النــاقد و الحـاقدُ

تقليص

عن الكاتب

تقليص

الطلحاوي الإسلام اكتشف المزيد حول الطلحاوي
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • النــاقد و الحـاقدُ



    النــقد عملية فكرية أصيلــة تسهــم في كشف جوانب الاختـلال و تبرز أوجه القصور ، و هـي بذلــك تمثل أسلوبـا حفريـا في ثنـايا فـكر النص السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الديني يسعــى لطـرح الغمم التي تشوب قراءة مــا لقضية مــا . علــى أن النــقد حينمــا ينـبنـي علـى نيــة تقويم الاعوجاج و تصويب الاتجـاه بشكـل يتجرد منه النـاقد من نوايا النقد السفسطـائي يصـير مــفتـاحـا نفيســا لبنــاء القضية بنـاء سليمـا ، و لا ضير فــي أن يتمـترسَ النـاقد بمنــظومــة فكرية يعتــقد فيهــا الصحــة شــرط أن لا يصــادر حـق الآخرين في اختــيار مرجعيتهم التأسيسية بحيث تتحــرك الأفكـار بحرية و بسلاسة بعيدا عن التعــنت و التشرنق علـى الذات الفارغة ، ففــي النــقاشات الصريحـة الهــادئة تتضــح الأفـكار و تتولد المعـاني الجديدة من جدليات الذات و الموضوع .

    لــكن للأسف فمواجهــة الفكــر لا يمكن أن يكون لأجل ذاته و لا يمكن التصدي لمـا عند الآخرين انتصـارا لحب الجدل و استعراضا "لعضلات" الفكر ، لأن أسلوب البحث عـن الحقيقة لا يمكن إطلاقا أن يتحقق بموجب النزعات الأنوية و سلطويات الكــلام المفخخ في النقاش . و هـذا الشكـل الجدالي وجدنـاهُ عـائقــا كبيرا أمـام تطور المعرفة بل وجدنــاهُ أنتـجَ عقليات مُــشوهــة تُـسارع إلـى مضغ الكــلام عن "النسبية" المطلقة بشكـل يطلق العنــان لميوعـة الفكر و سيولته ، و هــذا مــا افرزهُ العــقل السفسطـائي في تعـامله مع الأخـلاقيات و باب القيم حيث صــارَ يُـضرَبُ به المثل في شرود "العقل المُــكَــوَِّن" و خروجه عن ضوابط التفكير السليم ، هكـذا تجد ثراسيماخوس و غورغياس و بروتـاغوراس و غيرهم من زعــماء السفسطة الفــارغة يثيرون الزوابع الفكرية التـي استهدفت تمييع الفكــر المُــعَـقلن فانتصرت للذات علــى حساب الموضوع . و مــا فعــله هـؤلاء لا يعدم لــه أنــصار في زمنــنا المعاصر حيث راهنــوا علـى سيولة العقل لأجــل الانتصــار للبــاطل .

    و كــم من مفكر بدت لــهُ سوءاته الفكرية في المنـاظرات الفلسفية و الفكرية فانكشفت لديه هشاشات أطروحـاته و مـع ذلك لا يأبـهُ بأخـطائـه بل تأخــذه العزة بالإثم فـلا يجد حنينــا يشده غير السفسطـة البلاغية و الخطاب الإرسالي التجريدي .

    إن النـــقد مسؤولية أخـلاقية و ليس هـواية" يتفرطحُ" فيهـا صاحبه بالكـلام الموزون أو المُسجَّـع ، النـقـد عنـوان هوية صاحبه يعكــس قيمهُ التي تــتحكم في اختياراته و ليس منـاسبة لاستعـراض القيل و القال و جمــع لقمـامات الفكر دون نــظر و تمــحيص .

    ليس هنـاك شيئا أضر للعقل من التسليم لـه في كـل قراراته، و ليس أنفـع لـه غير تقبل مخـالفات غيره بصدر رحب و نظـر ثاقب، فالاحتمـاء بالعقل و للعقل و التشرنق علـى ذاتـه كِـبرًا يؤدي حتمـا إلـى خلق كِـيانات ثقافية و دوائر فكرية مغلقة تتوجس خيفـة من كل رأي مخالف و تضع لنفسهـا عـوالِمَ خـاصة تتربـى علـى الإقصاء و النفي العنيف لعنديات الآخـرين فضلا عن كونهـا تنخرط في مسلسلات الاحتقار بدل الاقتنـاع بالافتقار ، لذلـك يحتـاج كل منـا إلـى تخصيص مساحـات فارغـة في عقولنـا للآخرين لإثراء الفكرة و تطوير العـلاقات النِّـقاشية دونمـا عنـاد و تعجرف عبر تربية النفس العصية علـى التطويع و تعويد العقل علـى الإنصات بدل الإقصاء و الاستفسار بدل الاستئصال .

