول الخلافة إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك، ويتحدثون به بينهم.
                          [قال الذهبي: لا يصح هنا الخبر ولكن آل العباس كان الناس يحبونهم ويحبون آل علي ويودون أن يؤول الأمر إليهم حبا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم (سير أعلام النبلاء 6/58)]

                          وذكر علي بْن محمد أن إسماعيل بْن الحسن حدثه عن رشيد بْن كريب، أن أبا هاشم خرج إلى الشام، فلقي محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، فقال: يا بن عم، إن عندي علما أنبذه إليك فلا تطلعن عليه أحدا، إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس، فيكم، قَالَ: قد علمت فلا يسمعنه منك احد.
                          [في هذا الإسناد تصحيف والصواب رشدين بن كريب وهو منكر الحديث (تهذيب الكمال /تر 1897)]

                          قال على: وأخبرنا سليمان بْن داود، عن خالد بْن عجلان، قَالَ: لما خالف ابن الأشعث، وكتب الحجاج بْن يوسف إلى عبد الملك، أرسل عبد الملك إلى خالد بْن يزيد فأخبره، فقال: أما إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس، إنما كنا نتخوف لو كان من خراسان وقال علي: أخبرنا الحسن بْن رشيد وجبله بن فروخ التاجى ويحيى بْن طفيل والنعمان بْن سري وأبو حفص الأزدي وغيرهم أن الإمام محمد بْن على ابن عبد الله بْن عباس، قَالَ: لنا ثلاثة أوقات: موت الطاغية يزيد بْن معاوية، ورأس المائه، وفتق بإفريقية، فعند ذلك يدعو لنا دعاه، ثم يقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب، ويستخرجوا ما كنز الجبارون فيها.
                          فلما قتل يزيد بْن أبي مسلم بإفريقية، ونقضت البربر، بعث محمد بْن علي رجلا إلى خراسان، وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمي احد.
                          [لم يكن الإمام محمد –رحمه الله- منجما ولا متنبئا ولا يصح نسبة هذا الكلام إليه بإسناد جلَّه مجاهيل]

                          وقد ذكرنا قبل خبر محمد بْن علي، وخبر الدعاه الذي وجههم إلى خراسان ثم مات محمد بْن علي وجعل وصيه من بعده ابنه إبراهيم، فبعث إبراهيم بْن محمد إلى خراسان أبا سلمة حفص بْن سليمان مولى السبيع، وكتب معه إلى النقباء بخراسان، فقبلوا كتبه وقام فيهم، ثم رجع إليه فرده ومعه أبو مسلم وقد ذكرنا أمر أبي مسلم قبل وخبره.
                          ثم وقع في يد مروان بْن محمد كتاب لإبراهيم بْن محمد إلى أبي مسلم، جواب كتاب لأبي مسلم يأمره بقتل كل من يتكلم بالعربية بخراسان فكتب مروان إلى عامله بدمشق يأمره بالكتاب إلى صاحبه بالبلقاء أن يسير إلى الحميمة، ويأخذ إبراهيم بْن محمد ويوجه به إليه فذكر أبو زيد عمر بْن شبة أن عيسى ابن عبد الله بْن محمد بْن عمر بْن على بْن أبي طالب، حدثه عن عثمان بْن عروه ابن محمد بْن عمار بْن ياسر، قَالَ: إني مع أبي جعفر بالحميمة ومعه ابناه محمد وجعفر، وأنا أرقصهما، إذ قَالَ لي: ماذا تصنع؟ أما ترى إلى ما نحن فيه! قَالَ: فنظرت فإذا رسل مروان تطلب إبراهيم بن محمد، قال: فقلت: دعني اخرج اليهم، قَالَ: تخرج من بيتي وأنت ابن عمار بْن ياسر! قَالَ: فأخذوا أبواب المسجد حين صلوا الصبح، ثم قالوا للشاميين
                          [هذا الخبر منكر كما ذكرنا سابقا ولا يصح إسناده قط، كما ذكرنا في نهاية تاريخ الخلافة في عهد الأمويين (سنة 132هـ)]
                          الذين معهم: أين إبراهيم بْن محمد؟ فقالوا: هو ذا، فأخذوه، وقد كان مروان أمرهم بأخذ ابراهيم، ووصف لهم صفة أبي العباس التي كان يجدها في الكتب أنه يقتلهم، فلما أتوه بإبراهيم، قَالَ: ليس هذه الصفة التي وصفت لكم، فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت، فردهم في طلبه، ونذروا، فخرجوا إلى العراق هرابا.
                          قَالَ عمر: وحدثني عبد الله بْن كثير بْن الحسن العبدي، قَالَ: أخبرني علي بْن موسى، عن أبيه، قَالَ: بعث مروان بْن محمد رسولا إلى الحميمة يأتيه بإبراهيم بْن محمد، ووصف له صفته،
                          [في إسناده عبد الله بن كثير بن الحسن العبدي مجهول وكذلك شيخه وأبو شيخه]
                          فقدم الرسول فوجد الصفة صفة أبي العباس عبد الله بْن محمد، فلما ظهر إبراهيم بْن محمد وأمن قيل للرسول: إنما أمرت بإبراهيم، وهذا عبد الله! فلما تظاهر ذلك عنده ترك أبا العباس وأخذ إبراهيم، وانطلق به قَالَ: فشخصت معه أنا وأناس من بني العباس ومواليهم، فانطلق بإبراهيم، ومعه أم ولد له كان بها معجبا، فقلنا له: إنما أتاك رجل، فهلم فلنقتله ثم ننكفئ إلى الكوفة، فهم لنا شيعة، فقال: ذلك لكم، قلنا: فأمهل حتى نصير إلى الطريق التي تخرجنا إلى العراق.
                          قَالَ: فسرنا حتى صرنا إلى طريق تتشعب إلى العراق، وأخرى إلى الجزيرة، فنزلنا منزلا، وكان إذا أراد التعريس اعتزل لمكان أم ولده، فآتينا للأمر الذي اجتمعنا عليه، فصرخنا به، فقام ليخرج فتعلقت به أم ولده، وقالت:
                          هذا وقت لم تكن تخرج فيه، فما هاجك! فالتوى عليها، فأبت حتى أخبرها، فقالت: أنشدك الله أن تقتله فتشام أهلك! والله لئن قتلته لا يبقي مروان من آل العباس أحدا بالحميمة إلا قتله، ولم تفارقه حتى حلف لها ألا يفعل، ثم خرج إلينا وأخبرنا، فقلنا: أنت أعلم.
                          قَالَ عبد الله: فحدثني ابن لعبد الحميد بْن يحيى كاتب مروان، عن أبيه، قَالَ: قلت لمروان بْن محمد: أتتهمني؟ قَالَ: لا، قلت: أفيحطك صهره؟ قَالَ: لا، قلت: فإني أرى أمره ينبغ عليك فأنكحه وأنكح إليه، فإن ظهر كنت قد أعلقت بينك وبينه سببا لا يريبك معه، وإن كفيته لم يشنك صهره قَالَ: ويحك! والله لو علمته صاحب ذاك لسبقت إليه، ولكن ليس بصاحب ذلك.
                          [في إسناده مجهولان فكيف يصح]

                          وذكر أن إبراهيم بْن محمد حين أخذ للمضي به إلى مروان نعى إلى أهل بيته حين شيعوه نفسه، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه ابى العباس عبد الله ابن محمد، وبالسمع له وبالطاعة، وأوصى إلى أبي العباس، وجعله الخليفة بعده، فشخص أبو العباس عند ذلك ومن معه من أهل بيته، منهم عبد الله ابن محمد وداود بن عيسى، وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو على ويحيى ابن محمد وعيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي، وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم وموسى بْن داود ويحيى بْن جعفر بْن تمام، حتى قدموا الكوفة، في صفر، فأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بْن سعد مولى بني هاشم في بني أود، وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من جميع القواد والشيعة وأراد- فيما ذكر- أبو سلمة تحويل الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت إبراهيم بْن محمد، فذكر علي بْن محمد أن جبلة بْن فروخ وأبا السري وغيرهما قالا: قدم الإمام الكوفة في ناس من أهل بيته، فاختفوا، فقال أبو الجهم لأبي سلمة: ما فعل الإمام؟ قَالَ: لم يقدم بعد، فألح عليه يسأله، قَالَ: قد أكثرت السؤال، وليس هذا وقت خروجه فكانوا بذلك، حتى لقي أبو حميد خادما لأبي العباس، يقال له سابق الخوارزمي، فسأله عن أصحابه، فأخبره أنهم بالكوفة، وأن أبا سلمة يأمرهم أن يختفوا، فجاء به إلى أبي الجهم، فأخبره خبرهم، فسرح أبو الجهم أبا حميد مع سابق حتى عرف منزلهم بالكوفة، ثم رجع وجاء معه إبراهيم بْن سلمه رجل كان معهم، فاخبر أبا الجهم عن منزلهم ونزول الامام في بني أود، وأنه أرسل حين قدموا إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، فلم يفعل، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم إلى موسى بْن كعب، وقصوا عليه القصة، وبعثوا إلى الإمام بمائتي دينار، ومضى أبو الجهم إلى أبي سلمة، فسأله عن الإمام، فقال: ليس هذا وقت خروجه، لأن واسطا لم تفتح بعد، فرجع أبو الجهم إلى موسى بْن كعب فأخبره، فأجمعوا على أن يلقوا الإمام، فمضى موسى بْن كعب وأبو الجهم وعبد الحميد بن ربعي وسلمه ابن محمد وإبراهيم بْن سلمة وعبد الله الطائي وإسحاق بْن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بْن بسام وأبو حميد محمد بْن إبراهيم وسليمان بْن الأسود ومحمد بْن الحصين إلى الإمام، فبلغ أبا سلمة، فسأل عنهم فقيل: ركبوا الى الكوفه في حاجه لهم.
                          واتى القوم أبا العباس، فدخلوا عليه فقالوا: أيكم عبد الله بْن محمد ابْن الحارثية؟ فقالوا: هذا، فسلموا عليه بالخلافة، فرجع موسى بْن كعب وأبو الجهم وأمر أبو الجهم الآخرين، فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبي الجهم: أين كنت؟ قَالَ: ركبت إلى إمامي فركب أبو سلمة إليهم، فأرسل أبو الجهم إلى أبي حميد أن أبا سلمة قد أتاكم، فلا يدخلن على الإمام إلا وحده، فلما انتهى إليهم أبو سلمة منعوه أن يدخل معه أحد، فدخل وحده، فسلم بالخلافة على أبي العباس.
                          وخرج أبو العباس على برذون أبلق يوم الجمعة، فصلى بالناس، فأخبرنا عمار مولى جبرئيل وأبو عبد الله السلمي أن أبا سلمة لما سلم على أبي العباس بالخلافة، قَالَ له أبو حميد: على رغم أنفك يا ماص بظر أمه! فقال له أبو العباس: مه!
                          [عمارة وصاحبه مجهولان وما الداعي لهذا الخبر الذي لا يقدم ولا يؤخر في الخبر شيئا]

                          وذكر أن أبا العباس لما صعد المنبر حين بويع له بالخلافة، قام في أعلاه، وصعد داود بْن علي فقام دونه، فتكلم أبو العباس، فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة، وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به، والذابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله ص وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا، حريصا علينا بالمؤمنين رءوفا رحيما، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم، فقال عز من قائل فيما أنزل من محكم القرآن: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ، وقال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» وقال: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ، وقال: «مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى» ، وقال: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى» فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا، وفضلا علينا، والله ذو الفضل العظيم.
                          وزعمت السبئيه الضلال، أن غيرنا أحق بالرئاسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم! بم ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وتم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر
                          ومواساة في دينهم ودنياهم، وإخوانا على سرر متقابلين في آخرتهم، فتح الله ذلك منة ومنحه لمحمد ص، فلما قبضه الله إليه، قام بذلك الأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها ثم وثب بنو حرب ومروان، فابتزوها وتداولوها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولى نصرنا والقيام بأمرنا، ليمن بنا عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وختم بنا كما افتتح بنا وانى لأرجو الا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا. أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير.
                          وكان موعوكا فاشتد به الوعك، فجلس على المنبر، وصعد داود بْن علي فقام دونه على مراقي المنبر، فقال:
                          الحمد لله شكرا شكرا شكرا، الذي أهلك عدونا، وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيها الناس، الآن أقشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه، في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم.
                          أيها الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينا ولا عقيانا، ولا نحفر نهرا، ولا نبني قصرا، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا، وما كرثنا من أموركم، وبهظنا من شؤونكم، ولقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا، ويشتد علينا سوء سيره بنى اميه فيكم، وخرقهم بكم، واستذلالهم لكم، واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم لكم ذمة الله تبارك وتعالى، وذمه رسوله صلى الله عليه وآله، وذمة العباس رحمه الله، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة منكم والخاصة بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبا تبا لبني حرب بْن أمية وبني مروان! آثروا في مدتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الآنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد التي بها استلذوا تسربل الأوزار، وتجلبب الآصار، ومرحوا في أعنة المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلا باستدراج الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ، فأصبحوا أحاديث، ومزقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الظالمين! وأدالنا الله من مروان، وقد غره بالله الغرور، أرسل لعدو الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه، فظن عدو الله أن لن نقدر عليه، فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزنا، ورد إلينا حقنا وإرثنا.
                          أيها الناس، إن أمير المؤمنين نصره الله نصرا عزيزا، انما عاد إلى المنبر بعد الصلاة، إنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام بعد أن اسحنفر فيه شدة الوعك، وادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين، الشاب المتكهل المتمهل، المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها، بمعالم الهدى، ومناهج التقوى.
                          فعج الناس له بالدعاء ثم قَالَ:
                          يا أهل الكوفة، إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأفلج بهم حجتنا، واظهر بهم
                          دولتنا، وأراكم الله ما كنتم تنتظرون، واليه تتشوفون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم، وبيض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام، ونقل إليكم السلطان، وعز الإسلام، ومن عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة.
                          فخذوا ما آتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن انفسكم فان الأمر امركم، وان لكل أهل بيت مصرا، وإنكم مصرنا ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله ص الا امير المؤمنين على ابن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بْن محمد- وأشار بيده إلى أبي العباس- فاعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه الى عيسى بن مريم صلى الله عليه، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا.
                          ثم نزل أبو العباس وداود بْن علي أمامه، حتى دخل القصر، وأجلس أبا جعفر ليأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم، حتى صلى بهم العصر، ثم صلى بهم المغرب، وجنهم الليل، فدخل.
                          [هذا الخبر الطويل (425 – 428) حول خطب أبي العباس الخليفة وعمه داود بن علي –خبر لا يصح إسنادا ولا متنا- فقد ذكره الطبري بلا إسناد فقال (وذكر) وأما المتن ففيه نكارات خبر واضحة وعلى سبيل المثال فقد جاء فيه أن داود بن علي أخبر الناس أنه لم يصعد منبر الكوفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلا علي بن ابي طالب وأبي العباس)، وهذا يخالف ما أخرجه خليفة برواية مسندة موصولة إلى من حضر وسمع هذه الخطابة وفيها يقول داود: إنه والله ما علا منبركم هذا خليفة بعد علي بن أبي طالب غير ابن أخي هذا. (تأريخ خليفة /268).
                          وهذا يعني أنه يقر بخلافة الراشدين الأربع وهذا ما ثبت عن خلفاء بني العباس أنهم كانوا يقرون به أما عدم اعترافهم بأن بني أمية خلفاء وإنما هم ملوك فلا غبار على قولهم هذا لأنهم خصومهم التقليديون فلا غرابة إذا لم يقروا بخلافتهم ولو أقروا بذلك لما خرجوا عليهم –وإن كانت الروايات التي سنذكرها فيما أبعد تذكر أن بعض خلفاء بني العباس كالمنصور أقرَّ واعترف فيما بعد بخلافة الأمويين حتى آخرهم مروان بن محمد وفي المتن نكارات أخرى واضحة والله تعالى أعلم والحمد لله على نعمة الإسناد]

                          وذكر أن داود بْن علي وابنه موسى كانا بالعراق أو بغيرها، فخرجا يريدان الشراة فلقيهما أبو العباس يريد الكوفة، معه أخوه أبو جعفر عبد الله بْن محمد وعبد الله بْن علي وعيسى بْن موسى ويحيى بْن جعفر بْن تمام بْن العباس، ونفر من مواليهم بدومة الجندل، فقال لهم داود: أين تريدون؟ وما قصتكم؟ فقص عليه أبو العباس قصتهم، وأنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها، ويظهروا أمرهم، فقال له داود: يا أبا العباس، تأتي الكوفه وشيخ بنى مروان، مروان ابن محمد بحران مطل على العراق في أهل الشام والجزيرة، وشيخ العرب يزيد بْن عمر بْن هبيرة بالعراق في حلبة العرب! فقال أبو الغنائم: من أحب الحياة ذل، ثم تمثل بقول الأعشى:
                          فما مِيتَةٌ إِنْ مِتُّهَا غَيْرُ عَاجِزٍ ... بِعَارٍ إِذَا ما غالت النفس غولها
                          فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال: صدق والله ابن عمك، فارجع بنا معه نعش أعزاء أو نمت كراما، فرجعوا جميعا، فكان عيسى بْن موسى يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة: إن نفرا أربعة عشر رجلا خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون مطالبنا، لعظيم همهم كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم.

                          ذكر بقية الخبر عما كان من الأحداث في سنة اثنتين وثلاثين ومائة
                          تمام الخبر عن سبب البيعة لأبي العباس عبد الله بْن محمد بْن علي وما كان من أمره:
                          قَالَ أبو جعفر: قد ذكرنا من أمر أبي العباس عبد الله بْن محمد بْن علي ما حضرنا ذكره قبل، عمن ذكرنا ذلك عنه، وقد ذكرنا من أمره وأمر أبي سلمة وسبب عقد الخلافة لأبي العباس أيضا ما أنا ذاكره، وهو أنه لما بلغ أبا سلمة قتل مروان بْن محمد إبراهيم الذي كان يقال له الإمام، بدا له في الدعاء الى ولد العباس وأضمر الدعاء لغيرهم، وكان أبو سلمة قد أنزل أبا العباس حين قدم الكوفة مع من قدم معه من أهل بيته في دار الوليد بْن سعد في بني أود، فكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا، فلم يزل ذلك من أمره وهو في معسكره بحمام أعين حتى خرج أبو حميد، وهو يريد الكناسة، فلقي خادما لإبراهيم يقال له سابق الخوارزمي، فعرفه، وكان يأتيهم بالشام فقال له: ما فعل الإمام إبراهيم؟ فأخبره أن مروان قتله غيلة، وأن إبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس، واستخلفه من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم، فقال له سابق: الموعد بيني وبينك غدا في هذا الموضع، وكره سابق ان يدله عليهم إلا بإذنهم، فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي وعد فيه سابقا، فلقيه، فانطلق به إلى أبي العباس وأهل بيته، فلما دخل عليهم سأل أبو حميد: من الخليفة منهم؟ فقال داود بْن علي: هذا إمامكم وخليفتكم- وأشار إلى أبي العباس- فسلم عليه بالخلافة، وقبل يديه ورجليه، وقال: مرنا بأمرك، وعزاه بالإمام إبراهيم.
                          وقد كان إبراهيم بْن سلمة دخل عسكر أبي سلمة متنكرا، فأتى أبا الجهم فاستأمنه، فأخبره أنه رسول أبي العباس وأهل بيته، وأخبره بمن معه وبموضعهم، وأن أبا العباس كان سرحه إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، يعطيها للجمال كراء الجمال التي قدم بهم عليها، فلم يبعث بها اليه، ورجع أبو حميد إلى أبي الجهم، فأخبره بحالهم، فمشى ابو الجهم وابو حميد ومعهما إبراهيم بْن سلمة، حتى دخلوا على موسى بْن كعب، فقص عليه أبو الجهم الخبر، وما أخبره إبراهيم بْن سلمة، فقال موسى بْن كعب: عجل البعثة إليه بالدنانير وسرحه فانصرف أبو الجهم ودفع الدنانير إلى إبراهيم بْن سلمة، وحمله على بغل وسرح معه رجلين، حتى ادخلاه الكوفة، ثم قَالَ أبو الجهم لأبي سلمة، وقد شاع في العسكر أن مروان بْن محمد قد قتل الإمام: فإن كان قد قتل كان أخوه أبو العباس الخليفة والإمام من بعده، فرد عليه أبو سلمة: يا أبا الجهم، اكفف أبا حميد عن دخول الكوفة، فإنهم أصحاب إرجاف وفساد.
                          فلما كانت الليلة الثانية أتى إبراهيم بْن سلمة أبا الجهم وموسى بْن كعب، فبلغهما رسالة من أبي العباس وأهل بيته، ومشى في القواد والشيعة تلك الليلة، فاجتمعوا في منزل موسى بْن كعب، منهم عبد الحميد بْن ربعي وسلمه بن محمد وعبد الله الطائي واسحق بْن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بْن بسام وغيرهم من القواد، فائتمروا في الدخول إلى أبي العباس وأهل بيته، ثم تسللوا من الغد حتى دخلوا الكوفه وزعيمهم موسى بْن كعب وأبو الجهم وأبو حميد الحميري- وهو محمد بْن إبراهيم- فانتهوا إلى دار الوليد بْن سعد، فدخلوا عليهم، فقال موسى ابن كعب وأبو الجهم: أيكم أبو العباس؟ فأشاروا إليه، فسلموا عليه وعزوه بالإمام إبراهيم، وانصرفوا إلى العسكر، وخلفوا عنده أبا حميد وأبا مقاتل وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين ومحمد بْن الحارث ونهار بْن حصين ويوسف بْن محمد وأبا هريرة محمد بْن فروخ.
                          فبعث أبو سلمة إلى أبي الجهم فدعاه، وكان أخبره بدخوله الكوفة، فقال:
                          أين كنت يا أبا الجهم؟ قَالَ: كنت عند إمامي، وخرج أبو الجهم فدعا حاجب بْن صدان، فبعثه إلى الكوفة، وقال له: ادخل، فسلم على أبي العباس بالخلافة، وبعث إلى أبي حميد وأصحابه: أن أتاكم أبو سلمة فلا يدخل إلا وحده، فان دخل وبايع فسبيله ذلك، والا فاضربوا عنقه، فلم يلبثوا أن أتاهم أبو سلمة فدخل وحده، فسلم على أبي العباس بالخلافة، فأمره أبو العباس بالانصراف إلى عسكره، فانصرف من ليلته، فأصبح الناس قد لبسوا سلاحهم، واصطفوا لخروج أبي العباس، وأتوه بالدواب، فركب ومن معه من أهل بيته حتى دخلوا قصر الإمارة بالكوفة يوم الجمعة لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخر ثم دخل المسجد من دار الإمارة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عظمة الرب تبارك وتعالى وفضل النبي ص، وقاد الولاية والوراثة حتى انتهيا إليه، ووعد الناس خيرا ثم سكت.
                          وتكلم داود بْن علي وهو على المنبر أسفل من أبي العباس بثلاث درجات، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ص، وقال: أيها الناس، إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة إلا علي بْن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي ثم نزلا وخرج أبو العباس، فعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة، ونزل معه في حجرته، بينهما ستر، وحاجب أبي العباس يومئذ عبد الله بْن بسام واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بْن علي، وبعث عمه عبد الله بن على الى ابى عون ابن يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بْن موسى إلى الحسن بْن قحطبة، وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بْن جعفر بن تمام ابن عباس إلى حميد بْن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروه ابن محمد بْن عمار بْن ياسر إلى بسام بْن إبراهيم بْن بسام بالأهواز، وبعث سلمة بْن عمرو بْن عثمان إلى مالك بْن طريف، وأقام أبو العباس في العسكر أشهرا ثم ارتحل، فنزل المدينة الهاشمية في قصر الكوفة، وقد كان تنكر لأبي سلمة قبل تحوله حتى عرف ذلك.
                          [بيَّنَّا آنفا (7/428) أن هذه الخطبة محرفة عن الخطبة الأصلية التي ذكرها (خليفة بن خياط في تأريخه (ص268) وأن العبارة الصحيحة (خليفة بعد علي بن أبي طالب إلا أبا العباس) أو نحوا من هذا وانظر تعليقنا ص 16 والتعليقة (1)]

                          قَالَ علي: حدثنا شيخ من أهل خراسان قَالَ: قَالَ مروان للمخارق: تعرف المخارق ان رايته؟ فإنهم زعموا انه في هذه الرءوس التي أتينا بها، قَالَ: نعم، قَالَ: اعرضوا عليه تلك الرءوس، فنظر فقال: ما أرى رأسه في هذه الرءوس، ولا أراه إلا وقد ذهب، فخلى سبيله وبلغ عبد الله بْن علي انهزام المخارق، فقال له موسى بْن كعب: اخرج إلى مروان قبل أن يصل الفل إلى العسكر، فيظهر ما لقي المخارق فدعا عبد الله بْن علي محمد بْن صول، فاستخلفه على العسكر، وسار على ميمنته أبو عون، وعلى ميسرة مروان الوليد بْن معاوية، ومع مروان ثلاثة آلاف من المحمرة ومعه الذكوانيه والصحصحية والراشدية، فقال مروان لما التقى العسكران لعبد العزيز بْن عمر بْن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها الى عيسى بن مريم، وان قاتلونا قبل الزوال، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ وأرسل مروان إلى عبد الله بْن علي يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، ولا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله.
                          فقال مروان لأهل الشام: قفوا لا تبدءوهم بقتال، فجعل ينظر إلى الشمس، فحمل الوليد بْن معاوية بْن مروان وهو ختن مروان على ابنته، فغضب وشتمه وقاتل ابن معاوية أهل الميمنة، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن على، فقال موسى ابن كعب لعبد الله: مر الناس فلينزلوا، فنودي: الارض، فنزل الناس، واشرعوا الرماح، وجثوا على الركب، فقاتلوهم، فجعل أهل الشام يتأخرون كأنهم يدفعون، ومشى عبد الله قدما وهو يقول: يا رب، حتى متى نقتل فيك! ونادى: يا أهل خراسان، يا لثأرات إبراهيم! يا محمد، يا منصور!
                          واشتد بينهم القتال وقال مروان لقضاعة: انزلوا، فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا، فأرسل إلى السكاسك أن احملوا، فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السكون أن احملوا، فقالوا: قل لغطفان فليحملوا، فقال لصاحب شرطه: انزل، فقال: لا والله ما كنت لأجعل نفسي غرضا قَالَ: أما والله لأسوءنك، قَالَ: وددت والله أنك قدرت على ذلك ثم انهزم أهل الشام، وانهزم مروان، وقطع الجسر، فكان من غرق يومئذ أكثر ممن قتل، فكان فيمن غرق يومئذ إبراهيم بْن الوليد بْن عبد الملك المخلوع، وأمر عبد الله بْن علي فعقد الجسر على الزاب، واستخرجوا الغرقى فاخرجوا ثلاثمائة، فكان فيمن أخرجوا إبراهيم بْن الوليد بْن عبد الملك، فقال عبد الله بْن علي: «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ».
                          وأقام عبد الله بْن علي في عسكره سبعة أيام، فقال رجل من ولد سعيد ابن العاصي يعير مروان:
                          لج الفرار بمروان فقلت له ... عاد الظلوم ظليما همه الهرب
                          أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ... عنك الهوينى فلا دين ولا حسب
                          فراشه الحلم فرعون العقاب وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب
                          وكتب عبد الله بْن علي إلى أمير المؤمنين أبي العباس بالفتح، وهرب مروان وحوى عسكر مروان بما فيه، فوجد فيه سلاحا كثيرا وأموالا، ولم يجدوا فيه امرأة إلا جارية كانت لعبد الله بْن مروان، فلما اتى العباس كتاب عبد الله ابن علي صلى ركعتين، ثم قَالَ: «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ» الى قوله: «وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» وامر لمن شهد الوقعه بخمسمائة خمسمائة، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
                          حدثنا أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، قَالَ: قَالَ عبد الرحمن بْن أمية: كان مروان لما لقيه أهل خراسان لا يدبر شيئا إلا كان فيه الخلل والفساد قَالَ: بلغني أنه كان يوم انهزم واقفا، والناس يقتتلون، إذ امر باموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا، فهذه الأموال لكم، فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك المال، فأرسلوا إليه: إن الناس قد مالوا على هذا المال، ولا نأمنهم أن يذهبوا به فأرسل إلى ابنه عبد الله أن سر في أصحابك إلى مؤخر عسكرك، فاقتل من أخذ من ذلك المال وامنعهم، فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة، فانهزموا.
                          حدثنا أحمد بْن علي، عن أبي الجارود السلمي، قَالَ: حدثني رجل من أهل خراسان، قَالَ: لقينا مروان على الزاب، فحمل علينا أهل الشام كأنهم جبال حديد، فجثونا وأشرعنا الرماح، فمالوا عنا كأنهم سحابة، ومنحنا الله أكتافهم، وانقطع الجسر مما يليهم حين عبروا، فبقي عليه رجل من أهل الشام، فخرج عليه رجل منا، فقتله الشامي، ثم خرج آخر فقتله، حتى والى بين ثلاثة، فقال رجل منا: اطلبوا لي سيفا قاطعا، وترسا صلبا، فأعطيناه، فمشى إليه فضربه الشامي فاتقاه بالترس، وضرب رجله فقطعها، وقتله ورجع، وحملناه وكبرنا فإذا هو عبيد الله الكابلي.

