يا للهول ..... إنجيل سري لمرقص ؟!!!

في عام 1958م طلب البروفيسور مورتون سميث بروفيسور علم اللاهوت المسيحي في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة إلى دير مار صابا[ الواقع جنوب شرق مدينة القدس ] ليستفاد بخبرته في فهرسة وترتيب الكتب الموجودة بالدير التاريخي وهناك وجد العديد من المخطوطات النفيسة والتي كان يظن أنها قد فقدت منذ زمن بعيد والكثير منها كان باللغة اليونانية ،، وكان من بين ما وجد ثلاث صفحات باليونانية في آخر إحدى المخطوطات كتب عليها " رسالة من كليمنتس السكندري إلى تيودور " ذكر فيها شيء غريب ومفزع ...

" الإنجيل السري لمرقص " ما هذا ؟ لم يعرف العالم المسيحي لقرون عديدة إلا إنجيل مرقص الوارد في العهد الجديد ولكن كليمنتس يقتبس من ذلك الإنجيل مصححا لصديقه تيودور بعض الأقوال التي وردت في نسخة من ذلك الإنجيل تسربت لطائفة تدعى بالقربقراطيين [ قامت بتحريف ذلك الإنجيل السري وفقاً لمعتقداتها كما سنبين لاحقا ً ]


ما قيمة هذه الرسالة؟

إنها شهادة من كلمنت السكندري على كيفية كتابة مرقص كاتب أحد الأناجيل الأربعة المعتمدة لدى الكنيسة لإنجيله وقيمة تلك الشهادة عالية جداً فكليمنت يعتبر من الطليعة الأولى للمسيحيين وعاش في زمن لا يبعد إلا بسنوات قلائل عن كتبة الإنجيل

ورد في موسوعة ماكميلان البريطانية The Macmillan Encyclopedia الصادرة عام 1980م ما يأتي :
كليمنت السكندري Clement of Alexandria [ عاش من عام 150م إلى 215م ] عالم لاهوت مسيحي يوناني ، ولد على الأرجح في أثينا ، ودرس المسيحية في الإسكندرية والتي أصبح فيما بعد رئيساً لكنيستها عام 190م وخلفه تلميذه أوريجانوس بعد أن اضطر للهروب من الإسكندرية بسبب الاضطهاد الروماني


تأثرت كتابات كليمنت بالفلسفة اليونانية وتميز في استخدامه لتلك الفلسفة في شرح مفاهيم المسيحية المختلفة

والشيء الذي يجب توضيحه أيضا هي قيمة إنجيل مرقص فوفقا ً للمتخصصين في الدراسات المسيحية فإن إنجيل مرقص هو أقدم الأناجيل كتب على الأرجح بين عامي 65م و 70 م وليس فقط ذلك بل انه يعتبر مصدر رئيسي لكتبة إنجيلي كل من متى و لوقا والتي أثبتت الدراسات أنهما لا بد وقد استفادا من إنجيل مرقص في كتابة قصتهما عن المسيح ...والذي سيكشف لنا عنه الكثير بعد قراءتنا لهذه الرسالة الخطيرة

ملحوظة:

* الكتابة المظللة باللون الأسود في بعض الأقواس هي للإيضاح فقط وليست في النص الأصلي للرسالة
* نظرا ً للأهمية فقد ظللنا المواضع التي يقتبسها كلمنت من الإنجيل السري لمرقص باللون الأحمر أما بقية الاقتباسات التي أوردها كليمنت فهي بين الأقواس دونما تظليل وهي موجودة في نسخ الإنجيل الحالية


رسالة كليمنت السكندري إلى تيودور بخصوص الإنجيل السري لمرقص
إلى تيودور:

حسناً ما فعلت عندما قمت بإخراس التعاليم الواجب كتمانها للقربقراطيين [ طائفة غنوصية مسيحية ] لأن هؤلاء هم " النجوم الحائرة " التي تحدثت عنها النبوءة ، والذين ضلوا من الطريق الضيقة للوصايا [ يقصد الوصايا العشر للتوراة ] ووقعوا في دوامة سحيقة للخطايا الحيوانية والجسدية .

