(تتمــة)
أمـا نصيب الأخـلاق في فلسفات التأويلات و التحويلات فقد كـان هـائلا، فقد دمرت كـل القيم و حولت الضوابـط الاجتمـاعية إلـى ضواغط انفجارية وجبَ- عندهم- الخلاص من إكراهـاتهـا و صرامـاتهـا الإلزامية، و غدت معها الأخـلاق كفزاعـة بشعـة تثير الاشمئزاز لدى القراء اللائكيين، و انتقلت فيهـا مواضيع القيم الأخـلاقية إلـى مزايدات فلسفية تسبـح في بحار التجريد إذ صارت -منذ ذلك -منـاسبةً لاستعراض الذوق الفلسفي البارع في حياكـة الألفاظ ، و تحولت من بعدهـا الديني الفطري إلـى البعد النظري المائع فصار اللائكيُّ لا يجد غضاضـة في رد الأخـلاق و وصلهـا بالعادات الاجتماعية التي تتطور ممارساتهـا عبر الزمن .
كـانت بواكير التأويل –في رأينـا- قد بدأت في وقت مبكر من تاريخ الإنسانية حيث انطلقت من اللحظات الأولى التي شرع فيهـا الإنسان بصنـاعـة دين وضعي مُنـزاحٍ عن الدين السمـاوي الحق ، فقد أراد أن يقدم تأويلا آخـر لمشكـل الوجود يقوم علـى اختراع آلهــة مـادية يعكف عليهـا ، و تطورت فيمـا بعد لتصبح فلسفـة عامـة شملت مـلاحدة صنعوا لأنفسهم آلهـة خاصة تؤمن بأقنوم المادة المستكفية بذاتهـا عن غيرهـا و تكفر بيوم العرض علــى الله جل شأنـه، كمـا شملت أيضا لائكيين فصلوا الدين عن الوجود فابتكروا دينـا وضعيا "طبيعيا" تدور قواميسه حول الوضعية العلمية و النزعـة العلموية و علاقات الربط العُرفي..و مــا يُــلاحَظُ من تطورات حديثة و معاصرة في المذاهـب الفلسفية فليست في الواقع إلا امتداداتِ اللحظـة الزمنية القديمـة و ليست إلا وجهــا من وجوه الانفصال الحاد بين الدين الحق و الوجود ، إذ لمّــا تحققت تلك القطيعـة الوجودية صـارَ من السهـل جدا تفكيك شتـى المفاهيم القيمية و إعـادة تشكـيل واجهـات أخـرى مُستمدَّة من سياق مخالف و صار اختزالُ الدين في الظاهـرة الاجتمـاعية ديْــدَنَ الدراسات الإنسانية المـادية التي حولتهُ إلـى فولكرور شعبي و أخــلاطِ طلاسم
نتائج ثنـائية التأويل و التحويل عندنـا تحولت فعـلا إلـى وبال فكري عُضـال تُسبِّـبُ نزيفـا في وحدة الأمـة و انشطارا في المرجعيات التأسيسية، فاللائكيون يرددون دومـا مـا أفرزته سياقات الغرب و يبحثون عن خريطـة اجتماعية و سياسية يكون فيهـا الدين شأنـا فردانيا خالصا، فهـؤلاء لـم يدركـوا بعدُ بأن دعواتهم لفصـل الدين عن السياسـة مـا هي في الجوهـر إلا جزء من فصلـه مِـن/عـن الوجود تمهيدا لتحويلـه إلـى "كيان" ثقافي جامد أو إلـى مكسب لتراثٍ يُستحضرُ كمُكمِّل لذاك الكيان، لـم يفهموا بعد القضيـة الكبرى للدين و وظيفتـه في الوجود، بل يكتفون بسرد مقالات عـائمـة تتحدث عن احترام الأديان و حق الإعتقاد الحر و ضرورة تحييد الدين عن نزاعـات السياسـة... من هنــا وجبَ نـقد هـذا الأسلوب التبسيطـي و هـذا التحايل السياسي، فأمـثال هـؤلاء مُشبَعون بنتائج ثنـائية التأويل و التحويل و مُتخمون بمتواليات انفصال الدين عن الوجود،يتصرفون مع الدين الحق كفرع ضمن بقية الفروع الحضارية و يؤسسون عليـه نظريات وهمية تجعلُ القارئَ يسقط في فــخ التأويل سريعـا، في حين يمثـلُ الدين أم الوجود و مـداره و سائر أقطـاره. و لمّــا كـان هـؤلاء في الغالب غير قادرين علــى ممـارسـة فعل التأويل للدين ضمن مجتمع تداوليّ له مكانته المرموقة لما له من قداسـة في وجدان العموم فإنهـم يسلكون مسلـك التحويل بالضرورة فيركزون علــى السياسة كفضـاء للمتنازعين لكي يوهمـوا النـاسَ احترامهم للدين كفضاء آمن، و يشرعـون في تفريـغ محتوى هـذا الدين رُوَيدا رُويدا من كل مضامينه حتـى يجهـزوا علـى امتداداته و وظيفته الوجودية ، و حتـى مـا إذا فضحتهم ممـارساتهم الشخصية و لغاتهم العَدائية للدين أسرعوا للاختباء وراء عنـاوين مُبتذلـة من شدة تكرارهـا الممل من قبيل التمييز بين الدين و الفكر الديني و الفصل بين أساساته و منتوجاته...إنّ ذهنيـة اللائكي تعـاني دائمـا من أزمـة التشخيص فقد اختلطت عليه ارتباطات العناوين و خـالطت عقلَهُ لوثاتُ انفصال الدين عن الوجود فمـا عـاد يملك القدرة علــى تحديد عـلاقـة الفرع بالأصـل و لا عـادَ يفهم عن أيِّ دين يتحدث . إن نقد الفكر اللائكي التحويلي لا يمكن أن يكون مستقلا عن نقـد اللائكية كمرجعية دهرية تأسيسية و لا يمكن أن يُفهَـمَ منه الوقوف عند حدود التطبيقات اللائكية الخاطئة و إنمــا يتسلسلُ من نقد الأصـل الكلي وصولا لإفرازاتــه و نتائجــه المرتبط بالنظرية أو التطبيق ، ففصــل الجزء عن الكل و الرهـان علــى مـلاحقة الفروع المعرفية و التأويلات المختلفة ليس إلا حيلـة مـاكرة لخداع العقل العام ابتدعتهـا أقـلام عُجِنت عقولهـا بثنـائيات التأويل و التحويل و أخذت شكلهـا و مضمونهــا .
فصلُ الدين عن الوجود في ذهنية اللائكي سمحَ للعديد من فتيان الفلسفة و طلاب الارتقاء المعرفي السريع بالتطفل علـى الدين من خـلال الرقص علــى المفردات المُنتَحـلة و الذوبان في المحفوظات الفلسفية الموروثة من قيم التداول الغربي ، فقد صارَ التعرض للدين الإسلامــي الحق بالوقاحـات و الافتراءات أسلوبـا مشاعـا بين هـؤلاء الفتيان إذ زرعت فيهم بعض الأفكـار التأويلية اللقيطة (التي لا أصل لهـا من حيث الإثبات) حُبَّ التمرد علــى منظومـة هـو منهــا جنـاحٌ مُهمَــلٌ، و دفعت البعضَ إلـى الاغترار بمقتطفات من معارف قالهـا مُؤوّل هنـا أو هنـاك فصار نـاطقا رسميـا باسمهـا، كمـا جعلت العقلَ النقديَّ عندنـا أوغلُ في التقليد و المحاكـاة بفعـل حـالـة الاستهلاك الادمـانـي للمنتوجات الذهنية الوافدة و التي أقعدت أُطُـرَنـا في كراسي انتظارِ مـا سيجود عليهم غيرنـا . لقـد أفضت درجـة الرهـان علـى المُعلبات الفكرية الخارجية إلـى شلل في إنتـاج المعرفة الدينية و الإنسانية و أفرزت معهـا تكلسات بليغـة و انسدادات عميقة في أدوات البحث و التحليل، و هـذا كـله لم يكن ليحدث لـولا التعـاطـي المفرط لعقاقير الثقافـة المفصولـة عن واقع قيم التداول، و لم يكن ليدفع بعض المتعجلين إلـى إصدار أحكـام من العيار الثقيل حول الدين لولا هجرة أدمغتهم لتاريخهم و التحليق في فضاءات تاريخ غيرهم .