                          *ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
                          حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، قَالَ: حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن خالد، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: قدم مروان بْن محمد الرقة حين قدمها متوجها إلى الضحاك بسعيد بْن هشام بْن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان، وهم في وثاقهم معه، فسرح بهم إلى خليفته بحران، فحبسهم في حبسها، ومعهم إبراهيم بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وعبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز والعباس بْن الوليد وأبو محمد السفياني- وكان يقال له البيطار-، فهلك في سجن حران منهم في وباء وقع بحران العباس بْن الوليد وإبراهيم بْن محمد وعبد الله بْن عمر قَالَ: فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب يوم هزمه عبد الله بْن علي بجمعة، خرج سعيد بْن هشام ومن معه من المحبسين، فقتلوا صاحب السجن، وخرج فيمن معه، وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس، فلم يخرج فيمن خرج، ومعه غيره لم يستحلوا الخروج من الحبس، فقتل أهل حران ومن كان فيها من الغوغاء سعيد بْن هشام وشراحيل بْن مسلمة بْن عبد الملك وعبد الملك بْن بشر التغلبي، وبطريق أرمينية الرابعة- وكان اسمه كوشان- بالحجارة، ولم يلبث مروان بعد قتلهم إلا نحوا من خمس عشرة ليلة، حتى قدم حران منهزما من الزاب، فخلى عن أبي محمد ومن كان في حبسه من المحبسين.
                          وذكر عمر أن عبد الله بْن كثير العبدي حدثه عن علي بْن موسى، عن أبيه، قَالَ: هدم مروان على إبراهيم بن محمد بيتا فقتله.
                          قال عمرو: وحدثنى محمد بْن معروف بْن سويد، قَالَ: حدثني أبي عن المهلهل بْن صفوان- قَالَ عمر: ثم حدثني المفضل بْن جعفر بْن سليمان بعده، قَالَ: حدثني المهلهل بْن صفوان- قَالَ: كنت اخدم ابراهيم بن محمد في الحبس، وكان معه في الحبس عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز وشراحيل بْن مسلمة بْن عبد الملك فكانوا يتزاورون، وخص الذي بين إبراهيم وشراحيل فأتاه رسوله يوما بلبن، فقال: يقول لك أخوك: إني شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه، فتناوله فشرب فتوصب من ساعته وتكسر جسده،
                          [في الإسناد تصحيف فالصواب قال عمر (أي ابن شبة) وأما محمد بن معروف فلم نجد له ترجمة وشيخ أبيه المهلهل بن صفوان مجهول الحال على أقل تقدير والخبر لا يصح]
                          وكان يوما يأتي فيه شراحيل، فأبطأ عليه، فأرسل اليه: جعلت فداك! قد أبطأت فما حبسك؟ فأرسل إليه: إني لما شربت اللبن الذي أرسلته إلي أخلفني، فأتاه شراحيل مذعورا وقال: لا وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، مَا شربت اليوم لبنا، ولا أرسلت به إليك، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! احتيل لك والله قال: فو الله ما بات الا ليلته واصبح من غد ميتا، فقَالَ إبراهيم بْن علي بْن سلمة بْن عامر ابن هرمة بْن هذيل بْن الربيع بْن عامر بْن صبيح بْن عدي بْن قيس- وقيس هو ابن الحارث بن فهر- يرثيه:
                          [قال المؤرخ ابن كثير: وكان وفاة مروان يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة وقبل يوم الخميس لست مضين منها سنة اثنتين وثلاثين ومئة وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام. البداية والنهاية (8/42)]
                          قد كنت أحسبني جلدا فضعضعني ... قبر بحران فيه عصمة الدين
                          فيه الإمام وخير الناس كلهم ... بين الصفائح والأحجار والطين
                          فيه الإمام الذي عمت مصيبته ... وعيلت كل ذي مال ومسكين
                          فلا عفا الله عن مروان مظلمة ... لكن عفا الله عمن قال آمين.

                          وقد خولف هؤلاء في عدد من كان مع عبد الله بْن على يومئذ فذكر مسلم بن المغيره، عن مصعب بْن الربيع الخثعمي وهو أبو موسى ابن مصعب- وكان كاتبا لمروان- قَالَ: لما انهزم مروان، وظهر عبد الله بْن علي على الشام، طلبت الأمان فآمنني، فإني يوما جالس عنده، وهو متكئ إذ ذكر مروان وانهزامه، قَالَ: أشهدت القتال؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير! فقال: حدثني عنه، قَالَ: قلت: لما كان ذلك اليوم قَالَ لي: احزر القوم، فقلت: إنما أنا صاحب قلم، ولست صاحب حرب، فاخذ يمنه ويسره ونظر فقال: هم اثنا عشر ألفا، فجلس عبد الله، ثم قال: ماله قاتله الله! ما أحصى الديوان يومئذ فضلا على اثني عشر ألف رجل!
                          ***
                          رجع الحديث إلى حديث علي بْن محمد عن أشياخه: فانهزم مروان حتى أتى مدينة الموصل، وعليها هشام بْن عمرو التغلبي وبشر بْن خزيمة الأسدي، وقطعوا الجسر، فناداهم أهل الشام هذا مروان، قالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفر، فسار إلى بلد، فعبر دجلة، فأتى حران ثم أتى دمشق، وخلف بها الوليد بْن معاوية، وقال: قاتلهم حتى يجتمع أهل الشام ومضى مروان حتى أتى فلسطين، فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بْن ضبعان الجذامي فأرسل مروان إلى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْن روح بْن زنباع، فأجازه، وكان بيت المال في يد الحكم وكتب أبو العباس إلى عبد الله بْن علي يأمره باتباع مروان، فسار عبد الله إلى الموصل، فتلقاه هشام بْن عمرو التغلبي وبشر بْن خزيمة وقد سودا في أهل الموصل، ففتحوا له المدينة، ثم سار إلى حران، وولى الموصل محمد بْن صول، فهدم الدار التي حبس فيها ابراهيم ابن محمد، ثم سار من حران إلى منبج وقد سودوا، فنزل منبج وولاها أبا حميد المروروذي، وبعث إليه أهل قنسرين ببيعتهم إياه بما أتاه به عنهم أبو أمية التغلبي وقدم عليه عبد الصمد بْن علي، أمده به أبو العباس في أربعة آلاف، فأقام يومين بعد قدوم عبد الصمد، ثم سار إلى قنسرين، فأتاها وقد سود أهلها، فأقام يومين، ثم سار حتى نزل حمص، فأقام بها أياما وبايع أهلها، ثم سار إلى بعلبك، فأقام يومين ثم ارتحل، فنزل بعين الجر، فأقام يومين ثم ارتحل، فنزل مزة قرية من قرى دمشق فأقام وقدم عليه صالح بْن علي مددا، فنزل مرج عذراء في ثمانية آلاف، معه بسام بْن إبراهيم وخفاف وشعبة والهيثم بْن بسام ثم سار عبد الله بن على، فنزل على الباب الشرقي، ونزل صالح بْن علي على باب الجابية، وأبو عون على باب كيسان، وبسام على باب الصغير، وحميد بْن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بْن صفوان والعباس بْن يزيد على باب الفراديس- وفي دمشق الوليد بْن معاوية- فحصروا أهل دمشق والبلقاء، وتعصب الناس بالمدينة، فقتل بعضهم بعضا، وقتلوا الوليد، ففتحوا الأبواب يوم الأربعاء لعشر مضين من رمضان سنه ثنتين وثلاثين ومائة، فكان أول من صعد سور المدينة من الباب الشرقى عبد الله الطائي، ومن قبل باب الصغير بسام بن ابراهيم، فقاتلوا بها ثلاث ساعات، وأقام عبد الله بْن علي بدمشق خمسة عشر يوما، ثم سار يريد فلسطين، فنزل نهر الكسوة، فوجه منها يحيى بْن جعفر الهاشمي إلى المدينة، ثم ارتحل إلى الأردن، فأتوه وقد سودوا، ثم نزل بيسان، ثم سار إلى مرج الروم، ثم أتى نهر أبي فطرس، وقد هرب مروان، فأقام بفلسطين، وجاءه كتاب أبي العباس، أن وجه صالح بْن علي في طلب مروان، فسار صالح بْن علي من نهر أبي فطرس في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومعه ابن فتان وعامر بْن إسماعيل وأبو عون، فقدم صالح ابن علي أبا عون على مقدمته وعامر بْن إسماعيل الحارثي، وسار فنزل الرملة، ثم سار فنزلوا ساحل البحر، وجمع صالح بْن علي السفن وتجهز يريد مروان، وهو بالفرماء، فسار على الساحل والسفن حذاءه في البحر، حتى نزل العريش.
                          وبلغ مروان فأحرق ما كان حوله من علف وطعام وهرب، ومضى صالح ابن على فنزل الليل، ثم سار حتى نزل الصعيد وبلغه أن خيلا لمروان بالساحل يحرقون الأعلاف، فوجه إليهم قوادا، فأخذوا رجالا، فقدموا بهم على صالح وهو بالفسطاط، فعبر مروان النيل، وقطع الجسر، وحرق ما حوله، ومضى صالح يتبعه، فالتقى هو وخيل لمروان على النيل فاقتتلوا، فهزمهم صالح، ثم مضى إلى خليج، فصادف عليه خيلا لمروان، فأصاب منهم طرفا وهزمهم، ثم سار إلى خليج آخر فعبروا، ورأوا رهجا فظنوه مروان، فبعث طليعة عليها الفضل بْن دينار ومالك ابن قادم، فلم يلقوا أحدا ينكرونه، فرجعوا إلى صالح فارتحل، فنزل موضعا يقال له ذات الساحل، ونزل فقدم أبو عون عامر بْن إسماعيل الحارثي، ومعه شعبة بن كثير المازنى، فلقوا خيلا لمروان وافوهم، فهزموهم وأسروا منهم رجالا، فقتلوا بعضهم، واستحيوا بعضا، فسألوا عن مروان فأخبروهم بمكانه، على أن يؤمنوهم، وساروا فوجدوه نازلا في كنيسة في بوصير، ووافوهم في آخر الليل، فهرب الجند وخرج إليهم مروان في نفر يسير، فأحاطوا به فقتلوه.
                          قَالَ علي: وأخبرني إسماعيل بْن الحسن، عن عامر بْن إسماعيل قَالَ: لقينا مروان ببوصير ونحن في جماعة يسيرة فشدوا علينا، فانضوينا إلى نخل ولو يعلمون بقلتنا لأهلكونا، فقلت لمن معي من أصحابي: فإن أصبحنا فرأوا قلتنا وعددنا لم ينج منا أحد، وذكرت قول بكير بْن ماهان: أنت والله تقتل مروان، كأني اسمعك، تقول دهيد يا جوانكثان، فكسرت جفن سيفي، وكسر أصحابي جفون سيوفهم، وقلت: دهيد يا جوانكثان، فكأنها نار صبت عليهم، فانهزموا وحمل رجل على مروان فضربه بسيفه فقتله وركب عامر بْن إسماعيل إلى صالح بْن علي، فكتب صالح بْن علي إلى أمير المؤمنين أبي العباس: إنا اتبعنا عدو الله الجعدي حتى ألجأناه إلى أرض عدو الله شبيهه فرعون، فقتلته بأرضه.
                          [لم نجد لشيخ المدائني (إسماعيل بن الحسن) ترجمة ولا للرواي عامر بن إسماعيل الذي شهد ذلك والله أعلم]

                          قَالَ علي: حدثنا أبو طالب الأنصاري، قَالَ: طعن مروان رجل من أهل البصرة- يقال له المغود، وهو لا يعرفه- فصرعه، فصاح صائح: صرع أمير المؤمنين، وابتدروه، فسبق إليه رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان، فاحتز رأسه، فبعث عامر بْن إسماعيل برأس مروان إلى أبي عون، فبعث بها أبو عون إلى صالح بْن علي، وبعث صالح برأسه مع يزيد بْن هانئ- وكان على شرطه- إلى أبي العباس يوم الأحد، لثلاث بقين من ذي الحجة سنه ثنتين وثلاثين ومائة، ورجع صالح إلى الفسطاط، ثم انصرف إلى الشام، فدفع الغنائم إلى أبي عون، والسلاح والأموال والرقيق إلى الفضل بْن دينار، وخلف أبا عون على مصر.
                          قَالَ علي: وأخبرنا أبو الحسن الخراساني، قَالَ: حدثنا شيخ من بكر ابن وائل،
                          [(شيخ من بكر بن وائل) هكذا أورده شيخ المدائني مبهما فكيف يصح الخبر.
                          وكيف تحول كل القادة والأمراء إلى منجمين ومتنبئين هذا من زيف المجاهيل والمتروكين والحمد لله على نعمة الإسناد]
                          قال: انى لبديرقنى مع بكير بْن ماهان ونحن نتحدث، إذ مر فتى معه قربتان، حتى انتهى إلى دجلة، فاستقى ماء، ثم رجع فدعاه بكير، فقال: ما اسمك يا فتى؟ قَالَ: عامر، قَالَ: ابن من؟ قَالَ: ابن إسماعيل، من بلحارث، قَالَ: وأنا من بلحارث، قَالَ: فكن من بني مسلية، قَالَ: فأنا منهم، قَالَ: فأنت والله تقتل مروان، لكأني والله أسمعك تقول: يا جوانكثان دهيد.
                          قَالَ علي: حدثنا الكناني، قَالَ: سمعت أشياخنا بالكوفة يقولون: بنو مسلية قتلة مروان.
                          وقد حدثني أحمد بْن زهير، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد وأبي سنان الجهني، قالا: كان يقال: إن أم مروان بْن محمد كانت لإبراهيم بْن الأشتر، أصابها محمد بْن مروان بْن الحكم يوم قتل ابن الأشتر، فأخذها من ثقله وهي تتنيق، فولدت مروان على فراشه، فلما قام أبو العباس دخل عليه عبد الله بْن عياش المنتوف، فقال: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمه النخع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عبد المطلب.
                          [أما علي بن مجاهد الكابلي فهو متروك ولم نجد لصاحيه أبي سنان الجهني ترجمة والخبر لا يصح]

                          وفي هذه السنة قتل عبد الله بْن علي من قتل بنهر أبي فطرس من بني أمية، وكانوا اثنين وسبعين رجلا.
                          وفيها خلع أبو الورد أبا العباس بقنسرين، فبيض وبيضوا معه.

                          ذكر الخبر عن تبيض أبي الورد وما آل إليه أمره وأمر من بيض معه
                          وكان سبب ذلك- فيما حدثني أحمد بْن زهير- قَالَ: حدثنى عبد الوهاب ابن إبراهيم، قَالَ: حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: كان أبو الورد- واسمه مجزأة بْن الكوثر بْن زفر بْن الحارث الكلابي، من أصحاب مروان وقواده وفرسانه- فلما هزم مروان، وأبو الورد بقنسرين، قدمها عبد الله بْن علي فبايعه ودخل فيما دخل فيه جنده من الطاعة وكان ولد مسلمة بْن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم بالس قائد من قواد عبد الله بْن علي من الأزار مردين في مائة وخمسين فارسا، فبعث بولد مسلمة بْن عبد الملك ونسائهم، فشكا بعضهم ذلك إلى ابى الورد، فخرج من مزرعه يقال لها زراعة بني زفر- ويقال لها خساف- في عدة من أهل بيته، حتى هجم على ذلك القائد وهو نازل في حصن مسلمة، فقاتله حتى قتله ومن معه، وأظهر التبييض والخلع لعبد الله بْن علي، ودعا أهل قنسرين إلى ذلك، فبيضوا بأجمعهم، وأبو العباس يومئذ بالحيرة وعبد الله بْن علي يومئذ مشتغل بحرب حبيب بْن مرة المري، فقاتله بأرض البلقاء والبثنية وحوران وكان قد لقيه عبد الله بْن علي في جموعه فقاتلهم وكان بينه وبينهم وقعات، وكان من قواد مروان وفرسانه وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وعلى قومه، فبايعته قيس وغيرهم ممن يليهم من أهل تلك الكور، البثنية وحوران فلما بلغ عبد الله بْن علي تبييضهم، دعا حبيب بْن مرة إلى الصلح فصالحه وآمنه ومن معه، وخرج متوجها نحو قنسرين للقاء أبي الورد، فمر بدمشق، فخلف فيها أبا غانم عبد الحميد بْن ربعي الطائي في أربعة آلاف رجل من جنده، وكان بدمشق يومئذ امرأة عبد الله بْن علي أم البنين بنت محمد بْن عبد المطلب النوفلية أخت عمرو بْن محمد، وأمهات أولاد لعبد الله وثقل له. فلما قدم حمص في وجهه ذلك انتقض عليه بعده أهل دمشق فبيضوا، ونهضوا مع عثمان بْن عبد الأعلى بن سرادقه الأزدي قَالَ: فلقوا أبا غانم ومن معه، فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة، وانتهبوا ما كان عبد الله بْن علي خلف من ثقله ومتاعه، ولم يعرضوا لأهله، وبيض أهل دمشق واستجمعوا على الخلاف، ومضى عبد الله بْن علي- وقد كان تجمع مع أبي الورد جماعة أهل قنسرين، وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، وقدمهم ألوف، عليهم أبو محمد بْن عبد الله بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَانَ، فرأسوا عليهم أبا محمد، ودعوا إليه وقالوا: هو السفياني الذى كان يذكر وهم في نحو من أربعين ألفا فلما دنا منهم عبد الله بْن علي وأبو محمد معسكر في جماعته بمرج يقال له مرج الأخرم- وأبو الورد المتولي لأمر العسكر والمدبر له وصاحب القتال والوقائع- وجه عبد الله أخاه عبد الصمد بْن علي في عشرة آلاف من فرسان من معه، فناهضهم أبو الورد، ولقيهم فيما بين العسكرين، واشتجر القتل فيما بين الفريقين وثبت القوم، وانكشف عبد الصمد ومن معه، وقتل منهم يومئذ ألوف، وأقبل عبد الله حيث أتاه عبد الصمد ومعه حميد بْن قحطبة وجماعة من معه من القواد، فالتقوا ثانية بمرج الأخرم، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانكشف جماعة ممن كان مع عبد الله، ثم ثابوا، وثبت لهم عبد الله وحميد بْن قحطبة فهزموهم، وثبت أبو الورد في نحو من خمسمائة من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعا، وهرب أبو محمد ومن معه من الكلبية حتى لحقوا بتدمر، وآمن عبد الله أهل قنسرين، وسودوا وبايعوه، ودخلوا في طاعته، ثم انصرف راجعا إلى أهل دمشق، لما كان من تبييضهم عليه، وهزيمتهم أبا غانم. فلما دنا من دمشق هرب الناس وتفرقوا، ولم يكن بينهم وقعة، وآمن عبد الله أهلها، وبايعوه ولم يأخذهم بما كان منهم.
                          قَالَ: ولم يزل أبو محمد متغيبا هاربا، ولحق بأرض الحجاز وبلغ زياد بْن عبيد الله الحارثي عامل أبي جعفر مكانه الذي تغيب فيه، فوجه إليه خيلا، فقاتلوه حتى قتل، وأخذ ابنين له أسيرين، فبعث زياد برأس أبي محمد وابنيه إلى أبي جعفر أمير المؤمنين، فأمر بتخلية سبيلهما وآمنهما.
                          وأما علي بْن محمد فإنه ذكر أن النعمان أبا السري حدثه وجبلة بْن فروخ وسليمان بْن داود وأبو صالح المروزي قالوا: خلع أبو الورد بقنسرين، فكتب أبو العباس إلى عبد الله بْن علي وهو بفطرس أن يقاتل أبا الورد، ثم وجه عبد الصمد إلى قنسرين في سبعة آلاف، وعلى حرسه مخارق بْن غفار، وعلى شرطه كلثوم بْن شبيب، ثم وجه بعده ذؤيب بْن الأشعث في خمسة آلاف، ثم جعل يوجه الجنود، فلقي عبد الصمد أبا الورد في جمع كثير، فانهزم الناس عن عبد الصمد حتى أتوا حمص، فبعث عبد الله بْن علي العباس بْن يزيد بْن زياد ومروان الجرجاني وأبا المتوكل الجرجاني، كل رجل في أصحابه إلى حمص، وأقبل عبد الله بْن علي بنفسه، فنزل على أربعة أميال من حمص- وعبد الصمد بْن علي بحمص- وكتب عبد الله الى حميد ابن قحطبة، فقدم عليه من الأردن، وبايع أهل قنسرين لأبي محمد السفياني زياد بْن عبد الله بْن يزيد بْن معاوية وأبو الورد بْن، وبايعه الناس، وأقام أربعين يوما، وأتاهم عبد الله بْن علي ومعه عبد الصمد وحميد بْن قحطبة، فالتقوا فاقتتلوا أشد القتال بينهم، واضطرهم أبو محمد إلى شعب ضيق، فجعل الناس يتفرقون، فقال حميد بْن قحطبة لعبد الله بن على: علام نقيم؟ هم يزيدون وأصحابنا ينقصون! ناجزهم، فاقتتلوا يوم الثلاثاء في آخر يوم من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وعلى ميمنة أبي محمد أبو الورد وعلى ميسرته الأصبغ بن ذؤاله، فجرح أبو الورد، فحمل إلى أهله فمات. ولجأ قوم من أصحاب أبي الورد إلى أجمة فأحرقوها عليهم، وقد كان أهل حمص نقضوا، وأرادوا إيثار أبي محمد، فلما بلغهم هزيمته أقاموا.

                          ذكر خبر خلع حبيب بن مره المري
                          وفي هذه السنة خلع حبيب بْن مرة المري وبيض هو ومن معه من أهل الشام.
                          *ذكر الخبر عن ذلك:
                          ذكر علي عن شيوخه، قَالَ: بيض حبيب بْن مرة المري وأهل البثنية وحوران، وعبد الله بْن علي في عسكر أبي الورد الذي قتل فيه.
                          وقد حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كان تبييض حبيب بْن مرة وقتاله عبد الله بْن علي قبل تبييض أبي الورد، وإنما بيض أبو الورد وعبد الله مشتغل بحرب حبيب بْن مرة المري بأرض البلقاء أو البثنية وحوران، وكان قد لقيه عبد الله بْن علي في جموعه فقاتله، وكان بينه وبينه وقعات، وكان من قواد مروان وفرسانه، وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه، فبايعه قيس وغيرهم ممن يليهم من أهل تلك الكور، البثنية وحوران، فلما بلغ عبد الله ابن علي تبييض أهل قنسرين، دعا حبيب بْن مرة إلى الصلح فصالحه، وآمنه ومن معه، وخرج متوجها إلى قنسرين للقاء أبي الورد.

                          ذكر خبر تبييض اهل الجزيرة وخلعهم أبا العباس
                          وفي هذه السنة بيض أيضا أهل الجزيرة وخلعوا أبا العباس.
                          *ذكر الخبر عن أمرهم وما آل إليه حالهم فيه:
                          حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ:
                          حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كان أهل الجزيرة بيضوا ونقضوا، حيث بلغهم خروج أبي الورد وانتقاض أهل قنسرين، وساروا إلى حران، وبحران يومئذ موسى بْن كعب في ثلاثة آلاف من الجند، فتشبث بمدينتها، وساروا إليه مبيضين من كل وجه، وحاصروه ومن معه، وأمرهم مشتت، ليس عليهم رأس يجمعهم.
                          وقدم على تفيئة
                          [أي عقب ذلك]
                          ذلك إسحاق بْن مسلم من أرمينية- وكان شخص عنها حين بلغه هزيمة مروان- فرأسه أهل الجزيرة عليهم وحاصر موسى بْن كعب نحوا من شهرين، ووجه أبو العباس أبا جعفر فيمن كان معه من الجنود التي كانت بواسط محاصرة ابن هبيرة، فمضى حتى مر بقرقيسيا وأهلها مبيضون، وقد غلقوا أبوابها دونه ثم قدم مدينة الرقة وهم على ذلك، وبها بكار بْن مسلم، فمضى نحو حران، ورحل إسحاق بْن مسلم إلى الرهاء- وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وخرج موسى بْن كعب فيمن معه من مدينة حران، فلقوا أبا جعفر وقدم بكار على أخيه إسحاق بْن مسلم، فوجهه الى جماعه ربيعه بدارا وماردين- ورئيس ربيعة يومئذ رجل من الحرورية يقال له بريكة- فصمد إليه أبو جعفر، فلقيهم فقاتلوه بها قتالا شديدا، وقتل بريكة في المعركة، وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق بالرهاء فخلفه إسحاق بها، ومضى في عظم العسكر إلى سميساط، فخندق على عسكره. وأقبل أبو جعفر في جموعه حتى قابله بكار بالرهاء، وكانت بينهما وقعات.
                          وكتب أبو العباس إلى عبد الله بْن علي في المسير بجنوده إلى إسحاق بسميساط، فأقبل من الشام حتى نزل بإزاء إسحاق بسميساط، وهم في ستين ألفا أهل الجزيرة جميعها، وبينهما الفرات، وأقبل أبو جعفر من الرهاء فكاتبهم إسحاق وطلب إليهم الأمان، فأجابوا إلى ذلك وكتبوا إلى أبي العباس، فأمرهم أن يؤمنوه ومن معه، ففعلوا وكتبوا بينهم كتابا، ووثقوا له فيه، فخرج إسحاق إلى أبي جعفر، وتم الصلح بينهما، وكان عنده من آثر اصحابه.
                          فاستقام أهل الجزيرة وأهل الشام، وولى أبو العباس أبا جعفر الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل على ذلك حتى استخلف.
                          وقد ذكر أن إسحاق بْن مسلم العقيلي هذا أقام بسميساط سبعة أشهر، وأبو جعفر محاصره، وكان يقول: في عنقي بيعة، فأنا لا أدعها حتى أعلم أن صاحبها قد مات أو قتل فأرسل إليه أبو جعفر: أن مروان قد قتل، فقال: حتى أتيقن، ثم طلب الصلح، وقال: قد علمت أن مروان قد قتل، فآمنه أبو جعفر وصار معه، وكان عظيم المنزلة عنده.
                          وقد قيل: إن عبد الله بْن علي هو الذى آمنه.