    لكــن مَهــمّـةَ إخـضاع هـذا العقل العنيد و ترويض عنتريته ليست بالأمـر اليسير خصوصـا و نـحن نعيش أزمنـة الإيديولوجيات المستعصية علـى الانفتاح و التفاعـل الجاد ، كمـا نعيش حـالات الخـواء المعرفي الفردي المؤدي إلـى التحصن بالذات و التعـامل مـع الآخـر كدخيل مرفوض ابتداءً ، لا بــد إذن من اعتبار النـاقد منظورا مُـلـقِّحـاً و مُصـوِّبــاً للفراغـات المعرفية و القنـاعات الخاطئة و الرهـان علـى المنظورات الأخـرى في استكمـال الأبنية المعرفية و توجيههـا ، فالنـاقد الحصيف إنمـا يُـثير مـا لم يستقر في عقل مُنــتَقَـدِه و يخلق جوانبَ مغيبة فيه و قد يمـارس التصحيح فيه جملـة. قد ينطلـق الناقد من اعتبارات معرفية بحتـة للتصويب و التوجيه و قد يتعسف أحـيانـا في النقد فيصيـر حربـاً و وبالا علـى الفكر و العقل فيهدم بلا قياس و يبني بلا أساس ، و من ثم يتحول الناقد حـاقداً و تصبـحُ المعرفـة وسيلـة للنقض فتنتصر الايدولوجيا و تنتعش المضادات و تتقهـقر المعرفة أسيرةً بين هـذا و ذاك .

    النـاقد و الحـاقد صنفـان : صنف يتحرك من داخـل الانتمـاء لتيار أو جمـاعـة أو مذهـب ، فيُـقبَـلُ نقد الناقد مـا لـم يتأسس علـى عَـوارٍ فكري و مـا لم يتجرد من المصالح الفئوية و الأطمـاع المغرضة، و يُـرفَـض نقـد الحـاقد باعتبار آفتـه الأخـلاقية التي تجعـل منه شخـصا عَدائيـا لأسباب قد تعود لأشخاص محددين أو حسابات مع أفراد معينين . أمــا الصنف الثاني فيتحـرك من خـارج الانتمـاء، فالناقد هنـا يُــنــظَـر في نقده و في ثنـايا تأصيلـه المعرفي، فإن كـان النقد لا يخرج عن كونـه رأيا مِنهـاجيا توسل غرضـه بالأدوات العلمية الرصينة و التحليلات المنظمـة فهـو نقـد مقبول و مطلوب يوجب النظر فيه و الاعتداد برأيه ، و إن كـان النقد محمـولا علـى الألفاظ التنابزية و المفردات الحربية و أحكـام القيمـة المشحونـة بالكراهية فهـو نقد لا يحتـاج معه غير الإعراض و التجاهـل بلا تردد . و أمـا الحاقد من الخارج فتلك مصيبـة الإيديولوجيين الذين تشبعـوا بقيم النفي العنيف ، فآراء أمـثال هـؤلاء تتحرك بمقتضى ممارسـة الصدام كخـط مقصود فتصبح انتقاداتهم مجرد وسائل للتغطية علـى المشكـل النفسي الذي يعانون منه ، فالحاقد يرسـم لنفسه لوحـة منذ البدايـة لوحـة براقـة تعـطي لـه الحق في الحكم علـى بشاعـة الآخرين و يُـطوِّع كل الإمكانات المعرفية المتاحة للانتقام من المخالَـفين دونمـا اعتبار لأوجـه الاستدلال الفاسدة عنده، فهـو إذ يكتب و يفكر إنمـا قد حدد الهدف ابتداء فجعـلَ من كل الأدوات آليات لخدمـة مشروع النفي و الاستئصال، و مهـما حـاول العـاقل إرشاد الحاقد فإن الفشل نصيبه إذ يتعلق الأمـر بمشكـل غـائر موروث و متأصل في هوامش عقله و قلبه الجاف .َ