فهم يفخرون بما لديهم من معرفة ٍ ، على حد قولهم ، بأشياء عميقة للشيطان هم أنفسهم لا يعلمون أنهم بذلك يلقون بأنفسهم إلى عالم سفلي للظلام والأكاذيب ، ويفخرون بأنهم أحرار ، ولكنهم أصبحوا عبيداً لشهوات ٍ أذلتهم

إن أمثال هؤلاء يجب أن يعارضوا بكل السبل الممكنة ، وبشكل نهائي ، لأنه حتى وإن قالوا شيئاً صحيحاً فإن من يحب الحقيقة لا يجب أن يتفق معهم ، لأنه ليس كل الأشياء الحقيقية هي الحقيقة ولا حتى الحقيقة التى يراها البشر كذلك نقول عنها أنها حق لا شك فيه ، وهذا وفقاً للإيمان .

عن الأشياء التي دائماً ما يقولونها عن إنجيل مرقص الملهم من عند الرب ، فبعضها أكاذيب قطعاً ، والبعض الآخر – حتى ولو اشتملت على عناصر من الحقيقة – فإنهم لا يذكرونها بشكل صحيح حيث أنهم يخلطون ما هو حقيقي باختلاقات مزيفة تجعل – لو نظرنا إلى مجمل الكلام – حتى الملح يفقد طعمه
فالنسبة لمرقص – عندما كان بطرس مقيماً في روما – فإنه قام بكتابة قصة لأفعال الرب [ يقصد المسيح وفقاً للاعتقاد المسيحي] ، ولكنه لم يفصح عنها كاملة ولا حتى قام بالتلميح إلى الأسرار التي يعرفها ، ولكنه قام بانتقاء ما رآه مفيداً لزيادة إيمان الأشخاص المراد دعوتهم

ولكن عندما مات بطرس شهيداً فإن مرقص قد رحل إلى الإسكندرية محضراً معه كتاباته و كتابات بطرس أيضاً

والتي نقل منها إلى كتبه السابقة ما رآه مناسباً للسير نحو المعرفة .

وهكذا قام بتأليف إنجيل أكثر روحانية ليستخدمه أولئك المراد لهم الكمال ، ولكنه على الرغم من ذلك لم يقم بالكشف عن الأشياء التي لا يجب البوح بها ولم يكتب تعاليم الرب السرية [1] .

ولكنه أضاف المزيد من القصص إلى تلك المكتوبة مسبقاً ،وبخلاف ذلك ، أدخل بعض المقولات التي علم أنها تمتلك تفسيراً يجعلها بما لها من غموض تقود السامعين إلى قلب بناء الحقيقة المحجوبة بسبعة أحجبة

وهكذا فإنه في المحصلة قام بعمل تلك الأمور، في رأيي ، دونما طمع أو قلة حرص

وترك ذلك التأليف – في كتاب كتب من جهة الشمال [2]- في كنيسة الإسكندرية حيث يتم حراستها إلى هذا الوقت بمنتهى الحرص ، ولا يسمح بقراءتها إلا لأولئك المراد إطلاعهم على أعظم الأسرار .

ولكن حيث أن الأرواح الشريرة دائماً ما تخطط لدمار الجنس البشري ، فإن قربقراطيس بأمر منهم وباستخدام أساليبهم الخادعة ، قام بالاستحواذ [ يقصد عن طريق السحر ]على أحد رعاة الكنيسة في الإسكندرية وحصل منه على نسخة من الإنجيل السري والتي قام بتفسيرها وفقاً لعقيدته المجدفة [ يقصد الكافرة ] الشهوانية ، وأكثر من ذلك لوثها.. حيث قام بخلط الكلمات المقدسة التي لا غبار عليها مع أكاذيب ٍ مخزية ٍ قطعا ً ومن هذا المزيج تُستمَد ُ كل تعاليم القربقراطيين

لذلك وفقا ً لهم كما أوضحت سابقا ً لا يجب أن يتخلى أحدنا أبدا ً ولا حتى – عندما يعرضون أكاذيبهم – يستنتج أن هذا الإنجيل السري هو لمرقص ولكنه يجب أن ينكره وحتى أن يقسم على ذلك لأنه " ليس كل الأشياء الحقيقية يجب أن تقال لجميع الرجال "[3]

ولهذا السبب فإن حكمة الرب ، المعطاة لسليمان تقول " أجب الأحمق مستخدماً حماقته " معلما ً لنا كيف أن نور الحقيقة يجب أن يحجب عن أولئك الذين أعميت عقولهم ، والتي تقول أيضا ً " من لا يملك يجب أن

تؤخذ منه " [4] وأيضاً " دع الغبي هائماً في الظلمات "[5] ولكننا " أبناء النور " قد أنارنا " بزوغ فجر روح الرب من الأعالي " و " حيثما وجدت روح الرب " فإنها تقول " هنا الحرية " لأنه " كل الأشياء نقية لمن هو نقي " .


