الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع الفقهية
"دراسة تأصيلية"
للدكتور \ عبد السلام بن محمد الشويعر
عضو هيئة التدريس في كلية الملك فهد الأمنية قسم العلوم الشرعية.
** نشر البحث في مجلة مجلة البحوث الإسلامية التي تصدرها دار الإفتاء في المملكة العدد67ص 293-323


الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . . أما بعد فإن مسألة ( الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع الفقهية ) من المسائل التي يحتاجها الفقيه وتعرض له ، خصوصا عند نظره في الخلاف العالي بين المذاهب الفقهية ، فكثيرا ما يتوقف الناظر عند بعض المسائل الفقهية التي انفرد بها الظاهرية عن جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة ، وذلك بسبب اختلاف أصول هذا المذهب عن البقية باعتماده على ظواهر النصوص وعدم عمله بالقياس ، إضافة لما في شخصية بعض المنتسبين إليه من التميز سواء في سلاسة العبارة وقوة الحجة ، أو شدة التعبير على المخالفين حتى قورن أحيانا بسيف الحجاج شدة وبطشا ، مما يجعل البعض يتوقف عند هذا المذهب وأصحابه وقفة إعجاب أحيانا ، أو حنق أحيانا أخرى ، أو توسطا بين ذلك توقف نظر وتأمل . فلذلك عمد بعض الباحثين لهذه المفردات فجمعها ، واعتنى بدراستها لكن من الناحية الفقهية فقط (1).

ولما لم أقف على من أفرد النظر في هذه المفردات من ناحية تأصيلية ، من حيث اعتمادها والاعتداد بها مع ما يراه المطالع لكتب كثير من الفقهاء- مع جلالة قدرهم- عندما يحكون خلافا شاذا للظاهرية يتبعونه بعبارة مؤداها (أن خلاف الظاهرية غير معتبر) مع اختلاف في البناء والصياغة لهذا المعنى؛ ففي حين يكتفي البعض بهذا الرد عن مقارعتهم بالحجة والبرهان ، يزيد آخرون ببعض الأوصاف والنعوت الغريبة لهذا المذهب الفقهي ، حتى صارت هذه طريقة للبعض لرد خلاف الظاهرية دون النظر في دليلهم وتعليلهم ، بل وصمها بعض العلماء بأنها: ( طريقة القاصرين ، إذا أعيتهم الأدلة ادعوه على منازعهم ، ولا يليق ذلك بأئمة التحقيق ). (2)

فأردت البحث في هذه المسألة ، وهل هي مسألة مسلمة بين الفقهاء ، أم هي من مواضع النزاع بينهم؟ وزاد عزمي ما سبق بيانه من عدم وقوفي على من أفرد بحثها ، مع أهميتها .
فجمعت شتات هذه المسألة من غير مظانها ، من بطون الكتب (3)، وخبايا الزوايا بحسب المستطاع ، فإن هذه المسألة اشترك في بحثها شراح الأحاديث ، وعلماء الفقه عند ذكرهم لخلافات الظاهرية في الفروع الفقهية- وذكرها علماء الأصول- في مباحث الإجماع ، والقياس ، والاجتهاد والتقليد ، وغيرها من المباحث ، بل وكان للمؤرخين نصيب في ذكر هذه المسألة- كما سيأتي- . فسطرت هذا البحث جمعا للمتفرق ، وتوليفا لهذا الشتات ، سائلا الله تعالى التوفيق والسداد .


وجعلته في أربعة مباحث:
الأول : تحرير محل النزاع في المسألة .
الثاني : سبب الخلاف في المسألة .
الثالث : خلاف أهل العلم في المسألة ، وأدلتهم ، والترجيح .
الرابع : أمثلة تطبيقية لخلاف الظاهرية .
__________
(1) منها كتاب: (ابن حزم والمسائل التي خالف فيها الجمهور في العقائد والأصول والعبادات) لمحمد صالح موسى حسين من منشورات جامعة (سبها) بليبيا سنة 1995م . وغيره

(2)ما بين القوسين من كلام الصنعاني في (العدة 1 \ 140).
(3) كان مجموع ما رجعت إليه من الكتب ونقلت عنه في هذه الوريقات ما ينيف على تسعين مرجعا.



المبحث الأول : تحرير محل النزاع في المسألة ؛ (مشكلة البحث):

المقصود بهذا البحث خلاف الظاهرية في المسائل الفقهية الفرعية ، دون غيرها من المباحث ، كخلافهم في بعض المباحث
الأصولية ، أو خلاف بعضهم في بعض المباحث العقدية .
والمسائل الفرعية التي يبدي فيها الظاهرية رأيهم الفقهي لا تخلو من ثلاث حالات:
1 - أن يكون رأي الظاهرية موافقا لرأي المذاهب الفقهية الأربعة ، أو أحدها . فهنا لا خلاف في اعتبار رأيهم ؛ لأنهم مسبوقون إليه .
2 - أن يكون من مفرداتهم عن المذاهب الأربعة ، ولم يوافقهم عليه أحد من الأئمة الأربعة ، ولا هو قول عند أصحابهم ، لكن قال به أحد العلماء المعتبرين من الصحابة ، أو التابعين ، فمن بعدهم .
فهذه مسألة خارجة عن محل البحث؛ لأنها داخلة في مسألة حكم تقليد الميت ، وما إذا كان هناك خلاف في مسألة على قولين ، ثم حدث إجماع على أحدهما ، فهل يكون هذا الإجماع رافعا للنزاع ، أم لا؟ (1)، وفيهما نزاع مشهور .
3 - أن يغرب فقهاء الظاهرية باختيار قول لم يسبقهم إليه أحد من علماء المسلمين المعتبرين ، سواء كان العلماء مجمعين على خلافه ، أو لهم أقوال سوى قول الظاهرية ، فهل يعتد بهذا القول ، أم لا؟
فهذا هو محل النزاع ، وهي الحالة التي يراد بحثها في هذا المبحث ، وما عداها لا يخلو من أحد الأقسام الماضية ، وهي خارجة عن محل البحث .
__________
(1) انظر: أصول السرخسي 1 \ 319، شرح العضد على ابن الحاجب 2 \ 41، التبصرة للشيرازي ص 378، البرهان لإمام الحرمين 1 \ 454 ، الإحكام للآمدي1 \ 275، العدة للقاضى أبي يعلى 4 \ 1105، روضة الناظر 2 \ 464، الإحكام لابن حزم 2 \ 515


