الدين و السياسة : تدخّل أم تداخل ؟

تقليص

عن الكاتب

تقليص

الطلحاوي الإسلام اكتشف المزيد حول الطلحاوي
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الدين و السياسة : تدخّل أم تداخل ؟

    الــسلام عليكم


    مـقدمـة :

    يمثل موضوع العلاقة بين الدين و السياسة أهم الإشكالات التي طرحت نفسها بقوة على الساحة الفكرية و الثـقافية نتيجة الاختلاف الحاد بين مختلف مكونات التيارات الفكرية ، إذ يكفي لكل باحث أن يطلع إلى حجم الكتابات المهتمة بجدلية الدين و السياسة حتى يتبين له معنى مركزية هذا الموضوع في الخطابات السياسية و الدوائر الفكرية ، كما أن الناظر لحدة السجالات و المناظرات التي حفلت بها الكتب الفكرية على اختلاف توجهاتها المرجعية يدرك إلى أي مدى أصبح موضوع العلاقة بين الدين و السياسة يمثل أحد مظاهر التفرق الفكري بين الأطر و النخب ، فإذا كان الغرب قد انتهى به المطاف قي صراعه المرير مع رجال الدين إلى انتصار كاسح تحوَّل بموجبه الدين إلى وظيفته الروحية و اختزاله في البعد الروحي بعيدا عن قواعد التشريع المؤسساتي والنفوذ الاجتماعي فإن الأمر يختلف إلى حد كبير في العالم الإسلامي حيث شهدنا فصولا و حملات و عراك فكري عكست بوضوح حالة الفوضى في الأطر التأسيسية و غياب الوحدة المرجعية . على أنه لم تطرح جدلية تلك العلاقة بهذه الحدة في العالم الإسلامي إلا بعدما صدر كتاب (الإسلام و أصول الحكم ) للشيخ علي عبد الرازق ينتصر فيه لفصل الدين عن السياسة فجلب على كتابه ردود شديدة من مختلف الأقلام خصوصا منها ذات التوجه الإسلامي الرافضة لأية عملية إسقاطية للنموذج الغربي في تعاطـيـه مع الدين المسيحي على الدين الإسلامي بحيث قـعَّـدت أدلتها على مبدأ المفاصلة بين التاريخ الغربي و الإسلامي باعتبار وجود تمايز في نظام القيم بين الإسلام و الدين المسيحي ، كما أسست رفضها الشديد للفصل بين الدين و السياسة بناء على دراسات نقدية للظروف التاريخية و للإطار الحضاري الذي أفرز هذا الوضع الغربي السياسي في علاقته بـالدين . و لذلك وجب علينا في البدء الحديث عن الدين في العقل الغربي و تحليل التصورات و المثل التي تكونت عند النخب عبر التاريخ الغربي في ارتباطاتها بالدين بشكل عام وصولا إلى الحالة الراهنة التي عرفت تنظيم الحقل الديني عن السياسي في نظام الحكم و التدبير الاجتماعي.

    الفصل الأول : الديــن

    المطلب الأول : الدين في العقل الغربي المسيحي

    في اعتقادي الشخصي لا نستطيع أن نفهم جدلية الدين و السياسة في الحضارة الغربية ما لم ننفذ إلى السياق التاريخي الذي تشكلت من خلاله إرهاصات عزل الدين عن نظام الدولة و مؤسساتها و ما لم نحدد موقع الدين ـ أي دين ـ في العقل الغربي بدءا من الأصول الأولى لنشأة الفكر الفلسفي (اليونان) وصولا إلى الوضع المعاصر الغربي حيث أخذ الدين بعده الروحي بعيدا عن التشريع و التدخل في قضايا المجتمع باعتبار أن النتيجة التي انتهت إليها حضارة الغرب مرتبطة بأسبابها و تاريخها الطويل في الصراع بين العقل و الدين ثم العلم و الدين.

    لنسجل في البداية أنه لا توجد أي حضارة في التاريخ بلا دين و قيم و تقاليد تؤطر طقوسها و أشكال تنظيمها كما يذهب لذلك العديد من المؤرخين و دارسي النظم الحضارية مثل المؤرخ اليوناني القديم فلوتارخس و ألبرت أشفيسر في (فلسفة الحضارة ) و (قصة الحضارة ) لوول ديورانت و توينبي و غيرهم ، فلقد عرفت كل الحضارات ديانات تتحرك على هديها الشعوب ، و يقر القرآن الكريم هذه الحقيقة قائلا { وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون } حيث اعتبر القرآن أن العبادة كانت المهمة المركزية لخلق آدم عبيه السلام انطلقت من عقيدة التوحيد المطلق في البدء ثم ما لبثت أن تداخلت عليها أشكال من الشرك فعبدوا الأصنام و الشمس و الكواكب و غيرها ، و يذهب ابن جرير الطبري المؤرخ أن أسماء يغوث و يعوق و نسرا في قوله تعالى } و قالوا لا تذرنا آلهتكم و لا تذرنا ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا} كانت أسماء لرجال صالحين ثم حدث مع تقادم الأزمنة أن عبدها الناس . إن الحديث عن الدين في العقل الغربي يفرض علينا بالأساس العودة إلى الفترة التي مـثَّـلت منعطفا مركزيا في التحول من التوسل بالأساطير إلى التوسل بالعقل في القرن الرابع قبل الميلاد في بلاد اليونان ، و لعنا نجزم أن ما حدث في الفكر الغربي المعاصر في نظرته إلى الدين بشكل عام أشبه إلى حد كبير بنظرة القدماء إلى الدين اليوناني المتمثل في الدين "الأورفي" الخليط حيث وجدنا عودة قوية لمثقفين إلى العقل اليوناني للإشادة به و التجديد عليه ، و بالتالي ظلت العلاقة مع الدين من جنس العلاقة مع التقاليد و ما تواضع عليه البشر، فإذا كان الدين في التقاليد اليونانية قد تعرض لحملات شرسة من طرف السفاسطة بالخصوص مستهدفين بذلك نزع الهالة القدسية ـ و هم على صواب في ذلك باعتبار الدين اليوناني مجموعة طلاسم ـ فإننا و نحن نقرأ التاريخ الحديث الغربي نجد أننا أمام مسار واحد و أمام حضارة واحدة في التعاطي مع الدين ـ كل دين ـ بحيث سيطر الفكر الـلائكي في التحليل و التفسير و اختزل الظاهرة الدينية في كونها اختلافات بشر . لا يعني هذا البتة أن الدين في العقل اليوناني لا قيمة له في المجتمع ، فالناظر لروايات و أساطير و أشعار اليونان و كذلك ـ وهو الأهم ـ في الحوارات الأفلاطونية على نزعاتها العقلية المجردة مثلا في (محاورة يوثيغورو) و (محاورة فيدون) و (دفاعا عن سقراط) و حتى في ( الجمهورية ) ، تجد حضورا واضحا للبعد الديني في اللغة الحوارية و كذلك في أوساط الناس العاديين ، غير أننا نتحدث عن العلاقة بهذا الدين أو ذاك على المستوى التنظيمي و التأطيري حيث اعتبر الدين تقاليد و طقوس و أخلاق فردية أكثر مما اعـتُـبِـر نظام حياة و برنامج سياسة في التدبير الاجتماعي . لقد كان للدين ، بغض النظر عن مكونـاته و طبيعته ، دور كبير في إشباع الحس الروحي لدى الإنسان بحيث ظل عقله مشدودا إلى عالم الرمزيات مهما بلغ به درجة التعقل و مستوى فلسفته ، فهذه اليونان رمـز التفلسف عندهم تستمـد حِـراكها من أساطير الأورفية الفيثاغورسية ، و لم يجادل في قيمتها الاجتماعية أحد إلا القلة القليلة من السفوسطائين الذين أنكروا كل شيء لا يصدقه العقل مثل غورغياس و بروتاغوراس . لذلك سيبقى الدين لغزا يصاحب الإنسان لأنه يمثل الجانب الروحي فيه ، يشهد لهذا ما نلاحظه من كثرة الدراسات و الأبحاث التي تخصصت في تحليل الأديان خاصة مع ظهور العلوم الإنسانية و الدراسات الأنتروبلوجية و الإثنوغرافية التي تبحث في الإنسان القديم و في نظام المجتمع الذي يتحرك فيه ، فوجدنا مذاهب متعددة و اديولوجيات تحاول تفسير الدين تفسيرا ينسجم مع المناهج المعتمدة في التحليل فاضطربت نتائجهم و تناقضت أبحاثهم . فخلص البعض إلى إرجاع أصل الدين إلى السحر (لفريزر) و الآخر يرجعه إلى الأسطورة (هيبر) و الآخر يعيده إلى نوع من الوحي الذاتي و الحدس بوجود اللانهائي (ماكس مولر) و الآخر إلى نظرية المادة الحية (تايلور) و الآخر إلى عبارة أرواح الموتى (هربوت اسبنسر) ... (ينظر منهاج البحث الاجتماعي بين الوضعية و المعيارية.محمد محمد أمزيان ص 48 )

