كَلمَاتٌ في علم المناظرة وآداب الحِجاج مع أهل المِلل
الحمد للواحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد سبحانه، ثمّ أمّا بعد؛
إن الحِجاج في الدين والجدال بالحق ليسَا من شؤون السفهاء ولا مطايا أهل الجدل العقيم، بل هما من الفنون الشرعية التي جُبِلت على سناها عقولُ العلماء، ومُهرت فيها أقلامُ الفقهاء، وارتفعت بها مقاماتُ الدعاة الربانيين.
إنّ "علم الجدل" أو "علم المناظرة"، هو فنٌّ من الفنون العالية التي تروم إقامة الحجة وإزهاق الباطل وتثبيت العقيدة في عقول الناظرين؛ وقد جاء في الذكر الحكيم: ((ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل: 125]؛ فدلّ الخطاب الرباني على أن المجادلة ليست محرّمة بإطلاق، بل تُطلَبُ حيثما كان المقام مقام بيانٍ وردٍّ على شبهة، على أن تُضبَط بضوابط الشرع وأخلاقه.
وقد دوّن علماء الإسلام هذا الفنّ في مدونات نفيسة، منها "الاعتصام" للشاطبي، و"الجواب الصحيح" لابن تيمية -رحمة الله عليهما-، وغيرهما من ذخائر التراث التي تعجّ بالحِجاج النزيه، والردود المحكمة، وصرامة المنطق المتشح بحياء النبوّة.
ومِن المُهمّ إدراك كون المناظرة ليست نِزالاً صفيقاً ولا صخباً في ميادين الغوغاء، وإنما هي عبادة بالنية وذِكرٌ باللسان وجهادٌ بالحُجّة، ولها من الآداب الكثير، على رأسها:
1. الإخلاص لله تعالى: فإن من جادل رياءً أو فجوراً، أو ابتغاء العلوّ في الأرض، فقد خاب مسعاه، وإن ظفر.
2. العدل مع الخصم، ولو كافراً: إذ يقول تعالى: ((وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)) [المائدة: 8].
3. تحري العلم، والبعد عن الجهالة والتعصّب: فكم من فتنة أشعلتها الجهالات، وكم من مهتدٍ استجاب للحق بلسان عليم.
4. تجنّب السباب والطعن الشخصي: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)(1)
5. تفنيد الحجة بالحجة، لا بالاستهزاء: فالداعية طبيبٌ رحيم، لا جلاّد غليظ، إلاّ لِمَن عدَل؛ فحينها بحُجّة دامغة، لا بسواها مما لا يرتضيه الله تعالى.
وإذا بان لك أنّ الحِجاج من معارج الدّين ومصاعد العارفين، فاعلمْ -يرحمك الله- أنّ الخصوم لا يستوون ولا يَنتظمون في سلكٍ واحد، بل يتباينون كما تتفاوت المعادن وتختلف المشارب والمقاصد، ولكلٍّ منهم مذهبٌ في الإنكار، ومسلكٌ في المعارضة، يستوجبُ نهجًا مخصوصاً في المحاورة والردّ:
1. طالبُ الحقّ: طالبُ الحقّ المتجرّد عن الهوى، المتشوّق إلى الهدى، الذي ما حمله على النّقاش إلا همّة البحث، ولا قاده إلى الاعتراض إلا ظمأ الاسترشاد؛ فهذا يُستقبل بالبِشر، وتُبسَط له الموعظة الرقيقة، وتُهدى إليه الحجّة الباهرة، وتُدرَج له الأدلة شيئًا فشيئًا، على سبيل التلطف والتدرّج، إذ قلبه كالأرض الطيّبة، إذا أصابها الغيث أنبتت زرعاً نافعاً، ومقاله يرشّح بالإصغاء، ويشهد عليه سَمْتُ التواضع؛ وقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: «مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا أَحْبَبْتُ أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ، وَيَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنَ اللَّهِ وَحِفْظٌ. وَمَا نَاظَرْتُ أَحَدًا إِلَّا وَلَمْ أُبَالِ بَيَّنَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِي أَوْ لِسَانِهِ» (2)
2. المقلّد الجاهل: المقلّد الجاهل، الذي أُشرِب في قلبه التعصّب، ونُكّت في فؤاده الجمود، فصار أسيرًا لآبائه وموروثاته، لا يُبصر موطن الدليل، ولا يُصغي إلى صوت الحجّة؛ وهذا تُعالَج شبهته بالتفكيك والتمهيد، لا بالاصطدام والتهديد، وتُرمى إليه الأنوار من مكامنها، رجاء أن ينحلّ قيدُ العادة من قلبه، وينفكَّ إسارُ التقليد من عقله، فإنّ الشدة تُغلق عليه المنافذ، وتهيج فيه العناد، والرفقُ أدعى لفتح مغاليق قلبه، كما يُفتَح القفل العتيق بمفتاح هادئ، لا بمطرقةٍ غليظة.