                          *ذكر الخبر عن سبب مسير أبي جعفر في ذلك، وما كان من أمره وأمر أبي مسلم في ذلك:
                          قد مضى ذكري قبل أمر أبي سلمة، وما كان من فعله في أمر أبي العباس ومن كان معه من بنى هاشم عند قدومهم الكوفه، الذى صار به عندهم متهما، فذكر علي بن محمد ان جبله بن فروخ قال: قال يزيد بْن أسيد:
                          قَالَ أبو جعفر: لما ظهر أبو العباس أمير المؤمنين سمرنا ذات ليلة، فذكرنا ما صنع أبو سلمة، فقال رجل منا: ما يدريكم، لعل ما صنع أبو سلمة كان عن رأي أبي مسلم! فلم ينطق منا أحد، فقال: أمير المؤمنين أبو العباس: لئن كان هذا عن رأي أبي مسلم إنا لبعرض بلاء، إلا أن يدفعه الله عنا.
                          وتفرقنا فأرسل إلي أبو العباس، فقال: ما ترى؟ فقلت: الرأي رأيك، فقال:
                          ليس منا أحد أخص بأبي مسلم منك، فاخرج إليه حتى تعلم ما رأيه، فليس يخفى عليك، فلو قد لقيته، فإن كان عن رأيه أخذنا لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا.
                          فخرجت على وجل، فلما انتهيت إلى الري، إذا صاحب الري قد أتاه كتاب أبي مسلم: إنه بلغني أن عبد الله بْن محمد توجه إليك، فإذا قدم فأشخصه ساعة قدومه عليك فلما قدمت أتاني عامل الري فأخبرني بكتاب أبي مسلم، وأمرني بالرحيل، فازددت وجلا، وخرجت من الري وأنا حذر خائف فسرت، فلما كنت بنيسابور إذا عاملها قد أتاني بكتاب أبي مسلم: إذا قدم عليك عبد الله بن محمد فاشخصه ولا تدعه يقيم، فإن أرضك أرض خوارج ولا آمن عليه فطابت نفسي وقلت: أراه يعنى بأمري فسرت، فلما كنت من مرو على فرسخين، تلقاني أبو مسلم في الناس، فلما دنا مني أقبل يمشي إلي، حتى قبل يدي، فقلت: اركب، فركب فدخل مرو، فنزلت دارا فمكثت ثلاثة أيام، لا يسألني عن شيء، ثم قَالَ لي في اليوم الرابع: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: فعلها أبو سلمة! أكفيكموه! فدعا مرار ابن أنس الضبي، فقال: انطلق إلى الكوفة، فاقتل أبا سلمة حيث لقيته، وانته في ذلك إلى رأي الإمام فقدم مرار الكوفة، فكان أبو سلمة يسمر عند أبي العباس، فقعد في طريقه، فلما خرج قتله فقالوا: قتله الخوارج.
                          قَالَ علي: فحدثني شيخ من بني سليم، عن سالم، قَالَ: صحبت أبا جعفر من الري إلى خراسان، وكنت حاجبه، فكان أبو مسلم يأتيه فينزل على باب الدار ويجلس في الدهليز، ويقول: استأذن لي، فغضب أبو جعفر علي، وقال: ويلك! إذا رأيته فافتح له الباب، وقل له يدخل على دابته.
                          ففعلت وقلت لأبي مسلم: إنه قَالَ كذا وكذا، قَالَ: نعم، أعلم، واستأذن لي عليه.
                          وقد قيل: إن أبا العباس قد كان تنكر لأبي سلمة قبل ارتحاله من عسكره بالنخيلة، ثم تحول عنه إلى المدينة الهاشمية، فنزل قصر الإمارة بها، وهو متنكر له، قد عرف ذلك منه، وكتب إلى أبي مسلم يعلمه رأيه، وما كان هم به من الغش، وما يتخوف منه، فكتب أبو مسلم إلى أمير المؤمنين:
                          إن كان اطلع على ذلك منه فليقتله، فقال داود بن علي لأبي العباس: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فيحتج عليك بها أبو مسلم وأهل خراسان الذين معك، وحاله فيهم حاله، ولكن اكتب إلى أبي مسلم فليبعث إليه من يقتله، فكتب إلى أبي مسلم بذلك، فبعث بذلك أبو مسلم مرار بْن أنس الضبي، فقدم على أبي العباس في المدينة الهاشمية، وأعلمه سبب قدومه، فأمر أبو العباس مناديا فنادى: إن أمير المؤمنين قد رضي عن أبي سلمة ودعاه وكساه، ثم دخل عليه بعد ذلك ليلة، فلم يزل عنده حتى ذهب عامة الليل، ثم خرج منصرفا إلى منزله يمشي وحده، حتى دخل الطاقات، فعرض له مرار بْن أنس ومن كان معه من أعوانه فقتلوه، وأغلقت أبواب المدينة، وقالوا: قتل الخوارج أبا سلمة ثم أخرج من الغد، فصلى عليه يحيى بْن محمد بْن علي، ودفن في المدينة الهاشمية، فقال سليمان بْن المهاجر البجلي:
                          إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
                          وكان يقال لأبي سلمة: وزير آل محمد، ولأبي مسلم: أمين آل محمد فلما قتل أبو سلمة وجه أبو العباس أخاه أبا جعفر في ثلاثين رجلا إلى أبي مسلم، فيهم الحجاج بْن أرطاة وإسحاق بْن الفضل الهاشمي.
                          ولما قدم أبو جعفر على أبي مسلم سايره عبيد الله بْن الحسين الأعرج وسليمان بْن كثير معه، فقال سليمان بْن كثير للأعرج: يا هذا، إنا كنا نرجو أن يتم أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون، فظن عبيد الله أنه دسيس من أبي مسلم، فخاف ذلك وبلغ أبا مسلم مسايرة سليمان بْن كثير إياه، وأتى عبيد الله أبا مسلم، فذكر له ما قَالَ سليمان، وظن أنه إن لم يفعل ذلك اغتاله فقتله، فبعث أبو مسلم إلى سليمان بْن كثير، فقال له: أتحفظ قول الإمام لي: من اتهمته فاقتله؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فإني قد اتهمتك، فقال: أنشدك الله! قَالَ: لا تناشدني الله وأنت منطو على غش الإمام، فأمر بضرب عنقه ولم ير أحدا ممن كان يضرب عنقه أبو مسلم غيره، فانصرف أبو جعفر من عند أبي مسلم، فقال لأبي العباس: لست خليفة ولا أمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله، قَالَ: وكيف؟ قَالَ: والله ما يصنع إلا ما أراد، قال ابو العباس: اسكت فاكتمها.

                          وذكر أبو زيد أن محمد بْن كثير حدثه، قَالَ: كلم ابن هبيرة يوما أبا جعفر، فقال: يا هناه- او يايها المرء- ثم رجع، فقال: أيها الأمير، إن عهدي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به حديث، فسبقني لساني إلى ما لم أرده وألح أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتله وهو يراجعه، حتى كتب إليه:
                          والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله فأزمع على قتله، فبعث خازم بْن خزيمة والهيثم بْن شعبة بْن ظهير، وأمرهما بختم بيوت الأموال ثم بعث إلى وجوه من معه من القيسية والمضرية، فاقبل محمد ابن نباتة وحوثرة بْن سهيل وطارق بْن قدامة وزياد بْن سويد وأبو بكر بْن كعب العقيلي وأبان وبشر ابنا عبد الملك بْن بشر، في اثنين وعشرين رجلا من قيس وجعفر بْن حنظلة وهزان بْن سعد.
                          قَالَ: فخرج سلام بْن سليم، فقال: أين حوثرة ومحمد بْن نباتة؟ فقاما، فدخلا، وقد أجلس عثمان بْن نهيك والفضل بْن سليمان وموسى بْن عقيل في مائة في حجرة دون حجرته، فنزعت سيوفهما وكتفا، ثم دخل بشر وأبان ابنا عبد الملك بْن بشر، ففعل بهما ذلك، ثم دخل أبو بكر بْن كعب وطارق ابن قدامة، فقام جعفر بْن حنظلة، فقال: نحن رؤساء الأجناد، ولم يكون هؤلاء يقدمون علينا؟ فقال: ممن أنت؟ قَالَ: من بهراء، فقال: وراءك أوسع لك، ثم قام هزان، فتكلم فأخر، فقال روح بْن حاتم: يا أبا يعقوب، نزعت سيوف القوم، فخرج عليهم موسى بْن عقيل، فقالوا له: أعطيتمونا عهد الله ثم خستم به! إنا لنرجو أن يدرككم الله، وجعل ابن نباتة يضرط في لحية نفسه، فقال له حوثرة: إن هذا لا يغني عنك شيئا، فقال: كأني كنت أنظر إلى هذا، فقتلوا وأخذت خواتيمهم.
                          وانطلق خازم والهيثم بْن شعبة والأغلب بْن سالم في نحو من مائة، فأرسلوا إلى ابن هبيرة: إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة لحاجبه: يا أبا عثمان، انطلق فدلهم عليه، فأقاموا عند كل بيت نفرا، ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدار، ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه عمرو بْن أيوب وحاجبه وعدة من مواليه، وبني له صغير في حجره، فجعل ينكر نظرهم فقال: أقسم بالله إن في وجوه القوم لشرا، فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه في وجوههم، فقال: ما وراءكم؟ فضربه الهيثم بْن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل وقتل مواليه، ونحى الصبي من حجره، وقال: دونكم هذا الصبي، وخر ساجدا فقتل وهو ساجد، ومضوا برءوسهم إلى أبي جعفر، فنادى بالأمان للناس إلا للحكم بْن عبد الملك بْن بشر وخالد بْن سلمة المخزومي وعمر بْن ذر، فاستأمن زياد بن عبيد الله لابن ذر فآمنه أبو العباس، وهرب الحكم، وآمن أبو جعفر خالدا، فقتله أبو العباس، ولم يجز أمان أبي جعفر، وهرب ابو علاقة وهشام ابن هشيم بن صفوا بْن مزيد الفزاريان، فلحقهما حجر بْن سعيد الطائي فقتلهما على الزاب، فقال أبو عطاء السندي يرثيه:
                          ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود
                          [ديوان الحماسة 2: 295 – بشرح التبريزي]

                          عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود
                          فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
                          فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد
                          وقال منقذ بْن عبد الرحمن الهلالي يرثيه:
                          منع العزاء حرارة الصدر ... والحزن عقد عزيمة الصبر
                          لما سمعت بوقعة شملت ... بالشيب لون مفارق الشعر
                          أفنى الحماة الغر أن عرضت ... دون الوفاء حبائل الغدر
                          مالت حبائل أمرهم بفتى ... مثل النجوم حففن بالبدر
                          عالى نعيهم فقلت له ... هلا أتيت بصيحة الحشر!
                          لله درك من زعمت لنا ... أن قد حوته حوادث الدهر
                          من للمنابر بعد مهلكهم ... أو من يسد مكارم الفخر!
                          فإذا ذكرتهم شكا ألما ... قلبي لفقد فوارس زهر
                          قتلى بدجلة ما يغمهم ... إلا عباب زواخر البحر
                          فلتبك نسوتنا فوارسها ... خير الحماة ليالي الذعر
                          وذكر أبو زيد أن أبا بكر الباهلي حدثه، قال: حدثني شيخ من أهل خراسان، قال: كان هشام بْن عبد الملك خطب إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة ابنته على ابنه معاوية، فأبى أن يزوجه، فجرى بعد ذلك بين يزيد بْن عمر وبين الوليد بْن القعقاع كلام، فبعث به هشام إلى الوليد بْن القعقاع، فضربه وحبسه، فقال ابن طيسلة:
                          يا قل خير رجال لا عقول لهم ... من يعدلون إلى المحبوس في حلب
                          إلى امرئ لم تصبه الدهر معضلة ... إلا استقل بها مسترخي اللبب
                          وقيل: إن أبا العباس لما وجه أبا جعفر إلى واسط لقتال ابن هبيرة، كتب إلى الحسن بْن قحطبة: أن العسكر عسكرك، والقواد قوادك، ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرا، فاسمع له واطمع، واحسن مؤازرته وكتب إلى أبي نصر مالك بْن الهيثم بمثل ذلك، فكان الحسن المدبر لذلك العسكر بأمر المنصور.
                          وفي هذه السنة وجه أبو مسلم محمد بْن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة فيضرب أعناقهم ففعل ذلك.
                          وفي هذه السنة وجه أبو العباس عمه عيسى بْن علي على فارس، وعليها محمد بْن الأشعث، فهم به، فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك، فقال: بلى، أمرني أبو مسلم ألا يقدم علي أحد يدعي الولاية من غيره إلا ضربت عنقه.
                          ثم ارتدع عن ذلك لما تخوف من عاقبته، فاستحلف عيسى بالايمان المحرجه الا يعلو منبرا، ولا يتقلد سيفا إلا في جهاد، فلم يل عيسى بعد ذلك عملا، ولا تقلد سيفا إلا في غزو ثم وجه أبو العباس بعد ذلك إسماعيل بْن علي واليا على فارس.

                          ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة
                          (ذكر ما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الأحداث)

                          وفيها كتب أبو العباس إلى أبي عون بإقراره على مصر واليا عليها، وإلى عبد الله وصالح ابني علي على أجناد الشام.
                          وفيها توجه محمد بْن الأشعث إلى إفريقية فقاتلهم قتالا شديدا حتى فتحها.
                          وفيها خرج شريك بْن شيخ المهري بخراسان على أبي مسلم ببخارى ونقم عليه، وقال: ما على هذا اتبعنا آل محمد، على أن نسفك الدماء، ونعمل بغير الحق وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفا، فوجه إليه أبو مسلم زياد بْن صالح الخزاعي فقاتله فقتله.
                          وفيها توجه أبو داود خالد بْن إبراهيم من الوخش إلى الختل، فدخلها ولم يمتنع عليه حنش بْن السبل ملكها، وأتاه ناس من دهاقين الختل، فتحصنوا معه، وامتنع بعضهم في الدروب والشعاب والقلاع فلما ألح أبو داود على حنش، خرج من الحصن ليلا ومعه دهاقينه وشاكريته حتى انتهوا إلى أرض فرغانة، ثم خرج منها في أرض الترك، حتى وقع إلى ملك الصين، وأخذ أبو داود من ظفر به منهم، فجاوز بهم إلى بلخ، ثم بعث بهم إلى أبي مسلم.
                          وفيها قتل عبد الرحمن بْن يزيد بْن المهلب، قتله سليمان الذي يقال له الأسود، بأمان كتبه له.
                          وفيها وجه صالح بْن علي سعيد بْن عبد الله لغزو الصائفة، وراء الدروب.
                          وفيها عزل يحيى بْن محمد عن الموصل، واستعمل مكانه إسماعيل بْن علي.

                          ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة
                          (ذكر ما كان فيها من الأحداث)
                          ذكر خبر خلع بسام بن ابراهيم


                          ففيها خالف بسام بْن إبراهيم بْن بسام، وخلع، وكان من فرسان أهل خراسان وشخص- فيما ذكر- من عسكر أبي العباس أمير المؤمنين مع جماعة ممن شايعه على ذلك من رايه، مستسرين بخروجهم، ففحص عن أمرهم وإلى أين صاروا، حتى وقف على مكانهم بالمدائن، فوجه إليهم أبو العباس خازم بْن خزيمة، فلما لقي بساما ناجزه القتال، فانهزم بسام وأصحابه وقتل أكثرهم، واستبيح عسكره، ومضى خازم وأصحابه في طلبهم، في ارض ***ى إلى أن بلغ ماه، وقتل كل من لحقه منهزما، أو ناصبه القتال، ثم انصرف من وجهه ذلك، فمر بذات المطامير- أو بقرية شبيهة بها- وبها من بني الحارث بْن كعب من بني عبد المدان، وهم أخوال أبي العباس ذنبة فمر بهم وهم في مجلس لهم- وكانوا خمسة وثلاثين رجلا منهم ومن غيرهم ثمانية عشر رجلا، ومن مواليهم سبعة عشر رجلا- فلم يسلم عليهم، فلما جاز شتموه، وكان في قلبه عليهم ما كان لما بلغه عنهم من حال المغيرة بْن الفزع، وإنه لجأ إليهم، وكان من أصحاب بسام بْن إبراهيم فكر راجعا، فسألهم عما بلغه من نزول المغيرة بهم، فقالوا: مر بنا رجل مجتاز لا نعرفه، فأقام في قريتنا ليلة ثم خرج عنها، فقال لهم: أنتم اخوال امير المؤمنين وياتيكم عدوه، فيأمن في قريتكم! فهلا اجتمعتم فأخذتموه! فأغلظوا له الجواب، فأمر بهم فضربت أعناقهم جميعا، وهدمت دورهم، وانتهبت أموالهم، ثم انصرف إلى أبي العباس، وبلغ ما كان من فعل خازم اليمانية، فأعظموا ذلك، واجتمعت كلمتهم، فدخل زياد بْن عبيد الله الحارثي على أبي العباس مع عبد الله بْن
                          الربيع الحارثي وعثمان بْن نهيك، وعبد الجبار بْن عبد الرحمن، وهو يومئذ على شرطة أبي العباس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن خادما اجترأ عليك بأمر لم يكن أحد من أقرب ولد أبيك ليجترئ عليك به، من استخفافه بحقك، وقتل أخوالك الذين قطعوا البلاد، وأتوك معتزين بك، طالبين معروفك، حتى إذا صاروا إلى دارك وجوارك، وثب عليهم خازم فضرب أعناقهم، وهدم دورهم، وأنهب أموالهم، وأخرب ضياعهم، بلا حدث أحدثوه فهم بقتل خازم، فبلغ ذلك موسى بْن كعب وأبا الجهم بْن عطية، فدخلا على أبي العباس، فقالا: بلغنا يا أمير المؤمنين ما كان من تحميل هؤلاء القوم إياك على خازم، وإشارتهم عليك بقتله، وما هممت به من ذلك، وإنا نعيذك بالله من ذلك، فإن له طاعة وسابقة، وهو يحتمل له ما صنع، فإن شيعتكم من أهل خراسان قد آثروكم على الأقارب من الأولاد والآباء والإخوان، وقتلوا من خالفكم، وأنت أحق من تعمد إساءة مسيئهم، فإن كنت لا بد مجمعا على قتله فلا تتول ذلك بنفسك، وعرضه من المباعث لما إن قتل فيه كنت قد بلغت الذي أردت، وإن ظفر كان ظفره لك وأشاروا عليه بتوجيهه إلى من بعمان من الخوارج إلى الجلندي وأصحابه، وإلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان مع شيبان بْن عبد العزيز اليشكري، فامر ابو العباس بتوجيهه مع سبعمائة رجل، وكتب الى سليمان بْن علي وهو على البصرة بحملهم في السفن إلى جزيرة ابن كاوان وعمان فشخص.

                          امر الخوارج مع خازم بن خزيمة وقتل شيبان بن عبد العزيز
                          وفي هذه السنة شخص خازم بْن خزيمة إلى عمان، فأوقع بمن فيها من الخوارج، وغلب عليها وعلى ما قرب منها من البلدان وقتل شيبان الخارجي.

                          *ذكر الخبر عما كان منه هنالك:
                          ذكر أن خازم بْن خزيمة شخص في السبعمائة الذين ضمهم إليه أبو العباس، وانتخب من أهل بيته وبني عمه ومواليه ورجال من أهل مرو الروذ، قد عرفهم ووثق بهم، فسار إلى البصرة، فحملهم سليمان بْن علي، وانضم إلى خازم بالبصرة عدة من بني تميم، فساروا حتى أرسوا بجزيرة ابن كاوان، فوجه خازم نضلة بْن نعيم النهشلي في خمسمائة رجل من أصحابه إلى شيبان، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فركب شيبان وأصحابه السفن، فقطعوا إلى عمان- وهم صفرية- فلما صاروا إلى عمان نصب لهم الجلندي وأصحابه- وهم إباضية- فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل شيبان ومن معه، ثم سار خازم في البحر بمن معه، حتى أرسوا إلى ساحل عمان، فخرجوا إلى صحراء، فلقيهم الجلندي وأصحابه، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكثر القتل يومئذ في أصحاب خازم، وهم يومئذ على ضفة البحر، وقتل فيمن قتل أخ لخازم لأمه يقال له إسماعيل، في تسعين رجلا من أهل مرو الروذ، ثم تلاقوا في اليوم الثاني، فاقتتلوا قتالا شديدا، وعلى ميمنته رجل من أهل مرو الروذ، يقال له حميد الورتكاني، وعلى ميسرته رجل من أهل مرو الروذ يقال له مسلم الأرغدي، وعلى طلائعه نضلة بْن نعيم النهشلي، فقتل يومئذ من الخوارج تسعمائة رجل، وأحرقوا منهم نحوا من تسعين رجلا ثم التقوا بعد سبعة أيام من مقدم خازم على رأي أشار به عليه رجل من أهل الصغد، وقع بتلك البلاد، فأشار عليه أن يأمر أصحابه فيجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة ويرووها بالنفط، ويشعلوا فيها النيران، ثم يمشوا بها حتى يضرموها في بيوت أصحاب الجلندي.
                          وكانت من خشب وخلاف، فلما فعل ذلك وأضرمت بيوتهم بالنيران وشغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم شد عليهم خازم وأصحابه، فوضعوا فيهم السيوف وهم غير ممتنعين منهم، وقتل الجلندي فيمن قتل، وبلغ عدة من قتل عشرة آلاف، وبعث خازم برءوسهم الى البصره، فمكثت بالبصرة أياما، ثم بعث بها إلى أبي العباس، وأقام خازم بعد ذلك أشهرا، حتى أتاه كتاب ابى العباس باقفاله فقفلوا.
                          [هذا الخبر منكر، ذكره الطبري بلا إسناد، وفيه من المبالغات والتلفيق ما فيه ولو كان صحيحا أنه قتل عشرة آلاف لذاع ذلك في الآفاق، ولمشى بخبره الرواة الأخباريون ثم كيف نقل عشرة آلاف رأس غلى البصرة، ثم إلى أمير المؤمينين وكيف لم تشتهر حادثة الرؤوس هذه، وسامح الله الطبري كيف قبل هذه الأخبار المنكرة بلا إسناد]

                          ذكر غزوه كس

                          وفي هذه السنة غزا أبو داود خالد بن ابراهيم اهل كس فقتل الاخريد
                          ملكها، وهو سامع مطيع قدم عليه قبل ذلك بلخ، ثم تلقاه بكندك مما يلي كس، وأخذ أبو داود من الأخريد وأصحابه حين قتلهم من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة التي لم ير مثلها، ومن السروج الصينية ومتاع الصين كله من الديباج وغيره، ومن طرف الصين شيئا كثيرا، فحمله أبو داود أجمع إلى أبي مسلم وهو بسمرقند، وقتل أبو داود دهقان كس في عدة من دهاقينها واستحيا طاران أخا الاخريد وملكه على كس، وأخذ ابن النجاح ورده إلى أرضه، وانصرف أبو مسلم إلى مرو بعد أن قتل في أهل الصغد وأهل بخارى، وأمر ببناء حائط سمرقند، واستخلف زياد بْن صالح على الصغد وأهل بخارى، ثم رجع أبو داود الى بلخ.

                          ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة
                          (ذكر ما كان فيها من الأحداث)


                          فمما كان فيها من ذلك خروج زياد بْن صالح وراء نهر بلخ، فشخص أبو مسلم من مرو مستعدا للقائه، وبعث أبو داود خالد بْن إبراهيم نصر بْن راشد إلى الترمذ، وأمره أن ينزل مدينتها، مخافة أن يبعث زياد بْن صالح إلى الحصن والسفن فيأخذها، ففعل ذلك نصر، وأقام بها أياما، فخرج عليه ناس من الراوندية من أهل الطالقان مع رجل يكنى أبا إسحاق، فقتلوا نصرا، فلما بلغ ذلك أبا داود بعث عيسى بْن ماهان في تتبع قتلة نصر، فتتبعهم فقتلهم، فمضى أبو مسلم مسرعا، حتى انتهى إلى آمل، ومعه سباع بْن ابى النعمان الأزدي، وهو الذي كان قدم بعهد زياد بْن صالح من قبل أبي العباس، وأمره إن رأى فرصة أن يثب على أبي مسلم فيقتله فأخبر أبو مسلم بذلك، فدفع سباع بْن النعمان إلى الحسن بْن الجنيد عامله على آمل، وأمره بحبسه عنده، وعبر أبو مسلم إلى بخارى، فلما نزلها أتاه أبو شاكر وأبو سعد الشروي في قواد قد خلعوا زيادا، فسألهم أبو مسلم عن أمر زياد ومن أفسده، قالوا: سباع بْن النعمان، فكتب إلى عامله على آمل أن يضرب سباعا مائة سوط، ثم يضرب عنقه، ففعل.
                          ولما أسلم زيادا قواده ولحقوا بأبي مسلم لجأ إلى دهقان باركث، فوثب عليه الدهقان، فضرب عنقه، وجاء برأسه إلى أبي مسلم، فأبطأ أبو داود على أبي مسلم لحال الراوندية الذين كانوا خرجوا، فكتب اليه ابو مسلم: اما بعد فليفرخ روعك، ويأمن سربك، فقد قتل الله زيادا، فاقدم، فقدم ابو داود، كس، وبعث عيسى بْن ماهان إلى بسام، وبعث ابن النجاح إلى الأصبهبذ إلى شاوغر، فحاصر الحصن فاما أهل شاوغر فسألوا الصلح، فأجيبوا إلى ذلك.
                          واما بسام فلم يصل عيسى بْن ماهان إلى شيء منه، حتى ظهر أبو مسلم بستة عشر كتابا وجدها من عيسى بْن ماهان إلى كامل بْن مظفر صاحب أبي مسلم، يعيب فيها أبا داود، وينسبه فيها إلى العصبية وإيثاره العرب وقومه على غيرهم من أهل هذه الدعوة، وإن في عسكره ستة وثلاثين سرادقا للمستأمنة، فبعث بها أبو مسلم إلى أبي داود، وكتب إليه: إن هذه كتب العلج الذي صيرته عدل نفسك، فشأنك به فكتب ابو داود الى عيسى ابن ماهان يأمره بالانصراف إليه عن بسام، فلما قدم عليه حبسه ودفعه إلى عمر النغم، وكان في يده محبوسا، ثم دعا به بعد يومين أو ثلاثة فذكره صنيعته به وإيثاره إياه على ولده، فأقر بذلك، فقال أبو داود: فكان جزاء ما صنعت بك أن سعيت بي وأردت قتلي فأنكر ذلك، فأخرج كتبه فعرفها، فضربه أبو داود يومئذ حدين: أحدهما للحسن بْن حمدان ثم قَالَ أبو داود: أما إني قد تركت ذنبك لك، ولكن الجند أعلم فأخرج في القيود، فلما أخرج من السرادق وثب عليه حرب بْن زياد وحفص بْن دينار مولى يحيى بْن حضين، فضرباه بعمود وطبرزين، فوقع إلى الأرض، وعدا عليه أهل الطالقان وغيرهم. فأدخلوه في جوالق، وضربوه بالأعمدة، حتى مات ورجع أبو مسلم إلى مرو.