    لقد استعرض لنا الدكتور علي سامي النشار مجمل الطروحات التي دارت حول تحليل نشأة الدين من مختلف المذاهب الفلسفية الحديثة و المعاصرة في كتابه الموسوم ب (نشأة الدين) مركز الإنماء الحضاري ط 1 1995 فما خرج إلا بخلاصة جديرة بالتأمل مفادها أنه رغم ما نجده من اختلافات حول نشأة الدين عند هؤلاء فإن المدهش حقا أن الدين مازال لم يتزعزع من وجدان البشر رغم التفاسير التطورية . إن علاقة الدين بالمجتمع ـ أي مجتمع ـ علاقة عضوية أساسية يمثل فيها الدين أحد مرتكزات الحضارة كما ذهب إلى ذلك الكاتب الأمريكي وول ديورانت في( قصة الحضارة ) و الشيخ نديم الجسر في كتابه النفيس (قصة الإيمان بين الفلسفة و العلم و القرآن) و غيرهم . فالدين سيظل في قلب الإنسان هو المجيب عن أسئلته الوجودية الكبرى رغم ما يعرفه العالم من تطور في الجانب التقني و الصناعي و الإداري و الاقتصادي و رغم التحول الكبير الذي عرفه العالم الغربي من النظم الدينية التي حكمت بنظرية الحق الإلهي إلى النظام " العلماني " القاضي بفصل الدين عن الدولة في التدبير العام ، لذلك وجدنا العديد من العلماء الغربيين الكبار المختصين في شتى ميادين البحث العلمي يصدرون كتبا مستقلــة يُــعبرون فيها عن عظمة الدين و قوته الباطنية كما ذهب إلــى ذلك العلامة القرضاوي في كتابه ( الدين في عصر العلم ) . عــلى أن وظيفة الدين تتجــاوز كونه شعورا باطنيا لــدى الفرد تجعــله يأخــذ بالكثير من القيم السلوكية التي تكون في صالح الدولــة ، لأن الدين في عمومه لا بـد و أن ينطوي على جمــلة من القواعد التنظيمية ليس فقط على مستوى علاقة الفرد بربه و إنــما أيضا على مستوى علاقات الأفـراد يبعضهم البعض ، و يكفي لكل باحث في التاريخ ما يعلـمه من أثــر الدين في المجتمعات القديمة بحيث لا يخفى دور الأديان في ضـبط حركة المجتمع و ترقيته أخلاقيا و تنظيميا ، و لـو أخذنا على سبيل المثال الكونفوشيوسية - كمذهب ديني فلسفي – و مــا أحدثـته من تأثير قوي في الأفراد يعترف بها حـتى الغربيون الذين مجدوا حضارة الغرب و جزموا باستقلاليتها عن التأثير الشرقي لوقفنا على دورها البارز في تربية المجتمع و تنظيمه حتى سياسيا لأن الفلسفة الكونفوشيوسية ذات الطابع الديني الوضعي متمــيزة جدا عن الفلسفة اليونانية ذات الطابع التجريدي الصرف ، و كذلك نجد في تاريخ الدين الهندي في القرن الرابع و الثالث قبل الميلاد نقف على الجانب الاجتماعي فيها . إذن فالتاريخ نفسه يؤكد ارتباط الأديان بالمجتمعات كما تؤكدها أيضا مضامين و قيم الأديان ذاتها و لهذا وُجِـدت . يقول المؤرخ الإغريقي فلوتارخس : ( قد وجدت في التاريخ مدنا بلا حصون و مدنا بلا قصور و مدنا بلا مدارس ، و لكن لم توجد أبدا مدنا بلا معابد ) . لــقد أكدت الدراسات الأنتروبولوجية أن المجتمعات القديمة تفاعلت فيها المكوِّن السياسي بالديني فاجتمعت الصفة الدينية بالصفة السياسية لـدى الزعماء و القيادات حيث كانت الصفة الدينية تُـخـوِّل لهم أدوار سياسية و اجتماعية .

    يُــتـــبـــــــع بحول الله...






  • #2
    المطلب الثاني : الدين و االدولة في العقل الغربي

    يمكن القول أن تاريخ الدين في الغرب قد عرف مخاضا عسيرا في علاقته بالصراع مع المفكرين و الفلاسفة و العلماء الذين كانت لهم صولات و جولات في التصدي لرجال الدين و نفوذهم المطلق في ميادين الحياة ، و أصبح من المعلوم به تاريخ النزاع الحاد بين سلطة الاكليروس (السلطة الدينية ) و بين تيارات " التحرر" الذين رفضوا استغلال رجال الدين لمكانتهم قصد فرض الرأي الواحد و احتكار الحقيقة أفضت في آخر المطاف و تحت أنهار من الدماء إلى ما نجده الآن من فصل بين الدين و الدولة في مجالات تدبير المجتمع و قيادته .

    اختلطت العديد من الآراء و التصورات حول الدين في علاقته بالدولة في الغرب بين من اعتقد بسموه على الدولة و بين من ذهب إلى التمييز بين وظيفة كل منهما و أيضا بين منكر لأي دور في الدين على مستوى تنظيم المجتمع ، ففي العصور الوسطى لدى الغرب شهدنا قيام دولة دينية تحكم بنظرية الحق أو التفويض الالهي كما شهدنا نمطا من الحكم في القرن 17 م شبيها له عرف ب ( حق الملوك المقدس ) كان قد نظَّر له المفكر الانجليزي ( روبرت فيلمر Robert Filmer 1588-1653 ) لمذهب الملك الانجليزي (جيمس الأول ) في تمثيل الملوك لله في الأرض فصاغ هذه النظرية في كتابه ( المملكة الأبوية ) أو ( سلطة الملوك الطبيعية ) و الذي نشر سنة 1680 م مصورا الملكية نظاما إلهيا مقدسا و الدولة امتدادا للأسرة ، و هذا المذهب هو الذي انتقده فيما بعد جون لوك ( 1632 م – 1704 م ) في كتابه ( رسالتان في الحكم ) عام 1689 م (انظر كتاب سقوط الغلو العلماني دار الشروق ط 1995 ص 89 )، هذا التصور الكهنوتي للدولة و الدين جعل المفكرين الغربيين و تحت التأثير بالفلسفة الأرسطية عبر الفلسفة الرشدية جعلهم ينتقدونه بشدة ليس من طرف المثقفين الأحرار فقط بل أيضا من طرف رجال الإصلاح الدينيين خصوصا و أن التاريخ يسجل لنا أبشع أصناف التعذيب و التنكيل بالعلماء من خلال محاكم التفتيش و ما صاحبها من أهوال تشيب لها نواصي الولدان ، فـ"لوثر" مثلا ميز بشكل واضح بين ما هو سماوي و ما هو أرضي و فصل بين السلطة الروحية و بين الزمنية و اعتبر أن الحياة السياسية غريبة عن روح الإنجيل و كذلك "كالفن" و غيرهم . و إذا كان البعض قد ذهب إلى ضرورة إصلاح السلطة الروحية في علاقتها بالدولة و تنظيمها عبر تحديد صلاحيات كل منهما، فإن ثمة آخرين قد آمنوا بضرورة إخضاع الدين للسياسة و التحكم به قصد الحيلولة دون حدوث تمزق في المجتمع الداخلي . فنجد ميكيافلي قد انطلق من مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة ) ليجعل من الدين وسيلة في يد الحاكم و الأمير يشغله في إظهار الاحترام حتى إذا خرق القوانين حفاظا على الوحدة الاجتماعية للدولة ، كما نجد مونتيسيكيو يحدد فوائد و أهمية الدين في علاقته بالسياسة من خلال دوره في الحفاظ على النظام الاجتماعي و الحد من أخطاء السياسة .