    من تمظهـرات النـاقد الحصيف أنـه لا يكتفي بالالتقاطـات السريعـة لفكر المُنتَقـَــد و لا يأخـذ بالمنقولات و التقولات و لا يمـارس عنفـا لفظيـا يُـطيحُ بـمنتَقَــدِه لغةً و لا يُــعــبِّــر عن رأيـه في حق غريمـه لغـواً، بل ديدنـه التحري و الإبحـار في المنـاطق الفكرية المتنوعـة و الاعتمـاد علـى فكر و كتـابة المُنتَـقَـد مباشرة بلا واسطـة ، فهـو نـاقد يروم كشف المستور و المنشور و طرح صيغ بديلـة للبنـاء و التجاوز بعيدا عن الأساليب السريعـة و الأحكـام الجـاهزة ، أمـا الحاقد النـاقد فشخصيـة طابعهـا الانفعـال و التشفي، تلتمس طرق النقد من مسالك منعرجـة و تستجدي لغـة حربية حـادة غرضهـا الرئيس تصفيـة مـا عند الآخـر جملة و إقامـة حواجزَ معرفية بين الأفكـار تُفـاضِـلُ بين هـذا و ذاك قسـراً ،فهـو يتحرك بموجب "بدهيات" لصيقـة بدمـاغـه علـى ضوئهـا يُحـاكِـم و يُـخاصِمُ فيعنِّف غريمـه، كمـا يجتهد في نطاق مُحدداته النفسية و موروثاتـه المعرفية فتصير عملية البحث و الاستقصاء مجرد آليات لخدمـة النزعـة الحاقدة بدل الملكـة الناقدة .

    للأسف الشديد، تـحوّلَ النقد إلـى ملهـاة يسبح فيهـا زيد بحار المعرفة طلبا للنقض لذاته ، مما يدفع بعمرو نفسـه برد المِـثل و التعامل مـعه كشر مستطير بقاءهُ نفي له علـى خط مستقيم. فالحـاقد الناقد يكتب بعنف و بأسلوب عشوائي يفتقر المرونـة الفكرية و تقوده حساسياته لإذكـاء القطيعـة و تكريس نزعـات الصدام الفكري، فهـو لا يتيح لعقله هوامشَ تعبُـر إليه اجتهـادات الآخرين و لا يدَعُ مجالا للشك في يقينياته المُبتسرة، بل يندفع في خط أهوج يعطي لنفسـه الأعلمــية بـلا نزاع .

    يوم تزول الأحـقاد النفسية المريضـة و تختفـي معهـا لغات الاستئصال و النفي تعود العـلاقات بين الأفكـار لتعانق بعضهـا البعض، و يوم تنكمش الإيديولوجيات الصلبة و تتراجع لصالـح تقدم المشترك الإنساني تتـلاقح التوجهـات و تتقاطع المذاهب، آنـذاك يبدأ العقل النـاقد في نضجـه و استواء فكره فتموت الأحـقاد المعرفية التي مزقت الأمم و المجتمعـات و حوّلتهـا إلـى كيانـات مغلوبـة تنهـش بعضهـا البعض ، و لقد تطورت تلك الأحـقاد خصوصا ضد الحركات الإسلامية لتصير لهـا جيشـا من الإعـلاميين المُرتَزَقين يكتبون تحت وقع صدمـة اكتساح الإسلاميين للمشهـد السياسي ( خصوصا في مصر) و صاروا مجنونين بسعـار النقد الحـاقد ينفخون في كل شيء لتزيين أفعـال الطغـاة و الديكتاتوريين، و امتدت نيرانهـا لتشمـل قنوات مرئية و مسمـوعـة تعمل ليل نهـار لقيادة حمـلات الإبادة الفكرية و تكريس الأسلوب "الإرهـابي" في التعـامل مع الأحـرار الشرفاء، فهـؤلاء النقاد الحقّــادون لا يختلفون في شيء عن وعـاظ السلاطين ، فبهم تتم التغطية علـى جرائم المستبدين و بألسنتهم تُــقتَــل الحقيقـة و بأقـلامهم تُــشـوَّه الأحداث في كل مكـان .