وإليك [ يا تيودور ] من أجل ذلك لن أتردد في إجابة الأسئلة التي سألتها [6] مفندا ً الأكاذيب تلك بكلمات ذلك الإنجيل السري نفسه [7]

فعلى سبيل المثال بعد قوله [8] (( وكانوا في الطريق الموصلة لأورشليم [9]))[10] وما بعد ذلك إلى قوله (( وبعد ثلاثة أيام سينهض من القبر )) [11] فإننا نجد في الإنجيل السري هذه الأمور كلمة بكلمة :


((ووصلوا إلى بيثانيا [12] حيث كانت هناك إحدى النساء قد مات عنها أخوها ، و جاءت حيث حنت نفسها أمام يسوع [13] وقالت له " يا بن داو ود[14] لتأخذك الرأفة بي " ولكن الحواريين نبذوها ، أما يسوع فقد غضب [15] وذهب معها إلى الحديقة التي كان بها الضريح وقام من فوره بمد يده إليه وأقامه [16] قابضا ً على يديه ، ولكن الشاب – عندما نظر إليه – أحبه وبدأ يرجوه أن يبقى معه . وعندما غادروا الضريح ذهبوا إلى منزل ذلك الشاب –لأنه كان غنيا ً [17]- وبعد ستة أيام أخبره يسوع بما يجب عليه أن يفعله وفي المساء أتاه الشاب مرتديا ً ثوبا ً من الكتان فوق جسده العاري وظل معه تلك الليلة ، حيث أخبره يسوع بأسرار ملكوت الله وبعد ذلك نهض وغادر إلى الجهة الأخرى من نهر الأردن ))[18]

إننا نجد هذه الكلمات في النص (( و أتى جيمس ويوحنا إليه )) وكل ذلك المقطع باستثناء (( رجل عار مع رجل عار )) والأشياء الأخرى التي كتبت بها إلي فإنها لا توجد في النص [19].
وبعد الكلمات التي هي (( و أتى إلى بيت لحم ))[20] فإننا نجد أن الإنجيل السري يضيف الآتي فقط :

(( وأخت الشاب التي اسمها سالومي الذي أحبه يسوع وأمه كانا هناك ، ولم يستقبلهما يسوع ))

ولكن الكثير من الأشياء التي كتبت عنها يبدوا أنها – وهي بالفعل- أكاذيب .


هذا آخر ما وجد من الرسالة

بعد قراءة هذه الرسالة فإننا نستنتج الآتي :أنها جاءت رداً من كليمنت على صديقه تيودور عندما أرسل الأخير له مستفسراً عن عبارات وردت في نسخة من إنجيل مرقص السري تسربت إلى طائفة من أتباع قربقراطيس تدعى بالقربقراطيين والذين قاموا بتعديلها لتفق مع أفكارهم وطقوسهم .

ويجدر بنا هنا أن نقول أن هذه الطائفة تأثرت بالثقافة اليونانية القديمة التي انتشر فيها الشذوذ فحاولت أن تفسر عبارات وردت في ذلك الإنجيل السري على أنها أوضاع للشذوذ

وهنا انبرى كليمنت السكندري راداً تلك الدعاوى الكاذبة – والتي نتفق معه بأنها ملفقة – ولم يجد بدا ً من أن يبين العبارات الأصلية في ذلك الإنجيل السري
ويكمن تفسير ذلك أنه كان أحد أوائل رؤساء كنيسة الإسكندرية [ تولى رئاستها بين عام 190م و202 م] ومثله طبعاً قادر على الوصول إلى تلك الكتابات المخفية.