    على أية حال ، استقر الرأي العام لدى مفكري الغرب على ضرورة أن تخضع الكنيسة للدولة و أن تلتزم السلطة الروحية بقوانين السلطة الزمنية كما أنه على الدولة أن لا تتدخل في شؤون الكنيسة كما ذهب إلى ذلك توماس هونر و روسو و اسبينوزا و غيرهم . و مع ازدهار الحضارة الغربية من الناحية التقنية و الصناعية و أمام التحولات التي عرفها الغرب عموما على مختلف المستويات التمدن انتقلت العلاقة بين الدين و الساسة من آراء السياسيين بضرورة الفصل و التمييز إلى الحديث عن ضرورة تطوير الدين نفسه ليساير الحياة الاقتصادية و التقنية بحيث اعتقدوا أن الوضعية التعبدية الكنسية لا تتناسب مع ظروف التغيير الحاصل في البناء الاجتماعي فطالبوا بعلمنة الدين و إعطائه بعدا عقلانيا بعيدا عن الجذور الغيبية و التأملات الميتافيزيقية ، فذهب سان سيمون (1760 م – 1825 م ) إلى اعتبار أن التطور العلمي يستدعي ضرورة تطوير النظام الديني ، و ذهب إلى أن المسيحية الحُقة هي التي تروم إلى تحقيق المساواة في الواقع لا في مملكة السماء ، و أيضا نجد اوغست كونت يتحدث عن الديانة الإنسانية بعد ما أصبحنا نعيش المرحلة الوضعية التي انتصر فيها العلم على التحليلات الغيبية و الفلسفية .

    مِـن تصور الإصلاح الديني لإشكالية العلاقة بين الدين و الدولة إلى القائلين بالفصل و التمييز إلى صناعة دين جديد يستجيب لتحديات الظروف الجديدة ثم إلى النزعة الراديكالية الماركسية حيث نقف على موقف تحرير الدولة من الدين و تحريره من المجتمع عبر تجفيف منابعه و اعتباره ألعوبة بيد الارستقراطيين يخادعون به الطبقة العاملة . هذه هي مُـجـمَـل مسارات العقل الغربي في علاقته بالدين ، فما هي مبررات هذا العداء الظاهر للدين و ما هي دوافع تهميش الدين في الغرب على مستوى التشريع و تدبير الصالح العام ؟ بتعبير آخر ما الذي جعل اللائكية ممكنة في الغرب ؟

    في الواقع لا يمكن فهم ما آلت إليه نظرية الحكم السياسي المبنية على الفصل المطلق بين الدين و السياسة أو بتعبير أدق إلى رفض التفكير الديني و التبشير ب"العلمانية" كحل لمعضلة تداخل السلطة الزمنية و الروحية ، و لعلنا نجزم أن رفض المفكرين لتسييس الدين لم يكن يستهدف الدين في حد ذاته ( المسيحية ) بقدر ما كان يروم نحو الحد من التجاوزات السلبية لرجال الدين لوظيفتهم التعبدية ، يدل على ذلك في بداية الأمر محاولات رجال الإصلاح إزالة ما عُـلِّـق بالدين من الخرافات التي نسجها الباباوات عليه كسبينوزا و لينتز و كالفن و لوثر و غيرهم ، و هذا سان سيمون أحد رواد علم الاجتماع يقف في وجه البابا و كنيسته قائلا "إنني أتهم البابا و كنيسته بممارسة البدع و الهرطقات و أتهم رجال الدين بعدم اكتساب أية معلومات من شأنها أن تجعلهم قادرين على قيادة الأتباع المؤمنين في طريق خلاصهم " (منهاج البحث الاجتماعي بين الوضعية و المعيارية محمد محمد أمزيان ط 3 بيت الحكمة ص 14 ) ، لقد كان التفكير اللاهوتي غارقا في الخرافات فكان طبيعيا أن تجد رد فعل من أولئك الذين تشربوا من البحث العلمي و دراسة قوانين الطبيعة ، زاد من هذا العامل ما قامت به الكنيسة من اضطهاد للأسلوب العلمي في التفكير، فاحتكرت الحقيقة و حرمت كل أشكال التفكير خارج البابوية كما ارتكبت أبشع صنوف التعذيب في حق العلماء الذين ناقـضوا أحكـام رجال الدين . و يكفي للمفكر أن يقرأ شيئا عن محاكم التفتيش ليزداد يقينا بضرورة الحد من نفوذ الكنيسة. لقد كان التفكير اللاهوتي تفكيرا نصيا على الواقع المتغير فسادَ الجمود طوال فترة النفوذ الكنيسة ، و أيضا مما ساعد الحركة "العلمانية" على البروز التدخل القسري لسلطان الكنيسة في كل نواحي الحياة ففرضت النمط الديني على ميادين السياسة و الاجتماع و التعليم و الاقتصاد و أصبح الدين في عقل الإنسان الغربي فكرا تسلطيا يعيق حركة التغير و النهضة ، كان من الطبيعي أن يثور الأحرار على هذا النمط المتحجر بفعل ما أنتجه من انحطاط مطلق و تخلف رهيب استدعى بالضرورة الوقوف في وجهه و البحث عن بديل يؤسس لحياة جديدة تنسجم مع حركة المجتمع و الاكتشافات الجغرافية و تقوم على فتح الحريات و تقييد سلطات الملوك خصوصا و أن التحالف الإقطاعي و اللاهوتي قد أفرز مناخا من الإرهاب و التسلط و الاستبداد ، لقد كانت الصيغة الشهيرة للجماهير في الثورات الشعبية "أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" كانت العبارة التي تلخص واقع الصراع بين العلماء الأحرار و بين رجال الدين الكهنوتيين..

    يُــتــبــع بحول الله...

    تعليق


    • #3
      جزاكم الله خيراً أخانا الفاضل ..

      بارك الله فيكم وأحسن إليكم ..

      سيظل منتدى حراس العقيدة بعون الله وفضله نبراساً للعلم والإيمان والصحبة الصالحة ..
      بارك الله فيكم وأحسن إليكم جميعاً ..

      تعليق


      • #4
        المشاركة الأصلية بواسطة هشام مشاهدة المشاركة
        جزاكم الله خيراً أخانا الفاضل ..

        بارك الله فيكم وأحسن إليكم ..


        شكرا أخـي الكريم علــى المرور الطيب و باركَ الله في أقــلام حراسكم آمين

        تعليق


        • #5
          الفصل الثاني : "العلمانية"

          المطلب الأول : "العلمانية" بأي مفهوم ؟

          يثور جدل حاد بين السياسيين و المثقفين حول "العلمانية" كمفهوم أنتجه الغرب بناء على ملابسات تاريخية و ظروف محددة ، و قد اتخذ هذا الصراع الفكري أشكالا متعددة من الحوارات و السجالات إلى المناظرات المباشرة بين أقطاب ينتمون إلى مدارس مختلفة ، فالناظر لحجم الكتب التي دارت حول "العلمانية" يدرك بجلاء أننا أمام مفهوم يمثل مفترق طرق بين النخب و الكتاب ، و يمكننا أن نذكر على سبيل الجرد بعض الكتب التي تناولت الموضوع تحليلا و نقدا ما يلي :
          + ( العلمنة و الدين : الإسلام.المسيحية.الغرب) محمد أركون دار التاقي (عبارة عن مجموعة محاضرات )
          + ( الإسلام و العلمانية وجها لوجه ) يوسف القرضاوي مكتبة وهبة ،الكتاب عبارة عن استدراك بعد المناظرة الشهيرة التي عقدت في دار الحكمة مقر نقابة الأطباء بالقاهرة بين العلماني الماركسي فؤاد زكرياء و القرضاوي و محمد الغزالي رحمه الله
          + ( التطرف العلماني في مواجهة الإسلام ) القرضاوي ط 1 أندلسية للنشر و التوزيع
          + ( العلمانية في ميزان العقل ) عيد الدويهيس
          + ( العلمانية تحت المجهر ) حوار بين العلماني عزيز العظمة و الإسلامي عبد الوهاب المسيري نشر في سلسلة حوارات لقرن جديد
          + ( العلمانية في الإسلام ) إنعام أحمد قدوح دار السيرة بيروت
          + ( تحطيم الصنم العلماني ) محمد شاكر الشربي دار البيارق
          + ( تهافت العلمانية في الصحافة العربية ) المستشار سالم علي الهنساوي دار الوفاء للطباعة
          + ( العلمانية الجزئية ) و ( العلمانية الشاملة ) عبد الوهاب المسيري
          + ( الحوار الإسلامي العلماني ) المستشار طارق البشري دار الشروق
          + ( الدولة الإسلامية بين العلمانية و السلطة الدينية ) محمد عمارة دار الشروق
          + ( الشريعة الإسلامية و العلمانية الغربية ) محمد عمارة دار الشروق
          + ( سقوط الغلو العلماني ) محمد عمارة دار الشروق رد على كتب محمد سعيد العشماوي
          + ( ردود على أطروحات علمانية ) منير شفيق منشورات الفرقان
          + ( أزمة العقل العربي ) مناظرة مباشرة بين الإسلامي محمد عمارة و العلماني فؤاد زكرياء نشرت في سلسلة ( في التنوير الإسلامي )
          + ( المناظرة حول الدولة الدينية و الدولة المدنية ) محمد الغزالي و محمد عمارة و المستشار الهضيبي و محمد خلف الله و فرج فودة

