حول المصادر الفلسفية للاَّهوت المسيحي

تقليص

عن الكاتب

تقليص

أبو إسحاق النَّظَّام مسلم اكتشف المزيد حول أبو إسحاق النَّظَّام
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حول المصادر الفلسفية للاَّهوت المسيحي

    حول المصادر الفلسفية للاَّهوت المسيحي

    يظن عوامُّ المثقفين أن الأسس الفلسفية اللاهوتية للمسيحية من وضع بولس في البداية ثم إضافات أوجستينوس وتوماس أكويناس وغيرهم بعد ذلك، وهذا خطأ كبير، فأصحابُ تلك الأسماء اقتصر دورهم على تقديم اللاهوت المسيحي في صورة فلسفية، تلك الصورة الفلسفية لم تكن من وضعهم هم، لكنها كانت من وضع فلاسفة - وثنيين - سابقين على المسيحية مثل بلاتون (أفلاطون) ولاسيما نظريته في المُثُل وقِدم الأرواح وغيرها، لذلك فإن دراسة الفلسفة الأفلاطونية جزء أساسي من أجزاء المنهج التكويني في كليات اللاهوت، لا سيما الكاثوليكي، في جامعات الغرب. إضافة إلى أفلاطون استفاد اللاهوتيون بشكل أكبر ومركز من فيلسوف معاصر للمسيح لا يعرفه كثير من الناس لكنه ذو أثر خطير جداً على الفكر الفلسفي المسيحي وهو الفيلسوف اليهودي فيلوس ألكساندريوس (فيلون السكندري) صاحب نظرية اللوجس الشهيرة والتي تبناها يوحنان (يوحنا) اللاهوتي في انجيله وعليها مدار العقيدة المسيحية في جزءها الأول، وهي عقيدة التثليث. أما الفيلسوف الثالث من الفلاسفة الوثنيين الذين استخدم اللاهوتيين تعاليمهم لصياغة الفكر الفلسفي المسيحي فهو بلوتين (أفلوطين) أبرز مفكري المدرسة الأفلاطونية الحديثة والذي ولِد بعد عصر المسيح وعاش في مصر ثم في روما.

    هؤلاء الثلاثة هم الفلاسفة الحقيقيون للفلسفة اللاهوتية المسيحية (أرجو التفرقة بين اللاهوت المسيحي كتخصص ديني، وفلسفة اللاهوت المسيحي كتخصص فلسفي). أما اللاهوتيون المتقدمون كبولس الرسول أو يوحنان الإنجيلي أو آباء الكنيسة كأوجستينوس وبوئيثوس أثناسيوس السكندري، أو المدرسيون كتوماس أكويناس، ومارسيليو دي بادو وغيرهم فاقتصر دورهم على صياغة تلك التعاليم الفلسفية في قالب لاهوتي بسيط، وبرغم ذلك لم يتقبله العقلُ، مما دعى بتوماس أكويناس لصياغة نظريته الشهيرة في مذهب الحقيقة المزدوجة، والتي تزعم أن فكرة ما ربما لا يقبلها العقل وتكون برغم ذلك صحيحة لاهوتياً، وهي نظرية فاسدة الهدف منها ترويج اللاهوت المسيحي بين الناس على أساس أنه مسألة قلبية، ومازالت تلك النظرية الأكوينية سائدة في الأوساط الكنسية المختلفة إلى يومنا هذا.

    فإذا رجعنا إلى مثلث الفلاسفة المؤسسين لفلسفة اللاهوت المسيحي، أفلاطون وفيلون وأفلوطين، لوجدنا اثنين منهما قد عاشا في مصر، وهما فيلون وأفلوطين، مما يلقي بظلالٍ من الشك حول مدى استفادتهم من الفلسفة المصرية القديمة ولا سيما فلسفة الصليب وفلسفة الثالوث اوزوريس وايزيس وحورس بسميائيتهما الواضحة، لصياغة فكر تثليثي جديد تم تطويره وتطبيقه على الفكر المسيحي في صورة جديدة تستند على دعامتين تشكلان محور اللاهوت المسيحي وهما دعامة الأقانيم الثلاثة، أو الإله الواحد الجوهر المثلث الأقانيم، ودعامة الصلب والفداء.

