“علمنـة” الداعيـة

تقليص

عن الكاتب

تقليص

الطلحاوي الإسلام اكتشف المزيد حول الطلحاوي
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • “علمنـة” الداعيـة

    الســلام عليكم

    و عيدكم مبارك سعيد

    قـد تتجمع في ذهـن اللائكي صورا غريبـة عن الداعية فتجعل ذلك مـانعـا من موانع التعـاطي الإيجابي مع المصطلح، أو قد يشي هـذا المفهوم بمعـان مليئة بمفرداتٍ مُستوحـاة من الاسقاطـات الخـاطئة لمسارات الصراع الغربي علــى الواقع الإسلامي فيدفع صـاحبه إلـى السخريـة من الداعية الداهية، و في أحسـن الأحـوال قد يحدث أن يعترف اللائكيُّ بحق الداعية في التبليغ عن رسـالتـه دون التسليم بأهميتهـا في رسـم خطوط منحنيات المستقبل اعتمـادا على مرجعيته الكلية، و في جميع الحـالات يُنـظر إلـى داعية العصر من المنظور اللائكي نظرةَ اشمئزاز مصحوبـة بِكِبـرٍ ثقافـي يُحْجِمــهُ عن الشك في معرفته اللائكية و يُعـمِّـق لديه أزمـةَ حساسيـةٍ من كـل اتجـاه إسلامي، فالداعيـة في منطوق اللائكي لا تتجاوز مَهـمَّتـهُ مَهمـةَ "رجل دين" و لا يعدو كونـه أكثر من شخص يملك رؤيـة مُتحجرة عن التـاريخ و الواقع و لا يمكن-عندهم- إلا أن يكون بوقـا لدى السلطـة الحـاكمة أو أداة طبقية تسكت عن الظلم الاجتمـاعي و السياسي و الاقتصادي.

    في مخيال اللائكي ، تتداعــى جميع صور العصور الوسطـى الغربية حول "رجل الدين" و تندفع بقوة لتُكوِّن موقفا مُتعنتـا حول الداعية إذ صـارت هذه المأسورية نتيجـة حتمية لِمُسلسلات التعاطي السلبي مع المرجعية الإسلامية
    كمنظومـة وجودية ذات صبغـة فريدة، لذلك يُنظَـر للداعية الإسلامية في المرجعية اللائكية بصفتـه امتدادا للدعوات و الايديولوجيات المغلقة و وسيلة من وسائل كبح تحقيق التمدن و العصرنة و عاملا من عوامل تكريس الجهـل السياسي و "التطرف" الديني و الانسداد المعرفي، فهو في عرفهم من هـذه الزاويـة نقيضٌ للعقلانية و نِــدٌ لقيم العصر و لمستجدات التطور المدني الحديث .

    لا يكمنُ مشكل اللائكي بشأن الداعيـة في اعتباره شخصـا مغلقـا أو مُكرِّسـا للاستبداد أو جـاهـلا بفن السياسـة و تحولات المجتمع فقط ، فذلك قد يكون صحيحـا و مقبولا
    خصوصـا في زمن تنـامي ظواهـر دَعويـة مُضِـرّة بحقْليْ الدعوة و الدولـة،إنمـا تتمثل مشكلته في نزعـة استئصـال فكرٍ دخيل علـى مرجعيتـه دون النـظر في حقيقـة أهـل الدّعوى و أهـل الدعوة، مُشكلته الحـادة تنـبع من خريطـة ذهنية لا تقبـل المُغـايَرة و لا ترى في اللون الآخـر النقيض إلا شكـلا من أشكال "التخلف" بدليل أن الموقف اللائكي في عمومـه ظلّ مطلقا و َ ثابتـا حتـى مع أولئك الدعـاة الذين اكتسبوا فكرا مرنـا منفتحـا علـى متغيرات العصر ( محمد عبده،محمد الغزالي،محمد عمـارة،القرضاوي...)، و ظلت نبرات الاستعـلاء باديـة في كتاباتهم و حواراتهم و مناظراتهم إذ لم تشفـع اجتهادات بعض الدعـاة المعاصرين في بعض القضايا المرتبطـة بمفاهيم "التعددية" و "المجتمع المدني" و "الديموقراطية" و "حقوق المرأة"...لــم تشفع لهم في استحسان منظومتهم الفكرية و لا دفعتهـم للثنـاء علـى سلسلـة المراجعات التي قام بهــا بعض الدعـاة المتشددين، بــل تغولت نزعـت الاستئصـال عند البعض فجعلوا معرفتهم الضحلـة لا تنفـكُّ تدور حول العنوان القبيح "ليس في القنافذ أملس"، و كأنهم يعـانون من أزمـة نفسية حـادة لا من مشاكل معرفية فحسب ! .
    مُخطئون إنْ تصورنـا الداعيـة رجـلا مثالا يملك مخـارج جـاهزة لقضايـا العصـر و مخطئون أيضا إنْ اعتبرنـاه كتلـة متحجرة من المعـارف البالية المتراكمة في ذهنـه،إذ كلتـا الصورتـان تُسهمـان في صياغـة رؤيتي التقديس و التدنيس فتنتجـان مواقف متطرفـة تنعكـسُ علـى الواقع ، و الحـال أن الداعية شخصيـة تجمـع بين محمولات المـاضي و الحـاضر،بين الكليات المقاصدية و مـا تأسست عليهـا من أحكـام و مأثورات و بين القراءة المتأنية لمتواليات القضايا الراهنـة في فروعهـا المعرفية المختلفة، و بكلمـة:
    هي شخصيـة تجمـع بين الدين كمُسـتـَنـدٍ مُؤسِّس و بين معرفـة طبيعـة العمران البشري المعـاصر .