المبحث الثاني: سبب الخلاف في المسألة :
سبب خلاف العلماء في الاعتداد بخلاف الظاهرية فيما أغربوا فيه ، هو أن من أعظم أصول الظاهرية التي شذوا بها عن باقي العلماء إنكار القياس ، وعدم العمل به .
وقد نقل بعض العلماء الإجماع على إعمال القياس (1) ، فهل يكون الظاهرية بفعلهم هذا قد خالفوا الإجماع ، وأنكروا ظواهر النصوص؟ فخرجوا عن أصول أهل السنة ، فلا يعتد بخلافهم ؛ كما لا يعتد بخلاف باقي الفرق الضالة ، كالخوارج والإمامية ، وغيرهم (2)، وأنهم- على أقل تقدير في رأي البعض- بعدم عملهم بالقياس تركوا معلوما لدى أهل العلم ، وطريقا من طرق الاستنباط المتفق عليها ؛ فأشبهوا العوام فلا يعتد بخلافهم (3). . أم أنهم بفعلهم هذا لم يخالفوا جماعة المسلمين ، ولا يعدو
قولهم أن يكون من الاجتهاد السائغ بين المسلمين . وقد يكون سبب خلافهم هو المسألة الأصولية: ((إذا أجمع المسلمون على أن في المسألة قولين ، أو أكثر ، فهل يجوز إحداث قول ثالث))(4).
ولكن هذا في بعض المسائل ، وليس كليا؛ لأنه توجد مسائل شذ الظاهرية بقول ، ولا يعلم للمتقدم فيها رأي .
__________
(1) ممن نقل الإجماع الشيرازي في (التبصرة ص 425)
(2) انظر الخلاف في مسألة الاعتداد بخلاف أهل البدع والأهواء في: الإحكام لابن حزم 2 \ 580 ، المنخول ص 310، إرشاد الفحول ص 71. وقول الجمهور في المسألة إنه يعتد بخلاف أهل البدع، ما لم تكن البدعة مكفرة
(3) انظر الخلاف في مسألة الاعتداد بخلاف العوام في: أصول السرخسي 1 \ 312 ، شرح التنقيح للقرافي ص 267، المنخول ص 310، المحصول 4 \ 196، التمهيد لأبي الخطاب 3 \ 250 ، إرشاد الفحول ص 72
(4) وفي هذه المسألة نزاع بين أهل العلم، انظره في: تيسير التحرير 3 \ 250، شرح العضد على ابن الحاجب 2 \ 39، التبصرة للشيرازي ص 387، المحصول للرازي4 \ 128، الإحكام للآمدي 1 \ 269، روضة الناظر 2 \ 488، شرح مختصر الروضة 3 \ 88، إرشاد الفحول ص 76



المبحث الثالث: خلاف أهل العلم في المسألة ، وأدلتهم ، والترجيح .

اختلف أهل العلم القائلون بالقياس - رحمهم الله- في هذه المسألة على أربعة أقوال:

القول الأول : أن خلافهم غير معتبر ، وليس معتدا به مطلقا .
وهو منسوب لجمهور أهل العلم ، حكاه أبو إسحاق الاسفرائيني (ت 316 هـ) عن جمهور أهل العلم (1)، وذكر أبو العباس القرطبي (ت 656 هـ) (2)أن جل الفقهاء والأصوليين على أنه لا يعتد بخلافهم . وقال النووي (ت 676 هـ)(3): (( ومخالفة داود لا تقدح في الإجماع عند الجمهور )) ، وقال في موضع آخر(4): (( ومخالفة داود لا تضر في انعقاد الإجماع ؛ على المختار الذي عليه المحققون والأكثر )) .
وقال بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ)(5): (( ولم يعدهم المحققون من أحزاب الفقهاء . . . وأخرجوهم من أهل الحل والعقد )) .
وحكاه ابن دقيق العيد (ت 702 هـ) (6)، والصنعاني (ت 1182 هـ) (7)عن بعض الناس .
وممن وقفت على قوله من أهل العلم موافقا لهذا القول ، أبو الحسن الكرخي (ت 340 هـ) (8)، وأبو بكر الجصاص الرازي (ت 370 هـ) (9)

، والحموي (ت 1098 هـ) (10). ، وابن عابدين (ت 1252 هـ) (11)من الحنفية .

ومن المالكية : القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403 هـ) (12)، وابن بطال (ت 449 هـ) (شرح صحيح البخاري، لابن بطال 1 \ 352.) ، والقاضي أبو بكر ابن العربي (ت 543هـ) (13)، وأبو العباس القرطبي (ت 656 هـ) (المفهم لأبي العباس القرطبي 1 \ 543.) ، والدرديري (ت 1201 هـ) (بلغة السالك لأقرب المسالك، للدرديري 2 \ 389.) ، وعليش (ت 1299 هـ)(14).

وبه قال من الشافعية أبو العباس بن سريج (ت 306 هـ) (انظر كتاب: (المحمدون من الشعراء للقفطي 2 \ 427). ، والأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني (ت 316 هـ) (15)، وأبو علي بن أبي هريرة ( ت 345 هـ ) (16)، والقاضي أبو الحسن المروزي ( ت 462 هـ ) (17)، وأبو المعالي الجويني ( ت 478 هـ ) ((البرهان ، للجويني 2 \ 819 - في مبحث مسالك العلة - ، وانظر : فيض القدير للمناوي 6 \ 226 )) ، وأبو حامد الغزالي ( ت 505 هـ ) (البحر المحيط 4 \ 472 ، حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2 \ 242 ). ، وحكي عن النووي ( ت 676 هـ ) الجزم بعدم الاعتداد بقولهم (18)، ورجح هذا القول صلاح الدين الصفدي

وذكر ابن كثير في حوادث ( سنة 763 هـ ) رؤيا رآها للنووي سأله فيها عن عدم إدخاله شيئا من مصنفات ابن حزم في ( شرح المهذب ) له . راجع ( البداية والنهاية 18 \ 350.(

( ت 826 هـ ) (الوافي بالوفيات ، للصفدي 13 \ 475) . ، وولي الله العراقي ( ت 826 هـ ) (طرح التثريب شرح التقريب ، لولي الله العراقي 2 \ 37 ). ، ونقله أبو منصور البغدادي ( ت 429 هـ ) عن طائفة من متأخري الشافعيين(19).
وقال به نجم الدين الطوفي ( ت 716 هـ ) من الحنابلة (التعيين في شرح الأربعين ، للطوفي ص 244 )..
والحافظ أبو بكر ابن مفوز ( ت 505 هـ ) من علماء الحديث (20) .