                          ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة
                          (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)


                          وملك بعد مروان أربع سنين وكان- فيما ذكر- ذا شعرة جعدة، وكان طويلا أبيض أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية.
                          وأمه ريطة بنت عبيد الله بْن عبد الله بْن عبد المدان بْن الديان الحارثي وكان وزيره أبو الجهم بْن عطية.
                          وصلى عليه عمه عيسى بْن علي، ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره.
                          وكان- فيما ذكر- خلف تسع جباب، وأربعة أقمصة، وخمسه سراويلات، واربعه طيالسه، وثلاثة مطارف خز.
                          وذكر علي بْن محمد، عن الهيثم، عن عبد الله بْن عياش، قَالَ: لما حضرت أبا العباس الوفاة، أمر الناس بالبيعة لعبد الله بْن محمد أبي جعفر، فبايع الناس له بالأنبار في اليوم الذي مات فيه أبو العباس وقام بأمر الناس عيسى بْن موسى، وأرسل عيسى بْن موسى إلى أبي جعفر وهو بمكة محمد بْن الحصين العبدي بموت أبي العباس، وبالبيعة له، فلقيه بمكان من الطريق يقال له زكية، فلما جاءه الكتاب دعا الناس فبايعوه، وبايعه أبو مسلم، فقال أبو جعفر: أين موضعنا هذا؟ قالوا: زكية، فقال: أمر يزكى لنا إن شاء الله تعالى.
                          وقال بعضهم: ورد على أبي جعفر البيعة له بعد ما صدر من الحج، في منزل من منازل طريق مكة، يقال له صفية، فتفاءل باسمه، وقال: صفت لنا إن شاء الله تعالى.
                          [أما الهيثم بن عدي فهو متروك.
                          وأما أن عيسى بن موسى قام بأمر البيعة، وإيصاله إلى أبي جعفر فصحيح كما ذكرنا في موضعه]

                          وقيل إن أبا مسلم كان هو الذي تقدم أبا جعفر، فعرف الخبر قبله، فكتب إلى أبي جعفر:
                          بسم الله الرحمن الرحيم عافاك الله وأمتع بك، إنه أتاني أمر أفظعني وبلغ مني مبلغا لم يبلغه شيء قط، لقيني محمد بْن الحصين بكتاب من عيسى بْن موسى إليك بوفاة أبي العباس أمير المؤمنين رحمه الله، فنسأل الله أن يعظم أجرك، ويحسن الخلافة عليك، ويبارك لك فيما أنت فيه، إنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيما لحقك وأصفى نصيحة لك، وحرصا على ما يسرك مني.
                          وأنفذ الكتاب إليه، ثم مكث أبو مسلم يومه ومن الغد، ثم بعث إلى أبي جعفر بالبيعة، وإنما أراد ترهيب أبي جعفر بتأخيرها.



                          وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                          أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                          تعليق


                          • #58
                            رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                            ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة
                            (ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الاحداث)


                            قَالَ الهيثم: كان حصار عبد الله بْن علي مقاتلا العكي أربعين ليلة، فلما بلغه مسير أبي مسلم إليه، وأنه لم يظفر بمقاتل، وخشي أن يهجم عليه أبو مسلم أعطى العكي أمانا، فخرج إليه فيمن كان معه، وأقام معه أياما يسيرة، ثم وجهه إلى عثمان بْن عبد الأعلى بْن سراقة الأزدي إلى الرقة ومعه ابناه، وكتب إليه كتابا دفعه إلى العكي، فلما قدموا على عثمان قتل العكي وحبس ابنيه، فلما بلغه هزيمة عبد الله بْن علي وأهل الشام بنصيبين أخرجهما فضرب أعناقهما.
                            وكان عبد الله بْن علي خشي ألا يناصحه أهل خراسان، فقتل منهم نحوا من سبعة عشر ألفا، أمر صاحب شرطه فقتلهم، وكتب لحميد بْن قحطبة كتابا ووجهه إلى حلب، وعليها زفر بْن عاصم وفي الكتاب: إذا قدم عليك حميد بْن قحطبة فاضرب عنقه، فسار حميد حتى إذا كان ببعض الطريق فكر في كتابه، وقال: إن ذهابي بكتاب ولا أعلم ما فيه لغرر، ففك الطومار فقرأه، فلما رأى ما فيه دعا أناسا من خاصته فأخبرهم الخبر، وأفشى إليهم أمره، وشاورهم، وقال: من أراد منكم أن ينجو ويهرب فليسر معي، فإني أريد أن آخذ طريق العراق، وأخبرهم ما كتب به عبد الله بْن علي في أمره، وقال لهم: من لم يرد منكم أن يحمل نفسه على السير فلا يفشين سري، وليذهب حيث أحب.
                            قَالَ: فاتبعه على ذلك ناس من أصحابه، فأمر حميد بدوابه فأنعلت،
                            [نعل الدابة: ما ولي به حافرها وخفها؛ وانعل الدابة: وضع لها ذلك النعل. القاموس المحيط ص1374]
                            وأنعل أصحابه دوابهم، وتأهبوا للمسير معه، ثم فوز بهم
                            [فوز: سلك المفازة. القاموس ص669]
                            وبهرج الطريق
                            [بهرج الطريق: أي سلك بهم غير المحجة. اللسان (2/517)]
                            فأخذ على ناحية من الرصافة، رصافة هشام بالشام، وبالرصافة يومئذ مولى لعبد الله بْن علي يقال له سعيد البربري، فبلغه أن حميد بْن قحطبة قد خالف عبد الله بْن علي، وأخذ في المفازة، فسار في طلبه فيمن معه من فرسانه، فلحقه ببعض الطريق، فلما بصر به حميد ثنى فرسه نحوه حتى لقيه، فقال له: ويحك! أما تعرفني! والله مالك في قتالي من خير فارجع، فلا تقتل أصحابي وأصحابك، فهو خير لك فلما سمع كلامه عرف ما قَالَ له، فرجع إلى موضعه بالرصافة، ومضى حميد ومن كان معه، فقال له صاحب حرسه موسى بْن ميمون: إن لي بالرصافة جارية، فإن رأيت أن تأذن لي فآتيها فأوصيها ببعض ما أريد، ثم ألحقك! فأذن له فأتاها، فأقام عندها، ثم خرج من الرصافة يريد حميدا، فلقيه سعيد البربري مولى عبد الله بْن علي، فأخذه فقتله، وأقبل عبد الله بْن علي حتى نزل نصيبين، وخندق عليه.
                            وأقبل أبو مسلم وكتب أبو جعفر إلى الحسن بْن قحطبة- وكان خليفته بأرمينية- أن يوافي أبا مسلم، فقدم الحسن بْن قحطبة على أبي مسلم وهو بالموصل، وأقبل أبو مسلم، فنزل ناحية لم يعرض له، وأخذ طريق الشام، وكتب إلى عبد الله:
                            إني لم أومر بقتالك، ولم أوجه له، ولكن أمير المؤمنين ولاني الشام، وإنما أريدها، فقال من كان مع عبد الله من أهل الشام لعبد الله: كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا، وفيها حرمنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا، ويسبى ذرارينا!
                            ولكنا نخرج إلى بلادنا فنمنعه حرمنا وذرارينا ونقاتله إن قاتلنا، فقال لهم عبد الله بْن علي: إنه والله ما يريد الشام، وما وجه الا لقتالكم، ولئن أقمتم ليأتينكم قَالَ: فلم تطب أنفسهم، وأبوا إلا المسير إلى الشام.
                            قَالَ: وأقبل أبو مسلم فعسكر قريبا منهم، وارتحل عبد الله بْن علي من عسكره متوجها نحو الشام، وتحول أبو مسلم حتى نزل في معسكر عبد الله ابن علي في موضعه، وغور
                            [عور المياه: أي ردم العيون. القاموس ص574]
                            ما كان حوله من المياه، وألقى فيها الجيف.
                            وبلغ عبد الله بْن علي نزول أبي مسلم معسكره، فقال لأصحابه من أهل الشام: ألم أقل لكم! وأقبل فوجد أبا مسلم قد سبقه إلى معسكره، فنزل في موضع عسكر أبي مسلم الذي كان فيه، فاقتتلوا أشهرا خمسة أو ستة، وأهل الشام أكثر فرسانا وأكمل عده، وعلى ميمنه عبد الله بكار بْن مسلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بْن سويد الأسدي، وعلى الخيل عبد الصمد بْن علي، وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بْن قحطبة، وعلى الميسرة أبو نصر خازم بْن خزيمة، فقاتلوه أشهرا.
                            ويقال: بل استأمن لعبد الصمد بْن علي إسماعيل بْن علي.
                            وقد قيل: إن عبد الله بْن علي لما انهزم مضى هو وعبد الصمد أخوه إلى رصافة هشام، فأقام عبد الصمد بها حتى قدمت عليه خيول المنصور، وعليها جهور بْن مرار العجلي، فأخذه فبعث به إلى المنصور مع أبي الخصيب مولاه موثقا، فلما قدم عليه أمر بصرفه إلى عيسى بْن موسى، فآمنه عيسى وأطلقه وأكرمه، وحباه وكساه.
                            وأما عبد الله بْن علي فلم يلبث بالرصافة إلا ليلة، ثم أدلج في قواده ومواليه حتى قدم البصرة على سليمان بْن علي وهو عاملها يومئذ، فآواهم سليمان وأكرمهم وأقاموا عنده زمانا متوارين.
                            قَالَ علي: قَالَ مسلم بْن المغيرة: استخلف أبو جعفر على أرمينية في تلك السنة الحسن بْن قحطبة وقال غيره: استعمل رضيعه يحيى بْن مسلم بْن عروة- وكان أسود مولى لهم- فخرجا إلى مكة فكان أبو مسلم يصلح العقاب ويكسو الأعراب في كل منزل، ويصل من سأله، وكسا الأعراب البتوت والملاحف، وحفر الآبار، وسهل الطرق، فكان الصوت له، وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه، حتى قدم مكة فنظر إلى اليمانية فقال لنيزك- وضرب جنبه-: يا نيزك، أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان سريع الدمعة!
                            قَالَ علي: قَالَ مسلم بْن المغيرة: كنت مع الحسن بْن قحطبة بأرمينية فلما وجه أبو مسلم إلى الشام كتب أبو جعفر إلى الحسن أن يوافيه ويسير معه، فقدمنا على أبي مسلم وهو بالموصل فأقام أياما، فلما أراد أن يسير، قلت للحسن: أنتم تسيرون الى القتال وليس بك إلي حاجة، فلو أذنت لي فأتيت العراق، فأقمت حتى تقدموا إن شاء الله! قَالَ: نعم، لكن أعلمني إذا أردت الخروج، قلت: نعم، فلما فرغت وتهيأت أعلمته، وقلت: أتيتك أودعك، قَالَ: قف لي بالباب حتى أخرج إليك، فخرجت فوقفت وخرج، فقال: إني أريد أن ألقي إليك شيئا لتبلغه أبا أيوب، ولولا ثقتي بك لم أخبرك، ولولا مكانك من أبي أيوب لم أخبرك، فأبلغ أبا أيوب أني قد ارتبت بأبي مسلم منذ قدمت عليه، إنه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرؤه، ثم يلوي شدقه، ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر، فيقرؤه ويضحكان استهزاء، قلت: نعم قد فهمت، فلقيت أبا أيوب وأنا أرى أن قد أتيته بشيء، فضحك، وقال: نحن لأبي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بْن علي إلا أنا نرجو واحدة، نعلم أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله بْن علي، وقد قتل منهم من قتل، وكان عبد الله بْن علي حين خلع خاف أهل خراسان فقتل منهم سبعة عشر ألفا، أمر صاحب شرطته حياش بْن حبيب فقتلهم.
                            قَالَ علي: فذكر أبو حفص الأزدي أن أبا مسلم قاتل عبد الله بْن علي فهزمه، وجمع ما كان في عسكره من الأموال فصيره في حظيرة، وأصاب عينا ومتاعا وجوهرا كثيرا، فكان منثورا في تلك الحظيرة، ووكل بها وبحفظها قائدا من قواده، فكنت في أصحابه، فجعلها نوائب بيننا، فكان إذا خرج رجل من الحظيرة فتشه، فخرج أصحابي يوما من الحظيرة وتخلفت، فقال لهم الأمير: ما فعل أبو حفص؟ فقالوا: هو في الحظيرة، قَالَ: فجاء فاطلع من الباب، وفطنت له فنزعت خفي وهو ينظر، فنفضتهما وهو ينظر، ونفضت سراويلي وكمي، ثم لبست خفي وهو ينظر، ثم قام فقعد في مجلسه وخرجت، فقال لي: ما حبسك؟ قلت: خير، فخلاني، فقال: قد رأيت ما صنعت فلم صنعت هذا؟ قلت: إن في الحظيرة لؤلؤا منثورا ودراهم منثورة، ونحن نتقلب عليها، فخفت أن يكون قد دخل في خفي منها شيء، فنزعت خفي وجوربي، فأعجبه ذلك وقال: انطلق، فكنت أدخل الحظيرة مع من يحفظ فآخذ من الدراهم ومن تلك الثياب الناعمة فاجعل بعضها في خفي وأشد بعضها على بطني، ويخرج أصحابي فيفتشون ولا أفتش، حتى جمعت مالا، قَالَ: وأما اللؤلؤ فإني لم أكن أمسه.
                            وقال غير من ذكرت خبره: لما ظفر أبو مسلم بعسكر عبد الله بْن علي بعث المنصور يقطين بْن موسى، وأمره أن يحصي ما في العسكر، وكان أبو مسلم يسميه يك دين، فقال أبو مسلم: يا يقطين، أمين على الدماء خائن في الأموال! وشتم أبا جعفر، فابلغه يقطين ذلك.
                            وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعا على الخلاف، وخرج من وجهه معارضا يريد خراسان، وخرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبي مسلم في المصير إليه فكتب أبو مسلم، وقد نزل الزاب وهو على الرواح إلى طريق حلوان: إنه لم يبق لأمير المؤمنين أكرمه الله عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان: أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذاك فأنا كأحسن عبيدك، فإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك، ضنا بنفسي فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم، وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به! وليس مع الشريطة التي اوجبت منك سمع ولا طاعة وحمل إليك أمير المؤمنين عيسى بْن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها، واسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده، وأقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك ووجه إليه جرير بْن يزيد بْن جرير بْن عبد الله البجلي، وكان واحد أهل زمانه، فخدعه ورده، وكان أبو مسلم يقول: والله لأقتلن بالروم، وكان المنجمون يقولون ذلك، فأقبل والمنصور في الرومية في مضارب، وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه أياما.
                            قَالَ علي عن أبي حفص الأزدي، قَالَ: كنت مع أبي مسلم، فقدم عليه أبو إسحاق من عند أبي جعفر بكتب من بني هاشم، وقال: رأيت القوم على غير ما ترى، كل القوم يرون لك ما يرون للخليفة، ويعرفون ما أبلاهم الله بك.
                            فسار إلى المدائن، وخلف أبا نصر في ثقله، وقال: أقم حتى يأتيك كتابي، قَالَ: فاجعل بيني وبينك آية أعرف بها كتابك، قَالَ: إن أتاك كتابي مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بالخاتم كله، فلم أكتبه ولم أختمه فلما دنا من المدائن تلقاه رجل من قواده، فسلم عليه، فقال له: أطعني وارجع، فإنه إن عاينك قتلك، قَالَ: قد قربت من القوم فأكره أن أرجع فقدم المدائن في ثلاثة آلاف، وخلف الناس بحلوان، فدخل على أبي جعفر، فأمره بالانصراف في يومه، وأصبح يريده، فتلقاه أبو الخصيب فقال: أمير المؤمنين مشغول، فاصبر ساعة حتى تدخل خاليا، فأتى منزل عيسى بْن موسى- وكان يحب عيسى- فدعا له بالغداء وقال أمير المؤمنين للربيع- وهو يومئذ وصيف يخدم أبا الخصيب: انطلق إلى أبي مسلم، ولا يعلم أحد، فقل له: قَالَ لك مرزوق: إن أردت أمير المؤمنين خاليا فالعجل، فقام فركب، وقال له عيسى: لا تعجل بالدخول حتى أدخل معك، فأبطأ عيسى بالوضوء، ومضى أبو مسلم فدخل فقتل قبل أن يجيء عيسى، وجاء عيسى وهو مدرج في عباءة، فقال: أين أبو مسلم؟ قَالَ: مدرج في الكساء، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ! قَالَ: اسكت، فما تم سلطانك وأمرك إلا اليوم، ثم رمي به في دجلة.
                            قَالَ علي: قَالَ أبو حفص: دعا أمير المؤمنين عثمان بْن نهيك وأربعة
                            من الحرس، فقال لهم: إذا ضربت بيدي إحداهما على الأخرى، فاضربوا عدو الله، فدخل عليه أبو مسلم، فقال له: أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع عبد الله بْن علي، قَالَ: هذا أحدهما الذي علي، قَالَ: أرنيه فانتضاه، فناوله، فهزه أبو جعفر، ثم وضعه تحت فراشه، وأقبل عليه يعاتبه، فقال: أخبرني عن كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين! قَالَ: ظننت أخذه لا يحل، فكتب إلي، فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم، قَالَ: فأخبرني عن تقدمك إياي في الطريق؟ قَالَ: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس، فتقدمتك التماس الرفق، قَالَ: فقولك حين أتاك الخبر بموت أبي العباس لمن أشار عليك أن تنصرف إلي: نقدم فنرى من رأينا، ومضيت فلا أنت اقمت حتى الحقك ولا أنت رجعت إلي! قَالَ: منعني من ذلك ما اخبرتك من طلب الرفق بالناس، وقلت: نقدم الكوفة فليس عليه مني خلاف، قَالَ: فجارية عبد الله بْن علي أردت أن تتخذها؟ قَالَ: لا، ولكني خفت ان تضيع، فحملتها في قبة، ووكلت بها من يحفظها، قَالَ: فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟ قَالَ: خفت أن يكون قد دخلك مني شيء، فقلت: آتي خراسان، فأكتب إليك بعذري، وإلى ذلك ما قد ذهب ما في نفسك علي، قَالَ: تالله ما رأيت كاليوم قط، والله ما زدتني إلا غضبا، وضرب بيده، فخرجوا عليه، فضربه عثمان وأصحابه حتى قتلوه.
                            قَالَ علي: قَالَ يزيد بْن أسيد: قَالَ أمير المؤمنين: عاتبت عبد الرحمن، فقلت: المال الذي جمعته بحران؟ قَالَ: أنفقته وأعطيته الجند تقوية لهم واستصلاحا، قلت: فرجوعك إلى خراسان مراغما؟ قَالَ: دع هذا فما أصبحت أخاف أحدا إلا الله، فغضبت فشتمته، فخرجوا فقتلوه.
                            وقال غير من ذكرت في أمر أبي مسلم: إنه لما أرسل إليه يوم قتل، أتى عيسى بْن موسى، فسأله أن يركب معه، فقال له: تقدم وأنت في ذمتي، فدخل مضرب أبي جعفر، وقد أمر عثمان بْن نهيك صاحب الحرس، فأعد له شبيب بْن واج المروروذي رجلا من الحرس وأبا حنيفة حرب بْن قيس، وقال لهم: إذا صفقت بيدي فشأنكم، وأذن لأبي مسلم، فقال لمحمد البواب النجاري: ما الخبر؟ قَالَ: خير، يعطيننى الأمير سيفه، فقال: ما كان يصنع بي هذا! قَالَ: وما عليك! فشكا ذلك إلى أبي جعفر، قَالَ: ومن فعل بك هذا قبحه الله! ثم أقبل يعاتبه: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك، والكاتب إلي تخطب أمينة بنت علي، وتزعم أنك ابن سليط بْن عبد الله بْن عباس! ما دعاك إلى قتل سليمان بْن كثير مع أثره في دعوتنا، وهو أحد نقبائنا قبل أن ندخلك في شيء من هذا الأمر؟ قَالَ: أراد الخلاف وعصاني فقتلته. فقال المنصور: وحاله عندنا حاله فقتلته، وتعصيني وأنت مخالف علي! قتلني الله إن لم أقتلك! فضربه بعمود، وخرج شبيب وحرب فقتلاه، وذلك لخمس ليال بقين من شعبان من سنة سبع وثلاثين ومائة، فقال المنصور:
                            زعمت أن الدين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
                            سقيت كاسا كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم
                            قَالَ: وكان أبو مسلم قد قتل في دولته وحروبه ستمائه ألف صبرا.
                            وقيل: إن أبا جعفر لما عاتب أبا مسلم، قَالَ له: فعلت وفعلت، قَالَ له أبو مسلم. ليس يقال هذا لي بعد بلائي، وما كان مني، فقال: يا بن الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لأجزت ناحيتها، إنما عملت ما عملت في دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا، ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك، والكاتب إلي تخطب أمينة بنت علي، وتزعم أنك ابن سليط بْن عبد الله بْن عباس! لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعبا! فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه.
                            وقيل: إن عثمان بْن نهيك ضرب أبا مسلم أول ما ضرب ضربة خفيفة
                            بالسيف، فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه، فاعتقل بها ابو مسلم وضرب شبيب بن واج رجله، واعتوره بقية أصحابه حتى قتلوه، والمنصور يصيح بهم: اضربوا قطع الله أيديكم!
                            وقد كان أبو مسلم قَالَ- فيما قيل- عند أول ضربة أصابته: يا أمير المؤمنين، استبقني لعدوك قَالَ: لا أبقاني الله إذا! وأي عدو لي أعدى منك!
                            وقيل: إن عيسى بْن موسى دخل بعد ما قتل أبو مسلم، فقال: يا أمير المؤمنين، أين أبو مسلم؟ فقال: قد كان هاهنا آنفا، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين، قد عرفت طاعته ونصيحته ورأي الإمام إبراهيم كان فيه، فقال: يا أنوك، والله ما أعلم في الأرض عدوا أعدى لك منه، ها هو ذاك في البساط، فقال عيسى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وكان لعيسى رأي في أبي مسلم، فقال له المنصور: خلع الله قلبك، وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهي مع ابى مسلم!
                            قال: ثم دعا ابو جعفر جعفر بْن حنظلة، فدخل عليه، فقال: ما تقول في أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أخذت شعرة من رأسه فاقتل ثم اقتل ثم اقتل، فقال المنصور: وفقك الله! ثم أمره بالقيام والنظر إلى أبي مسلم مقتولا، فقال: يا أمير المؤمنين، عد من هذا اليوم لخلافتك.
                            ثم استؤذن لإسماعيل بْن علي، فدخل، فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في ليلتي هذه كأنك ذبحت كبشا وإني توطأته برجلي، فقال: نامت عينك يا أبا الحسن، قم فصدق رؤياك، قد قتل الله الفاسق، فقام إسماعيل إلى الموضع الذي فيه أبو مسلم، فتوطأه.
                            ثم إن المنصور هم بقتل أبي إسحاق صاحب حرس أبي مسلم وقتل أبي نصر مالك- وكان على شرط أبي مسلم- فكلمه أبو الجهم، فقال: يا أمير المؤمنين، جنده جندك، أمرتهم بطاعته فأطاعوه ودعا المنصور بأبي إسحاق فلما دخل عليه ولم ير أبا مسلم، قَالَ له أبو جعفر: أنت المتابع لعدو الله أبي مسلم على ما كان أجمع، فكف وجعل يلتفت يمينا وشمالا تخوفا من أبي مسلم، فقال له المنصور: تكلم بما أردت، فقد قتل الله الفاسق، وأمر بإخراجه إليه مقطعا، فلما رآه أبو إسحاق خر ساجدا، فأطال السجود، فقال له المنصور: ارفع رأسك وتكلم، فرفع رأسه وهو يقول: الحمد لله الذي آمنني بك اليوم، والله ما أمنته يوما واحدا منذ صحبته، وما جئته يوما قط إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت، ثم رفع ثيابه الظاهرة فإذا تحتها ثياب كتان جدد، وقد تحنط فلما رأى أبو جعفر حاله رحمه، ثم قَالَ:استقبل طاعة خليفتك، واحمد الله الذي أراحك من الفاسق ثم قَالَ له أبو جعفر: فرق عني هذه الجماعة ثم دعا بمالك بْن الهيثم فحدثه بمثل ذلك، فاعتذر إليه بأنه أمره بطاعته، وإنما خدمه وخف له الناس بمرضاته، وإنه قد كان في طاعتهم قبل أن يعرف أبا مسلم، فقبل منه وأمره بمثل ما أمر به أبا إسحاق من تفريق جند أبي مسلم.
                            وبعث أبو جعفر إلى عدة من قواد أبي مسلم بجوائز سنية، وأعطى جميع جنده حتى رضوا، ورجع أصحابه وهم يقولون: بعنا مولانا بالدراهم ثم دعا أبو جعفر بعد ذلك أبا إسحاق، فقال: أقسم بالله لئن قطعوا طنبا من أطنابي لأضربن عنقك ثم لأجاهدنهم فخرج إليهم أبو إسحاق فقال: يا كلاب انصرفوا.
                            قَالَ علي: قَالَ أبو حفص الأزدي: لما قتل أبو مسلم كتب أبو جعفر إلى أبي نصر كتابا عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده، وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى أبو نصر نقش الخاتم تاما، علم أن أبا مسلم لم يكتب الكتاب، فقال: أفعلتموها! وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان، فكتب أبو جعفر لأبي نصر عهده على شهرزور، ووجه رسولا إليه بالعهد، فأتاه حين مضى الرسول بالعهد أنه قد توجه إلى خراسان، فكتب إلى زهير بْن التركي- وهو على همذان: إن مر بك أبو نصر فاحبسه، فسبق الكتاب إلى زهير وأبو نصر بهمذان، فأخذه فحبسه في القصر، وكان زهير مولى لخزاعة، فأشرف أبو نصر على إبراهيم بْن عريف- وهو ابن أخي أبي نصر لأمه- فقال: يا إبراهيم، تقتل عمك! قَالَ: لا والله أبدا، فأشرف زهير فقال لإبراهيم: إني مأمور والله، إنه لمن أعز الخلق علي، ولكني لا أستطيع رد أمر امير المؤمنين وو الله لئن رمى أحدكم بسهم لأرمين إليكم برأسه ثم كتب أبو جعفر كتابا آخر إلى زهير: إن كنت أخذت أبا نصر فاقتله.
                            وقدم صاحب العهد على أبي نصر بعهده فخلى زهير سبيله لهواه فيه، فخرج، ثم جاء بعد يوم الكتاب إلى زهير بقتله، فقال: جاءني كتاب بعهده فخليت سبيله.
                            وقدم أبو نصر على أبي جعفر، فقال: أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى خراسان؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، كانت له عندي أياد وصنائع فاستشارني فنصحت له، وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحت لك وشكرت فعفا عنه، فلما كان يوم الراوندية قام أبو نصر على باب القصر، وقال: أنا اليوم البواب، لا يدخل أحد القصر وأنا حي فقال أبو جعفر: أين مالك بْن الهيثم؟ فأخبروه عنه فرأى أنه قد نصح له.
                            وقيل: إن أبا نصر مالك بْن الهيثم لما مضى إلى همذان كتب أبو جعفر إلى زهير بْن التركي: إن لله دمك إن فاتك مالك، فأتى زهير مالكا، فقال له: إني قد صنعت لك طعاما، فلو أكرمتني بدخول منزلي! فقال: نعم، وهيأ زهير أربعين رجلا تخيرهم، فجعلهم في بيتين يفضيان إلى المجلس الذي هيأه، فلما دخل مالك قَالَ: يا أدهم، عجل طعامك، فخرج أولئك الأربعون إلى مالك، فشدوه وثاقا، ووضع في رجليه القيود وبعث به إلى المنصور فمن عليه وصفح عنه واستعمله على الموصل.
                            وفي هذه السنة ولى أبو جعفر المنصور أبا داود خالد بْن إبراهيم خراسان وكتب اليه بعهده.
                            *ذكر الخبر عن سنباذ:
                            ذكر أن سنباذ هذا كان مجوسيا، من أهل قرية من قرى نيسابور يقال لها أهن، وأنه كثر اتباعه لما ظهر، وكان خروجه غضبا لقتل أبي مسلم- فيما قيل- وطلبا بثأره، وذلك أنه كان من صنائعه، وغلب حين خرج على نيسابور وقومس والري، وتسمى فيروز أصبهبذ.
                            وفي هذه السنة خرج ملبد بْن حرملة الشيباني، فحكم بناحية الجزيرة، فسارت إليه روابط الجزيرة، وهم يومئذ فيما قيل ألف، فقاتلهم ملبد فهزمهم، وقتل من قتل منهم ثم سارت إليه روابط الموصل فهزمهم، ثم سار إليه يزيد بْن حاتم المهلبي، فهزمه ملبد بعد قتال شديد كان بينهما، وأخذ ملبد جاريه ليزيد كان يطؤها، وقتل قائد من قواده، ثم وجه إليه أبو جعفر مولاه المهلهل بْن صفوان في ألفين من نخبة الجند، فهزمهم ملبد، واستباح عسكرهم.
                            ثم وجه إليه نزارا قائدا من قواد أهل خراسان، فقتله ملبد، وهزم أصحابه، ثم وجه إليه زياد بْن مشكان في جمع كثير، فلقيهم ملبد فهزمهم.
                            ثم وجه إليه صالح بْن صبيح في جيش كثيف وخيل كثيرة وعدة، فهزمهم.
                            ثم سار إليه حميد بْن قحطبة وهو يومئذ على الجزيرة، فلقيه الملبد فهزمه، وتحصن منه حميد، وأعطاه مائة ألف درهم على أن يكف عنه.
                            وأما الواقدي فإنه زعم أن ظهور ملبد وتحكيمه كان في سنة ثمان وثلاثين ومائة، ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل السلطان بحرب سنباذ.
                            *ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه:
                            وكان سبب ذلك- فيما ذكر- ان جهور لما هزم سنباذ حوى ما في عسكره، وكان فيه خزائن أبي مسلم التي كان خلفها بالري، فلم يوجهها إلى أبي جعفر، وخاف فخلع، فوجه إليه أبو جعفر محمد بْن الأشعث الخزاعي في جيش عظيم، فلقيه محمد، فاقتتلوا قتالا شديدا، ومع جهور نخب فرسان العجم، زياد ودلاستاخنج، فهزم جهور وأصحابه، وقتل من أصحابه خلق كثير، وأسر زياد ودلاستاخنج، وهرب جهور فلحق بأذربيجان فأخذ بعد ذلك باسباذرو فقتل.
                            وفي هذه السنة قتل الملبد الخارجي:
                            *ذكر الخبر عن مقتله:
                            ذكر أن أبا جعفر لما هزم الملبد حميد بْن قحطبة، وتحصن منه حميد، وجه إليه عبد العزيز بْن عبد الرحمن أخا عبد الجبار بْن عبد الرحمن، وضم إليه زياد بْن مشكان، فأكمن له الملبد مائة فارس، فلما لقيه عبد العزيز خرج عليه الكمين، فهزموه، وقتلوا عامة أصحابه فوجه أبو جعفر إليه خازم بْن خزيمة في نحو من ثمانية آلاف من المروروذية فسار خازم حتى نزل الموصل، وبعث إلى الملبد بعض أصحابه وبعث معهم الفعلة، فسار إلى بلد فخندقوا، وأقاموا له الأسواق، وبلغ ذلك الملبد، فخرج حتى نزل ببلد، في خندق خازم، فلما بلغ ذلك خازما خرج إلى مكان من أطراف الموصل حريز فعسكر به، فلما بلغ ذلك الملبد عبر دجلة من بلد، وتوجه إلى خازم من ذلك الجانب يريد الموصل، فلما بلغ خازما ذلك، وبلغ اسماعيل ابن علي- وهو على الموصل- أمر إسماعيل خازما أن يرجع من معسكره حتى يعبر من جسر الموصل، فلم يفعل، وعقد جسرا من موضع معسكره، وعبر إلى الملبد، وعلى مقدمته وطلائعه نضلة بْن نعيم بْن خازم بْن عبد الله النهشلي، وعلى ميمنته زهير بْن محمد العامري، وعلى ميسرته أبو حماد الأبرص مولى بني سليم وسار خازم في القلب، فلم يزل يساير الملبد وأصحابه حتى غشيهم الليل ثم تواقفوا ليلتهم، وأصبحوا يوم الأربعاء، فمضى الملبد وأصحابه متوجهين إلى كورة حزة، وخازم وأصحابه يسايرونهم حتى غشيهم الليل، وأصبحوا يوم الخميس، وسار الملبد وأصحابه، كأنه يريد الهرب من خازم، فخرج خازم وأصحابه في أثرهم، وتركوا خندقهم، وكان خازم تخندق عليه وعلى أصحابه بالحسك، فلما خرجوا من خندقهم كر عليهم الملبد وأصحابه، فلما رأى ذلك خازم ألقى الحسك بين يديه وبين يدي أصحابه، فحملوا
                            على ميمنة خازم وطووها، ثم حملوا على الميسرة وطووها، ثم انتهوا إلى القلب، وفيه خازم، فلما رأى ذلك خازم نادى في اصحابه: الأرض، فنزلوا ونزل الملبد وأصحابه، وعقروا عامة دوابهم، ثم اضطربوا بالسيوف حتى تقطعت، وأمر خازم نضلة بْن نعيم أن إذا سطع الغبار ولم يبصر بعضنا بعضا فارجع إلى خيلك وخيل أصحابك فاركبوها، ثم ارموا بالنشاب ففعل ذلك، وتراجع أصحاب خازم من الميمنة إلى الميسرة، ثم رشقوا الملبد وأصحابه بالنشاب، فقتل الملبد في ثمانمائه رجل ممن ترجل، وقتل منهم قبل أن يترجلوا زهاء ثلاثمائة، وهرب الباقون، وتبعهم نضلة فقتل منهم مائة وخمسين رجلا.