          هذه الكتب تمثل عينة بسيطة لما كتب في موضوع العلمانية في العالم الإسلامي. فإذا كان نظام فصل الدين عن الدولة لم تطرح مشكلة في الغرب باعتبار الدين المسيحي دين روحي لم يأتي بنظم تشريعية للمجتمع فإن الأمر قد اختلف تماما بالنسبة للإسلام كدين لا يستطيع أحدا التغاضي عن طبيعته الشمولية حتى باعتراف الغربيين أنفسهم في كتبهم . حتى نمسك الموضوع من جوانبه المختلفة سيكون علينا لزاما طرح خيار العلمانية كمفهوم في العالم الغربي و التساؤل حول المعاني و الأسس التي تقوم عليها في بناء النسق السياسي للدولة العلمانية و إذا ما أردنا الوصول إلى حكم عام نُـقيِّم به صلاحية هذا النظام للعالم الإسلامي أخذا بمبدأ الأصوليين " تصور الشيء سابق على الحكم عليه " فكيف فهم العقل الغربي "العلمانية" و كيف تجلت في واقع التطبيق؟.

          يمكن القول أن العلمانية في التاريخ الغربي قد جاءت نتيجة ظروف فرضها واقع الصراع مع السلطة الكهنوتية التي وقفت مع الجهل ضد العدل الحرية و مع الملوك و الإقطاعيين ضد الشعب ، فكان أن تحول الدين (المسيحية) في أعين الثائرين و الطبقات البورجوازية الصاعدة إلى عامل كبح لمصالحهم خصوصا في ظل التحولات الاقتصادية التي عرفتها أوروبا في عصر "النهضة" فجرى الحديث عن وجود تناقض مطلق بين العلم و الدين (كل الدين) استقر في العقل الغربي كسلطة ذهنية كان لابد لأحدهما بالبقاء على حساب الآخر النقيض ، في السياق يقول إميل بوترو (إن أمر العلاقات بين الدين و العلم حين يراقب في ثنايا التاريخ يثير أشد العجب ، فإنه على الرغم من تصالح العلم و الدين مرة بعد مرة . و على الرغم من جهود أعاظم المفكرين التي بذلوها ملحين في حل المشكل حلا عقليا لم يبرح العلم و الدين قائمين على قدم الكفاح ، و لم ينقطع بينهما صراع يريد كل منهما أن يدمر صاحبه لا أن يغلبه فحسب) ( العلم و الدين في الفلسفة المعاصرة .إميل بوترو ترجمة فؤاد الأهـواني الهيئة المصرية للكتاب ص 242 ) ، لقد تحول العلم من منهج للبحث و التحليل إلى نزعة علموية صارمة نريد أن تعيد كل شيء إلى أصول مادية كرد فعل مفرط لأساليب التفكير الكهنوتي الموغلة في التجريد و الخرافة ، و أصبح للعلم سلطة- بالمعنى الدقيق للعلم- معيارية يحتكم إليه كل شيء و غدت المذاهب الفلسفية نفسها تسابق الزمن لتنعت تصوراتها بالعلمية حتى فيما يرتبط بالدراسات الاجتماعية و السيكولوجية ، فوجدنا مثلا رايشتاخ ـ أحد فلاسفة دائرة فيينا ـ يصف فلسفته بأنها علمية ، و وجدنا الماركسية تصف اشتراكيتها بالعلمية ووجدنا المدرسة الوضعية مع أوغست كونت و دوركايم توصف بان أبحاثها علمية... كان من الطبيعي أن يتسابق الجميع إلى نيل شرف العلمية بعدما تهاوت التحليلات الغيبية تحت ضربات الكشوفات و الإنجازات العلمية . في هذا المناخ العام الذي فتح مجالا واسعا من الحرية و البحث العلمي و الفلسفي يمكن أن نتحدث عن ظهور "العلمانية" في الخطاب السياسي و التفكير الغربي بحيث كان قد استقر في العقل الغربي أن لا مصالحة بين الدين و العلم و أن البديل المطروح في نظام الحكم ينبغي أن يأخذ طريقا يعتمد على الفصل التام بين الكنيسة و بين الدولة ، أي بتعبير الإنجيل للمسيح الفصل بين (ما لله لله و ما لقيصر لقيصر ) . لقد ارتبطت "العلمانية" حقا بسيادة النزعة العقلية الإلحادية و اعتبار الدين شأن خاص بين الفرد و ربه يتمتع بحرية الاعتقاد و العبادة بعيدا عن التدخل في نظام الدولة و تشريعاتها للمجتمع ، في حين اعتبرت الدولة العلمانية نفسها محايدة تجاه الأديان بحيث لا تتدخل في السلطة الروحية إلا بالقدر الذي يضمن عدم الإخلال بالنظام العام . باختصار أصبحت الدولة لا دينية في مرجعيتها السياسية . على أن "العلمانية" ليست طريقة في التفكير تستمد أسسها من نتائج البحث العلمي الدقيق ، و إنما أسلوب في التنظيم يلغي الدين كطرف في ضبط المجتمع و يعتمد على آليات وضعية لا دينية لا شان لها بالآخرة تفصل الدين عن الحياة و يصبح فيه العقل الحكم . و هذا ما يجعلنا نرى "العلمانية" تمثل مرجعية دهرية و رؤية للإنسان و الحياة بموجبها يتم التشريع للإنسان "الحيوان" بما يشبع حاجاته المادية و يلبي رغباته المحسوسة بعيدا عن الأسئلة الكبرى حول ماهية الوجود و غاياته ، فالنظام العلماني لا يأبه في سننه بالمجال الأخلاقي و بنظام القيم بقدر ما تدور أساساته حول المصالح المادية و تحقيق قدر من التمدن الصناعي و التقني حتى لو اصطدم ذلك بالقيم الأخلاقية ، و لذلك وجدنا معظم القواميس الغربية في تعريفاتها "للعلمانية" sécularisme تدور حول الاهتمام بما هو دنيوي محض ، ففي معجم اللغة البريطانية نقرأ في مادة "العلمانية" أنها تهتم بالدنيوي أو الاعتقاد بالدنيويات و أن العلمانيséculariste هو ذلك الشخص الذي يؤسس سعادة الجنس البشري في هذا العالم دون اعتبار للنظم الدينية أو أشكال العبادة ...و في معجم أكسفورد أن معنى secular دنيوي أو مادي و ليس دينيا و لا روحيا مثل التربية اللادينية و الفن و الموسيقى اللادينية .. و تعني أيضا الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسا للأخلاق و التربية (أنظر العلمانية سفر الحوالي دار مكة للطباعة و النشر ط 1/1982 ص 22 ) ، و أيضا نقرأ في المعجم الدولي الثالث الجديد تعريف مادة sécularisme أنها "اتجاه في الحياة أو في شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب أن لا تتدخل في الحكومة ، فهي تعني مثلا السياسة اللادينية البحتة في الحكومة و هي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية و الخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة و التضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين (نفسه ص 23 رسالة ماجستير بإشراف محمد قطيس ) ، و في دائرة المعارف البريطانية أن sécularisme هي "حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس و توجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها" (نفسه ص 22 ) ، و كذلك دائرة المعارف الأمريكية و دائرة معارف الدين و الأخلاق ... بالإجمال ثمة إجماع بين المعاجم و دوائر المعارف بأن "العلمانية" مناهضة للدين في الاهتمام بمطالب الإنسان و أنها نظام لا يقوم على السهر لتمكين الدين و أنها على التقليل من قيمة الإيمان بالله عز و جل و الآخرة. على أن "العلمانية" كنظام و ممارسة لم تسع فقط إلى تحجيم دور الدين في المجتمع و أنما أيضا إلى تقويض الاعتقادات الغيبية و السخرية من الاهتمام بالعالم الآخر ، بحيث ظهر بشكل جلي ذلك في الدراسات الأنتروبولوجية و السوسيولوجية خصوصا مع اوغست كونت و الفلسفة الماركسية ، فارتبطت العلمانية بالتفكير الفلسفي القاضي بعزل الدين و تصنيفه في إطار الأساطير و الرموز و الماورائيات ، و قد حاول هوليوك 1817م ـ 1906م أن يأتي بتعريف يصور فيه "العلمانية" بالحياد فقال عنها "أنها الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض" ((العلمانية تحت المجهر عبد الوهاب المسيري ص 12 دار الفكر المعاصر بيروت ) و هوليوك يمثل أحد أول من صاغ مصطلح "العلمانية" كما يذهب إلى ذلك البروفيسور عبد الوهاب المسيري رحمه الله ، فحاول أن يعطي لها صفة الحياد في التعامل مع الأديان ، إلا أنه بنفسه كان يعترف بعدم وجود أدلة كافية للإيمان بالله ( أنظر الإلحاد في الغرب رمسيس عوض ص 246 ) و في عام 1969 م صدر كتاب لهارفي كوكس بعنوان (المدينة العلمانية) يعرف فيه "العلمانية" بأنها انتقال المسؤولية من السلطة الكنسية إلى السلطة السياسية ، و أنها عملية يتحرر فيها المجتمع من القبضة الدينية و الرؤية الميتافيزيقية و نحن نجد أنه ميز بين الإنسان العلماني و الإنسان ما قبل العلماني الذي يعيش و يحيا في عالم الأرواح الخيرة و الشريرة (أنظر الأصولية و العلمانية مراد وهبة سلسلة قضايا العصر ط 1 ص 56 )...