إن المرور من التأويل إلـى التحويل لا يتم إلا عبر إيديولوجية مـا و لا يتحقق التحويل خـارج منظومـة معرفية تتحدد بهـا إجراءات العمل، ففلسفة تأويل الدين مـثلا عند المذاهب الفلسفية لم تكن تعتمـد علـى قراءات موضوعية و لم تكن تتأسس علـى تفسيرات منطقية عبر التاريخ، و إنمـا كـانت تبني رؤيتهـا بنـاء مـاديا و أحيانـا أسطوريا كمـا هي تصورات أوغست كونت و مـاركس و فيورباخ و نيتشة... فالايدولوجيا هي من كـانت تصنـع التأويل و ترسم له حدود الممكن و هي من كـانت تقرر طبيعـة التحولات للقضايـا الكبرى( العقل،الأخـلاق،اللغة..)، لذلـك لا يمكن البتة التعويل علـى بعض الدراسات الميتافيزيقية لتبرير نزعـات التأويل و لا يمكن اعتبار نواتجهـا حقائق ثابتـة، بــل الأصحّ أن يقـال عنهـا مجرد تمظهرات لإيديولوجية أخذت موقفا منذ البدايـة فكـان لا بد أن تصل لتلك النهـاية . و إذا كـانت نزعـة التأويل قد تحددت وفق قسمـات تشكلت من خـلال متواليات الأوضاع الواقعية في فضاء الغرب فأنتجت نظريات تقمصت دور "العلم" و توشحت برداءه فإن مآزق اللائكيين في فضاء مغاير يبدو بارزا و يؤشـر علـى عملية واسعـة من المسخ و الاستلاب، فهــؤلاء أرادوا أن ينتصروا لنزعـات استمدت تبريراتهـا من طبيعـة الصراعـات و التنـاقضات الفجـة (تناقض العلم مع الأسلوب الديني الكهنوتي، تناقض صعود البورجوازية مع قيود السلطة الدينية...) و قرروا بذلك تبرير الأليكــة من خـارج الذات، الشــيء الذي أوقعهم في حرج شديد و هم يشرحون للنـاس كيف تتوافق اللائكية مـع الإسلام ،فإذا كـانت عـلاقـة النزعـة التأويلية بالواقع الغربي تُعـبِّـر عن سياق تاريخي فإن عـلاقـتها عند لائكيينـا تُعــبر عن خيال مريض يراودُ بعض المثقفين الذين يفتعلون صراعـات وهمية في تراثنـا لعلهـا تُشرعنُ" للعلمنـة" من داخـل التراث لكن بدون جدوى .
تحويلات اللائكيين عندنـا لا تنطلق إلا من فهـم سقيم لماهيات الدين و التراث و العقل و القيم، و هـو فهم ظل لصيقا بنزعـة التأويل التي قدمت تعاريف مريضـة تَــفــكّــكَّت بهـا مضامين الوجود الإنساني و انتقلت فيهـا منـاهج النقد من مـادية صلبـة إلـى مـادية سائلــة بتعبير المفكر الإسلامي عبد الوهاب المسيري رحمه الله، الشيء الذي جعلَ عقولَ لائكيينــا فضاءً قابلا للاختراق الإيديولوجي بالشكل الذي يسمح له بالتوجيه عن بُعــد، فعندمـا يصبح العقلُ مُستودعـا و خزانـا لتجارب الآخرين دون تمحيص فـلا منـاص آنذاك من ظهور أعـراض مرضية تعصف بملكة الإبداع ،فالأمـراض المعرفية المُعدية علـى اختـلاف أنواعهــا ظلت عبر التاريخ تُمـثل إحدى وسائل الإصابـة بجلطـات العقل و جموده و ظلت إحدى الرهانات علــى إدامـة التبعية الفكرية التي تُـوجِّــهُ مسارات المجتمعات نحو الإمعـة الحضارية و الإذلال الشامـل .