                            ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة
                            (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
                            فمن ذلك ما كان من إقامة صالح بْن علي والعباس بْن محمد بملطية، حتى استتما بناء ملطية، ثم غزوا الصائفة من درب الحديث، فوغلا في أرض الروم- وغزا مع صالح أختاه: أم عيسى ولبابة ابنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن تجاهدا في سبيل الله.
                            وفي هذه السنة كان الفداء الذي جرى بين المنصور وصاحب الروم، فاستنقذ المنصور منهم أسراء المسلمين، ولم يكن بعد ذلك- فيما قيل- للمسلمين صائفة إلى سنة ست وأربعين ومائة، لاشتغال أبي جعفر بأمر ابني عبد الله بْن الحسن، إلا أن بعضهم ذكر أن الحسن بْن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بْن إبراهيم الإمام في سنه اربعين وأقبل قسطنطين صاحب الروم في مائة ألف، فنزل جيحان، فبلغه كثرة المسلمين فأحجم عنهم، ثم لم يكن بعدها صائفة إلى سنة ست وأربعين ومائة.
                            وفي هذه السنة سار عبد الرحمن بْن معاوية بْن هشام بْن عبد الملك بْن مروان إلى الأندلس، فملكه أهلها أمرهم، فولده ولاتها إلى اليوم.
                            وفيها وسع أبو جعفر المسجد الحرام، وقيل إنها كانت سنة خصبة فسميت سنة الخصب.
                            فلما عزل سليمان وولى سفيان توارى عبد الله بْن علي وأصحابه خوفا على أنفسهم، فبلغ ذلك أبا جعفر، فبعث إلى سليمان وعيسى ابني علي، وكتب إليهما في أشخاص عبد الله بْن علي، وعزم عليهما أن يفعلا ذلك ولا يؤخراه، وأعطاهما من الأمان لعبد الله بْن علي ما رضياه له ووثقا به، وكتب إلى سفيان بْن معاوية يعلمه ذلك، ويأمره بإزعاجهما واستحثاثهما بالخروج بعبد الله ومن معه من خاصته، فخرج سليمان وعيسى بعبد الله وبعامة قواده وخواص أصحابه ومواليه، حتى قدموا على أبي جعفر، يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة.

                            ذكر خبر حبس عبد الله بن على
                            وفيها أمر أبو جعفر بحبس عبد الله بْن علي وبحبس من كان معه من أصحابه وبقتل بعضهم.
                            *ذكر الخبر عن ذلك:
                            ولما قدم سليمان وعيسى ابنا علي على أبي جعفر أذن لهما، فدخلا عليه، فأعلماه حضور عبد الله بْن علي، وسألاه الإذن له فأنعم لهما بذلك، وشغلهما بالحديث، وقد كان هيأ لعبد الله بْن علي محبسا في قصره، وامر به ان ينصرف اليه بعد دخول عيسى وسليمان عليه، ففعل ذلك به، ونهض أبو جعفر من مجلسه، فقال لسليمان وعيسى: سارعا بعبد الله، فلما خرجا افتقدا عبد الله من المجلس الذي كان فيه، فعلما أنه قد حبس، فانصرفا راجعين إلى أبي جعفر، فحيل بينهما وبين الوصول إليه، وأخذت عند ذلك سيوف من حضر من أصحاب عبد الله بْن علي من عواتقهم وحبسوا.
                            وقد كان خفاف بْن منصور حذرهم ذلك وندم على مجيئه، وقال لهم: إن أنتم أطعتموني شددنا شدة واحده على ابى جعفر، فو الله لا يحول بيننا وبينه حائل حتى نأتي على نفسه، ونشد على هذه الأبواب مصلتين سيوفنا، ولا يعرض لنا عارض إلا أفتنا نفسه حتى نخرج وننجو بأنفسنا، فعصوه فلما أخذت السيوف وأمر بحبسهم جعل خفاف يضرط في لحيته، ويتفل في وجوه أصحابه ثم أمر أبو جعفر بقتل بعضهم بحضرته، وبعث بالبقية إلى أبي داود خالد بْن إبراهيم بخراسان فقتلهم بها.
                            وقد قيل إن حبس أبي جعفر عبد الله بن على كان في سنة أربعين ومائة.

                            ثم دخلت سنة أربعين ومائة
                            ذكر ما كان فيها من الأحداث


                            فمن ذلك ما كان فيها من مهلك عامل خراسان.
                            *ذكر الخبر عن ذلك وسبب هلاكه:
                            ذكر أن ناسا من الجند ثاروا بأبي داود خالد بْن إبراهيم بخراسان وهو عامل أبي جعفر المنصور عليها في هذه السنة ليلا، وهو نازل بباب كشماهن من مدينة مرو، حتى وصلوا إلى المنزل الذي هو فيه، فأشرف أبو داود من الحائط على حرف آجرة خارجة، وجعل ينادي أصحابه ليعرفوا صوته، فانكسرت الآجرة عند الصبح، فوقع على سترة صفة كانت قدام السطح فانكسر ظهره، فمات عند صلاة العصر، فقام عصام صاحب شرطه أبي داود بخلافة أبي داود، حتى قدم عليه عبد الجبار بْن عبد الرحمن الأزدي.
                            وفيها ولى ابى جعفر عبد الجبار بْن عبد الرحمن خراسان فقدمها، فأخذ بها ناسا من القواد ذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بْن أبي طالب، منهم مجاشع بْن حريث الأنصاري صاحب بخارى وأبو المغيرة، مولى بني تميم واسمه خالد بْن كثير وهو صاحب قوهستان، والحريش بن محمد الذهلي، ابن عم داود، فقتلهم، وحبس الجنيد بْن خالد بْن هريم التغلبي ومعبد بْن الخليل المزني بعد ما ضربهما ضربا مبرحا، وحبس عدة من وجوده قواد أهل خراسان، وألح على استخراج ما على عمال أبي داود من بقايا الأموال.

                            ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة
                            (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
                            ذكر الخبر عن خروج الراونديه


                            فمن ذلك خروج الراوندية، وقد قَالَ بعضهم: كان أمر الراوندية وأمر أبي جعفر الذي أنا ذاكره، في سنة سبع وثلاثين ومائة أو ست وثلاثين ومائة. *ذكر الخبر عن أمرهم وأمر أبي جعفر المنصور معهم:
                            والراوندية قوم- فيما ذكر عن علي بْن محمد- كانوا من أهل خراسان على رأي أبي مسلم صاحب دعوة بني هاشم، يقولون- فيما زعم- بتناسخ الأرواح، ويزعمون أن روح آدم في عثمان بْن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بْن معاوية جبرئيل.
                            [ذكر الطبري هنا الخبر من قول المدائني وهو بدوره لم يسنده إلى شاهد عيان وما إلى ذلك، ويبدو أن تحريفا حصل إلى أن وصل الخبر إلى المدائني فالراوندية لعلهم من قوم أبي مسلم ولكن لم يكن أبو مسلم على رأيهم ولا هم على رأيه –وقد روى البلاذري الخبر بصورة هي أقرب إلى التصديق فقال: حدثني أبو مسعود والعمري عن الهيثم وغيره أن قوما من أصحاب أبي مسلم من أهل خراسان كانوا يقولون بتناسخ الأرواح ... إلخ (أنساب الأشراف 3/235)]

                            قَالَ: وأتوا قصر المنصور، فجعلوا يطوفون به، ويقولون: هذا قصر ربنا، فأرسل المنصور إلى رؤسائهم، فحبس منهم مائتين، فغضب أصحابهم وقالوا: علام حبسوا! وأمر المنصور ألا يجتمعوا، فأعدوا نعشا وحملوا السرير- وليس في النعش أحد- ثم مروا في المدينة، حتى صاروا على باب السجن، فرموا بالنعش، وشدوا على الناس- ودخلوا السجن، فأخرجوا اصحابهم، وقصدوا نحو المنصور وهم يومئذ ستمائه رجل، فتنادى الناس، وغلقت أبواب المدينة فلم يدخل أحد، فخرج المنصور من القصر ماشيا، ولم يكن في القصر دابة، فجعل بعد ذلك اليوم يرتبط فرسا يكون في دار الخلافة معه في قصره.
                            قَالَ: ولما خرج المنصور أتي بدابة فركبها وهو يريدهم، وجاء معن ابن زائدة، فانتهى إلى أبي جعفر، فرمى بنفسه وترجل، وادخل بركه قبائه في منطقته، وأخذ بلجام دابة المنصور، وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين
                            إلا رجعت، فإنك تكفى، وجاء أبو نصر مالك بْن الهيثم فوقف على باب القصر، وقال: أنا اليوم بواب، ونودي في أهل السوق فرموهم وقاتلوهم حتى أثخنوهم، وفتح باب المدينة، فدخل الناس.
                            وجاء خازم بْن خزيمة على فرس محذوف،
                            [فرس محذوف: مقصوص شعر الذنب. القاموس ص1032]
                            فقال: يا أمير المؤمنين، أقتلهم؟ قَالَ: نعم، فحمل عليهم حتى ألجأهم إلى ظهر حائط، ثم كروا على خازم فكشفوه واصحابه، ثم كر خازم عليهم فاضطرهم إلى حائط المدينة وقال للهيثم بْن شعبة: إذا كروا علينا فاسبقهم إلى الحائط، فإذا رجعوا فاقتلهم فحملوا على خازم، فاطرد لهم، وصار الهيثم بْن شعبة من ورائهم فقتلوا جميعا.
                            وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك، فكلمهم، فرجع فرموه بنشابه فوقعت بين كتفيه، فمرض أياما ومات منها، فصلى عليه أبو جعفر، وقام على قبره حتى دفن، وقال: رحمك الله أبا يزيد! وصير مكانه على حرسه عيسى بْن نهيك، فكان على الحرس حتى مات، فجعل على الحرس أبا العباس الطوسي.
                            وجاء يومئذ إسماعيل بْن علي، وقد أغلقت الأبواب، فقال للبواب:
                            افتح ولك ألف درهم، فأبى وكان القعقاع بْن ضرار يومئذ بالمدينة، وهو على شرط عيسى بْن موسى، فأبلى يومئذ، وكان ذلك كله في المدينة الهاشمية بالكوفة.
                            قَالَ: وجاء يومئذ الربيع ليأخذ بلجام المنصور، فقال له معن: ليس هذا من أيامك، فأبلى أبرويز بْن المصمغان ملك دنباوند- وكان خالف أخاه، فقدم على أبي جعفر فأكرمه، وأجرى عليه رزقا، فلما كان يومئذ أتى المنصور فكفر له، وقال: أقاتل هؤلاء؟ قَالَ له: نعم، فقاتلهم، فكان إذا ضرب رجلا فصرعه تأخر عنه- فلما قتلوا وصلى المنصور الظهر دعا بالعشاء، وقال: أطلعوا معن بْن زائدة، وأمسك عن الطعام حتى جاءه معن، فقال لقثم: تحول إلى هذا الموضع، وأجلس معنا مكان قثم، فلما فرغوا من العشاء قَالَ لعيسى بْن علي: يا أبا العباس، اسمعت باشد الرجال؟
                            [أبو بكر الهذلي ضعيف الحديث فقد قال ابن معين وغندر: لم يكن بثقة، وقال أبو حاتم لم يكتب حديثه، وقال الذهبي أخباري علامة لين الحديث ضعفه أحمد وغيره، وقال ابن حجر أخباري متروك الحديث من السادسة (تحرير التقريب /تر8002)]
                            قَالَ: نعم، قَالَ: لو رأيت اليوم معنا علمت أنه من تلك الآساد، قَالَ معن: والله يا أمير المؤمنين لقد أتيتك وإني لوجل القلب، فلما رأيت ما عندك من الاستهانة بهم وشدة الإقدام عليهم، رأيت أمرا لم أره من خلق في حرب، فشد ذلك من قلبي وحملني على ما رايت منى.
                            وقال ابو خزيمة: يا أمير المؤمنين، إن لهم بقية، قَالَ: فقد وليتك أمرهم فاقتلهم، قَالَ: فاقتل رزاما فإنه منهم، فعاذ رزام بجعفر بْن أبي جعفر، فطلب فيه فآمنه.
                            وقال علي عن أبي بكر الهذلي، قَالَ: إني لواقف بباب أمير المؤمنين إذ طلع فقال رجل إلى جانبي: هذا رب العزة! هذا الذي يطعمنا ويسقينا، فلما رجع أمير المؤمنين ودخل عليه الناس دخلت وخلا وجهه، فقلت له:
                            سمعت اليوم عجبا، وحدثته، فنكت في الأرض، وقال: يا هذلي، يدخلهم الله النار في طاعتنا ويعتلهم، أحب إلي من أن يدخلهم الجنة بمعصيتنا.
                            وذكر عن جعفر بْن عبد الله، قَالَ: حدثني الفضل بْن الربيع، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: سمعت المنصور يقول: أخطأت ثلاث خطيات وقاني الله شرها: قتلت أبا مسلم وأنا في خرق ومن حولي يقدم طاعته ويؤثرها ولو هتكت الخرق لذهبت ضياعا، وخرجت يوم الراوندية ولو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا، وخرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق ذهبت الخلافة ضياعا.
                            وذكر أن معن بْن زائدة كان مختفيا من أبي جعفر، لما كان منه من قتاله المسودة مع ابن هبيرة مرة بعد مرة، وكان اختفاؤه عند مرزوق أبي الخصيب، وكان على أن يطلب له الأمان، فلما خرج الراوندية أتى الباب فقام عليه، فسأل المنصور أبا الخصيب- وكان يلي حجابة المنصور يومئذ: من بالباب؟ فقال: معن بْن زائدة، فقال المنصور: رجل من العرب، شديد النفس، عالم بالحرب كريم الحسب، أدخله، فلما دخل قَالَ: إيه يا معن! ما الرأي؟ قَالَ: الرأي أن تنادي في الناس وتأمر لهم بالأموال، قَالَ: وأين الناس والأموال؟
                            ومن يقدم على أن يعرض نفسه لهؤلاء العلوج! لم تصنع شيئا يا معن، الرأي أن أخرج فأقف، فإن الناس إذا رأوني قاتلوا وأبلوا وثابوا إلي، وتراجعوا، وإن أقمت تخاذلوا وتهاونوا فأخذ معن بيده وقال: يا أمير المؤمنين، إذا والله تقتل الساعة، فأنشدك الله في نفسك! فأتاه أبو الخصيب فقال مثلها، فاجتذب ثوبه منهما، ثم دعا بدابته، فركب ووثب عليها من غير ركاب ثم سوى ثيابه، وخرج ومعن آخذ بلجامه وأبو الخصيب مع ركابه فوقف.
                            وتوجه إليه رجل فقال: يا معن دونك العلج، فشد عليه معن فقتله، ثم والى بين أربعة، وثاب إليه الناس وتراجعوا، ولم يكن إلا ساعة حتى أفنوهم، وتغيب معن بعد ذلك، فقال أبو جعفر لأبي الخصيب: ويلك! أين معن؟
                            قَالَ: والله ما أدري أين هو من الأرض! فقال: أيظن أن أمير المؤمنين لا يغفر ذنبه بعد ما كان من بلائه! أعطه الأمان وأدخله علي، فأدخله، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وولاه اليمن، فقال له أبو الخصيب: قد فرق صلته وما يقدر على شيء، قَالَ: له لو أراد مثل ثمنك ألف مرة لقدر عليه.
                            وفي هذه السنة وجه أبو جعفر المنصور ولده محمدا- وهو يومئذ ولي عهد- إلى خراسان في الجنود، وأمره بنزول الري، ففعل ذلك محمد.

                            وفيها خلع عبد الجبار بْن عبد الرحمن عامل أبي جعفر على خراسان، ذكر علي بْن محمد، عمن حدثه، عن أبي أيوب الخوزي، أن المنصور لما بلغه أن عبد الجبار يقتل رؤساء أهل خراسان، وأتاه من بعضهم كتاب فيه:
                            قد نغل الأديم، قَالَ لأبي أيوب الخزاعي: إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا، وما فعل هذا إلا وهو يريد أن يخلع، فقال له: ما أيسر حيلته! اكتب إليه:
                            أنك تريد غزو الروم، فيوجه إليك الجنود من خراسان، وعليهم فرسانهم ووجوههم، فإذا خرجوا منها فابعث إليهم من شئت، فليس به امتناع.
                            فكتب بذلك إليه، فأجابه: أن الترك قد جاشت، وإن فرقت الجنود ذهبت خراسان، فألقى الكتاب إلى أبي أيوب، وقال له: ما ترى؟ قَالَ: قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: أن خراسان أهم إلي من غيرها، وأنا موجه إليك الجنود من قبلي ثم وجه إليه الجنود ليكونوا بخراسان، فإن هم بخلع أخذوا بعنقه.
                            فلما ورد على عبد الجبار الكتاب كتب إليه: أن خراسان لم تكن قط أسوأ حالا منها في هذا العام، وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من غلاء السعر فلما أتاه الكتاب ألقاه إلى أبي أيوب، فقال له: قد أبدى صفحته، وقد خلع فلا تناظره.
                            فوجه إليه محمد بْن المنصور، وأمره بنزول الري، فسار إليها المهدي، ووجه لحربه خازم بْن خزيمة مقدمة له، ثم شخص المهدي فنزل نيسابور.
                            ولما توجه خازم بْن خزيمة الى عبد الجبار، وبلغ ذلك اهل مروالروذ، ساروا إلى عبد الجبار من ناحيتهم فناصبوه الحرب، وقاتلوه قتالا شديدا حتى هزم، فانطلق هاربا حتى لجأ إلى مقطنة، فتوارى فيها، فعبر إليه المجشر بْن مزاحم من أهل مرو الروذ، فأخذه أسيرا، فلما قدم خازم أتاه به، فألبسه خازم مدرعة صوف، وحمله على بعير، وجعل وجهه من قبل عجز البعير، حتى انتهى به إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب، وضربوا بالسياط حتى استخرج منهم ما قدر عليه من الأموال ثم أمر المسيب بْن زهير بقطع يدي عبد الجبار ورجليه وضرب عنقه، ففعل ذلك المسيب، وأمر المنصور بتسيير ولده إلى دهلك- وهي جزيرة على ضفة البحر بناحية اليمن- فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند، فسبوهم فيمن سبوا حتى فودوا بعد، ونجا منهم من نجا، فكان ممن نجا منهم واكتتب في الديوان وصحب الخلفاء عبد الرحمن بْن عبد الجبار، وبقي إلى أن توفي بمصر في خلافة هارون، في سنة سبعين ومائة.

                            ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة
                            (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
                            ذكر خلع عيينة بْن موسى بْن كعب بالسند

                            فمما كان فيها خلع عيينة بْن موسى بْن كعب بالسند.

                            *ذكر الخبر عن سبب خلعه:
                            ذكر أن سبب خلعه، كان أن المسيب بْن زهير كان خليفة موسى بْن كعب على الشرط، فلما مات موسى أقام المسيب على ما كان يلي من الشرط، وخاف المسيب أن يكتب المنصور إلى عيينة في القدوم عليه فيوليه مكانه، وكتب إليه ببيت شعر ولم ينسب الكتاب إلى نفسه:
                            فأرضك أرضك ان تأتنا ... فنم نومة ليس فيها حلم
                            وخرج أبو جعفر لما أتاه الخبر عن عيينة بخلعه حتى نزل بعسكره من البصرة عند جسرها الأكبر، ووجه عمر بْن حفص بْن أبي صفرة العتكي عاملا على السند والهند، محاربا لعيينة بْن موسى، فسار حتى ورد السند والهند، وغلب عليها.

                            ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة
                            (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)




                            وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                            أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                            تعليق


                            • #59
                              رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                              ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة
                              (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

                              فمما كان فيها من ذلك غزو محمد بْن أبي العباس بْن عبد الله بْن محمد ابن على الديلم في أهل الكوفة والبصرة وواسط والموصل والجزيرة.
                              وفيها انصرف محمد بْن أبي جعفر المهدي عن خراسان إلى العراق، وشخص أبو جعفر إلى قرماسين، فلقيه بها ابنه محمد منصرفا من خراسان، فانصرفا جميعا إلى الجزيرة.
                              وفيها بنى محمد بْن أبي جعفر عند مقدمه من خراسان بابنة عمه ريطة بنت أبي العباس.
                              وفيها حج بالناس أبو جعفر المنصور، وخلف على عسكره والميرة خازم ابن خزيمة.