القول الثاني : أن خلافهم معتبر مطلقا .
وممن قال به القاضي عبد الوهاب البغدادي من المالكية ( ت 422 هـ ) (قاله في كتاب ( الملخص ) ، ونقله عنه الزركشي في ( البحر المحيط 4 \ 472 ) ..
وبه قال من الشافعية أبو منصور البغدادي الشافعي ( ت 429 هـ ) ؛ وحكى أنه الصحيح من مذهب الشافعية (21)، ونسب (22)هذا القول لأبي عمرو ابن الصلاح ( ت 650 هـ ) ،
وقال به الذهبي ( ت 748 هـ ) (سير أعلام النبلاء ، للذهبي 13 \ 104 ). ، وابن السبكي ( ت 771 هـ ) (23)، ( وهو الذي استقر عليه الأمر آخرا كما هو الأغلب الأعرف من صفو الأئمة المتأخرين ) قاله ابن الصلاح ( الفتاوى ص 67 ) ، والنووي ( تهذيب الأسماء واللغات 1 \ 183 ) . .
وهو رأي كثير من الحنابلة(24).

واختاره غير واحد من المحققين ؛ كالعلامة ابن القيم ( ت 751 هـ ) (25)، والصنعاني ( ت 1182 هـ ) (العدة ، للصنعاني 1 \ 140 ). ، والشوكاني ( ت 1250 هـ ) (إرشاد الفحول ، للشوكاني ص 71) . ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي ( ت 1393 هـ ) (نثر الورود على مراقي السعود ، للشنقيطي 2 \ 428 ، أضواء البيان . ونسبه للمحققين من علماء الأصول ).

القول الثالث : أن خلافهم معتبر في غير المسائل القياسية ، وأما المسائل القياسية فلا اعتبار بقولهم .
وهو قول أبي الحسن الأبياري ( ت 618 هـ ) (نقله عنه في ( البحر المحيط 4 \ 473 ) . .
القول الرابع : أن خلافهم معتبر فيما خالف القياس الخفي ، دون ما خالف القياس الجلي(26).
وهو قول ابن الصلاح ( ت 650 هـ ) (27)؛ قال : " والذي أجيب به بعد الاستخارة والاستعانة بالله أن داود يعتبر قوله ويعتد به في الإجماع إلا فيما خالف فيه القياس الجلي " (نقله عنه النووي في ( تهذيب الأسماء واللغات 1 \ 184 ) ، وسكت عنه ). .

الأدلة :

استدل أصحاب القول الأول ( وهم القائلون بعدم الاعتداد بخلاف الظاهرية مطلقا ) بأدلة متعددة ، بعبارات مختلفة ، وسأسوق بعضا منها :
- أن أهل الظاهر ليسوا من العلماء ولا من الفقهاء ، بل هم من جملة العوام الذين لا يعتد بخلافهم (نقله في ( المفهم 1 \ 543 ) عن القاضي أبي بكر الباقلاني ). .
- أن الظاهرية في حيز العوام ، فلا اعتبار بخلافهم (الفصول في الأصول 3 \ 296 ، سير أعلام النبلاء 13 \ 104) . .
- أن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد ، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة ، فبإنكارهم القياس والاجتهاد يكونون ملتحقين بالعوام ، وكيف يدعون الاجتهاد ، ولا اجتهاد عندهم ، وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ . (البرهان للجويني 2 \ 818 ) .
- أن من أنكر القياس لا يعرف طرق الاجتهاد ، وإنما هو متمسك بالظواهر ، فهو كالعامي الذي لا معرفة له (البحر المحيط 4 \ 472 ). .
- أنهم لا يعتد بخلافهم لأنهم من جملة العوام ، وأن من اعتد بخلافهم فإنما ذلك لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع ، والحق خلافه (المفهم 1 \ 543 ، وعنه البحر المحيط 4 \ 472 ). .
- ولأنهم في الشرعيات كالسوفسطائية في العقليات (البحر المحيط 4 \ 472 ). .
- أن منكري القياس من الظاهرية ليسوا من علماء الأمة ؛ لأنهم مباهتون على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا ، ومن لم يزعه التواتر ، ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه (البرهان للجويني 2 \ 818 ). .
- أنهم كالشيعة في الفروع ، ولا يلتفت إلى أقوالهم ، ولا ينصب معهم الخلاف ، ولا يعتنى بتحصيل كتبهم ، ولا يدل مستفت من العامة عليهم (سير أعلام النبلاء 13 \ 104 ). .

- أنهم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد ، ولا يعتبر في الإجماع إلا خلاف من له أهلية النظر والاجتهاد(28).

بل بالغ بعضهم فلم يعدوا الظاهرية من العلماء والفقهاء(29).
- أنهم لما أحدثوا قواعد تخالف الأولين ، أفضت إلى المناقضة لمجلس الشريعة ، فلم يعتبر خلافهم (البحر المحيط ، لبدر الدين الزركشي 6 \ 291) . .
- أنهم لما اجترءوا على دعوى أنهم على الحق ، وأن غيرهم على الباطل أخرجهم أهل العلم من أهل الحل والعقد (البحر المحيط ، لبدر الدين الزركشي 6 \ 291 ). .
- أنه قد دل الدليل القاطع على أصل القياس ، وهو لا يحتمل المنازعة فيه لظهوره . وقد نازع الظاهرية فيه .

وهذه المنازعة الظاهر أنها عناد ، والمعاند في الحق لا عبرة بقوله ، وهذا ظاهر .
وإن لم تكن عنادا - كما هو الظنون بذوي الحجى - ، فقد نفوا ما ثبت بالدليل القاطع باجتهاد ، قصاراه إفادة الظن الذي لا يعارض القطع الظاهر (الوافي بالوفيات ، للصفدي 13 \ 475) . .
والاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد في إنزالهما بمنزلة ما لا يعتد به ، وينقض الحكم به (فتاوى ابن الصلاح ص 69 ). .
- أن من أنصف لنفسه علم أن النصوص التي أخذت منها الأحكام لا تفي بعشر معشار الحوادث التي لا نهاية لها ، فما الذي يقوله الظاهري في غير المنصوص إذا أتاه عامي وسأله عن حادثة لا نص فيها ، أيحكم فيها بشيء أم يدع العامي وجهله ؟


لا قائل من المسلمين بالثاني ؛ أعني أنا ندع العامي يخبط في دينه ، وإن حكم فيها - والواقع أن لا نص - ؛ فإما أن يقيس ، أو يخترع من نفسه حكما يلزم الناس الأخذ به .
إن اخترع من عند نفسه ونسبه إلى الحكم الشرعي كان كاذبا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلا كان ملزما للناس بفلتات لسانه ، فما بقي إلا أنه لا يخترعه من عند نفسه ويقيسه على الصور المنصوص عليها .