أمـا نصيب الأخـلاق في فلسفات التأويلات و التحويلات فقد كـان هـائلا، فقد دمرت كـل القيم و حولت الضوابـط الاجتمـاعية إلـى ضواغط انفجارية وجبَ- عندهم- الخلاص من إكراهـاتهـا و صرامـاتهـا الإلزامية، و غدت معها الأخـلاق كفزاعـة بشعـة تثير الاشمئزاز لدى القراء اللائكيين، و انتقلت فيهـا مواضيع القيم الأخـلاقية إلـى مزايدات فلسفية تسبـح في بحار التجريد إذ صارت -منذ ذلك -منـاسبةً لاستعراض الذوق الفلسفي البارع في حياكـة الألفاظ ، و تحولت من بعدهـا الديني الفطري إلـى البعد النظري المائع فصار اللائكيُّ لا يجد غضاضـة في رد الأخـلاق و وصلهـا بالعادات الاجتماعية التي تتطور ممارساتهـا عبر الزمن .
كـانت بواكير التأويل –في رأينـا- قد بدأت في وقت مبكر من تاريخ الإنسانية حيث انطلقت من اللحظات الأولى التي شرع فيهـا الإنسان بصنـاعـة دين وضعي مُنـزاحٍ عن الدين السمـاوي الحق ، فقد أراد أن يقدم تأويلا آخـر لمشكـل الوجود يقوم علـى اختراع آلهــة مـادية يعكف عليهـا ، و تطورت فيمـا بعد لتصبح فلسفـة عامـة شملت مـلاحدة صنعوا لأنفسهم آلهـة خاصة تؤمن بأقنوم المادة المستكفية بذاتهـا عن غيرهـا و تكفر بيوم العرض علــى الله جل شأنـه، كمـا شملت أيضا لائكيين فصلوا الدين عن الوجود فابتكروا دينـا وضعيا "طبيعيا" تدور قواميسه حول الوضعية العلمية و النزعـة العلموية و علاقات الربط العُرفي..و مــا يُــلاحَظُ من تطورات حديثة و معاصرة في المذاهـب الفلسفية فليست في الواقع إلا امتداداتِ اللحظـة الزمنية القديمـة و ليست إلا وجهــا من وجوه الانفصال الحاد بين الدين الحق و الوجود ، إذ لمّــا تحققت تلك القطيعـة الوجودية صـارَ من السهـل جدا تفكيك شتـى المفاهيم القيمية و إعـادة تشكـيل واجهـات أخـرى مُستمدَّة من سياق مخالف و صار اختزالُ الدين في الظاهـرة الاجتمـاعية ديْــدَنَ الدراسات الإنسانية المـادية التي حولتهُ إلـى فولكرور شعبي و أخــلاطِ طلاسم
نتائج ثنـائية التأويل و التحويل عندنـا تحولت فعـلا إلـى وبال فكري عُضـال تُسبِّـبُ نزيفـا في وحدة الأمـة و انشطارا في المرجعيات التأسيسية، فاللائكيون يرددون دومـا مـا أفرزته سياقات الغرب و يبحثون عن خريطـة اجتماعية و سياسية يكون فيهـا الدين شأنـا فردانيا خالصا، فهـؤلاء لـم يدركـوا بعدُ بأن دعواتهم لفصـل الدين عن السياسـة مـا هي في الجوهـر إلا جزء من فصلـه مِـن/عـن الوجود تمهيدا لتحويلـه إلـى "كيان" ثقافي جامد أو إلـى مكسب لتراثٍ يُستحضرُ كمُكمِّل لذاك الكيان، لـم يفهموا بعد القضيـة الكبرى للدين و وظيفتـه في الوجود، بل يكتفون بسرد مقالات عـائمـة تتحدث عن احترام الأديان و حق الإعتقاد الحر و ضرورة تحييد الدين عن نزاعـات السياسـة... من هنــا وجبَ نـقد هـذا الأسلوب التبسيطـي و هـذا التحايل السياسي، فأمـثال هـؤلاء مُشبَعون بنتائج ثنـائية التأويل و التحويل و مُتخمون بمتواليات انفصال الدين عن الوجود،يتصرفون مع الدين الحق كفرع ضمن بقية الفروع الحضارية و يؤسسون عليـه نظريات وهمية تجعلُ القارئَ يسقط في فــخ التأويل سريعـا، في حين يمثـلُ الدين أم الوجود و مـداره و سائر أقطـاره. و لمّــا كـان هـؤلاء في الغالب غير قادرين علــى ممـارسـة فعل التأويل للدين ضمن مجتمع تداوليّ له مكانته المرموقة لما له من قداسـة في وجدان العموم فإنهـم يسلكون مسلـك التحويل بالضرورة فيركزون علــى السياسة كفضـاء للمتنازعين لكي يوهمـوا النـاسَ احترامهم للدين كفضاء آمن، و يشرعـون في تفريـغ محتوى هـذا الدين رُوَيدا رُويدا من كل مضامينه حتـى يجهـزوا علـى امتداداته و وظيفته الوجودية ، و حتـى مـا إذا فضحتهم ممـارساتهم الشخصية و لغاتهم العَدائية للدين أسرعوا للاختباء وراء عنـاوين مُبتذلـة من شدة تكرارهـا الممل من قبيل التمييز بين الدين و الفكر الديني و الفصل بين أساساته و منتوجاته...إنّ ذهنيـة اللائكي تعـاني دائمـا من أزمـة التشخيص فقد اختلطت عليه ارتباطات العناوين و خـالطت عقلَهُ لوثاتُ انفصال الدين عن الوجود فمـا عـاد يملك القدرة علــى تحديد عـلاقـة الفرع بالأصـل و لا عـادَ يفهم عن أيِّ دين يتحدث . إن نقد الفكر اللائكي التحويلي لا يمكن أن يكون مستقلا عن نقـد اللائكية كمرجعية دهرية تأسيسية و لا يمكن أن يُفهَـمَ منه الوقوف عند حدود التطبيقات اللائكية الخاطئة و إنمــا يتسلسلُ من نقد الأصـل الكلي وصولا لإفرازاتــه و نتائجــه المرتبط بالنظرية أو التطبيق ، ففصــل الجزء عن الكل و الرهـان علــى مـلاحقة الفروع المعرفية و التأويلات المختلفة ليس إلا حيلـة مـاكرة لخداع العقل العام ابتدعتهـا أقـلام عُجِنت عقولهـا بثنـائيات التأويل و التحويل و أخذت شكلهـا و مضمونهــا .
فصلُ الدين عن الوجود في ذهنية اللائكي سمحَ للعديد من فتيان الفلسفة و طلاب الارتقاء المعرفي السريع بالتطفل علـى الدين من خـلال الرقص علــى المفردات المُنتَحـلة و الذوبان في المحفوظات الفلسفية الموروثة من قيم التداول الغربي ، فقد صارَ التعرض للدين الإسلامــي الحق بالوقاحـات و الافتراءات أسلوبـا مشاعـا بين هـؤلاء الفتيان إذ زرعت فيهم بعض الأفكـار التأويلية اللقيطة (التي لا أصل لهـا من حيث الإثبات) حُبَّ التمرد علــى منظومـة هـو منهــا جنـاحٌ مُهمَــلٌ، و دفعت البعضَ إلـى الاغترار بمقتطفات من معارف قالهـا مُؤوّل هنـا أو هنـاك فصار نـاطقا رسميـا باسمهـا، كمـا جعلت العقلَ النقديَّ عندنـا أوغلُ في التقليد و المحاكـاة بفعـل حـالـة الاستهلاك الادمـانـي للمنتوجات الذهنية الوافدة و التي أقعدت أُطُـرَنـا في كراسي انتظارِ مـا سيجود عليهم غيرنـا . لقـد أفضت درجـة الرهـان علـى المُعلبات الفكرية الخارجية إلـى شلل في إنتـاج المعرفة الدينية و الإنسانية و أفرزت معهـا تكلسات بليغـة و انسدادات عميقة في أدوات البحث و التحليل، و هـذا كـله لم يكن ليحدث لـولا التعـاطـي المفرط لعقاقير الثقافـة المفصولـة عن واقع قيم التداول، و لم يكن ليدفع بعض المتعجلين إلـى إصدار أحكـام من العيار الثقيل حول الدين لولا هجرة أدمغتهم لتاريخهم و التحليق في فضاءات تاريخ غيرهم .