                              ولايه رياح بن عثمان على المدينة وامر ابنى عبد الله بن حسن
                              وفي هذه السنة ولى أبو جعفر رياح بن عثمان المري المدينة، وعزل محمد ابن خالد بْن عبد الله القسري عنها.
                              *ذكر الخبر عن سبب عزله محمد بْن خالد واستعماله رياح بْن عثمان وعزله زياد بْن عبيد الله الحارثي من قبل محمد بْن خالد:
                              وكان سبب عزل زياد عن المدينة، أن أبا جعفر همه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب وتخلفهما عن حضوره، مع من شهده من سائر بني هاشم عام حج في حياة أخيه أبي العباس، ومعه أبو مسلم وقد ذكر أن محمدا كان يذكر أن أبا جعفر ممن بايع له ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر بني مروان مع سائر المعتزلة الذين كانوا معهم هنا لك فسأل عنهما، فقال له زياد بْن عبيد الله: ما يهمك من أمرهما! أنا آتيك بهما، وكان زياد يومئذ مع أبي جعفر عند مقدمه مكة سنة ست وثلاثين ومائه، فرد ابو جعفر زيادا الى عمله، وضمنه محمدا وإبراهيم.
                              فذكر أبو زيد عمر بْن شبة أن محمد بْن إسماعيل حدثه، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن عمران،
                              [عبد العزيز بن عمران متروك (تحرير 4114)]
                              قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الله بْن أبي عبيدة بْن محمد ابن عمار بْن ياسر، قَالَ: لما استخلف أبو جعفر لم تكن له همة إلا طلب محمد والمسألة عنه وما يريد،
                              [محمد بن إسماعيل بن جعفر لم نعلم فيه جرحا ولا تعديلا ومحمد بن وهب السلمي صدوق (تهذيب 6270) ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو أخو عبد الله بن حسن لأمه وثَّقه العجلي والنسائي وقال ابن حبان في حديثه عن أبي الزناد بعض المناكير وقال البخاري لا يكاد يتابع على حديثه (تهذيب/5955) (التاريخ الصغير 2/81) وافشكال في هذه الروايات (1-2-3) أنها كلها من طريق محمد بن إسماعيل بن جعفر]
                              فدعا بني هاشم رجلا رجلا، كلهم يخليه فيسألهم عنه، فيقولون: يا أمير المؤمنين، قد علم أنك قد عرفته يطلب هذا الشأن قبل اليوم، فهو يخافك على نفسه، وهو لا يريد لك خلافا، ولا يحب لك معصية، وما أشبه هذه المقالة إلا حسن بْن زيد، فانه اخبره خبره، فقال: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنه للذي لا ينام عنك، فر رأيك قَالَ ابن أبي عبيدة: فأيقظ من لا ينام.
                              وقال محمد: سمعت جدي موسى بْن عبد الله، يقول: اللهم اطلب حسن ابن زيد بدمائنا قَالَ موسى: وسمعت والله أبي يقول: أشهد لعرفني أبو جعفر حديثا ما سمعه منى الا حسن بن زيد.
                              وحدثنى محمد بْن إسماعيل، قَالَ: سمعت القاسم بْن محمد بن عبد الله ابن عمرو بْن عثمان بْن عفان، قَالَ: أخبرني محمد بْن وهب السلمي، عن أبي، قَالَ: عرفني أبو جعفر حديثا ما سمعه مني إلا أخي عبد الله بْن حسن وحسن بْن زيد، فاشهد ما أخبره به عبد الله، ولا كان يعلم الغيب.
                              قَالَ محمد: وسأل عنه عبد الله بْن حسن عام حج، فقال له مقالة الهاشميين، فأخبره أنه غير راض أو يأتيه به.
                              قَالَ محمد: وحدثتني أمي عن أبيها، قَالَ: قَالَ أبي: قلت لسليمان بْن
                              علي: يا أخي صهري بك صهري، ورحمي بك رحمي، فما ترى؟ قَالَ:
                              والله لكأني أنظر إلى عبد الله بْن علي حين حال الستر
                              [أما شيخ ابن شبة محمد بن عباد المهبلي فقد ذكره ابن حبان في الثقات (9/104) وقال أبو حاتم رأيته عند مسلم بن إبراهيم ولم أكتب عنه (الجرح 8/14/تر59) وأما السندي مولى أمير المؤمنين فمجهول الحال والله أعلم]
                              بيننا وبينه، وهو يشير إلينا أن هذا الذي فعلتم بي، فلو كان عافيا عفا عن عمه قَالَ: فقبل رأيه، قَالَ: فكان آل عبد الله يرونها صلة من سليمان لهم.
                              قَالَ أبو زيد: وحدثني سعيد بْن هريم، قَالَ: أخبرني كلثوم المرائي، قَالَ: سمعت يحيى بْن خالد بْن برمك يقول: اشترى أبو جعفر رقيقا من رقيق الأعراب، ثم أعطى الرجل منهم البعير، والرجل البعيرين، والرجل الذود، وفرقهم في طلب محمد في ظهر المدينة، فكان الرجل منهم يرد الماء كالمار وكالضال، فيفرون عنه ويتجسسون.
                              قَالَ: وحدثني محمد بْن عباد بْن حبيب المهلبي، قَالَ: قَالَ لي السندي مولى أمير المؤمنين: أتدري ما رفع عقبة بْن سلم عند أمير المؤمنين؟ قلت: لا، قَالَ: أوفد عمي عمر بْن حفص وفدا من السند فيهم عقبة، فدخلوا على أبي جعفر، فلما قضوا حوائجهم نهضوا، فاسترد عقبة، فأجلسه، ثم قَالَ له: من أنت؟ قَالَ: رجل من جند امير المؤمنين وخدمه، صحبت عمر ابن حفص، قَالَ: وما اسمك؟ قَالَ: عقبة بْن سلم بْن نافع، قَالَ: ممن أنت؟ قَالَ: من الأزد ثم من بني هناءة، قَالَ: انى لأرى لك هيئة وموضعا، وإني لأريدك لأمر أنا به معني، لم أزل أرتاد له رجلا، عسى أن تكونه إن كفيتنيه رفعتك، فقال: أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين في، قَالَ: فأخف شخصك، واستر أمرك، وأتني في يوم كذا وكذا في وقت كذا وكذا، فأتاه في ذلك الوقت، فقال له: إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا لملكنا واغتيالا له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من الطاف بلادهم، فاخرج بكسا وألطاف وعين حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن اهل هذه القرية، ثم تسبر ناحيتهم، فإن كانوا قد نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك، وكنت على حذر واحتراس منهم، فاشخص حتى تلقى عبد الله ابن حسن متقشفا متخشعا، فإن جبهك- وهو فاعل- فاصبر وعاوده، فإن عاد فاصبر حتى يأنس بك وتلين لك ناحيته، فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل علي قَالَ: فشخص حتى قدم على عبد الله، فلقيه بالكتاب، فأنكره ونهره، وقال: ما أعرف هؤلاء القوم، فلم يزل ينصرف ويعود إليه حتى قبل كتابه وألطافه، وأنس به، فسأله عقبة الجواب، فقال: أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام وأخبرهم أن ابني خارجان لوقت كذا وكذا قَالَ: فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر، فأخبره الخبر.
                              [الخبر في الأغاني 18 : 207]

                              قَالَ أبو زيد: حدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني موسى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرحمن بْن عوف، قَالَ: ولى أبو جعفر الفضل ابن صالح بْن علي الموسم في سنة ثمان وثلاثين ومائة، فقال له: إن وقعت عيناك على محمد وإبراهيم، ابني عبد الله بْن حسن، فلا يفارقانك، وإن لم ترهما فلا تسأل عنهما فقدم المدينة، فتلقاه أهلها جميعا، فيهم عبد الله بْن حسن وسائر بني حسن إلا محمد وإبراهيم ابني عبد الله بْن حسن فسكت حتى صدر عن الحج، وصار إلى السيالة، فقال لعبد الله بْن حسن: ما منع ابنيك أن يلقياني مع أهلهما! قَالَ: والله ما منعهما من ذلك ريبة ولا سوء، ولكنهما منهومان بالصيد واتباعه، لا يشهدان مع أهليهما خيرا ولا شرا فسكت الفضل عنه، وجلس على دكان قد بني له بالسيالة فأمر عبد الله رعاته فسرحوا عليه ظهره، فأمر أحدهم فحلب لبنا على عسل في عس عظيم، ثم رقي به الدكان، فأومأ إليه عبد الله أن اسق الفضل بْن صالح، فقصد قصده، فلما دنا منه صاح به الفضل صيحة مغضبا: إليك يا ماص بظر أمه! فأدبر الراعي، فوثب عبد الله- وكان من أرفق الناس- فتناول القعب، ثم أقبل يمشي به إلى الفضل، فلما رآه يمشي إليه استحيا منه، فتناوله فشرب.
                              قَالَ أبو زيد: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني أبي، عن أبيه، قَالَ: كان لزياد بْن عبيد الله كاتب يقال له حفص بْن عمر من أهل الكوفة يتشيع، وكان يثبط زيادا عن طلب محمد، فكتب فيه عبد العزيز بْن سعد إلى أبي جعفر فحدره إليه، فكتب فيه زياد إلى عيسى بْن علي وعبد الله بْن الربيع الحارثي فخلصاه حتى رجع إلى زياد.
                              قَالَ علي بْن محمد: قدم محمد البصرة مختفيا في أربعين، فاتوا عبد الرحمن ابن عثمان بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فقال له عبد الرحمن: أهلكتني وشهرتني، فانزل عندي وفرق أصحابك، فأبى، فقال: ليس لك عندي منزل، فانزل في بني راسب، فنزل في بني راسب.
                              وقال عمر: حدثني سليمان بْن محمد الساري، قَالَ: سمعت أبا هبار المزني يقول: أقمنا مع محمد بْن عبد الله بالبصرة يدعو الناس إلى نفسه.
                              قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: قَالَ أبو جعفر: ما طمعت في بغية لي قط إذا ذكرت مكان بني راسب بالبصرة.
                              قَالَ: وحدثني أبو عاصم النبيل، قَالَ: حدثني ابن جشيب اللهبي، قَالَ: نزلت في بني راسب في أيام ابن معاوية، فسألني فتى منهم يوما عن اسمي، فلطمه شيخ منهم، فقال: وما أنت وذاك! ثم نظر إلى شيخ جالس بين يديه، فقال: أترى هذا الشيخ نزل فينا أبوه أيام الحجاج، فأقام حتى ولد له هذا الولد، وبلغ هذا المبلغ، وهذا السن! لا والله ما ندري ما اسمه ولا اسم أبيه، ولا ممن هو!
                              قَالَ: وحدثني محمد بْن الهذيل، قَالَ: سمعت الزعفراني يقول: قدم محمد، فنزل على عبد الله بْن شيبان أحد بني مرة بْن عبيد، فأقام ستة أيام، ثم خرج فبلغ أبا جعفر مقدمه البصرة، فأقبل مغذا حتى نزل الجسر
                              الأكبر، فأردنا عمرا على لقائه، فأبى حتى غلبناه، فلقيه فقال: يا أبا عثمان، هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟ قَالَ: لا
                              [في ابن الأثير: "فلقيه عمرو بن عبيد، فقال له : يا أبا عثمان؛ هل بالبصرة أحد تخافه على أمرنا؟ قال: لا" ؛ وهذه العبارة أوضح]
                              قَالَ: فأقتصر على قولك وأنصرف؟ قَالَ: نعم، فانصرف، وكان محمد قد خرج قبل مقدم أبي جعفر.

                              قَالَ علي بْن محمد: حدثني عامر بْن أبي محمد، قَالَ: قَالَ أبو جعفر لعمرو بْن عبيد: أبايعت محمدا؟ قَالَ: أنا والله لو قلدتني الأمة أمورها ما عرفت لهما موضعا.
                              قال علي: وحدثني أيوب القزاز، قَالَ: قلت لعمرو: ما تقول في رجل رضي بالصبر على ذهاب دينه؟ قَالَ: أنا ذاك، قلت: وكيف، ولو دعوت أجابك ثلاثون ألفا! قَالَ: والله ما أعرف موضع ثلاثة إذا قالوا وفوا، ولو عرفتهم لكنت لهم رابعا.
                              قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: تكفل زياد لأمير المؤمنين بابني عبد الله أن يخرجهما له، فأقره على المدينة، فكان حسن بْن زيد إذا علم من أمرهما علما كف حتى يفارقا مكانهما ذلك، ثم يخبر أبا جعفر، فيجد الرسم الذي ذكر، فيصدقه بما رفع إليه، حتى كانت سنة أربعين ومائة، فحج فقسم قسوما خص فيها آل أبي طالب فلم يظهر له ابنا عبد الله، فبعث إلى عبد الله فسأله عنهما، فقال: لا علم لي بهما، حتى تغالظا، فأمصه
                              [في اللسان: "مصان ومصانة: شتم للرجل يعير برضع الغنم من أخلافها بفيه ... يعنون أنه يرضع الغنم من اللؤم؛ لا يحتلبها فيسمع صوت الحلب؛ ولهذا قيل : لئيم راضع؟، ويقال: أمص فلانا فلانا؛ إذا شتمه بالمصان" اللسان07/919]
                              أبو جعفر، فقال: يا أبا جعفر، بأي أمهاتي تمصنى! ابفاطمه بنت رسول الله ص، أم بفاطمة بنت أسد، أم بفاطمة بنت حسين، أَمْ أُمّ إسحاق بنت طلحة، أم خديجة بنت خويلد؟ قَالَ: لا بواحدة منهن، ولكن بالجرباء بنت قسامه بن زهير- وهي امراه من طيّئ- قَالَ: فوثب المسيب بْن زهير، فقال: دعني يا أمير المؤمنين أضرب عنق ابن الفاعلة قَالَ: فقام زياد بْن عبيد الله، فألقى عليه رداءه، وقال: هبه لي يا أمير المؤمنين، فأنا أستخرج لك ابنيه فتخلصه منه.
                              [الخبر في الأغاني 18 : 207]

                              قال عمر: وحدثنى الوليد بْن هشام بْن قحذم، قَالَ: قَالَ الحزين الديلي لعبد الله بْن الحسن ينعي عليه ولادة الجرباء:
                              لعلك بالجرباء أو بحكاكة ... تفاخر أم الفضل وابنة مشرح
                              وما منهما إلا حصان نجيبة ... لها حسب في قومها مترجح
                              قال عمر: وحدثني محمد بْن عباد، قَالَ: قَالَ لي السندي مولى أمير المؤمنين: لما أخبر عقبة بْن سلم أبا جعفر، أنشأ الحج وقال لعقبة: إذا صرت بمكان كذا وكذا لقيني بنو حسن، فيهم عبد الله، فأنا مبجله ورافع مجلسه وداع بالغداء، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما، فإنه سيصرف بصره عنك، فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينه منك ثم حسبك، وإياك أن يراك ما دام يأكل فخرج حتى إذا تدفع في البلاد لقيه بنو حسن، فأجلس عبد الله إلى جانبه، ثم دعا بالطعام فأصابوا منه، ثم أمر به فرفع، فأقبل على عبد الله، فقال: يا أبا محمد، قد علمت ما أعطيتني من العهود والمواثيق ألا تبغيني سوءا، ولا تكيد لي سلطانا، قَالَ: فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين، قَالَ: فلحظ أبو جعفر عقبة، فاستدار حتى قام بين يديه، فأعرض عنه، فرفع رأسه حتى قام من وراء ظهره، فغمزه بأصبعه، فرفع رأسه فملأ عينه منه، فوثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله! قَالَ: لا أقالني الله إن أقلتك، ثم امر بحبسه.
                              [الأغاني: 18 : 206،207]

                              قال عمر: وحدثنى بكر بْن عبد الله بْن عاصم مولى قريبه بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، قَالَ: حدثني علي بْن رباح بْن شبيب، أخو إبراهيم، عن صالح صاحب المصلى، قَالَ: إني لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغدى بأوطاس، وهو متوجه إلى مكة، ومعه على مائدته عبد الله بن حسن وابو الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس، فأقبل على عبد الله، فقال: يا أبا محمد، محمد وإبراهيم أراهما قد استوحشا من ناحيتي، وإني لأحب ان يأنسا بي، وأن يأتياني فأصلهما وأخلطهما بنفسي- قَالَ وعبد الله مطرق طويلا ثم رفع رأسه- فقال: وحقك يا أمير المؤمنين، فما لي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم، ولقد خرجا من يدي، فيقول أبو جعفر: لا تفعل يا أبا محمد، اكتب إليهما وإلى من يوصل كتابك إليهما قَالَ: فامتنع أبو جعفر ذلك اليوم من عامة غدائه إقبالا على عبد الله، وعبد الله يحلف ما يعرف موضعهما، وأبو جعفر يكرر عليه: لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد قَالَ: فكان شدة هرب محمد من أبي جعفر أن أبا جعفر كان عقد له بمكة في أناس من المعتزلة.
                              [الأغاني 18 : 207]

                              قَالَ عمر: حدثني أيوب بْن عمر- يعني ابن أبي عمرو- قَالَ: حدثني محمد بْن خالد بْن إسماعيل بْن أيوب بْن سلمة المخزومي، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: أخبرني العباس بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، قَالَ:
                              لما حج أبو جعفر في سنة أربعين ومائة أتاه عبد الله وحسن ابنا حسن، فإنهما وإياي لعنده، وهو مشغول بكتاب ينظر فيه، إذ تكلم المهدي فلحن، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، ألا تأمر بهذا من يعدل لسانه، فإنه يغفل غفل الأمة! فلم يفهم، وغمزت عبد الله فلم ينتبه لها، وعاد لأبي جعفر فاحتفظ من ذلك، وقال: أين ابنك؟ فقال: لا أدري، قَالَ: لتأتيني به، قَالَ: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، قَالَ: يا ربيع قم به الى الحبس.
                              [الخبر في الأغاني 18 : 208(ساسي)]

                              قَالَ عمر: حدثني موسى بْن سعيد بْن عبد الرحمن الجمحي، قَالَ:
                              لما تمثل عبد الله بْن حسن لأبي العباس:
                              ألم تر حوشبا أمسى يبنى ... بيوتا نفعها لبني بقيلة
                              [الأغاني 18 : 206 ، وبعده يقول:
                              يؤمَّل أن يعمِّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليلة]

                              لم تزل في نفس أبي جعفر عليه، فلما أمر بحبسه، قَالَ: ألست القائل لأبي العباس:
                              ألم تر حوشبا أمسى يبنى ... بيوتا نفعها لبني بقيلة
                              وهو آمن الناس عليك، وأحسنهم إليك صنيعا!
                              قَالَ عمر: حدثنا محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق عن أبي حنين، قَالَ: دخلت على عبد الله بْن حسن وهو محبوس، فقال:
                              هل حدث اليوم من خبر؟ قلت: نعم، قد أمر ببيع متاعك ورقيقك، ولا أرى أحدا يقدم على شرائه، فقال: ويحك يا أبا حنين! والله لو خرج بي وببناتي مسترقين لاشترينا!
                              قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثنا الحارث بْن إسحاق قَالَ: شخص أبو جعفر، وعبد الله بْن حسن محبوس، فأقام في الحبس ثلاث سنين.
                              قال عمر: وحدثني عبد الله بْن إسحاق بْن القاسم بن إسحاق بن عبد الله ابن جعفر بْن أبي طالب، قَالَ: حدثني أبو حرملة محمد بْن عثمان، مولى آل عمرو بْن عثمان، قَالَ: حدثني أبو هبار المزني، قَالَ: لما حج أبو جعفر سنة أربعين ومائة، حج تلك السنة محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، وهما متغيبان، فاجتمعوا بمكة، فأرادوا اغتيال أبي جعفر، فقال لهم الأشتر: عبد الله بن محمد ابن عبد الله، أنا أكفيكموه، فقال محمد: لا والله لا أقتله أبدا غيلة حتى أدعوه، قَالَ: فنقض أمرهم ذلك وما كانوا أجمعوا عليه، وقد كان دخل معهم في أمرهم قائد من قواد أبي جعفر من أهل خراسان قَالَ: فاعترض لأبي جعفر إسماعيل بْن جعفر بْن محمد الأعرج، فنمى إليه أمرهم، فأرسل في طلب القائد فلم يظفر به، وظفر بجماعة من أصحابه، وأفلت الرجل وغلام له بمال زهاء ألفي دينار كانت مع الغلام، فأتاه بها وهو مع محمد، فقسمها بين أصحابه قَالَ أبو هبار: فأمرني محمد، فاشتريت للرجل أباعر وجهزته وحملته في قبة وقطرته، وخرجت أريد به المدينة حتى أوردته إياها.
                              وقدم محمد فضمه إلى أبيه عبد الله، ووجههما إلى ناحية من خراسان قَالَ: وجعل أبو جعفر يقتل أصحاب ذلك القائد الذي كان من أمره ما ذكرت.
                              قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى بْن محمد،
                              [هذا تصحيف والصواب محمد بن يحيى بن علي]
                              قَالَ: حدثني أبي عن أبيه، قَالَ: غدوت على زياد بْن عبيد الله وأبو جعفر بالمدينة، قَالَ: فقال: أخبركم عجبا مما لقيته الليلة، طرقني رسل أمير المؤمنين نصف الليل- وكان زياد قد تحول لقدوم أمير المؤمنين إلى داره بالبلاط- قَالَ: فدقت علي رسله، فخرجت ملتحفا بإزاري، ليس علي ثوب غيره، فنبهت غلمانا لي وخصيانا في سقيفة الدار، فقلت لهم: إن هدموا الدار فلا يكلمهم منكم أحد، قَالَ: فدقوا طويلا ثم انصرفوا، فأقاموا ساعة، ثم طلعوا بجرز شبيه أن يكون معهم مثلهم، مرة أو مرتين، فدقوا الباب بجرزة الحديد، وصيحوا فلم يكلمهم أحد، فرجعوا فأقاموا ساعة، ثم جاءوا بأمر ليس عليه صبر، فظننت والله أن قد هدموا الدار علي، فأمرت بفتحها، وخرجت إليهم فاستحثوني وهموا أن يحملوني، وجعلت أسمع العزاء من بعضهم حتى أسلموني إلى دار مروان، فأخذ رجلان بعضدي، فخرجانى على حال الدفيف على الأرض أو نحوه، حتى أتيا بي حجرة القبة العظمى، فإذا الربيع واقف، فقال: ويحك يا زياد! ماذا فعلت بنا وبنفسك منذ الليلة! ومضى بي حتى كشف ستر باب القبة، فأدخلني ووقف خلفي بين البابين، فإذا الشمع في نواحي القبة، فهي تزهر، ووصيف قائم في ناحيتها، وأبو جعفر محتب بحمائل سيفه على بساط ليس تحته وسادة ولا مصلى، وإذا هو منكس رأسه ينقر بجرز في يده.
                              قَالَ: فأخبرني الربيع أنها حاله من حين صلى العتمة إلى تلك الساعة قَالَ: فما زلت واقفا حتى أني لأنتظر نداء الصبح، وأجد لذلك فرجا، فما يكلمني بكلمة، ثم رفع راسه الى، فقال: يا بن الفاعلة، أين محمد وإبراهيم؟ قَالَ: ثم نكس رأسه، ونكت أطول مما مضى له، ثم رفع راسه الثانيه، فقال: يا بن الفاعلة، أين محمد وإبراهيم؟ قتلني الله إن لم أقتلك! قَالَ: قلت له: اسمع مني ودعني اكلمك، قال: قل له: أنت نفرتهما عنك، بعثت رسولا بالمال الذي أمرت بقسمه على بني هاشم، فنزل القادسية، ثم أخرج سكينا يحده، وقال: بعثني أمير المؤمنين لأذبح محمدا وإبراهيم، فجاءتهما بذلك الاخبار، فهربا قال: فصرفني فانصرفت.
                              قال عمر: وحدثني عبد الله بْن راشد بْن يزيد- وكان يلقب الأكار، من أهل فيد- قَالَ: سمعت نصر بْن قادم مولى بني محول الحناطين: قَالَ:
                              كان عبدويه وأصحاب له بمكة في سنة حجها أبو جعفر قَالَ: فقال لأصحابه: إني أريد أن أوجر أبا جعفر هذه الحربة بين الصفا والمروة قَالَ: فبلغ ذلك عبد الله بْن حسن فنهاه، وقال: أنت في موضع عظيم، فما أرى أن تفعل.
                              وكان قائد لأبي جعفر يدعى خالد بْن حسان، كان يدعى أبا العساكر على ألف رجل، وكان قد مالأ عبدويه وأصحابه، فقال له أبو جعفر: أخبرني عنك وعن عبدويه والعطاردي، ما أردتم أن تصنعوا بمكة؟ قَالَ: أردنا كذا وكذا، قَالَ: فما منعكم؟ قَالَ: عبد الله بْن حسن، قَالَ: فطمره فلم ير حتى الساعة.
                              قَالَ عمر: حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثنا الحارث بْن إسحاق، قَالَ: جد أبو جعفر حين حبس عبد الله في طلب ابنيه، فبعث عينا له، وكتب معه كتابا على ألسن الشيعة إلى محمد، يذكرون طاعتهم ومسارعتهم، وبعث معه بمال وألطاف، فقدم الرجل المدينة، فدخل على عبد الله بْن حسن، فسأله عن محمد، فذكر له أنه في جبل جهينة، وقال: أمرر بعلي بْن حسن، الرجل الصالح الذي يدعى الأغر، وهو بذي الأبر، فهو يرشدك فأتاه فأرشده وكان لأبي جعفر كاتب على سره، كان متشيعا، فكتب الى عبد الله ابن حسن بأمر ذلك العين، وما بعث له، فقدم الكتاب على عبد الله فارتاعوا، وبعثوا أبا هبار إلى علي بْن الحسن وإلى محمد، فيحذرهم الرجل، فخرج أبو هبار حتى نزل بعلي بْن حسن، فسأله فأخبره أن قد أرشده إليه قَالَ أبو هبار: فجئت محمدا في موضعه الذي هو به، فإذا هو جالس في كهف، معه عبد الله بْن عامر الأسلمي وابنا شجاع وغيرهم، والرجل معهم أعلاهم صوتا، وأشدهم انبساطا، فلما رآني ظهر عليه بعض النكرة، وجلست مع القوم، فتحدثت مليا، ثم أصغيت إلى محمد، فقلت: إن لي حاجة، فنهض ونهضت معه، فأخبرته بخبر الرجل، فاسترجع، وقال: فما الرأي؟
                              فقلت: إحدى ثلاث أيها شئت فافعل، قَالَ: وما هي؟ قلت: تدعني فأقتل الرجل، قَالَ: ما أنا بمقارف دما إلا مكرها، أو ماذا؟ قلت: توقره حديدا وتنقله معك حيث انتقلت، قَالَ: وهل بنا فراغ له مع الخوف والإعجال! أو ماذا؟ قلت: تشده وتوثقه وتودعه بعض أهل ثقتك من جهينة، قَالَ:
                              هذه إذا، فرجعنا وقد نذر الرجل فهرب، فقلت: أين الرجل؟ قالوا: قام بركوة فاصطب ماء، ثم توارى بهذا الظرب يتوضأ، قَالَ: فجلنا في الجبل وما حوله، فكأن الأرض التأمت عليه قَالَ: وسعى على قدميه حتى شرع على الطريق، فمر به أعراب معهم حمولة إلى المدينة، فقال لبعضهم: فرغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلا لصاحبتها ولك كذا وكذا، قَالَ: نعم، ففرغها وحمله حتى اقدمه بالمدينة ثم قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر كله، وعمي عن اسم أبي هبار وكنيته، وعلق وبرا، فكتب أبو جعفر في طلب وبر المزني، فحمل إليه رجل منهم يدعى وبرا، فسأله عن قصة محمد وما حكى له العين، فحلف أنه ما يعرف من ذلك شيئا، فامر به فضرب سبعمائة سوط، وحبس حتى مات أبو جعفر.
                              قَالَ عمر: حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: ألح أبو جعفر في طلب محمد، وكتب إلى زياد بْن عبيد الله الحارثي
                              يتنجزه ما كان ضمن له، فقدم محمد المدينة قدمة، فبلغ ذلك زيادا، فتلطف له وأعطاه الأمان على أن يظهر وجهه للناس معه، فوعده ذلك محمد، فركب زياد مغلسا، ووعد محمدا سوق الظهر، فالتقيا بها، ومحمد معلن غير مختف، ووقف زياد إلى جنبه، وقال: يأيها الناس، هذا محمد بْن عبد الله ابن حسن، ثم أقبل عليه، فقال: الحق بأي بلاد الله شئت، وتوارى محمد، وتواترت الأخبار بذلك على أبي جعفر.
                              قَالَ عمر: حدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: حدثني من أصدق، قَالَ: دخل إبراهيم بْن عبد الله على زياد، وعليه درع حديد تحت ثوية، فلمسها زياد ثم قَالَ: يا أبا إسحاق، كأنك اتهمتني! ذلك والله ما ينالك مني أبدا.
                              [عيسى بن عبد الله بن علي –ذكره ابن حبان في الثقات (8/492) وقال يروى عن أبيه عن جده في حديثه بعض المناكير وانظر التاريخ الكبير (3/2/390)]