والظاهري لا يقول بذلك ، فعاد الأمر إلى أنه إما أن يدع العامي يخبط في دينه بما لم ينزل الله به سلطانا ، أو يكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو يلزم الناس بهفواته ، والثلاثة لا يقولها ذو لب - معاذ الله – (الوافي بالوفيات ، للصفدي 13 \ 475 ). .

- أن داود ينفي حجج العقول . . . فمن كان هذا مقدار عقله ومبلغ علمه كيف يجوز أن يعد من أهل العلم وممن يعتد بخلافه . . . (الفصول في الأصول ، للجصاص 3 \ 296 ).
- أنهم قد أخذوا هذا القول - نفي القياس - عن النظام من المعتزلة ، وقد كفره جمع من أهل العلم (فقه أهل العراق وحديثهم ، للكوثري ص 17 ) . .
مما سبق من تعليلات القائلين بعدم الاحتجاج بخلاف الظاهرية يتبين أنهم يدورون حول معنى واحد وإن اختلفت العبارات ، وهو :
أن الظاهرية عندما أنكروا القياس خرجوا عن دائرة العلم ، وأهله [ وصاروا في دائرة العوام (30)، أو الجهال (31)، أو المبتدعة (32)
،أو المباهتين (البرهان للجويني 2 \ 818 . ، أو الكفار والمشركين (33)- بحسب اختلاف العبارات - ] وهؤلاء لا يصح الاحتجاج بهم في الإجماع ، ولا يقدح خلافهم فيه .

والسبب في ذلك - مما تقدم - ثلاثة أمور :
أ - أن النصوص الشرعية لا تفي بجميع الأحكام الشرعية ، ولا بد من القياس لإظهار الأحكام الشرعية .
ب - أن الظاهرية وافقهم في قولهم هذا كثير من أهل البدع .
ج - أن القياس قد دل عليه ( الدليل القاطع ) فإنكارهم له إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة ، فخالفوا صريح العقول ، وصحيح المنقول .

أما الأمر الأول ؛ وهو أن النصوص الشرعية لا تفي بجميع الأحكام الشرعية ، ولا بد من القياس لإظهار الأحكام الشرعية .
فلا يسلم ذلك - عندهم - فإن في القرآن والسنة بيانا لجميع الأحكام الشرعية إما بطريق المنطوق أو المفهوم أو غيرها من دلائل الألفاظ ووسائل الاستنباط غير القياس ، ويدل على ذلك عموم قول الله تعالى : سورة النحل الآية 89 وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ، وقوله تعالى : سورة الأنعام الآية 38 مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ .

وقال ابن حزم (النبذ في أصل الفقه ، لابن حزم ص 118 ) : " كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة نعلمه والحمد لله ، حاشا القراض فما وجدنا له أصلا البتة " .


وقال مولوي فضل رسول البدايواني في كتابه ( سوط الرحمن ) : '' كان داود الظاهري من أتباع الشيطان ، ثم ظهر ابن حزم الذي كان خبيثا '' ا . هـ بواسطة كتاب ( تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند لمسعود الندوي ) .
وتقدم قريبا قول ابن العربي في ( عارضة الأحوذي ) .

قال أبو إسحاق الشاطبي ( ت 790 هـ ) (الموافقات للشاطبي 4 \ 189 ) : " العالم بالقرآن على التحقيق عالم بجملة الشريعة ، ولا يعوزه منها شيء ، والدليل على ذلك أمور . . .
ومنها : التجربة ؛ وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها أصلا ، وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظاهر الذين ينكرون القياس ، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل " ا . هـ .
وقال الشوكاني ( ت 1255 هـ ) بعد ذكره لدليل المانعين من الاعتداد بخلاف منكري القياس : ويجاب عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها ، وتدبر آيات الكتاب العزيز ، وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة ، علم بأن نصوص الشريعة جمع جم ، ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب ، ولا سنة ، ولا قياس مقبول ( وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ) . نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها ، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذاهب غيرهم من العمل بما لا دليل عليه البتة قليلة جدا " (إرشاد الفحول ص 72 ). .

أما الأمر الثاني ؛ وهو أن الظاهرية وافقهم في قولهم هذا كثير من أهل البدع .
فقد دفع ابن حزم هذا التراشق بأمرين ؛ أحدهما : أنه لا يهمه من وافقه من أهل الباطل ، فلا ينكر أن تقول اليهود لا إله إلا الله ويقولها هو .
وثانيهما : أنها لا تخلو كلمة حق أو باطل يذهب إليها غيره من آخذ بها من أهل الباطل ، فالأخذ بالقياس قال به بعض المعتزلة ، والأزارقة ، وأحمد بن حابط ، ولكل هؤلاء من شنيع الأقوال ما هو كفر (تحرير بعض المسائل على مذهب الأصحاب للعلامة ابن عقيل الظاهري ص 52 ) .
أما الأمر الثالث ؛ وهو أن القياس قد دل عليه ( الدليل القاطع ) ، فإنكار الظاهرية له إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة ، فخالفوا بذلك صريح العقول ، وصحيح المنقول .

فهو محل النزاع بين الظاهرية وغيرهم ، وقد أطال الظاهرية في نقاش هذه الأدلة التي استدل بها القائلون بصحة القياس (انظر مثلا : الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2 \ 761 وما بعده ) .
إضافة إلى أن ( الدليل القاطع ) إن سلم به ، فإنما هو قد دل على أصل القياس ، وصحة الاستدلال بجنسه . لا على صور آحاده ؛ فإنها باتفاق ظنية ، ما عدا بعض الصور التي قال بعض العلماء بأن القياس فيها قطعي ؛ كالقياس الأولوي على نزاع في تسميته قياسا .
وبذلك يتبين فساد المقدمات التي بنى عليها أصحاب هذا القول نتيجتها ؛ وهو عدم الاعتداد بخلاف الظاهرية . فإذا سقطت المقدمات سقطت النتيجة المترتبة عليها . وعليه يتبين ضعف هذا القول - والله أعلم - .