    فيلون Philon

    ولِد فيلون يوديوس (أي: اليهودي)، ويعرف كذلك باسم فيلون ألكساندريوس (أي: الإسكندري) بمصر عام 20 قبل الميلاد، وتوفي عام 50 ميلادية، وهو بهذا يكون معاصراً ليسوع وبولس. سعى فيلون لإحداث مصالحة وتوفيق بين الفلسفة الكلاسيكية من جانب والعهد القديم اليهودي من جانب آخر، فخرج بنتائج عجيبة، فمثلاً:

    تقرر الفلسفة الكلاسيكية، لا سيما البلوتونية، مسألة قِدم وأزلية مادة العالم، بينما يقرر العهد القديم حدوث العالم نفسه، فأراد فيلون التوفيق بين المدرستين فقال إن الله أحدثَ العالمَ، لكن ليس من العدم، لكن من المادة الأزلية. جديرٌ بالذكر أن هناك آراء فلسفية إسلامية تتبنى هذا الرأي كرأي الفيلسوف ابن سينا مثلاً.

    أما الأثر الأكبر لفلسفة فيلون على اللاهوت المسيحي فيتجلى في قضية اللوجوس، إذ قام بتطوير علم اللوجوس الإلهي وعرض قضية تثليث الإله وفق نظريته تلك، فيرى فيلون أن خلق العالم حدث عن طريق الكلمة الإلهية، أي: اللوجوس، واصفاً تلك الكلمة بصفات محددة مثل: مثال المُثُل / قوة القوى / المبعوث الأعلى / الإله الثاني / الولد البكر للإله وغير ذلك من النعوت. وفق هذه الفلسفة يرى فيلون أن اللوجوس هو حلقة الوصل أو القنطرة بين الله والعالم.

    كما تأثرت المسيحية بفلسفة التثليث التي صاغها بلوتين في بدايات القرن الميلادي الثالث، فإنها تأثرت وبدرجة أعمق بفلسفة اللوجوس والتثليث الفيلوني في بدايات المسيحية، ويؤكد مؤرخو الفلسفة على أن فيلون ألسكاندريوس هو المؤسس الحقيقي لفلسفة التثليث المسيحية، تلك الفكرة التي تلقاها بولس الطرسوسي وقام بإلباسها ثوباً يسوعياً يشكل أحد أهم مرتكزات اللاهوت المسيحي البولِسِي.

    بلوتين (أفلوطين) Plotin

    لا يعرف أحدٌ على وجه الدقة شيئاً عن أصل أفلوطين، وكل ما هو معروف عنه بهذا الصدد - حسب علمي - أنه ولِد في مصر في عام 204 ميلادية، ونشأ وفق تقاليد يونانية خالصة، وتوفي بروما عام 270 ميلادية، وكان آخر مفكري العصر الروماني الكبار.

    تأثر بلوتين بالفلسفة الأفلاطونية وكان أول ما فعله بعد استقراره في روما أن أنشأ مدرسة فلسفية أفلاطونية وظل يدرس بها نحو عقداً أو عقدين (على اختلاف الكتاب) أسس خلالها قواعد الفلسفة الأفلاطونية الحديثة.

    يمكن تلخيص الفلسفة اللاهوتية لبلوتين في جمل محدودة حيث اعتقد في إلهٍ مثلث الأجزاء، وكان الثالوث البلوتيني يختلف عن الثالوث المسيحي في أمرين:

    - تكون الثالوث البلوتيني من "الواحد" و"الروح" و"النفس"، بينما تكون الثالوث المسيحي من "الأب" و"الإبن" و"الروح القدس".