    في أمـانِ الله

  • #2
    موضوع متميز .. جزاك الله خيراً ..
    قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
    عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ
    وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ
    حديث 7692 : الزهد والرقائق - صحيح مسلم

    تعليق


    • #3
      في منتــدى جــرى حوار قصير حول هـذا المقال أنــقلــه لكم بحول الله

      قال المُحـاوِر : أرى أنك أخذت ــ أيضا عن وعي أو غير وعي ــ موقف الحاقد من المفكرين الماركسيين كفؤاد زكرياء وطيب تيزيني، ومن غير السليم أن أعتبر المشروع الفكري الضخم للطيب تيزيني "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط " نتاج حقد... فلنسلم جدلا بذلك ....لكن لماذا تغاضيت البصرعما هو أخطر من الحقد ؟؟؟؟ اغتيال الفكر والمفكرين أمثال حسين مروة، وفرج فودة ؟؟؟؟؟ ورسائل التهديد التي لا تعد ولا تحصى ؟؟؟؟ ألم يكن ذلك من توقيع" بعض"التيارات الإسلامية؟؟؟؟

      قلت : دعنــي أُبدي ملاحظتين :

      أولا : كنتُ أحـاول في مداخلتـي المتواضعـة أن أحدد بدقـة مـا الذي يفرق النـاقد عن الحـاقد خصوصـا في موضوع الحركـات الإسلامية و المشروع الإسلامي بشكل عـام،و من خـلال قراءتي البسيطـة لمختلف المفكرين المرموقين كطيب تيزني و زكريا و كمـال عبد اللطيف و العشمـاوي و نصر حـامد و فرج فودة و حسين مروة.. تكونت لدي فكرة حـاسمـة : هــي أن هـؤلاء رغم مـا تميزت أقـلامهم من عقلية نقدية صارمـة و تأليفاتهم الضخمـة أحيانـا إلا أنهـم لــم يصيغــوا أبحـاثهم علـى أساس التجديد الفكري و إنمـا علـى أساس المفاصلـة و الصراع مع التيار الإسلامي منذ السبعينـات إلـى حدود الآن ، لـذلـك يغلب علــى جل هـؤلاء المنظرين حدة اللغـة و أسلوب التأريخ المُأدلـج دونمـا اعتبار للخصوصيات و القيم التي كـانت تؤطر المجتمع الإسلامي، فكتاب " مشروع رؤيـة جديدة.."لطيب تيزني أو ؟النزعـات المـادية.. لحسين مروة أو ؟مواقف نقدية من التراث لمحمود أمين العالم و غيرهـا لـم تكن في الحقيقـة إلا مصنفـات حركتهـا عـاملين في رأيي : الأول يتمثل في الرغـبة للانتصار للتفاسير المـاركسية للتـأريخ و التفاعـل مـع أجواء السبعينـات التي شهدت موجـات يساريـة قويـة، و الثاني: يتمثل في تصفيــة خصوم اليساريين و تجـاوز الإسـلام كدين بديل للوضعيات السياسية و الاجتمـاعية و الاقتصادية .

      ثانـيا : أوضحتُ أن النقد ممارسـة للنـاقد يتبـع الدليل و ينصـاع لــه، فهـو لا يندفـع تحت تأثير الايديولوجيا و لا يكتب تحت صدمـة حدث هنـا أو هنـاك ،و إنمـا يقتفي الحق و يدور مـعه حيثمـا دار، و أشرتُ إلـى الايديولوجيات المُغلــقة التي تصم آذانهـا عــن لــغة الدين فـلا تأبـه بقطعياتـه ، فكثير من المُشبَعين بالفلسفات التغريبية للأسف غلــوا في نقدياتهم و وصلـوا لدرجـات الطعـن في أساسيات الدين و نـوظِـروا فغُلبـوا و لـم يتزحزحـوا عــن آرائهم المعادية للدين كمـا هـو الشأن مع فرج فودة و نصر حـامد و غيرهم..طبعـا هـذا الكـلام لا يُفهـم منـه إعـطاء تبرير للاغتيال أو القتل لأن الأفكـار مهمـا بلغت وقاحتهـا فـلا بد أن تُـواجـهَ بالأفكـار مثلـها، فالحديد لا يُفــل إلا بالحديد، لذلــك تحرك العلمـاء مبكرا للرد علــى المصنـفات اليسارية للتاريخ فرفض محمد عمـارة فتوى التفريق بين نصر حـامد و زوجته و كتب كتـابا مستقلا في الرد عليه أسمـاه " التفسير المـاركسي للإسلام" و كتب القرضاوي "الإسلام و العلمانية وجهـا لوجه" كرد علـى فؤاد زكريا في مناظرته الشهيرة ،و كتب الغزالي " الإسلام في وجه الزحف الأحمر" وكتب منير شفيق " الدولة و الثورة"و العقاد في " الشيوعية و الانسانية"....