    إن الداعيــة الذي ينبغـي أن يرتقي لمستوى اللحظـة يحتـاج لآليات و أدوات تحليلية تُتيح لـه تشريح زوايـا النظر الجديدة بنـاء علـى استنباطـات دقيقة لأجـل تجـاوز عقبات و مطبات "الاغتراب في السلف" و التحرر من سلطـة المواقف التراثية التي فرضتهـا سياقات زمنية محددة و لأجـل تجاوز كوارث التغريب و عدم الرضوخ لسلطـة الواقع المعـاصر و الذوبـان في تياره الجـارف، و عليه، لـم يعد الداعيـة ذلك المستغرق في متون التراث لأجـل ذاتـه و لم يعد ذاك الذي يتعـاطـى موضوعـات العصر بقطيعـة عن التراث، و إنمـا يلزم –برأينـا- الأخـذ بثنـائيات الذات و الموضوع،الأصـالة و المعاصرة،التراث و التجديد قصـد بنـاءِ شهود حضاري إسلامي متميز قادر علـى تحدي متطلبات المرحلـة الراهنـة .

    من هـذا المنطلق، و تحت ضغوطـات العصر و تحولات الثورة المعلومـاتية السريعـة يحتـاج الداعية لتطوير أسلوبـه الدعوي إلـى مضامين معرفية جديدة و آفاق ثقافية تُكسبُهُ القدرة علـى التواصل الفعـال مع مختلف المكونـات و تجعلـه جديرا بإقنـاع ذوي المرجعيات الأخـرى المغايرة في الأصول، و هـذا لـن يتأتـى إلا إذا نـفذَ إلـى مجمـل الطروحـات السياسية و الاجتمـاعية و الاقتصادية المعـاصرة و تحليل أنساقهـا و نقد اتجـاهاتهـا و طرح بدائل جديدة مبنية علـى الكليات و المقاصد الوجودية الكبرى للدين الإسلامي، يقتضي ذلك التحرك في مستويات التفقـه و التفكر و التسيس و التثاقف و التحكم بمستجدات "العلوم" المعـاصرة لتقديم رؤيـة تتحرر من إسار التقليد وتجاوز سلطـة التغريب التي قيدت كوادرَ فكرية وازنـة و نمَّطـت آليات اشتغـال العقل تنميطـا لائكيـا .

    إن هـذا التنميط الفكري خلقَ تشوهـات قيمية و أوجدَ سياقـا غريبـا عن المجتمع و فرضَ واقعـا جديدا علـى الصعيد الفكري حيث صنعَ عداءً ملحوظـا للاتجـاه الإسلامي فأصبغَ نظره بألوان النفي العنيف لكل حـامل لمشروع إسلامي، الشيء الذي أدى باللائكي إلـى إقـامـة تنـادٍّ كليٍّ مع الداعيـة، فهـو لا يعترف ( أتحدث عن الغـالبية ) بالقيمـة المضافـة للداعيـة مهمـا تكن درجاتهـا و لا يصفق لـه إلا عندمــا يتعلق الأمـر "بعلمانية دينية" ينتصر فيهـا دعـاتهـا ""للعلمـانية" من داخـل الدين كمـا فُعِــلَ بعلي عبد الرازق و جمـال البنـا أو العشمـاوي أو خليل عبد الكريم...فاللائكي يريدهــا دعوةً لائكية تُعزز محفوظـاتـه حول الدولـة و الدين و لا يبدي إلا امتعاضا شديدا من اجتهـادات المفكرين الإسلاميين (القرضاوي،عمـارة،الغنوشي، السنهوري،الغزالي..)