                              قَالَ عمر: حدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: ركب زياد بمحمد، فأتى به السوق فتصايح أهل المدينة: المهدي المهدي! فتوارى فلم يظهر، حتى خرج.
                              [عبد الله بن محمد بن عمر وثقه الدارقطني وابن خلفون (البرقاني /85) وقال ابن المديني ثقة (تهذيب الكمال/ 3534) ، (إكمال/2/322) وأما ابنه عيسى فانظر الرواية السابقة]

                              قَالَ عمر: حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما أن تتابعت الأخبار على أبي جعفر بما فعل زياد بْن عبيد الله، وجه أبا الأزهر رجلا من أهل خراسان إلى المدينة، وكتب معه كتابا، ودفع إليه كتبا، وأمره ألا يقرأ كتابه إليه حتى ينزل الأعوص، على بريد من المدينة، فلما أن نزله قرأه، فإذا فيه تولية عبد العزيز بْن المطلب بْن عبد الله المدينة- وكان قاضيا لزياد بْن عبيد الله- وشد زياد في الحديد، واصطفاء ماله، وقبض جميع ما وجد له، وأخذ عماله وإشخاصه وإياهم إلى أبي جعفر.
                              فقدم أبو الأزهر المدينة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة، فوجد زيادا في موكب له، فقال: أين الأمير؟ فقيل: ركب، وخرجت الرسل إلى زياد بقدومه، فأقبل مسرعا حتى دخل دار مروان، فدخل عليه أبو الأزهر، فدفع إليه كتابا من أبي جعفر في ثلث يأمره أن يسمع ويطيع، فلما قرأه قَالَ: سمعا وطاعة، فمر يا أبا الأزهر بما أحببت، قَالَ: ابعث إلى عبد العزيز بْن المطلب فبعث إليه، فدفع إليه كتابا أن يسمع لأبي الأزهر، فلما قرأه قَالَ: سمعا وطاعة، ثم دفع إلى زياد كتابا يأمره بتسليم العمل إلى ابن المطلب، ودفع إلى ابن المطلب كتابا بتوليته، ثم قَالَ لابن المطلب: ابعث إلي أربعة كبول وحدادا، فأتى بهما فقال: اشدد أبا يحيى، فشد فيها وقبض ماله- ووجد في بيت المال خمسة وثمانين ألف دينار- وأخذ عماله، فلم يغادر منهم أحدا، فشخص بهم وبزياد، فلما كانوا في طرف المدينة وقف له عماله يسلمون عليه، فقال: بأبي أنتم! والله ما أبالي إذا رآكم أبو جعفر ما صنع بي! أي من هيئتهم ومروتهم.
                              قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، عن خاله علي بْن عبد الحميد، قَالَ: شيعنا زيادا، فسرت تحت محمله ليلة، فأقبل علي فقال: والله ما أعرف لي عند أمير المؤمنين ذنبا، غير انى احسبه وجد علي في ابني عبد الله ووجد دماء بني فاطمة علي عزيزة ثم مضوا حتى كانوا بالشقراء، فأفلت منهم محمد بْن عبد العزيز، فرجع إلى المدينة، وحبس أبو جعفر الآخرين، ثم خلى عنهم.
                              [الحارث بن إسحاق لم نجد له ترجمة وكذلك خاله علي بن عبد الحميد والله أعلم]

                              قَالَ: وحدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: حدثني من أصدق، قَالَ:
                              لما أن وجه أبو جعفر مبهوتا وابن أبي عاصية في طلب محمد، كان مبهوت الذي أخذ زيادا، فقال زياد:
                              أكلف ذنب قوم لست منهم ... وما جنت الشمال على اليمين
                              قال: وحدثني عيسى بْن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمران بن ابى فروه، قال: كنت أنا والشعباني- قائد كان لأبي جعفر- مع زياد بْن عبيد الله نختلف إلى أبي الأزهر أيام بعثه أبو جعفر في طلب بنى حسن، فإني لأسير مع أبي الأزهر يوما إذ أتاه آت فلصق به، فقال: إن عندي نصيحة في محمد وإبراهيم، قَالَ: اذهب عنا، قَالَ: إنها نصيحة لأمير المؤمنين، قَالَ: اذهب عنا، ويلك قد قتل الخلق! قَالَ: فأبى أن ينصرف، فتركه أبو الأزهر حتى خلا الطريق، ثم بعج بسيفه بطنه بعجة القاه ناحية.
                              ثم استعمل أبو جعفر على المدينة محمد بْن خالد بعد زياد، فذكر عمر أن محمد بْن يحيى حدثه، قَالَ: حدثنا الحارث بْن إسحاق، قَالَ: استعمل أبو جعفر على المدينة محمد بْن خالد بعد زياد، وأمره بالجد في طلب محمد، وبسط يده في النفقة في طلبه فاغذ السير حتى قدم المدينة هلال رجب سنة إحدى وأربعين ومائة، ولم يعلم به أهل المدينة حتى جاء رسوله من الشقرة- وهي بين الأعوص والطرف على ليلتين من المدينة- فوجد في بيت المال سبعين ألف دينار وألف ألف درهم، فاستغرق ذلك المال، ورفع في محاسبته أموالا كثيرة أنفقها في طلب محمد، فاستبطأه أبو جعفر واتهمه، فكتب إليه أبو جعفر يأمره بكشف المدينة وأعراضها، فأمر محمد بْن خالد أهل الديوان أن يتجاعلوا لمن يخرج، فتجاعلوا رباع الغاضري المضحك- وكان يداين الناس بألف دينار- فهلكت وتويت،
                              [تويت بمعنى هلكت. القاموس ص 1634]
                              وخرجوا إلى الأعراض لكشفها عن محمد، وأمر القسري أهل المدينة، فلزموا بيوتهم سبعة أيام، وطافت رسله والجند ببيوت الناس يكشفونها، لا يحسون شيئا، وكتب القسري لأعوانه صكاكا يتعززون بها، لئلا يعرض لهم أحد، فلما استبطأه أبو جعفر ورأى ما استغرق من الأموال عزله.
                              قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: أخبرني حسين بْن يزيد، عن ابن ضبة، قَالَ: اشتد أمر محمد وإبراهيم على أبي جعفر، فبعث فدعا أبا السعلاء من قيس بْن عيلان، فقال: ويلك! أشر علي في امر هذين الرجلين، فقد غمتنى امرهما، قال: أرى لك أن تستعمل رجلا من ولد الزبير أو طلحة، فإنهم يطلبونهما بذحل، فاشهد لا يلبثونهما او يخرجوهما إليك.
                              قَالَ: قاتلك الله، ما أجود رأيا جئت به! والله ما غبي هذا علي، ولكنى اعاهد الله الا أثئر من أهل بيتي بعدوي وعدوهم، ولكني ابعث عليهم صعيليكا من العرب، فيفعل ما قلت، فبعث رياح بْن عثمان بْن حيان.
                              قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد الله بْن يحيى، عن موسى بْن عبد العزيز، قَالَ: لما أراد أبو جعفر عزل محمد بْن خالد عن المدينة ركب ذات يوم، فلما خرج من بيته استقبله يزيد بْن أسيد السلمي، فدعاه فسايره ثم قَالَ: أما تدلني على فتى من قيس مقل، أغنيه وأشرفه وأمكنه من سيد اليمن يلعب به؟ يعني ابن القسري، قَالَ: بلى، قد وجدته يا أمير المؤمنين، قَالَ: من هو؟ قَالَ: رياح بْن عثمان بْن حيان المري، قَالَ: فلا تذكرن هذا لأحد، ثم انصرف فأمر بنجائب وكسوة ورحال، فهيئت للمسير، فلما انصرف من صلاة العتمة دعا برياح، فذكر له ما بلا من غش زياد وابن القسري في ابني عبد الله، وولاه المدينة، وامر بالمسير من ساعته قبل أن يصل إلى منزله، وأمره بالجد في طلبهما، فخرج مسرعا، حتى قدمها يوم الجمعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين ومائة.
                              قَالَ: وحدثني محمد بْن معروف، قَالَ: أخبرني الفضل بْن الربيع، عن أبيه، قَالَ: لما بلغ أمر محمد وإبراهيم من أبي جعفر ما بلغ خرجت يوما من عنده- أو من بيتي- أريده، فإذا أنا برجل قد دنا مني، فقال: أنا رسول رياح بْن عثمان إليك، يقول لك: قد بلغني أمر محمد وإبراهيم وإدهان الولاة في أمرهما، وإن ولانى امير المؤمنين المدينة ضمنت له أحدهما، والا أظهرهما. قَالَ: فأبلغت ذلك أمير المؤمنين فكتب إليه بولايته، وليس بشاهد.
                              ذكر عمر بْن شبة، عن محمد بْن يحيى، عن عبد الله بن يحيى، عن موسى ابن عبد العزيز، قَالَ: لما دخل رياح دار مروان، فصار في سقيفتها، أقبل على بعض من معه، فقال: هذه دار مروان؟ قالوا: نعم، قَالَ: هذه المحلال المظعان، ونحن أول من يظعن منها.
                              قَالَ عمر: حدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني الزبير بْن المنذر مولى عبد الرحمن بْن العوام، قَالَ: قدم رياح بْن عثمان، فقدم معه حاجب له يكنى أبا البختري- وكان لأبي صديقا زمان الوليد بْن يزيد قَالَ: فكنت آتيه لصداقته لأبي- فقال لي يوما: يا زبير، إن رياحا لما دخل دار مروان قَالَ لي: هذه دار مروان؟ أما والله إنها لمحلال مظعان، فلما تكشف الناس عنه- وعبد الله محبوس في قبة الدار التي على الطريق إلى المقصورة، حبسه فيها زياد بْن عبيد الله- قَالَ لي: يا أبا البختري، خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ، فأقبل متكئا علي حتى وقف على عبد الله بْن حسن، فقال: أيها الشيخ، إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة، ولا يد سلفت إليه، والله لا لعبت بي كما لعبت بزياد وابن القسري، والله لأزهقن نفسك أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم! قَالَ: فرفع رأسه إليه وقال: نعم، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة قَالَ أبو البختري: فانصرف رياح والله آخذا بيدي، أجد برد يده، وإن رجليه لتخطان مما كلمه، قَالَ: قلت: والله إن هذا ما اطلع على الغيب قَالَ: إيها ويلك! فو الله ما قَالَ إلا ما سمع، قَالَ: فذبح والله فيها ذبح الشاة.
                              قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثنا الحارث بْن إسحاق، قَالَ: قدم رياح المدينة، فدعا بالقسري، فسأله عن الأموال، فقال: هذا كاتبي هو أعلم بذلك مني، قَالَ: أسألك وتحيلني على كاتبك! فأمر به فوجئت عنقه، وقنع أسواطا، ثم أخذ رزاما كاتب محمد بْن خالد القسري ومولاه فبسط عليه العذاب، وكان يضربه في كل غب خمسة عشر سوطا، مغلولة يده إلى عنقه من بكرة إلى الليل، يتبع به أفناء المسجد والرحبة، ودس إليه في الرفع على ابن خالد فلم يجد عنده في ذلك مساغا، فأخرجه عمر بْن عبد الله الجذامي- وكان خليفة صاحب الشرط يوما من الأيام- وهو يريد ضربه، وما بين قدميه إلى قرنه قرحة، فقال له: هذا يوم غبك، فأين تحب أن نجلدك؟ قَالَ: والله ما في بدني موضع لضرب، فإن شئت فبطون كفي، فأخرج كفيه فضرب في بطونهما خمسة عشر سوطا قَالَ: فجعلت رسل رياح تختلف إليه، تأمره أن يرفع على ابن خالد ويخلى سبيله، فأرسل إليه: مر بالكف عني حتى أكتب كتابا، فأمر بالكف عنه، ثم ألح عليه وبعث إليه: أن رح بالكتاب العشية على رءوس الناس، فادفعه إلي فلما كان العشي أرسل إليه فأتاه وعنده جماعة فقال: أيها الناس، إن الأمير أمرني أن أكتب كتابا، وأرفع على ابن خالد، وقد كتبت كتابا أتنجى به، وأنا أشهدكم أن كل ما فيه باطل فأمر به رياح فضرب مائة سوط، ورد إلى السجن.
                              قَالَ عمر: حدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: حدثني عمي عبيد الله بْن محمد بْن عمر بْن علي، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة رفعه على أبي قبيس، فرفع له الأرض جميعا حتى رآها وقال: هذه كلها لك، قَالَ: أي رب، كيف أعلم ما فيها؟ فجعل له النجوم، فقال: إذا رأيت نجم كذا وكذا كان كذا وكذا، وإذا رأيت نجم كذا وكذا كان كذا وكذا، فكان يعلم ذلك بالنجوم ثم إن ذلك اشتد عليه، فأنزل الله عز وجل مرآة من السماء يرى بها ما في الأرض حتى إذا ما مات آدم عمد إليها شيطان يقال له فقطس فكسرها، وبنى عليها مدينة بالمشرق يقال لها جابرت، فلما كان سليمان بْن داود سأل عنها، فقيل له: أخذها فقطس فدعاه فسأله عنها، فقال: هي تحت أواسي جابرت، قَالَ: فأتني بها، قَالَ ومن يهدمها؟ فقالوا لسليمان: قل له: أنت، فقال سليمان: أنت، فأتى بها سليمان، فكان يجبر بعضها إلى بعض ثم يشدها في أقطارها بسير، ثم ينظر فيها، حتى هلك سليمان، فوثبت عليها الشياطين، فذهبت بها وبقيت منها بقية، فتوارثتها بنو إسرائيل حتى صارت إلى رأس الجالوت، فأتى بها مروان بْن محمد، فكان يحكها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها ما يكره، فرمى بها وضرب عنق رأس الجالوت، ودفعها إلى جارية له، فجعلتها في كرسفة، ثم جعلتها في حجر، فلما استخلف أبو جعفر سأل عنها فقيل له: هي عند فلانة، فطلبها حتى وجدها، فكانت عنده، فكان يحكها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها، وكان يرى محمد ابن عبد الله، فكتب إلى رياح بْن عثمان: إن محمدا ببلاد فيها الأترج والأعناب فاطلبه بها وقد كتب إلى محمد بعض أصحاب أبي جعفر: لا تقيمن في موضع إلا بقدر مسير البريد من العراق إلى المدينة، فكان يتنقل فيراه بالبيضاء، وهي من وراء الغابة على نحو من عشرين ميلا، وهي لأشجع فكتب إليه: إنه ببلاد بها الجبال والقلات، فيطلبه فلا يجده قَالَ: فكتب إليه إنه بجبل به الحب الأخضر والقطران، قَالَ: هذه رضوى، فطلبه فلم يجده.
                              [هذا خبر منكر ومثل هذه الأخبار لا تؤخذ إلا من طريق مسند موصول مرفوع صحيح –فكيف وهذا حال الإسناد؟]

                              قال أبو زيد: حدثني أبو صفوان نصر بْن قديد بْن نصر بْن سيار، أنه بلغه أنه كان عند أبي جعفر مرآة يرى فيها عدوه من صديقه.
                              [هذا لا يصح وأبو صفوان (نصر بن قديد) كذبه ابن معين وذكره البخاري وابن الجارود في الضعفاء وروى عنه حاتم وأبو زرعة (الجرح والتعديل 8/تر 2164).
                              وانظر لسان الميزان (تر 8855)]

                              قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: جد رياح في طلب محمد، فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى- جبل جهينة، وهي من عمل ينبع- فاستعمل عليها عمرو بْن عثمان بْن مالك الجهني أحد بني جشم، وأمره بطلب محمد، فطلبه فذكر له أنه بشعب من رضوى، فخرج إليه بالخيل والرجال، ففزع منه محمد، فأحضر شدا، فأفلت وله ابن صغير، ولد في خوفه ذلك، وكان مع جارية له، فهوى من الجبل فتقطع، وانصرف عمرو بْن عثمان.
                              قَالَ: وحدثني عبد الله بْن محمد بْن حكيم الطائي، قَالَ: لما سقط ابن محمد فمات ولقي محمد ما لقي، قال:
                              سنخرق السربال يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
                              شرده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
                              قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
                              قال: وحدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: حدثني عمي عبيد الله بْن محمد، قَالَ: قَالَ محمد بْن عبد الله: بينا أنا في رضوى مع أمة لي أم ولد، معها بني لي ترضعه، إذا ابن سنوطي مولى لأهل المدينة، قد هجم علي في الجبل يطلبني، فخرجت هاربا، وهربت الجارية فسقط الصبي منها فتقطع، فقال عبيد الله: فأتي بابن سنوطي الى محمد بعد حين ظهر، فقال: يا بن سنوطي، أتعرف حديث الصبي؟ قَالَ: أي والله، إني لأعرفه، فأمر به فحبس، فلم يزل محبوسا حتى قتل محمد.
                              قَالَ: وحدثني عبد العزيز بْن زياد، قَالَ: حدثني أبي قَالَ: قَالَ محمد: إني بالحرة مصعد ومنحدر، إذا أنا برياح والخيل، فعدلت إلى بئر فوقفت بين قرنيها، فجعلت أستقي، فلقيني رياح صفحا، فقال: قاتله الله أعرابيا ما أحسن ذراعه!
                              قَالَ: وحدثني ابن زبالة، قَالَ: حدثني عثمان بْن عبد الرحمن الجهني عن عثمان بْن مالك، قَالَ: أذلق
                              [ابن زبالة (محمد بن الحسن) ليس بثقة كان يسرق الحديث قاله ابن معين (الجرح والتعديل /7/227)]
                              رياح محمدا بالطلب، فقال لي: أغد بنا إلى مسجد الفتح ندع الله فيه قَالَ: فصليت الصبح، ثم انصرف إليه، فغدونا وعلى محمد قميص غليظ ورداء قرقبي مفتول، فخرجنا من موضع كان فيه، حتى إذا كان قريبا التفت، فإذا رياح في جماعة من أصحابه ركبان، فقلت له: هذا رياح، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! فقال غير مكترث به: امض، فمضيت وما تنقلني رجلاي، وتنحى هو عن الطريق، فجلس وجعل ظهره مما يلي الطريق، وسدل هدب ردائه على وجهه- وكان جسيما- فلما حاذاه رياح التفت إلى أصحابه، فقال: امرأة رأتنا فاستحيت قَالَ: ومضيت حتى طلعت الشمس، وجاء رياح فصعد وصلى ركعتين، ثم انصرف من ناحية بطحان، فأقبل محمد حتى دخل المسجد، فصلى ودعا، ولم يزل محمد بْن عبد الله ينتقل من موضع إلى موضع إلى حين ظهوره.
                              ولما طال على المنصور أمره، ولم يقدر عليه وعبد الله بْن حسن محبوس، قَالَ عبد العزيز بْن سعيد- فيما ذكر عن عيسى بْن عبد الله، عن عبد الله بْن عمران بْن أبي فروة- قَالَ لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين، أتطمع أن يخرج لك محمد وإبراهيم وبنو حسن مخلون! والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد قَالَ: فكان ذلك الذي هاجه على حبسهم قَالَ، ثم دعاه فقال: من أشار عليك بهذا الرأي؟ قَالَ: فليح بْن سليمان، فلما مات عبد العزيز ابن سعيد- وكان عينا لأبي جعفر وواليا على الصدقات- وضع فليح بْن سليمان في موضعه، وأمر أبو جعفر بأخذ بني حسن.
                              قَالَ عيسى: حدثني عبد الله بْن عمران بْن أبي فروة، قَالَ: أمر أبو جعفر
                              رياحا بأخذ بني حسن، ووجه في ذلك أبا الأزهر المهري- قَالَ: وقد كان حبس عبد الله بْن حسن فلم يزل محبوسا ثلاث سنين، فكان حسن بْن حسن قد نصل خضابه تسليا على عبد الله، فكان أبو جعفر يقول: ما فعلت الحادة؟
                              قَالَ: فأخذ رياح حسنا وإبراهيم ابني حسن بْن حسن، وحسن بْن جعفر بْن حسن بْن حسن، وسليمان وعبد الله ابني داود بْن حسن بن حسن، ومحمدا واسماعيل وإسحاق ابنى إبراهيم بْن حسن بْن حسن، وعباس بْن حسن بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، أخذوه على بابه، فقالت أمه عائشة ابنة طلحة بْن عمر بْن عبيد الله بْن معمر: دعوني أشمه، قالوا: لا والله، ما كنت حية في الدنيا، وعلي بْن حسن بْن حسن بْن حسن العابد.
                              قَالَ: وحدثني إسماعيل بْن جعفر بْن إبراهيم، قَالَ: حبس معهم أبو جعفر عبد الله بْن حسن بْن حسن أخا علي.
                              قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثنا الحارث بْن إسحاق، قَالَ: جهر رياح بشتم محمد وإبراهيم ابني عبد الله، وشتم أهل المدينة قَالَ:
                              ثم قَالَ يوما وهو على المنبر يذكرهما: الفاسقين الخالعين الحاربين قَالَ: ثم ذكر ابنة أبي عبيدة أمهما، فأفحش لها، فسبح الناس وأعظموا ما قَالَ، فأقبل عليهم، فقال: إنكم لا كلنا عن شتمهما، ألصق الله بوجوهكم الذل والهوان! أما والله لأكتبن الى خليفتكم فلا علمنه غشكم وقلة نصحكم فقال الناس: لا نسمع منك يا بن المحدود، وبادروه بالحصى، فبادر واقتحم دار مروان وأغلق عليه الباب، وخرج الناس حتى صفوا وجاهه، فرموه وشتموه ثم تناهوا وكفوا.
                              قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الثقة عندي، قَالَ: حبس معهم موسى بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي وعلى بن محمد ابن عبد الله بْن حسن بْن حسن عند مقدمه من مصر.
                              قَالَ: وحدثني عبد الله بْن عمر بْن حبيب، قَالَ: وجه محمد بْن عبد الله ابنه عليا إلى مصر، فدل عليه عاملها، وقد هم بالوثوب، فشده وارسل به
                              إلى أبي جعفر، فاعترف له، وسمى أصحاب ابيه، فكان فيمن سمى عبد الرحمن ابن أبي الموالي وأبو حنين، فأمر بهما أبو جعفر فحبسا، وضرب أبو حنين مائة سوط.
                              قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: مر حسن بْن حسن بن حسن على ابراهيم ابن حسن وهو يعلف إبلا له، فقال: أتعلف إبلك وعبد الله محبوس! أطلق عقلها يا غلام، فأطلقها، ثم صاح في أدبارها فلم يوجد منها واحدة.
                              قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني علي بْن عبد الله بْن محمد بْن عمر بن علي، قَالَ: حضرنا باب رياح في المقصورة، فقال الآذن: من كان هاهنا من بني حسين فليدخل، فقال لي عمي عمر بْن محمد: انظر ما يصنع القوم، قَالَ: فدخلوا من باب المقصورة وخرجوا من باب مروان قَالَ: ثم قَالَ: من هاهنا من بني حسن فليدخل، فدخلوا من باب المقصورة ودخل الحدادون من باب مروان، فدعي بالقيود.
                              قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: كان رياح إذا صلى الصبح أرسل إلي وإلى قدامة بْن موسى فيحدثنا ساعة، فإنا لعنده يوما، فلما أسفرنا إذا برجل متلفف في ساج له، فقال له رياح: مرحبا بك وأهلا، ما حاجتك؟ قَالَ: جئت لتحبسني مع قومي، فإذا هو علي بْن حسن بْن حسن بْن حسن، فقال: أما والله ليعرفنها لك أمير المؤمنين، ثم حبسه معهم.
                              قَالَ: وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثني سعيد بْن ناشرة مولى جعفر بْن سليمان، قَالَ: بعث محمد ابنه عليا، فأخذ بمصر، فمات في سجن أبي جعفر.
                              قَالَ: وحدثني موسى بْن عبد الله بْن موسى بْن عبد الله بْن حسن، قَالَ:
                              حدثني أبي، عن أبيه موسى بْن عبد الله، قَالَ: لما حبسنا ضاق الحبس بنا، فسأل أبي رياحا أن يأذن له فيشتري دارا، فيجعل حبسنا فيها، ففعل، فاشترى أبي دارا فنقلنا إليها، فلما امتد بنا الحبس أتى محمد أمه هندا فقال: إني قد حملت أبي وعمومتي ما لا طاقة لهم به، ولقد هممت أن أضع يدي في أيديهم، فعسى أن يخلى عنهم قَالَ: فتنكرت ولبست أطمارا، ثم جاءت السجن كهيئة الرسول، فأذن لها، فلما رآها أبي أثبتها، فنهض إليها فأخبرته عن محمد، فقال: كلا بل نصبر، فو الله إني لأرجو أن يفتح الله به خيرا، قولي له: فليدع إلى أمره، وليجد فيه، فإن فرجنا بيد الله قَالَ: فانصرفت وتم محمد على بغيته.