      أمـا حـالات الاغتيال فيتحمـل مسؤولياتهـا أهلهــا، و مـا حدث لبعض الغـلاة اللائكيين حدث للإسلاميين حيث شُـنقـوا و أُعدمـوا و زُجـوا في السجون بــلا سبب و في زمن حكم المـاركسيين أنفسهـم ، و فرج فودة ليس من أهـل الفكر الحر إذ نـاظرتـه لجـان متخصصة فبـان عَوار فكره فأخذتــهُ العزة بالإثم ، و صدر منــه كفر بواح كمـا قال الغـزالي و لم يرتـدع رغـم كشف هزالـة حججه أمـام المحكمـة...
      إن السـلاح الوحيد الذي نحتـاجـه لمـواجهـة الأفكـار الدخيلـة هـي الأفكـار نفسـهـا، و مـا عمليات الاغتيال إلا فرصـة لتشهير المُستهدف و تدويل فكره، و مـا يصدر من هـؤلاء من كُفريات تُحـال أمورهم لهيئات مختصة وليس لجهـات حـاقدة بدورهـا، و لسنـا نبرئ البتة بعض القيادات التي كـانت تتخذ من العنف وسيلـة لتصفية حساباتهـا، فالغث و السمين موجود في كـل التنظيمـات، إنمـا حديثنـا عن الحقد الذي يؤجج النزعـات المضادة و يُغذي أسباب العنف ....

      المُحاوِر :
      بخصوص النقطة الأولى أوافقك الرأي فالمناهج النقدية التي كانت سائدة عند المفكرين اليساريين ترتكز على التفاسير الماركسية للتاريخ / المادية الجدلية / البنيوية...وما إلى ذلك وعملية التثاقف هذه أراها صحية لكونها وضعت الفكر الماركسي على المحك وبينت ــ من خلال مفكرين إسلاميين : محمدعمارة ــ حسن حنفي منير شفيق....لدرجة أن بعض أقطاب الفكر الشيوعي كرجاء كارودي تراجعوا عن ذلك... إلا أنني لا أرى أن دراسات نقدية أكاديمية بحجم "النزعات المادية"أو" مشروع رؤية حديد"أو "نحن والتراث"..... التي قدمت قراءة جديدة للتراث أن تحكم في إنتاجها حقد هؤلاء المفكرين، أو تصفية خصومهم.لقد كان العكس هو السائد، فقد ألبت الأنظمة التيارات الإسلامية ضد اليساريين (اغتيال المهدي بن بركة ، تحالف السادات مع الإخوان المسلمين في مصر،دعم السعودية... تسهيل التوجه إلى أفغانستان بمباركة من أمريكا بدعوى محاربة الشيوعية....) ناهيك عما كان يحدث في الكليات ....
      كلامك أخي الطلحاوي فيه تعميم وأحيانا مغالطات أغلب المفكرين لم يتناولوا النصوص الدينية ولم يطعنوا في أساسياتها وإنما وجهوا نقدهم إلى الفكر الديني الذي هو من إنتاج البشر، والفرق واضح بين الفكر الديني وبين النصوص الدينية ....
      ما هي الدولة التي حكمها الماركسيون ؟؟ ومن الحكام الماركسيون؟؟؟ ألم تطل الاعتقالات التعسفية ، والمقصلات ، وكل أنواع التعذيب لكل من اشتمت فيه رائحة اليسار ؟؟؟؟