          يُــتــبــع بحول الله...

          تعليق


          • #6
            2- المطلب الثاني: "العلمانية والإسلام" تناقض أم التقاء؟

            في الواقع، لا يمكن الحديث عن علاقة "العلمانية" بالإسلام في العالم العربي والإسلامي بعيدا عن مجريات السياسة في الغرب لاعتبارات متعددة أهمها كون حالة الجدل بين الداعين للعلمانية والإسلاميين الرافضين لها لم تكن مطروحة أصلا في المجال التداولي الإسلامي إلا في أوقات متأخرة بمحاولات فك الارتباط بين السلطة العثمانية والداعين إلى التحرر من هيمنة الدولة العثمانية، كما أن الجدل لم تظهر ملامحه –في رأيي- بشكل جلي إلا بعد إصدار كتاب الشيخ علي عبد الرازق المسمى "الإسلام وأصول الحكم" بحيث أثار عاصفة من الردود الحادة في صفوف الإسلاميين والدعاة والمفكرين المستقلين خصوصا وقد جاء الكتاب في وقت حساس تمثل في انهيار "الخلافة العثمانية" و ظهور دويلات على طريقة الدول الغربية. إننا نرى الداعين إلى العلمانية في العالم العربي والإسلامي يتحركون من خلال تاريخ ليس تاريخهم و يحاججون بمنطق الإسقاط التعسفي لدين على آخر دونما قراءة للمسارات والمضامين، بل ولم يجهدوا أنفسهم بدراسة واقع الفقه السياسي الإسلامي عبر تشعباته المتنوعة في التاريخ الإسلامي، فقلما نعثر في كتبهم ما يدل على استيعابهم لآلية العمل الفقهي السياسي إلا النزر اليسير ممن خاضوا هذا البحر المتلاطم الأمواج فخرجوا بنتائج خجولة لا تستحق أن تكون أدلة على شرعية "العلمانية" في العالم العربي والإسلامي (نذكر بالخصوص الدراسات العلمانية للتاريخ الإسلامي وإسقاطات التحليل الوضعي المعاصر على التاريخ الإسلامي مثل الفقيه والسلطان لوجيه كوثراني . ومشروع رؤية جديدة لطيب تيزني والنزعات المادية لحسين مروة ...) لذلك حينما يعجز العلمانيون في البحث عن السند التاريخي لنظرية فصل الدين عن الدولة يسارعون بالحديث بلغة تجريدية عن ضرورة الأنْسنَة و النظر إلى الدين نظرة عقلانية و عن ضرورة تطوير الفكر الديني ...( عزيز العظمة، حامد نصر أبو زيد، محمد أركون، فؤاد زكريا، جلال العظم...) جريا على تقليد العقل الغربي في صراعه المرير مع السلطة الكهنوتية. و الواقع أن الناظر في كتب العلمانيين و في حواراتهم يدرك إلى أي حد غدا الغرب مقياسا في التعاطي مع الحضارات الشرقية, فنحن قلما نعثر على أدلة عند هؤلاء تجعلهم يشرعنون لاستيراد "العلمانية" وتوطينها بقدر ما نعثر على مخلفات الفكر الغربي بمصطلحاته و تجلياته، بل في تقديري لم يستطيعوا رد أدلة الإسلاميين من الشرع والعقل على تعارض العلمانية مع الإسلام بالشكل الذي يجعلهم قادرين على بناء نموذج الغرب في السياسة، وهذه الحقيقة يمكن إدراكها ببساطة أثناء تتبع سلسلة المناظرات والحوارات بين الطرفين، فلو أخذنا المناظرة الشهيرة حول الدولة المدنية والدولة الدينية بحضور كل من الشيخ محمد الغزالي و الهضيبي ومحمد عمارة مع محمد خلف الله و فرج فودة لوجدنا هروبا واضحا من الرد على الأسئلة الإسلامية ولوجدنا مغالطات علمانية متعددة منسوجة بلغة أدبية متقنة (ينظر أيضا كتاب قبل السقوط لفرج فودة و رد منير شفيق في بين النهوض والسقوط )، ولو نظرنا أيضا في المناظرة بين القرضاوي والغزالي مع فؤاد زكريا ثم محمد عمارة مع فؤاد زكريا حول "أزمة العقل العربي" لوقفنا على نفس الحقيقة هي أن العلمانيين يعانون من عقدة الجواب على الأسئلة الإسلامية في قضايا تاريخية متعددة بدءا من تكون الدولة الإسلامية في المدينة وصولا إلى عام 1924 حيث انهيار الملك العثماني كسلطة عامة تدير الجماعة.

            إن الذي يقرأ الإسلام قراءة خارجية أو قراءة بعيون غربية تعتمد على مجال تداولي له خصوصياته لن يصل إلا إلى ضرورة الأخذ بالعلمانية أو الدعوة إلى علمنة الإسلام و تحويله إلى دين كهنوتي لا شأن له بالسياسة وتدبير الشأن العام. أما الذي يقرأ الإسلام من داخل الإسلام أو من خلال تاريخ المسلمين فلن يجهد في استنتاج حقيقة الإسلام كدين و دولة، ولا أدري كيف يمكن لعاقل أن ينكر علاقة الإسلام بالسياسة كأسلوب في تنظيم المجتمع، و كيف يمكن لقيصر أن ينفرد بالتشريع دون الرجوع إلى خالقه! إن المشكلة المركزية في نظري تكمن في العقل العلماني الذي يتغذى على مخلفات الفكر السياسي الغربي و يحاجج بناء على ما قرره فلاسفة "النهضة"و"الأنوار" في قضايا الدولة-الأمة وما يرتبط بها من أشكال التنظيم السياسي، فهم حينما يطرحون مواضيع الدين والسياسة والعلم والمجتمع المدني والعدالة...لا يتصورون مضامينها المعرفية إلا بالشكل الذي ساد في الغرب بغض النظر عن الخصوصية الحضارية والملابسات التاريخية، فهم يطرحون المواضيع طرحا منفصلا عن الذات فيتصورون السياسة بالصورة الميكيافيلية ويتحدثون عن الدين كمسألة (فؤاد زكريا في المناظرة مع القرضاوي) وعن العلم كنقيض للدين.