                              ذكر حمل ولد حسن بن حسن الى العراق
                              وفي هذه السنة حمل ولد حسن بْن حسن بْن علي من المدينة إلى العراق.
                              *ذكر الخبر عن سبب حملهم إلى العراق وما كان من أمرهم إذ حملوا:
                              ذكر عمر، قَالَ: حدثني موسى بْن عبد الله، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما حج أبو جعفر أرسل محمد بْن عمران بْن إبراهيم بْن محمد بْن طلحة ومالك بْن أنس إلى أصحابنا، فسألهم أن يدفعوا محمدا وإبراهيم ابني عبد الله، قَالَ: فدخل علينا الرجلان وأبي قائم يصلي، فأبلغاهم رسالته، فقال حسن بْن حسن: هذا عمل ابني المشئومة، أما والله ما هذا برأينا، ولا عن ملأ منا، ولا لنا فيه حيلة قَالَ: فاقبل عليه ابراهيم، فقال: علام تؤذي أخاك في ابنيه وتؤذي ابن أخيك في أمه؟ قَالَ: وانصرف أبي من صلاته، فأبلغاه، فقال: لا والله لا أرد عليكما حرفا، إن أحب أن يأذن لي فألقاه فليفعل، فانصرف الرجلان فابلغاه، فقال: اراد ان يسخرني، لا والله لا ترى عينه عيني حتى يأتيني بابنيه.
                              قَالَ: وحدثني ابن زبالة، قَالَ: سمعت بعض علمائنا يقول: ما سار عبد الله بْن حسن أحدا قط إلا فتله عن رأيه.
                              قَالَ: وحدثني موسى بْن عبد الله، عن أبيه عن جده، قَالَ: ثم سار أمير المؤمنين أبو جعفر لوجهه حاجا، ثم رجع فلم يدخل المدينة، ومضى إلى الربذة حتى أتى ثني رهوتها.
                              قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لم يزل بنو حسن محبوسين عند رياح حتى حج أبو جعفر سنة أربع وأربعين ومائة، فتلقاه رياح بالربذة، فرده إلى المدينة، وأمره بإشخاص بني حسن إليه، وبإشخاص محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ- وهو أخو بني حسن لأمهم أمهم جميعا فاطمة بنت حسين بْن علي بْن أبي طالب- فأرسل اليه رياح- وكان بماله ببدر- فحدرهم إلى المدينة، ثم خرج رياح ببني حسن ومحمد بْن عبد الله بْن عمرو إلى الربذة، فلما صار بقصر نفيس على ثلاثة أميال من المدينة، دعا بالحدادين والقيود والأغلال، فألقى كل رجل منهم في كبل وغل، فضاقت حلقتا قيد عبد الله بْن حسن بْن حسن، فعضتاه فتأوه، فأقسم عليه أخوه علي بْن حسن ليحولن حلقتيه عليه إن كانتا أوسع، فحولتا عليه، فمضى بهم رياح إلى الربذة.
                              قَالَ: وحدثني إبراهيم بْن خالد، ابن أخت سعيد بْن عامر، عن جويرية بْن أسماء- وهو خال أمه- قَالَ: لما حمل بنو حسن إلى أبي جعفر أتي بأقياد يقيدون بها، وعلي بْن حسن بْن حسن قائم يصلي قَالَ: وكان في الأقياد قيد ثقيل، فكلما قرب إلى رجل منهم تفادى منه واستعفى قَالَ: فانفتل علي من صلاته، فقال: لشد ما جزعتم، شرعه هذا، ثم مد رجليه فقيد به.
                              قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عمران، قَالَ: الذي حدرهم إلى الربذة أبو الأزهر.
                              قَالَ عمر: حدثني ابن زبالة، قَالَ: حدثني حسين بن زيد بن على ابن حسين، قَالَ: غدوت إلى المسجد، فرأيت بني حسن يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر يراد بهم الربذة، فانصرفت، فأرسل الى جعفر ابن محمد فجئته، فقال: ما وراءك؟ فقلت: رأيت بني حسن يخرج بهم في محامل، قَالَ: اجلس، فجلست، فدعا غلاما له، ثم دعا ربه دعاء كثيرا، ثم قَالَ لغلامه: اذهب، فإذا حملوا فأت فأخبرني، فأتاه الرسول، فقال: قد أقبل بهم قَالَ: فقام جعفر بْن محمد، فوقف من وراء ستر شعر يبصر من وراءه ولا يبصره أحد، فطلع بعبد الله بْن حسن في محل معادله مسود، وجميع أهل بيته كذلك قَالَ: فلما نظر إليهم جعفر هملت عيناه حتى جرت دموعه على لحيته، ثم أقبل علي فقال: يا أبا عبد الله، والله لا يحفظ لله حرمة بعد هؤلاء.
                              قَالَ: وحدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: حدثني مصعب بْن عثمان، قَالَ: لما ذهب ببني حسن لقيهم الحارث بْن عامر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ بالربذة، فقال: الحمد لله الذي أخرجكم من بلادنا، قَالَ: فاشرأب له حسن بْن حسن، فقال له عبد الله: عزمت عليك إلا سكت!
                              قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني ابن أبرود حاجب محمد بْن عبد الله قَالَ: لما حمل بنو حسن، كان محمد وإبراهيم يأتيان معتمين كهيئة الأعراب، فيسايران أباهما ويسائلانه ويستأذنانه في الخروج، فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك، ويقول: إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين. فلا يمنعكما أن تموتا كريمين.
                              قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما صار بنو حسن إلى الربذة دخل محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ على أبي جعفر، وعليه قميص وساج
                              [الساج: الطيلسان الأخضر. القاموس ص 248]
                              وإزار رقيق تحت قميصه، فلما وقف بين يديه، قَالَ: إيها يا ديوث!
                              [الديوث؛ من التديث؛ وهو القيادة. اللسان (2/150)]
                              قَالَ محمد: سبحان الله! والله لقد عرفتني بغير ذلك صغيرا وكبيرا، قَالَ: فمم حملت ابنتك؟ وكانت تحت إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن بْن الحسن- وقد أعطيتني الأيمان بالطلاق والعتاق ألا تغشني ولا تمالى علي عدوا، ثم أنت تدخل على ابنتك متخضبة متعطرة، ثم تراها حاملا فلا يروعك حملها! فأنت بين أن تكون حانثا أو ديوثا، وايم الله انى لاهم برجمها فقال محمد: أما أيماني فهي علي إن كنت دخلت لك في أمر غش علمته، وأما ما رميت به هذه الجارية، فإن الله قد أكرمها عن ذلك بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، ولكني قد ظننت حين ظهر حملها أن زوجها ألم بها على حين غفلة منا فاحتفظ أبو جعفر من كلامه، وأمر بشق ثيابه، فشق قميصه عن إزاره، فأشف عن عورته، ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط، فبلغت منه كل مبلغ، وابو جعفر يفترى عليه ولا يكنى، فأصاب سوط منها وجهه، فقال له: ويحك! اكفف عن وجهي فإن له حرمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فأغرى أبو جعفر، فقال للجلاد: الرأس الرأس، قَالَ: فضرب على رأسه نحوا من ثلاثين سوطا، ثم دعا بساجور من خشب شبيه به في طوله- وكان طويلا- فشد في عنقه، وشدت به يده، ثم أخرج به ملببا، فلما طلع به من حجرة أبي جعفر، وثب إليه مولى له، فقال: بأبي أنت وأمي ألا ألوثك بردائي! قَالَ: بلى جزيت خيرا، فو الله لشفوف إزاري أشد علي من الضرب الذي نالني، فألقى عليه المولى الثوب، ومضى به إلى أصحابه المحبسين.
                              قَالَ: وحدثني الوليد بْن هشام، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عثمان، عن محمد بْن هاشم بْن البريد، مولى معاوية، قَالَ: كنت بالربذة، فأتي ببني حسن مغلولين، معهم العثماني كأنه خلق من فضة، فأقعدوا، فلم يلبثوا حتى خرج رجل من عند أبي جعفر، فقال: أين محمد بْن عبد الله العثماني؟ فقام فدخل، فلم يلبث أن سمعنا وقع السياط، فقال أيوب بْن سلمة المخزومي لبنيه: يا بني، إني لأرى رجلا ليس لأحد عنده هوادة، فانظروا لأنفسكم، لا تسقطوا بشيء قَالَ: فأخرج كأنه زنجي قد غيرت السياط لونه، وأسالت دمه، وأصاب سوط منها إحدى عينيه فسالت، فأقعد إلى جنب أخيه عبد الله بْن حسن بْن حسن، فعطش فاستسقى ماء، فقال عبد الله بْن حسن: يا معشر الناس، من يسقي ابن رسول الله شربة ماء؟ فتحاماه الناس فما سقوه حتى جاء خراساني بماء، فسله إليه فشرب، ثم لبثنا هنيهة، فخرج أبو جعفر في شق محمل، معادله الربيع في شقه الأيمن، على بغلة شقراء، فناداه عبد الله أبا جعفر، والله ما هكذا فعلنا بأسرائكم يوم بدر! قال: فاخساه ابو جعفر، وتفل عليه، ومضى ولم يعرج.
                              [عبد الله بن عثمان لم يبين الطبري نسبه ولا لقبه ولا كنيته ولم ندر من هو وشيخه محمد بن هاشم بن البريد لم نجد له ترجمة]

                              وذكر أن أبا جعفر لما دخل عليه محمد بْن عبد الله العثماني سأله عن إبراهيم، فقال: ما لي به علم، فدق أبو جعفر وجهه بالجرز.
                              وذكر عمر عن محمد بْن أبي حرب، قَالَ: لم يزل أبو جعفر جميل الرأي في محمد حتى قَالَ له رياح: يا أمير المؤمنين، أما أهل خراسان فشيعتك وأنصارك، وأما أهل العراق فشيعة آل أبي طالب، واما اهل الشام فو الله ما علي عندهم إلا كافر، وما يعتدون بأحد من ولده، ولكن أخاهم محمد بْن عبد الله ابن عمرو، ولو دعا أهل الشام ما تخلف عنه منهم رجل قَالَ: فوقعت في نفس أبي جعفر، فلما حج دخل عليه محمد، فقال: يا محمد، أليس ابنتك تحت إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن؟ قَالَ: بلى، ولا عهد لي به إلا بمنى في سنة كذا وكذا، قَالَ: فهل رأيت ابنتك تختضب وتمتشط؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فهي إذا زانية، قَالَ: مه يا أمير المؤمنين! أتقول هذا لابنة عمك! قال: يا بن اللخناء، قال: اى أمهاتي تلخن! قال: يا بن الفاعله، ثم ضرب وجهه بالجرز وحدده، وكانت رقية ابنة محمد تحت إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن، ولها يقول:
                              خليلي من قيس دعا اللوم واقعدا ... يسركما ألا أنام وترقدا
                              أبيت كأني مسعر من تذكري ... رقية جمرا من غضا متوقدا
                              [هذا خبر منكر وابن أبي حرب مجهول ولا أدري كيف سوَّد الطبري هذه الصفحات بهذه الكلمات البذيئة والاتهامات الرذيلة وبهذا الإسناد؟
                              سامحه الله وإيانا]

                              قَالَ: وحدثني عيسى بْن عبد الله بْن محمد، قَالَ: حدثني سليمان بْن داود بْن حسن، قَالَ: ما رأيت عبد الله بْن حسن جزع من شيء مما ناله إلا يوما واحدا، فإن بعير محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ انبعث وهو غافل، لم يتأهب له، وفي رجليه سلسلة، وفي عنقه زمارة، فهوى، وعلقت الزمارة بالمحمل، فرأيته منوطا بعنقه يضطرب، فرأيت عبد الله بْن حسن قد بكى بكاء شديدا.
                              قَالَ: وحدثني موسى بْن عبد الله بْن موسى، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما صرنا بالربذة، أرسل أبو جعفر إلى أبي أن أرسل إلي أحدكم، واعلم أنه غير عائد إليك أبدا، فابتدره بنو إخوته يعرضون أنفسهم عليه، فجزاهم خيرا، وقال: أنا أكره أن أفجعهم بكم، ولكن اذهب أنت يا موسى، قَالَ: فذهبت وأنا يومئذ حديث السن، فلما نظر إلي قَالَ: لا أنعم الله بك عينا، السياط يا غلام قَالَ: فضربت والله حتى غشي علي، فما أدري بالضرب، فرفعت السياط عني، ودعاني فقربت منه واستقربني.
                              فقال: أتدري ما هذا؟ هذا فيض فاض مني، فأفرغت منه سجلا لم أستطع رده، ومن ورائه الموت أو تفتدي منه قَالَ: فقلت: يا أمير المؤمنين، والله إن ما لي ذنب، وإني لبمعزل عن هذا الأمر قَالَ: فانطلق فأتني بأخويك، قَالَ: فقلت: يا أمير المؤمنين، تبعثني إلى رياح بْن عثمان فيضع علي العيون والرصد، فلا أسلك طريقا إلا تبعني له رسول، ويعلم ذلك أخواي فيهربان مني! قَالَ: فكتب إلى رياح: لا سلطان لك على موسى، قَالَ: وأرسل معي حرسا أمرهم أن يكتبوا إليه بخبري، قَالَ: فقدمت المدينة، فنزلت دار ابن هشام بالبلاط، فأقمت بها أشهرا، فكتب إليه رياح: إن موسى مقيم بمنزله يتربص بأمير المؤمنين الدوائر، فكتب إليه: إذا قرأت كتابي هذا فاحدره إلي، فحدرني.
                              قال: وحدثنى يعقوب بْن القاسم بْن محمد، قَالَ: أخبرني عمران بْن محرز من بني البكاء، قَالَ: خرج ببني حسن إلى الربذة، فيهم علي وعبد الله ابنا حسن بْن حسن بْن حسن، وأمهما حبابة ابنة عامر بْن عبد الله بن عامر ابن بشر بْن عامر ملاعب الأسنة، فمات في السجن حسن بن حسن وعباس ابن حسن، وأمه عائشة بنت طلحة بْن عمر بْن عبيد الله وعبد الله بْن حسن وإبراهيم بْن حسن.
                              قَالَ عمر: حدثني المدائني، قَالَ: لما خرج ببني حسن، قَالَ إبراهيم ابن عبد الله بن حسن، قال عمر: وقد أنشدني غير أبي الحسن هذا الشعر لغالب الهمداني:
                              ما ذكرك الدمنة القفار وأهل ... الدار اما ناوك أو قربوا
                              إلا سفاها وقد تفرعك الشيب ... بلون كأنه العطب
                              ومر خمسون من سنيك كما ... عد لك الحاسبون إذ حسبوا
                              فعد ذكر الشباب لست له ... ولا إليك الشباب منقلب
                              إني عرتني الهموم فاحتضر ... الهم وسادي فالقلب منشعب
                              واستخرج الناس للشقاء و ... خلفت لدهر بظهره حدب
                              اعوج يستعذب اللئام به ... ويحتويه الكرام إن سربوا
                              نفسي فدت شيبه هناك و ... ظنبوبا به من قيوده ندب
                              والسادة الغر من بنيه فما ... روقب فيه الإله والنسب
                              يا حلق القيد ما تضمن من ... حلم وبر يشوبه حسب
                              وأمهات من العواتك ... أخلصنك بيض عقائل عرب
                              كيف اعتذاري إلى الإله ولم ... يشهرن فيك المأثورة القضب!
                              ولم أقد غارة ململمة ... فيها بنات الصريح تنتحب
                              والسابقات الجياد والأسل ... الذبل فيها أسنة ذرب
                              حتى نوفي بني نتيلة بالقسط ... بكيل الصاع الذي احتلبوا
                              بالقتل قتلا وبالأسير الذي ... في القد أسرى مصفودة سلب
                              أصبح آل الرسول أحمد في ... الناس كذي عرة به جرب
                              بؤسا لهم ما جنت أكفهم ... وأي حبل من أمة قضبوا!
                              وأي حبل خانوا المليك به ... شد بميثاق عقده الكذب
                              وذكر عبد الله بْن راشد بْن يزيد، قَالَ: سمعت الجراح بن عمر وخاقان ابن زيد وغيرهما من أصحابنا يقولون: لما قدم بعبد الله بْن حسن وأهله مقيدين فأشرف بهم على النجف، قَالَ لأهله: أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية؟ قَالَ: فلقيه ابنا أخي الحسن وعلي مشتملين على سيفين، فقالا له: قد جئناك يا بن رسول الله، فمرنا بالذي تريد، قَالَ: قد قضيتما، ولن تغنيا في هؤلاء شيئا فانصرفا.
                              قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عمران بْن أبي فروة، قَالَ: أمر أبو جعفر أبا الأزهر فحبس بني حسن بالهاشمية.
                              قال: وحدثني محمد بن الحسن، قال: حدثني محمد بْن إبراهيم، قَالَ: أتي بهم أبو جعفر، فنظر إلى محمد بْن إبراهيم بْن حسن، فقال: أنت الديباج الأصفر؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أما والله لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا من أهل بيتك، ثم امر بأسطوانة مبنية ففرقت، ثم أدخل فيها فبنى عليه وهو حي.
                              قال محمد بن الحسن: وحدثني الزبير بْن بلال، قَالَ: كان الناس يختلفون إلى محمد ينظرون إلى حسنه.
                              قَالَ عمر: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عمران، قال: أخبرني أبو الأزهر، قَالَ: قَالَ لي عبد الله بْن حسن: أبغني حجاما، فقد احتجت إليه، فاستأذنت أمير المؤمنين، فقال: آتيه بحجام مجيد.
                              [هذه هي المرة الأولى التي نذكر فيها رواية الوليد بن هشام عن أبيه في الضعيف اتباعا للشرط الذي اعتمدناه في بداية تحقيقنا وهو أننا ومن باب التساهل في رواية التأريخ نقبل رواية من ذكره ابن حبان في الثقات ولم يوثقه غيره ولم يكن في متن روايته نكارة وأية نكارة أشد من التي هاهنا وهذا يضاف إلى كون الطبري لم يصرح بالتحديث عن ابن شبة بل اطلع على كتابه على ما يبدو ومع ذلك قبلناه من باب التساهل في رواية التاريخ والخبر لا يصح ولم يؤيده غير الطبري والله أعلم]

                              وحدثني محمد بْن أبي حرب، قَالَ: كان محمد بْن عبد الله بْن عمرو محبوسا عند أبي جعفر، وهو يعلم براءته، حتى كتب إليه أبو عون من خراسان: أخبر أمير المؤمنين أن أهل خراسان قد تقاعسوا عني، وطال عليهم أمر محمد بْن عبد الله، فأمر أبو جعفر عند ذلك بمحمد بْن عبد الله بْن عمرو، فضربت عنقه، وأرسل برأسه إلى خراسان، وأقسم لهم أنه رأس محمد بْن عبد الله، وأن أمه فاطمه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
                              قال عمر: فحدثني الوليد بْن هشام، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما صار أبو جعفر بالكوفة، قَالَ: ما أشتفي من هذا الفاسق من أهل بيت فسق، فدعا به، فقال: أزوجت ابنتك ابن عبد الله؟ قَالَ: لا، قَالَ: أفليست بامرأته؟ قَالَ: بلى زوجها إياه عمها وأبوه عبد الله بْن حسن فأجزت نكاحه، قَالَ: فأين عهودك التي أعطيتني؟ قَالَ: هي علي، قَالَ: أفلم تعلم بخضاب! ألم تجد ريح طيب! قَالَ: لا علم لي، قد علم القوم ما لك علي من المواثيق فكتموني ذلك كله، قَالَ: هل لك أن تستقيلني فأقيلك، وتحدث لي إيمانا مستقبلة؟ قَالَ: ما حنثت بأيماني فتجددها علي، ولا أحدثت ما استقيلك منه فتقيلني، فأمر به فضرب حتى مات، ثم احتز رأسه، فبعث به إلى خراسان، فلما بلغ ذلك عبد الله بْن حسن، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! والله ان كنا لنا من به في سلطانهم، ثم قد قتل بنا في سلطاننا.
                              قَالَ: وحدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: حدثني مسكين بْن عمرو، قَالَ: لما ظهر محمد بْن عبد الله بْن حسن، أمر أبو جعفر بضرب عنق محمد ابن عبد الله بْن عمرو، ثم بعث به إلى خراسان، وبعث معه الرجال يحلفون بالله إنه لمحمد بْن عبد الله بْن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ عمر: فسألت محمد بْن جعفر بْن إبراهيم، في أي سبب قتل محمد بْن عمرو؟ قال: احتيج الى راسه.
                              قال عمر: وحدثني محمد بْن أبي حرب، قَالَ: كان عون بْن أبي عون خليفة أبيه بباب أمير المؤمنين، فلما قتل محمد بْن عبد الله بْن حسن وجه أبو جعفر برأسه إلى خراسان، إلى أبي عون مع محمد بْن عبد الله بْن أبي الكرام وعون بْن أبي عون، فلما قدم به ارتاب أهل خراسان، وقالوا: أليس قد قتل مرة وأتينا برأسه! قَالَ: ثم تكشف لهم الخبر حتى علموا حقيقته، فكانوا يقولون: لم يطلع من أبي جعفر على كذبة غيرها.
                              قَالَ: وحدثني عيسى بْن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمران بْن أبي فروة، قَالَ: كنا نأتي أبا الأزهر ونحن بالهاشمية أنا والشعباني، فكان أبو جعفر يكتب إليه: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى أبي الأزهر مولاه، ويكتب أبو الأزهر إلى أبي جعفر: من أبي الأزهر مولاه وعبده، فلما كان ذات يوم ونحن عنده- وكان أبو جعفر قد ترك له ثلاثة أيام لا ينوبها، فكنا نخلو معه في تلك الأيام- فأتاه كتاب من أبي جعفر، فقرأه ثم رمى به، ودخل إلى بني حسن وهم محبوسون قَالَ: فتناولت الكتاب وقرأته، فإذا فيه: انظر يا أبا الأزهر ما أمرتك به في مدله فعجله وأنفذه قَالَ: وقرأ الشعباني الكتاب فقال: تدري من مدله؟ قلت: لا، قَالَ: هو والله عبد الله بْن حسن، فانظر ما هو صانع قَالَ: فلم نلبث أن جاء أبو الأزهر، فجلس فقال: قد والله هلك عبد الله بْن حسن، ثم لبث قليلا ثم دخل وخرج مكتئبا، فقال: أخبرني عن علي بْن حسن، أي رجل هو؟ قلت: أمصدق أنا عندك؟ قَالَ: نعم، وفوق ذلك، قَالَ: قلت: هو والله خير من تقله هذه وتظله هذه! قَالَ: فقد والله ذهب.
                              قَالَ: وحدثني محمد بْن إسماعيل، قَالَ: سمعت جدي موسى بْن عبد الله
                              يقول: ما كنا نعرف اوقات الصلاة في الحبس إلا بأحزاب كان يقرؤها علي بْن حسن.
                              قَالَ عمر: وحدثني ابن عائشة، قَالَ: سمعت مولى لبني دارم، قَالَ: قلت لبشير الرحال ما يسرعك إلى الخروج على هذا الرجل؟ قَالَ: إنه أرسل إلي بعد أخذه عبد الله بْن حسن فأتيته، فأمرني يوما بدخول بيت فدخلته، فإذا بعبد الله بْن حسن مقتولا، فسقطت مغشيا علي، فلما أفقت أعطيت الله عهدا ألا يختلف في أمره سيفان إلا كنت مع الذي عليه منهما.
                              وقلت للرسول الذي معي من قبله: لا تخبره بما لقيت، فإنه إن علم قتلني. قَالَ عمر: فحدثت به هشام بْن إبراهيم بْن هشام بْن راشد من أهل همذان، وهو العباسي أن أبا جعفر أمر بقتله، فحلف بالله ما فعل ذلك، ولكنه دس إليه من أخبره أن محمدا قد ظهر فقتل، فانصدع قلبه، فمات.
                              قَالَ: وحدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: قَالَ من بقي منهم: إنهم كانوا يسقون، فماتوا جميعا إلا سليمان وعبد الله ابني داود بْن حسن بْن حسن وإسحاق وإسماعيل ابني إبراهيم بْن حسن بْن حسن، وجعفر بْن حسن، فكان من قتل منهم إنما قتل بعد خروج محمد.
                              قَالَ عيسى: فنظرت مولاة لآل حسن إلى جعفر بْن حسن، فقالت: بنفسي أبو جعفر! ما أبصره بالرجال حيث يطلقك وقتل عبد الله بْن حسن!

                              *ذكر الخبر عن سبب حمله إياهم إلى العراق:
                              حدثني الحارث بْن محمد، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قَالَ: لما ولي أبو جعفر رياح بْن عثمان بْن حيان المري المدينة، أمره بالجد في طلب محمد وإبراهيم ابني عبد الله بْن الحسن وقلة الغفلة عنهما.
                              قَالَ محمد بْن عمر: فأخبرني عبد الرحمن بْن أبي الموالي، قَالَ: فجد رياح في طلبهما ولم يداهن، واشتد في ذلك كل الشدة حتى خافا، وجعلا ينتقلان من موضع إلى موضع، واغتم أبو جعفر من تبغيهما، وكتب الى رياح ابن عثمان: أن يأخذ أباهما عبد الله بْن حسن واخوته: حسن بن حسن وداود ابن حسن وإبراهيم بْن حسن، ومحمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بن عفان- وهو أخوهم لأمهم فاطمة بنت حسين- في عدة منهم، ويشدهم وثاقا، ويبعث بهم إليه حتى يوافوه بالربذة وكان أبو جعفر قد حج تلك السنة وكتب إليه أن يأخذني معهم فيبعث بي إليه أيضا قَالَ: فأدركت وقد أهللت بالحج، فأخذت فطرحت في الحديد، وعورض بي الطريق حتى وافيتهم بالربذة.
                              قَالَ محمد بْن عمر: أنا رأيت عبد الله بْن حسن وأهل بيته يخرجون من دار مروان بعد العصر وهم في الحديد، فيحملون في المحامل، ليس تحتهم وطاء، وأنا يومئذ قد راهقت الاحتلام، أحفظ ما أرى.
                              قَالَ محمد بْن عمر: قَالَ عبد الرحمن بْن ابى الموالي وأخذ معهم نحو من أربعمائة، من جهينة ومزينة وغيرهم من القبائل، فأراهم بالربذة مكتفين في الشمس قَالَ: وسجنت مع عبد الله بْن حسن وأهل بيته ووافى أبو جعفر الربذة منصرفا من الحج، فسأل عبد الله بْن حسن أبا جعفر أن يأذن له في الدخول عليه، فأبى أبو جعفر، فلم يره حتى فارق الدنيا قَالَ: ثم دعاني أبو جعفر من بينهم، فأقعدت حتى أدخلت- وعنده عيسى بْن علي- فلما رآني عيسى، قَالَ: نعم، هو هو يا أمير المؤمنين، وإن أنت شددت عليه أخبرك بمكانهم فسلمت، فقال أبو جعفر: لا سلم الله عليك! أين الفاسقان ابنا الفاسق، الكذابان ابنا الكذاب؟ قَالَ: قلت: هل ينفعني الصدق يا أمير المؤمنين عندك؟ قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ: امرأته طالق، وعلي وعلي، إن كنت أعرف مكانهما! قَالَ: فلم يقبل ذلك مني، وقال: السياط! وأقمت بين العقابين، فضربني أربعمائة سوط، فما عقلت بها حتى رفع عني، ثم حملت إلى أصحابي على تلك الحال، ثم بعث إلى الديباج محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ ابن عفان، وكانت ابنته تحت إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن، فلما أدخل عليه قَالَ: أخبرني عن الكذابين ما فعلا؟ وأين هما؟ قَالَ: والله يا أمير المؤمنين ما لي بهما علم، قَالَ: لتخبرني، قَالَ: قد قلت لك وإني والله لصادق، ولقد كنت أعلم علمهما قبل اليوم، واما اليوم فما لي والله بهما علم قَالَ: جردوه، فجرد فضربه مائة سوط، وعليه جامعة حديد في يده إلى عنقه، فلما فرغ من ضربه أخرج فألبس قميصا له قوهيا
                              [القوهي: ثياب بيض تنسب إلى قوهستان؛ كورة بين نيسابور وهراة. القاموس ص 1615]
                              على الضرب، وأتي به إلينا، فو الله ما قدروا على نزع القميص من لصوقه بالدم، حتى حلبوا عليه شاة، ثم انتزع القميص ثم داووه فقال أبو جعفر: أحدروا بهم إلى العراق، فقدم بنا إلى الهاشمية، فحبسنا بها، فكان أول من مات في الحبس عبد الله ابن حسن، فجاء السجان فقال: ليخرج أقربكم به فليصل عليه، فخرج أخوه حسن بْن حسن بن حسن بن على ع، فصلى عليه ثم مات محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، فأخذ رأسه، فبعث به مع جماعة من الشيعة إلى خراسان، فطافوا في كور خراسان، وجعلوا يحلفون بالله أن هذا رأس محمد بْن عبد الله بن فاطمه بنت رسول الله ص، يوهمون الناس أنه رأس محمد بْن عبد الله بْن حسن، الذي كانوا يجدون خروجه على أبي جعفر في الرواية.


                              وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                              أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                              تعليق

                              مواضيع ذات صلة

                              تقليص

                              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                              ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 19 فبر, 2023, 10:23 م
                              ردود 0
                              37 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
                              ابتدأ بواسطة سيف الكلمة, 20 سبت, 2021, 07:32 م
                              ردود 3
                              82 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 21 أبر, 2021, 03:16 ص
                              ردود 0
                              93 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 11 أبر, 2021, 12:20 م
                              ردود 0
                              63 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
                              ابتدأ بواسطة أكرمنى ربى بالاسلام, 1 فبر, 2021, 08:35 م
                              ردود 13
                              134 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة أكرمنى ربى بالاسلام  
                              يعمل...
                              X