ولكن هذا يثير تساؤلين مهمين :
أولهما هي أن الكنيسة قد دأبت على إخفاء الكثير من الكتب والأسفار عن جموع الشعب ربما لما بها من أقوال قد تؤدي لو علمت إلى ما يحمد عقباه من وجهة نظرها
ثانيهما وهو الأهم هي مصداقية مرقص ككاتب للإنجيل فرسالة كليمنت تبين أنه قد كتب ثلاثة كتب مختلفة لإنجيله

1- عندما كان في روما كتب النسخة المبدئية لإنجيله ونشرها بين المسيحيين الأوائل ولكنه استثنى بعض أقول المسيح التي رأى أنه يجب أن تكتم ربما لما لها من خطورة على المدعوين
2- بعد وفاة بطرس غادر روما إلى الإسكندرية آخذا معه كتاباته وكتابات بطرس والتي استفاد منها في كتابة إنجيل وصفه كليمنت بأنه أكثر روحانية !!! تم نشره أيضاً
3- وأخيراً قام بكتابة إنجيل ضمنه أقوال المسيح السرية ولكنه هذه المرة لم ينشره بين الناس ولكنه تركه في حوزة كنيسة الإسكندرية والتي عملت بكل السبل على منع تسربه خارجها

كل ما سبق يقودنا إلى النتيجة الآتية هو أن القول بأن كتابة الإنجيل كانت بإلهام من الله هي محض افتراء فكيف يكون الله قد ألهم شخصاً أن يعدل في إنجيله ثلاث مرات ولم يسمح على الإطلاق للناس بمعرفة بعض الأشياء عدا قلة قليلة من الصفوة التي تعاهدت على كتمانه فيما بعد
قال الله تعالى ((
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ)) [79] سورة البقرة
وقال تعالى ((
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ )){15}سورة المائدة

وأخيرا ً بقي أن ننوه أنه لا توجد الآن في العالم كله نسخة معروفة لهذا الإنجيل ...كل ما نعرفه عنه هو أنه وجد في وقت من الأوقات ومقطعين منه فقط ورد ذكرهما في الرسالة المذكورة سالفا ً ....وهل سنعثر عليه في يوم الأيام هذا ما لا يعرفه إلا الله وحده .




الهوامش:

[1] أي تعاليم المسيح السرية
[2] يعني باليونانية في مقابل العبرية والآرامية التي تكتب من جهة اليمين
[3] يبدوا أن سياسة الكتمان هذه قد استمرت قروناً طويلة بعد ذلك
[4] أي من لا يملك المعرفة لا يجب أن تصل إليه !!!
[5] يا لها من سياسة عظيمة في دعوة الناس ، ترى كم من الحقائق حجبت عن المسيحيين على مدى القرون ،،، مثل هذه الرسالة المكتشفة وغيرها تدل على أنه قد حجب الكثير من العلم بأوامر من كبار رجال الكنيسة
[6] طبعا ً فتيودور ممن يجوز أن تكشف لهم الأسرار لأنه رجل دين مثله ،،، أما العامة فلا . وهنا تبرز قيمة هذه الرسالة المكتشفة في إيضاح هذه النقطة
[7] يتضح هنا أن كليمنت رجل محظوظ إذ تمكن من الاطلاع على مثل هذا الإنجيل السري ،، وبعد قليل سيبدأ في الاقتباس منه
[8] أي في الإنجيل الخاص بطائفة القربقراطيين
9] أي القدس
[10] ترد هذه العبارة في النسخ الحالية للإنجيل في الإصحاح العاشر العدد 32 من إنجيل مرقص
[11] ترد هذه العبارة في النسخ الحالية للإنجيل في الإصحاح العاشر العدد 34 من إنجيل مرقص
[12] فرية بالقرب من القدس اسمها الحالي العيزارية
[13] ربما كان هذا الانحناء تحية في ذلك الزمان
[14] لأنه ينتهي نسبه إلى داو ود عليه السلام من جهة أمه
[15] من تصرف حوارييه لطردهم هذه المرأة
[16] أي أقام الميت من القبر ، وهي من معجزات عيسى التي ذكرها القرآن
[17] أي له من الغنى ما أمكنه من تملك منزل في حياته
[18] هذه العبارة يوافق كليمنتس على أنها وردت في الإنجيل السري لمرقص
[19] هنا ينفي كليمنت وجود هذا المقطع في إنجيل مرقص السري الذي بحوزته والموجود في الإنجيل السري لدى طائفة القربقراطيين وهي طائفة غنوصية تبنت تعاليم الفكر اليوناني الذي كان يسمح بالشذوذ ولذلك عدلت الإنجيل ليتفق مع أفكارها تلك
[20] ترد هذه العبارة في النسخ الحالية للإنجيل في الإصحاح العاشر العدد 46 من إنجيل مرقص

المصدر: جيران / إسلام جلوب