            لقد حمل التاريخ الإسلامي شواهد لا تحصى على ممارسة الفقهاء لدورهم السياسي في الدخول على سلاطين الجور لتنبيههم على سياساتهم الظالمة تجاه الرعية بحيث لم يكن يتصور الفقيه الإسلام على أنه مجرد مواعظ ووصايا مجردة كما استقر في ذهن العلماني ، ولذلك يسجل لنا التاريخ صورا يحار فيها العقل العلماني على تفسيره من قبيل تاريخ المحن الشهيرة لفقهاء مناهضة الظلم السياسي والاجتماعي مع أن الخلفاء الصوريين آنذاك لم يتجرؤوا على المس بالإسلام، فماذا كان موقفهم لو قُدر لهم أن يعيشوا زماننا حيث غدا الإسلام "الرسمي" واجهة لإضفاء الشرعية على نظام الحكم؟!
            فلنقرأ محنة الفقيه حطيط الزيات مع الحجاج و محنة الأوزاعي مع عبد الله بن علي و محنة ابن طاووس و مالك بن أنس ضد أبي جعفر المنصور و محنة سفيان الثوري مع المهدي و محنة الفضيل بن عياض مع هارون الرشيد و النووي مع الظاهر بيبرس و محنة العلم الجليل بطاوس اليماني مع هشام بن عبد الملك ومحنة سعيد بن جبير الشهيرة مع الحجاج ومحنة أحمد بن حنبل مع المعتصم والواثق...الخ) (للمزيد من التفاصيل انظر كتاب الإسلام بين العلماء و الحكام لعبد العزيز البدري . منشورات المكتبة العلمية ). والغريب حقا للعقل العلماني كيف يعاند التاريخ و يغالط حقائقه ( مثال قبل السقوط لفرج فودة ) ويأبى إلا طمس تاريخ بتاريخ مستورَد (رد عليه منير شفيق في كتاب (بين النهوض و السقوط) وأيضا عبد المجيد صبر في (تهافت قبل السقوط وسقوط صاحبه). )

            لو نظرنا إلى أدلة العلمانيين و طروحاتهم في تبرير خيار العلمانية و مشروعية توطينها لوجدناها اعتبارات مفتعلة تحاول أن تجد لها سندا في التاريخ الإسلامي من قبيل الصراع بين العلم والدين و الخوف من الدولة الدينية ...ف"العلماني" وهو يتحدث عن العلم يتصرف كما لو أنه المدافع عن العلم والآخر مدافع عن الخرافة! ويستحضر في ذهنه تاريخا ليس تاريخ حضارته، وهو إذ يفعل ذلك لا يبالي بتناقضاته في استنساخ تاريخ على آخر ، فهو لم يكلف نفسه عناء البحث عن وجود جذور للصراع بين العلم والدين في حضارة الإسلام و إنما انساق تحت هيمنة التاريخ الغربي إلى إسقاط مباشر يجعل فيه الإسلام دينا لا يختلف عن بقية الأديان حتى الوضعية منها، حتى إذا تصيد شاهدا هنا أو هناك راح يجعل منها قاعدة عامة فيعلن أحيانا انتصاره لهذا الفريق أو ذاك. إن المشكلة هنا تكمن في عجز العقل العلماني الغربي عن التخلص من إسارية النموذج الغربي و الانفلات من قبضته وإلا فالتاريخ الإسلامي حمل من تلازمية الفكر العلمي و الديني ما لم يستطع أحد إنكاره حتى من المستشرقين الحاقدين على الإسلام، بل ويقدم لنا من النماذج والشواهد ما يحرج أولئك الذين اغتربوا عن الذات (انظر كتاب (التطرف العلماني في مواجهة الإسلام . القرضاوي. أندلسية للنشر والتوزيع.ط1/2000 ص60 )، فمتى انفردت العلمانية بالعلم دون غيرها من الأنظمة ؟! وهاهو الكيان الصهيوني القائم على الخضوع المطلق لأساطير التلمود الديني تبني ترسانتها العسكرية دون أن يمنعها ذلك من الالتزام بما تؤمن به، وها هي دولة إيران ذات الاعتقاد الإسلامي الشيعي، بل التي تؤمن بالسلطة الدينية المتمثلة في عصمة الأئمة عليهم السلام على غرار السلطة الكهنوتية، ها هي تأخذ بأسباب التطور العلمي والصناعي رغم الحصار الظالم، وتصبح دولة نووية اعتمادا على العقل والتحدي الدولي لها. إن الربط المباشر بين العلمانية والعلم مغالطة تاريخية نجمت عن طبيعة التفكير الديني الكهنوتي في أوربا الغارق في الخرافات والأساطير ، كان طبيعيا أن يتصور الدين و العلم كتناقضين مع بيان أن القصد هنا بالدين ليس الدين كما جاء به عيسى عليه السلام ، و عليه فإذا كان العلم يقوم بالأساس على قوانين موضوعية تدرك بالملاحظة و التجربة و الاستقراء فهذا يمثل مشتركا عاما بين كل العقول بغض النظر عن اعتقاداتها. كما أننا بحاجة إلى ضبط القصد "بالعلم" حتى لا يتحول إلى " نزعة علموية " بالشكل الذي ساد في الغرب و أصبح مقياسا لكل شيء و بالشكل الذي قدمته الدراسات الاجتماعية و المدارس السوسيولوجية خصوصا المدرسة الوضعية المنطقية المعاصرة مع كارناب و رايشنباخ أو مع المدرسة الوضعية مع اوغست كونت و دوركايم (للمزيد من المعلومات ينظر كتاب "منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية و المعيارية "ط 3 محمد محمد أمزيان ص 216 ) فالعلم الذي يغتصب اختصاصات الدين و ينصب نفسه كدين جديد يحدد بموجبه الخير و الشر و يرسم غاية للحياة وفق نظرته إليها لا يمكن إلا أن يصطدم بالإسلام لأنها ببساطة تتجاوز مجال اشتغال العلم إلى مجال آخر لا يمكن للعقل ضبطه ، كما أن الذين حاولوا أن يتوسلوا بالألياف المادية لدراسة الأصول الأولى للقيم أو الأسرة أو لتكون لم يزدادوا إلا اضطرابا في نتائجهم جعلتهم يتصرفون كما لو أنها حتميات . إن الغربي في العقل العلماني إنه لا يملك القدرة على النقد لنظريات الغرب و نتائجها ، و لذلك فهو يتعامل مع الموروث الإسلامي بنفس تعامل العقل العلماني مع موروثه التاريخي مع أن الغربي لم ينفصل بشكل مطلق عن ماضيه و إنما استهل بناء نموذجه على أساس الفلسفة اليونانية المادية التي نقلها إليهم فيلسوف قرطبة ابن رشد ، لذلك لا تجد اختلافا كثيرا في البناء الحضاري الغربي المعاصر و بين فلسفة اليونان الأصل رغم ما أحدثته الحداثة من تطور في القطاعات التقنية و الصناعية و الإدارية و مع وضوح هذه الحقيقة ظل العقل العلماني الغربي يسحق تراثه بالإسقاطات الغربية كما لو أنه يسحق ذاته و وجوده . فلو أخدنا على سبيل المثال تصورات العقل العلماني الغربي حول نظام الحكم الإسلامي لوجدناه ينصرف إلى ما شهده الغرب إبان التحالف اللاهوتي و الإقطاعي من حكم لا يقبل النقد يمثل بما عرف "بالحق الإلهي" أو "الدولة الدينية" و كأننا في تاريخنا قد عرفنا هذا اللون من الحكم السياسي مع أن كل الأدلة التاريخية تؤكد عدم وجود مثل هذا النمط من الحكم ، فليس ثمة حاكم مقدس ادعى أن أوامره مستمدة من الله و أنه يمثل ظله في الأرض ، و قد شهد بهذه الحقيقة مستشرقون متخصصون في دراسة الشريعة و الفقه مثل الإيطالي دافيد سانتيلانا (1845 -1931) و السويسري مارسيل بوازار (للمزيد من المعلومات ينظر كتاب "سقوط الغلو العلماني" محمد عمارة دار الشروق ص 93 و ص 163 ) فلا وجود للحكومة الدينية في التاريخ الإسلامي، بل و حتى حينما تحول نظام الحكم من خلافة شورية إلى ملك عضوض إبان الانقلاب الأموي لم يدَّعِ أحد أن حكمه هو حكم الله و أن فعله هو فعل الله ، و جميع مكاتبات و خطب معاوية يأتي فيها أنه خليفة بالبيعة من الناس بل حتى و هو يستخلف ابنه يزيد حرص أن يكون ذلك بالبيعة بغض النظر عن أساليب القهر و الإكراه التي مارسها في سبيل ذلك إن الأدلة على هذا لا تسمح به الورقة لتفصيلها( نفسه ص 36 )...لقد كان قيام "العلمانية" ما يبررها في الغرب كأسلوب للحد من النفوذ الكهنوتي ، و سندها في ذلك ينطلق من الدين المسيحي نفسه حيث يقبل القسمة بين ما لله و ما بين ما لقيصر بنص الإنجيل كما نجد سندها في غياب وجود تشريع لشؤون الحياة على مستوى العلاقات الاجتماعية في المسيحية كدين فهو دين روحي في أصله . و ما حدث من البابوية من انحرافات أدت بها إلى التدخل في كل شيء و أصبحت تمارس الوصاية على العقل الحر لم يكن إلا شذوذا عن الدين الأصل ، و لذلك فالدعوة في الغرب إلى فصل الدين عن الدولة دعوة لا تمس المسيحية كدين بل تمثل عودة إلى الصورة الأولى قبل الانحراف . أما في الإسلام فالأمر يختلف تماما لعدة اعتبارات سنذكرهـا بحول الله في الجزء المــوالي ....