      قلت : مرحبا أخـي الكريم و زين الله قلمك بالحق

      في الحقيقــة و حتـى لا يُســاءَ فهمــي ، فالدراسـات اليساريـة حول التراث في عمومياتهــا لـم أقـل عنهـا أنهـا كـانت تصدر بالإجمـال عن أحـقاد ، فلست ممن يبخسون قيمة الآخرين، فاليساريون استطـاعـوا أن يقدمـوا قراءات مـادية أحادية مستمــدة من الاعتبارات الخـارجة من السياق ، لكن كتـاباتهم للأسف دارت في أغلبهــا حول تغليب الجوانب الاقتصادية التي كـانت بدورهـا تضغـط علـى العقل اللائكي المـاركسي دومـا، و لسنا نلـوم هـؤلاء علــى اختياراتهم المـادية و إنمــا نلومهــم لأنهـم كـانوا يقدمون مصنفاتهــم كنقيض للطرح الإسلامــي ، و لأنه منهــج لـم يعد يجلب انتباه النقاد و المتخصصين في نقد التراث ، فمحمود العالم مثـلا معروف عنــه حقــده للتيارات الإسلامي في مصــر و غير مصر و قل ذلك عن رفعت السيد خصوصـا في منـاظرته للمفكر عـادل حسين رحمه الله و خليل عبد الكريم و فرج فودة و حامد نصر و غيرهم غير قليل ، فكيف نتــوقع من أكـاديمي يبحث في التراث و هـو يحمـل أحـقادا علــى خطـاب الحركـات الإسلامية ؟
      كـان يمكن أن تكون لتلك القراءات وجـاهتهــا العِلمية لـو تجردت من الخصومـات الايديولوجية و غـاصت في متون التراث من زاويـة البحث عــن الصائب و الخاطئ، لكن أن يكون التأليف مدفوعــا بنزعـات التضاد ليس مع الإسلاميين فقط بل مـع الإسلام نفسـه فهــذا يحيل تلك الأبحـاث مباشرة إلــى التجـاهـل و الإعـراض، قرأتُ كتاب أحمد عباس صالح في " اليمين و اليسار في الإسلام" و "النزعـات المـادية" و مشروع رؤيـة.." و "من الثراث إلـى الثورة" و " مواقف نقدية من التراث-محمود أمين العالم" و "المال و الهلال"... لكنــي وجدتُ (و هـذا رأيي طبعـا) أنهــا كتب أساءت للتراث نفســه عندمــا شوهــت الشخصيات التـاريخية و حولت التــاريخ لنظرياتهم المحفوظـة عن نظرية الصراع بين المستغِل و المستغَل . أود أن أقول ببساطــة أن الذي يأخـذ موقفا معـاديا للدين لا ننتــظر منــه أن يُقــدِّم لنــا صياغــة دينية، فالإنتاج الفكري تحصيل حـاصل لنمط التفكير و المـاديون أجمعـوا علــى أن المـادة مستكفية بذاتهــا، و طيب تيزني في دراستــه " من التراث إلـى الثورة :نحو نظرية مقترحة في قضية التراث العربي" نفسـه كمـا وضح قال عن بحثه للتراث العربي الإسلامي بأنـه بمثابـة " تصفيــة حساب مـع هـذا التراث ".يقصد التراث الإسلامي.... معظم المصنـفات المـاركسية للأسف هـي صدى لغيرهـا، فصاحب "النزعـات المـادية" صاغ نظرياتـه وفق تقليد صارم للمستشرق الألمـاني "هيرمن لاي" في كتابه " تاريخ المـادية في العصر الوسيط " ، أمـا كتاب " مشروع رؤية جديدة ..." فقد جـاء تقليدا لمضامين دراسـة قام بهـا المستشرق الشيوعي السوفياتي "كراتشفوفسكي"

      تنـاولَ الكـاتب المرموق جمـال سلطـان في " الغارة على التراث الإسلامي" مختلف الأحـقاد علــى هـذا التراث الإسلامي خصوصـا الماركسية منهـا، و شرح فيه منهـج الإسقاطـات الخـاطئة للمفاهيم علــى التراث الإسلامي ، و لله در الفيلسوف طه عبد الرحمـان فقد قدم خـلاصـة نقده للمنهجيات الإسقاطية في كتابه " تجديد المنهج في تقويم التراث..