3. المُمارٍ اللجوج: المُمارٍ اللجوج الذي لا يبتغي إلا الغلبة، ولا يبتغي الحقَّ ولو ظهر له كالشمس في رابعة النهار؛ فهذا حريٌّ بالإعراض عنه بعد إقامة الحجة وقطع المعذرة، إذ مجادلته عبثٌ، والاشتغال به مَضيعةٌ، إلا أن يُخشى من تسلّط باطله على عقول العوام، فحينها يُجابَه بالحجّة القاطعة، والردّ المزلزل، ويُفضَح تهافته بمُحكم البرهان، كي لا يُفتَتن به الضعفاء؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: ((وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا وغرّتهم الحياة الدنيا)) [الأنعام: 70].
4. صاحب الشبهة الملبّسة: صاحب الشبهة الملبّسة والباطل المموّه، الذي لبس على الناس الحقّ، وصاغ الباطل في قوالب مزخرفة تُغري النفوس وتُلبس العقول؛ فهذا أخطرُ القوم، وأشدّهم ضررًا، إذ يجمع إلى الضلالِ فصاحةً وبياناً، وربما أعانته سطوة المنصب، أو شهرة الفكر؛ ومثله لا يُجابَه إلا بعلمٍ راسخ وبيانٍ فاضح يعرّي باطله، ويُظهر تهافته للناس، ويُفكّك زيف منطقه حجراً حجراً، فإنّ الناس ربما انخدعوا بزخرف القول، وإنما النجاة في البيان الصادع والموقف الحاسم.
5. الحاقد المتربّص: الحاقد المتربّص، الذي لا ينطق إلا نكايةً ولا يسأل إلا خداعًا، يُظهر غير ما يُبطن، ويسأل لا ليهتدي، بل ليضلّ ويُضلّ؛ فهذا يُعامَل بالحذر والصرامة، ويُكشف خبثُ طويّته للناس، فإنّ الجدال معه يُفسد أكثر مما يُصلح، والجواب عليه يُضرّ أكثر مما ينفع، وإنما يُردّ عليه بقدر الحاجة، ويُصانُ عنه عرضُ الدعوة، وتحفظ منه حرمات الدين.
ختامًا، ليس كلّ مخالف سواء، ولا كلّ مُجادل يُسلّ عليه سيفُ البيان على وجهٍ واحد، بل يُراعى حاله، وتُبنى عليه الخطة، كما يُراعى الطبيبُ مزاج المريض في وصف العلاج، والعاقل من عرف لكلّ مقامٍ مقالًا، ولكلّ خصمٍ خِطابًا، زادهُ التّقوى وشعاره: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله، على بصيرة أنا ومن اتّبعني)) [يوسف: 108].
_____________________
[1] الراوي: عبد الله بن مسعود | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الترمذي (1977) | خلاصة حكم المحدث: صحيح | التخريج: أخرجه الترمذي (1977) واللفظ له، وأحمد (3839).
[2] ص118 - كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - ط السعادة.