            يُــتــبَـــع بحول الله

            تعليق


            • #7
              قلنــا بأن ثمــة اعتبارات تجعــل الإسلام كدين يختلف عن المسيحية نجمل بعضهــا فيمـا يلي :

              ـ الإسلام لم يعرف اصطداما مع العلم كأسلوب للبحث الدقيق إنما أنكر إقحام العقل في الدخول في الغيبيات.

              ـ الإسلام لا يقسم الحياة إلى شطرين ، دين يوجهه لرجال و نصف آخر للدولة تتصرف فيها كما تريد ، فقيصر نفسه عبد الله يأتمر بأوامره و ينتهي بنواهيه ، و دوران الأحكام الشرعية إنما شرعت على مكلف سواء كان في هرم السلطة أو في قاعدتها يقول الله سبحانه و تعالى {إن الحكم إلا لله } و قال تعالى {ألا له الخلق و الأمر } و قال { قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين } . لذلك وجدنا في عهد النبوة كيف كان الرسول (ص) رئيس الدولة و قائد الدين في النزاعات و يبرم العهود و يقود الحرب و جاء الخلفاء الراشدون فيما بعد فحكموا و ساسوا فكانوا رجال دعوة قبل أن يكونوا رجال دولة إلى أن وقع التحول في نظام الخلافة الشورية إلى ملك عضوض كان فيه السيف و القهر سمة الملك فانقسم الناس إلى رجال دولة و أصبح العلماء معارضة ، [ ثمة نماذج متعددة من محن العلماء في مواجهة حكام العض الذين همشوا السياسة الشرعية و حكموا بالظلم ] .

              ـ الإسلام ليس كلمة روحية كما قال علي عبد الرازق و قيل إنه تراجع عنها في آخر حياته (أكدها محمد عمارة في المناظرة الشهيرة حول الدولة الدينية و المدنية ط 1 دار تينمل للطباعة ص 26 ) و إنما نظام حياة و مرجعية لا يستطيع أحدا إنكار جانبها التشريعي المتميز حتى باعتراف المستشرقين المتخصصون في دراسة الشريعة ، باعتبار أن الإسلام نظم الحقوق و الواجبات في قطاع الأسرة و المعاملات و اهتم بشؤون السياسة الشرعية و العلاقات الدولية .

              ـ الإسلام ليس فيه سلطة دينية بابوية ، فالبابا ينتخبه الكرادلة و هم أرفع الرتب الكهنوتية في الديانة المسيحية الحالية ،و عددهم 70 ، و يبقى البابا في منصبه حتى الموت في حين الخليفة رجل من المسلمين تنتخبه الأمة و يبايعه على تطبيق الشرع الإسلامي (انظر الإسلام بين العلماء و الحكام ص 34 ) ، فهو عقد بين الحاكم و المحكوم ولم ينظر أحدا إلى الخليفة على أنه معصوم من الخطأ مثلما كان الحال بالنسبة لخليفة القديس بطرس ، و ذلك لأن سلطة الحاكم المسلم قائمة على أساس شبه تعاقدي على بيعة تتم في شكل اعتراف متبادل مع المجتمع ، و كانت إمكانية المحاسبة التي كانت في الغالب عن طريق العزل أو القتل كانت فكرة موجودة بوضوح في إطار المؤسسات الإسلامية . إلا أن التعبير عنها كان يتم داخل الثقافة السياسية المهيمنة التي كانت في ذلك الحين ثقافة دينية و على ذلك كان معيار الحكم على شرعية أعمال الحاكم لا يستند إلى رأي أغلبية رعاياه بقدر ما كان يستند إلى قدرة هذا الحاكم على عدم مخالفة معيار يقال عنه أنه إلهي ( انظر الإسلام السياسي فرونسوا يوركا ، ترجمة لورين فوزي ركري نشر تانسيفت دار العالم الثالث ص 135 ـ 136 )

              - الإسلام لم يتعرض لتحديد نظام الحكم و لكنه في المقابل لم يتحدث عن الدولة و تدبير الشأن العام كما لو أنها مفصولة عن الرجوع إلى الدين فقال تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ، يأيها الذين امنوا أطيعوا الله و الرسول و أولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تِؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا } ( سورة النساء الآية 258 ) لقد وضع الإسلام ملامح و علامات الحكم الإسلامي و لم يحدد حكما بعينه فاعتبر الشورى فريضة أسلامية ثابتة و اعتبر العدل أساس الحكم } إن الله يأمر بالعدل و الإحسان { و حدد مقاصد و مبادئ الحكم الإسلامي الذي ينبغي أن يتحرك فيه بخلاف "العلمانية" إذ تأله العقل البشري و لا تأبه بالجانب الأخلاقي في التشريع ، فالدولة الإسلامية كما خلص إلى ذلك المفكر الإسلامي البارز محمد عمارة تتميز عن الحكم العلماني و الدولة الدينية بكونها تشمل عناصر الله و الدولة و الأمة (سقوط الغلو العلماني ص 79 ).