      في المقابـل ثمـة قراءات لم تعتمد علـى استنطـاق التراث بناء علـى المعطـى المـادي الوحيد مثل مـا تفضل به الراحل عابد الجابري في كتبه حول العقل العربي و قراءات حسن حنفي و محمد عمـارة والغزالي و غيرهم و أنور الجندي ...
      الاغتيالات كـانت متبادلــة و كـانت تفرضهــا حدة الصدام الايديولوجي في السبعينـات و الثمانينـات، فابن بركـة أصـلا لــم يَثبت أن اغتـالته الأنظمـة الإسلامية و إليك هـذا الكتاب الذي يبحث في أسرار هـذا الموضوع " خفايـا اغتيال المهدي بن بركة، كشف جريمـة دولية" ل جاك دِرُجـي و فريديريك بلوكـان ترجمه محمد صبح، بل الأولـى أن يُقـال أنـه من خطط لاغتيال قيادات مقاومـة كعباس المسعدي، و تحالف الإخـوان مـع السـادات لا يختلف عن تحـالف الشيوعيين مــع عبد النـاصر ،فذاك أمـر السياسـة في تقلباتهـا و متغيراتهـا الساخنـة... و الآن أعكس الآية، فأنتَ تـرى كيف تتحرك السعودية ضد الحركـات الإسلامية في كل مـكـان فتتـاجر بالدين لأجـل إخمـاد وهج التمدد الإسلامي ، هـذا مـوضوع آخـر لا أحب تفريعـه حفاظـا علــى الموضوع نفسه ...و مـا يحدث في الكليات متبادل من كل الأطراف، بل من خـلال معـايشتـي للأوضاع عن قرب أجزم بأن تـاريخ التيارات المـاركسية الدمـوي أنصع من أن تحجبــه محـاولات إخفائها،و هـذا أمـر طبيعـي لأن القوم يعتمدون علــى العنف كاستراتيجية للتغيير،أي كمبدأ ثابت لاستئصـال القوى الدخـيلة و هو مـا أنتج صدامـات متتالية غرضــهـا البحث عن موطأ قدم في الساحـة الجـامعية ( هـذا موضوع آخـر يحتـاج للنـقاش في مجـال آخـر) ...

      هـل تتفق معــي بأن من أساسيات النصوص الدينية أن يكون الرسول عليه السلام قدوة لنــا أم لا ؟ فإن طيب تيزني يرى عكس ذلـك بعظم لسانــه

      هــل تتفق معــي بأن الإسلام دين صالح لكل زمـان و مكـان ؟ فإن صاحبنـا يعتبر ذلك "مُصادرة دينية ميتافيزيقية

      ألـم تقرأ كتاب عمـارة " التفسير الماركسي للإسلام" لتقفَ علــى حجم افتراء نصر حـامد علــى الإسلام ؟

      ألــم يتطـاول فرج فودة علــى الأحكـام الإسلامية و الحدود و ملأ كتـابه " قبل السقوط" بالمغالطـات التـاريخية ؟

      ألــم يكن مصطفــى محمود يسخــر من الأديان نفسهـا قبل أن يعود إلـى رشده فيكب " رحلتي من الشك إلـى الايمـان "؟

      ألــم يبنــي المـاركسيون جميعهـم نظرياتهـم علــى الصراع الطبقي و الاعتبارات المـادية فطعنـوا في الوحي أحيانـا كمـا فعل العروي ؟؟....

      الحكـاية ليست في الفرق بين النص الديني و الفهم البشري لـه و إنمــا في المرجعيات المؤسسة للفهــم البشري، فالمـاركسيون لـهم رؤيــة مـادية شاءوا أم كرهـوا و تحليلاتهم للشخصيات التـاريخية لا تخرج عـن العوامل الوضعية ، و هـاته الحجة التـي بقيت لللائكيين عمومـا المـاركسيين و الرأسمـاليين لـم تعد تجدي نفعــا أمــام حجم انسحـاقهم التغريبي في منظومـة الغرب إذ لا يبالون إن كـانت آرائهم متوافقة مع الشرع الإسلامي أم لا و لا يأبهـون بحـاكمية الإسلام ، و إنمـا يتصرفون مـع نصوص الدين كنصوص بشريــة و يستأنسون الحديث في المقابل عن ضرورة التفرقة بين النص و فهــمه . ...

      أمـا عن الدولـة الشيوعـية فبين يدينـا التجربة النـاصرية الشيوعية و إن كـان مفهوم عبد النـاصر للماركسية متداخـل مـع النزعـة القومية عنده ، و لدينـا التجربـة السوفياتية و مـا فعلتــه بالمسلمين من مشانـق و تهجير و مـلاحقات ( يُنظر الإسلام في وجه الزحف الأحمر للغزالي) ، و لِم نذهب بعيدا و الفصائل المـاركسية التي كـانت تتحكم في الثمانينـات في الجامعـات صـادرت كل الحريات للمسلمـات المحجبات و الأساتذة الملتزمين...