واستدل أصحاب القول الثاني ( القائلون باعتبار خلاف الظاهرية مطلقا ) بأدلة متعددة ، وسأسوق أولا عباراتهم ؛ فمنها :
- أن ما تفردوا به هو من قبيل مخالفة الإجماع الظني ، وتندر مخالفتهم لإجماع قطعي (سير أعلام النبلاء 13 \ 104 ) .
- قال الصنعاني ( ت 1182 هـ ) (العدة شرح إحكام الأحكام ، للصنعاني 1 \ 140 - بتصرف يسير ). : إن الظاهرية لم يخالفوا في المسائل المجمع عليها ؛ لأن التحقيق أنه لم يقم الدليل إلا على حجية الإجماع القولي ، وقد كذب من ادعاه إلا في المسائل الضرورية - كما قال الإمام أحمد - .
فإذا حققت فالحق أن دعوى الإجماع طريقة القاصرين ، إذا أعيتهم الأدلة ادعوه على منازعهم ، ولا يليق ذلك بأئمة التحقيق ، فليس العمدة إلا الدليل من الكتاب والسنة أو قياس في معنى الأصل ، فإذا قام الدليل فلا ينظر إلى التنقيش قال به قائل أو لا ؟ ، فلا وحشة مع الدليل ، ولا ناظر بعد وجوده إلى قال ولا قائل ولا قيل ، والله يقول الحق ويهدي السبيل .
- أن هؤلاء المخالفين في القياس كلا أو بعضا ، هم بعض الأمة ، فلا بد من الاعتداد بخلافهم (إرشاد الفحول ص 210 ) .

- أنه لم يذكر أحد من العلماء أن من شرط المجتهد المعتبر قوله أن يكون من أهل القياس القائلين به .
- أن قول الظاهرية اجتهاد منهم ، ومن لم يعتد بخلافهم كان هذا اجتهادا منه فكيف يرد اجتهاد بمثله سير أعلام النبلاء 13 \ 105 ، ونقله عنه الصفدي في ( الوافي 13 \ 474 ) . .
- أن داود الظاهري كان يقرئ مذهبه ، ويناظر عليه ، ويفتي به في مثل بغداد ، وكثرة الأئمة بها وبغيرها ، فلم نراهم قاموا عليه ، ولا أنكروا فتاويه ولا تدريسه ، ولا سعوا في منعه من بثه (سير أعلام النبلاء 13 \ 105 . ثم ذكر أمثلة لبعض العلماء الذين عاصروا داود ) .
- أنهم وإن جاء عنهم مسائل غريبة ، فإنهم علماء مجتهدون ، وقد صدر من كثير من العلماء مسائل تخالف الإجماع ، وإنما تحكى للتعجب ؛ كقول ابن عباس في المتعة ، والصرف ، وإنكار العول (سير أعلام النبلاء 13 \ 105 - 106 ) .
- أن كثيرا من الأئمة المصنفين أوردوا خلاف الظاهرية في كتبهم ، مما يدل على اعتبارهم له ، فلولا اعتدادهم بخلافهم لما أوردوا مذاهبهم في مصنفاتهم ، لمنافاة موضوعها لذلك (فتاوى ابن الصلاح ص 68) .
- أننا ما اعتددنا بخلافهم لأن مفرداتهم حجة ، بل لتحكى في الجملة ، وبعضها سائغ ، وبعضها قوي ، وبعضها ساقط (سير أعلام النبلاء 13 \ 104 ) .
- أنه يلزم القائل بعدم الاعتبار بخلاف الظاهرية في الإجماع يلزمه أن لا يعتبر خلاف منكر العموم ، وخبر الواحد ، ولا ذاهب إليه (البحر المحيط 4 \ 472 ، نقلا عن الأصفهاني شارح ( المحصول ) . .
- أن خلاف الظاهرية معتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل ، ويمنع العموم ، ومن حمل الأمر على الوجوب ؛ لأن مدار الفقه على هذه الطرق (البحر المحيط 4 \ 472 ، نقلا عن القاضي عبد الوهاب في ( الملخص ) . .
- أن عدم الاعتداد بخلاف الظاهرية غير صحيح ؛ لأنه إن كان نفيا للوجود فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان ، وإن قيل : إن

الله أمر بعدم سماعه ، أو رسوله أمر بذلك فهذا شر من الأول لأنه كذب على الله ورسوله .
مما تقدم يتبين أن الحديث في قبول خلاف الظاهرية ما ادعي فيه الإجماع مقبول وأنه مانع من انعقاد الإجماع لأمور :
أ - منع صحة الإجماع شرعا ، وعقلا في المسائل التي خالف فيها الظاهرية (وقد أطال ابن حزم في ( الإحكام 2 \ 494 - 506 ) النفس في تقرير هذا الأصل ، فيراجع) .
ب - وعلى فرض صحة الإجماع قبل خلافهم ، فإنه يمنع من الوقوع ؛ لأن الوقائع التي ادعي فيها خلاف الظاهرية للإجماع ، إنما هو خلاف ظني (قاله الذهبي في ( السير 13 \ 104 ) ، والصنعاني في ( العدة شرح إحكام الأحكام 1 \ 140 ) وتقدم نقله . .
ج - أن إنكارهم للقياس لا يعني خروجهم من دائرة العلماء ؛ لأنهم مجتهدون توفرت فيهم جميع أدوات الاجتهاد - ولم يذكر أحد من العلماء أن من شروط المجتهد أن يكون عاملا بالقياس في المسألة المجتهد فيها - ، كما أنه يلزم من عدم الاعتداد بخلافهم عدم الاعتداد بخلاف منكري حديث الآحاد - مطلقا أو في وقائع معينة - ومنكري العمل بالحديث المرسل ، ومن يرى نسخ القرآن بالسنة ، ومنكري العموم ، وغير ذلك من صور عدم العمل ببعض آحاد الأدلة المتفق عليها من الكتاب والسنة .
د - ( القلب للدليل ) وهو أن الإجماع منعقد على قبول خلاف الظاهرية ؛ لأن داود الظاهري أظهر قوله في عصره وكذا تلامذته من بعده وحكى خلافهم أهل العلم في كتبهم ، ولم يرو عن أحد معاصريه أنه أنكر خلافه ولم يعتد به .

واستدل أصحاب القول الثالث ( وهم القائلون بقبول خلافهم في المسائل غير القياسية ، وأما القياسية فلا يعتد بخلافهم ) بأدلة منها :
أن المسألة إن كانت مما يتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي ، ولا مخالف للقياس فيها ، لم يصح أن ينعقد الإجماع بدونهم - إلا على رأي من يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ - .

فإن قلنا بالتجزؤ ، لم يمنع أن يقع النظر في فرع هم فيه محقون ، كما نعتبر خلاف المتكلم في المسألة الكلامية ؛ لأن له فيه مدخلا ، كذلك أهل الظاهر في غير المسائل القياسية يعتد بخلافهم (البحر المحيط 4 \ 473 ، نقلا عن الأبياري ).
ويظهر بتأمل هذا القول أنه عائد في الحقيقة إلى القول الأول القائل بعدم الاعتداد بخلاف الظاهرية ؛ لأن جل المسائل إنما هي قياسية ؛ كما قال إمام الحرمين الجويني ( ت 478 هـ ) (البرهان ، للجويني 2 \ 818 ) :
" إن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد ، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة " .
كما أن في التفريق بين المسائل التي يدخلها القياس والتي لا يدخلها القياس خلافا بين العلماء ؛ فمثلا مسائل الحدود ، والكفارات ، والعبادات فإن بين القائسين خلافا في جريان القياس فيها من عدمه(34).
إضافة لذلك فإن هذا التفريق هو محل النزاع ؛ فإن الظاهرية يرون أن جميع هذه المسائل ليست قياسية ؛ فيكون قولهم معتبرا .
واستدل أصحاب القول الرابع ( وهم القائلون باعتبار خلافهم فيما خالف القياس الخفي ، دون ما خالف القياس الجلي ) بأدلة منها :
أن خلاف الظاهرية فيما خالف القياس الخفي معتبر ؛ لما سبق في أدلة القول الثاني .
أما خلافهم فيما خالف القياس الجلي فهو غير معتد به ؛ لكونه مبنيا على ما يقطع ببطلانه ، والاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد في إنزالهما بمنزلة ما لا يعتد به ، وينقض الحكم به (فتاوى ابن الصلاح ص 69 ) .
ولأنه يجوز تبعيض الاجتهاد ؛ بمعنى أن يكون العالم مجتهدا في نوع دون غيره ، فكذلك الظاهرية يعتبر قولهم فيما عدا ما خالفوا القياس الجلي (فتاوى ابن الصلاح ص 69 ) .


ولأن المسائل التي خالفوا فيها القياس الجلي ، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه ، أو بنوه على أصولهم التي قام الدليل القاطع على بطلانها باتفاق من سواهم على خلافه ، إجماع منعقد . وقولهم حينئذ خارج من الإجماع ؛ كقولهم في التغوط في الماء الراكدة ؛ وقولهم : لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها .
فخلافهم في هذا ، وشبهه غير معتد به ؛ لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه ، والاجتهاد على خلاف الدليل القاطع مردود ، وينتقض حكم الحاكم به (تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 \ 184) . .
ويعرض على تفريقهم بين القياس الجلي ، والقياس الخفي في الاعتداد بخلاف الظاهرية في الثاني دون الأول . أن يقال لهم :
أ - إن تقسيم القياس إلى جلي وخفي - بحسب تقسيم الشافعية (35)- إنما هو تقسيم لما يطلق عليه القياس ، لا القياس الشرعي المعرف بين الأصوليين ، والذي فيه نزاع الظاهرية .
فإن الجمع بنفي الفارق - وهو القياس الخفي - ليس من
حقيقة القياس (تيسير التحرير لأمير بادشاه 4 \ 77 ). .
فعاد هذا القول للقول الأول ، وهو نفي الاعتداد بخلاف الظاهرية مطلقا ، فيكون القول فيهما واحدا .
ب - كذلك فإنه يقال : إما أن يعمم عدم الاعتداد بخلاف من خالف قول الأكثر في القياس الجلي سواء كان من أهل القياس ، أم لا . أو أن يخص بأهل الظاهر فقط .
فإن قيل بالأول وهو أن كل من خالف في القياس الجلي لم يقبل قوله ، ولا يعتد بخلافه ، فهذا يؤدي إلى القول بقطعية هذا القياس ، وفيه نظر ؛ بدليل خلاف بعض القياسيين فيه .


وإن قيل بتخصيص منكري القياس فقط . ففيه تحكم ؛ لأنه ربما خالف في هذه المسألة التي يدعي أن القياس فيها جلي غير الظاهرية ممن يعمل القياس ؛ فيكون القائل هذا القول قد أهمل خلاف الظاهري ، وأعمل خلاف غيره في مسألة واحدة ، وهو تحكم .
مثال ذلك : ما ذكره أصحاب هذا القول من التمثيل للمسائل التي خالف فيها الظاهرية القياس الجلي ؛ بأن الظاهرية يقولون : " بأن الربا لا يجري إلا في الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث (36) فقط ، ولا يتعداها لغيره " .
وهذه المسألة لم ينفرد بها الظاهرية بل وافقهم عليها بعض أهل القياس ، فقال أبو الوفا ابن عقيل ( ت 513 هـ ) من الحنابلة (37) ، وغيره .
فإن قبلنا خلافه ، ورددنا خلاف الظاهرية فهو تحكم . وإن قلنا برد خلاف الجميع فلا فائدة من تخصيص الظاهرية بعدم الاعتداد بقولهم ، بل نرد خلاف جميع من خالف في هذا القياس .
والراجح في هذه المسألة - والله تعالى أعلم - هو الاحتجاج بخلاف الظاهرية مطلقا ، وعدم انعقاد الإجماع بدونهم . وأن خلافهم مانع من انعقاده . ولا يصح رد قولهم بإجماع معاصريهم .
وأما ما شذوا فيه فيرده كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهما اللذان يحكمان ببطلانه حال عرضه عليهما .