              ـ سياسات الإسلام في التدبير و التسيير سياسة مدنية تقبل الخطأ و الصواب و لا تدعي العصمة في الممارسة السياسية ( في هذا المجال نماذج عديدة من الحكم الراشدي يضيق المجال لذكرها ) ، و أن السياسة فرع من فروع الفقه و لا تسحب عليه أحكام التكفير و الإيمان إلا أن يكون الفعل يتعارض حكما منصوص عليه بالقطع أو يتضمن كفرا بواحا ، و على هذا الأساس لم يكن التكفير في التاريخ الإسلامي يوجه حتى على أولئك الذين يعلنون الخروج على السلطة ( مثلا انقلاب معاوية على الحكم الشرعي للإمام علي كرم الله وجهه ) في معركة صفين الشهيرة بل و حتى في حق أولئك الذين أعلنوا الجهاد في حق علي من الخوارج . إن السياسة جزء لا يتجزأ من المطلب الإسلامي مادام القائمون عليها رجال مكلفون تنسحب عليهم أحكام الله و رسوله كما تنسحب على الطبقة الاجتماعية و هذه الحقيقة أصبحت من البديهيات حتى من قََِبل المستشرقون ، يقول المؤرخ و السياسي الإنجليزي هربرت فيشر : ( لقد اشتمل الإسلام منذ البداية على قدر كبير من السياسة ) ، أما برنارد لويس فيقول : ( إن الإسلام منذ البداية مرتبط بممارسة السلطة السياسية .. إن الفصل بين السلطتين ـ الدينية و الزمنية ـ غير موجود على الإطلاق في الإسلام ) و يقول مارسيل بوازار : ( في الإسلام لا يمكن فهم السياسة بعيدا عن الدين ) ( نفسه ص 149 ـ 150 ) ، و أعود و أذكِّـر بأن الذي يتأمل تاريخ العلاقة بين السلطة و القاعدة لن يخرج إلا بحقيقة ارتباط الدولة بالأمة بالإسلام عقيدة و شريعة على الرغم من حالات تهميش العلماء و الفقهاء عن مجال التدافع السياسي ، و أن القضية كل القضية تدور حول ظاهرة انفصال السلطان عن القرآن كأكبر نقض للإسلام الحقيقي و لقد أخبرنا الحبيب المصطفى عليه الصلاة و السلام أن أول ما ينقض من عرى الإسلام الحكم و أخرها الصلاة و أخبرنا " أن رحى الإسلام ستدور فحيث ما دار القرآن فدوروا به يوشك السلطان أن يقتتلا و يتفرقا ..." (في الفقه السياسي : مقاربة تاريخية ـ محمد محمد أمزيان ط 1 ص 38 )، لكن إذا كانت العلمانية في الوطن العربي و الإسلامي تلبي حاجة أقلية مسيحية لأنها صيغة مسيحية أكثر مما تحقق مصلحة المجموع و أنها غير محايدة بهذا المعنى فكيف دخلت إلى هذا العالم بهذا الحجم و التهويل ؟ يجمع العديد من الباحثين أن اللادينية عرفت دخولها من خلال النخب المتغربة و التلامذة الذين تلقوا يكوينهم في المدارس التبشيرية الأجنبية و الذين أعلنوا ولاءهم للغرب بشكل مطلق منبهرين بما توصل إليه الغرب من أساليب إدارية و سياسية و تقدم صناعي ، نذكر من أمثال شبلي شميل و يعقوب صروف و نوح أنطون و نقولا حداد و سلامة موسى و لويس عوض و جوزيف مغيزل .. مع ملاحظة أن الغالبية من أمثال هؤلاء هم من نصارى الشام ، ثم تبعهم في هذا التغريب بعض المسلمين مثل قاسم أمين في ( تحرير المرأة ) و ( المرأة الجديدة ) و علي عبد الرازق في ( الإسلام و أصول الحكم ) و خالد محمد خالد في ( من هنا نعلم ) قبل أن يخطِّئ نفسه في ( الدولة و الإسلام ) و أيضا محمد خلف الله و إسماعيل مظهر في دعوته إلى الداروينية قبل أن يتحول في الستينات إلى ( الإسلام أبدا ) و مصطفى محمود في دعواته الماركسية قبل أن يكتب ( رحلة من الشك إلى الإيمان ) و فؤاد زكرياء و عادل حسين رحمه الله ... لقد فهم العديد من المبهورين بالغرب إن تحقيق النهضة ليس لها من سبيل إلا مسلك الغرب في تحييد الدين و تهميشه و حصره في المعابد فانطلقوا يدعون إلى الفصل بين الدين و الدولة ، بل و إلى تجديد الإسلام نفسه ليخضع لواقع التغيير المعاصر ، لم يستطع المتغربون في الثقافة أن يستوعبوا التاريخ و التراث و يقرأوا أسس النهضة و عواملها الداخلية و إنما وقفوا عند ظواهر الصور فسقطوا في الخطيئة و ظهرت المدارس الغربية في البلاد العربية بين وجودي ( عبد الرحمان بدوي رحمه الله مثلا قبل توبته ) و ماركسي ( طيب تيرني ) و ليبرالي ( طه حسين رحمه الله قبل تصوفه ) و دارويني ( إسماعيل مظهر قبل توبته ) و راحوا يستعيرون أدوات الصراع الغربية و ينتصر كل واحد لمذهبه الفلسفي فكان المحصلة أن تشوهت الهوية و ضاعت الحقيقة و أصبح الدين غريبا . لم يستطع العقل "العلماني" العربي أن يفهم أن النهضة عملية تراكمية تنطلق من الذات و تحرير العقل من الآخر ، و لكنه راح يقلد الآخر في تفكيره دون وعي بعوامل القوة و النهوض التي تختلف عن مثيلاته في الغرب ، فإذا كان أوغست كونت صاحب مؤسس علم الاجتماع كما يصفونه في الغرب إذا كان قد اعترف بانفتاح الإسلام على العلم و المعرفة و الفنون و أصّل اجتماعيته جنبا إلى جنب مع روحانيته (ينظر منهاج البحث الاجتماعي بين الوضعية و المعيارية ص 105 ) و قبله سان سيمون و غيره فإن المأزق يزداد سحقا فيمن تبنى من اللائكيين العرب فلسفة أوغست كونت في قانون الدوارات الثلاث و يدعون إلى استبعاد الدين في الحياة الاجتماعية .

              خــاتـمـة

              إذا كانت العلمانية نمطا غريبا غير قابل للأنسنة بفعل التمايز بين الخصوصيات الحضارية و بكونها منظومة مادية للحياة فإنها تمثل نظاما لا ينسجم مع الإسلام كمرجعية أخلاقية تؤطر سلوك الناس حاكمين و محكومين و توجه غاية وجودهم ، و الحقيقة أن "العلمانية" لا يمكن اختزالها فقط في التعريف الكلاسيكي المتضمن في فصل الدين عن الدولة و إنما غدت نزعة في التفكير لا فرق عندها بين من يعبد البقر و بين من يؤمن بالله ، و غدت كما وصفها المفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله رؤية للحياة و الإنسان حوّلت معنى وجود الإنسان إلى عبث و فوضى أفرزت عبر سنوات كل مظاهر الأمراض الاجتماعية بل و إعطائها إطارا قانونيا تكفله المنظمات المدنية و الحكومية ، كما أنتجت أيضا كل أشكال النسبيات و حوّلت كل شيء من الصلابة إلى السيولة (أنظر كتاب الحداثة و ما بعد الحداثة عبد الوهاب المسيري و فتحي التريكي حوارات لقرن جديد ) فضلا عن كونها أفرزت أشكال بغيضة من التمايز العنصري ( النازية ، الفاشية ، الشيوعية ) و نظريات عرقية محضة ( مارسيل موس ، جوبينو ) . إن الذي جعل لهذه العلمانية هيمنة و سيطرة ليس قوتها الذاتية و إنما تستقوى من وجود استبداد النظم الحاكمة عندنا حيث تحوّل الإسلام إلى إسلام طقوسي أشبه ب ( دين الانقياد ) بتعبير ابن خلدون كما تحوّل الفقهاء إلى فقهاء بلاط غير قادرين على مواجهة الظلمة الذين استأثروا بثروات الأمة و دمــروا البلاد و العبــاد .

              و الله أعـــلــم

              تعليق


              • #8
                للرفـــــــــــــــع ..
                سيظل منتدى حراس العقيدة بعون الله وفضله نبراساً للعلم والإيمان والصحبة الصالحة ..
                بارك الله فيكم وأحسن إليكم جميعاً ..

                تعليق

                مواضيع ذات صلة

                تقليص

                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                ابتدأ بواسطة Islam soldier, 6 يون, 2022, 01:23 م
                ردود 0
                179 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة Islam soldier
                بواسطة Islam soldier
                 
                ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:22 ص
                ردود 0
                27 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة Islam soldier
                بواسطة Islam soldier
                 
                ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:20 ص
                ردود 0
                43 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة Islam soldier
                بواسطة Islam soldier
                 
                ابتدأ بواسطة عادل خراط, 6 أكت, 2021, 07:41 م
                ردود 0
                44 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة عادل خراط
                بواسطة عادل خراط
                 
                ابتدأ بواسطة Ibrahim Balkhair, 4 سبت, 2020, 05:14 م
                ردود 3
                90 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة Ibrahim Balkhair
                بواسطة Ibrahim Balkhair
                 
                يعمل...
                X