      تحيــاتــي أخــي الكريم و هدانـا و إياك إلــى الحق المبين آمين ,.تقبل احترامـاتي العطرة

      المُحـأوِر :
      تحية عطرة أخي الكريم الطلحاوي، وأشكرك من قلبي على الشروحات القيمة والإضافات الممتعة التي استنرت بها ، لا أخفيك أخي الطلحاوي إفحامك لي ، حافز للمزيد من تعميق البحث والدراسة حول التراث العربي الإسلامي وما تعتريه من إشكالات متعددة....
      كما اشكرك على سعتك صدرك ورصانتك .
      تقديري الأخوي الكبير

      قلت : الشكــر موصول إليك أيضـا أخـي الكريم و بـارك في قلمك آمـين .

      أخـي الكريم نحن هنـا نتــبادل الآراء بيننــا و نستفيد من بعضنــا البعض ، قـد نختــلف حول كثير من القضايـا لكننــا حتمــا لا نختلــف حول ضرورة عرض الفكرة فيمـا بيننــا، الكــلمــة الحـرة دائمــا دائمــا ينبغــي أن تُتــأحَ لهــا الحريـة في التعبير لكــي تنــضج المواقف و تتجســد خطوط التمـاس و التنـاد ،

      سُــرِرتُ بنقاشــك المفيد و نسأل الله أن يتقبل منــا و يعفو عـن زلاتنــا آمين



      تعليق


      • #4
        أحسنت الرد أستاذنا الكريم الطلحاوى

        كلامك أخي الطلحاوي فيه تعميم وأحيانا مغالطات أغلب المفكرين لم يتناولوا النصوص الدينية ولم يطعنوا في أساسياتها وإنما وجهوا نقدهم إلى الفكر الدينيالذي هو من إنتاج البشر
        هـل تتفق معــي بأن من أساسيات النصوص الدينية أن يكون الرسول عليه السلام قدوة لنــا أم لا ؟ فإن طيب تيزني يرى عكس ذلـك بعظم لسانــه

        هــل تتفق معــي بأن الإسلام دين صالح لكل زمـان و مكـان ؟ فإن صاحبنـا يعتبر ذلك "مُصادرة دينية ميتافيزيقية

        ألـم تقرأ كتاب عمـارة " التفسير الماركسي للإسلام" لتقفَ علــى حجم افتراء نصر حـامد علــى الإسلام ؟

        ألــم يتطـاول فرج فودة علــى الأحكـام الإسلامية و الحدود و ملأ كتـابه " قبل السقوط" بالمغالطـات التـاريخية ؟

        ألــم يكن مصطفــى محمود يسخــر من الأديان نفسهـا قبل أن يعود إلـى رشده فيكب " رحلتي من الشك إلـى الايمـان "؟

        ألــم يبنــي المـاركسيون جميعهـم نظرياتهـم علــى الصراع الطبقي و الاعتبارات المـادية فطعنـوا في الوحي أحيانـا كمـا فعل العروي ؟؟....

        نعم طعنوا فى الدين وثوابته وسخروا من الحدود وربما رفضوها جُملة وتفصيلا وبعضهم اعتبر أن نظام الميراث الإسلامى ظلم المرأة والبعض الآخر طعن طعناً شديداً فى الحجاب واعتبره عادة يهودية وطعنوا فى شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام وتطاولوا على الذات الإلهية ..

        فما الذى تبقى لم يطعنوا به ويسخروا منه ، وبالنهاية يقول إنهم انتقدوا الفكر الدينى الذى هو من نتاج البشر فقط ؟!!
        وَريحُ يوسفَ لا تَأتي نَسائمُها
        إِلا لِقلبٍ كانَ هواهُ يَعقوبا



        تعليق

        مواضيع ذات صلة

        تقليص

        المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
        ابتدأ بواسطة Islam soldier, 6 يون, 2022, 01:23 م
        ردود 0
        167 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة Islam soldier
        بواسطة Islam soldier
         
        ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:22 ص
        ردود 0
        22 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة Islam soldier
        بواسطة Islam soldier
         
        ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:20 ص
        ردود 0
        40 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة Islam soldier
        بواسطة Islam soldier
         
        ابتدأ بواسطة عادل خراط, 6 أكت, 2021, 07:41 م
        ردود 0
        32 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة عادل خراط
        بواسطة عادل خراط
         
        ابتدأ بواسطة Ibrahim Balkhair, 4 سبت, 2020, 05:14 م
        ردود 3
        84 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة Ibrahim Balkhair
        بواسطة Ibrahim Balkhair
         
        يعمل...
        X