المبحث الرابع : أمثلة تطبيقية على خلاف الظاهرية

سبق في بيان محل البحث والنزاع أن الحديث هنا فيما إذا انفرد الظاهرية بقول ولم يسبقوا إليه بقول أحد من الصحابة أو التابعين ، أو لم يوافقهم عليه أحد من علماء المذاهب الأربعة المعروفة .
وبالنظر إلى كثير من المفردات التي ذكرها من حرص على جمع مفردات الظاهرية ، أو ابن حزم بالخصوص ، نجد أنهم يذكرون ما خالف فيه مشهور أقوال الأئمة الأربعة فقط ، وهذا في الحقيقة خلاف المقصود بالبحث .
وسأذكر بضع مسائل ، لا بقصد الاستيعاب ، بل لقصد التمثيل فحسب .
مسألة : وجوب تقديم العضو الأيمن على الأيسر في الوضوء .
قال ابن حزم بوجوبه (المحلى 3-66)
وقد حكى الإجماع على الاستحباب دون الوجوب جمع من العلماء ؛ منهم ابن المنذر (الأوسط 1-387، والنووي (المجموع 1-383) .
مسألة : وجوب الاضطجاع على الشق الأيمن على من صلى ركعتي الفجر .
ذكر ابن حزم (المحلى 3-196) أنه يجب على من صلى ركعتي الفجر أن يضطجع على شقه الأيمن قبل صلاة الفجر سواء صلاها في وقتها أو قاضيا لها من نسيان أو عمد نوم ، فإن عجز عن الضجعة أشار إلى ذلك حسب طاقته . ولم يجز له أن يصلي الصبح إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن .
مسألة : جواز قص المحرم لأظفاره .
ذكر ابن حزم (المحلى 7-246) أنه يجوز للمحرم قص أظفاره وأنه لا شيء عليه فيه .
وقد حكى الإجماع على حرمتها جمع من أهل العلم ؛ كابن المنذر (الاجماع ص 17) ، وابن قدامة (المغني 5-146) ، وغيرهم .
مسألة : عدم توريث الجدة أم الأب .
أنكر ابن حزم الإجماع على توريث أم الأب ، وقال (المحلى 10-350) : " إن أبا بكر رضي الله عنه لم يورث إلا جدة واحدة فقط ؛ وهي أم الأب ، فلا ميراث لغيرها من الجدات " .
وقد حكى الإجماع على توريث أم الأم جمع من العلماء ؛ منهم ابن المنذر (الاجماع ص 34) ، والماوردي (الحاوي 8-110) ، والبغوي (شرح السنة 8-347) ، والعمراني (البيان 3-704) ، وغيرهم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
*** انتهى البحث***

__________

(1) نقله عنه ابن الصلاح في (فتاويه ص67 )، والنووي في (تهذيب الأسماء واللغات 1 \ 183)، والذهبي في (سير أعلام النبلاء 13 \ 104)، وابن كثير في (طبقات الفقهاء الشافعيين 1 \ 172، والزركشي في (البحر المحيط 4 \ 471 ) وابن السبكي في (الطبقات الكبرى 2 \ 289) والصفدي في (الوفي 13 \ 474 )
(2) المفهم لأبي العباس القرطبي 1 \ 543، ونقله أيضا عنه في (البحر المحيط 4 \ 472).
(3) المجموع، للنووي 2 \ 156، في باب الغسل.
(4) شرح صحيح مسلم، للنووي 3 \ 143، في باب السواك.
(5) البحر المحيط، لبدر الدين الزركشي 6 \ 291.
(6) الإمام شرح الإلمام، لابن دقيق العيد 1 \ 413.
(7) العدة، للصنعاني 1 \ 131.
(8) نقله عنه في (الفصول في الأصول 3 \ 297 ط: الكويت).
(9) فقال في مقدمة كتابه (أحكام القرآن): (لو تكلم داود في مسألة حادثة في عصره، وخالف فيها بعض أهل زمانه لم يكن خلافا عليهم)) ا. هـ، ونحوه قال في كتابه (الفصول في الأصول 3 \ 296 ط: الكويت)

(10) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر، للحموي 3 \ 299
(11) حاشية ابن عابدين 6 \ 99) وفيه أن خلاف الظاهرية لا ينقض إجماع الفقهاء. وانظر: تيسير التحرير لأمير بادشاه 4 \ 222.
(12) نقله ابن الصلاح في (الفتاوى ص 67)، والقرطبي في (المفهم 1 \ 543)، والزركشي في (البحر المحيط 4 \ 471)، وابن السبكي في (الطبقات الكبرى 2 \ 289). وقارن بما نقله الزركشي عنه في موضع آخر من (البحر المحيط 5 \ 185).
(13) العواصم من القواصم، لأبي بكر ابن العربي ص 257- الطبعة الكاملة-، وعارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي لأبي بكر ابن العربي 10 \ 108.
(14) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، لمحمد أحمد عليش 1 \ 101،96. وانظر للمالكية كذلك (المعيار المعرب 2 \ 491) وفيه أن (القاضي عياضا) نقل عن بعض العلماء أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد المائتين.
(15) نقله في (فتاوى ابن الصلاح ص 67)، و (السير 13 \ 104)، و (طبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 1 \ 172)، و (البحر المحيط 4 \ 471)، و (الطبقات الكبرى لابن السبكي 2 \ 289) و (الوافي 13 \ 474
(16) نقله عنه ابن الصلاح في ( فتاويه ص 67 ) ، والنووي في ( تهذيب الأسماء 1 \ 183 ) ، والذهبي في ( السير 13 \ 104 ) ، والزركشي في ( البحر المحيط 4 \ 472 ) ، وابن كثير في ( طبقات الفقهاء الشافعيين 1 \ 172 ) ، وابن السبكي في ( الطبقات الكبرى 2 \ 289 ) ، والصفدي في ( الوافي 13 \ 474 ) .
(17) فتاوى القاضي حسين ل 107 أ - مخطوطة مكتبة باريس الأهلية - ، وفيه :
'' لو أوصى ميت للفقهاء ، فلا يدخل فيه الظاهرية ، ومن يعتقد قول داود '' . ا . هـ
وهذا هو رأي القاضي أبي الحسين . وقد يفهم من كلام له ذكره ابن الرفعة أنه يرى أن الظاهرية يعتد برأيهم في خلاف الإجماع . وأجاب عنه الزركشي بأنه راعى الخلاف الذي عليه داود ، لا خصوص داود . انظر : [ البحر المحيط 4 \ 474 ، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 2 \ 291 { .
(18) نقله السيوطي في ( تدريب الراوي 2 \ 192 ) عن النووي في ( شرح مسلم ) ، وانظر الموضع الذي نقل عنه السيوطي في ( شرح مسلم للنووي 11 \ 217 ) مع اختلاف العبارة .
(19) نقله عن أبي منصور ابن الصلاح في ( فتاويه ص 67 ) ، والنووي في ( تهذيب الأسماء واللغات 1 \ 183 ) ، والذهبي في ( سير أعلام النبلاء 13 \ 104 ) ، والزركشي في ( البحر المحيط 4 \ 472 ) ، وابن كثير في ( طبقات الفقهاء الشافعيين 1 \ 172 ) ، وابن السبكي في ( الطبقات الكبرى 2 \ 289 ) ، والصفدي في ( الوافي 13 \ 474 ) .
(20) نقله عنه ابن دقيق العيد في ( الإلمام 1 \ 415 ) ، والصفدي في ( الوافي 13 \ 476 ) ، والصنعاني في ( العدة 1 \ 131 ) .
(21) نقله ابن الصلاح في ( فتاويه ص 67 ) ، والنووي في ( تهذيب الأسماء واللغات 1 \ 183 ) ، وابن كثير في ( طبقات الشافعين 2 \ 174 ) ، وابن السبكي في ( الطبقات الكبرى 2 \ 289 ) .
(22) نسبه له ابن السبكي في ( الطبقات الكبرى 2 \ 289 ) ، وهو خلاف ما نص عليه في ( الفتاوى ) وسيأتي في القول الرابع .