    إن "علمنـة" الداعيــة آفــة تكشف في الواقع مستورات التنـاقض بين المرجعيات في ذهـن اللائكي و تُحدِّدُ –تبعـا لذلك- صعوبـة التواصـل و الحوار مـع هـذه الفئات النـافية إذ بسيطـرة روح اللائكية و احتـلال الأدمغـة تكون قـد تمكنت من التحكم الشامــل بالمواقف و الأحكـام و بجل الممـارسات الميدانية ،فعقلهُ صـارَ ذو بعدٍ واحد و نظرتـه إلــى الآخرين تشوبهـا الإطـلاقية المُسبَقـة و استعداده للحوار مشروط بسحق الداعية لتـاريخـه و قراءتـه لنَظراتـه صارت "قرآنـا" لا يُراجع .

    إذا كـان الأمـر كذلـك بالنسبـة للمنظور اللائكي تجـاه الداعيـة و تسمِّـر ثقافتـه وراء المُعلَّبـات الفكرية الجـاهزة نتيجـة الاقتيات المُفـرط للحلول المُستَورَدة فإن الداعيـة الداهيـة لا يجب –برأيي- أن تتحكم فيه نفس النزعـة/الإلغاء، و إنمـا الواجب استيعـاب الجميع من الفضـلاء و فتح المجـال لذوي النيات الطيبة للتعـاون في المشترك العـام قصـد ردم أزمـة اللاثقـة التي تكرست عبر عقود من النفي و النفي المضاد، المطلوب من الداعيـة الفقيه العـارف بدقائق الأمور قراءةَ المشهـد قراءةً متحررة من رواسب الهيمنـة و النـظر بعمق في المعطيات الإقليمية و الدولية التي تلعب علــى المتنـاقضات الفكرية الحـادة لتوليد الفوضـى و تحريب المجتمعـات .
    المطلوب منهُ عقلنــةُ اللائكيِّ و تصويب نظره و تخفيف توتراتـه النفسية التــي استحكمت فيه بدلَ استئصـالـه و إلغـاءه .

    و الله أعلـم


  • #2
    رد: “علمنـة” الداعيـة

    كل عام وأنتم بخير أستاذنا الحبيب ..

    موضوع رائع ..

    جزاكم الله خيراً ..

    سيظل منتدى حراس العقيدة بعون الله وفضله نبراساً للعلم والإيمان والصحبة الصالحة ..
    بارك الله فيكم وأحسن إليكم جميعاً ..

    تعليق


    • #3
      رد: “علمنـة” الداعيـة

      المشاركة الأصلية بواسطة هشام مشاهدة المشاركة
      كل عام وأنتم بخير أستاذنا الحبيب ..

      موضوع رائع ..

      جزاكم الله خيراً ..

      بارك الله فيك أخونـا هشــام و شكرا علــى المرور الطيب و عيدكم مبارك سعيد

      تعليق

      مواضيع ذات صلة

      تقليص

      المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
      ابتدأ بواسطة Islam soldier, 6 يون, 2022, 01:23 م
      ردود 0
      178 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة Islam soldier
      بواسطة Islam soldier
       
      ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:22 ص
      ردود 0
      25 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة Islam soldier
      بواسطة Islam soldier
       
      ابتدأ بواسطة Islam soldier, 29 ماي, 2022, 11:20 ص
      ردود 0
      43 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة Islam soldier
      بواسطة Islam soldier
       
      ابتدأ بواسطة عادل خراط, 6 أكت, 2021, 07:41 م
      ردود 0
      43 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة عادل خراط
      بواسطة عادل خراط
       
      ابتدأ بواسطة Ibrahim Balkhair, 4 سبت, 2020, 05:14 م
      ردود 3
      88 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة Ibrahim Balkhair
      بواسطة Ibrahim Balkhair
       
      يعمل...
      X