    - مثَّلت أجزاء الثالوث البلوتيني درجات بعضها فوق بعض، بينما يمثل الثالوث المسيحي درجة واحدة من حيث الجوهر لكنها مثلثة الأقانيم.

    لكن يمكن القول - إجمالاً - أن اللاهوت المسيحي قد استفاد كثيراً من الفلسفة الأفلاطونية الحديثة التي كان بلوتين أبرز روادها، لذلك قال الفيلسوف الألماني الكبير البروفيسور فريدريش نيتشه (كتاب ضد المسيح): إن المسيحية هي أفلاطونية حديثة بالنسبة للشعب البسيط، وقد أكد ذلك المعنى الفيلسوف الألماني الكبير البروفيسور مارتين هايدجر في (كتاب نيتشه) وأستاذ فلسفة الدين البروفيسور جرابنر-هايدر.

    تندرج فلسفة بلوتين تحت إطار "الفلسفة الأفلاطونية الحديثة"، وهذه تندرج بدورها تحت الإطار العام للفلسفة الكلاسيكية أي "الفلسفة اليونانية والرومانية القيصرية"، وبين الإطارين توجد حلقة وصل تمثلها إرهاصات تقوم على دعامتين: الفلسفة البيتاجورسية "الفيثاغورسية" الحديثة وفلسفة فيلون ألكساندريوس. وإذ يقول المفكر الفرنسي مونتسكيو إن الإنسانَ ابنُ بيئته، فيمكننا إذن رصد البيئة الفكرية التي تولدت عنها فلسفة بلوتين بصفة عامة وفلسفته في التثليث بصفة خاصة، وهي بيئة ذات ثلاث شُعب، هي: (1) الفلسفة الكلاسيكية عموماً والأفلاطونية خصوصاً. (2) فلسفة فيلون ألكساندريوس. (2) الفلسفة المصرية الدينية القديمة.

    أما عن المسيحية الحالية فأقول:

    المسيحية بصورتها الحالية لا تمثلُ ديناً، لكنها تمثلُ فلسفةً بكل ما تحمله الكلمة من معاني، وهي نسخة مبسطة متولدة عن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، وما أدق وصف الفيلسوف الألماني الوجودي نيتشه للمسيحية حينما أشار - كما ذكرتُ أعلاه - إلى أن المسيحية تمثلُ الصورة الشعبية المبسطة للفلسفة الأفلاطونية الحديثة، وهذا ما دعا آباء الكنيسة ومفكريها، وتحديداً قديس الكاثوليك توماس الأكويني إلى ابتكار حيلة أو مخدر لتمرير تناقضات المسيحية على عقول البسطاء فوضع مذهب الحقيقة المزدوجة، لذلك فإنك كثيراً ما تسمع من اللاهوتيين، فضلاً عن العوام بطبيعة الحال، إقرارهم بامتناع اللاهوت المسيحي على العقل، ومع ذلك فإنهم يقبلونه باعتباره حالة قلبية إيمانياً، لذلك فإني أتفهم تماماً قول الفيلسوف الألماني المادي الكبير كارل ماركس: "الدين أفيون الشعوب"، إلا إنني أعدِّل عبارته لتصبح: "المسيحية البُولِسِية أفيونُ الشعوب"، وما تحرر الغربُ إلا حينما ألقى الجدل اللاهوتي المسيحي وراء ظهره.
    كَتَبَه:

    أبو إسحاق النَّظَّام

    _________


    (لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) (محمد : 19)


    (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) (الفتح : 29)

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 19 مار, 2024, 03:34 ص
ردود 0
21 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
 
ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 11 مار, 2024, 01:39 ص
رد 1
31 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
 
ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 4 ينا, 2024, 02:46 ص
ردود 2
27 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
 
ابتدأ بواسطة رمضان الخضرى, 18 ديس, 2023, 02:45 م
ردود 0
104 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة رمضان الخضرى  
ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 21 سبت, 2023, 02:21 ص
ردود 0
99 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
 
يعمل...
X