(23) طبقات الشافعية الكبرى ، لابن السبكي 2 \ 289 ، ( شرح المحلي على جمع الجوامع لابن السبكي 2 \ 491 ) .
لكن ابن السبكي إنما يقبل قول داود بن علي ، دون ابن حزم ، فقد قال تعليقا على كلام إمام الحرمين في عدم قول أهل الظاهر : '' قول إمام الحرمين إن المحققين لا يقيمون للظاهرية وزنا ، وإن خلافهم لا يعتبر ، محله عندي ابن حزم وأمثاله ، وأما داود فمعاذ الله أن يقول الإمام أو غيره أن خلافه لا يعتبر ، فلقد كان جبلا من جبال العلم والدين ، له من سداد النظر وسعة العلم ونور البصيرة والإحاطة بأقوال الصحابة والتابعين ، والقدرة على الاستنباط ما يعظم وقعه ، وقد دونت كتبه ، وكثرت أتباعه ، وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في ( طبقاته ) من الأئمة المتبوعين في الفروع '' ا . هـ . [ البهجة الوردية 4 \ 26 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2 \ 491 ] .
(24) وقد حكمت أنه رأي كثير من الحنابلة لاعتبارات متعددة ؛ منها أن بعض مؤرخي الحنابلة ذكروا داود من جملة أصحاب الإمام أحمد [ انظر مثلا : الدر المنضد لابن حميد ص 19 ] ، وأن آخرين ذكروه ضمن أصحاب الإمام أحمد عند ذكر الخلاف [ كصنيع أبي الخطاب في كتابه الانتصار ، والموفق في المغني وابن أبي عمر في الشرح الكبير ] ؛ بل إن بعض الحنابلة - وهو الشيخ حسن الشطي - أفرد كتابا في المسائل التي خالف فيها داود مشهور مذهب الحنابلة . وانظر : كتاب ( الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه ص 144 ) .

(25) في مواضع من كتبه منها : ( زاد المعاد 5 \ 331 - كتاب الظهار - ) ، و ( إعلام الموقعين 2 \ 277 ، و 3 \ 182 ) .
(26) القياس الجلي : '' هو ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع '' .
والقياس الخفي : '' هو نفي اعتبار الفارق بين الأصل والفرع بظن المجتهد لا بعلمه '' .
وهذا التفريق عند الشافعية والحنابلة وهو المراد عند ابن الصلاح ؛ لأنه من علماء الشافعية .
أما الحنفية ؛ فالجلي عندهم : '' ما تبادر إلى ذهن المجتهد '' . والخفي : '' وهو ما خفي مما تبادر '' ، ويقال له : ( الاستحسان ) .
انظر : [ شرح غاية السول لابن عبد الهادي 399 ، الإحكام للآمدي 4 \ 3 ، شرح جمع الجوامع للمحلي 2 \ 340 ، تيسير التحرير 4 \ 76 ، و 4 \ 78 ]
(27) فتاوى ابن الصلاح ص 69 ، ونسبه له ابن كثير في ( طبقات الفقهاء الشافعيين 2 \ 174 ) ، وابن السبكي في ( الطبقات الكبرى 2 \ 290 ) .

(28) قاله أبو إسحاق الإسفراييني [ نقله عنه في : فتاوى ابن الصلاح ص 67 ، وسير أعلام النبلاء 13 \ 105 ، وطبقات الشافعية الكبرى 2 \ 289 ] . وقاله أبو العباس القرطبي في ( المفهم 1 \ 543 ) .
(29) قاله أبو بكر الباقلاني نقله أبو العباس القرطبي في ( المفهم 1 \ 543 ) ، والجويني في ( نهاية المطلب - في باب السرقة - ) ، ونقله عنه ابن السبكي في ( الطبقات الكبرى 2 \ 289 ) .

(30) قاله الجويني في ( البرهان 2 \ 818 ) ، وأبو بكر الباقلاني ( وعنه في المفهم 1 \ 543 ) ، والجصاص في ( الفصول 3 \ 296 ) ، والزركشي في ( البحر المحيط 4 \ 472 ) ، وانظر : سير أعلام النبلاء 13 \ 104 .
(31) قال الواسطي تلميذ الجبائي : '' من أراد أن يتناهى في الجهل فليتعرف الفقه على مذهب داود '' . [ بواسطة تحرير بعض المسائل ص 51 ] .
(32) نقل القاضي عياض عن بعض العلماء أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد المائتين ( المعيار المعرب 2 \ 491 ) .
وقال أبو بكر ابن العربي : '' إن ابن حزم كان في حماية الملوك لما كان يلقي إليهم من شبه البدع ، والشرك '' [ عارضة الأحوذي شرح حديث ( افتراق هذه الأمة ) ] .
وممن شبه الظاهرية بالخوارج ، والباطنية ، والروافض ( أبو بكر ابن العربي المالكي ) في كتابيه ( العواصم من القواصم ص 249 ، 257 - الطبعة الكاملة - ) ، و ( عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 10 \ 108 ) .
وشبههم بالخوارج بكر البشري [ الإحكام لابن حزم 1 \ 289 ] .
وانظر كلام ( أبي بكر الجصاص الحنفي ت 370 هـ ) في ( الفصول في الأصول ص 64 - طبعة لاهور باكستان - ) . و ( رسالة في الرد على الهاتف من بعد ، لابن حزم ص 122 ) .
(33) من ذلك قول الصاوي : '' الأخذ بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر '' .
(34) انظر الخلاف بين القائسين في دخول القياس في هذه المسائل في المصادر التالية : نشر البنود 2 \ 112 ، الإحكام للآمدي 3 \ 196 ، شرح الكوكب المنير 4 \ 20 .

(35) تقدم التفريق بين تقسيم الشافعية ، والحنفية عند ذكر هذا القول مع الأقوال ، وتبين أن المراد تقسيم الشافعية .
(36) وهو ما روى مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : '' الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل سواء بسواء ، يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد '' .
(37) قاله ابن عقيل في كتابه ( عمد الأدلة ) ، ونقله المرداوي في ( الإنصاف 12 \ 17 ) ونسب هذا القول لمذهب طاوس ، وقتادة ، وجماعة .