إن المرور من التأويل إلـى التحويل لا يتم إلا عبر إيديولوجية مـا و لا يتحقق التحويل خـارج منظومـة معرفية تتحدد بهـا إجراءات العمل، ففلسفة تأويل الدين مـثلا عند المذاهب الفلسفية لم تكن تعتمـد علـى قراءات موضوعية و لم تكن تتأسس علـى تفسيرات منطقية عبر التاريخ، و إنمـا كـانت تبني رؤيتهـا بنـاء مـاديا و أحيانـا أسطوريا كمـا هي تصورات أوغست كونت و مـاركس و فيورباخ و نيتشة... فالايدولوجيا هي من كـانت تصنـع التأويل و ترسم له حدود الممكن و هي من كـانت تقرر طبيعـة التحولات للقضايـا الكبرى( العقل،الأخـلاق،اللغة..)، لذلـك لا يمكن البتة التعويل علـى بعض الدراسات الميتافيزيقية لتبرير نزعـات التأويل و لا يمكن اعتبار نواتجهـا حقائق ثابتـة، بــل الأصحّ أن يقـال عنهـا مجرد تمظهرات لإيديولوجية أخذت موقفا منذ البدايـة فكـان لا بد أن تصل لتلك النهـاية . و إذا كـانت نزعـة التأويل قد تحددت وفق قسمـات تشكلت من خـلال متواليات الأوضاع الواقعية في فضاء الغرب فأنتجت نظريات تقمصت دور "العلم" و توشحت برداءه فإن مآزق اللائكيين في فضاء مغاير يبدو بارزا و يؤشـر علـى عملية واسعـة من المسخ و الاستلاب، فهــؤلاء أرادوا أن ينتصروا لنزعـات استمدت تبريراتهـا من طبيعـة الصراعـات و التنـاقضات الفجـة (تناقض العلم مع الأسلوب الديني الكهنوتي، تناقض صعود البورجوازية مع قيود السلطة الدينية...) و قرروا بذلك تبرير الأليكــة من خـارج الذات، الشــيء الذي أوقعهم في حرج شديد و هم يشرحون للنـاس كيف تتوافق اللائكية مـع الإسلام ،فإذا كـانت عـلاقـة النزعـة التأويلية بالواقع الغربي تُعـبِّـر عن سياق تاريخي فإن عـلاقـتها عند لائكيينـا تُعــبر عن خيال مريض يراودُ بعض المثقفين الذين يفتعلون صراعـات وهمية في تراثنـا لعلهـا تُشرعنُ" للعلمنـة" من داخـل التراث لكن بدون جدوى .
تحويلات اللائكيين عندنـا لا تنطلق إلا من فهـم سقيم لماهيات الدين و التراث و العقل و القيم، و هـو فهم ظل لصيقا بنزعـة التأويل التي قدمت تعاريف مريضـة تَــفــكّــكَّت بهـا مضامين الوجود الإنساني و انتقلت فيهـا منـاهج النقد من مـادية صلبـة إلـى مـادية سائلــة بتعبير المفكر الإسلامي عبد الوهاب المسيري رحمه الله، الشيء الذي جعلَ عقولَ لائكيينــا فضاءً قابلا للاختراق الإيديولوجي بالشكل الذي يسمح له بالتوجيه عن بُعــد، فعندمـا يصبح العقلُ مُستودعـا و خزانـا لتجارب الآخرين دون تمحيص فـلا منـاص آنذاك من ظهور أعـراض مرضية تعصف بملكة الإبداع ،فالأمـراض المعرفية المُعدية علـى اختـلاف أنواعهــا ظلت عبر التاريخ تُمـثل إحدى وسائل الإصابـة بجلطـات العقل و جموده و ظلت إحدى الرهانات علــى إدامـة التبعية الفكرية التي تُـوجِّــهُ مسارات المجتمعات نحو الإمعـة الحضارية و الإذلال الشامـل .
اترك تعليق: