الجدل الثقافي بين المسلمين والنصارى في عهد الحروب الصليبية

تقليص

عن الكاتب

تقليص

Ahmed_Negm اكتشف المزيد حول Ahmed_Negm
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الجدل الثقافي بين المسلمين والنصارى في عهد الحروب الصليبية

    الجدل الثقافي بين المسلمين والنصارى في عهد الحروب الصليبية

    الاربعاء 28 ربيع الأول 1430 الموافق 25 مارس 2009


    د. علي محمد الصلابي

    إن من خصائص الدعوة الإسلامية عالميتها، وقد وردت آيات كثيرة تدل على ذلك منها:
    - بعض الآيات التي ورد فيها لفظ "العالمين"
    قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). [الأنبياء: 107] أي: وما أرسلناك يا محمد بالشرائع والأحكام إلاّ رحمة لجميع الناس (1).
    وقال سبحانه: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً).[الفرقان:1]: أي ليكون محمد لجميع الجن والإنس (2).
    - وقال تعالى: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) [الأنعام: 90].
    - وقال: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ). (التكوير: 26-27) إلى غير ذلك من الآيات، ووجه الاستدلال لهذه الآيات ظاهر من جهة كون الإنس والجن هم المكلفون من العالمين، فالدعوة، إذن متوجهة إليهما (3).
    - بعض الآيات التي ورد فيها لفظ "الناس": قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف: 158] أي قل يا محمد للناس كلهم "إني رسول الله إليكم جميعاً" لا إلى بعضكم دون بعض، كما كان من قبلي من الرسل (4) وقال أبو السعود. لما حكي ما في الكتابين من نعوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشرف من يتبعه من أهلها ونيلهم لسعادة الدارين، أُمر عليه الصلاة والسلام ببيان أن تلك السعادة غير مختصة بهم بل شاملة لكل من يتبعه كائناً من كان، ببيان عموم رسالته للثقلين (5) والآيات أيضاً، قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ). [النساء: 174] وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ). [يونس: 108]. وقوله: (هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ). [إبراهيم: 52] إلى غير ذلك، ووجه الاستدلال بهذه الآيات هو توجيه الخطاب في عموم الناس (6).
    وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً). [سبأ: 28]. وغير ذلك من الآيات التي تدل على عموم الرسالة الإسلامية.
    - الأحاديث التي تدل على عالمية الدعوة الإسلامية: ورد الكثير من الأحاديث التي تدل على عالمية الدعوة الإسلامية منها حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه: خاصة وبعثت إلى الناس كافة" (7)، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأُرسلت إلى الخلق كافة وخُتم بي النبيوّن" (8)، وأيضاً حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله وسلم- قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار" (9)، ودلت السنة كذلك على شمول دعوته صلى الله عليه وسلم للجن، فمن ذلك ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله: (فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد (10). فهذا الحديث يدل على مخاطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجن، وقراءته القرآن عليهم، وإنصاتهم له، وإيمانهم بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم، والتي من أعظمها الإسلام (11) وفعله صلى الله عليه وسلم كذلك يدل على عالمية الدعوة؛ فبعد دعوته عليه الصلاة والسلام لقومه "وعشيرته الأقربين أخذ يعرض نفسه على القبائل في أسواق العرب وفي المواسم، فعن رجل من بني مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سوق ذي المجاز يتخللها يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلاّ الله تفلحوا (12)، ثم إرساله الكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وإلى قيصر، وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى (13).
    - فعل الصحابة -رضي الله عنهم- بعده صلى الله عليه وسلم: فبعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- واستلام أبي بكر -رضي الله عنه- الخلافة، وبعد قضائه على فتنة الردة في السنة الحادية عشرة من الهجرة بدأ بالفتوحات الإسلامية نشراً للدعوة؛ إذ أرسل الجيوش إلى العراق ضد الدول الفارسية وإلى الشام ضد الروم، ثم متابعة ذلك من قبل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ومن بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد امتدت الدولة الإسلامية من حدود الصين إلى طرابلس الغرب شرقاً وغرباً، ومن أرمينية إلى اليمن شمالاً وجنوباً، ولما ارتضى سبحانه وتعالى دين الإسلام للثقلين الإنس والجن، وكانت الدعوة الإسلامية متوجهة كما سبق إيضاحه، لذلك ميّز جلّ وعلا هذا الدين؛ لكي يصلح لهذه العالمية بمميزات أهمها:
    1- سلامته من التحريف بحفظ الكتاب والسنة: قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). [الحجر: 9].
    2- شموله الموضوعي والزماني والمكاني: والمقصود بالشمول الموضوعي أي وفاؤه بجميع حاجات الإنسان الاعتقادية والعملية قال سبحانه وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 3] وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ). [النحل: 89].
    3- الوسطية: قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). [البقرة: 143].
    4- أنه دين الفطرة: فكل إنسان يولد مستعداً لقبول الإسلام مهيأ له قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه".
    5- الكمال، وكذلك الوضوح (14).
    أولاً: أهمية دعوة النصارى إلى الإسلام:
    يمكن أن نبرز أهمية دعوة النصارى خاصة من خلال النقاط الآتية:
    1- توجيه الخطاب في القرآن في كثير من الآيات لأهل الكتاب وتخصيصهم في ذلك أمراً لهم بالتوحيد أو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو بياناً لتحريفهم الكلام عن مواضعه، أو رداً على شبههم أو غير ذلك، ومن هذه الآيات قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ). [آل عمران: 64] وقوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ). [آل عمران:71] إلى غير ذلك من الآيات، ولا شك أن النصارى من أهل الكتاب.
    2- حث القرآن على مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن كما قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). [العنكبوت: 46] – بالجميل من القول وهو الدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه (15)، وذلك تقديراً لما عندهم من بقية أثر الرسل (16).
    3- تخصيص القرآن للنصارى وتوجيه الخطاب لهم وذلك في قوله تعالى: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ). [المائدة: 47]، قيل: هذا أمر للنصارى الآن بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم (17).
    4- تخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل الكتاب في كثير من الأحاديث دعوة لهم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار". (18)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لهم أجران: "رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم". (19).
    5- تميز أسلوب النبي -صلى الله عليه وسلم- لدعوة أهل الكتاب بمراعاة التدرج حسب الأهمية، وذلك في وصيته لمعاذ بن جبل حينما أرسله إلى اليمن؛ إذ قال له صلى الله عليه وسلم: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلاّ الله ... إلى أن قال: فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" (20).
    6- تخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- للنصارى في الدعوة كما في قصة وفد نصارى نجران (21).
    7- عناية الإسلام بمعاملة أهل الذمة سواء كانوا يهوداً أو نصارى، فقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرمة ذمة المعاهد، ووجوب الوفاء له قال صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً" (22) وحرم الإسلام ظلم المعاهد، أو تكليفه فوق طاقته، أو أخذ شيء من ماله بغير طيب نفس، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" (23)، وأباح الزواج منهم، وأحلّ الله طعامهم.
    8- إن دين النصارى دين عالمي – بمعنى أنه يعده أتباعه ديناً للبشرية جمعاء، ولذلك ينشطون في الدعوة إليه، بعكس كثير من الديانات والمذاهب الأخرى التي يراها أتباعها ديناً لهم وحدهم، ولذلك لا يسعون لنشرها، كاليهودية والهندوسية، وعلى ذلك ففي دعوة النصارى واهتداء البعض منهم حد لانتشار النصرانية في مجتمعات غير نصرانية، ومن ثم إتاحة الفرصة لنشر الإسلام في مثل هذه المجتمعات.
    9- كون النصارى ذوي قوة وكثرة وانتشار في الوقت الحاضر وكثير من المجتمعات غير النصرانية تسعى لتقليدهم ومتابعتهم منخدعة بما بلغوه من حضارة مادية وقوة عسكرية، وبهداية هؤلاء النصارى أو البعض منهم، وهم بهذا النفوذ بالنسبة للعالم سوف يكون في ذلك صلاح أقوام كثيرين كانوا يرونهم المثال لهم.
    10- أن أكثر الشبه تثار حول الإسلام خصوصاً في الوقت الحاضر إنما هي من قبلهم وباهتداء البعض منهم فيه ردّ على مثل هذه الشبه.
    11- إن اهتداء بعض النصارى يساعد كثيراً في فضح باطل إخوانهم السابقين في الديانة، لخبرتهم فيها، وما في ذلك من مساعدة للدعاة ودعم لجهودهم.
    12- إن حروب المسلمين في أغلب فترات التاريخ الإسلامي كانت مع النصارى، كحروب المسلمين في الأندلس، وصقلية، والحروب الصليبية في الشام ومصر، بل لا تزال هذه الحروب مستمرة في بعض الجهات من العالم، وباهتداء بعض النصارى يساعد ذلك في كشف عدوان إخوانهم السابقين في الديانة، وربما يساعد في إزالة ذلك العدوان (24).
    13- وبالإضافة إلى ما سبق، فإن النصارى أهل ملة سماوية قبل أن يطرأ عليها النسخ والتحريف، وهي آخر الملل قبل رسالة الإسلام، وفي كتبهم من البشارات بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا تصدى المختصون لإبراز هذه البشارات وشرحها فربما يكون ذلك سبباً في إسلام الكثيرين منهم، بل ويكون هؤلاء أيضاً عوناً في دعوة بني ملتهم السابقة (25).
    ثانياً: أهم موضوعات دعوة المسلمين للنصارى:
    اتجهت جهود المسلمين في دعوتهم للنصارى في هذه الفترة إلى معالجة الموضوعات الأساسية في الدين الإسلامي، وذلك بالدعوة إلى أصول الدين وأسسه التي لا يتم إسلامهم إلاّ بها، كالتوحيد، والتصديق بالقرآن، وقبول الإسلام بعمومه، والإيمان بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- والإقرار بنبوّة عيسى -عليه السلام- ونفي ألوهيّته وإليك شيء من التفصيل:
    1- الدعوة إلى التوحيد: كان أمر التوحيد أهم أمور العقيدة الإسلامية التي دعا المسلمون النصارى إليها في فترة الحروب الصليبية، وذلك من خلال الدعوة المباشرة بالحث على توحيد الله سبحانه وتعالى ونفي الشريك عنه، أو من خلال إبطال عقيدة التثليث، أو من خلال نفي الألوهية عن المسيح عليه السلام (26)، وقد جعل العلماء دعوة النصارى إلى التوحيد هي أولى ما تصرف فيه الهمم، حيث بين ذلك القرآن، وأكد على أهمية إقامة الأدلة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، ولهذه الغاية ألف كتاباً خاصاً بذلك سمّاه: أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية (27). وكثيراً ما تتكرر الدعوة إلى التوحيد في ثنايا مناقشات العلماء المسلمين للنصارى وردودهم عليهم، فمن ذلك مثلاً دعوة القرطبي لصاحب كتاب تثليث الوحدانية إلى نبذ الشرك وتوحيد الباري سبحانه وتعالى، وبيان براءة عيسى -عليه السلام- من تثليث النصارى، وأنه ما بلغهم إلاّ أن الله واحد فرد صمد لا شريك له سبحانه وتعالى (28)، وفي هذا السياق، وبعد أن عرض الجعفري شيئاً من الأدلة على توحيد الله سبحانه وتعالى من التوراة والإنجيل وجه كلامه إلى النصارى قائلاً: .. فمن أشرك مع الله غيره فقد كفر بالتوراة والإنجيل (29)، وكانت دعوة النصارى إلى التوحيد، بالإضافة إلى الطريقة المباشرة من خلال دعوتهم الصريحة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، ونفي الشريك عنه، كانت أيضاً من خلال إبطال عقائدهم الشركية المنافية للتوحيد، وذلك بإبطال عقيدة التثليث لديهم وهدمها وإبراز تناقضها، وكذلك من خلال نفي الألوهية عن المسيح -عليه السلام- وإقامة الأدلة المختلفة على ذلك (30).
    2- الدعوة إلى اعتناق الإسلام بشكل مجمل: كان من موضوعات دعوة المسلمين للنصارى في هذا الفترة دعوتهم إلى اعتناق الإسلام، أو من خلال ذكر الأدلة على صحته وبيان محاسنه، أو من خلال رد الشبه عن تشريعاته.
    أ‌- الدعوة المباشرة إلى اعتناق الإسلام: ومن الأمثلة على ذلك دعوة صلاح الدين لأرناط الصليبي الذي نقض الصلح مع المسلمين، فغدر بقافلة مسلمة قادمة من مصر إلى الشام، فلما ناشده أصحابها الله وذكروه بالصلح الذي بينه وبين المسلمين رد بكلام يتضمن الاستخفاف برسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك لما علم صلاح الدين أقسم إن ظفر به ليقتلنّه لاستخفافه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جيء بهذا الصليبي مع الأسرى بعد معركة حطين في منتصف شوال سنة 583هـ، ذكّره صلاح الدين بما صدر منه، ثم عرض عليه الإسلام فأبى فقتله (31)، والشاهد من ذلك هو عرض الإسلام على هذا القائد الصليبي ودعوته إلى اعتناقه، ومثل ذلك عرض الإسلام على صاحب صيدا، وقد شهد ذلك ابن شداد حيث قال : ... ولقد رأيته وقد دخل عليه صاحب صيدا بالناصرة، فاحترمه وأكرمه، وأكل معه الطعام، ومع ذلك عرض عليه الإسلام فذكر له طرفاً من محاسنه، وحثه عليه (32) ومن نماذج عرض الإسلام على النصارى في هذه الفترة ودعوتهم إلى اعتناقه استغلال صلاح الدين للقاءاته بوفود الفرنج لإيضاح محاسن الإسلام ثم دعوتهم إليه (33)، وقد بين الجعفري أن من أسباب تأليفه كتاب – تخجيل من حرف التوراة والإنجيل – هو دعوة النصارى إلى الإسلام، حيث قال: فعسى الله أن يقدر هداية بعضهم، ونحن مأمورون بدعائهم إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة (34) وتكرر في ثنايا مناقشة القرطبي لكتاب أحد القساوسة النصارى دعوته لهذا القسيس إلى اعتناق الإسلام، ومن ذلك قوله: .. فالله الله، أدرك بقية نفسك قبل حلول رمسك، واستعمل عقلك، ولا تعوّل على تقليد فاسد، واتبع الدين القويم، دين الأب إبراهيم (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). (35) [آل عمران: 67]، وفي موضع آخر من مناقشته لهذا القسيس في كتابه: الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام بيّن له أنه لولا رجاء استنقاذه من الضلال إلى الهدى لما ناقشه، ولما أعطى الحكمة إلى غير أهلها، حيث يقول:... فلعل مقلب القلوب يستنقذك من عبادة إله مصلوب، ويبدلك بها إخلاص العبادة لعلاّم الغيوب، ولولا رجاء ذلك لما كان ينبغي لي أن أعطي الحكمة غير أهلها (36).
    ب‌- الدعوة إلى الإسلام من خلال بيان محاسنه: اهتم العلماء المسلمون في عصر الحروب الصليبية ببيان محاسن الإسلام وسماحته لعل ذلك يكون للهداية واعتناق الإسلام، ومن هؤلاء: القرطبي الذي عقد فصلاً في كتابه – الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام – مبيناً فيه محاسن الإسلام ومبرزاً الهدف من ذلك بقوله: الغرض من هذا الفن أن نبيّن فيه عقيدة الإسلام، وجملاً من أصوله وأحكامه، ومواضع من فروع دينه أنكرتها النصارى عليه، وإنما فعلنا ذلك لغرضين (37)، ثم وضح أن أحد الغرضين هو: .. إنه لا يبعد أن يقف على هذا الكتاب نصراني أو يهودي لم يسمع قط من ديننا تفصيلاً ولا تصريحاً، بل إنما سمع له سبّاً وتقبيحاً، فأردت أن أسرده على الجملة، ليتبين حسنه لمن كان ذكي العقل، صحيح الفطرة، فلعل ذلك يكون سبب هداه، وجلاء عماه (38)، وبعد ذلك عرض القرطبي شيئاً من محاسن الإسلام من خلال ثلاثة جوانب هي:
    - مراعاته لمصالح العباد في الآخرة: إذ جاءت تشريعاته بإيضاح كل ما يتعلق بها مما يحتاج إليه العباد وغاية الوضوح، وتعبدنا الله سبحانه وتعالى بعبادة محصنة، كالصلاة والحج وغير ذلك تعظيماً له سبحانه وتعالى، وخضوعاً له بالظاهر والباطن (39).
    - مراعاته لمصالح العباد الدنيوية: فجاءت تشريعاته في هذا الجانب حماية للدين، والنفس والمال، والنسب، والعرض والعقل، ولأجل ذلك شرع العقوبات، وحرّم كل ما يؤثر على هذه الضرورات كالغيبة، والقذف، وقول الزور، والغش والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، وحرم الخمر؛ لأنها تذهب العقل الذي هو مناط التكليف وغير ذلك من أنـواع الفساد (40).
    - إتمامه لمكارم الأخلاق: يقول القرطبي: .. وأما مكارم الأخلاق التي تضمنها شرعنا فلا تخفى على متأمّل، وذلك أن شرعنا أمرنا بها ظاهراً وباطناً، ونهانا عن رذائلها وسفاسفها (41) ثم وضح القرطبي أمثلة على مكارم الأخلاق في الإسلام، هذه المكارم التي تسعى للتحلي بها كل نفس طاهرة، محبة للخير، مبغضة للشر، فمن المكارم الظاهرة عدّد القرطبي النظافة والطهارة والتطيب وتحسين الهيئة وقص الشارب، وإعفاء اللحية، وغير ذلك، وبين أن من النظافة الباطنية التخلي عن مذموم الأخلاق كالغضب، والحسد، والبخل، ومهانة النفس، والكبر، والرياء والتحلي بالأخلاق المحمودة كالتوبة من المعاصي، وحسن الصحبة، والنصيحة، والعدل، والتواضع، والإخلاص، والصبر، والصدق، والتوكل، ومحبة الله ورسله إلى غير ذلك (42). وأخيراً أكّد القرطبي على أن المتدبر لهذه المحاسن سيعلم من غير شك أنها حق من الله، وأن الذي جاء بها لا يجوز عليه الغلط والكذب، وعلى ذلك فلا يسعه إلاّ قبولها والإيمان بالذي دعا إليها وهو الإسلام (43).
    ج- الدعوة إلى الإسلام من خلال ردّ الشبه عن تشريعاته: قد يكون سبب عدم قبول الحق شبهة في ذهن المدعو، وبإزالة هذه الشبهة تزول العقبة، ويتحقق القبول، وهكذا الحال مع النصارى فإنما كانت كثير من الشبه التي يثيرها بعض مضليهم مانعة من العلماء في فترة الحروب الصليبية للذود عن الإسلام بدحض الشبه التي يروّج لها أئمة الضلال من النصارى، ومن الأمثلة على ذلك رسالة أحد القساوسة إلى أبي عبيدة الخزرجي التي تتضمن الكثير من الشبه والمفتريات حول تشريعات الإسلام، وردّ أبي عبيدة الخزرجي التي تتضمن الكثير من الشبه والمفتريات حول تشريعات الإسلام، وردّ أبي عبيدة على هذا القسيس داحضاً شبهه ومفترياته (44)، ومثله القرافي الذي عرض كثيراً من شبه النصارى في هذه الفترة وأبطلها (45).
    (1) فتح القدير، محمد علي الشوكاني (3/616).
    (2) جامع البيان للطبري نقلاً عن دعوة المسلمين للنصارى (1/849).
    (3) دعوة المسلمين في عصر الحروب الصليبية (1/50).
    (4) إرشاد العقل السليم (2/280).
    (5) المصدر نفسه.
    (6) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/851) جلّ هذا المبحث مختصر من هذا الكتاب.
    (7) البخاري رقم 335.
    (8) مسلم رقم 523.
    (9) مسلم رقم 523.
    (10) صحيح سنن الترمذي (3/342).
    (11) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/54).
    (12) مسند أحمد رقم 16023 صحيح لغيره.
    (13) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصَّليبية (1/54).
    (14) المصدر نفسه (1/56 إلى 61).
    (15) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/64).
    (16) المصدر نفسه (1/64).
    (17) الجامع لأحكام القرآن (3/136).
    (18) مسلم رقم 153.
    (19) البخاري رقم 97.
    (20) البخاري رقم 1496.
    (21) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/65).
    (22) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/66).
    (23) صحيح سنن أبي داود (2/261).
    (24) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/67).
    (25) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/68).
    (26) المصدر نفسه (1/174).
    (27) أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية ص 20، 21.
    (28) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 176.
    (29) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الصليبية (1/176).
    (30) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/176).
    (31) المصدر نفسه (1/178) النوادر السلطانية ص(130 – 131).
    (32) المصدر نفسه ص 66.
    (33) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/179).
    (34) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل صالح بن الحسين (1/103).
    (35) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 101.
    (36) المصدر نفسه ص 106.
    (37) دعوة المسلمين النصارى في عصر الحروب الصليبية (1/180).
    (38) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 438.
    (39) المصدر نفسه ص 439.
    (40) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 441.
    (41) المصدر نفسه ص 444.
    (42) المصدر نفسه ص 445.
    (43) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/182).
    (44) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/182).
    (45) المصدر (1/183).

    http://www.islamtoday.net/nawafeth/a...-40-110345.htm

  • #2
    أساليب دعوة النصارى للتصديق بالقرآن

    الثلاثاء 04 ربيع الثاني 1430 الموافق 31 مارس 2009
    د. علي محمد الصلابي



    3- الدعوة إلى الإيمان بالقرآن: أدرك العلماء في عصر الحروب الصليبية الخطر الذي تتعرض له الأمة من جراء تكالب أعدائها عليها، خصوصاً النصارى، وما يقومون به من حرب عسكرية وفكرية ضد الإسلام في هذه الفترة، وبالتحديد ما يثيرونه حول القرآن من شبهات، رغبة منهم في زعزعة ثقة الأمة بكتابها، لذلك اشتدت عنايتهم بكتاب الله دفاعاً عنه أولاً، ودعوة لهؤلاء النصارى ثانياً، وذلك بتفنيد مفترياتهم حوله، وتصحيح شبههم التي قد تمنع الكثيرين منهم من التصديق به، ولا شك أن التصديق بالقرآن والإيمان به يعني الدخول في الإسلام واعتناقه؛ إذ إن القرآن والسنة بيّنا كل ما يتعلق بهذا الدين من عقائد وتشريعات يجب على المسلم الالتزام بها، والقرآن قد أمر بالأخذ بالسنة، كما قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

    [الحشر: 7]. ومن ثم فإن تسليم النصارى بصحة القرآن واقتناعهم بذلك، وقبولهم لأوامره ونواهيه، يعني نبذهم لما هم عليه من عقائد باطلة ودخولهم في الإسلام، وكانت عناية الأمة في هذه الفترة بدعوة النصارى إلى الإيمان بالقرآن من خلال ما يلي:
    أ- عناية القرآن بخدمة كتاب الله بشكل عام: من خلال المؤلفات في تفسيره، أو قراءته، أو إيضاح غريبه، أو بيان محكمه ومتشابهه، أو ما يتعلق بناسخه ومنسوخه، أو أحكامه أو إبراز فضائله، أو بلاغته، أو إعرابه إلى غير ذلك، ولا شك أن هذه المؤلفات حول كتاب الله سبحانه وتعالى تساعد على فهمه وإيضاحه، ولا يخفى أثر ذلك في زيادة ترسيخ إيمان المسلمين بكتاب ربهم، ومن ثم صمودهم أمام شبهات أعدائهم من النصارى وغيرهم، كما أن هذه الدراسات حول كتاب الله قد تزيل غشاوة الجهل عن كثير من النصارى فيفهمون كتاب الله سبحانه، وقد يكون ذلك سبباً في إسلامهم (46).
    ب- عناية العلماء ببيان إعجاز القرآن الكريم بشكل عام وإبراز ذلك للنصارى بشكل خاص:
    إذ اعتنى العلماء في هذه الفترة ببيان إعجاز القرآن بشكل عام، فظهرت مؤلفات قصرت الحديث على هـذا الجانب، ككتاب البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن (47)، وكتاب التنبيه على إعجاز القرآن (48)، ولا يخفى أن إظهار إعجاز القرآن له أثر كبير في إقناع غير المسلمين، لذلك أبرز بعض العلماء هذا الجانب للنصارى من خلال عدة أمور منها:
    - إثبات إعجازه من خلال حفظه من التحريف والتبديل:
    وهذا من أعظم الإعجاز، وما كان ذلك ليتحقق لو وُكل حفظه إلى البشر، وقد أشار القرافي إلى حفظ الله سبحانه وتعالى لكتابه، وذلك بتهيئة أسباب ذلك، من العناية بجمعه، وألاّ يداخله غيره؛ حذراً مما وقع لأهل الكتاب، ثم نقله من السلف إلى الخلف نقلاً متواتراً، فصدق الله إذ يقول: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). [الحجر: 9]. (49).
    قال القرطبي حول هذه الآية "وإنّا له لحافظون" – من أن يُزاد فيه أو يُنقص منه (50)، وبين – رحمه الله تعالى – في
    كتابه "الإعلام" حفظ الله -سبحانه وتعالى- لكتابه مقابل التحريف والتبديل الذي جرى على التوراة والإنجيل (51)، ثم أورد أمثله على ذلك (52).
    - إثبات إعجازه ببيان فصاحته: وفي ذلك قال الخزرجي مخاطباً النصارى ومبيناً إعجاز القرآن بفصاحته، وأن العرب الأوائل – وهم الفصحاء – أقرّوا له بذلك: يلتفت إلى مقال العجم الجهلاء (53)، ثم وضّح أن العرب وقت نزول القرآن، وهم أشد أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان منهم ما كان من سبّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وإيذائهم، بل وحربهم ما تكلموا في فصاحته، وقد جرى لهم التحدي أن يأتوا بمثله كما قال تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء: 88]، فما استطاعوا ذلك، ثم كان التحدي بعشر سور كما قال سبحانه: (قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ). [هود: 13] حتى صار التحدي إلى سورة واحدة (قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ). [يونس: 38]، ومع ذلك عجزوا، ولن يستطيعوا لو حاولوا كما أخبر سبحانه: (وَلَن تَفْعَلُواْ)، وفي مناقشة القرطبي للنصارى في كتابه ا"لإعلام" بيّن أن فصاحة القرآن أمر لا يقبل الشك: حتى إن العاقل الفصيح إذا سمعه قال: ليس هذا من
    كلام البشر (54)، ثم وضح نماذج من إعجازه، كقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). [الأعراف: 199]. وكيف أن هذه الآية لما نزلت قال أبو جهل: إن رب محمد لفصيح (55)، ثم لفت القرطبي النظر إلى جوانب من الفصاحة في هذه الآية؛ إذ تضمنت أحكاماً وتفسير الحلال والحرام، والإعراض عن أهل الجهل والاجترام، والأمر بالتزام أخلاق الكرام، مع ما هي عليه من اللفظ الموجز الجزل الرصين (56)، ومثال آخر أورده القرطبي هو قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). [النحل: 90].
    وكيف أن الوليد بن المغيرة، لما سمع هذه الآية وهو من أفصح قريش، وكان من أشد أعداء الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق وأن أعلاه لمثمر مورق، وما يقول هذا بشر (57)، وقد جرت مناظرة بين أحد قساوسة بلنسية بالأندلس وأبي علي بن رشيق التغلبي، حول فصاحة القرآن، حيث بدأ القسيس يتكلم حول إعجاز القرآن، وأن العرب – وهم الفصحاء والبلغاء – عجزوا عن الإتيان بشيء مثله، وأن هذا التحدي باقٍ إلى آخر الدهر، فوافقه ابن رشيق على ذلك، بعد ذلك أفصح القسيس عما يريد الوصول إليه، فذكر كتاب المقامات للحريري مدّعياً أن الأدباء والشعراء، عجزوا عن معارضته، وأن
    الحريري قد أنشد بيتين اثنين في إحدى المقامات، وتحدّى أن يعززهما أحد بثالث، وإن السنين انصرفت وما أتى أحد بثالث لهما على الرغم من دَرْس الناس لتلك المقامات وتداولها بينهم، وانتهى إلى القول على ضوء ما سبق: أن ما أتى به الحريري كلام فصيح يصح أن يكون معجزة وليس هو بنبي، فإذا حصل ذلك فإن نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تثبت بمسألة التحدي المنصوص عليه بالقرآن، فلما أخذ ابن رشيق يرد عليه بالأدلة والبراهين العلمية، أخذ القسيس يرد عليه بقوله: قد سمعت هذا وناظرني فيه فلان، في تلك الأثناء انقدح في ذهن ابن رشيق بيت ثالث على شاكلة بيتي الحريري، فساقه للقسيس، الذي راح يفهمه لمن معه، وعند ذلك انقطعت حجة القسيس، وكـانت النتيجة كما يقول ابن رشيق: إنه انفصل عنهم وهُم كالمسلمين في انقطاع شبهتهم (58).
    - إثبات إعجازه يلفت النظر إلى طريقة نظمه وأسلوبه الغريب:
    وفي معرض مناقشة القرطبي للنصارى لفت أنظارهم إلى نظم القرآن وأسلوبه الغريب: ... والذي خالف به أسلوب كلام العرب، حتى كأنه ليس بينه وبينه نسب ولا سبب، فلا هو كمنظوم كلامهما فيكون شعراً موزوناً، ولا كمنثوره فيكون نثراً عرياً عن الفواصل محروماً، بل تشبه رؤوس آيته وفواصله قوافي النظم، ولا تدانيها، وتخالف آيه متفرقات النثر، وتناويها، فصار لذلك أسلوباً خارجاً عن كلامهم، ومنهاجاً خارجاً لعادة خطابهم (59). ثم ضرب القرطبي مثالاً على ذلك موجهاً إلى النصارى وهو قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً). [مريم: 16] إلى قوله تعالى: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً). [مريم:33]، طالباً منهم التأمل في معاني هذه الآيات، ولافتاً أنظارهم إلى نظمها البديع المنيف الذي عجزت العرب عن معارضته(60).
    - إعجاز القرآن بإخباره عن بعض المغيبات فتقع كما أخبر:
    ومن ذلك بيان الخزرجي لأحد القساوسة النصارى أن من إعجاز القرآن إخباره عن بعض المغيبات فتحصل كما أخبر، حيث أورد العديد من الأمثلة منها قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).[الروم: 1 – 6] فما كان بضع سنين حتى تحقق ذلك وغلبت الروم الفرس (61).
    ومثال آخر هو قوله تعالى: (َقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)[الفتح، آية:27]. فصدق وعده فدخلوا مكة وتحقق الفتح القريب وهو فتح خيبر (62). ومن الأمثلة التي أوردها الخزرجي قوله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ). [الأنفال:7].(63) فيظفر المسلمون بالنصر على قريش في بدر، وما كذب خبر القرآن، وبعد عدة أمثلة ذكرها الخزرجي على ذلك خاطب النصارى متعجباً من عدم تصديقهم بالقرآن، وبما جاء به على الرغم من إعجازه، وذلك بقوله: ومن أعجب الأشياء أنكم تؤمنون بنبوة مريم وحنة وهما امرأتان، بلا كتاب ومعجزة، ولا ذكرتا في صحف الأنبياء، وتكفرون بسيد المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم - وله كتاب يعجز الإنس والجن (64)
    وأكد القرطبي في رده على النصارى في كتابه "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام"أن الإخبار عن المغيبات في القرآن فتقع كما أخبر به من وجوه إعجازه (65)، ثم عرض أمثلة كثيرة على ذلك(66).
    وفي هذا السياق قال ابن الأنبارى: فإنه لما كان لا يجوز أن يقع ذلك على وجه الاتفاق دل على أنه من عند علاّم الغيوب(67)، ثم أورده أمثلة عديدة على ذلك(68).
    - إعجاز القرآن بإخباره عن بعض الأمم السابقة:
    تحدث القرطبي عن وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وهو ما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة التي يشهد العلماء بصحتها، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينل ذلك بتعليم بشري (69)، حيث أورد في رده على النصارى أمثلة على ذلك.خصوصاً ما كان يثيره أهل الكتاب في عهده -صلى الله عليه وسلم- من أسئلة ينزل القرآن مجيباً عليها، فما ينكرون منها شيئاً، مع شدة عداوتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحرصهم على تكذيبه ومن ذلك: سؤالهم عن الروح وعن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، وعن عيسى عليه السلام، وعن حكم الرجم، وعمّا حرم إسرائيل على نفسه، وغير ذلك من أمورهم، التي نزل القرآن مجيباً
    عنها فلم ينكروا منها شيئاً (70).
    ج- الدعوة إلى الإيمان بالقرآن من خلال رد الشبه التي أثيرت حوله:
    وما أكثر الشبه والمفتريات التي أثارها ويثيرها أعداء الإسلام على القرآن، عبر التاريخ الإسلامي وأعداء الإسلام من النصارى في فترة الحروب الصليبية رددوا شبه من كان قبلهم، وافتروا غيرها طعناً في الدين، وإضعافاً للمسلمين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وقد تصدى علماء الأمة في فترة الحروب الصليبية للرد على مطاعن النصارى ومفترياتهم حول كتاب الله، كالقرافي، والخزرجي، وابن الأنباري، وابن رشيق التغلبي، وغيرهم (71). ولا يخفى أثر إزالة الشبه في قبول الحق لدى من يمنعه من الهدى سوء فهم، أو تضليل معاند، يقول القرطبي في مقدمة نبذة كتبها عن محاسن الإسلام: .. إنه لا يبعد أن يقف على هذا الكتاب نصراني أو
    يهودي لم يسمع قط من ديننا تفصيلاً، ولا تصريحاً، بل إنما سمع له سباً وتقبيحاً، فأردت أن أسرده على الجملة، لتبيين حسنه لمن كان ذكي العقل صحيح الفطرة، فلعل ذلك أن يكون سبب هداه وجلاء عماه (72).
    س- الدعوة إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
    نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت ولا تزال أساس الحوارات والمناظرات التي تجري بين المسلمين وغيرهم؛ ففي الوقت الذي يسعى الدعاة المسلمون إلى الإقناع بصدقه صلى الله عليه وسلم، وصحة رسالته يسعى المعاندون إلى تكذيب ذلك بل وإثارة الشبه حول شخصه صلى الله عليه وسلم وحول رسالته، لذلك ما ترك علماء الأمة صغيرة ولا كبيرة في حياته صلى الله عليه وسلم إلاّ كتبوا عنها، وما غادروا شيئاً من أقواله وأفعاله إلاّ قيدوه وميزوا صحيحه من ضعيفه، فكتبوا في سيرته، ومغازيه، وأخلاقه، وشمائله، ومناقبه، وفضائله، وحقوقه ودلائل نبّوته، ومعجزاته، وهديه، وصنفوا في أقواله وأفعاله فظهرت الموسوعات الحديثية كالصحيحين والسنن والمسانيد، والمصنفات، وغيرها من كتب الحديث، فصار القارئ في أي جانب من هذه الجوانب المتعلقة به صلى الله عليه وسلم كأنه عاش معه لدقة ما نُقِل عنه، وفي عصر الحروب الصليبية كان من أهم الأمور التي دعا المسلمون النصارى إليها الإيمان بنبّوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا شك أن تصديق النصارى بذلك، وإيمانهم به يعني بالضرورة نبذهم لما هم عليه من الكفر والضلال والدخول في الإسلام، وقد كانت الدعوة إلى الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- من خلال إثبات نبوّته صلى الله عليه
    وسلم، ورد الشبه التي يثيرها النصارى حول شخصه أو نبوّته (73).
    وقد اتجه العلماء في هذه الفترة إلى إثبات نبّوته عليه الصلاة والسلام من خلال ما يلي:
    - من خلال تأليف الكتب عنه صلى الله عليه وسلم بشكل عام، خاصة ما يتعلق بدلائل نبّوته ومعجزاته، وشمائله وأخلاقه ومناقبه وفضائله والمؤلفات في ذلك كثيرة والحمد لله على ذلك.
    - من خلال المؤلفات الموجهة إلى النصارى وفي ثناياها الحديث عن نبوَّته صلى الله عليه وسلم وكانت طريقة العلماء في ذلك على النحو التالي:
    - إثبات نبّوته -صلى الله عليه وسلم- من خلال دعواه النبّوة، حيث وضّح الجعفري في كتابه الرد على النصارى أن مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ودعواه النبّوة أمر مقطوع به، قد ثبت عن طريق التواتر فلا يسوغ النزاع فيه، وإن من أنكر ذلك كمن جحد وجود بغداد ومكة (74).
    - إثبات نبّوتَه من خلال ذكر البشارات به صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل، وقد أسهب العلماء في هذه الفترة بذكر البشارات بمحمد -صلى الله عليه وسلم- من التوراة والإنجيل، وذلك إلزاماً للمعاندين من النصارى بما لا يستطيعون إنكاره وإيضاحاً لمن يجهل ذلك منهم، أو حال بينه وبين فهمه تضليل مبطل من قساوستهم، وقد ساق الجعفري مثلاً أربعاً وثمانين بشارة بنبوةّ محمد -صلى الله عليه وسلم- من التوراة والإنجيل، ويسرد القرافي إحدى وخمسين بشارة في كتابه الأجوبة الفاخرة، وقد أسهب الخزرجي والقرطبي والمتطبب في معـرض ردودهم على النصـارى بذكر البشارات به صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل (75).
    وقد انبرى كثير من علماء عصر الحروب الصليبية للرد على علماء النصارى الذين جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته غرضاً لهم، فاستفرغوا الوسع في تفنيد شبههم ورد باطلهم، انتصاراً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطمعاً في هداية من كانت مثل هذه الشبه حجاباً بينه وبين قبول الحق (76).
    ك- الدعوة إلى الإيمان بنبوة المسيح عليه السلام: .
    اعتنى الإسلام بالمسيح عيسى بن مريم -عليه السلام - بصفته أحد أولي العزم من الرسل، فجاء القرآن بتكريمه وأمه وحتى عائلته وصحح الأخطاء ورد الاتهامات والافتراءات الباطلة التي كان يوجهها اليهود والنصارى للمسيح وأمه. فمن تكريم القرآن للمسيح عليه السلام أن جاءت إحدى السور باسم عائلته، وهي سورة آل عمران، وسورة أخرى هي سورة مريم باسم أمه التي ورد اسمها في القرآن في مواضع كثيرة، كلها تتحدث عنها بكل التقدير والاحترام والتبجيل ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ
    اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ).[آل عمران:42] وقوله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ).[التحريم:12].
    وتحدث القرآن عن حياة المسيح منذ ولادته وحتى رفعه إلى السماء؛ فهو بشر مخلوق عبد للخالق عزّ وجل، قال تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ).[الزخرف:59]، وهو نبي ورسول من عند الله عز وجل، قال تعالى: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ). [المائدة:75]. والمسيح بارُّ بوالدته وليس بجبار ولا شقي قال تعالى :( وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ).[مريم:32].
    وهو قدوة صالحة في العبادة والإخلاص لله سبحانه وتعالى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً).[مريم: 30 -31].
    وقد أرسله الله إلى بني إسرائيل وأيده بالمعجزات التي منها إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ونزول المائدة من السماء، وغير ذلك قال تعالى: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ).(آل عمران:49].
    ولما بلغ رسالة ربه، وأراد به أعداؤه كيداً نجّاه الله من كيدهم فتوفاه ورفعه إليه (77).(إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ).[آل عمران:55].
    وقال سبحانه :(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ ).[النساء:157]. هذا هو مجمل اعتقاد المسلمين بالمسيح عليه السلام، وقد ضل النصارى في ذلك ضلالاً بعيداً بجعلهم المسيح عيسى عليه السلام ابناً لله، تعالى الله عن ذلك، قال سبحانه:(وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ).[التوبة:30]، بل ادعوا أن الله سبحانه هو المسيح بن مريم قال جلّ وعلا:(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).[المائدة:72].وقد كانت نبّوة المسيح -عليه السلام- منذ ظهور الإسلام إلى الوقت الحاضر من القضايا الرئيسة التي تناولها العلماء المسلمون في مناقشاتهم مع النصارى رجاء هدايتهم للحق في ذلك، وقد اعتنى العلماء في عصر الحروب الصليبية ببيان ذلك للنصارى ودعوتهم إلى الإيمان بنبوته عليه السلام، ونبذ معتقداتهم الباطلة حوله، وذلك من خلال ما يلي:
    - الدعوة إلى الإيمان بنبوّة المسيح -عليه السلام- من خلال بيان معتقد المسلمين فيه على الإجمال، فما كتب أحد من علماء عصر الحروب الصليبية في مناقشة النصارى إلاّ ووضح معتقد المسلمين في المسيح صلى الله عليه وسلم، ونعى على النصارى ضلالهم في ذلك. قال ابن الجوزي عند قوله تعالى: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ).[المائدة: 75]. فيه رد على اليهود في تكذيبهم رسالته، وعلى النصارى في ادّعائهم إلهيته والمعنى:أنه ليس بإله، وإنما حكمه حكمم من سبق من الرسل (78).
    وقال البغوي:أي ليس بإله، بل هو كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة (79).
    وقال الرازي:أي ما هو إلاّ رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبل (80)، وعند قوله تعالى :(كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ).[المائدة :75].قال: واعلم أن المقصود من ذلك الاستدلال على فساد قول النصارى (81). أي نفيهم نبّوته وادعاؤهم الألوهية له. وهكذا كل مفسري هذا العصر لم يغفلوا بيان عقيدة المسلمين في المسيح عليه السلام وفضح ضلال النصارى فيه، وذلك في تفسيرهم للآيات التي تتحدث عن عيسى -عليه السلام- أو النصارى بشكل عام (82). وبعد أن بين القرطبي حيرة اليهود والنصارى في عيسى عليه السلام، وتضارب أقوالهم حوله، وضَّح رحمة الله -سبحانه وتعالى- ومنّه علينا – نحن المسلمين – وعلى النصارى بأن بعث سيد المرسلين لينزه الله المسيح وأمه على لسان نبيه مما قالته اليهود فيهما، ويشهد ببراءتهما مما نسب إليهما،
    قال سبحانه. (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ).[المائدة:75]. ثم ذكّر القرطبي النصارى بموقف النجاشي من عقيدة المسلمين بعيسى -عليه السلام- حينما أخبره بها جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-
    بقوله: نقول فيه – أي المسيح عليه السلام – الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فلما سمع النجاشي ذلك ضرب بيده الأرض، وأخذ عوداً منها وقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقة حوله فقال: وإن نخرتم والله (83). ثم خاطب القرطبي النصارى بعد ذلك قائلاً: ... فهذا – أي رأي النجاشي – قول أهل العلم من قبلكم، العارفين بشريعتكم، وما عدا ذلك فشجرته غثاء(وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ).[إبراهيم:26].
    وقد دعا الخزرجي القسيس الذي طلب منه الإيمان بألوهية عيسى إلى الإيمان بنبّوته بعد إيضاح عقيدة المسلمين فيه -عليه السلام-
    حيث قال: ونحن بالمسيح ابن مريم رسول الله أولى، قدّرناه حق قدره، وقلنا بفضله المعلوم وفخره، واعتقدناه بمنزلة تقبلها الأفهام وتليق بالعقول... (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ).[النساء:175]، وتبرأنا من قوم غدوا فيه على طُرفي نقيض: مفتون به ضال، وظالم بغيض (84)...
    ثم دعاه إلى الإيمان بنبوة المسيح عليه السلام قائلاً: ... ما أزين بك أن تقول: إن الله خلق عيسى وأمه آية للناس، عبداً ورسولاً، وهي صديقة مباركة وكانا يأكلان الطعام (85).
    - الدعوة إلى الإيمان بنبوةّ المسيح عليه السلام من خلال ذكر الأدلة على ذلك من كتب النصارى:
    - تصريح المسيح نفسه في الإنجيل بأنه نبيّ مرُسل من الله سبحانه وتعالى، حيث أورد ابن الأنباري نقولاً من الأنجيل صرح فيها المسيح بعبوديته ونبوته، ومن ذلك قول المسيح للحواريين: .. أخرجوني من هذه المدينة، فإنه ما أُكرم نبيّ في مدينته، حيث أورد هذا النص، مع شيء من الاختلاف اليسير، الخزرجي في إثباته لنبّوة المسيح عليه السلام (86).
    - شهادة بعض أنبياء بني إسرائيل له بالنبوَّة، ومنهم أشعيا. قال لوقا: جاء يسوع إلى الناصرة حيث تربى، ودخل كعادته في مجامعهم يوم السبت ليقرأ، فدفع إليه سفر أشعيا النبي، فلما فتحه إذا فيه مكتوب (روح الرب عليّ من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين، وأشفي منكسري القلوب، وأنذر المأسورين بالتخلية، والعميان بالنظر، وأبشر بالسنة المقبولة، ثم طوى السفر، ودفعه إلى الخادم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: اليوم كمل هذا المكتوب في سماعكم (87)، قال الجعفري معلقاً على ذلك: فهذه نبوءة من أشعيا على تصديق ودعوى النبّوة والرسالة (88).
    - شهادة بعض تلامذته وحوارييه له بالنبّوة: فهذا يوحنا الإنجيلي تلميذ المسيح -عليه السلام- وحبيبه وأحد مدوني الإنجيل يقول:كان الناس إذا رأوا يسوع وسمعوا كلامه يقولون:هذا النبيّ حقاً (89). قال الجعفري:هذا هو يوحنا الإنجيلي الذي سُمّي حبيب المسيح يشهد بنبّوته، وهو أحسن أقوال أهل زمانه فيه (90).
    - اعتراف أهل زمانه له بالنبوة، وإقراره لهم وعدم الإنكار عليهم، ومن ذلك قول متى في إنجيله: لما دنا المسيح وأصحابه من أورشليم، أرسل من جاءه بأتان وجحش، فركب وفرش الناس له ثيابهم، وارتجت المدينة لدخوله، فقال الجميع:هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الخليل (91). وقد وضح الجعفري وجه الدلالة من هذا النص، وهو الشهادة للمسيح من أصحابه وأهل زمانه بالنّبوة وعدم إنكاره عليهم، وذلك رضاً بما يقولون(92).
    ثم توجه الجعفري باستفهام إلى النصارى غايته دعوتهم إلى الإيمان بنبوة المسيح -عليه السلام- وذلك بقوله: كيف يسمع – أي المسيح – آلافاً من الناس يشهدون أنه النبيّ الآتي من الناصرة، ويقرهم على ذلك، ولا تقوم به الحجة؟ أفيظن متأخرو النصارى في يومنا هذا أنهم أعلم بالمسيح ممن رآه وشاهده وصحبه(93)؟. وقد ورد في الإنجيل: أن امرأة رأت المسيح فقالت له: أنت ذاك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ فقال لها المسيح:صدقت، طوبى لك أيتها المرأة (94)، فهذه المرأة تسأل المسيح هل هو النبيّ المنتظر؟ ويصدقها المسيح إذ أقرت له بالنبوة، حيث أورد هذا النص المتطبب مستدلاً به على نبوّة المسيح، وذلك في مناقشته للنصارى
    في كتابه النصيحة الإيمانية (95).
    - الدعوة إلى الإيمان بنبوةّ عيسى -عليه السلام- من خلال نفي الألوهية عنه، وإثبات عبوديته لله سبحانه وتعالى، وتفنيد شبه النصارى وأدلتهم على ألوهيته، حيث أسهب علماء هذه الفترة في بحث هذه القضايا ومناقشاتها من خلال ما أورده من أدلة نقلية وعقلية على ذلك (96).





    الهوامش
    (46) المصدر نفسه (1/189)
    (47) لكمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني المتوفى سنة 651.
    (48) لمحمد بن أبي القاسم البقالي الخوارزمي المتوفى سنة 562.
    (49) الأجوبة الفاخرة، أحمد بن إدريس القارفي ص 95.
    (50) الجامع لأحكام القرآن (5/5).
    (51) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 189.
    (52) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/190).
    (53) المصدر نفسه (1/190).
    (54) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 327.
    (55) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/191).
    (56) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 329 - 330.
    (57) المستدرك للحاكم (2/506)صحيح الإسناد على شرط البخاري.
    (58) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى إفريقية والأندلس (11/157).
    (59) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 333.
    (60) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 333 -334.
    (61) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 207.
    (62) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 208.
    (63) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/195).
    (64) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 213.
    (65) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 195.
    (66) الداعي إلى الإسلام ص 424.
    (67) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/196).
    (68) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 343.
    (69) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/196).
    (70) المصدر نفسه.
    (71) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/196).
    (72) المصدر نفسه (1/196).
    (73) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/199).
    (74) المصدر نفسه (1/201).
    (75) المصدر نفسه (1/201).
    (76) المصدر نفسه (1/222).
    (77) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/224).
    (78) زاد المسير في علم التفسير (2/306).
    (79) معالم التنزيل (3/82).
    (80) التفسير الكبير (6/51- 52).
    (81) المصدر نفسه (6/52).
    (82) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/226).
    (83) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، ص 256.
    (84) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 128.
    (85) دعوة المسلمين للنصّارى في عصر الحروب الصليبية ( 1/228).
    (86) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 131.
    (87) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/228).
    (88) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل للجعفري (1/198).
    (89) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/229).
    (90) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/207).
    (91) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/230).
    (92) الرد على النصارى، صالح بن الحسين ص 88 .
    (93) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/230).
    (94) المصدر نفسه (1/230)
    (95) النصيحة الإيمانية ص 109.
    (96) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/231).

    http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-40-110613.htm

    تعليق


    • #3
      معتقدات نصرانية باطلة (1-3)

      الاربعاء 12 ربيع الثاني 1430 الموافق 08 إبريل 2009

      د. علي محمد الصلابي



      ثالثاً:مناقشة عقائد النصارى: تصدى علماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية لمناقشة معتقدات النصارى إبطالاً لها وتفنيداً لحجج النصارى عليها، وبياناً للحق الذي ضلّ عنه هؤلاء في ديانتهم، وقياماً بواجب الدعوة الذي حصلت به الخيرية لهذه الأمة، ومن أهم هذه المعتقدات.

      1- نقض الأمانة:وثيقة الأمانة، أو ما يُعرف بقانون الإيمان عند النصارى، هو أصل عقيدتهم، وهو الذي لا يتم إيمان نصراني إلاّ باعتقاده، ونص هذه الأمانة ما يلي: نؤمن بالله الواحد الأب ضابط الكل، مالك كل شيء، صانع ما يُرى وما لا يُرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها، الذي وُلد من أبيه قبل العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق، من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس وصار إنساناً، وحبل به، وولد من مريم البتول، وأوجع وصُلب أيام فيلاطس (97)النبطي، ودفن وقام في اليوم الثالث – كما هو مكتوب – وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الذي يخرج عن أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية جاثليقية (98)، وبقيامه أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين(99).
      ولقد اهتم علماء المسلمين في فترة الحروب الصليبية بهذه الأمانة لمكانتها في الديانة النصرانية حيث ناقشوها مبينين تناقضها وتهافتها، ومن ثم هدم ما يقوم عليها من معتقدات في الديانة النصرانية، ومن وجوه التناقض التي بينها هؤلاء العلماء في هذه الأمانة ما يلي:
      - إن فيها الإقـرار بوحـدانية الله سبحانه ثم نقض ذلك بالشرك، فقولهم فيها:نؤمن بالله الواحد الأب .."يناقض قولهم أيضاً:... وبالرب الواحد يسوع المسيح(100).
      - إقرارهم فيها بأن الله صانع ما يُرى وما لا يُرى، ثم قولهم، عن المسيح: .. الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء (101).
      - قولهم في الأمانة:إن يسوع المسيح ابن الله بكر الخلائق الذي ولد أبيه، مشعر بحدوثه، فلا معنى لكونه ابن الله، إلاّ إذا تأخر عنه؛ إذ كونهما معاً كما يقر به النصارى مستحيل ببداهة العقول(102).
      - قولهم فيها: إن يسوع بكر الخلائق كلها. لا يُفهم منه إلاّ أن المسيح خلقه الله قبل كل الخلائق؛ أي أنه مخلوق مصنوع، وهذا مناقض لما في أمانتهم وهو: ... وليس بمصنوع، إله حق من إله حق (103).
      وقد ذكر العلماء وجوهاً من التناقض كثيرة فصلها الدكتور سليمان بن عبد الله الرومي في كتابه القيم "دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية"(104).وقد أبرز العلماء المسلمون كالجعفري والمتطبب والقرافي تهافت هذه الأمانة التي جعلها النصارى أساس ديانتهم، والتي لا يصلح إيمان أحدهم إلاّ باعتقادها، فأصبحوا، بذلك، كما وصفهم القرافي هزءاً للناظر ومصنفة للمناظر(105).
      2- اختلاف الأتاجيل:الإنجيل:من اللفظ اليوناني أونجيلون ومعناه خبر طيب (106)، وتأتي بمعنى الحلوان – وهو ما يُعطى لمن يأتي بالبشرى، ثم أُريد بها البشرى عينها، واستعملها على الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى عند النصارى منذ أواخر القرن الأول إلى الوقت الحاضر(107)، إذ يشمل الكتاب العهد القديم والعهد الجديد.فالعهد القديم يعني التوراة، والكتب الملحقة بها التي تضم تسعة وثلاثين سفراً (108)، والعهد الجديد يعني الأسفار التاريخية والأناجيل الأربعة، ورسالة أعمال الرسل، والأسفار التعليمية و يبلغ تعدادها جميعاً سبعة وعشرين سفراً، والعهد القديم أو التوراة على الرغم من إيمان النصارى به إلاّ أنهم يفسرون كثيراً من نصوصه تفسيراً يوافق عقائدهم الباطلة كالتثليث وألوهية المسيح وغير ذلك، لعدم استطاعتهم التصرف بنصوصه كالإنجيل؛ لأنه محفوظ عند أعدائهم اليهود (109)، والإنجيل في الأصل هو الكتاب الذي أنزل على عيسى عليه السلام، قال تعالى:(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) .[المائدة: 46].لكن هذا الإنجيل الذي أُنزل على عيسى -عليه السلام- ليس هو الذي بين النصارى اليوم؛ إذ بين أيديهم الآن أربعة أناجيل انتخبت من عدد غير محدود من الأناجيل، وقد اعتمدت الكنيسة هذه الأربعة بما يُسمّى بالأناجيل القانونية من بين أناجيل كثيرة تم استبعادها أُطلق عليها الأناجيل غير القانونية (110)وقد كان ذلك سنة 170م، وقد بيّن صاحب قصة الحضارة هذه القضية بقوله:أما الأناجيل فليس أمرها بهذه السهولة، وذلك أن الأناجيل الأربعة التي وصلت إلينا هي البقية من عدد أكبر منها كثيراً، كانت في وقت ما منتشرة بين المسيحيين في القرنين الأول والثاني (111).وإذا كانت هذه الأناجيل الأربعة قد تم اختيارها من بين أناجيل كثيرة، فلا يُستبعد أن يكون الإنجيل الصحيح من بين ما تم استبعاده، وحتى هذه الأربعة المعتمدة لم تسلم من الاختلاف فيما بينها، بل والتناقض الذي لا يمكن التوفيق فيه، وقد تساءل ابن القيم (112): كيف يكون في الإنجيل الذي أُنزل على عيسى قصة صلبه، وما جرى له من الألم ثم الموت، والقيام من القبر إلى غير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى؟(113)، وفيما يلي نبذة على ما يُسمّى عند النصارى بالأناجيل الأربعة القانونية التي أقروها لتوافق التحريفات التي أدخلوها على ديانتهم في مجامعهـم المختلفة: مثل إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا (114).
      هذه هي أناجيل النصارى التي عليها عماد ديانتهم، وهي في اعتقاد المسلمين لا يمكن أن تكون الإنجيل الذي أنزله الله -عزَّ وجل- على عبده عيسى -عليه السلام- وأحسن أحوالها أن تكون متضمنه لبعض ما أنزله الله جلّ وعلا على عيسى، وكثير مما فيها حرف بلفظه أو بمعناه قال:(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ).[المائدة :13].قال القرطبي:أي يتأوّلونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام (115).ولمكانة الأناجيل عند النصارى، لكونها عماد ديانتهم، وأساس ضلالهم بما حرفوا فيها، فقد اهتم بعض من العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية بدراستها، مبينين تناقضها وعدم الطمأنينة إلى ما فيها، وإظهار ذلك للنصارى هدما لأساس عقائدهم الباطلة، ورغبة في هداية من شاء الله هدايته منهم، فهذا الجعفري يوضح أن مَن وقف على التناقض في الإنجيل، ومصادمة بعضه بعضاً يشهد بأنه ليس هو الإنجيل الحق المنزل من عند الله، وأن أكثره من أقوال الرواة وأقاصيصهم، وأن نَقَلَته أفسدوه ومزجوه بحكاياتهم، وألحقوا به أموراً غير مسموعة من المسيح ولا من أصحابه.
      وهو ليس إنجيلاً واحداً بل أربعة أناجيل، كُتب كل واحد منها في قطر من الأقطار، بقلم غير قلم الآخر، وتضمن كل كتاب أقاصيص وحكايات أغفلها الكتاب، وإذا كان الأمر كذلك فقد انخرمت الثقة بهذا الإنجيل، وعدمت الطمأنينة بنقلته(116)، ثم أورد الجعفري نماذج عديدة تبين تحريف الإنجيل وتناقضه ومن ذلك:
      - قال متى: من يوسف خطيب مريم – وهو الذي يُسمّى يوسف النجار ... إلى إبراهيم الخليل اثنتان وأربعون ولادة (117)وقال لوقا:لا ولكن بينهما أربع وخمسون ولادة (118).ثم عقب الجعفري على ذلك بقوله: وهذا تكاذب قبيح (119)..
      - نصان آخران أحدهما عند لوقا يصف المسيح عليه السلام بأنه سيملك على بني إسرائيل (120)، ونص آخر عند يوحنا يصف المسيح عليه السلام بأنه الضعيف الذليل (121). حيث عقب عليهما الجعفري بقوله:وهذا تكاذب قبيح؛ لأن أحدهما يقول: إن يسوع يملك على بني إسرائيل، والآخر يصفه بصفة ضعيف ذليل (122).
      وهكذا استطرد الجعفري بذكر نماذج من تحريف الإنجيل وتناقضه في اثنين وخمسين موضعاً، عقب بعد عرضها بقوله: فهذا كتاب قد تلاعبت به بنيات الطرق، وتزاحمت به تراجمة الفرق، وولد من لسان إلى لسان، وعبث به التحريف والتصحيف في كل زمان (123)، وخاطب الخزرجي أحد قساوسة النصارى بقوله: ... ما أناجيلكم إلاّ حكايات، وتواريخ، وكلام كهنة، وتلاميذ وغيرهم، حتى إني أحلف بالذي لا إله إلاّ هو أن تاريخ الطبري عندنا أصح نقلاً من الإنجيل، ويعتمد عليه العاقل أكثر، مع أن التاريخ عندنا لا يجوز أن ينبني عليه شيء من أمر الدين(124). ثم أورد الخزرجي في نقاشه مع القسيس أمثلة على تناقض الإنجيل مبتدئاً لها بقوله:وفي الإنجيل الذي بأيديكم كثير من المتناقضات (125)، ثم ذكر كثيراً من الأدلة على ذلك، ثم وجه خطابه للقسيس قائلاً:أخبرني أيها المغرور عن هذا الخلاف، أتعده تتميماً أو نقصاً لشريعة من سبقه(126)؟ وأخيراً بعد أن انتهى الخزرجي من سرد الأمثلة الكثيرة على تناقض الإنجيل، وبيّن أن فيها الكفاية على تهافت الأناجيل، والدليل على ما اشتملت عليه من الزلل والأباطيل، بعد ذلك تساءل قائلاً:فليت شعري أين هذا الإنجيل المنزل من عند الله؟ وأين كلماته من بين هذه الكلمات(127).وقد بين القرافي أنه لكثرة التحريف والتبديل من الإنجيل وكثرة كتبته واختلاف طوائف النصارى فيه فلا يمكن والحال هذه تمييز الكلام الذي أنزله الله عن غيره حيث قال:وأما النصارى فلا يتعين لهم شيء مما أنزل الله تعالى أبداً (128)وفي موضع آخر وصف القرافي كتب النصارى بقوله:... ومن طالع كتبهم وأناجيلهم وجد فيها من العجائب ما يقضي له بأن القوم تفرقت شرائعهم وأحكامهم، ونُقولهم، .. وأن القوم لا يلتزمون مذهباً، والعجب أن أناجيلهم حكايات، وتواريخ ومجريات وكلام كفرة وكهنة (129).ثم أورد بعد ذلك خمسة عشر مثالاً من تناقضات الأناجيل تدل على تغييرها وتبديلها وعدم الوثوق بشيء منها (130)، وهكذا من مصادمة بعضها، وإبراز العلماء المسلمين اختلاف الأناجيل وتناقضها ومصادمة بعضها بعضاً وإيراد الأمثلة على ذلك، إيضاح بما لا يدع مجالاً للشك على ضعف ما بنى عليه النصارى عقائدهم الذي يعدونه أساس ديانتهم (131).
      3- مناقشة قولهم في المسيح عليه السلام:المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام- بشر مخلوق ليس بإله ولا ابن إله، قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ).[الزخرف:59].وقال سبحانه وتعالى:(مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ).[المائدة:75].وما أدعى عليه السلام الربوبية ولا الألوهية، ولم يأمر أحداً باتخاذه إلهاً، بل إنه عبد الله ورسوله، كما قال الله سبحانه فيما حكاه عنه:(مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ). (المائدة:117).
      وقد عاش المسيح عيسى بن مريم عليه السلام يدعو إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، وكان قدوة صالحة في ذلك قال تعالى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً).
      [مريم:30–31]ولما بلّغ رسالة ربه، وأراد به أعداؤه كيداً نجّاه الله منهم، وذلك برفعه إليه قال الله تعالى:(إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ).[آل عمران:55].
      وقال سبحانه وتعالى:(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ).[النساء:157].وقد ضلّ النصارى في المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام- ضلالاً بعيداً إذ اعتقدوا فيه الألوهية، وجعلوه ابناً لله نزل ليُصلب، ويُقتل فداءً للبشرية، وتكفيراً لخطيئة أبيهم آدم (132)ولقد ناقش العلماء المسلمون في عصر الحروب الصليبية عقيدة النصارى بالمسيح نقاشاً مستفيضاً، فضحاً لباطل النصارى في ذلك، وبياناً للحق الذي لُبس على عامتهم، فأسهبوا في ردودهم على النصارى في إبطال اتخاذهم المسيح أحد ثلاثة آلهة، وردّ ادعائهم فيه الاتحاد والتجسد، ونفي الألوهية عنه، وهدم زعمهم نبوته لله – تعالى الله عن ذلك- وتفنيد ما أدّعوه من قتله وصلبه، وفيما يلي عرض لبعض جهودهم في ذلك:
      أ-إبطال التثليث:اتخذ النصارى المسيح -عليه السلام- إلهاً بجعله واحداً من ثلاثة، وقد بدأ بذرة التثليث في النصرانية بولس، بعد المسيح عليه السلام؛ إذ استقرت فرقها المختلفة على هذه العقيدة بعد ذلك في مجمع نيقية عام 325م بتأليه الأب وتأليه الابن، ثم تأليه روح القدس في مجمع القسطنطينية عام 381م، وعرفت هذه العقيدة بالتثليث. وكان النصارى قبل مجمع نيقية مختلفين بين موحدين ومشركين على ديانة بولس حتى جمعهم قسطنطين (133)، على الشرك بالله في هذا المجتمع (134)، وإيمان النصارى بالتثليث سماعاً وتقليداً بما ورثوه عن آبائهم، مع هدم الخوض في كنه هذه العقيدة أو التعمق فيها، قال أحدهم:.. وهذه –أي التثليث – حقيقة تفوق الإدراك البشري عن إدراكها (135)، وقال أحد القساوسة:إن الثالثوث سر يصعب فهمه وإدراكه كمن يحاول وضع مياه المحيط كلها في كفه(136)ولهذا التعقيد في فهم عقيدة التثليث لدى النصارى اختلفوا في تحديدها وفي المراد منها(137).
      وقد عرض بعض العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية عقيدة التثليث لدى النصارى كما يعتقدونها؛ إذ قال نصر بن يحيى المتطبب:إن الله سبحانه وتعالى جوهر واحد وثلاثة أقانيم.الأب، وأقنـوم الابـن، وأقنـوم روح القـدس، وأنها – أي الذات الإلهية – واحدة في الجوهر مختلفة الأقانيم (138)وقال القرافي في عرض عقيدة التثليث عند النصارى: ... النصارى مجمعون على القول بالثالوث، وهو أن ربهم أب، وابن، وروح فالأب الذات، والابن النطق الذي هو الكلام النفساني، والروح الحياة، فالأب جوهر، واختلفوا في الكلام والحياة هل هما صفتان للأب أو ذاتان قائمتان بأنفسهما، أو خاصيتان لذلك الجوهر (139)؟ وبعد عرض هؤلاء العلماء لعقيدة التثليث لدى النصارى تصدوا لمناقشتها وتفنيد أدلتهم عليها على النحو التالي:
      - بيان فساد هذه العقيدة وكفر من يعتقدها ابتداءً:ففي تفسير قوله تعالى: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
      [المائدة:73–74].قال ابن عطيه بعد أن بين أن هذا القول لبعض فرق النصارى:.. وهم على اختلاف أحوالهم كفار من حيث جعلوا في الإلهية عدداً، ومن حيث جعلوا لعيسى عليه السلام حكماً إلهياً .. ثم توعد تبارك وتعالى هؤلاء القائلين بهذه المقولة الكفرية العظيمة بمس العذاب بالدنيا من القتل والسبي، وبعذاب الآخرة بعد لا يفلت منه أحد (140)وبعد أن وضع الرازي تثليث النصارى عقب لقوله:..ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى (141).
      وقال الجعفري:.. عند النصارى ثلاثة آلهة قديمة أزلية..وذلك باطل وكفر (142). وقال القرطبي :..وفيه – أي التثليث – خروج عن التوراة والإنجيل والمزامير والنبوات وسائر الكتب (143).
      - إيراد الأدلة من كتب النصارى على وحدانية الله:حيث ساق كثير من العلماء في معرض مناقشتهم للنصارى وإبطالهم لعقيدة التثليث لديهم الأدلة من التوراة والإنجيل التي تثبت وحدانية الله سبحانه وتعالى، وتنقض التثليث الذي يعتقدونه، فمنها أورده الجعفري من ذلك قول الله في التوراة:يا موسى أنا الله أنا إله غيور، أنا الله وحدي، وليس معي غيري(144).

      وقوله لموسى عليه السلام: لا يكن لك إله غيري (145). ومن الأدلة التي أوردها القرافي من التوراة على التوحيد وإبطال التثليث قول الله -سبحانه وتعالى- لبني إسرائيل:أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر من بيت العبودية لا يكون لكم إله غيري (146). ومن الإنجيل قول يوحنا: إن المسيح رفع بصره إلى السماء وتضرع إلى الله وقال:إن الحياة الدائمة تجب للناس أن يعلموا أنك أنت الله الواحد الحق، وأنك أرسلت يسوع المسيح (147)، ثم علق القرافي على ذلك بقوله:وهذا هو التوحيد المحض (148).
      - إبطال عقيدة التثليث من خلال بيان اختلاف النصارى في تفسير هذه العقيدة اختلافاً شديداً، حتى إن بعض فرقهم تكفر البعض الآخر وفي مناقشة القرافي لذلك وضح أن اختلافهم في أصل ديانتهم دليل على أنهم ليسوا على دين، ولا في شيء من أمرهم على يقين (149)وقال القرطبي في ثنايا عرضه لعقيدة التثليث لدى النصارى، وسياقه لاختلافاتهم فيها:..وهم مع ذلك فيما ذكرناه من الأقانيم مختلفون، وبالحيرة عمون (150).وقال:وإذا وقفت على هذه الأقاويل الضعيفة والآراء السخيفة لم تشكّ في تخبّطهم في عقائدهم وحيرتهم في مقاصدهم (151).
      - إبطال عقيدة التثليث من خلال تفنيد أدلة النصارى عليها:
      حيث عرض بعض العلماء المسلمين أمثلة من أدلة النصارى على عقيدة التثليث، بياناً لهشاشتها، وإيضاحاً لضعفها ومن ثمّ: إبطالاً لهذه العقيدة المعتمدة عليها (152).
      - بيان فساد عقيدة التثليث بالأدلة العقلية: وقد توسع العلماء المسلمون في عصر الحروب الصليبية في إبطالة عقيدة التثليث من خلال طلبهم من النصارى عرض هذه العقيدة على العقل السليم المجرد من الهوى وتحكيمه فيها، وسيظهر لهم فساد ماهم عليه، ومن ذلك أنه قد كتب أحد علماء النصارى في الأندلس كتاباً سماه – تثليث الوحدانية – وبعث به إلى المسلمين في قرطبة، فرد عليه القرطبي منتقداً عنوان الكتاب، وموضحاً، أن قوله: تثليث الوحدانية – مركب من مضاف ومضاف إليه، فالتثليث تعدد وكثرة والوحدانية مأخوذة من الوحدة، ومعناها راجع إلى نفي التعدد والكثرة، فمعنى هذا القول – تكثير ما لا يتكثر – وتكثير مالا يتكثر باطل بالضرورة (153)، وألزم الجعفري النصارى بلوازم لا مفر لهم منها في قولهم بالتثليث، فإن كانوا يقولون:إن الثلاثة بمجموعها إله واحد، وإن كل واحد على انفراده ليس بإله فإنهم حينئذ يخالفون أمانتهم التي هي أصل إيمانهم والتي يقولون فيها: إن الأب إله واحد، وإن الابن إله واحد، وإن روح القدس إله واحد (154). وإن قالوا:إن الإله أحدهم والباقي صفات له أبطلوا ثالوثهم، وفسدت أمانتهم، ووافقوا المسلمين في أن الإله تعالى واحد، وله صفات من العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام، وإن شيئاً من الصفات ليس بإله، وإنما الإله ذات موصوفة بالصفات (155)، وإن أثبتوا الإلهية لكل واحد من الثلاثة فإنهم حينئذ كالثنوية من المجوس الذين يقولون بأصلين قديمين مدبرين للعالم، وقد وضع ابن الأنباري استحالة ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى بيّن هذا الأمر بقوله جلّ وعلا:(وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ).[المؤمنون:91].وقوله سبحانه وتعالى:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا). [الأنبياء:23].(156).
      ب- إبطال الاتحاد والتجسد:يقصد بالاتحاد والتجسد: إن الأقنوم الثاني الابن قد صار جسداً لأجل بني الإنسان وتخليصهم من خطيئة أبيهم، فاتخذ طبيعة البشر، وحل بين الناس بصورة إنسان هو المسيح، فقبل الله اتخاذ الحالة البشرية والتقى الإنسان مباشرة بهذه الصورة (157)، حيث صار في السيد المسيح طبيعتان: طبيعة لاهوتية، التي هي طبيعة كلمة الله وروحه، وطبيعة ناسوتية التي اتخذت من مريم العذراء واتحدت (158)به قال الجعفري: ... وزعم النصارى أن ربهم عبارة عن لاهوت وناسوت، واتحدا، فصارا مسيحاً وكثيراً ما يقولون: اتحّد اللاهوت بالناسوت، ويعبرون عن ذلك بالتأنس والتجسد (159)وكلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت متناقض ومضطرب ولهذا يقال: لو اجتمع عشرة من النصارى لتفرقوا على أحد عشر قولاً. بل إن الأمر بلغ في ذلك أن كل فرقة منهم تكفر الأخرى (160)ومن خلال ردود العلماء المسلمين على النصارى في فترة الحروب الصليبية، ناقشوا هذه العقيدة إما بشكل مستقل، أو ضمن مناقشتهم لقضايا أخرى كألوهية المسيح عليه السلام، أو نبوته لله، أو في ردهم لعقيدة التثليث، وكان من إبطالهم لدعوى الاتحاد والتجسد ما يلي:
      - إن الاتحاد الذي يدعونه لم يشاهدوه بالعيان، ولم يدّعه أوائلهم، حيث وضح الجعفري أنهم إن ادعوا شيئاً من ذلك فقد تحامقوا وأكذبهم عقلاؤهم (161).
      - إن أقوال المسيح -عليه السلام- بأنه إنسان تكذبهم في هذه الدعوى ومن ذلك قوله لليهود:لِمَ تريدون قتلي وأنا إنسان من بني آدم كلمتكم بالحق الذي سمعته من الله؟(162)وقوله:للثعالب أحجار، ولطير السماء أوكار، وابن الإنسان ليس له موضع يسند رأسه (163).فبين الجعفري أن المسيح -عليه السلام- بهذه النصوص وغيرها أثبت أنه إنسان، وذلك تكذيب لمن يقول إنه إنسان وإله(164).
      - وأشار الجعفري إلى تصريح الإنجيل، بأن المسيح عليه السلام جاع وشبع وتألم واعترضته عوارض البشر، فذلك كله يبطل الاتحاد الذي يزعمه النصارى؛ لأن هذه الأوصاف تنافي الألوهية(165).وأما من أبرز حجج النصارى على الاتحاد قول المسـيح عليه السـلام:أنا بأبي وأبي بي(166)، حيث يقولون:إن هذا تصريح من المسيح بأنه متحد بالله والله متحد به(167)فبعد أن أورد الجعفري هذه الحجة لهم ردّ عليهم بقول يوحنا:تضرّع المسيح إلى الله في تلاميذه فقال:أيها القدوس، احفظهم باسمك ليكونوا هم أيضاً شيئاً واحداً، كما أنا شيء واحد، قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ليكونوا شيئاً واحداً، فأنا بهم وأنت بي (168)، ثم وضح بأنك يا إلهي معي وأنت لي، وأنا أيضاً مع أصحابي وأنا لهم، وكما أنك أرسلتني لأدعو عبادك إلى توحيدك فكذلك أنا أرسلتهم ليدعوا إليك، فكن لهم كما كنت لي (169).ثم أكد الجعفري أن هذا هو التأويل الصحيح لقول المسيح، وإن عدل عنه فيلزم منه حلول الله سبحانه في رجل من خلقه وأن يكون التلاميذ أيضاً متداخلين مع المسيح، ويكون المسيح متداخلاً معهم، ومعنى ذلك، أن الله أيضاً حالّ في التلاميذ حالون في الله، وهذا.مالا يقول به النصارى(170).
      ج- نفي الألوهية عن المسيح:قال تعال:(لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).[المائدة:17]وتأليه المسيح قد بدأت بوادره في حياته عليه السلام، واستمر هذا الانحراف بتأثير الفلسفات القديمة والديانات الوثنية السائدة في المناطق التي انتشرت فيها النصرانية، حيث تسربت إليها مع بولس اليهودي، من دور كبير في هذا الانحراف بديانة النصارى وإفسادها عقيدة وشريعة (171)، وبذلك انقسم النصارى بعد المسيح -عليه السلام- إلى قسمين:طائفة جنحت للشرك بالله بتأليه المسيح ونبوته، وقد استمر هذا الوضع والنزاع في طبيعة المسيح -عليه السلام- حتى مطلع القرن الرابع الميلادي حين حمل لواء التوحيد – أريوس المصري (172)، الذي أنكر معتقدات بولس، وقرر أن المسيح ليس إلهاً ولا ابن إله(173)، واشتد الصراع لذلك بين أتباع وثنية بولس وتوحيد أربوس، حتى دخل قسطنطين حاكم الرومان بالنصرانية، فأمر بعقد مجمع ديني ضخم لجميع الكنائس، وذلك للفصل في أمر الخلاف بين أريوس ومعارضيه، حيث عقد مجمع نيقيه سنة 325م الذي حضره ألف وثمانمائة وأربعون من الأساقفة الذين اشتد الخلاف بينهم في طبيعة المسيح، حتى انسحب أكثرهم، ولم يبق إلاّ ثلاثمائة وثمانية عشرة أسقفاً، وكان قسطنطين لخلفيته الوثنية يميل إلى رأي تأليه المسيح عليه السلام، فأيّد هذا الرأي، وانتهى هذا المجمع إلى قرارات أهمها القول بألوهية المسيح وتكفير أريوس وأتباعه (174).
      وقد تصدى العلماء المسلمون في فترة الحروب الصليبية إلى مناقشة دعوى ألوهية المسيح عليه السلام وتفنيد أدلة النصارى وشبههم التي يعتمدون عليها في ذلك، وكان إبطال هذه العقيدة على النحو التالي:
      - بيان كفر من يؤمن بهذه العقيدة ابتداءً؛ إذ وضح القرطبي كفر النصارى؛ إذ غلوا بالمسيح عليه السلام حتى جعلوه إلهاً (175). وذكر ابن الجوزي أن الذين كفروا من النصارى هم المقيمون على اعتقاد الألوهية بالمسيح (176)عليه السلام. وقال عطية عن النصارى: ... إنما الحق أنهم على اختلاف أحوالهم كفار من حيث جعلوا في الإلهية عدداً، ومن حيث جعلوا لعيسى عليه السلام حكماً إلهياً (177). وقال الجعفري:وأما النصارى فإنهم مجمعون على ألوهية المسيح واعتقاد ربوبيته، وأنه الإله الذي خلق العالم وجبل بيده طينة آدم (178)، ثم ناقش فساد هذه العقيدة مبيناً كفرهم وبطلان معتقدهم، ومنزهاً الله عن كفرهم وضلالهم تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً (179).
      - عدم ذكر عقيدة الألوهية في المسيح من الأنبياء السابقين: حيث وضح القرافي ذلك، وعليه فالنصارى إما أنهم يكفرون بهؤلاء الأنبياء المذكورين في كتبهم لنسبتهم الجهل بخالقهم، وإما أنهم يكذبون بكتبهم؛ إذ ليس فيها حرف واحد يدل على أن أحداً من هؤلاء الأنبياء قال:إن المسيح إله (180).
      - نفي المسيح عليه السلام الألوهية عن نفسه، وتصريحه بذلك في التوراة والإنجيل؛ إذ استشهد عدد من العلماء بنقول منهما توضح ذلك، منها ما أورده القرافي من أن الشيطان قال ليسوعَ:..اسجد لي وأعطيك ملك الأرض، قال له يسوع:اذهب عني يا شيطان:إن الله أمر في التوراة ألاّ يسجد لغيره، ولا يعبد إله سواه (181)، فدل ذلك على أنه كان متعبداً بأحكام التوراة ولا متعبد إلاّ مكلف مربوب (182).
      - إبطال ألوهية المسيح عليه السلام بأدلة عقلية منها:
      - حاجة المسيح عليه السلام إلى الأكل والشرب واتصافه بالصفات البشرية الأخرى التي تستحيل على الإله:
      قال البوصيري:
      أسمعتم أنّ الإلهَ لحاجةٍ
      يتناولُ المشروبَ والمأكولا
      وينامُ من تعبٍ ويدعو ربَّه
      ويرودُ من الحرِّ الهجيرِ مقيلا
      ويمسُّه الألمُ الذي لم يستطعْ
      صرفاً له عنه ولا تحويلا(183)
      وقال نصر بن يحيي المتطبب: ... تقولون – أي النصارى
      - إنه بقي مدة الحمل في أحشاء مريم، واغتذى بدم طمثها ورضع لبنها، وأكل، وشرب، ويخضع، ويذل، ويمتهن، ويعذّب بكل أنواع العذاب، ويتألم ... وهذه جميعها من صفات البشر، وليس من صفات من يُدعى له بالألوهية (184).
      وبمثل ذلك احتج الجعفري على النصارى في نفي الألوهية عن المسيح (185).
      - عجز المسيح -عليه السلام- عن المدافعة عن نفسه حينما صُلب بزعمهم ينفي عنه الألوهية:حيث وضح الرازي أنه إذا كان إلهاً، أو ابن إله، أو كان جزء من الإله حالاً فيه، فلِمَ لم يدافع عن نفسه، ولم يهلك أعداءه المتربصين به مع قدرته على ذلك، وأي حاجة له بإظهار الجزع واحتمال الألم والتعرض للإهانة(186).
      - وقرر الخزرجي النصارى بما يعتقدونه من أن الرب صعد فصار على يمين الرب وآثر الصلب.ثم ناقشهم متسائلاً عن هذين الربين:أيهما خلق صاحبه؛ فالمخلوق إذاً ضعيف عاجز ليس إلهاً، وهل هذان الربان إذا أرادا أمراً فلمن الحكم منهما؟ فالذي له الحكم هو الرب القادر، والآخر عاجز ليس بإله (187)، ثم خاطب الخزرجي النصارى بقوله تعالى:(َوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).[الأنبياء:22]وقوله:(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ).[المؤمنون:91].
      - وعرض الجعفري قول النصارى إن المسيح -عليه السلام- هو إله العباد وخالقهم ورازقهم وبارئهم ومدبرهم في جميع أحوالهم، ثم تساءل:كيف كان حال الوجود والإله في اللحود (188)؟.ومن الذي كان يقوم برزق العباد ويدبر شؤونهم وإلههم مصلوب(189)؟
      - وبين الجعفري زعم النصارى أن المسيح خلق آدم وذريته أجمعين، ثم اعترض عليهم بقوله:... فمريم من خلقها؟ فإن قالوا:ليست من خلقه نقضوا مقالهم، وإن زعموا أنه خلقها فيُقال لهم:..كيف تلد المسيح وهو خالقها؟ أم كيف ترضعه وهو رازقها؟ أسمعتم يا معشر العقلاء بامرأة ولدت خالقها، وأرضعت ثديها رازقها؟
      - وسأل القرافي النصارى: هل الإله يعلم الغيب أم لا؟ فإن قالوا:لا.كذبتهم كتبهم لإثباتها ذلك، وإن قالوا:نعم.بطل اعتقادهم الألوهية بالمسيح؛ لأن نصوص الإنجيل توضح عدم علمه بالمغيبات (190).
      - إبطال ألوهية المسيح -عليه السلام- من خلال تنفيذ شبه النصارى التي يستدلون بها على ذلك.
      - مما يستدل به النصارى في إثباتهم الألوهية للمسيح عليه السلام، أنه نفخة من روح الله بعد أن سواه من تراب (191).
      ثم قال مخاطباً أحد قساوسة النصارى:...فلماذا أوجب الألوهية لعيسى، ولم توجبها لآدم، وأنت تقر له بروح من الله في حجاب من تراب (192).
      - مما يعتمد عليه النصارى في إثباتهم الألوهية للمسيح عليه السلام معجزته التي أجراها الله على يديه، تأييداً له، وتصديقاً لنبوته، وقد ناقش نصر بن يحي المتطبب ذلك، مبيناً أن يلزمهم في إثباتهم الألوهية للمسيح بسبب معجزاته إثباتها أيضاً لبقية الأنبياء الذين أجرى الله سبحانه وتعالى على أيديهم مثل هذه المعجزات، ثم أورد أمثلة لمعجزات الأنبياء السابقين لعيسى عليه السلام من التوراة والإنجيل، ومع ذلك لم يكن أحد منهم بها إلهاً أو ينسبه أحد إلى الألوهية؛ ففي سفر الملوك ورد أن إلياس أحيا ابن الأرمل، واليسع أحيا الإسرائيلية وحزقيال أحيا خلقاً كثيراً، وأخبرت التوراة أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت، وموسى طرح العصا فصارت حية لها عينان تبصران بها وفي إنجيل لوقا ورد أن إليسع أبرأ أبرص ، وهذا أعظم من فعل المسيح، ولم يكن واحد من هؤلاء الأنبياء بمعجزاته إلهاً، فلِمَ تثبت الألوهية بها للمسيح فقط (193)؟ ووضح القرافي بطلان جعل المعجزة دليلاً على الألوهية من خلال إيراده مجموعة من معجزات الرسل -عليه السلام- ولم يكونوا بها آلهة أو يدعها أحد لهم (194).
      - نفي بنوة المسيح لله سبحانه وتعالى:مما يعتقده النصارى بنوة المسيح -عليه السلام- لله سبحانه وتعالى:(وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ).[التوبة:30]، وأن الابن مساوٍ للأب في الوجود، وأن الأب خلق العالم بوساطة الابن الذي نزل بصورته البشرية فداء لبني آدم، وهو الذي يتولى محاسبة الناس يوم القيامة، ويصرحون بذلك بأمانتهم التي لا يتم إيمان نصراني إلاّ بها:نؤمن بالله الواحد الأب ضابط الكل، مالك كل شيء، صانع ما يرى ومالا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها، الذي وُلد من أبيه قبل العوام كلها، وليس بموضوع، إله حق من إله حق (195)وقد تصدى علماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية إلى مناقشة هذه العقيدة الضالة وبيان فسادها وكان ذلك على النحو التالي:
      - بيان فساد هذه العقيدة وكفر من يعتقدها ابتداء:
      قال القرطبي : .. وظاهر قول النصارى أن المسيح ابن الله إنما أرادوا نبوة النسل، كما قالت العرب في الملائكة.. هذا أشنع الكفر (196). وقال الجعفري بعد أن عرض عقيدة النصارى في بنوة المسيح لله: وأعلم أن هذه دعوى ملفقة وعقيدة هامتها بسيوف أدلة الإسلام مغلقة، والدليل على فسادها المعقول والمنقول(197)، وقد بين الرازي:أن نسبة المسيح عليه السلام إلى البنوة لله سبحانه وتعالى أفحش أنواع الكفر، وأن ذلك من دسائس بولس في ديانه النصارى بعد رفع عيسى عليه السلام (198).
      - ذكر الأدلة من كتب النصارى على نفي بنوة المسيح:حيث أورد بعض العلماء مجموعة من الأدلة من كتب النصارى تدل دلالة صريحة على نفي بنوة المسيح لله كما يدعيها النصارى، ومن ذلك ما أورده الجعفري من إنجيل مرقص حيث قال:خرج المسيح وتلاميذه إلى البحر وتبعه جمع كثير، فأبرأ أعلالهم وشفاهم، فجعلوا يزدحمون عليه ويقولون:أنت ابن الله؟ فكان ينهاهم (199)، ونص آخر أورده الجعفري وهو أن لوقا قال:كان كل من له مريض يأتي به إلى يسوع فيضع يده عليه فيبرأ فيقول:أنت ابن الله، فكان ينهرهم، ولا يدعهم ينطقون بهذا (200).ثم علق الجعفري بعد هذه النصوص بقوله:فهذا الإنجيل يكذب من يدعي ذلك على السيد المسيح – أي أنه ابن الله(201).
      وقد وضح العلماء بعض الأدلة العقلية في نفي بنوة المسيح لله -عز وجل- والتي منها:
      - عجز المسيح عليه السلام عن المدافعة عن نفسه حينما أراد به أعداؤه كيداً؛ حيث وضح الرازي أنه لو كان إلهاً أو ابن إله، أو كان جزء من الإله حالاً فيه فلِمَ لم يهلك أعداءه المتربصين به مع قدرته على ذلك، وأي حاجة إلى إظهار الجزع واحتمال الألم والتعرض للإهانة (202)، بل أين والده عنه وهو القادر على كل شيء، حيث ساق القرافي أبيات شعرية ضمن مناقشته للنصارى متسائلاً فيها عن ضعف ابن الإله وعدم مدافعة والده عنه:
      عجبي للمسيح بين النصارى
      وإلى أيّ والدٍ نسبوهُ
      أسلموه إلى اليهودِ وقالوا
      إنهم بعد قتلهِ صلبوهُ
      وإذا كان ما يقولون حقاً
      وصحيحاً فأين كان أبوهُ(203)
      - ولعجز المسيح وهو ابن الله بزعم النصارى عن المدافعة عن نفسه، فالأولى لهم عقلاً أن يعبدوا عدوه الذي استطاع بزعمهم قتله وصلبه، فهم يقولون:إن المسيح بعد إيذائه وقتله وقيامه من بين الأموات صعد ليجلس على يمين أبيه يستريح، ثم سيعود لمحاربة عدوه (204).وعلق القرافي على ذلك قائلاً:..وما أجدرهم بأن يعبدوا الآن عدوه، ويتركوه فإن الغلب الآن لعدوه، والمتوقع في المستقبل لا يدري كيف هو، ولعل الكسرة في النوبة الثانية تكون أعظم (205).
      - أن المسيح وهو ابن الله بزعم النصارى معترض على قضاء الله متبرم من لقائه وهو أولى الناس بالرضا والرغبة في لقاء الله؛ إذ وضع القرافي أن النصارى مقرون أن المسيح تألّم وتبرّم عند قتله وصلبه وقال:إلهي إلهي لِمَ خذلتني (206)ويعتقدون أنه نزل ليصلب إيثاراً للعالم بنفسه تخليصاً لهم من الشيطان ورجسه، ثم تساءل القرافي:كيف لا يرضى ابن الله بقضاء الله، وهو سوف يذهب للقاء والده، فينبغي أن يكون ولد الرب الأثبت عند المصائب، والأكثر رغبة في لقاء والده (207).
      - وقد نفى نصر بن يحي المتطبب بنوة المسيح -عليه السلام- لله سبحانه وتعالى باعتراضه على النصارى من خلال أمانتهم التي يعتقدونها إذ يقولون فيها:إن المسيح مولود من أبيه أزلي.. وأنه خالق الخلائق كلها..، فإذا كان الأمر كما يقول النصارى، فالمسيح ليس أزلياً؛ لأنه حادث بولادته، وإذا كان هو خالق الخلائق كلها، فأي فضل للأب على الابن (208).
      - وقد عمل العلماء على إبطال بنوة المسيح لله سبحانه من خلال تفنيد أدلة النصارى على ذلك، فقد استدل النصارى على بنوة المسيح لله ولد من غير أب، وقد ورد القرافي على ذلك بأن الأولى إثباتها لآدم لأنه وجد من غير أب، ولم يباشر الأرحام، ولا تطور في أطوار البشر (209).
      - وقد بين العلماء إبطال نبوة المسيح من خلال إيضاح المعنى الصحيح للبنوة والأبوة اللتين وردتا في كتب النصارى: فبعد أن أورد الجعفري مجموعة من النصوص التي فيها لفظة البنَّوة كما في النصوص السابقة وضح أنه إن كان النقل لها فاسداً فلا بنوّة، وإن صح فإن معناها العبودية والخدمة والاجتباء والاصطفاء، فقول الله في الإنجيل: "هذا ابني" أي عبدي: والدليل أنها لم ترد في كتب النصارى في الغالب إلاّ مقرونة بالعبودية والخدمة، وإن وردت مطلقة فيحمل المطلق على المقيد، مثال ذلك في التوراة قول الله تعالى:"يا موسى قل لفرعون :يقول لك الرب الإله:إسرائيل ابني بكري، أرسله يعبدني (210)، ففسر البنوة بالعبودية (211).ووضح القرافي أن معنى الأبوة لله إحسانه لخلقه إحسان الآباء للأبناء وهو المراد من قول المسيح:إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم.والأبوة على هذا المعنى أمر مشترك بين عيسى وبقية الخلق، وهو معنى قول اليهود في القرآن:(نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ).[المائدة:18].ثم إن النصارى يحكمون بأبوة الولادة بصدر الكلام وهو قوله:أبي، ويعقلون عن قوله:وأبيكم، وعن قوله:وإلهي وتصريحه -عليه السلام- بأنه مخلوق مربوب، له إله يعبده (212).
      س- إبطال عقيدة الصلب الفداء: تُعدّ قضية الصلب والفداء من أهم عقائد النصارى؛ إذ يعتقدون أن هناك خطيئة ملازمة لكل إنسان يولد على هذه الأرض، وهذه الخطيئة موروثة منذ زمن آدم -عليه السلام- الذي أخطأ في حق ربه بأكله من الشجرة التي نُهي عن الأكل منها فاستحق لذلك العقوبة، وأورث هذه الخطيئة لذريته من بعده، ومن رحمة الله إنهاء الخطيئة المتوارثة بأن أنزل ابنه ليقتل ويُصلب فداء للبشرية وتكفيراً لخطيئة أبيهم آدم (213)وقال القرطبي في عرضه لعقيدة الصلوبية عند النصارى:لا خلاف عند النصارى أن أنكار صلب المسيح كفر، ومن شك فيه فهو كافر (214).
      وفي رسالة أحد القساوسة إلى أبي عبيدة التي عرض عليه فيها دين النصرانية، ودعاه إلى الدخول فيه وضح له عقيدة الصلب بقوله: حمداً لله الذي هدانا لدينه، وأيدنا بيمينه وخصنا بابنه ومحبوبه، ومد علينا رحمته بصلب يسوع المسيح إلهنا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهن، والذي فدانا بدمه المقدس، ومن عذاب جهنم وقانا، ورفع عن أعناقنا الخطيئة التي كانت في أعناق بني آدم بسبب أكله من الشجرة التي نُهي عنها، فخلصنا المسيح بدمه، وفدانا بدمه، ومن عذاب جهنم وقانا (215).
      وقد ناقش العلماء المسلمون هذه القضية موضحين عدم وقوع الصلب على المسيح -عليه السلام- ومبطلين أساس هذه العقيدة – وهو الفداء بسبب الخطيئة –وذلك بتفنيد أدلة النصارى ومزاعمهم حولها، وفيما يلي عرض لذلك:
      - إبطال الصلب:وقد كان إبطال هذه العقيدة على النحو التالي:
      - بيان عقيدة المسلمين في أن عيسى -عليه السلام- لم يُقتل ولم يصلب فعند تفسير قوله تعالى:(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ ).[النساء:157]، وضح ابن الجوزي أقوال العلماء في ذلك مبيناً فيها أن الذي قُتل وصُلب ليس المسيح -عليه السلام- وإنما هو شخص منهم أُلقي عليه شبه المسيح، أما المسيح فقد رفعه الله إليه (216)، وبين القرطبي أن هذه الآية رد على النصارى، وأنهم لم يقتلوا المسيح عليه السلام، بل ألقي شبه على غيره (217).وعند قوله تعالى:(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ).[الأنفال:30]وضح القرطبي أن مكر الله هو إلقاء شبه عيسى على غيره، ورفعه عليه السلام إليه، حيث رفعه جبريل إلى السماء، وذلك في كوة البيت الذي لجأ إليه، وألقي شبه عيسى على يهوذا الذي دخل في أثره، فأُخذ وقُتل وصُلب (218).وقال أيضاً:والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، كما قال الحسن وابن زيد وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس (219). ومعنى الوفاة في قوله تعالى:(يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)أي قابضك إليَّ (220)، وفي مناقشة القرطبي لعقيدة الصلب لدى النصارى قال: ... إن عيسى ابن مريم لم يقتله اليهود ولا غيرهم، بل رفعه الله إليه من غير قتل ولا موت (221). وبعد أن عرض الجعفري قصة صلب المسيح عليه السلام في رأي النصارى ختم بقول الله تعالى:(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ ).[النساء:157].
      وذكر الأدلة من كتب النصارى على عدم وقوع الصلب: وهي كثيرة فمن ذلك:
      - ما أورده الجعفري أن متى قال في إنجيله: إن رئيس الكهنة أقسم بالله الحي على المأخوذ: أما قلت لنا إن كنت المسيح ابن الله الحي؟ فقال له:أنت قلت (222). حيث عقب الجعفري على ذلك بقوله: .. وذلك من أدل الدلالة على أن المأخوذ ليس هو السيد المسيح، ولو كان هو المسيح نفسه لم يوار في الجواب .. وكيف المسيح ويقسم عليه بالله تعالى: أين المسيح؟ فلا يقول له:أنا المسيح (223).
      - إن مستند النصارى في إثبات الصلب هو نصوص من الإنجيل والإنجيل قابل للتحريف والتبديل، وفيه من التناقض الشيء الكثير والأدلة على ذلك أكثر من أن تُحصر.
      - إن النصوص التي يستدل بها النصارى على صلب المسيح ليست قاطعة في ذلك بل يتطرق إليها الاحتمال الكبير في أن المصلوب غير عيسى، ومن شوهد ذلك:
      - جاء في الإنجيل أن المصلوب استسقى اليهود ماءً فأعطوه خلاًّ ممزوجاً والأناجيل كلها مصرحة بأنه كان يطوى أربعين يوماً وليلة ويقول للتلاميذ:إن لي طعاماً تعرفونه، وبعد أن أورد الخزرجي ذلك عقب عليه متسائلاً:كيف بمن يستطيع الصبر أربعين يوماً على الجوع والعطش بأن يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد؟ وهذا لا يفعله أدنى الناس، فكيف بخواص الأنبياء؟ لذلك فإن المدعي للعطش غير المسيح عليه السلام (224).
      - إن المسيح عند صلبه في زعم النصارى قال:إلهي إلهي لِمَ خذلتني، وقد ناقش الخزرجي ذلك بأن هذا القول من عيسى عليه السلام فيه اعتراض على قضاء الله، وهذا مما ينزه عنه، خصوصاً وأن النصارى يذكرون أن الصلب كان لتخليص الناس من الخطيئة، فكيف يفديهم بنفسه راضياً مختاراً، وهذا القول منه فيه تبرّم وعجز ورغبة في الخلاص من قبضة من أراد به السوء، مع ما يُضاف إلى ذلك من أن النصارى يروون في كتبهم أن الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب كانوا مستبشرين عند الموت بلقاء الله، ولم يهابوا مذاقه مع أنهم عبيد الله والمسيح ابن الله بزعم النصارى، فينبغي أن يكون أثبت منهم، ذلك كله يدل على أن المصلوب غير عيسى ابن مريم(225).
      وقد تصدى العلماء لعقيدة الصلب وهو الفداء بسبب الخطيئة، وبينوا بطلانها، وكان ذلك على النحو التالي:
      - إيضاح مبدأ الإسلام في أن الإنسان لا يُؤاخذ بذنب غيره، فبعد أن وضح الجعفري أن التوبة تكفر الذنب، وأن الإنسان لا يؤاخذ بخطيئة غيره، ثم أورد على ذلك نصوصاً من كتب النصارى عقب بعدها بقوله:... وذلك موافق لقول ربنا جلَّ اسمه:(وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).[الأنعام:164].
      - ذكر الأدلة من كتب النصارى والتي تنفي أن يُعاقب الإنسان بذنب غيره؛ إذ أورد الجعفري مجموعة من النصوص من كتب النصارى تهدم أساس اعتقادهم بالصلب، وأنه كان تكفيراً لخطيئة آدم عليه السلام، فمن ذلك ما جاء في التوراة أن الله قال لقابيل: إنك إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة ببابك (226).وقوله:لا آخذ الولد بخطيئة والده، ولا الوالد بخطيئة ولده، طهارة الطاهر له تكون، وخطيئة الخاطئ عليه تكون (227).
      - وقد وضح كثير من علماء عصر الحروب الصليبية الذين ناقشوا النصارى ومنهم على سبيل المثال: الخزرجي والقرطبي أن الصلب الذي وقع على عيسى تكفيراً لخطيئة آدم يتنافى مع عدل الله، وأن هذا من الظلم الذي ينزه الله عنه، فلا يأخذ سبحانه وتعالى أحداً بذنب غيره(228).
      -وعلى زعم النصارى أن البشرية غارقة في خطيئة أبيهم آدم عليه السلام، ثاوية بالجحيم حتى جاء عيسى -عليه السلام- وخلصهم من ذلك بصلبه، تساءل كل من الخزرجي والقرطبي هل من هؤلاء الثاوين بالجحيم أنبياء الله إبراهيم وموسى وغيرهم ثم يجيبان على ذلك التساؤل بأن هذا لو كان لصرحت به التوراة، ونطقت به الأنبياء السابقين لعيسى عليه السلام (229).
      - وبعد أن وضح القرافي أن صلب المسيح على قول النصارى إنما كان لخلاص العالم من خطيئة أبيهم آدم، سألهم:ما معنى هذا الخلاص الذي يريدونه؟ هل هو من شرور الدنيا وآفاتها؟ فهاهم مشاركون لسائر البشر في الخير والشر.أم من تكاليف العبادة؟ فهاهم مخاطبون بالمبادرة.أو من أهوال يوم القيامة؟ فيكذبهم الإنجيل الذي ورد به قول الله:إني جامع الناس في يوم القيامة عن يميني وشمالي، فأقول لأهل اليمين:فعلتم خيراً، فاذهبوا إلى النعيم، وأقول لأهل الشمال؛ فعلتم شراً فاذهبوا إلى الجحيم (230) وبناء على ذلك فما فائدة الصلب والفداء إذن(231)؟
      - وبعد أن قرر الجعفري النصارى بقولهم:إن سبب الصلب هو التكفير من خطيئة آدم عليه السلام، ثم قولهم بتوبة آدم من هذه الخطيئة، كما تصرح بذلك كتبهم ألزمهم بلازمين لا مفرّ لهم منها:
      - إن اعترفوا بتوبة آدم فما فائدة الصلب الذي يعتقدونه.
      - إن قالوا بعدم توبته كذبتهم، وكلا اللازمين يبطلان عقيدة الفداء من الخطيئة (232).
      رابعاً: مناقشة شعائر النصارى وطقوسهم:تُعدّ النصرانية فقيرة في تشريعاتها وأحكامها والعناية الكبرى فيها بالروحانيات التي أهملها اليهود حينما أفرطوا في ماديات الحياة، وهذا ما يؤكد أنها تكملة لأديان بني إسرائيل (233)، وقد عبر أحد العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية عن ذلك بقوله:ليس للنصارى شيء من الأحكام والفرائض والسنن المحتاج إليها في المعاملات والمناكحات والأناجيل التي بأيديهم ليس فيها سوى مواعظ ووصايا قد خلطت بكفر بواح .. وأي شيء استحسنوه بعقولهم شرعوه وحكموا به (234).وقد كان النصارى الأوائل يوجبون على أنفسهم ما أوجبته التوراة والإنجيل، ويحرمون على أنفسهم ما حرمته، ولا يستثنون من ذلك إلاّ ما صرح المسيح نفسه بنسخه أو تعديله، واستمروا على ذلك حتى رُفع المسيح؛ حيث أخذ بعد ذلك دعاة النصرانية يغيرون ويبدلون في التشريع حسب أهوائهم، وكان حجتهم في ذلك جذب أكبر عدد ممكن من الأمميين إلى الدخول في النصرانية(235)، ولذلك فغالب الشعائر والطقوس النصرانية اليوم من وضع بولس، ولا ينكر دور المجامع في الإلغاء أو الإضافة فيها، ثم لما أثبتت العصمة للبابا صار له الحق في إصدار القرارات والأحكام، وما تسرب للنصرانية من طقوس وعبادات وثنية انتقلت إليها من المناطق والشعوب التي امتدت إليها النصرانية في عهودها الأولى (236) ومما يجدر ذكره أن الطقوس والشعائر النصرانية المبتدعة كثيرة جداً، وتناوُل العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية لها ليس على سبيل الحصر، وإنما أمثلة توضح تحريف النصارى لديانتهم وابتداعهم فيها، وبطلان ما استندوا عليه من إثباتها، وقال القرطبي في مقدمة مناقشته لبعض عبادات النصارى وطقوسهم:غرضنا من هذا الفن أن نجمع مسائل من قواعد أديانهم، ونبين فسادها، وأنهم ليسوا على شيء فيها، بل تركوا نصوص التوراة والإنجيل، وعملوا لخلافها من غير حجة ولا دليل (237)، وفيما يلي عرض لبعض جهود علماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية في مناقشتهم لبعض عبادات النصارى وطقوسهم (238).
      8-المعمودية:المعمودية أو التعميد شعيرة من شعائر النصرانية، لا يُقبل إيمان نصراني إلاّ بها، وهو عند النصارى يعني الغطس بالماء باسم الأب والابن وروح القدس، إشارة إلى التطهير من أدران الخطيئة بدم المسيح (239). وقد حل التعميد عند النصارى محل الختان في اليهودية (240)، ومستندهم فيه قول المسيح عليه السلام: فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس (241)، وإن يوحنا عمّد المسيح في وادي الأردن، فخرج منه روح القدس كالحمامة على الماء (242). ومن علماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية الذين ناقشوا المعمودية لدى النصارى القرطبي، حيث وضح صفتها عند نصارى الأندلس بقوله:إن الذي يريد أن يدخل في دينهم، أو التائب منهم تتقدم الأقسة منه فيمنعونه من اللحم والخمر أياماً، ثم يعلمونه اعتقادهم وإيمانهم، فإذا تعلم ذلك اجتمع له القسيسون، فتكلم بعقيدة إيمانهم أمامهم، ثم يغطسونه في ماء يغمره، وقد اختلفوا هل يغطسونه مرة واحدة أو مرتين أو ثلاثاً؟ فإذا خرج من ذلك الماء دعا له الأسقف بالبركة ووضع يده على رأسه (243)، ثم بيّن القرطبي بعد ذلك أنه ربما اختلفت صفتها، لكنها عندهم عبادة مؤكدة، ومن لا يقبلها عندهم فهو كافر(244). ثم أبطل القرطبي هذه المعمودية التي ابتدعوها على النحو التالي:
      - أنه لم يرد ذكرها في التوراة ولم يشرعها الله لنبيه موسى عليه السلام.
      - أن مستند النصارى في هذه المعمودية هو فعل يحيى عليه السلام والحواريين، فإذا صح ذلك من يحيى والحواريين فلِمَ لا يكون خصوصية لهم؟ وإن قلتم أيها النصارى إنه ليس بخصوصية فأتوا بالدليل، ولن تقدروا (245).
      وزاد القرافي على ذلك بقوله:ولو سلمنا عموم شرعيتها فَلِمَ زدتم العدد، ووضع اليد على الرأس، أو النفخ في الوجه ولم يُنقل ذلك عمن تقدم منكم؟ ولِمَ تكفرون مخالفيها من غير دليل(246)؟
      - وبين القرطبي أنه لعل يحيى والحواريين عمدوا الناس؛ لأن ماءهم كان مقدساً ودعاءهم متقبلاً، فيحيى نبي والحواريون أنبياء بزعمكم أيها النصارى، أما أنتم فَلِمَ تعمدونهم؟ فلستم أنبياء وماؤكم ليس مقدساً فلستم إذن مثلهم (247).
      - وناقش كل من القرطبي والقرافي النصارى في أصل المعمودية لديهم، هل كان عيسى -عليه السلام- قبل أن يعمده يحيى مقدساً أم لم يكن؟ فإن كان مقدساً فلا فائدة من فعل يحيى، ولماذا لم ينزل عليه روح القدس قبل التعميد؟ وإن كان غير مقدس فكيف يكون من ليس بمقدس إلهاً أو ابن إله (248) ثم ختم القرافي مناقشته للنصارى في مسألة المعمودية بقوله:وهل هذا كله إلاّ هذيان، وضرب من الخذلان؟ وهذا – أي المعمودية – على أظهر أحكام شريعتهم وأقواها مستنداً فكيف بأضعفها (249).
      8- الاعتراف وصكوك الغفران:الاعتراف في النصرانية يعني أن يأتي المذنب ويعترف بخطاياه وذنوبه أمام القس أو الكاهن في الكنيسة ثم يمسحه هذا الكاهن فتُغفر ذنوبه (250)، وقد استخدمت الكنيسة في أوروبا الغفران من الذنوب وسيلة من وسائل التشجيع على الحروب الصليبية ضد المسلمين سواء كان ذلك في المشرق أو في الأندلس (251)، ومن علماء عصر الحروب الصليبية الذين ناقشوا هذه القضية؛ إذ وضح أنه لابد للمذنب ليغفر له من كفارة، وتلك الكفارة بحسب ما يظهر لقساوستهم ويرونه موافقاً لغرضهم، فتارة يوجبون على المذنب خدمة الكنيسة، وتارة لا يدخلها بل يقف عندها متذللاً، وتارة يوجبون عليه مالاً لملكهم، أو لهم ولكنائسهم (252)، ثم ضرب القرطبي أمثلة على بعض الذنوب وما شرعه قساوستهم لغفرانها، منكراً عليهم أن يجعلوا أنفسهم مشرعين وينزلوا أنفسهم منزلة رب العالمين في التشريع والغفران، على الرغم من أن كثيراً من هذه الذنوب له حكم في التوراة التي يؤمنون بها (253)ووضح القرافي أن قسس النصارى أنزلوا أنفسهم منزلة الله سبحانه وتعالى في غفران الذنوب، وهم بهذا الابتداع الذي هو من عند أنفسهم يبعثون العصاة على المجاهرة، ويشيعون الفاحشة، وينشرون الفضيحة في الذراري والأعقاب، وأي مفسدة أعظم من هذه (254)ثم ذكر القرافي مشاهدته لذلك وآثاره في المدن الصليبية النصرانية كعكا وغيرها من سائر مدن النصارى (255)وبين الجعفري أن هذه البدعة لدى النصارى وسيلة للتحكم في حال المذنب وماله لصالح أكابرهم، ثم أبرز خطرها على الشخص وعلى المجتمع بإشاعة الفاحشة ونشر الفضيحة، مختتماً ذلك بالإشارة إلى أن هذه البدعة لا أصل لها في شريعة أو نص عليها موسى، لكنها مختلفة من جهلة مشايخ النصارى (256).
      8- أعياد النصارى:أعياد النصارى كثيرة جداً، فكل حدث ذو أهمية بالنسبة لهم يعظمونه ويحتفلون به، ثم يتحول لدى الأجيال اللاحقة إلى عيد يحتفل به إحياءً لذكراه، فابتدعوا لذلك أعياداً كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، وفي فترة الحروب الصليبية كان الاحتفال بهذه الأعياد وغيرها منتشراً بين النصارى، بل وربما شاركهم بعض المسلمين فيها؛ ففي الأندلس مثلاً كان من أعياد النصارى عيد ميلاد عيسى -عليه السلام- والمحدد بالخامس والعشرين من شهر ديسمبر، ويناير سابع ولادته، ويوم ختنه وهو أول السنة الميلادية، والعنصرة والذي يعتقد أنه يوم مولد يحيى بن زكريا عليه السلام، ويوافق اليوم الرابع والعشرين من يونيه، وخميس إبريل الذي يرمز عند النصارى إلى يوم صلب المسيح في اعتقادهم (257)وفي معرض مناقشة كل من الجعفري والقرافي لأعياد النصارى عدّدا أهمها ومنها:
      - عيد ميكائيل في مصر وتخومها، وكان النصارى في فترة الحروب الصليبية تحتفل به وتعظمه، وسبب إحداث هذا العيد أنه كان في الإسكندرية صنم يعظمه أهلها، ويعدون له عيداً عظيماً، فولي بطركة الإسكندرية الأكصيدروس، فرام إبطال هذا العيد فلم يقدر من العوام فصرفهم لذلك بأن يجعلوا هذا العيد لميكائيل الملك وليس للصنم، فيذبحوا له ذبائحهم ليشفع لهم عند الله فأجابوه لذلك (258).
      - وعيد الصليب وسبب إحداثه:أن اليهود اتخذوا المقبرة التي دفن فيها الشبه مزبلة يطرحون فيها الأوساخ تحقيراً لشأن المصلوب، فأقامت على ذلك نحوا من ثلاثمائة سنة إلى أن جاءت زوجة قسطنطين الملك، فأمرت بالكشف عن المقبرة، فظهرت لها فإذا هي ثلاثة صُلُب وهي صليب اللعين والشبيه فقالت: كيف لنا أن نعلم خشبة ربنا التي صُلب عليها؟ وكان هناك مريض قد أشرف على الوفاة فوضع عليها الصليب الأول فلم يقم، فأمسته الثاني فلم يقم، فأمسته الثالث فقام فعلمت النصارى أنه صليب الرب فعلقته بالذهب وبعثت به إلى الملك (259).
      - ومن أعيادهم التي ذكرها القرطبي:يوم بشارة جبريل مريم بالمسيح، ثم يوم ميلاده، ويوم ختنه، ويوم الفصح وهو قيامه من القبر، ثم يوم رقيه إلى السماء، وبعد ذكر الجعفري والقرافي لبعض أعياد النصارى وضحاً أن لا أصل لها في شرعهم البتة، وأنها مما أحدثوه وابتدعوه في دينهم (260)ثم بين الجعفري أن لا حجة لإبطال البدعة ببدعة مثلها، وذلك أن هذا الراهب أراد أن يبطل تعظيم العامة لهذا الصنم فابتدع عيد ميكائيل، حيث قال :والشيء الضعيف لا يزيده الأمر الباطل إلاّ ضعفاً والحق مستغن بنفسه عن أن يقوى بأمثال هذه الترهات (261)، وأشار كل من الجعفري والقرافي إلى أن الأولى للنصارى أن يمقتوا الصليب لا أن يعظموه، ويتخذوا له عيداً، وذلك أنه صلب عليه إلههم بزعمهم، وإن كان هذا التعظيم من أجل أن الصليب مس المسيح فلماذا لا يعظم النصارى الحمر، ويسجدوا لها؛ فقد أخبر لوقا أن المسيح ركب حماراً عند دخوله المدينة (262).
      وبين القرطبي أن هذه الأعياد التي يعظمها النصارى ليست واجبة بالشرع، وإذا كان هذا مستندهم فمن أخبرهم من الأنبياء بأن مثل هذه الأحوال تتخذ عيداً؛ إذ ليس في كتبهم شيء من ذلك، ثم إن أيام عيسى كلها شريفة فلا يخلو يوم له من كرامة يكرمه الله بها، فإذا كان الأمر كذلك فعلى النصارى أن يبحثوا عن أيام عيسى وعن عددها ويتخذوها أعياداً، وإلاّ لما خصصوا البعض وتركوا البعض الآخر(263).
      8- صلاة النصارى وصيامهم:
      8- الصلاة:من العلماء المسلمين الذين ناقشوا شعيرة الصلاة لدى النصارى القرافي الذي ذكر أن عدد صلواتهم في اليوم والليلة ثماني صلوات؛ حيث أورد الأدعية التي يردّدونها في كل صلاة منتقداً لها ومبيناً تناقضها (264)وقد أورد الجعفري أيضاً طرفاً من أدعيتهم في بعض صلواتهم، مبيناً تناقضها وفسادها بما تقتضيه من عقيدة التثليث والصلب والخطيئة، وغير ذلك من عقائدهم الباطلة (265)والصلاة عند النصارى في زعمهم تقربهم إلى الله عن طريق المسيح، وهي عبارة عن أدعية وترانيم يردّدونها ويؤكدون على بعض الأوقات أكثر من غيرها، وهي صلاة الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة من النهار عند بداية الليل، ونهايته، وعند تناول الطعام (266).
      8- الصوم:والصوم عند النصارى – يعني الامتناع عن الطعام مدة من النهار قد تصل إلى الظهر أو العصر أو الغروب حسب مقدرة الصائم، يتناول بعدها الصائم أطعمة خالية من الدسم الحيواني (267)وفي مناقشة العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية لصيام النصارى وضحوا أصل وجوبه عندهم، ثم ما ابتدعوه فيه زيادة ونقصاً، حيث بين كل من القرطبي والقرافي في مناقشتهما لذلك أن صيام النصارى حسب قول أحد أكابرهم أنه أربعون يوماً التي صامها موسى عليه السلام، ثم صامها المسيح، وجعلها علماء النصرانية ثلاثة وأربعين يوماً عُشر أيام السنة كما وضع لهم ذلك بولس (268).ثم يوضحان أن هذه الثلاثة أيام التي صاموها زيادة على ما افترض عليهم، إما أن الأنبياء تركوا أمر الله سبحانه وتعالى بعدم صيامها وذلك محال، أو أنهم لا يعرفون وجوب صيامها، وأنتم أيها النصارى الذين علمتم ذلك، وهذا محال؛ لأن الأحكام إنما تُسند إلى أقوال الأنبياء وكتبهم، والذي شرع لكم ذلك إنما هو بولس، وهـو الـذي أفسد عليكم دينكم فكيف تأخذون بقوله وتتركون فعل موسى وعيسى وإلياس وغيرهم (269)، وبين الجعفري نماذج من زيادات النصارى، وابتداعهم في صيامهم ومن ذلك زيادتهم جمعة في صيامهم الكبير(270)، لأجل هرقل حينما قتل اليهود نصرة لهم وذلك تكفيراً لخطيئته (271)، ثم عقب على ذلك بقوله:ولا شك أن هذا وشبهه من باب التلاعب بالدين، وقد صار هذا النمط سجية للنصارى وخلقاً (272)، وأشار الجعفري إلى ترك النصارى أكل اللحم في صيامهم وتحريمه، وذلك مما أحدثوه بالرأي بعد المسيح(273).
      5- تشريع النصارى في الزواج:ترغب الأناجيل عموماً بالعزوبة وتدعو إلى الزهد وترك الزواج إلاّ من خاف على نفسه الزناالزواج بواحدة فقط، يقول بولس:...إذاً من زُوج فحسناً يفعل، ومن لا يزوج يفعل أحسن (274).وقال:فحسن للرجل ألاّ يمسّ امرأة (275)وقال:..ولكن أقول لغير المتزوجين وللأرمل إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا، ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا (276)وأما القسس والرهبان فمحرم عليهم الزواج اقتداءً بالمسيح بزعمهم (277)، وقد ناقش بعض العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية مسألة الزواج عند النصارى ومنهم الجعفري والقرافي وكان ذلك على النحو التالي:
      8- بيان ضلالهم في ذلك، وأن الأمر بترك الزواج مما لا يصح نسبته إلى المسيح.
      8- إن ما تمسك به النصارى من نصوص في الإنجيل ظاهرها الترغيب بترك الزواج من أجل الله كقول المسيح عليه السلام: ... من ترك زوجة من أجلي، فإنه يعطى للواحد مائة ضعف ويرث الحياة الدائمة (278). ولا يجوز إجراؤه على ظاهره، إذ المقصود من ذلك – إن صح – ترك الزوجة إذا طلبت فراقه لعجزه أو لأي سبب آخر (279).ثم إن في الإنجيل أيضاً نصوصاً تعارض ذلك منها قول المسيح: إن الذي زوجه الله لا يقدر أحد على تفريقه (280)وقوله:من طلق زوجته باطلاً فقد عرضها للزنا (281).
      ج- والزواج سنة المرسلين وخواص الأولياء ودأب النجباء الأقوياء، ومن رغب عن سنة الأنبياء التحق بالأغبياء (282).
      د- إن في ترك الزواج سداً لباب الذرية الصالحة وقطعاً للتناسل وانقراضاً لجنس الآدميين.
      ? - إن في تركه تعريضاً للرجال والنساء للزنا والفساد، والوقوع في الآثام.
      و- إن الزواج يشتمل على قربات كثيرة، منها عفاف الزوجين والتسبب في حياة عبد صالح يعبد الله ويرغم الشيطان، وغير ذلك (283)ثم يعقب القرافي موضحاً أن المنافع المترتبة على الزواج أفضل مما انقطع له الرهبان من العبادة والصلوات (284).
      6- مناقشة النصارى في تركهم الختان: كان الختان معروفاً قبل زمن إبراهيم عليه السلام، فإن المصريين القدماء كانوا يختتنون (285)، وقد جاء في إنجيل برنابا ما يدل على أن أصل فريضة الختان منذ ابتداء الخليقة (286)، وقد نصت التوراة على أن إبراهيم أمر بالختان هو ونسله، فخُتن وهو ابن ثمانين، وجاء في السنة ما يدل على ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم (287)، وصار الختان في اليهود فرضاً من الفروض الدينية، فاختتن موسى عليه السلام، وكذلك عيسى عليه السلام لإكماله شريعة التوراة، بل إنه لدى النصارى صلاة يؤدونها تذكرة لختان عيسى عليه السلام (288)، وقد استطاع بولس أن يصرف النصارى عن سنة الختان حتى اتخذوا قراراً بتركه في مجمع أوشليم المنعقد بعد رفع المسيح بثنتين وعشرين سنة (289)، والحجة في ترك الختان جلب الأمم الوثنية في ذلك الوقت من إغريق ومصريين ورومان في الدخول بالنصرانية وكان يشق عليهم الختان (290)وفسروا الأمر بالختان في التوراة بأنه نقاوة القلوب وصفاء النية وذهاب الغلوف من القلوب (291)، ومن ضمن ما ناقشه العلماء المسلمون من تشريعات النصارى في فترة الحروب الصليبية إبطالهم سنة الختان، إذ بيّن القرطبي أن هذه السنة ثابتة بالتوراة، وإبطال النصارى لها لا أصل له، ثم وضح أنهم بذلك تركوا ما حكم الله اتباعاً للهوى، ثم كذبوا على الله بتفسيرهم الختان المأمور به في التوراة بأنه إزالة غلوفة القلوب، وتسفيههم أحكام الله لقولهم إنه لا فائدة من الختان، ثم شرح القرطبي فوائد هذه السنة بكونها عبادة لله سبحانه، والنظافة المترتبة على القيام بها؛ إذ وجود هذه الغلفة مدعاة لتراكم كثير من الأقذار إلى غيّر ذلك (292).
      وبعد أن بيّن القرافي مشروعية الختان في اليهودية وعند النصارى وضح أثر بولس في إبطال هذه السنة(293)، وبعد أن ذكر الجعفري مشروعية الختان في التوراة وأن تاركه يُقتل قال:فقد وضح كفر من خالفه من النصارى وغيرهم، وقد ترك الروم والفرنج وغيرهم الختان، ولم يزل النصارى يختنون بعد رفع المسيح إلى أن أتاهم رجل يُدعى عندهم بولس بعد المسيح بمدة متطاولة فقال لهم: إن الختان ليس بشيء، وإن العزلة ليس شيئاً(294).
      7- تعظيم النصارى للصور والتماثيل:من الشعائر الوثنية التي انتقلت إلى النصرانية عبادة الصور والتماثيل وتبجيلها حتى امتلأت كنائسهم وأديرتهم بتماثيل للمسيح ولأمه وللقديسين وغيرهم، وقد وضح ابن تيمية أن اتخاذ الصور والتماثيل مما أحدثه النصارى، فلم يرد ذلك عن أحد من الأنبياء (295).
      وليس في التوراة ما يستند عليه النصارى في اتخاذهم هذه الصور والتماثيل وعبادتها، بل إن فيها النهي الصريح عن ذلك ومنه ما جاء في سفر التثنية: لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً صورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك غيور (296)وقد كانت هذه الشعيرة لدى النصارى محدودة النطاق، ثم ما لبثت أن نمت تدريجياً وانتشرت انتشاراً واسعاً، ثم أصبحت من ضمن الشعائر النصرانية، وذلك عن طريق إقرارها في مجامعهم، خاصة في المجتمع النيقاوي الثاني نسبة إلى المدينة التي عقد فيها وهي – نيقية – عام 787م حيث أُصدر قرار أيد فيه تعظيم صور المسيح وأمه والقديسين واتخاذها ليس فقط في الكنائس بل وفي البيوت (297)، ولا شك في خطورة اتخاذ الصور والتماثيل وتعظيمها على عقيدة التوحيد، إذ كانت السبب الأول لإنحراف البشرية من التوحيد إلى الشرك، ففي الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله تعالى:(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)[نوح:23]. قال أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت (298)وقد كان من ضمن الشعائر الوثنية النصرانية التي ناقشها العلماء المسلمون في عصر الحروب الصليبية هذه الشعيرة، قال القرافي:وأكثر النصارى يسجد للتصاوير في الكنائس وهو من كفرهم القبيح، وأي فرق بين عبادة الأصنام والسجود للتصاوير (299)، ثم وضح أن ذلك لو كان مشروعاً في النصرانية لسجد التلاميذ للمسيح في حال حياته والنصارى بتعظيمهم لهذه الصور والتماثيل مخالفون لتعاليم المسيح ومخالفون لكتبهم؛ إذ ليس فيها ما يدل على مشروعية ذلك (300)، وأشار الجعفري إلى أنه لا تكاد تخلو كنيسة من كنائسهم من الصور والتماثيل متسائلاً عن مستند النصارى في ذلك، وما هو في الحقيقة إلاّ العناد وعبادة الأنداد؛ إذ الأناجيل ليس فيها ما يدل على مشروعية ذلك، بل إن التوراة تكفر عابد الصور والمسيح مصرح بأنه لم يأت التوراة بل جـاء لإكمالها (301).
      8- حقيقة خوارق العادات لدى النصارى والتي يلبسون: وفي عصر الحروب الصليبية ناقش بعض العلماء المسلمين ذلك لدى النصارى؛ إيقاظاً للعقول الغافلة وكشفاً لتلبيس ضُلاَّلهم؛ أملاً في إزالة عقبة من العقبات المانعة من الهداية، وما في ذلك من إقامة للحجة عليهم بزوال ما قد يتعلقون به من هذه الخزعبلات؛ إذ قال الخزرجي مبيناً سبب كثرة هذه الخزعبلات لدى النصارى وموجهاً الخطاب لبعض قساوستهم في الأندلس: إن حذاقكم وعقلاءكم لما علموا أن دينهم ليس له قاعدة ينبني عليها، ولا أصل يرجع إليه، جمعوا عقول الأمة بتخيلات موهمة وأباطيل مزخرفة وضعوها في الكنائس والمزارات (302)ومن خزعبلاتهم أنهم وضعوا صوراً من الحجارة إذا قرئ الإنجيل عندها تبكي وتجري دموعها، ويشاهدها الخاص والعام، فيعتقد العامة أن ذلك لما علمته من أمر الإنجيل، ثم وضح حقيقة ذلك، وهي أن لهذه الصورة مجاري دقيقة في أجوافها متصلة من ورائها بزقٍ مملوء بالماء فيعصره بعض الموكلين بذلك فيندفع الماء في تلك المجاري وتخرج من عيون تلك الأصنام على هيئة دموع (303).
      وبعد أن سرد الخزرجي صوراً من هذا القبيل مبيناً أنه شاهد بعضها وسمع عن البعض الآخر قرر أن هذه الهذيان لا تجوز إلاّ عليكم أيها النصارى، ولا يتعبد بها من جُهّال العالم غيركم (304)، ومن خزعبلاتهم التي ذكرها القرافي دعواهم أن مريم أم المسيح عليه السلام تنزل على دار المطران بطليطلة في يوم معروفٍ من السنة وهم جازمون بذلك.ثم تساءل القرافي مفنداً ذلك: هل نزول أم المسيح بإذن الأب أو بغير إذنه؟ فإن نزلت بإذنه فلمَ لا يرسل ملائكته ويوقر أم ولده ويصونها عن التبذل لرجل أجنبي، وإن كان بغير إذنه فكيف اصطفى الأب لنفسه من يتفرق بغير إذنه (305)؟ وتتلخص هذه القصة في أنه لما اشتدت الحال بالصليبيين المحاصرين في أنطاكية، جاءهم الغوث من السماء بأن رأى أحد قساوستهم أن أحد الحواريين جاءه في المنام ليريه مكانة الحربة التي طعن بها السيد المسيح، وأنها في كنيسة أمير الحواريين، حيث فتشوا عنها حتى وجدوها (306):فطرحوا عنهم ما كان بهم من الفزع، وتنفسوا الصعداء، وأحسوا أنه قد عاودهم بأنهم من جديد (307). بل إن هناك البعض لأجل هذه الحربة رأى رأي العين أشباح الملائكة والرسل (308)، وعرض ابن الأثير هذه القصة مبيناً أنها من حيل أحد القساوسة التي لبّس بها على العامة وصدقوه بها، ثم وضح أنه مما زاد فتنتهم بهذه الحربة أن ظهروا على المسلمين في هذه الموقعة (309)، وهكذا ناقش علماء هذه الفترة شعائر النصارى وطقوسهم مبينين تحريفها وابتداعهم لها، وبطلان ما استندوا عليه في إثباتها، بحيث يتضح لكل عاقل منهم ضلال ما هم عليه بالتمسك بها وممارستها، ويدركون مدى تلبيس علمائهم عليهم في تزيينها لهم والادعاء أنها من صلب ديانتهم (310).
      خامساً: أهم الشبه التي أثارها النصارى في عصر الحروب الصليبية:
      منذ أن بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عصرنا الحاضر وأعداء الإسلام يثيرون الشبهات حول هذا الدين، كأحد أسلحتهم في محاربته والحد من انتشاره، ولن يفلحوا أبداً كما قال تعالى:(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).[الصف:8]ولذلك فليس غريباً أن يكون هذا الأمر مما حرص عليه النصارى في عصر الحروب الصليبية، ولاسيما أن هذه الفترة كانت من أشد فترات الصراع العسكري بينهم وبين المسلمين، وكثير من هذه الشبه التي أثارها النصارى في هذه الفترة سبق وأن أثارها أعداء الإسلام قبلهم من المشركين أو اليهود أو غيرهم، ولا شك أن الشبهات حجاب يمنع قبول الحق خصوصاً عند قوم مثل النصارى الذين اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله، فالقول عندهم ما قاله القسيس، لذلك حجب ضلال قساوستهم الحق عن عامتهم، ولهذا من أهم طرق إرشادهم إلى الحق هو إزالة هذه الشبه المانعة من قبوله عن الكثيرين منهم، ولذلك حرص كثير من العلماء في عصر الحروب على دحض شبهات النصارى حول هذا الدين؛ حماية له من تشويه ضلالتهم، ورجاء أن يصل إلى عامتهم على الوجه الصحيح فيكون ذلك أدعى في قبوله لديهم وفيما يلي عرض لأهم الشبه التي أثارها النصارى في هذه الفترة، ونماذج من تفنيد بعض العلماء المسلمين لها (311).
      1- دعوى خصوصية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالعرب:
      مما يتحدث به النصارى قديماً وحديثاً أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- نبي العرب خاصة وعلى ذلك قد شملهم رسالة الإسلام، وفي عصر الحروب الصليبية أثيرت هذه الشبهة، وتصدى لها بعض العلماء المسلمين مفندين لها موضحين الحق في عموم رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة (312)، فقد ورد في رسالة لأحد كتاب النصارى موجهة إلى المسلمين في هذه الفترة:.. إن محمداً -صلى الله عليه وسلم- لم يبعث إلينا، فلا يجب علينا اتباعه (313)، حيث استدل هذا النصراني بآيات من القرآن إلى ما ذهب إليه منها قوله تعالى:(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).[يوسف:3].وقوله:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ).[إبراهيم:4].وقوله:(لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). [القصص :46].
      وقوله:(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).[الشعراء:214]ثم قال هذا النصراني:لا يلزمنا إلاّ ما جاء بلساننا، وأتانا بالتوراة والإنجيل بلغتنا (314)، وكان رد القرافي على هذه الشبهة على النحو التالي:
      أ- إن الحكمة من إرسال الرسل عموماً بألسنة أقوامهم ليكون ذلك أبلغ في الفهم بينه وبينهم؛ حتى تقوم الحجة وتزول الشبهات ويحصل البلاغ، ليكون ذلك أدعى إلى فهم غيرهم (315).
      ب- أن هناك فرقاً بين قوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ).[إبراهيم، آية:4]وبين أن يُقال "وما أرسلنا من رسول إلاّ لقومه"؛ فالقول الثاني هو المفيد لاختصاص الرسالة بهم لا الأول.
      ج- أنه لو صحّ ما احتج به هذا النصراني من كون القرآن عربياً والنبي -صلى الله عليه وسلم- يتكلم العربية، فهو مرسل إلى العرب، لكان النصارى كلهم مخطئين في اتباع أحكام التوراة، فإنها نزلت بغير لسانهم، وكذلك القبط والحبشة ما علموا التوراة والإنجيل إلاّ كما يعلم الروم اللسان العربي بطريق التعليم (316).
      د- أنه وردت آيات كثيرة تدل على عموم الرسالة فإذا كان النصارى يعتقدون أصل الرسالة لكنها مخصوصة بالعرب، يلزمهم التعميم لهذه الآيات، كقوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً).[سبأ:28] وقد بين بعض العلماء المسلمين المعنى الصحيح للآيات التي استدل بها هذا النصراني على خصوصية الرسالة للعرب، فكون القرآن باللغة العربية ومحمد -صلى الله عليه وسلم- أرسل بلسان قومه العرب لا يفهم منه اختصاص رسالته -صلى الله عليه وسلم- حيث وضح كل من البغوي والرازي أن سبب إرسال الرسل بألسنة أقوامهم ليكون ذلك أدعى للفهم عنهم وأبعد عن الغلط (317)، ثم قال البغوي :كيف هذا؟ - أي إرسال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بلسان قومه وقد بعث إلى كافة الخلق قبل بعث من العرب بلسانهم والناس لهم تبع، ثم بث الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله عز وجل، ويترجمون لهم بألسنتهم (318). وبين الرازي أنه لا يفهم من قوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ).[إبراهيم :4] خصوصية رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم-بالعرب، وذلك للآيات الكثيرة الدالة على إرساله إلى الناس كافة، ولاحتمال أن المراد من – قومه – في الآية أي أهل بلده وليس أهل دعوته، ولأن التحدي بالقرآن، وقع لجميع الثقلين الإنس والجن ولم يكن للعرب خاصة، قال تعالى : (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).[الأسراء:88].(319).وقوله تعالى:(لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ).[القصص:46].لا يفهم منه خصوصية رسالته صلى الله عليه وسلم بالعرب الذين لم يأتهم نذير قبله، ولا يعني ذلك عدم إرساله لأهل الكتاب الذين جاءتهم الرسل، ففي تفسير قوله تعالى :(لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ).
      [يس:6].
      وبعد أن أورد الرازي هذه الشبهة وضح أن المراد بالآية أي: تنذر قوماً ما أنذروا بعدما ضلوا عن رسالة الرسول المتقدم، فيدخل في ذلك اليهود والنصارى، لأن ذلك دليل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى الخلق كافة (320)وأما قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ).[الجمعة:2].
      فبعد أن بين ابن الجوزي أن المراد بالأميين العرب نقل عن بعض العلماء في معنى الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى :(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).[الجمعة:3]فدلت الآية بذلك على عموم الرسالة وليس خصوصيتها للعرب دون غيرهم وبعد أن أورد الرازي احتجاج أهل الكتاب بهذه الآية على خصوصية رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- للعرب رد على ذلك بقوله:إنه لا يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه، ألا ترى إلى قوله تعالى :(وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ).[العنكبوت:48]أنه لا يفهم منه أنه يخطه بشماله (321)، وللآيات الدالة على عموم الرسالة كقوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً).[سبأ:28]، ثم إن قوله تعالى:(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ).[الجمعة:3]أن المراد كل من دخل الإسلام بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة، فيكون المراد بالأميين العرب، وبالآخرين سواهم من الأمم (322)، ولا يدل قوله تعالى:
      (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ).[الشعراء:214].
      على خصوصية الرسالة بهم دون سواهم، حيث وضح القرافي أن تخصيصهم؛ لكونهم أولى الناس بالدعوة لقرابتهم منه -صلى الله عليه وسلم- (323)، وذكر الرازي أن تخصيصهم بالإنذار في هذه الآية، بالإضافة إلى قرابتهم منه صلى الله عليه وسلم جاء أيضاً لعظم شركهم كتكذيبهم بالحشر الذي تجاوز كفر أهل الكتاب المكذبين بنبوته صلى الله عليه وسلم (324)وختم القرافي رده على استدلال هذا النصراني بهذه الآيات وما شابهها على خصوصية رسالة المصطفى صلى عليه بالعرب بقوله: فهذه الألفاظ ألفاظ لغتنا ونحن أعلم بها، وإذا كان عليه السلام هو المتكلم بها ولم يفهم تخصيص الرسالة ولا إرادته، بل أنذر الروم والفرس وسائر الأمم، والعرب لم تفهم ذلك، وأعداؤه من أهل زمانه لم يدعوا ذلك ولا فهموه، ولو فهموه لأقاموا به الحجة عليه، ونحن أيضاً لم نفهم ذلك فما فهمه إلاّ هذا النصراني الذي ساء سمعاً فساء إجابة (325)، وخاطب القرطبي النصارى مبيناً أنه لا يسعهم أن يستدلوا ببعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويتركوا البعض الآخر، فيجب عليهم أن يقبلوا ما جاء به إذا قبلوا بعضه، وذلك باستدلالهم بهذه الآيات وما شابهها على خصوصية الرسالة، وهو القائل صلى الله عليه وسلم أنه مرسل إلى الناس كافة وقد ظهر صدقه في قوله (326)وعّد ابن الجوزي هذه الدعوى من النصارى أنها من تلبيس إبليس عليهم، وإلاّ فمتى أثبتوا لمحمد صلى الله عليه وسلم أصل الرسالة والنبّوة، فإن النبيّ لا يكذب، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنه بُعث إلى الناس كافة، وكتب إلى قيصر وكسرى وسائر ملوك الأعاجم (327)وهكذا من خلال ما سبق لم يُبق العلماء المسلمون للنصارى ما يتعلقون به في دعواهم خصوصية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالعرب، فلم يبق لهم بعد ذلك إلاّ قبول الحق واتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم وترك العناد والمكابرة وانتحال الحجج (328).
      2- دعوى أن القرآن ورد بتعظيم النصارى والثناء عليهم:
      ففي رسالة لأحد الكتاب النصارى كتبها على لسانهم موجهة إلى المسلمين في عصر الحروب الصليبية كان من ضمن ما أورده من الشبه فيها أن القرآن ورد بتعظيم النصارى والثناء عليهم متمثلاً في ذلك فيما يلي:
      أ- تقديم بيع النصارى وصوامعهم على مساجد المسلمين في قوله تعالى:(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ).[الحج:40].
      ب- تعظيم القرآن الكريم للإنجيل كما في قوله تعالى:(فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ).[آل عمران:184].والكتاب هنا هو الإنجيل وقوله تعالى:(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ).[المائدة:46] وقوله تعالى:(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).[المائدة، الآية:48].

      ج- مدح القرآن للنصارى كما في قوله تعالى:(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ).[المائدة:82].وقوله:(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).[العنكبوت :46].(329).
      وقد فند القرافي هذه الشبهة مبيناً أن المراد بقوله :"ولولا الأشرار في كل زمان بوجود الأخيار، فزمن موسى عليه السلام يسلم أهل الأرض من بلاء يعمهم بسبب من فيهم من أهل الاستقامة، وإلاّ لعمهم الهلاك، وهدمت صوامع يُعبد الله فيها على الدين الصحيح حسب الشريعة الموسوية، وكذلك زمان عيسى وزمان محمد صلى الله عليه وسلم(330)".
      وقال البغوي في معنى الآية: أي ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم، لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى البيع والصوامع وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد (331)وأما وجه تقديم الصوامع والبيع على المساجد فوضح القرافي أن ذلك ليس لأفضليتها بل على العكس، فتأخيرها لأفضليتها ومكانها نظير قول القائل: فلان يغالب المائة والألف(332)، وقولهم:لا أبخل عليك بالدرهم والدينار، فالترتيب من الأدنى إلى الأعلى، وتأخير المساجد لشرفها، وأن هدمها أعظم من هدم غيرها (333)، ووضح الرازي سبب تقديم الصوامع والبيع في الذكر كما في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ).(334)وزاد القرافي أن هذه الآية خصّت المساجد بمزيد فضل؛ إذ بينت أنه يذكر اسم الله فيها كثيراً، حيث إن الضمير في اللغة العربية يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور في الآية إلى هذا الوصف هو المساجد (335)ووضح القرطبي أن من أسباب تقديم مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين أنها أقدم بناء من المساجد(336)، وأما ما يتعلق بتعظيم القرآن للإنجيل كما في قوله تعالى:(فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ).(آل عمران: 184).فقد بيّن القرافي أن "أل"لاستغراق الجنس، إشارة إلى جميع الكتب المنزلة المتقدمة(337)أي الكتب النيرة بالبراهين والحجج (338)، والمقصود بها الكتب المنزلة لا المبدلة التي بأيدي النصارى؛ إذ هي غاية الوهن والضعف وسقم الحظ والرواية وانقطاع السند بحيث لا يوثق بشيء منها (339)ووضح الرازي أن في هذه الآية زيادة فضل للقرآن على الكتب المتقدمة، وذلك أن المراد بالبينات المعجزات، وعطف الزبر والكتاب عليها يقتضي المغايرة، أي أن معجزات الأنبياء السابقين كانت مغايرة لكتبهم، وذلك يدل على أن أحداً من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف، بعكس، القرآن فهو وحده معجزة، وهذا من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم (340). وأما قوله تعالى:(وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ).[المائدة: 46]، فقد بين الرازي معنى هذه الآية بما هو حجة على النصارى، وذلك أن الهدى الذي في الإنجيل هو اشتماله على الدلائل على توحيد الله وتنزيهه عن الصاحبة والولد والند، والمثل، أما كونه مصدقاً لما بين يديه أي مبشراً بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ومقدمه، كذلك كونه هدى مرة أخرى، لاشتماله على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك.الإنجيل سبباً لاهتداء الناس إلى نبّوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى هي إنكار نيوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك نبه سبحانه وتعالى في هذه الآية أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوّته، فكان الإنجيل هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجاً إلى البيان والتقرير (341)، ولذلك قال سبحانه وتعالى بعد هذه الآية:(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ).[المائدة:47]أي ليقرأ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله الله فيه من غير تحريف ولا تبديل، ومن ذلك الإيمان بما أنزله الله فيه من الدلائل على نبّوة محمد صلى الله عليه وسلم (342).وقوله تعالى:(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ).[المائدة:48]. وضح القرافي أن المراد تصديق الكتب المنزلة لا المبدلة وهذا لا يمتري فيه عاقل (343)وأما ما يتعلق بمدح القرآن للنصارى ففي قوله تعالى:(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ).
      [المائدة:82]قال القرطبي:هذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليه المسلمون في الهجرة الأولى (344). وقال البغوي:لم يرد به جميع النصارى؛ لأنهم في عداوتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريبهم بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم، لا ولاء ولا كرامة لهم، بل الآية فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه (345). وفي قوله تعالى:(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).[العنكبوت:46]، بيّن القرافي أن في ذلك دليلاً على أنهم على الباطل، ولو كانوا على الحق ما احتاج المسلمون إلى جدالهم (346).وهكذا فند العلماء المسلمون في عصر الحروب الصليبية شبه النصارى حول هذه الآيات وأمثالها، والتي تعلق بها زعماء منهم أن فيها ثناء عليهم وإقراراً لباطلهم، موضحين المعنى الصحيح لها، إزالة للشبهة وإقامة للحجة (347).
      3- شبهات تعدد الزوجات في الإسلام: وفي عصر الحروب الصليبية كان من ضمن كتاب لأحد القساوسة النصارى إلى أبي عبيد الخزرجي الإشارة إلى أن المسلمين خالفوا فعل آدم عليه السلام أبي البشر الذي لم تكن له إلاّ زوجة واحدة، وخالفوا التوراة وذلك بإباحة التعدد، وقد أشار القرطبي إلى تعريض أحد كبارهم بإباحة التعدد في الإسلام بقول هذا النصراني عن النبي صلى الله عليه وسلم: ... ثم أمر بالإكثار من النساء ورخّص في طلاقهن، وأحل تزويج المطلقات الفاجرات (348). وقد كان رد بعض العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية على هذه الشبهة على النحو التالي:
      أ- التعدد تشريع إلهي يجب التسليم له حيث قال الخزرجي: فإن الذي أمرنا الله به من النكاح، وسن لنا الطلاق ليس لعاقل انتقاده؛ لأن قبولنا لذلك إنما هو بعد ثبوت الأصل (349)وقال القرطبي في رده على أحد قساوسة الأندلس : فذلك – أي التعدد – ما لا ينبغي أن ينكره أحد من العقلاء، فإنه من مجوزات العقول، وقد ورد بذلك الشرع الصادق المنقول (350).
      ب- إن التعدد كان لدى بني إسرائيل ونصّت عليه التوراة، بل إن فيها الجمع بين القريبات المحرم الجمع بينهن في الإسلام، قال القرطبي في رده على القسيس النصراني: .. ألم يجئ في التوراة أن إبراهيم كانت له سارة وهاجر، وكذلك ما ورد فيها أن يعقوب بين ليئة وراحيل، وقد ثبت أيضاً أن سليمان كانت له مائة امرأة أو تسع وتسعون (351)ثم ألزم القرطبي هذا النصراني بما لا مفر له منه وذلك بقوله: فإن كذبتم شرعنا لأجل أنه اشتمل على جواز نكاح نساء كثيرة فلتكذبوا بنبوةّ إبراهيم ويعقوب وسليمان، ولا فرق بين نبيّنا وبين هؤلاء الأنبياء في أن كل واحد منهم رسول يبلغ حكم الله(352).
      ج- أن التعدد ليس فيه مخالفة لفعل آدم أبي البشر، حيث وضح الخزرجي أن اقتصار آدم عليه السلام على زوجة واحدة ضرورة لعدم وجود أخرى، ولذلك زوج ابنه بنته (353).
      د- أن التعدد فيه من الحكم العظيمة ما يجل عن الحصر، حيث أشار القرطبي إلى جانب من هذه الحكم والتي من أعظمها تكثير النسل، وعمارة الدنيا بالذرية الصالحة(354).
      - أن التعدد في الإسلام مشروط بالعدل بين الزوجات، فبعد أن وضح ابن الجوزي بعض أحكام التعدد في تفسير قوله تعالى: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ).[النساء:3]. قال ".. فإن خفتم ألاّ تعدلوا بين هؤلاء الأربع فانكحوا واحدة(355). وهكذا بيّن العلماء المسلمون في هذه الفترة أن تعدد الزوجات تشريع إلهي ليس في الإسلام فحسب، بل ولدى الأنبياء السابقين، وأبطلوا كذلك ما تعلق به النصارى من شبه حول هذا الأمر القصد منها تشويه الدين الإسلامي والتنفير منه ليظهر جلياً عناد النصارى في هذا الأمر وانحرافهم عن الفطرة البشرية والسنة الإلهية اتباعاً لأهوائهم وطاعة لكبرائهم (356).
      4- دعوى انتشار الإسلام بالسيف: من أقدم الشبه التي أثارها أعداء الإسلام وما زالوا يثيرونها انتشاره بالسيف، وقد غفلوا عن أهداف الجهاد والسامية في الإسلام والتي منها:رد اعتداء المعتدين على المسلمين، وإزالة الحجب والحواجز والعراقيل التي تقف أمام الدعوة الإسلامية، وحراسة الدين وحمايته من أهل الباطل، وتأديب ناكثي العهد من المعاهدين وإغاثة المظلومين والمستضعفين من المسلمين(357) وفي عصر الحروب الصليبية كان من ضمن إثارة النصارى ضد الإسلام دعوى انتشاره بالسيف، إذ قال أحد قساوستهم في رسالة له إلى أبي عبيدة الخزرجي : ... ودين الصليب فشا في الأرض دون سيف ولا قهر، ودينكم إنما ظهر بالسيف والقهر في الأرض (358)
      وقد تصدى علماء المسلمين للرد على النصارى في هذه الدعوى وكان ذلك على النحو التالي:
      أ- بيان أن انتشار النصرانية ما كان إلاّ بسبب القتال ولولا ذلك لما بقي منها أثر، قال الخزرجي حول ذلك في رده على أحد قساوسة النصارى: ... فكأنك قد غفلت عما كتبه مؤرخوكم وغيرهم من أن ابتداء دينكم إنما كان بأسباب القتال مع اليهود وكنتم تحرقونهم بالنيران، وتغرقونهم في البحار، وتعملون فيهم جميع أنواع الذل والهوان، ولولا ذلك لم يبق لكم اليهود أثراً (359).وقال القرافي حول هذه الشبهة من قبل النصارى: فلو التزموا شريعتهم في المسألة لم تقم لهم قائمة، ولم يبق منهم باقية (360).
      ب- أن النصارى في واقع أمرهم مخالفون لشريعتهم التي تحثهم على الصلح والمسالمة وعدم القتال والابتعاد عن المنازعة إلى أن تقوم الساعة؛ حيث أورد الخزرجي نصوصاً من الإنجيل في ذلك منها:لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً (361). وقوله: ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخّرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين.. أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم (362)، ثم عقب الخزرجي على ذلك بقوله: .. ومع ذلك فإنا نراكم – أي النصارى – أشد الناس تكالباً وحرصاً على القتل والقتال وبسط الأيدي الاعتساف في أقطار الأرض، تقتلون النفوس وتسلبون الأموال .. مع تحريم إنجيلكم ذلك عليكم وإيجابه الاستسلام لأعدائكم، ومن استحل حرمات الله تعالى فهو أشد الناس كفراً بالله وكتبه وأحكامه، وقال القرطبي في مناقشة لهذه الدعوى: وأعجب من ذلك - أي دعواهم انتشار الإسلام بالسيف – تلبسهم بالقتال والإكثار منه أبد الدهر إلى اليوم، وهم مع ذلك يدّعون أن القتال غير مشروع لهم ويذمون الشريعة التي جاءت به، فهم قد ناقضت أفعالهم أقوالهم، وشهدت على كذبهم أحوالهم (363).
      ج- إن كان القتال في الإسلام عيباً فهو كذلك في الأمم السابقة:
      إذ قال الخزرجي في مناقشة للقسيس النصراني حول هذه الدعوى فإن كنت قلت ذلك لتعيب به الإسلام، فإنك عبت موسى بن عمران ويوشع بن نون ومن قبلهما ومن بعدهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم حاربوا الأمم الطاغية ببلادهم (364).
      د- إن القتال سنة أهل الحق مع أهل الضلال، والمسلمون على هذه السنة حيث وضح كل من الخزرجي والقرافي ذلك، ومن ثم فالقتال من مناقب المسلمين وحسناتهم، لا من معائبهم وسيئاتهم (365).
      ? - إن الجهاد في الإسلام من أسباب حماية الدعوة: حيث وضح الخزرجي ذلك بأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ظل في قومه زمناً يدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ الأصنام والأوثان، فحاربه قومه وآذوه وضيقوا عليه و على أصحابه، فكان الجهاد رافعاً لهذا الأذى ومكسباً قوة وهيبة للمسلمين، وممكناً لدعوة الحق، وبسبب عدم وجود ذلك في النصرانية فإن الدين الصحيح الذي جاء به المسيح عليه السلام ظل أهله مستضعفين بعده فترة فتلاشى وحُرّف وبُدّل، وما عليه النصارى اليوم إنما أفشاه قسطنطنين بن هلانة بالقهر والغلبة (366)، فكان عدم تشريع الجهاد في بداية النصرانية من أسباب ضعفها ومن ثم تحريفها وتبديلها.
      و- إن القتال في الإسلام لا يكون إلاّ بعد قيام الحجة: حيث وضح ابن المتطبب أن جهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بعد صبر دام أكثر من ثلاث عشرة سنة من الدعوة باللين وإقامة الحجة، ثم كان الأمر بالقتال بعد ظهور المعجزة، وقيام الحجة، ووضوح الدلالة وما كان إشهار السيف أبداً إلاّ بعد الإنذار والإعذار (367).
      5- دعوى عدم جزم المسلمين بصحة القرآن لاختلاف الصحابة في جمعه وتعدد قراءاته:
      مما أثاره النصارى حول كتاب الله في هذه الفترة ادعائهم عدم جزم المسلمين بصحته لمخالفة عبد الله بن مسعود رضي الله عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه في جمعه (368)، وأن تعدد القراءات على سبعة قراء أشد من اختلاف الأناجيل عن أربعة رجال (369)، وقد رد القرافي على هذه الدعوى مبيناً أن خلاف عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- للصحابة ليس في إثبات شيء ليس من القرآن أو حذف شيء فيه؛ إذ القرآن معلوم لجميع الصحابة بالتواتر، وإنما الخلاف في أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ القرآن ويضم إليه تفسيره، وكان يقرؤها فصام ثلاثة أيام متتابعات، فنازعه الصحابة لذلك حرصاً منهم ألا يُضاف إلى القرآن مما ليس منه، وكان الصواب معهم، وهذا من حفظ الله عز وجل لكتابه كما وعد بذلك: (إنَّا نحن نزَّلنا الذكر وإنّا له لحافظون).(370).[الحجرات:9]. وقال القرطبي في جمع القرآن: وكان هذا من عثمان -رضي الله عنه- بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت في القراءات المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واطراح ما سواها، واستصوبوا رأيه وكان رأياً سديداً موفقاً (371)وفيما يتعلق بتعدد القراءات، فقد وضح بأنها جميعاً متلقاة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-بالتواتر، ثم إن هذا التعدد من رحمة الله بعبادة؛ إذ قبائل العرب حين نزول القرآن كانت مختلفة اللهجات بين التضخيم والمد والقصر والإخفاء والإمالة وإعمال العوامل الناصبة والرافعة والجارة، ولو كلفوا كلهم بلهجة واحدة لشق عليهم (372)وأما فيما يتعلق بتشبيه النصارى اختلاف القرآن باختلاف الأناجيل فقد رد القرافي على ذلك مبيناً الفرق الواضح بين الأمرين؛ إذ الأناجيل لم تنقل إلينا بالتواتر كالقرآن الكريم، بل نكاد نجزم بأن أكثرها ليس منزلاً، وما هو إلاّ تواريخ وكلام كهنة وملوك حشرها النصارى في الإنجيل وزعموا أنها من الكتاب المنزل، ولذلك لم يجز المسلمون أن يجعلوا شيئاً من الأحاديث مع صحتها مختلطة بالقرآن ولا قول أحد من الصحابة (373)، ثم خاطب القرافي النصارى بقوله: ... فلا تشبهوا أنفسكم بنا، فوالله ما اجتمعنا في شيء من هذا، بل أنتم في غاية الأهمال، ونحن في غاية الاحتفال (374)وقد تحدث العلماء المسلمون في تلك الفترة في إبراز وجوه إعجاز القرآن وبيان خصائصه التي تفرد بها عن سائر الكتب (375)مع إيضاح تناقض الأناجيل وبيان عدم صحتها (376).
      6- انتقادهم الطلاق في الإسلام:في كتاب لأحد القساوسة النصارى في الأندلس بعث به إلى المسلمين من مدينة طليطلة إلى قرطبة ينال فيه من الإسلام بما أورده من شبهات فيه، كان من ضمنها انتقاده للطلاق في الإسلام، وكيف أنه إذا بانت المرأة من زوجها لا يحل له أن يراجعها إلاّ بعد أن تنكح زوجاً غيره، وأن ذلك من الأمر بالزنا وهو مخالف لقول المسيح: لا ينبغي للرجل طلاق زوجته إلاّ أن تزني، وإن زنت فعلاً فلا يحل له مراجعتها، ومن طلق امرأته فقد جعل لها سبيلاً إلى الزنا – أعني من طلقها بدون سبب – ومن زوج مطلق فهو فاسق بها (377). وقد رد القرطبي على هذا القسيس مبيناً أن عدم قبوله للطلاق إما يكون من جهة العقل أو من جهة الشرع، فإن كان من جهة العقل فإن العقل لا يحيل وقوع الطلاق، وإذا كان الأمر كذلك فكيف ينبغي لمن ينتسب إلى العقل أن ينكر نبوّة من قامت الأدلة القاطعة على صدقة من حيث إنه حكم بشيء يصح في العقل أن يوجد، وإن كان عدم قبوله من حيث إنه ممنوع من جهة الشرع، فإما أن يكون من جهة الشرائع كلها أو من بعضها، والأول باطل ففي التوراة التصريح بالطلاق والثاني جائز لجواز اختلاف الشرائع في بعض الأحكام لما يعلمه الله من اختلاف الأحوال والمصالح (378)، ثم وضح القرطبي بعض المصالح التي لا تكون إلاّ بالطلاق والتي لا سبيل لعلاجها في الحياة الزوجية إلاّ به (379). وقال ابن قدامه بعد أن ساق الأدلة من الكتاب والسنة على مشروعية الطلاق: وأجمع الناس على جواز الطلاق، والعبرة دالة على جوازه، فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة، وضرراً مجرداً بإلزام الزوج النفقة والسكن وحبس المرأة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح، لتزول المفسدة الحاصلة منه (380).وكونه بيد الرجل ولم يعط المرأة الحق في ذلك لما علمه الشارع من ضعف المرأة وتقديمها العاطفة على العقل في كثير من الأحيان، وما يحصل من جرّاء ذلك من الضرر لا يُنسى ولا يتدارك (381)ووضح ابن قدامة أن للمرأة الحق في مفارقة زوجها إن خشيت ألاّ تؤدي حق الله في طاعته، فتخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه، وقد ورد في الحديث أنه جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلاّ أني أخاف الكفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم فردّتها عليه، وأمره أن يفارقها (382)وبين القرطبي أنه مع تشريع الطلاق في الإسلام إلاّ أنه مكروه، فعلى المسلم أن يتحاشاه قدر استطاعته، وإذا كان لابدّ منه فلا يكثر ويتمادى فيه (383)وأما كون المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الأول إلاّ بعد زوج فوضح القرطبي في رده على هذه الشبهة : أن ذلك من رحمة الله؛ إذ جعله عقوبة للرجل الذي يتمادى في إيقاع الطلاق، فإذا علم الزوج أنه إذا أكثر من هذا المكروه الذي هو الطلاق عوقب بتفويت زوجته عليه ارتدع عن التمادي (384)فيه، واشتد القرطبي في رده على القسيس النصراني في تشبيه نكاح المرأة من الزوج الثاني بالزنا بوصفه بالكذب والافتراء والجهل وذلك بقوله:وأعلم يا هذا المفتري الكذاب، والمشنع المرتاب، أن العقلاء لا يرضون بما فعلت، ولا يأتون بمثل ما أتيت به، وذلك أنك جهلت شرعنا وكذبت عليه، وعميت عليك مقاصده، فنسبت الزور والفحش إليه (385). ثم وضح القرطبي بعد ذلك الفرق بين الزنا والنكاح، وأن نكاحها من الزوج الثاني صحيح وفق شريعة صحيحة، وأنه نكاح اكتملت شروطه وأركانه وانتفت موانعه، وتشبيه هذا القسيس له بالزنا من العناد والتمويه والتزوير الذي قصد به استزلال العامة وتنفيرهم من دين الإسلام، وإلاّ لم يقل أحد من المسلمين بإجبار الزوج الثاني على طلاقها حتى يرجع إليها الأول، بل إنه يملك منها ما يملكه الأول، فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها، وإن كان زواجه منها لأجل أن يحللها للزوج الأول كان نكاحاً فاسداً (386)وفي تفصيل ابن قدامة لشروط عودتها إلى زوجها الأول أكد فساد النكاح من الزوج الثاني إذا كان القصد منه تحليلها للزوج الأول (387).
      7- دعوى أن المسلمين وثنيون وكفار:
      قال أكبر دعاة دعاة الحروب الصليبية في أوروبا البابا أوربان الثاني في خطابه أمام مجمع كليرمونت في فرنسا، والذي دعا فيه إلى القيام بالحروب الصليبية: ... إني أخاطب الحاضرين وأعلن لأولئك الغائبين، كما أن المسيح يأمر بهذا، إن ذنوب أولئك الذاهبين إلى هناك سوف تُغفر إذا انتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية سواء أثناء مسيرتهم على الأرض أو عند عبورهم البحر، أو في خضم قتالهم ضد الوثنيين ... يا له من عار إذ قام جنس خسيس مثل هذا، جنس تستعبده الشياطين بهزيمة شعب يتحلّى بإيمان عظيم بالرب (388)، ووصف فوشيه شارتر أحد مؤرخي الحروب الصليبية الفرنج وأبرز قساوستهم وممن اشترك في كثير من أحداث هذه الحروب وصف المسلمين بهذه الصفة في كتابته لتاريخ حملات النصارى الأولى في هذه الحروب، ففي ثنائه على البابا أوربان الثاني الداعي الأول للحروب الصليبية قال: .. كذلك بذل جهوداً قوية لطرد الوثنيين من أراضي المسيحيين (389)، ومؤرخ صليبي آخر عاصر أحداث الحروب الصليبية، وتولى بعض المهام الدينية للصليبيين في فترة هذه الحروب وصف المسلمين وهو يكتب تاريخ الحروب الصليبية بالكفر، ومن ذلك: قوله وهو يتحدث عن بعض المواقع العسكرية بين المسلمين والصليبيين:.. ورغم ما كان يبدو من تأهب الكفار للقتال إلاّ أن أملهم في النصر أو حتى الصمود طويلاً كان أملاً واهياً، ومن ثم كان هدفهم الوحيد هو شغل الصليبيين بالقتال (390)، وها هو أحد قادتهم وهو بلدوين أمير الرها في أحد خطاباته يصف المسلمين بهذه الصفة وذلك بقوله: .. لقـد استطاع شعب الفرنجة بإيحاء وتوجيه علويين أن يحرر مدينة القدس الطاهرة من انتهاكات الكفار (391)، واتهام النصارى للمسلمين بالوثنية ليس إلا كما ورد في المثل: رمتني بدائها وانسلت؛ إذ الوثنية الصريحة والكفر بالله سبحانه وتعالى هو دين النصارى المحرف فهي تهمة ظاهرة البطلان، وكتب العلماء المسلمين في العقيدة بشكل عام تضمنت الكثير مما يبطل هذه الدعوى، ومن خلال الجهود الدعوية للمسلمين تجاه النصارى في فترة الحروب الصليبية ومناقشتهم للعقائد النصرانية الباطلة والردود على شبههم يمكن استخلاص تفنيد هذه الدعوى على النحو التالي:
      أ- إن الدين الإسلامي دين التوحيد، والنصرانية أساسها الشرك والكفر بالله، وتوحيد الله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن الشرك والمثل والصاحبة والولد من مسلمات الدين الإسلامي الذي بعث النبّي صلى الله عليه وسلم لتقريره والدعوة إليه، وهو عقيدة المسلمين الراسخة التي لا يتطرق إليها الشك، قال تعالى :(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ).[الإخلاص:1-4] لذلك انطلق العلماء المسلمون في ردودهم ودعوتهم ونقاشاتهم مع النصارى في هذه الفترة من مبدأ مسلم به لديهم، وهو أن الإسلام دين التوحيد والنصرانية – المحرفة – دين الكفر والشرك مع الله ففي مستهل كل كتاب أورد أو نقاش للعلماء المسلمين في هذه الفترة مع النصارى تكون بدايته تقرير توحيد الله جلّ وعلا وتنزيهه عن شرك النصارى فيه ومن ذلك قول الجعفري في بداية كتاب التخجيل :الحمد لله الذي لا يتكثر بالأعداد، الماجد الذي لا تضارعه الأشكال والأنداد، المقدس عن الشريك والصاحبة والأولاد، المنزه عن الذات والصفات عما يقول أهل الإلحاد (392)وفي مستهل رد أبي عبيدة الخزرجي على رسالة أحد القساوسة قال: بسم الله الرحمن الرحيم إله فرد صمد، لم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، سلام على المهتدين والحمد لله رب العالمين ... فضلنا على جميع الأجناس ... نوحد الله بموجبات توحيده، ونمجده سبحانه حق تمجيده (393).
      ب- بيان تأكيد الإسلام على لزوم التوحيد ونبذ الشرك:
      ومن اهتمام بعض علماء عصر الحروب الصليبية لهذا الأمر: قول القرطبي في تفسير قوله تعالى:(وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً).[النساء:36] أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتب، ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره (394). قال تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). [الكهف:110].
      ج- بيان أن الشرك محبط للعمل:ففي تفسير قوله تعالى:(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
      [الزمر:65].قال القرطبي:لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقيل: الخطاب له والمراد أمته ... والإحباط الإبطال والفساد (395).
      ج- بيان أن الشرك أعظم الذنوب وأن الله لا يغفره. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:(إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ).
      [النساء:116]هذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة (396)وفي تفسير قوله تعالى:(وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً).[النساء:48]بيّن البغوي أن الشرك موجب للنار، حيث أورد حديث جابر رضي الله عنه قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال:يا رسول الله، ما الموجبتان؟ قال:من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله دخل النار (397).
      س- إظهار نبذ الإسلام لكل مظاهر الوثنية من أصنام وصور، وتماثيل وبناء على القبور وكل ما هو وسيلة للشرك: ففي تفسير قول الله تعالى:(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).[الحج:30].قال القرطبي:الرجس الشيء القذر والوثن التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة، والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضاً، وسُمّي الصنم وثناً؛ لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه، يريد اجتنبوا عبادة الأوثان (398)، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عدي أن يزيل الصليب عنه وقال: اطرح هذا الوثن عنك (399). وقال الرازي: ثم إنه لما حث سبحانه وتعالى على تعظيم حرماته، وحمد من يعظمها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان (400)، وسمى الأوثان رجساً للتأكيد على وجوب تجنبها؛ لأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات (401)وقد أبرز كثير من العلماء في هذه الفترة موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أصنام المشركين التي كانت عند الكعبة عند فتح مكة حيث كان يكسرها صلى الله عليه وهو يتلو قوله تعالى: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً).[الإسراء:81]، فبعد أن عرض القرطبي ذلك بيّن أن معنى مجيء الحق أي الإسلام وزهوق الباطـل أي الشرك (402).
      و- فضح النصارى بإبراز مظاهر الوثنية والشرك لديهم:
      وذلك بتبجيلهم الصور والتماثيل والصلبان، وإشراكهم في عبادة الله، ففي مناقشة بعض العلماء المسلمين لعقائد النصارى وشعائرهم كان من ضمن ما ناقشوه تبجيلهم للصور والتماثيل، مبينين أن ذلك ما هو إلاّ وثنية انتقلت إلى النصرانية، واتخذها النصارى في مجامعهم ديناً وعبادة، محرفين بذلك ما نزل عليهم من الحق، حيث وضح هؤلاء العلماء أن هذا من كفرهم القبيح الذي ابتدعوه في ديانتهم (403)، مع إبرازهم لشركيات النصارى وكفرهم بالله من خلال نقض قانون الأمانة لديهم الذي هو أصل إيمانهم، وإبطال عقيدة التثليث وتفنيد ما اعتقدوه من الألوهية في عيسى عليه السلام (404).


      (97)المصدر نفسه (1/231).

      (98)الجاثليقية : والجمع : جثقالة ، وهو متقدم الأساقفه (يونانية).
      (99)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/236).
      (100)المصدر نفسه (1/237).
      (101)المصدر نفسه (1/237).
      (102)المصدر نفسه (1/237).
      (103)المصدر نفسه (1/237).
      (104)المصدر نفسه (1/237 ، 238 ، 239).
      (105)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/240).
      (106)نخبة من علماء اللاهوت النصارى ص 120.
      (107)المسيحية د. أحمد ص 204.
      (108)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصَّليبية (1/241).
      (109)المسيحية د. أحمد شلبي ص 204.
      (110)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/241).
      (111)المصدر نفسه (1/242).
      (112)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصّليبية (1/242).
      (113)هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ص 48 .
      (114)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصَّليبية (1/242).
      (115)الجامع لأحكام القرآن (6/77).
      (116)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصَّليبية (1/246)
      (117)الكتاب المقدس، إنجيل متى، الإصحاح (1/16).
      (118)الكتاب المقدس، إنجيل متى، الإصحاح (1/16).
      (119)المصدر نفسه إنجيل لوقا، الإصحاح (3/23 – 34).
      (120)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/285).
      (121)الكتاب المقدس، إنجيل يوحنا (19/1 – 11).
      (122)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/246).
      (123)المصدر نفسه (1/248).
      (124)المصدر نفسه (1/248).
      (125)المصدر نفسه (1/248).
      (126)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 155.
      (127)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهلها الإيمان ص 157.
      (128)الأجوبة الفاخرة ص 27.
      (129)المصدر نفسه ص 27
      (130)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية(1/250).
      (131)المصدر نفسه (1/250).
      (132)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/251).
      (133)المصدر نفسه (1/252).
      (134)مجموعة الشرع الكنسي، حنانيا، إلياس كساب ص 40.
      (135)حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص 53.
      (136)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصّليبية (1/253).
      (137)المصدر نفسه (1/253).
      (138)النصيحة الإيمانية ص 56 – 57 محمد الشرقاوي.
      (139)الأجوبة الفاخرة ص111.
      (140)المحرر الوجيز (5/161-162).
      (141)تفسير الرازي (6/51).
      (142)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/582).
      (143)الجامع لأحكام القرآن (3/161).
      (144)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/256).
      (145)المصدر نفسه (1/256).
      (146)المصدر نفسه (1/256).
      (147)المصدر نفسه (1/257.
      (148)أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية ص 59.
      (149)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/258).
      (150)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 80.
      (151)المصدر نفسه ص 81.
      (152)دعوة المسلمين للنّصارى (1/259).
      (153)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 47.
      (154)الرد على النصارى، ص 78 - 79.
      (155)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/263).
      (156)الداعي إلى الإسلام للأنباري ص 362.
      (157)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/264).
      (158)الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (4/76).
      (159)الرد على النصارى ص 65.
      (160)الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/76).
      (161)الرد على النصارى ص 65.
      (162)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/265).
      (163)المصدر نفسه (1/2654).
      (164)المصدر نفسه (1/265).
      (165)المصدر نفسه (1/266).
      (166)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/268).
      (167)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/412).
      (168)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/269).
      (169)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/413).
      (170)دور بولس في إفساد النصرانية ص 216.
      (171)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/269).
      (172)المصدر نفسه (1/270).
      (173)المصدر نفسه.
      (174)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/270).
      (175)الجامع لأحكام القرآن (3/176)
      (176)زاد المسير (2/306)
      (177)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/271)
      (178)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/165)
      (179)دعوة المسلمين للنصارى (1/271)
      (180)المصدر نفسه (1/271)
      (181)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/272).
      (182)أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية ص 60.
      (183)منظومة البوصيري في الرد على النصارى ص 60.
      (184)منظومة البوصيري في الرد على النصارى واليهود ص 7.
      (185)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/273).
      (186)المصدر نفسه ص 284 - 285.
      (187)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 178 - 179.
      (188)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/396).
      (189)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/275).
      (190)المصدر نفسه (1/275).
      (191)الأجوبة الفاخرة ص 106 ، 107.
      (192)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 129.
      (193)النصيحة الإيمانية ص 104 - 105.
      (194)دعوة المسلمين في عصر الحروب الصليبية (1/276).
      (195)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/501).
      (196)الجامع لأحكام القرآن نقلاً عن دعوة المسلمين للنصارى (1/277).
      (197)الرد على النصارى ص 57.
      (198)تفسير الرازي (8/28).
      (199)انجيل لوقا الإصحاح (3/7 – 12).
      (200)انجيل لوقا الإصحاح (4/41).
      (201)الرد على النصارى للجعفري ص 61.
      (202)دعوة المسلمين للنّصارى (1/278).
      (203)الأجوبة الفاخرة ص 59.
      (204)المصدر نفسه ص 117.
      (205)المصدر نفسه ص 117.
      (206)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/279).
      (207)المصدر نفسه (1/279).
      (208)المصدر نفسه (1/279)
      (209)الأجوبة الفاخرة ص 102.
      (210)التوراة، سفر الخروج الإصحاح (4/21).
      (211)الرد على النصارى ص 61.
      (212)الأجوبة الفاخرة ص 101.
      (213)الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/107 – 108).
      (214)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 282.
      (215)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 59 - 60.
      (216)زاد المسير في علم التفسير (2/217 – 218).
      (217)الجامع لأحكام القرآن (2/64).
      (218)المصدر نفسه (2/65).
      (219)المصدر نفسه (2/64).
      (220)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/284).
      (221)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 284.
      (222)دعوة المسلمين للنصّارى في عصر الحروب الصليبية (1/285).
      (223)الرد على النصارى ص 74.
      (224)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 286.
      (225)مقامع الصلبان ومراتع أهل الإيمان ص 164.
      (226)سفر التكوين الإصحاح (4/7).
      (227)دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/287).
      (228)مقامع الصلبان ص 183.
      (229)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 174 - 175.
      (230)الأجوبة الفاخرة ص 109.
      (231)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/288).
      (232)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/369).
      (233)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/289).
      (234)المصدر نفسه (1/290).
      (235)الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/341 – 344).
      (236)موقف ابن تيمية من النصرانية (2/764).
      (237)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 402.
      (238)دعوة المسلمين للنّصارى (1/291).
      (239)حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص 240.
      (240)دعوة المسلمين للنصّارى في عصر الحروب الصليبية (1/292).
      (241)الكتاب المقدس، إنجيل متى الإصحاح (28/19).
      (242)دعوة المسلمين للنصّارى في عصر الحروب الصليبية (1/292).
      (243)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 403.
      (244)المصدر نفسه ص 403.
      (245)المصدر نفسه ص 403.
      (246)المصدر نفسه ص 405 دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/294).
      (247)المصدر نفسه.
      (248)المصدر نفسه ص 405 دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/294).
      (249)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/294).
      (250)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 409.
      (251)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/294).
      (252)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 405.
      (253)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/295).
      (254)الأجوبة الفاخرة ص 127.
      (255)المصدر نفسه ص 127.
      (256)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/295).
      (257)جهود علماء الأندلس في الصراع مع النصارى خلال عصر المرابطين والموحدين د. محمد إبراهيم بن صالح أبا الخيل ص 443 - 444.
      (258)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل ص 130.
      (259)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل ص 130.
      (260)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/598).
      (261)المصدر نفسه (2/598).
      (262)الأجوبة الفاخرة ص 130 - 131.
      (263)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 425.
      (264)النصارى في الوقت الحاضر لا يلتزمون في صلواتهم بأدعية معينة وربما حكي القرافي ما كان سائداً في وقته عند بعضهم.
      (265)دعوة المسلمين للنصارى (1/299).
      (266)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/299).
      (267)المجتمع القبطي في مصر في القرن التاسع عشر ص 228.
      (268)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 422.
      (269)المصدر نفسه ص 422 - 423.
      (270)النصرانية والإسلام، محمد عزت طهطاوي ص 82.
      (271)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/302).
      (272)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/597).
      (273)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/302).
      (274)الكتاب المقدس، رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس الإصحاح (7/38).
      (275)المصدر نفسه (7/1).
      (276)المصدر نفسه (7/8 – 9).
      (277)قصة الحضارة، ول ديوانت ترجمة محمد بدران (4/383).
      (278)الأجوبة الفاخرة ص 132 الإصحاح (19/29) إنجيل متى.
      (279)الأجوبة الفاخرة ص 132.
      (280)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/303).
      (281)المصدر نفسه (1/304).
      (282)المصدر نفسه (1/304).
      (283)المصدر نفسه (1/304).
      (284)الأجوبة الفاخرة ص 132.
      (285)معجم الحضارات السامية ص 381.
      (286)قاموس الكتاب المقدس ص 272.
      (287)البخاري رقم 3356 مسلم رقم 2370.
      (288)نظرية النسخ في الشرائع السماوية ص 50.
      (289)دعوة المسلمين للنصارى في عهد الحروب الصليبية (1/306).
      (290)المصدر نفسه (1/306).
      (291)المصدر نفسه (1/306).
      (292)المصدر نفسه (1/306).
      (293)الأجوبة الفاخرة ص 120.
      (294)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/589).
      (295)الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/346 - 350).
      (296)الكتاب المقدس، التوراة، سفر التثنية الإصحاح (5/7 – 8).
      (297)مجموع الشرع الكنسي ص 69 - 70.
      (298)البخاري ، كتاب التفسير رقم 4920.
      (299)الأجوبة الفاخرة للقرافي ص 131.
      (300)الأجوبة الفاخرة ص 131.
      (301)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/601 - 602.
      (302)مقامع الصلبان ومراتع رياض الإيمان ص 267.
      (303)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/310).
      (304)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 268.
      (305)الحروب الصليبية، وليم الصوري (1/326 – 337).
      (306)دعوة المسلمين للنصارى (1/311).
      (307)المصدر السابق (1/311).
      (308)الكامل في التاريخ نقلاً عن دعوة المسلمين (1/311).
      (309)دعوة المسلمين للنصارى (1/312).
      (310)المصدر نفسه.
      (311)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/314).
      (312)المصدر نفسه (1/315).
      (313)المصدر نفسه (1/315).
      (314)الأجوبة الفاخرة للقرافي ص 9.
      (315)المصدر نفسه ص 10.
      (316)المصدر نفسه ص 10.
      (317)معالم التنزيل للبغوي (4/335).
      (318)معالم التنزيل للبغوي (4/335).
      (319)تفسير الرازي (10/63).
      (320)المصدر نفسه (13/38).
      (321)المصدر نفسه (15/5).
      (322)المصدر نفسه (5/5).
      (323)الأجوبة الفاخرة ص 12.
      (324)تفسير الرازي (13/146).
      (325)الأجوبة الفاخرة ص 12.
      (326)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 447.
      (327)تلبيس إبليس ص 73.
      (328)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/320).
      (329)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/322).
      (330)المصدر نفسه (1/322).
      (331)معالم التنزيل للبغوي (5/389).
      (332)دعوة المسلمين للنصارى (1/323).
      (333)الأجوبة الفاخرة ص 18 - 19.
      (334)تفسير الرازي (12/36 – 37).
      (335)الأجوبة الفاخرة ص 18 - 19.
      (336)الجامع لأحكام القرآن (6/49).
      (337)الأجوبة الفاخرة ص 21.
      (338)دعوة المسلمين للنصارى (1/324).
      (339)الأجوبة الفاخرة ص 21.
      (340)تفسير الرازي (5/101).
      (341)المصدر نفسه (6/10).
      (342)المصدر نفسه (6/10).
      (343)الأجوبة الفاخرة ص 21.
      (344)الجامع لأحكام القرآن (3/165).
      (345)معالم التنزيل، للبغوي (3/85).
      (346)الأجوبة الفاخرة ص 29.
      (347)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/327).
      (348)الإعلام بما في دين النصارى في عصر الحروب الصليبية (1/327).
      (349)مقامع الصلبان ومراتع أهل الإيمان ص 262.
      (350)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 454.
      (351)دعو المسلمين للنصارى (1/330).
      (352)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/330).
      (353)مقامع الصلبان ص 263.
      (354)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 405.
      (355)زاد المسير (2/82).
      (356)دعوة المسلمين للنصارى (1/331).
      (357)المصدر نفسه (1/333).
      (358)مقامع الصلبان ومراتع أهل الإيمان ص 115.
      (359)مقامع الصلبان ومراتع أهل الإيمان ص 285.
      (360)الأجوبة الفاخرة ص 89.
      (361)الكتاب المقدس، إنجيل متى الإصحاح (5/39).
      (362)مقامع الصلبان ص 286.
      (363)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 452.
      (364)مقامع الصلبان ومراتع أهل الإيمان ص 285.
      (365)الأجوبة الفاخرة ص 90.
      (366)النصيحة الإيمانية ص 142.
      (367)الأجوبة الفاخرة ص 94 - 95.
      (368)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/338).
      (369)المصدر نفسه.
      (370)الأجوبة الفاخرة ص 98.
      (371)الجامع لأحكام القرآن (1/39).
      (372)الأجوبة الفاخرة ص 98.
      (373)المصدر نفسه ص 98 - 99.
      (374)المصدر نفسه ص 99.
      (375)دعوة المسلمين للنصارى (1/340).
      (376)المصدر نفسه (1/340).
      (377)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 216.
      (378)المصدر نفسيه ص 222.
      (379)المصدر نفسه ص 222.
      (380)المغني (10/323).
      (381)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 223.
      (382)البخاري رقم 5276 المغني (10/267).
      (383)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 224.
      (384)المصدر نفسه (1/345).
      (385)المصدر نفسه (1/345).
      (386)المصدر نفسه (1/345).
      (387)المغني (10/551).
      (388)الوجود الصليبي في الشرق العربي، وفوشيه الشارتي ص 93.
      (389)المصدر نفسه ص 96.
      (390)الحروب الصليبية، وليم الصوري ترجمة د./حسن حبشي (2/251).
      (391)الحروب الصليبية، وليم الصوري ترجمة د. حسن حبشي (2/251).
      (392)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/87).
      (393)مقامع الصلبان ومراتع أهل الإيمان ص 12.
      (394)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/349).
      (395)الجامع لأحكام القرآن (8/180).
      (396)المصدر نفسه (3/159).
      (397)مسلم، كتاب الإيمان رقم 93.
      (398)تفسير القرطبي (6/37).
      (399)تفسير القرطبي (6/37).
      (400)تفسير الرازي (12/28).
      (401)المصدر نفسه (12/28).
      (402)تفسير القرطبي (5/204).
      (403)دعوة المسلمين للنصارى (1/354).
      (404)المصدر نفسه (1/354).

      http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-40-111037.htm

      تعليق


      • #4
        جهود القادة والولاة في دعوة النصارى

        الثلاثاء 18 ربيع الثاني 1430 الموافق 14 إبريل 2009
        د. علي محمد الصلابي

        سادساً:القائمون على دعوة النصارى في عصر الحروب الصليبية:
        1- القادة والولاة: ومن أبرزهم عماد الدين زنكي الذي ولاّه السلطان السلجوقي محمود بن محمد بن ملكشاه الموصل سنة 521هـ، فعظم أمره بعد ذلك، وتوسّعت دولته لشجاعته وإقدامه وحرصه على جمع كلمة المسلمين في مواجهة النصارى، قال عنه الذهبي: كان بطلاً شجاعاً مقداماً كأبيه (405)وقد كان من أبرز جهوده في مواجهة الفرنج ودعوتهم وضعه أساس الوحدة الإسلامية في الموصل والشام والتي كانت من أهم الأسباب التي مكنت المسلمين من المواجهة، وصدّ زحف النصارى على البلاد الإسلامية؛ إذ دخلت في طاعته مجموعة من المدن المستقلة والمتناحرة بينها، وكان قد بدأ بجزيرة ابن عمر سنة 521هـ وغير ذلك، وبعد أن حقق هذه الوحدة بدأ بجهاد الصليبيين و هزمهم في مواقع كثيرة، وكان من أبرز إنجازاته في ذلك فتحه لإمارة الرها الصليبية سنة 539هـ (406)، وقال أحد الكتاب الأوروبيين عن أهمية هذا الفتح:وسقوط الرها في يد زنكي يعتبر نقطة تحوّل في الشرق اللاتيني، كما يعتبر بداية النهاية (407)، وبعد مقتله عام 541هـ تولى ابنه نور الدين محمود زنكي، وكان ذا ديانة وورع ومداومة للجهاد، محباً للسنة، مظهراً لها، مزيلاً للمناكير، ممكناً لأهل الخير في دولته (408)قال عنه ابن الأثير: طالعت السير فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرّياً منه للعدل (409)، وقال ابن كثير: كان آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر، محباً للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضاً للظلم، صحيح الاعتقاد..وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمناً لقيام الليل (410)، وقال أبو شامة المقدسي:..كان يعظم العلماء، ويجمعهم عنده للبحث والنظر، واستقدمهم إليه من البلاد الشاسعة(411)، قال رحمه الله مبيناً دور الفقهاء والعلماء في ظهور دولته، ونصره على أعدائه الفرنج: هؤلاء جند الله، وبدعائهم نُنصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا (412)، وكان رحمه الله – متمسكاً بالسنة، وقافاً عند حدود الله، أظهر في بلاده السنة وأمات البدعة (413)، وكان أكثر القادة المسلمين في هذه الفترة مواجهة للنصارى، فمن جهوده المباشرة في دعوتهم مراسلاته مع بعض قادتهم بشأن العلاقات بينهم وبين المسلمين، وما تحقق من جراء ذلك للأمة من المصالح، كمراسلاته مع ملك الروم، والتي تمخضت عن هدنه مكنت المسلمين من مواجهة أعداء آخرين، ومراسلاته مع ملك الأرمن؛ فقد أدت هذه المراسلات إلى استمالته في صف المسلمين ضد أبناء مِلّته(414)، ومن جهوده المباشرة أيضاً في دعوتهم جهاده المستمر لهم، والذي أثمر عن تقلّص نفوذهم في بلاد الشام، وظهور دولة المسلمين بعد ضعف وفرقة، وقد قال ابن الجوزي عن ذلك:..وجاهد وانتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينة وحصناً(415)، بل وأسر بعض قادتهم كصاحب طرابلس، وصاحب الروم، وابن جوسلين وغيرهم، ولهذه الانتصارات الكبيرة على الفرنج والتمكين للمسلمين بعد ضعفهم في الشام مع قلة العسكر في مواجهة تكالب النصارى على المسلمين، أدرك بعض النصارى سبب هذه الانتصارات، وأنه لا يرجع إلى القوة العسكرية، فحسب بل إلى صبر نور الدين، واحتسابه وصدقه، وإنابته إلى الله سبحانه، مع الأخذ بالأسباب؛ إذ قال بعضهم: .. وابن القسيم له مع الله سرّ، فإنه لا يظفر علينا بكثرة جنده وعسكره، وإنما يظفر علينا بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل، ويرفع يده إلى الله، ويدعو، فالله سبحانه وتعالى يستجيب له دعاءه، ويعطيه سؤاله، وما يرده خائباً، فيظفر علينا (416)، ومن جهوده، غير المباشرة في دعوة النصارى تحقيقه للوحدة بين المسلمين في الموصل والشام ومصر، مما كان له أثره الكبير في نجاح عملية الجهاد (417)، يُضاف إلى ذلك اهتمامه بالعلم والعلماء؛ فقد بنى المدارس في حلب وحماة ودمشق، وشيد دار الحديث في دمشق، ولا يخفى أثر ذلك في نشر العلم وتثقيف المسلمين، مما ساعد على مواجهة شُبَه النصارى بل ودعوتهم، وهكذا كان نور الدين عزاً للمسلمين في الشام ومصر بعد ضعف وظهور النصارى، وكانت جهوده في مواجهة النصارى ودعوتهم الأساس لنجاح جهود من بعده من الولاة والقادة، كصلاح الدين والظاهر بيبرس وغيرهما (418).
        قال ابن كثير موضحاً الإنسجام التام بين الراعي والرعية:.. وفيها – أي سنة 552هـ مرض نور الدين فمرض الشام بمرضه، وعوفي ففرح المسلمون فرحاً شديداً (419)وبعد حياة حافلة بالجهاد والدعوة توفي نور الدين 569هـ في دمشق رحمه الله رحمة واسعة (420)ومن أراد التوسّع فليراجع كتابي عن الزنكيين.
        أ- جهود صلاح الدين في دعوة النصارى:كان خليقاً للإمارة مهيباً، شجاعاً، حازماً، مجاهداً، كثير الغزو عالي الهمة (421) أمضى حياته في جهاد الفرنج والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، فكان خلال لقاءاته بقادتهم ومحادثاته معهم يستغلها في إبراز محاسن الإسلام لهم ودعوتهم إليه، ومن ذلك مثلاً ما فعله مع صاحب صيدا الإفرنجي حيث قال ابن شداد عن ذلك: ... ولقد رأيته وقد دخل عليه صاحب صيدا بالناصرة فاحترمه وأكرمه وأكل معه الطعام ومع ذلك عرض عليه الإسلام فذكر له طرفاً من محاسنه وحثه عليه (422)، وكان يستغل علاقاته الحسنة مع بعض قادتهم من أجل التمكين للدعوة، ومن ذلك تفاهمه مع صاحب طرابلس الصليبي بأن يوعز الأخير لأتباعه باعتناق الإسلام حيث أدركته المنية قبل إتمام ذلك(423)ولأجل هذا الغرض النبيل كان يتألف كثيراً من قادتهم بالمال والهدايا طمعاً في إسلامهم، وكان نبله وحسن خلقه من أبرز الأسباب التي جعلت الكثير من النصارى في هذه الفترة يغيّرون ما علق بأذهانهم عن الإسلام من صورة مشوهة، بل ويعتنق أعداد كبيرة منهم الإسلام، ومن ذلك مثلاً ما حدث بعد معركة حطين ومنّه على كثير من أسرى الصليبيين، ورحمته لنسائهم وضعفائهم، مما جعل أعداداً كبيرة منهم يعتنقون الإسلام (424)، ولنبله في كثير من المواقع انضمت أعداد كبيرة منهم إلى معسكر المسلمين بعد إسلامهم لتقاتل معه ضد أقوامهم(425)، بل إن كثيراً منهم كانوا على نصرانيتهم، ومع ذلك انضموا إليه ضد بني ملتهم (426)وأما الجهاد في سبيل الله – أهم وسائل الدعوة – فله اليد الطولى فيه، ووقعاته مشهورة معهم، وعلى يده كان طردهم من الغالبية العظمى من بـلاد الشام، ومن أعظم ذلك استرداده بيت المقدس من أيديهم بعد معركة حطين المشهورة عام 583هـ (427)، وكان رحمه الله – حريصاً في كل وقعة معهم أن يعرض الإسلام عليهم، فبعد كل معركة يعرض الإسلام على الأسرى قبل اتخاذ أي إجراء معهم، ومن ذلك مثلاً ما حدث بعد معركة حطين، وقد كان طموحه – تتبع النصارى في بلادهم حتى لا يبقى منهم من يكفر بالله، وهذا ما صرح به لقاضي عسكره ابن شداد، وذلك بقوله: أما أحكي لك شيئاً؟ قلت: بلى، قال: في نفسي أنه متى يسر الله تعالى بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت، وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت (428). ومن جهوده المباشرة في الدعوة للنصارى حرصه على تحقيق الوحدة بين المسلمين، والعمل على ذلك لتقوية الجبهة الإسلامية ضد النصارى، وجهوده في مجال تحقيق الأمن والضرب على أيدي العابثين (429)، وقد اهتم صلاح الدين بالعلماء والفقهاء واتخذهم بطانة له، بل وأسند كثيراً من المهمات الإدارية والقيادية إليهم، وهم قادة الرأي في الأمة وهداتها إلى طريق الحق، وحراسها من الغواية والضلال، ودعاتها بعلمهم وعملهم، ومن أبرز هؤلاء العلماء القاضي ابن شداد الذي تولى قضاء عسكره، وقام بكثير من السفارات له (430)، وكان صاحب ديوان الإنشاء لديه وأحد أهم مستشاريه القاضي الفاضل، وقد تحدثت عنهم بالتفصيل في كتابي عن صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية، وتحرير بيت المقدس، ومما يُضاف إلى جهوده غير المباشرة في دعوة النصارى توسُّعه في إنشاء المدارس، خصوصاً في مصر، والتي كان لعلمائها، والدارسين فيها دور كبير في دعوة النصارى في هذه الفترة، ولقد تأثر الكثير من قادة النصارى بأخلاق صلاح الدين وتسامحه وعفوه وحلمه، وقد بيّن صاحب قصة الحضارة بعد أن نقل نماذج من نبل صلاح الدين وكرمه وأخلاقه إعجاب كثير من المؤرخين النصارى بهذا البطل المسلم بل ودهشتهم، كيف يخلق الدين الإسلامي – الخاطئ في ظنهم – رجلاً من العظمة إلى هذا الحد (431)وبعد حياة حافلة بالجهاد والدعوة توفي – رحمه الله – في صفر سنة 589هـ، ودُفن في دمشق (432).
        ب- جهود الملك العادل:وممن له جهود واضحة في مواجهة النصارى ودعوتهم في هذه الفترة من الولاة والقادة الملك العادل محمد بن أيوب بن شادي بن موان بن يعقوب الدويني التكريتي أخو صلاح الدين، الذي وُلد سنة 534هـ في بعلبك؛ إذ كان والده نائباً فيها لزنكي بن آقسنقر، وعندما شب خدم أخاه صلاح الدين في كثير من المهام، فولاّه نيابة مصر ثم دمشق، وبعد موت صلاح الدين ونشوب الصراع بين ولديه الملك الأفضل والملك العزيز استطاع أن يستولى على الحكم الأيوبي. قال ابن كثير: كان العادل حليماً صفوحاً صبوراً على الأذى كثير الجهاد بنفسه، ومع أخيه حضر معه مواقفه كلها أو أكثرها في مقاتلة الفرنج (433)وقال أيضاً: .. من خيار الملوك وأجودهم سيرة وديناً، وعقلاً وصبوراً وقوراً، أبطل المحرمات، والخمور والمعازف من مملكته، وقد كانت ممتدة أقصى بلاد مصر واليمن والشام والجزيرة إلى هَمدْان كلها (434)وكانت له جهود واضحة في مواجهة الفرنج ودعوتهم، قال ابن كثير عن ذلك: فقد كان كثير الجهاد بنفسه ومع أخيه (435)ثم جهاده بعد ذلك النصارى وهزيمته لهم في عدة مواقع كما في مرج عكا وفتح يافا سنة 593هـ وغير ذلك، يُضاف إلى جهوده في هذا المجال محادثاته ومراسلاته واجتماعاته الكثيرة مع قادة الفرنج ورسلهم، خصوصاً في حكم أخيه صلاح الدين، وما أسفرت عنه هذه الجهود لصالح الإسلام والمسلمين، ومن ذلك مثلاً لقاءاته الكثيرة، بملك الإنجـليز ممثلاً لأخيه صلاح الدين وقيامه بمساعي الصلح معه وفق الشروط التي وضعها المسلمون (436)، فقد أسفرت هذه اللقاءات والمحادثات عن تنازل الصليبيين عن القدس وعدم مطالبتهم بها، والاكتفاء بالزيارة والحج إلى بعض الأماكن المقدسة لديهم فيها (437)، وكذلك لقاؤه بابن الهنفري وهو من أكابرهم وملوكهم وأولاد ملوكهم، وكان يجيد اللغة العربية، وغيرهم من قادتهم، ومحادثاته الكثيرة مع رسلهم، وما أسفرت عنه مجموعة هذه اللقاءات والمراسلات والمحادثات من تغير فكرة كثير من النصارى الفرنج عن المسلمين، والتخفيف من روحهم العدائية الشديدة تجاه المسلمين، مما كان له أثره في إزالة بعض عوائق الدعوة الموجهة إليهم، وكان وفاة الملك العادل – كما مرّ معنا – سنة 625هـ حيث دفن في دمشق (438). هؤلاء من أشهر القادة ممن قام بالدعوة إلى الإسلام في عصر الحروب الصليبية وغيرهم كثير.
        ج- جهود يوسف بن تاشفين في المغرب الإسلامي: قال عنه ابن الأثير: وكان يوسف بن تاشفين حليماً، كريماً، ديّناً خيّراً، يحب أهل العلم والدين ويحكمهم في بلاده (439)، وقد تزعم دولة المرابطين، وكان من أبرز أعماله في مواجهة النصارى نجدته للمسلمين في الأندلس إثر زحف النصارى على الممالك الإسلامية هناك نتيجة لتناحر الطوائف وضعف المسلمين، فكان له مع النصارى الوقائع المشهورة، وكان على يديه إعادة توحيد الأندلس ودفع الخطر النصراني الزاحف، ومن أشهر وقائعه معهم معركة الزلاقة سنة 479هـ التي هزم فيها الأذفونش ملك الإفرنج في الأندلس، وأظهر الله الإسلام وأعز أهله(440)، قال الذهبي عن هذه المعركة: ثارت الفرنج بالأندلس فعبر ابن تاشفين ينجد المسلمين فطعن العدو (441)، ثم تتالت بعد ذلك معاركه مع النصارى، والتي وحد بها الأندلس، وأعاد بها هيبة المسلمين هناك ولتأكيد عزمه على إعادة نشر الإسلام في الأندلس وجهاد الإفرنج هناك كتب على عملته قوله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ).[آل عمران:85].(442) وكانت وفاته في مراكش 500هـ (443).
        د- جهود عبدالمؤمن بن علي في عهد دولة الموحدين:
        ومن الولاة في غرب الدولة الإسلامية الذين كان لهم جهد في دعوة النصارى وجهادهم الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي بن يملي بن مروان من قيس عيلان (444)، والذي تولى الخلافة سنة 524هـ، وكان عاقلاً حازماً، سديد الرأي، حسن السياسة للأمور، كثير البذل للأموال (445)، كان له اهتمام كبير بمراقبة عماله ونصحهم ومعاقبة المسيء منهم، مع حثه إياهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على أيدي السفهاء، حتى إنه عزل ابنه عن ولاية العهد لما ظهر عليه من أمور مخلة بالكرامة (446)، ومن جهوده في مواجهة الفرنج ودعوتهم مهاجمته بعض حصونهم في الأندلس على يد أحد قواده سنة 550هـ واسترداده للمرية (447)من أيديهم بعد زحفهم عليها إثر تضعضع أحوال المرابطين في الأندلس وذلك سنة 552هـ، كذلك طرد الفرنج من المهدية سنة 558هـ وإحسانه إلى أسراهم وترغيبهم بالإسلام ودعوتهم إليه (448) وقـد كانت وفـاته في سـلا (449)سنة 558هـ حيث حمل إلى تيفل (450)، ودفن بها وكان لحفيده يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الذي ولد سنة 553هـ (451)جهود واضحة في هذا المجال، فمن جهاده للنصارى قدومه بنفسه إلى الأندلس سنة 591هـ، ومواجهة النصارى في عدة مواقع ثم هزيمته للفرنج في معركة الأراك التي شبهها بعض المؤرخين بمعركة الزلاقة لقوتها وأهميتها وأثرها في إعادة هيبة المسلمين في الأندلس، ثم ما تلاها من غزوات قام بها – رحمه الله – سنة 592هـ قال صاحب البيان المغرب عن أثر بعض جهود المنصور في نشر الإسلام بالأندلس : .. واصطكت في هذه الحصون المذكورة دعوة الإسلام، وتقوضت في أسبوع واحد ملة الكفر بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام (452)ولذلك لما رأى فرنج الأندلس تقدم أبي يوسف، واكتساحه لكثير من حصـونهم وعدم توانيه في ذلك كفوا أذاهم عن المسلمين، بل طلبوا الصلح على ما اشترطه أبو يوسف (453)، ولشعوره – رحمه الله بحال المسلمين في الأندلس في مقابل النصارى، وخشيته على الأندلس من زحفهم عليها، وحرصه على مجاهدتهم فيها أوصى من بعده في مرض وفاته بالاهتمام بذلك وإبلائه القدر الأكبر من العناية، فكان من قوله: .. أوصيكم بالأيتام واليتيمة: الأندلس، والأيتام: هم المسلمون فيها مقابل النصارى وكانت وفاته – رحمه الله – في مراكش سنة 595هـ(454).
        وهكذا كان لبعض الولاة والقادة في غرب الدولة الإسلامية دور مهم في الحفاظ على الكيان الإسلامي وتوحيد كلمة المسلمين هناك، ودعم المسلمين في الأندلس وإيقاف زحف النصارى عليها، إضافة إلى جهودهم غير المباشرة والمتمثلة في التمكين للعلماء ونشر العلم، ولا يخفى أثر ذلك في نجاح الجهود الدعوية بشكل عام، ومنها الجهود الموجهة إلى النصارى (455).
        2- العلماء:في عصر الحروب الصليبية كان العلماء يقومون بهذه المهمة خير قيام، فنبغ الكثير من العلماء في مختلف العلوم، وشعروا بمسؤوليتهم في الدعوة بشكل عام ودعوة النصارى على وجه الخصوص، فبذلوا جهوداً مشكورة في سبيل ذلك من خلال الجهاد، والتعليم، والتأليف، والكتابة، والردود، وغير ذلك (456) وممن له جهود في دعوة النصارى في عهد الحروب الصليبية:
        أ- نصر بن يحيى بن عيسى بن سعيد المتطبب:والذي عاش بعد سنة 449هـ ومن خلال كتابه النصيحة الإيمانية – وبعض الترجمات اليسيرة عنه يتضح أنه نصراني يعمل بالطب، ثم أسلم بعد بحث ونظر، ويرجح أحد الباحثين، أن نصراً هذا هو نفسه الذي ترجمت له بعض المصادر باسم يحيى بن يحيى بن سعيد المتطبب النصراني، المتوفي بالبصرة سنة 589هـ وقد تمثل جهد نصر بن يحي بعد إسلامه في دعوة النصارى شعوره بمسؤوليته في دعوة قومه، فاستغل معرفته بديانتهم واطّلاعه على تحريفاتهم وشبهاتهم فألف كتاباً في ذلك: وحيث أنقذني الله من الشريعة التي نُسخت والملة التي طُمست، وشرفني الله بدين الإسلام .. أحببت أن أذكر نبذاً من أحوال النصارى (457)، حيث ذكر في هذا الكتاب نبذاًً من أحوال النصارى وفرقهم ومذاهبهم وأناجيلهم وأبرز معتقداتهم التي أوضح أنه لا يعول عليها، وليس لها أصل أو برهان أو حجة تقوم عليها (458)، ثم وجه هذا الكتاب ابتداء إلى علمائهم ومقدميهم لعلهم يرجعون عن ضلالهم وغيهم وطغيانهم (459).
        ب- محمد بن عمر بن الحسين بن علي الرازي:وكان من جهوده في دعوة النصارى في هذه الفترة مناظراته الكثيرة معهم، والتي منها مناظرته المشهورة مع أحد قساوسة أصبهان، وكان في مناظراته مع النصارى ظاهر الحجة واضح البرهان، لا يجرؤ كثير منهم لذلك على التصريح بمعتقده أمامه حتى قيل عنه: وما من نصراني رآه إلاّ وقال: أيها الفرد لا نقول بالتثليث بين يديك (460) ومما يُضاف إلى جهوده في هذا المجال عرضه لعقائد النصارى وبيانها والرد عليها، وذلك في بعض كتبه وإسهامه في ذلك في تفسيره عند الآيات التي تتحدث عن النصارى حيث يعرض الكثير من عقائدهم وشبهاتهم مبطلاً ومفنداً لها، وقد كانت وفاة الرازي دعوة المسلمين للنصارى يوم عيد الفطر سنة 606هـ.
        ج- صالح بن الحسين بن طلحة الجعفري: كان مولده بمصر سنة 581هـ (461) وكان الجعفري كثير المناظرة لرهبان النصارى، حيث يدل على ذلك بعض الإشارات في كتبه، ومن ذلك مثلاً قوله:.. ولقد فاوضني بعض الرهبان ممن يُدعى بنان في البيان (462)قوله: لقد فاوضت بعض النصارى فيما يتعلق بألفاظ النبوة (463)وقوله : قلت لنصراني من عقلائهم (464)ومن جهود الجعفري في هذا المجال اهتمامه بما يصدر عن نصارى الفرنج تجاه المسلمين وتصديه لشبههم والردّ عليها وتفنيدها، ففي كتابه: الرد على النصارى أشار إلى الدافع له لتأليفه أسئلة وردت من الفرنج يمتحنون بها المسلمين إذ يقول:.. وقفت على مسائل ذكر أن الفرنج بعثوا بها يمتحنون أهل الإسلام، فنظرت فيها، فإذا هي خالية من الفوائد الدينية عاطلة عن المنافع الدنيوية (465)وأما التأليف في هذا المجال فكان للجعفري الجهد الواضح فيه دعوة لهم، ورداً على شبههم، وبياناً للحق الذي اشتبه على كثير من عامتهم؛ إذ استشعر هذه المهمة الجليلة في دعوة النصارى، فبين أن من أسباب تأليفه مثلاً لكتاب تخجيل من حرف التوراة والإنجيل هو رجاء هدايتهم فعسى الله أن يقدر هدية بعضهم، ونحن مأمورون بدعائهم إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة (466)ومما دفعه إلى التأليف أيضاً تعليم الحجة في الرد عليهم، وإلزامهم بمقتضى أصولهم: وهذا مما يعين على دعوتهم (467). مع ما في ذلك من ترسيخ لإيمان المسلم بإظهار الآيات من كتبهم التي توافق القرآن، كما قال تعالى:(االَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ).[الأعراف:157].(468). وكثرة الأدلة توجب الطمأنينة وتثلج الصدر (469)ولهذا الغرض الجليل المتمثل في دعوة النصارى إلى الإسلام وردّ شبههم، وكشف باطلهم لمن حجب عنه الحق منهم أن يعرفه قام الجعفري بتأليفه عدداً من الكتب منها:تخجيل من حرف التوراة والإنجيل، وكتاب الرد على النصارى، وكتاب الواضح المشهود في فضائح النصارى واليهود، ومما يضاف إلى جهود الجعفري في دعوة النصارى إلى الإسلام اعتماد الملك الكامل عليه في بعض الأحيان للرد على أسئلة النصارى ومناقشتهم، فعندما أرسل ملك الروم رسالة إلى الملك الكامل سنة 618? متضمنة بعض الأسئلة للمسلمين كان ممن كلف بالإجابة عليها الجعفري (470)، وقد كانت وفاته – رحمه الله – سنة 668هـ بالقاهرة حيث دفن بالمقطم (471).
        - أحمد بن إدريس بن عبدالرحمن الضهاجي القرافي:
        كانت له جهود كبيرة في مناظرته الكثيرة معهم والرد على شبههم، ودعمه للسلطة وقوته في مواجهتهم، ومما يدل على كثرة مناظرته مع النصارى قوله في أحد كتبه .. اتفق لي مع كثير منهم في المناظرة أني أطالبه بتصوير مذهبه، كيف يمكن إقامة الدليل عليه (472). وقد اعتنى – رحمه الله – في الرد على شبههم، ومن ذلك تخصيص الباب الثاني في كتابه الأجوبة الفاخرة في الرد عليها وتفنيدها حيث قـال:الباب الثاني في أسئلة لأهل الكتاب النصارى واليهود عادتهم يتولعون بإيرادها .. والجواب عنها (473)، ومن مشاركته ودعمه للسلطة في وقته في مواجهة النصارى ودعوتهم تأليفه كتاب "أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية"وإهدائه للملك الكامل، و كان الصراع العسكري والفكري في وقته على أشده مع الصليبيين وقد قال القرافي في ذلك: ..فرأيت أن أؤلف لمولانا السلطان -أعزه الله تعالى-في الرد عليهم كتاباً أتحفه فيه بغريبه وأنفرد فيه بطريقة عجيبة، أجمع فيه مذاهبهم على جليتها وأخاطبهم بنصوص نصوصهم وأجادلهم بها مجادلة الأقران، وأبارزهم على نقضها مبارزة الشجعان (474)والقرافي كان مستشعراً لأهمية الدعوة إلى الإسلام بشكل عام وأن الذب عن الدين والدعوة إليه أسمى ما تُصرف فيه الهمم حيث قال: أجلت طرف الفكر ميدان النظر أي فن أقصد إليه، وأرجو من الله أن يثيب عليه، فظهر لي أن أولى ما تصرف إليه الهمم، وتتفاوت فيه القيم، وتتنافس فيه الأفاضل، ويتميز به المفضول من الفاضل الذب عن حوزة الدين وحراسة بقية المسلمين بالبحث في الملل والأديان، وإقامة الدليل على وحدانية الملك الديان (475)، ثم وضح القرافي أن أولى من يُدعى إلى ذلك هم النصارى حيث قال: فنظرت في أهل الشرائع والمذاهب، وتفكرت فيمن هو فيها عن التوحيد ذاهب، فلم أجد سوى مذهب النصارى الضالين الحيارى (476).ومن الكتب أيضاً التي ألفها القرافي في هذا المجال كتاب "الأقوال القديمة في حكم النقل من الكتب القديمة"وبعد حياة حافلة بالعلم والدعوة توفي القرافي في جمادي الآخرة من سنة 684هـ (477) بالقاهرة – رحمه الله رحمة واسعة.
        ش- أحمد عبدالصمد بن أبي عبيدة الخزرجي:
        عُرف منذ شبابه بالذكاء والحفظ وكانت له عناية بالحديث والتواريخ(478)، وله جهود مشكورة في دعوة النصارى من خلال كتاباته في عقائدهم ومناظراته معهم، والردّ على شبههم، ومن ذلك أنه كان أحد قساوسة طليطلة الإفرنج يثير الشبه ويلقيها بين المسلمين لزعزعة ثقتهم في دينهم، وكانوا يحارون في الإجابة عنها حتى هيأ الله لهم أبا عبيدة، فكان المسلمون يأتون إليه ليجيب على أسئلة القسيس وشبهه، فيتصدى أبو عبيدة لذلك، فتزول شبهتهم ثم يحملون الإجابة ليلقموه حجراً، ويفندوا حججه ويبطلوا ادّعاءاته (479) وكانت لأبي عبيدة جهود مباشرة في النقاش والردود والدعوة لقساوسة النصارى في الأندلس، منها على سبيل المثال:رسالته إلى أحد قساوسة طليطلة رداً على رسالة بعث بها هذا القسيس إليه يدعوه فيها إلى النصرانية، ويثير فيها بعض الشبه حول الإسلام حيث أرسل له أبو عبيدة رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، ويظهر له مثالب النصرانية وتحريفها، ويزيل الشبه التي تعلق بها هذا القسيس للطعن في الدين الإسلامي (480).ومما يُضاف إلى جهود أبي عبيدة في هذا المجال تأليفه للكتب التي توحي عناوين بعضها بأنها مجابهة لحرب فكرية أثارها النصارى في الأندلس ضد الإسلام والمسلمين في وقته ومن هذه الكتب. مقاطع هامات الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان (481)، وكتاب: مقام المدرك في إفحام المشرك، وكتاب: مقصد السبيل في معرفة آيات الرسول، وكتاب: آفاق الشموس وأعلاق النفوس، والأخير في أحكام النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت لأبي عبيدة – رحمه الله – مشاركة في الجهاد العسكري ضد النصارى حتى إنه أسر في طليطلة سنة 540هـ وبقي في الأسر إلى سنة 542هـ، وكان خلال فترة أسره يحاور النصارى، ويناقشهم ويملي الحجة على المسلمين الذين في الأسر معه لمواجهة شبه النصارى وادعاءاتهم وبعد فكاك أبي عبيدة من الأسر ودعماً منه للجهود المبذولة في مواجة النصارى جمع بعض ردوده ومناقشاته معهم في عدة نسخ، ووضعها بأيدي المسلمين الذين لا يزالون تحت الأسر في طليطلة، حيث قال صاحب كتاب الذيل والتكملة عن ذلك:"..وتركه في نسخ بأيدي جماعة من المسلمين المبتلين بالأسر هناك لما يسّر الله في تخلّصه (482)وقد كانت وفاة أبي عبيدة في فاس سنة 582هـ (483).
        ع- محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي:كان من علماء المغرب الإسلامي الذين لهم جهود في دعوة النصارى. نشأ في قرطبة بالأندلس، وأخذ من علمائها، ثم هاجر إلى المشرق واستوطن مصر حيث كانت وفاته في منية الخصيب بصعيد مصر سنة 671هـ (484)وكان القرطبي محدثاً، فقيهاً، مفسراً، متبحراً في كثير من العلوم وكان ورعاً زاهداً، متعبداً، عمّر أوقاته بين العبادة والتصنيف، وقد خلّف العديد من المؤلفات القيمة، من أشهرها: كتابه في التفسير: الجامع لأحكام القرآن، والأسنى في أسماء الله الحسنى، والتذكار في أفضل الأذكار، والتذكرة بأحوال الموتى وأحوال الآخرة، إلى غير ذلك (485).
        وفيما يتعلق بدعوة النصارى فله اهتمام كبير في هذا الجانب يتمثل في حرصه على الرد عليهم، وكشف ضلالهم، وإزالة شبهاتهم، ومن ذلك رده على قسيس طليطلة الذي بعث بكتاب إلى المسلمين في قرطبة أسماه: تثليث الوحدانية (486): الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، وإثبات نبوّة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ فقد ناقش القرطبي في كتابه الإعلام فصلاً بيّن فيه أن السبب الذي دفعه إلى ذلك هو خشيته من تلبيس قسوسهم الذين يكتبون حول بعض تشريعات الإسلام، وهم لا يحسنون ذلك، فقرأها إخوانهم في الديانة فيفهمون الإسلام على غير وجهه الصحيح (487)، إضافة إلى أنه وضع هذا الفصل ليطلع عليه النصارى فيفهموا الإسلام على الوجه الصحيح ليكون أدعى إلى اعتناقهم إياه (488).


        ______________________________

        (405)نصيبين: مدينة قديمة في جنوب شرق تركيا على الحدود السورية.
        (406)كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/36).
        (407)الحروب الصليبية أرنست باركر ترجمة السيد الباز العريني ص 52.
        (408)دعوة المسلمين للنصارى (1/365).
        (409)الكامل في التاريخ (9/394)دعوة المسلمين للنصارى (1/365).
        (410)البداية والنهاية (12/306)دعوة المسلمين للنصارى (1/365).
        (411)كتاب الروضتين (1/9).
        (412)دعوة المسلمين للنصارى (1/366).
        (413)المصدر نفسه (1/366).
        (414)كتاب الروضتين نقلاً عن دعوة المسلمين للنصارى (1/367).
        (415)المنتظم (18/209).
        (416)كتاب الروضتين (1/14)دعوة المسلمين للنصارى (1/368).
        (417)دعوة المسلمين للنصارى (1/368).
        (418)المصدر نفسه (1/368).
        (419)البداية والنهاية (12/254)دعوة المسلمين للنصارى (1/368).
        (420)دعوة المسلمين للنصارى (1/368).
        (421)سير أعلام النبلاء (21/279).
        (422)النوادر السلطانية ص 66.
        (423)الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد ص 111.
        (424)دعوة المسلمين للنصارى (1/371).
        (425)الروضتين في أخبار الدولتين (2/74).
        (426)دعوة المسلمين للنصارى (1/371).
        (427)النوادر السلطانية ص 55.
        (428)دعوة المسلمين للنصارى (1/372).
        (429)النوادر السلطانية ص 139.
        (430)دعوة المسلمين للنصارى (1/374).
        (431)المصدر نفسه (1/374).
        (432)البدايةوالنهاية (13/86–87)دعوة المسلمين (1/375).
        (433)البداية والنهاية (13/86– 87)دعوة المسلمين (1/375).
        (434)همذان:بتسكين الميم مدينة باليمن في شماله الغربي قرب صعدة.
        (435)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/376).
        (436)النوادر السلطانية ص 274.
        (437)النوادر السلطانية ص 290.
        (438)السلوك لمعرفة دول الملوك (1/190).
        (439)الكامل في التاريخ (9/531).
        (440)الأنيس المطرب ص 145.
        (441)سير أعلام النبلاء(19/253).
        (442)الأنيس المطرب ص 157.
        (443)المصدر نفسه ص 137 دعوة المسلمين للنصارى (1/386).
        (444)دعوة المسلمين للنصارى (1/388).
        (445)الكامل في التاريخ (9/299)دعوة المسلمين (1/389).
        (446)البيان المغرب، قسم الموحدين ص 78.
        (447)المرية:مدينة في جنوب شرق إسبانيا على البحر المتوسط.
        (448)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ ).
        (449)سلا:مدينة مغربية، تقع حالياً على ساحل المحيط الأطلسي.
        (450)تيفل وتُسمّى حالياً تافيلت، مدينة تقع في الوسط الشمالي لدولة المغرب.
        (451)البيان المغرب قسم الموحدين ص 79.
        (452)دعوة المسلمين للنصارى (1/391).
        (453)المصدر نفسه (1/391).
        (454)المصدر نفسه (1/392).
        (455)المصدر نفسه (1/392)نقلاً عن دعوة المسلمين للنصارى.
        (456)دعوة المسلمين للنصارى (1/393).
        (457)النصحية الإيمانية ص 51 دعوة المسلمين للنصارى (1/402).
        (458)دعوة المسلمين للنصارى (1/394).
        (459)المصدر نفسه (1/403).
        (460)طبقات الشافعية للسبكي (8/84).
        (461)سير أعلام النبلاء (21/501).
        (462)النجوم الزاهرة (6/98).
        (463)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل ص (1/250).
        (464)المصدر نفسه (1/233).
        (465)المصدر نفسه (1/353).
        (466)الرد على النصارى ص 56.
        (467)دعوة المسلمين للنصارى (1/410).
        (468)دعوة المسلمين للنصارى (1/410).
        (469)المصدر نفسه (1/410).
        (470)دعوة المسلمين للنصارى (1/411).
        (471)المصدر نفسه (1/411).
        (472)الأجوبة الفاخرة ص 111.
        (473)الأجوبة الفاخرة ص 3.
        (474)أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية ص 414.
        (475)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/414).
        (476)المصدر نفسه (1/414)أدلة الوحدنية ص 20.
        (477)الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب (1/239).
        (478)المصدر نفسه (1/215–216).
        (479)مقامع هامات الصلبان ومراتع رياض أهل الجنة ص 53.
        (480)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/420).
        (481)المصدر نفسه (1/420).
        (482)الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة القسم الأول ص 240.
        (483)فاس:مدينة في شمال المغرب أسسها إدريس الثاني سنة 193هـ.
        (484)نفح الطيب من غصن الأندلس الطيب (2/210–212).
        (485)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/421).
        (486)المصدر نفسه (1/421).
        (487)دعوة المسلمين للنّصارى (1/422).
        (488)المصدر نفسه (1/422).

        http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-40-111291.htm

        تعليق


        • #5
          أساليب في دعوة النصارى في عهد الحروب الصليبية

          الثلاثاء 25 ربيع الثاني 1430 الموافق 21 إبريل 2009
          د. علي محمد الصلابي

          سابعاً: وسائل الدعوة الإسلامية في عصر الحروب الصليبية: تنوّعت وسائل الدعوة الإسلامية في عصر الحروب الصليبية إلى وسائل متنوعة منها:
          1- الكتب: في فترة الحروب الصليبية كان الكتاب من أهم وسائل الدعوة الموجهة إلى النصارى، وكان له أثره في إبطال شبههم، وفضح ضلالاتهم، وكشف تلبيس مبطليهم، وبيان الحق الذي عُمّي على عامتهم، ومن الأمثلة على ذلك كتاب "الأجوبة الفاخرة على الأسئلة الفاخرة" للقرافي، والذي كان السبب الأول الذي دفعه لتأليف هذا الكتاب رسالة بعث بها أحد النصارى يقيم الحجج فيها على صحة دينه(489)، ومثله كتاب القرطبي – "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام" – وقد كان الدافع الأول لتأليف القرطبي هذا الكتـاب كتـاب بعث به أحـد قساوسة النصارى في طليطلة بالأندلس أسماه – "تثليث الوحدانية" (490)فحرك ذلك القرطبي لتأليف كتابه رداً على كتاب القسيس، متتبعاً له ومناقشاً ما أورده فيه من شبه، ومبطلاً ما اعتمدوا عليه في ديانتهم وعقائدهم، ومن الكتب التي كان السبب المباشر في تأليفها كتابات لبعض النصارى بعثوا بها إلى المسلمين، كتاب "الرد على النصارى" لصالح بن الحسين الجعفري (491)، وكذلك من الكتب رد أبي عبيدة الخزرجي على شبهات قسيس طليطلة وتفنيدها، وردود بعض علماء الأندلس على رسالة ابن غرسيه النصراني في ذم العرب والمسلمين، والتي كثر تداولها في الأندلس في هذه الفترة؛ إذ ألف بعض العلماء في الرد عليه منهم: محمد بن مسعود بن طيب بن أبي الخصـال وكان رده بعنوان : "خطف البارق وقذف المارق في الرد على ابن غرسيه المارق"(492)وهناك نوع آخر من الكتب التي ألفها علماء هذه الفترة بمبادرة منهم، وذلك دعماً للسلطة في مواجهة النصارى ودعوتهم، ومن هذه الكتب "كتاب أدلة التوحيد في الرد على النصرانية" لأحمد بن إدريس القرافي، ومن الكتب في هذه الفترة من ألفها بعض العلماء ابتداء رجاء هداية النصارى من خلال مناقشة عقائدهم وبيان بطلانها وإيضاح الحق الذي اشتبه على كثير من عامتهم بسبب تلبيس قساوستهم، ومن الأمثلة على هذا النوع من الكتب كتاب "تخجيل من حرف التوراة والإنجيل" لصالح بن الحسين الجعفري (493)وغيرها من الكتب الكثيرة التي ناقشت قادة الرأي ورجال الدين النصارى، كرسالة أبي عبيدة الخزرجي إلى قسيس طليطلة، وكتاب الواضح المشهود، ولها أثرها أيضاً من جهة أن بعضها كان رداً مباشراً على قضايا معينة أثارها النصارى في هذه الفترة، وكان لها رواج، فكان الرد على مثل هذه القضايا له انتشاره وأثره على العامة من النصارى الذين راجت عندهم، فوصل إليهم الرد والشبه عالقة في أذهانهم، فكان أدعى إلى تفنيدها وإزالتها، وذلك مثل رد أبي الخصال وغيره على رسالة ابن غورسية، ورد القرافي في كتابه الأجوبة الفاخرة على أسئلة تعّود النصارى إثارتها وترويجها في هذه الفترة، ولهذه الكتب أيضاً أثرها في عمق التأثير في القارئ، بل وفي طبقات المجتمع النصراني بشكل عام في هذه الفترة، وذلك لكونها أطول بقاءً، وأوسع انتشاراً، وأسهل تداولاً، فالمحاضرة والخطبة والمناظرة وغيرها في ذلك الوقت يبقى تأثيرها محدوداً من حيث وصول أثرها للحاضرين في وقتها، أما الكتاب وإن كان تأثيره بطيئاً فإن أثره عميق، لكونه يُتداول في المجتمع النصراني بمختلف طبقاته، فيتسرب لذلك أثره إلى هذه الطبقات، إما بإسلام البعض، أو بإزالة شبهة قائمة حول الإسلام، أو بتشويش ما لديهم من قناعات حول معتقدهم (494).
          2- وسيلة الجهاد:وفي عصر الحروب الصليبية كان الجهاد في سبيل الله من أهم وسائل الدعوة الموجهة إلى النصارى، وقد تحدثت في كتبي السابقة عن السلاجقة والزنكيين وصلاح الدين عن هذه الوسيلة بنوع من التفصيل، ولقد ساهمت وسيلة الجهاد لإتاحة أعداد كبيرة من النصارى الأوروبيين المقاتلين في الجيوش الصليبية الاحتكاك بالمسلمين ومعرفة بعض معتقداتهم وأخلاقهم، وما يتميز به كثير من القادة المسلمين ومعرفة بعض معتقداتهم وأخلاقهم وما يتميز به كثير من القادة المسلمين من عدل ورحمة وعطف هذه الصفات التي تعكس الأخلاق الإسلامية، وتعطي صورة صادقة عن سماحة الإسلام، الأمر الذي جعل أعداداً كبيرة من أفراد هذه الحملات يعتنقون الإسلام، بل إن بعض قادتهم أقسم ألاّ يقاتل المسلمين لِما رآه من عدل وإنصاف لدى بعض القادة، وكثيرون منهم تبدلت عداواتهم إلى محبة للمسلمين بسبب حسن المعاملة التي وجدوها من قبل الجيوش الإسلامية، وللجهاد أثر واضح في دعوة النصارى من ناحية كونه أتاح الكثير من الاتصالات بين قادة الفريقين، سواء عن طريق الرسل أو من خلال الرسائل والمكاتبات أو الاجتماعات المباشرة (495)، ومن أعظم آثار وسيلة الجهاد في هذه الفترة تجاه النصارى أنها أظهرت عزة المسلمين وقوتهم أمام أعدائهم، وجعلتهم أمة مرهوبة الجانب تحطمت على صمودها وقوتها حملات الصليبيين المتعاقبة، مما جعل كثيراً من عامة النصارى خاصة في أوروبا تتزعزع قناعاتهم بصحة ما هم عليه، ويفقدون الثقة برجال دينهم الذين وعدوهم بالنصر والغفران والسعادة (496)، فحينما عاد جماعة من النصارى المشاركين في إحدى الحملات الصليبية أخذوا يدعون إلى التحرر من سلطة رجال الدين لديهم وأعلنوا أنه: لو اجتمعت الباباوات والكرادلة من أولهم إلى آخرهم على أن يضعوا عن مخلوق ذنباً واحداً ما قدروا، بل الله يغفر الذنوب (497)، بل إن أعداداً كثيرة من النصارى في أوروبا أخذوا يصرحون أن إخفاق الحملات الصليبية يدحض ما يدعيه البابا من أنه نائب عن الله أو ممثل له في أرضه (498)ولما أخذ الرهبان في أوروبا يدعون إلى إحدى الحملات الصليبية المتأخرة، ويسألون الناس بذل المال دعماً لها كان كثير من النصارى يسخرون منهم، حتى إنهم أخذوا يوزعون المال على الفقراء باسم محمد -صلى الله عليه وسلم- من قبيل السـخرية بالرهبان؛ لأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- قد ظهر أنه أعظم قوة من المسيح في هذه الحروب (499)وقد بين أحد الكتاب الغربيين أن من أهم نتائج فشل الحملات العسكرية الصليبية – والتي كان الجهاد في سبيل الله السبب المباشر في ذلك – إن هذا الفشل بعث كثيراً من العقول في أوروبا على التفكير، وكان سبباً في إضعاف العقائد الدينية المستقرة لدى النصارى في القرنين الثالث والرابع عشر (500).
          3-وسيلة الرسل: في عصر الحروب الصليبية اعتمد المسلمون كثيراً على الرسل في اتصالاتهم مع النصارى، خصوصاً مع الصليبيين، فمن خلالهم نُقلت وجهات النظر الإسلامية إلى النصارى حيال كثير من الأمور التي كانت مدار خلاف بين الطرفين في هذه الفترة، وعن طريقهم تبدلت مواقف كثير من النصارى العدائية تجاه الإسلام والمسلمين، ولدورهم الفعّال تحققت الكثير من المصالح للمسلمين في مواجهة النصارى ودعوتهم، خصوصاً إذا كان لهؤلاء الرسل مجال في المفاوضة والمحاورة والنقاش(501).
          4-وسيلة المسجد: في عصر الحروب الصليبية كانت المساجد من وسائل الدعوة الموجهة إلى النصارى؛ إذ يظهر ذلك من خلال كونها معلماً من معالم المدن الإسلامية؛ فمن أول ما يلفت نظر غير المسلم الزائر للمدينة الإسلامية هذه المساجد التي لم يعتد رؤيتها في بلاده، فيطرح ذلك بعض الأسئلة في ذهنه، والتي ربما تقوده إلى البحث ومحاولة التعرّف على الإسلام، فالمساجد من هذه الناحية أول منادٍ تدعو إلى الإسلام لغير المسلم الذي يشاهدها لأول مرة، وهذا هو حال كثير من النصارى القادمين مع الحملات الصليبية الذين لم يعتادوا رؤية المساجد من قبل في بلادهم، وفي المساجد يرفع الآذان الذي يتضمن تمجيداً لله سبحانه وتعالى، وتوحيداً له، وإعلاناً بنبوةّ محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك نقض لعقيدة التثليث لدى النصارى، ورد على تكذيبهم بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا شك أن سماع النصارى للآذان وتكراره في اليوم خمس مرات على مسامعهم فيه دعوة مباشرة لهم بالتوحيد والإيمان بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بغض النظر عن الاستجابة (502) وكانت هناك مساجد كثيرة بأيدي المسلمين منفردين في الصلاة فيها وهي تحت الحكم النصراني، وقد بقيت على حالها، وهذا ما أشار إليه ابن جبير في مدينة صور وهي تحت الحكم الصليبي حينما زارها؛ إذ قال: وكانت راحتنا مدة مقامنا بصور بمسجد بقي بأيدي المسلمين، ولهم فيها مساجد أخرى (503). كذلك ارتياد النصارى لبيت المقدس واختلاطهم بالمسلمين فيه وتعودهم رؤية المسلمين يؤدون صلاتهم فيه، أدّى إلى تبدل نظرة الكثيرين منهم إلى المسلمين، من نظرة متعصبة حاقدة إلى نوع من المودة والاحترام، وقد أشار أسامة بن منقذ إلى شيء من ذلك، فبينما كان يؤدي الصلاة في بيت المقدس متجهاً إلى مكة وحوله بعض الفرنج تقدم إليه أحدهم وصرفه عن القبلة، فمنعه آخرون منهم واعتذروا لأسامة، وأن هذا الرجل قدم حديثاً من البلاد، ولم يتعود أن يرى مسلماً يصلي متجهاً إلى مكة (504)، لذلك استنتج هذه الملاحظات أسامة بنفسه حيث قال: فكل من هو قريب بالبلاد الإفرنجية أجفى أخلاقاً من الذين قد تبلدوا وعاشروا المسلمين (505).
          وقد كان لبعض المساجد في بلاد المسلمين شأن وذكر، بل إنها استحوذت على بعض القادة المسلمين، وكون العناية بمثل هذه المساجد وسيلة لكسب المسلمين الخاضعين لسيطرتهم ومن ذلك مثلاً مسجد القسطنطينية الذي دارت بشأنه العديد من السفارات بين صلاح الدين وإمبراطور الروم والذي كان يبدي اهتمامه وعنايته بهذا المسجد، حيث أرسل صلاح الدين من أجل ذلك سفارة تضم إماماً وخطيباً للمسجد، وكان لذلك أثره في إبراز صورة الإسلام في معقل من معاقل النصرانية، وقد قال ابن شداد عن ذلك: .. وكان يوم دخولهم – أي سفارة صلاح الدين إلى القسطنطينية يوماً عظيماً من أيام الإسلام شاهده جمع كثير من التجار، ورقى الخطيب المنبر، واجتمع إليه المسلمون المقيمون بها والتجار وأقام الدعوة الإسلامية العباسية (506) لقد قامت المساجد بدورها في دعوة النصارى إلى الإسلام العظيم.
          5- وسيلة الرسائل: في عصر الحروب الصليبية استطاع كثير من قادة المسلمين وعلمائهم إيصال الحق إلى النصارى من خلال الرسائل وقد اختلفت موضوعات هذه الرسائل إلاّ أنها في النهاية في مجموعها لصالح المسلمين، فهي إما دعوة مباشرة للإسلام، أو بحث في أمر يهم المسلمين في مواجهة النصارى، أو أنها رسائل تحمل نوعاً من التلطف واللين مع قادة النصارى ومقدميهم درءًا لشرهم وكسباً لقوة بعضهم ضد بعض ومن الأمثلة على استخدام الرسائل من قبل المسلمين تجاه النصارى في هذه الفترة رسائل صلاح الدين الكثيرة إلى بعض قادة الفرنج والتي منها رسائله إلى ملك القسطنطينية في شأن إقامة خطبة الجمعة في القسطنطينية وترتيب إقامة الصلاة فيها وما يتعلق ببناء مسجد للمسلمين هناك، حيث تمّ ذلك وكان قد أنفذ – رحمه الله – مع إحدى رسائله في هذا الشأن خطيباً ومنبراً وجمعاً من المؤذنين (507)ومن رسائل صلاح الدين إلى النصارى رسالته إلى ملك الإنجليز رداً على رسالة بعث بها الأخير إليه، متضمنة المطالبة بتنازل المسلمين عن القدس وبعض البلاد الشامية، واسترجاع صليب الصلبوت المعظم عندهم، والذي غنمه المسلمون منهم في معركة حطين، فكان جواب صلاح الدين، في رسالته على رسالة الملك الصليبي الرفض التام للحديث في شأن القدس أو التنازل عن شيء من أراضي المسلمين، أما تسليم صليب الصلبوت للنصارى فإن ذلك لا يكون إلاّ لمصلحة راجحة للإسلام (508)حيث قال في هذه الرسالة:.. هو عندنا – أي القدس – أعظم مما هو عندكم، فإنه مسرى نبينّا ومجتمع الملائكة، فلا يتصور أن ننزل عنه ولا نقدر على التلفظ بذلك بين المسلمين، وأما البلاد فهي أيضاً لنا في الأصل، واستيلاؤكم كان طارئاً عليها لضعف من كان بها من المسلمين في ذلك الوقت.. وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة، ولا يجوز أن نفرط فيها إلاّ لمصلحة راجحة إلى الإسلام هي أوفى منها (509). وهكذا كانت وسيلة الرسائل في هذه الفترة من الوسائل التي استخدمها المسلمون في إيصال الدعوة إلى النصارى (510).
          ثانياً: أساليب دعوة المسلمين للنصارى: في عصر الحروب الصليبية اهتم الدعاة المسلمون في جهودهم الدعوية المباركة الموجهة إلى النصارى بجانب الأساليب اهتماماً كبيراً؛ فقد ظهر ذلك جلياً من خلال تنوع هذه الأساليب وتعدد أشكالها واختلاف عرضها (511).
          1- الأساليب العقلية: غلب على العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية استخدام الأساليب العقلية من سير وتقسيم وأقيسة ومحاكمات عقلية وغيرها، ومن أبرز الأساليب العقلية التي استخدمها العلماء المسلمون في مناقشاتهم وردودهم ومناظراتهم مع النصارى:
          أ- أسلوب السبر والتقسيم: والسبر والتقسيم في الاصطلاح هو أن يحصر المعترض جميع الأوصاف المناسبة للحكم في الأصل ثم يبين إلغاءها وعدم صلاحيتها للتعليل (512)وقد كان هذا الأسلوب العقلي من أبرز الأساليب وأكثرها استخداماً من قبل العلماء المسلمين في نقاشاتهم وحواراتهم ومناظراتهم مع النصارى في عصر الحروب الصليبية، وذلك لما يتميز به من شمولية في تتبع الاحتمالات والاعتراضات التي يمكن أن يتعلق بها النصارى وإبطالها، وذلك في القضايا التي كانت مدارالنقاش والبحث بين الفريقين، ومن الأمثلة على استخدام هذا الأسلوب مع النصارى إبطال الخزرجي في مناقشته لقسيس طليطلة حجة هذا القسيس على تجسيد الله في شخص المسيح، حيث ذكر هذا القسيس أن علة تجسد الله في شخص المسيح هي من أجل أن ينزل إلى الأرض، ويكلم الخلائق بدون واسطة حتى تنقطع حجتهم (513)، فأبطل الخزرجي هذه الحجة من خلال السبر والتقسيم بأن حصر الاحتمالات التي يمكن أن يكون من أجلها نزل الإله إلى الأرض متجسداً في شخص المسيح وبين عدم صحتها، الأمر يهدم أساس هذه العقيدة التي يدين بها النصارى، فلا يخلو بسبب هذه العقيدة التي يدين بها النصارى، فلا يخلو سبب هذا التجسد من أن الله تعالى عما يقولون علواً كبيراً لم يحط علمه بما فعله أنبياؤه، فهبط ليطلع على فعلهم وهذا محال، أو كان الأنبياء متهمين بمخالفة أمره سبحانه عمداً فلم يؤدوا أمانة التبليغ وهذا محال، أو أنهم عجزوا عن أداء ما حُمَّلوا، وضعفوا عن إظهار ما يؤكد صدقهم فنزل مؤيداً لهم وهذا محال (514)، فإذا انتفت هذه الاحتمالات التي يمكن أن تكون علة للتجسد انتفى معها حدوث التجسد الذي يدعيه النصارى، ومن ثم بطلت هذه العقيدة التي يدينون بها ولم يبق لهم مستند فيها إلاّ الكذب بعد تهافت حججهم عليها (515) وفي مفاوضات صلاح الدين مع ريتشارد قلب الأسد عن طريق أخيه الملك العادل بيّن الملك الإنجليزي لرسول الملك العادل أن ما جاء به بجحافله من بلاده إلاّ ثلاثة أمور، إذا تحققت له رجع وترك بلاد المسلمين، وهذه الأمور هي القدس والصليب والبلاد التي زحف عليها المسلمون بعد معركة حطين، ولما عُرض ذلك على صلاح الدين كان رده على دعاوي الملك الإنجليزي -وهو رحمه الله يقود الجيوش الإسلامية للوقوف في وجه أطماعه – رداً عقلياً يفند ادعاءاته وحججه التي تعلق بها في قدومه للبلاد الإسلامية موضحاً أن لا حجة له على الحقيقة تدعوه إلى القدوم والاعتداء على المسلمين، وأن الأولى أن يعود من حيث أتى، فمن خلال أسلوب السبر والتقسيم حصر صلاح الدين دعاوي الملك الإنجليزي وفنّدها، ففيما يختص بالقدس بين –رحمه الله تعالى – مكانته لدى المسلمين بكونه مسرى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولن يوافق أي مسلم على التنازل عنه، فلا مجال للخوض في أمره، وفيما يختص بالبلاد التي زحف عليها المسلمون بعد معركة حطين فهي في الأصل للمسلمين، واستيلاء النصارى طارئ عليها لضعف من بها من المسلمين، فلا حق على ذلك لهم فيها، والصليب الذي يطالب به النصارى غنمه المسلمون منهم لما قدموا للبلاد الإسلامية محاربين للمسلمين، فكيف يفرط به المسلمون وهو بهذه المنزلة لدى النصارى الذين هم في الوقت نفسه معتدون عليهم؛ ولذلك فلا يكون التنازل عنه إلاّ لمصلحة ظاهرة للإسلام (516)، وهكذا بجانب المواجهة العسكرية التي يقودها صلاح الدين ضد الملك الإنجليزي تصدى لدعاويه وشبهه الفكرية التي يتذرع بها في عدوانه على المسلمين، فمن خلال هذا الأسلوب العقلي فنّدها جميعاً، ولم يبق للملك الإنجليزي إلاّ أن يوقف عدوانه على المسلمين، ويعود من حيث أتى (517).
          ب- أسلوب قياس الأولى: هو ما يكون معناه في الفرع زائداً على معنى الأصل (518)، أو هو ما قطع فيه بنفي الفارق، ويُسمّى القياس الجليّ (519)وهذا الأسلوب استخدمه العلماء المسلمون لدحض حجج النصارى وشبهاتهم التي أقاموا عليها اعتقاداتهم وبنوا عليها أصول ملتهم (520)ومن الأمثلة على ذلك إبطال الخزرجي في نقاشه مع قسيس طليطلة لحجة النصارى في اتخاذ المسيح -عليه السلام- ابناً لله بدعوى ولادته من غير أب؛ إذ قرر الخزرجي أنه إذا كانت هذه هي العلة التي سوّغت للنصارى أن يجعلوا المسيح ابناً لله سبحانه وتعالى فإنها متحققة في شأن آدم بشكل أكبر من المسيح؛ إذ إنه وُجد من غير أب أو أم، فهو أولى بالألوهية من المسيح لهذه العلة (521)، وبالأسلوب نفسه أبطل القرطبي هذه الحجة للنصارى على اتخاذ المسيح ابناً لله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً – إذ قال:بل لو أمكن لأحد أن يقول: إن بشراً يتصور أن يكون إلهاً لكونه من غير أب لكان آدم أولى بذلك من حيث إنه لم تشتمل عليه أوصار الرحم، فقد شارك المسيح في كونه من غير أب وزاد عليه أنه من غير أم (522)، ومن خلال هذا الأسلوب أيضاً طالب الخزرجي في نقاشه مع قسيس طليطلة النصارى بالإيمان بنبوّة محمد -صلى الله عليه وسلم- للمعجزات الكثيرة التي جاء بها -صلى الله عليه وسلم- دالة على صدقه – حيث عرض كثيراً منها – وذلك قياساً على إيمانهم ببعض الأنبياء، وهم لم يكن لهم معجزات أو آيات تؤيدهم كداود وحزقيال وغيرهم (523)، فإذا كان إيمان النصارى بمثل هؤلاء الأنبياء لإخبارهم عن أنفسهم بالنبّوة، فحسب فإن من أخبر عن نفسه وجاء بالمعجزات المصدقة له من باب أولى، فمن خلال قياس الأولى بيّن الخزرجي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترك هو وهؤلاء الأنبياء الذين يؤمن بهم النصارى بدعوى النبّوة، وزاد عليهم بالآيات والمعجزات، فوجب الإيمان بنبوّته ولزمكم أيها النصارى الإيمان بذلك أكثر من إيمانكم ببعض أنبيائكم اعتماداً على دعواهم النبّوة فقط وفي مناظرة للزاهدي مع أحد علماء النصارى وإثبات هذا النصراني للنبوات السابقة عن طريق التواتر وظهور المعجزات بيّن الزاهدي أن إثبات نبوّة محمد -صلى الله عليه وسلم- على هذا الأساس أولى من غيرها من النبّوات السابقة؛ إذ التواتر في حقه صلى الله عليه وسلم أولى بالقبول؛ لأن عصره أقرب من عصر موسى وعيسى؛ ومتى كان المخبر به أقرب زماناً كان الثقة به والاعتماد عليه أكثر وأقوى؛ لأن الوسائط في البعيد أكثر وطول العهد منسي. حيث انقطع النصراني وأسلم وحسن إسلامه (524).
          ج- أسلوب القياس المساوي: وهو ما يكون معناه في الفرع مساوياً لمعنى الأصل، ويُسمّى القياس الخفيّ (525)والقياس المساوي من الأساليب التي استخدمها العلماء المسلمون كثيراً في مناقشاتهم وردودهم على النصارى في هذه الفترة، ففي مناقشة نصر بن يحيى المتطبب لعقائد النصارى، والتي منها زعمهم أن المسيح استحق اللاهوتية؛ لأن الله سمّاه ابناً، وأبطل نصر هذه الحجة بقياس حال الأنبياء الآخرين على حال عيسى حيث ورد في كتب النصارى تسمية بعضهم أبناءً لله كداود وإسرائيل وغيرهما؛ فلماذا لم تجعلوهم أيها النصارى بناءً على ذلك أبناء لله (526)، فإذا كانت علة الألوهية للمسيح تسميته ابناً لله فهؤلاء إذن أبناء لله على الحقيقة لأنه سماهم أبناء، وإلاّ فلتكن النبّوة للجميع على سبيل الرحمة، وهكذا فلا سبيل للنصارى بناء على هذا القياس العقلي إلاّ صرف الألوهية عن المسيح واعتقاد نبوّته، أو إثبات الألوهية لغيره من الأنبياء، أو انقطاع حجتهم وتمسكهم بضلالهم على سبيل العناد والمكابرة (527)، ومن حجج النصارى على إثبات الألوهية للمسيح أيضاً أنه نفخة من روح الله في رحم مريم فذلك يدل على ألوهيته، وقد أبطل هذه الحجة القرطبي من خلال أسلوب القياس المساوي، حيث قاس حال آدم عليه السلام على حال المسيح، إذ هو نفخة من روح الله في تربة من الأرض، فتربة بمنزلة لحمة، ونفخة بمثابة نفخة، فبناءً على هذا القياس لا فرق بين الحالين في المسيح وآدم عليه السلام، فإثبات الألوهية للمسيح لكونه نفخة من روح الله في لحم مريم، يماثلها حال آدم لكونه نفخة من روح الله في تربة من الأرض، فإما إثبات الألوهية للاثنين لهذه العلة أو نفيهما عنهما، ومن شبه النصارى التي أثاروها حول رسالة النبّي -صلى الله عليه وسلم- كونها ناسخة لما قبلها والنسخ بداء، والبداء على الله الذي هو عالم الغيب والشهادة محال وقد أبطل الزاهدي هذه الشبهة من خلال أسلوب القياس المساوي؛ إذ طالبهم أن يقيسوا حال محمد -صلى الله عليه وسلم- في ذلك بحال موسى وعيسى حيث جاءا ونسخا ما قبلهما، ولم تعدوا ذلك أيها النصارى بداءً (528).
          د- قياس الخلق: وهو: إثبات نقيض الحكم في غيره لافتراقهما في علة الحكم (529)وقيل: هو إثبات المطلوب بإبطال نقيضه(530)ومن استخدامات هذا الأسلوب من قبل العلماء المسلمين في جهودهم الدعوية الموجهة إلى النصارى في هذه الفترة، رد القرطبي اعتراض النصارى على المسلمين في نسبة الهدى والضلال إلى الله حيث بيّن القرطبي أن الهدى والضلال مخلوقات، وإذا أُنكر نسبتهما إلى الله تعين وجود خالق لهما مما يعني وجود خالقين وهذا محال، فلم يبق إلاّ أن يكون الفاعل هو الله؛ إذ لا خالق إلاّ هو، ولا مبدع سواه (531)، فأثبت القرطبي من خلال قياس الخلف المطلوب وهو نسبة الهدى والضلال إلى الله بإبطال النقيض، وهو عدم نسبتهما إليه سبحانه، لاستحالة وجود خالق آخر محدث لهما (532).
          ذ- أسلوب المحاكمات العقلية: والمقصود طلب تحكيم العقل المجرد من الهوى في قضايا مسلم بها؛ إظهاراً للحق وتقريراً له (533)وقد استخدم هذا الأسلوب العلماء المسلمون كثيراً ومن ذلك: طلب نصر بن يحيى المتطبب من النصارى تحكيم عقولهم في إثباتهم الألوهية للمسيح، إذ كيف يكون إلهاً وهو المولود من امرأة بشرية قد نالته العلل والآفات وجرى عليه ما يجري على الآدميين من غذاء وتربية وصحة وسقم وأمن وخوف وتعلم وتعليم، فكيف تجتمع هذه النقائض مع مقام الألوهية، ثم قال: ... فيجب على ذوي العقول أن يزجرهم عقلهم عن عبادة إله ولدته امرأة بشرية آدمية (534). وفي مناقشة الخزرجي لقسيس طليطلة وبعد عرضه جملة من الصفات البشرية للمسيح قال في نهايتها: وهذه كلها صفات إنسان مهين لا إله قوي متين (535) وذلك لفتاً منه لعقل هذا القسيس، وتنبيهاً له ليحكم هو على نفسه، ويقر أن المسيح عبدٌ لله وأحد أنبيائه، وليس له من خصائص الألوهية شيء، ثم قال الخزرجي بعد ذلك: .. ومن جرى في المناظرة هذا المجرى ثم طرح الهوى فنظر بعين الإنصاف، كان الحق له أبين من فلق الصبح (536)وفي مناقشة القرافي لعقائد النصارى بيّن عدم قبول العقل ألوهية مولود رضع وفُطِم ومرض وصلب وذلك استثارة لعقولهم في الحكم على هذه القضية حيث قال:.. فيا معشر النصارى كيف أتيتم بما تحيله العقول... وجعلتم ذا الملك والملكوت والعزة والجبروت خرج من رحم امرأة، ووضع وفُطم وصُلب على صليب الصلبوت بعد أن وصل إليه من الذل والقتل ما لم يصل إلى أحد من المخلوقين (537).
          س- أسلوب القلب: وهو أن يبين القالب أن ما ذكره المستدل يدل عليه لا له، أو يدل عليه وله (538)، ففي مناقشة الجعفري مثلاً لعقيدة الصلب لدى النصارى وبأسلوب القلب أثبت أن المصلوب غير المسيح، وذلك من خلال قصة صلبه التي يسوقها النصارى في أناجيلهم إثباتاً لصلب المسيح، فمن خلال هذه القصة أثبت الجعفري أن المصلوب شخص آخر غير المسيح – كما هي عقيدة المسلمين – وذلك أن المصلوب حسب هذه القصة اشتكى العطش وطلب الماء وقال حين صلبه: إلهي إلهي، لم تركتني وخذلتني (539)، فاستدل الجعفري بذلك على أن المصلوب غير المسيح من حيث إنه ثبت في الإنجيل أن المسيح كان يطوي أربعين يوماً، لا يحتاج إلى الماء، فلِمَ لم يصبر هذه اللحظات؟!مما يدل على أن المصلوب غيره، كذلك قوله: إلهي لِمَ تركتني : فيه تبرم من القضاء والقدر لا يليق بالصالحين فضلاً عن الأنبياء مما يدل على أن المصلوب شخص آخر؛ إذ لا يمكن أن يصدر هذا القول من المسيح عليه السلام (540).
          ش- أسلوب تناقض الخصوم: هذا الأسلوب من أبرز الأساليب العقلية التي تهدم ما لدى الخصم من قناعات، وتزعزع ثقته في اعتقاداته، وما يؤمن به، ويناقش فيه وقد استخدم العلماء المسلمون هذا الأسلوب كثيراً في جهودهم الدعوية الموجهة إلى النصارى، إبرازاً لتهافت الديانة النصرانية، وإثباتاً، ومما أبرزه علماء هذه الفترة إظهار تناقض كتب النصارى؛ إذ أسهبوا في ذلك إثباتاً لتحريفها وتأكيداً على عدم الاعتماد على شيء منها، ومن ذلك مثلاً ما أورده الأنباري من نماذج منها قولهم في إنجيل متى: إنه صلب ومعه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وكانا يشتمانه ويتناولانه محركين رؤوسهما ويقولان له: سلمْ نفسك إن كنت ابن الله (541)، وفي إنجيل لوقا: وكان أحد اللصين المصلوبين معه يسبه ويقول: إن كنت أنت المسيح فسلم نفسك وسلمنا (542). حيث علق الأنباري على ذلك بقوله: وهذا تناقض، فإن في إنجيل متى أن اللصين كانا يسبانه، وفي إنجيل لوقا إن أحدهما كان يسبه (543) وأفرد الجعفري باباً في كتابه التخجيل لإبراز مواضع التحريف والتناقض في الإنجيل، حيث أورد نماذج في اثنين وخمسين موضعاً وقد قال في مقدمته:".. ونبين بعون الله في هذا الباب من تناقض إنجيل النصارى وتعارضه وتكاذبه وتهافته ومصادمة بعضه بعضاً ما يشهد معه من وقف عليه أنه ليس هو الإنجيل الحق المنزل من عند الله (544)وفي رد الخزرجي على قسيس طليطلة أورد الكثير من تناقضات الإنجيل، إظهاراً لعدم الاعتماد عليه، وإبرازاً لتهافت حجج القسيس، ومما أورده من ذلك قوله مخاطباً القسيس: وفي الإنجيل الذي بأيديكم عنه –أي المسيح –أنه قال: إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة وغيري يشهد لي (545). ثم في موضع آخر من الإنجيل أنه قال: إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق لأبي أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب (546). وقد علق الخزرجي على ذلك قائلاً للقسيس: أخبرني كيف تكون شهادته حقاً وباطلاً؟ ومقبولة وغير مقبولة؟ وكيف يجمع بين هذين في كتاب منسوب إلى الله تعالى (547)، ومن الأمثلة على ذلك استخدام القرافي لهذا الأسلوب في مناقشته لبعض عقائد النصارى؛ إذ أظهر جانباً من تناقضهم في أصل إيمانهم وهي الأمانة التي يعتقدونها، إذ فيها قولهم: ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الخطايا.." يناقضه اعتقادهم أن خطيئة آدم عليه السلام عمت ذريته وما تخلصوا منها إلاّ بصلب المسيح وقتله، حيث بين القرافي أن ذلك ظاهر التناقض فإما أن تكون المعمودية توجب غفران الخطايا، وحينئذ لا حاجة إلى الصلب، أو يكون هو الذي أوجب الغفران وزالت به الخطيئة فلا حاجة إذن إلى المعمودية (548).
          ر- أسلوب المقارنة: هو قرن النظر إلى قضيتين لإبراز وجوه التفاضل بينهما (549)وكان هذا الأسلوب من الأساليب العقلية المستخدمة من قبل العلماء المسلمين في جهودهم الدعوية الموجهة إلى النصارى في هذه الفترة ومن ذلك مثلاً: مقارنة القرطبي حفظ الله سبحانه وتعالى للقرآن وعناية الأمة مقابل تبديل التوراة والإنجيل وتحريفهما واختلاطهما بالكذب والدجل والتزوير على الله سبحانه وتعالى وأنبيائه الكرام؛ إذ عرض القرطبي نماذج من التحريف فيهما وعلق على ذلك بقوله:.. وكتابنا منزه عن أمثال تلك الآفات، فإن الله تولى حفظه، وأجزل من كل صيانة حظه، فصار بنظمه الذي لا يقدر الجن والإنس على آية منه، فلا يختلط به كلام متكلم، ولا يقبل وهم متوهم؛ إذ ليس من جنس كلام البشر وهو معـدود الآي والسـور، ثم صانه بأنه يسره للحفظ والاستظهار فيستوي في نقله الكبار والصغار (550)، وبعد هذه المقارنة التي وضعها القرطبي أمام صاحب كتاب تثليث الوحدانية قال: فأين اللؤلؤ من الخذف والياقوت من الصدف (551)وفي موضع آخر قارن القرطبي بين حال النبي -صلى الله عليه وسلم- وشجاعته وصموده أمام قريش وتحمله الأذى وصبره على الشدائد في سبيل تبليغ الدعوة وبين حال المسيح – وهو إله بزعم النصارى – وأنه لما استشعر وثوب اليهود عليه قال: قد جزعت نفسي الآن، فماذا أقول يا أبتاه؟ فسلمني من هذا الوقت، وأنه كذلك لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحاً عظيماً: إلهي إلهي لما أسلمتني وتركتني (552)وقد علق القرطبي على ذلك بقوله: فتأمل إن كنت منصفاً فرق ما بين نبينا عليه السلام وبين ما يحكيه النصارى عن المسيح في إنجيلهم (553)، ولا شك أن هاتين الصورتين – وعرضهما في وقت واحد – صورة النبيّ صلى الله عليه وسلم وشجاعته وصبره وعدم جزعه وصورة المسيح – ابن الإله بزعم النصارى – وقد خار وجزع تدعو النصراني إلى التدبر والتفكير، كيف أن من يتصف بالألوهية يجزع ويضعف أمام أعدائه، في مقابل من يدعي النبّوة كيف يصبر ويواجه أعداءه بشجاعة في سبيل تبليغ دعوته، فهذه الصورة الحسنة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في مقابل الصورة السيئة للمسيح – حسب اعتقاد النصارى – ربما توقظ في نفس النصراني، تساؤلات كثيرة تدعوه إلى إعادة النظر فيما هو عليه وربما تقوده إلى الإسلام.
          ك- أسلوب الاستدلال بمسلمات الخصم: وقد استخدم العلماء في هذه الفترة هذا الأسلوب في جهودهم الدعوية الموجهة إلى النصارى خاصة في نفي الألوهية عن المسيح والدلالة على نبّوة محمد صلى الله عليه وسلم ومن ذلك مثلاً ما أورده المتطبب من نصوص الإنجيل الدالة على بشرية المسيح وعدم الألوهية التي يدعونها فيه ومنها قوله عن نفسه: من عند الله أرسلت معلماً. وقوله لأصحابه: أخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبيّ لا يفلح في مدينته وأقاربه، وأخبر الإنجيل كذلك أن امرأة رأت المسـيح فقـالت له: أنت النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ فقال لها المسيح : صدقت طوبى لك أيتها المرأة (554)، وقد علق المتطبب على بعض النصوص الكثيرة التي أوردها من الإنجيل مبيناً دلالتها على عبودية المسيح وأنه مربوب مبعوث من عند الله، لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بإذنه سبحانه وتعالى (555). ومما استدل به القرطبي على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من كتب النصارى ما ساقه من البشارات به -صلى الله عليه وسلم- ومن ذلك ما ورد في سفر التثنية وهو قول الله سبحانه: جاء الله من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران ومعه جماعة من الصالحين (556). فقد شرح ذلك القرطبي مبيناً أن مجيئه من جبل سيناء أن الله أنزل فيه التوراة دلكم عليه موسى، وإشراقه من جبل ساعير أن دين المسيح إنما أشرق من جبال ساعير قرب القدس، واستعلاؤه من جبال فاران أن الله تعالى بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم وأوحى إليه فيهما. ولاختلاف أن فاران هي مكة، وقد قال في التوراة: إن الله أسكن هاجر وابنها إسماعيل فاران (557)وقد علق القرطبي على ذلك بتوجيه الخطاب إلى صاحب تثليث الوحدانية وحثه على التفكير في إنصاف وتثبت، وقبول هذه البشائر الظاهرة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم (558)، ومن بشائر الأنجيل أيضاً بنبوةّ محمد -صلى الله عليه وسلم- والتي أوردها القرطبي قول المسيح:إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وسأرغب إلى الأب في أن يبعث إليكم البرقليط ليكون معكم إلى الأبد (559)، حيث بين القرطبي معنى البرقليط وهو لفظة رومية معناها بالعربية محمد (560)، وأورد الجعفري أربعاً وثمانين بشارة في التوراة والإنجيل بنبوّة محمد -صلى الله عليه وسلم- مبيناً وجه الاستدلال بكل منها، وحاثاً النصارى على التصديق بها، ثم قال في نهايتها: .. فهذه أربع وثمانون بشارة عن الأنبياء وأتباع الأنبياء، وقد تضمنها كتب الله المنزلة من لدن إبراهيم الخليل إلى أتباع المسيح منوهة باسم محمد -صلى الله عليه وسلم- صريحاً واسم أرضه التي يخرج منها، وبلده التي نشأ بها (561).ثم قال: وإنما نقلت قليلاً من كثير ويسراً من خطير، ولو استوعبت ما في كتب الله من الإشادة بذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم وذكر أمته لأطلت وخرجت إلى حد الإسهاب(562).وهكذا كان لمجموع هذه الأساليب العقلية استخدام واسع مع هؤلاء النصارى الذين لا يؤمنون بالقرآن، ولا ينفع معهم الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وظهر عمق أثرها عليهم (563).

          لمطالعة المقال السابق جهود القادة والولاة في دعوة النصارى

          ___________________________

          (489)الأجوبة الفاخرة ص 3.
          (490)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 43.
          (491)دعوة المسلمين للنصارى (1/448).
          (492)المصدر نفسه (1/450).
          (493)دعوة المسلمين النصارى (1/451).
          (494)المصدر نفسه (1/452).
          (495)دعوة المسلمين في عصر الحروب الصليبية (1/465).
          (496)المصدر نفسه (1/467).
          (497)أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأوروبي خلال الحروب الصليبية ص 145.
          (498)قصة الحضارة (4/67).
          (499)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/467).
          (500)دعوة المسلمين للنّصارى (1/467).
          (501)المصدر نفسه (1/470).
          (502)المصدر نفسه (1/477).
          (503)رحلة ابن جبير ص 279 دعوة المسلمين للنصارى (1/478).
          (504)الاعتبار، لابن منقذ ص 134 - 135.
          (505)المصدر نفسه ص 134 دعوة المسلمين للنصارى (1/478).
          (506)النوادر السلطانية ص 202 دعوة المسلمين للنصارى (1/479).
          (507)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/485).
          (508)المصدر نفسه (1/485).
          (509)النوادر السلطانية ص 290.
          (510)دعوة المسلمين للنصارى (3/488).
          (511)المصدر نفسه (1/492).
          (512)شرح مختصر الروضة (3/492).
          (513)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 496.
          (514)دعوة المسلمين للنصارى (2/496).
          (515)المصدر نفسه (2/496).
          (516)دعوة المسلمين للنصارى (2/500).
          (517)المصدر نفسه (1/500).
          (518)البحر المحيط للزركشي (5/36).
          (519)شرح مختصر الروضة (3/223).
          (520)دعوة المسلمين للنصارى (2/501).
          (521)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 130.
          (522)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 136.
          (523)مقامع الصلبان ص 210 دعوة المسلمين للنصارى (1/501).
          (524)دعوة المسلمين للنصارى (2/503).
          (525)البحر المحيط (5/36) دعوة المسلمين للنصارى (2/503).
          (526)دعوة المسلمين للنصارى (2/503).
          (527)المصدر نفسه (2/504).
          (528)الرسالة الناصرية ص 44 – 45 البحر المحيط (5/46).
          (529)البحر المحيط (5/46) دعوة المسلمين للنصارى (2/505).
          (530)مناهج الجدل في القرآن الكريم د. زاهر الألمعي ص 77.
          (531)دعوة المسلمين للنصارى (2/506).
          (532)المصدر نفسه (2/506).
          (533)النصيحة الإيمانية ص 72.
          (534)مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 294.
          (535)دعوة المسلمين للنصارى (2/507).
          (536)المصدر نفسه.
          (537)أدلة الوحدانية ص 64.
          (538)البحر المحيط (5/289).
          (539)الكتاب المقدس، إنجيل متى الإصحاح (27/46).
          (540)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/349).
          (541)الكتاب المقدس، إنجيل متى الإصحاح (27/39 – 43).
          (542)الكتاب المقدس، إنجيل لوقا، الإصحاح (23/39).
          (543)الداعي إلى الإسلام ص 386.
          (544)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/283).
          (545)الكتاب المقدس، إنجيل يوحنا الإصحاح (5/31).
          (546)مقامع الصلبان ص 146.
          (547)دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (2/513).
          (548)المصدر نفسه (2/514).
          (549)المصدر نفسه.
          (550)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 193 -194.
          (551)المصدر نفسه ص 194.
          (552)المصدر نفسه 319 - 320.
          (553)النصيحة الإيمانية ص 109.
          (554)دعوة المسلمين للنصارى (2/517).
          (555)الكتاب المقدس، العهد القديم، الإصحاح (33/1 – 3).
          (556)دعوة المسلمين للنصارى (2/518).
          (557)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 265.
          (558)الكتاب المقدس، إنجيل يوحنا، الإصحاح (14/15 – 18).
          (559)الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 268.
          (560)تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/722).
          (561)المصدر نفسه (2/722).
          (562)دعوة المسلمين للنصارى (2/520).
          (563)المصدر نفسه (2/521).

          http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-40-111642.htm

          تعليق


          • #6
            شكرا لك اخى الكريم موفق باذن الله

            تعليق


            • #7
              الأساليب الفنيّة والعاطفيّة في دعوة النصارى

              الثلاثاء 03 جمادى الأولى 1430 الموافق 28 إبريل 2009
              د. علي محمد الصلابي

              2- الأساليب العاطفية: والمقصود بالأساليب العاطفية هي تلك الأساليب التي تعتمد في تأثيرها على مخاطبة العاطفة وإثارة المشاعر للحث على أمر ما أو المنع منه (564)، ولأهمية الأساليب العاطفية في الدعوة، فقد كانت من أبرز أساليب الرسل عليهم الصلاة والسلام في دعوة أقوامهم، ومن ذلك مثلاً ترغيب الرسل لأقوامهم بالمغفرة حال الإيمان كقوله تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ).[إبراهيم: 10].
              ودعوة نوح -عليه السلام- لقومه من خلال ترغيبهم بالخير حال الاستجابة قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً). [نوح: 10- 12]. وكانت الأساليب العاطفية من أبرز أساليب القرآن سواء في دعوة المشركين إلى الإيمان أو حث المؤمنين على الزيادة في الخير (565)، وفي عصر الحروب الصليبية كانت بعض الأساليب العاطفية من ضمن الدعوة الموجهة إلى النصارى، ومن تلك الأساليب:
              أ- أسلوب الترهيب: ومن ذلك مثلاً ما كان يتخلل به القرطبي نقاشه وردوده على القسيس صاحب كتاب تثليث الوحدانية من تخويف له بالنهاية السيئة إذا مات على معتقده، وترهيبه باليوم الآخر، وعند الوقوف للحساب، وذلك كقوله للقسيس بعد تفنيد بعض ما أورده في كتابه من عقائد كفرية: .. وإذا انتهى إنسان إلى هذه المخازي فقد كفر بموسى، وبإله موسى – نعوذ بالله من أنظار تقود في الدنيا إلى الفضيحة والعار، وفي الآخرة إلى الخلود في عذاب النار (566). وفي موضع آخر وبعد مطالبته القسيس الاستعداد للحساب وذلك بالتوبة عن تأليه عيسى واعتقاد نبوّته، خوّفه بعاقبة إصراره على اعتقاده في ذلك اليوم: فكأني والله بك إن متّ على ما أنت عليه يُؤخذ بناصيتك وقدمك، وتحيط بك ملائكة ربك (مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). [التحريم: 6] فتنادى فتقول: يا عيسى، يا سيدي، يا إلهي يا ولد الله، فيقول لك: كذبت ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ولست بإله، ولم أقل لك كذلك.. فكيف ترى خجلتك بين يديه.. فذلك المقام لا ينفعك فيه ملك مقرب ولا نبي مُرسل، إلاّ مما قدمت يداك من حسن إيمان وصالح عمل.. فإن الملائكة والنبيين لا يشـفعون إلاّ لمـن ارتضى رب العالمين، فالله الله.. انظر في خلاص نفسك لتجني ثمار غرسك (567).
              ب- أسلوب الاستهزاء والتهكم: في الجهود الدعوية الموجهة إلى النصارى في عصر الحروب الصليبية كثر استخدام هذا الأسلوب من قبل بعض العلماء، وربما كان من أسباب ذلك ما صدر من بعض النصارى ورجال دينهم من كلمات فيها شيء من السخرية والتهكم، سواء في كتاباتهم أو مناقشاتهم أو مناظراتهم مع المسلمين، وذلك تجاه الإسلام ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كتداول رسالة ابن غرسيه في الأندلس، والقصيدة التي قيلت على لسان ملك الروم في سبّ الإسلام ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وتداولها في هذه الفترة في الأندلس، وعبارات الحقد والسب والاستهزاء في كتابات بعض مؤرخيهم ورجال دينهم كفوشيه شارتر، وإشارة أحد القساوسة في رسالته لأبي عبيدة الخزرجي إلى كثرة مؤلفات النصارى التي تطعن بالإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتستخف بهما، ومن مظاهر استخدام هذا الأسلوب من قِبل بعض العلماء المسلمين في هذه الفترة تجاه النصارى ما جاء في ثنايا مناقشة نصر بن يحيى المتطبب لبعض عقائد النصارى من عبارات الاستهزاء بعقولهم والاستخفاف بحججهم وطريقة استدلالهم كقولهم: ليس لاعتقادهم أصل يُعوّل عليه، ولا برهان يستند إليه، قد اقتدوا بقوم لا يعقلون، واغتروا بجهال لا يفقهون (568). وقوله: .. لكني أقول: لا إله إلاّ الله تعجباً منكم يا ذوي العقول الضعيفة، كيف تعتقدون الألوهية في إنسان لا يقدر على تخليص نفسه من الأعداء.. فأين قدرته أيها الغافلون؟ وأين تمكّنه أيها المبطلون؟ بئس والله ما تعتقدون، إنما أنتم في طغيانكم تعمهون، حدتم عن الرشاد، وسلكتم طريق العناد، وكفرتم بالرحمن واتبعتم سنن الشيطان (569) ومن مظاهر استخدام هذا الأسلوب لدى القرافي في مناقشته لبعض عقائدهم قوله: .. فأي ضرورة تدعوكم إلى إثبات أنواع الإهانة والعذاب في حق رب الأرباب، على زعمكم أيها الدواب، الذي يفضي من ضعف عقولهم العجب العجاب (570) وفي رد الخزرجي على قسيس طليطلة، كان في قوله في صدر رسالته إليه: أما بعد أيها الأعجمي الألكن، الطاعن على كتاب الله جهلاً، ولا يعرف لخطابه فصلاً، والملتمس له تأويلاً، وأنت لم تؤت من العلم كثيراً ولا قليلاً (571) واشتد القرطبي في استهزائه وتهكمه في بعض حجج ألوهية المسيح لدى النصارى بقوله: وعلى الجملة فهؤلاء القوم أغبياء جاهلون، وعن التوفيق معزولون، فهم عن المعقولات معرضون وبها مستهزئون، لا يستحيون من خالقهم، ولا يتأدّبون مع مالكهم ورازقهم، فسبحان الله عما يقول الجاهلون (572). ولا شك أن استعمال أسلوب التهكم والاستهزاء في السخرية من قبل بعض العلماء المسلمين في جهودهم الدعوية الموجهة إلى النصارى قد يجدي في لفت أنظار البعض منهم إلى ضلال ما هم عليه، وأن ما يقوم عليه اعتقادهم وأساس ديانتهم حقاً محل السخرية والتهكم، فربما يكون ذلك دافعاً لتنفيرهم منه، وبحثهم عن الحق، ومن ثم قبوله (573).
              ج- أسلوب اللين والتلطّف بالخطاب: كان من أبرز أساليب النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته بشكل عام اللين والرفق والتلطف بالخطاب؛ فتح الله -عز وجل- به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ). [آل عمران: 159]. وقـال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف" (574). وقال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلاّ زانه ولا يُنزع من شيء إلاّ شانه" (575)، وعندما أرسل الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه هارون إلى فرعون قال لهما جـلّ وعـلا: (فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً). [طه: 44].
              ولم تخلُ الجهود الدعوية الموجهة إلى النصارى في فترة الحروب الصليبية من استخدام هذا الأسلوب، وإن كان ذلك بشكل أقل من الأساليب الأخرى ومثال على ذلك؛ رسالة العزاء من صلاح الدين إلى بولدوين الخامس بعد وفاة والده في بيت المقدس، وفي مطلع الرسالة: .. خص الله الملك المعظم حافظ بيت المقدس بالجد الصاعد، والسعد الساعد، والحظ الزائد، والتوفيق الوارد (576). وكان أيضاً يتخلل بعض ردود العلماء، ومناقشاتهم مع النصارى في هذه الفترة شيء من اللين والرفق والتلطف في الخطاب، ومن ذلك مثلاً : الدعاء لهم بالهداية، كقول الخزرجي في نقاشه مع قسيس طليطلة: .. ونحن نسأل الله سبحانه أن يكشف ما بكم من بشع الضلالة ويتلقاكم بالهداية، فهو فعّال لما يريد (577)، وقول القرطبي في رده على كتاب تثليث الوحدانية: .. فالله يعلم أني أنظر إليك وإلى كافة خلق الله بعين الرحمة، وأسـأله هـداية من ضّل من هذه الأمة، وأتأسف على الأباطيل التي ينتحلون، فإنا لله وإنا إليه راجعون (578)، وفي موضع آخر وبلين عبارة خاطب القرطبي صاحب كتاب التثليث حاضاً له على اعتقاده بنوّة المسيح عليه السلام بقوله: .. فما أجل بكم ألو قلتم فيها الحق الذي ينبغي لهما: إن الله جعل عيسى وأمه آية للناس، هو عبداً ورسولاً وأمه صدّيقه مباركة (579).
              س- أسلوب القسم: وقد ورد استعمال هذا الأسلوب كثيراً في القرآن الكريم، فأقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه وآياته وببعض مخلوقاته، والقسم في كلام الله يزيل الشكوك ويحبط الشبهات، ويقيم الحجة، ويؤكد الأخبار، ويقرر الحكم في أكمل صورة (580).
              وما أكثر الأحاديث التي كان يبدؤها النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده (581)، وقد استُخدم هذا الأسلوب في فترة الحروب الصليبية، ومن ذلك قول الخزرجي في نقاشه مع قسيس طليطلة بعد حديثه عن تحريف الإنجيل: .. حتى إني أحلف بالذي لا إله إلاّ هو أن تاريخ الطبري عندنا أصح نقلاً مـن الإنجيـل، ويعتمد عليه العاقل أكثر، مع أن التاريخ عندنا لا يجوز أن ينبني عليه شيء من أمر الدين (582) وبعد حض القرطبي صاحب كتاب تثليث الوحدانية على نبذ ما يعتقده في عيسى -عليه السلام- أقسم بالله على سوء عاقبته إن مات على هذه النهاية وذلك بقوله: .. فكأني والله بك إن متّ على ما أنت عليه يُؤخذ بناصيتك وقدمك، وتحيط بك ملائكة ربك، ملائكة (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). [التحريم: 6].
              3- الأساليب الفنية: هي تلك الأساليب المتعلقة بجمال التعبير وتحسينه من الناحية اللفظية ليكون أكثر تأثيراً في السامع (583)وفي عصر الحروب الصليبية كان كتاب الله عز وجل هدفاً لمطاعن النصارى وشبههم، والتي كان من ضمنها الطعن في بلاغته وفصاحته، لذلك اعتنى العلماء المسلمون عناية كبيرة في التصدي لذلك في جهودهم الدعوية الموجهة إلى النصارى (584)، وقد تمثل ذلك من خلال إبرازهم لفصاحة القرآن وبلاغته وعجز العرب عن معارضته، أو من خلال استعمالهم لبعض الأساليب الفنية التي تظهر جوانب من فصاحة العربية وبلاغتها وجمالها وقوة تأثيرها، مع عدم التوسع فيها كثيراً بجانب الأساليب الأخرى؛ لنظرتهم إلى أن غالبية النصارى -وهم من العجم- أقل وأحقر من أن يتحدث عن بلاغة القرآن وفصاحته بعدما عجز عنها العرب الأوائل، وهم أرباب البيان والفصاحة، ولذلك قال الخزرجي حينما بين إقرار العرب الأوائل بفصاحة القرآن وبلاغته: فكيف يُلتفت إلى مقال العجم الجهلاء؟(585)، وفي مقدمة رسالته في الرد على قسيس طليطلة قال: أيها الأعجمي الألكن الطاعن في كتاب الله جهلاً(586). وذلك إشارة إلى قصوره لعجميته عن فهم بلاغة القرآن وفصاحته (587)، ومن الأساليب الفنية التي استُخدمت:
              أ- أسلوب ضرب الأمثال: وضرب الأمثال من الأساليب التي استخدمها العلماء المسلمون في مناقشاتهم وكتاباتهم ومناظراتهم مع النصارى في عصر الحروب الصليبية، فمن الأمثال السائرة التي استخدمها القرطبي في رده على القسيس قوله: لا يستوي الظل والعود أعوج (588)، وذلك بعدما عرض مذاهب النصارى واختلافهم في تفسير الأقانيم، ومحاولة كل فرقة إصلاح خلل الأخرى في ذلك، وقصد القرطبي في هذا المثال أنه مهما حاولوا تقويم الخلل في تفسيراتهم لهذه العقيدة الباطلة فلن تستقيم، كحال الذين يريد إقامة ظل لعود أعوج، فلن يستقيم الظل ما دام العود على اعوجاجه، وهذه حال تفسيراتهم لن تستقيم وتصحح الخلل ما دام أصل العقيدة باطلاً، وفي موضع آخر، وبعد رده على النصراني ومناقشته لما طرحه من تفسير لعقيدة الاتحاد وإبطال هذه التفسيرات التي جاء بها، ختم ذلك بإيراد هذا المثل وهو قوله: فإن الفتق اتسع على الراقع (589)، ففي هذا المثل قصد القرطبي أنه مهما جئت أيها النصراني بتفسير لهذه العقيدة الباطلة – عقيدة الاتحاد تفسير يقبله العقل فلن تفلح، فكلما أجبت على سؤال ثارت عليك أسئلة، كمن يريد أن يرقع ثوباً اتسع فتقه، ومن استخدام الأمثلة السائرة لدى القرافي أنه بعد وصفه لرجال الدين النصارى بالجهل الشديد، وعدم تفريقهم بين الحلال والحرام، وغفلتهم وبلاهتهم التي حجبت عنهم عقل الحق، والأخذ به، ختم بقوله: حتى إن أحدهم لا يفرق بين كوعه من بوعه (590).
              ب- أسلوب القصة: وفي عصر الحروب الصليبية استخدم كثير من العلماء أسلوب القصة في جهودهم الدعوية الموجهة إلى النصارى لكونها من أنسب الأساليب مع النصارى؛ لكشف باطلهم وبيان ما في كتبهم من تحريف وتبديل، وإظهار مواقفهم من أنبيائهم، ومن هذه القصص ما قام به الخزرجي في رده على قسيس طليطلة في قوله: إنه لا ينكر صلبه – أي عيسى- إلاّ كافر (591)، عرض قصة الصلب كاملة حسب رواية النصارى، مستنبطاً منها الأدلة على وقوع الصلب على الشبه، وليس على عيسى كما يدعيه النصارى (592)وعرض القرطبي قصة قسطنطين ومجمعه الذي ابتدعت فيه كثير من شرائع النصارى الباطلة، ومنها الصلب، وذلك دليلاً على عدم اعتمادهم على شيء في هذه العقائد، وأنها من وضع ضُلاّلهم، وليس من أصل ديانتهم الصحيحة (593)، وحينما عرّض القسيس للقرطبي في هاجر أم إسماعيل -عليه السلام- وفي معرض الرد عليه ساق القرطبي قصة هاجر مع سارة من التوراة كاملة لبيان افتراء هذا القسيس (594) وفي معرض إثبات القرطبي لنبوَّة عيسى -عليه السلام- سرد قصة بولس اليهودي، وأثره في تحريف النصرانية، والقول بألوهية المسيح، ثم أثر قسطنطين بعد ذلك (595)، ثم عقّب بقوله: ... ولتعلم أن هذه الأخبار التي ذكرناها لا يمكنهم إنكار جملتها، وإن أنكروا بعض تفاصيلها؛ لكون هذه القصص معروفة على الجملة عندهم، فإنهم لا يقدرون على جحد محاربة بولس اليهودي وإجلائهم من الشام ودخول بولس في دينهم، وكذلك الملك قسطنطين مما لا ينكرون إشهاره لكتبهم (596)، وساق القرافي أيضاً قصتي بولس وقسطنطين في معرض بيان أثرهما في تحريف النصرانية وإضلال النصارى (597). ثم عقّب على ذلك بقوله: وكفى بهذه الثلمة في دين النصارى خللاً عظيماً، لم تترك لهم عقلاً مستقيماً، ولا قلباً سليماً(598). ونوع آخر من القصص ورد الاستشهاد به كثيراً في مناقشات العلماء المسلمين، وردودهم على النصارى في هذه الفترة، وهي القصص التي تتعلق بالتاريخ الإسلامي وحياة النبي ومناقبه، ومن ذلك مثلاً قصة كفالة جده ثم عمه، ورضاعه من حليمة، والبركة التي هلّت عليها بسبب ذلك، وقصة رحلته إلى الشام ولقائه (599) ببحيرا الراهب وشهادته له بالنبوة، ثم سرد القرطبي الكثير من القصص أيضاً حول معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك في سياق الحديث عن دلائل نبوّته، ومن ذلك مثلاً: قصة نبع الماء من بين أصابعه في إحد غزواته، وتكثير الطعام في غزوة الخندق وغيرهما، وقصص أخرى كثيرة أبرز فيها القرطبي حماية الله -سبحانه وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- كرد المشركين عنه ليلة الهجرة وخبر سراقه وغير ذلك، وهكذا إيراد القصة في الجهود الدعوية الموجهة إلى النصارى، بالإضافة إلى كونه يزيد من جمال التعبير، ويضفي عليه شيئاً من التشويق، فإن له أثره في التمهيد لقبول المحتوى لدى السامع وإيصال المعنى المراد له من خلال استغلال ذلك (600).
              ج- أسلوب التكرار: ومن الأساليب الفنية أسلوب التكرار، والذي قد يكون تكراراً لكلمة بعينها، أو لمعنى، أو لعبارة أو لفكرة، أو لموضوع ويكون التكرار عيباً لموضوع إذا كان عارياً عن الفائدة، ولا يكون له معنى بلاغي، إلاّ إذا كان الهدف معيناً كأن يكون القصد منه التأكيد، أو المبالغة أو الإيضاح، أو بيان الأهمية، أو إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة إلى غير ذلك (601). والتكرار من الأساليب التي استخدمها العلماء المسلمون في كتاباتهم ومناقشاتهم مع النصارى في فترة الحروب الصليبية، فمن ذلك مثلاً: تكرار نصر بن يحيى المتطبب الإشارة إلى تحريف الأناجيل؛ حيث فصّل في الموضع الأول، وذلك في سياق ذكره لواضعي الأناجيل الأربعة، حيث ذكر شواهد على الاختلافات فيما بينها، ثم اختصر ذلك في موضع آخر، وذلك في سياق ذكره لتاريخ كتابة الأناجيل والتي كانت كثيرة جداً، فاختُصرت إلى أربعة منها في المجمع الذي دعا إليه الملك الروماني قسطنطين، حيث تساءل نصر بن يحيى: ما حال عشرات الأناجيل المستبعدة؟ وعلى أي أساس تمّ انتقاء هذه الأربعة فقط؟ (602) حيث يظهر الوجه البلاغي للتكرار في الموضعين إلى اختلاف الهدف من إيرادها، ففي الموضع الأول إبراز التناقض بين الأناجيل الأربعة المعتمدة لدى النصارى، وفي الموضع الثاني الطعن في أصل الأناجيل بشكل عام، وطريقة اعتمادها لدى النصارى، وعلى أي أساس كان اختيارها؟ ولم يكن في غيرها من عشرات، الأناجيل الأخرى المستبعدة ما هو أفضل منها (603)، وكذلك كرر الخزرجي الإشارة إلى حفظ القرآن وعدم تحريفه، فمن ذلك مثلاً ذكْره لذلك مجملاً في سياق المقارنة مع تحريف كتب النصارى (604) ثم تفصيل ذلك في سياق الحديث عن إعجاز القرآن، وكونه من أدلة صدق رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- والإسهاب في عرض وجوه إعجازه وصبطه (605).
              د- أسلوب الاستفهام: والاستفهام هو الطلب بشيء لم يكن معلوماً من قبل، بأدوات خاصة، وهو من أنواع الإنشاء الطلبي (606) وقد تخرج ألفاظ الاستفهام عن معناها الأصلي إلى معانٍ تُفهم من السياق كالنفي والنهي والتقرير والأمر، والإنكار والتشويق والتعجب والوعيد إلى غير ذلك (607)، وهذه المعاني تضفي على التعبير جمالاً وتزيد من تأثيره في السامع؛ ففي مناقشة نصر بن يحيى المتطبب لعقيدة الاتحاد بين اللاهوت والناسوت التي يدعيها النصارى في المسيح، وأن الناسوت حين الصلب مات واللاهوت لم يمت تساءل نصر بن يحيى على سبيل الأنكار قائلاً: فكيف يكون ميتاً لم يمت في حال واحد (608)، فالمتطبب لم يلقِ هذا السؤال طالباً الإجابة عليه، وإنما للإنكار على النصارى الذين أدّى بهم اعتقاد الاتحاد إلى هذه النتيجة التي لا يقبلها العقل، فهذا السؤال يثبَّتُ فساد نتيجة هذا الاعتقاد عليهم، مما قد يؤدي بالعقلاء منهم إلى الإقرار بفساده والإقلاع عنه، وبعد بيانه لبعض تناقضات النصارى في تفسير الاتحاد وجّه هذا السؤال لهم على سبيل الإنكار لمجمل اعتقادهم في المسيح -عليه السلام- وذلك بقوله: فكيف يصح لذي عقل عبادة المولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات؟ (609)، وهكذا في مواضع أخرى بعد مناقشة المتطبب لبعض عقائد النصارى يلقي عليهم أسئلة على سبيل الإنكار لباطلهم (610).
              هـ- أسلوب التعجب: وهو دهشة المتحدث واستغرابه في أمر ليس له تفسير في نفسه، أو أن تفسيره غير متوقع لديه (611) وبعد إيراد الجعفري لبعض تناقض الإنجيل قال: فانظر رحمك الله ما أفسد هذا الكلام وأقربه من كلام المجانين (612) وفي السياق نفسه وفي موضع آخر قال: فانظر – رحمك الله – ما أقبل عقول هؤلاء القوم إلى الترهات التي تمجّها الأسماع وتأباها الطباع (613)، وفي موضع آخر من السياق نفسه قال: ما أقبح هذا التكاذب، وأوضح هذا التناقض (614). وهكذا في مواضع كثيرة، وبعد تفنيد القرطبي لعقيدة الفداء لدى النصارى، وتهافت أدلتهم عليها ختم ذلك بقوله متعجباً من عقولهم الضعيفة التي قبلت مثل ذلك (615)... قاتلكم الله ما أسخف عقولكم!!(616).
              و- أسلوب استخدام الشعر في تأدية بعض المعاني: وفي عصر الحروب الصليبية لم تخلُ ردود العلماء ومناقشاتهم مع النصارى من استخدام الشعر، فمن الأمثلة على ذلك قصيدة البوصيري في الرد على النصارى واليهود والتي مطلعها:
              جاء المسيحُ من الإله رسولا
              فأبى أقلُّ العالمين عقولا
              وقد ناقش فيها الكثير من عقائدهم، وانتقدها مبيناً بطلانها وعدم اعتمادهم على دليل فيها (617)، ومن هذا القبيل أرجوزه لأبي طالب عبد الجبار المرواني تعرض فيها لبطلان ما عليه النصارى ومنها:
              وصانعُ العالمِ فردٌ صمدْ
              الصنعُ لم يشركْهُ فيه أحدْ
              إلى قال:
              وللنصارى القولُ في التثليثِ
              أفظعْ به من مذهبٍ خبيثِ (618)
              ومن ذلك مثلاً ما أورده القرطبي في مقدمة ردّه على صاحب الكتاب وتناقضاته، وأنه بكتابته فضح نفسه، حيث استشهد على ذلك بهذا البيت:
              وإنّ لسانَ المرءِ ما لم تكنْ له
              حصاةٌ على عوراتِهِ لدليلُ(619)
              فالقرطبي بهذا البيت عبّر باختصار بليغ كيف فضح هذا النصراني لسانه، ودل على جهله وركاكة أسلوبه، وفي موضع آخر حينما حاول هذا النصراني إظهار فصاحته بجمل ساقها ردّ عليه القرطبي بقول الشاعر:
              دعِِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتِها
              واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ العاري
              وذلك كناية عن قصوره وعجزه وعدم أهليّته لهذا الأمر، وحينما استدل النصراني ببعض الآيات القرآنية على بعض باطله مؤولاً معناها الصحيح، كان من إجابة القرطبي قول الشاعر:
              ألقِ السلاحَ فلسْتَ من أكفائنا
              واقعدْ مكانك في الحضيضِ الأسفلِ (620)
              وذلك كناية على أن المسلمين هم أهل المعرفة بالقرآن وعلومه وتفسيره، وليس هذا لك أيها النصراني، ولا شك أن معنى هذا البيت أغنى القرطبي عن مقال طويل في بيان أحقية المسلمين، وقدرتهم على تفسير القرآن ومعرفة علومه، وعجز أمثال هذا النصراني عن ذلك (621).
              وفي موضع آخر وفي مناقشة تناقض أمانة النصارى وقولهم فيها:
              إن المسيح الذي صلب سيعود لفصل القضاء بين الأحياء والأموال رد الجعفري على ذلك بقول الشاعر:
              لا ألفينّك بعد الموت تندبني
              وفي حياتي ما زوّدتني زادني (622)
              وقصد الجعفري بهذا البيت بيان عجز المسيح عن خلاص نفسه من القتل والصلب بزعم النصارى، فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم، وهذا المعنى لا شك يستغرق صفحات لو أراد الجعفري التفصيل في شرحه، وهكذا في مواضع كثيرة استغنى الجعفري بأبيات شعرية تؤدي المعنى الذي يقصده دون إسهاب في تفصيل ذلك المعنى نثراً (623)، وكان القرافي في كتابه "الأجوبة الفاخرة" يستشهد أيضاً ببعض الأبيـات الشـعرية اختصاراً بها عن تفصيل ما يريد بيانه نثراً قد يستغرق صفحات منه في بعض النقاط (624).


              (564) المصدر نفسه.


              (565) دعوة المسلمين للنصارى (2/522).
              (566) المصدر نفسه (2/524).
              (567) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 123.
              (568) النصيحة الإيمانية ص 52.
              (569) دعوة المسلمين للنصارى (2/528).
              (570) الأجوبة الفاخرة ص 58.
              (571) مقامع هامات الصلبان ص 127.
              (572) دعوة المسلمين للنصارى (2/529).
              (573) دعوة المسلمين للنصارى (2/530).
              (574) مسلم رقم 2593.
              (575) مسلم رقم 2594.
              (576) صبح الأعشى (7/115 – 116) دعوة المسلمين (2/532).
              (577) مقامع الصلبان ص 294 دعوة المسلمين (2/532).
              (578) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 101.
              (579) المصدر نفسه ص 137.
              (580) المصدر نفسه ص 137.
              (581) دعوة المسلمين للنصارى (2/534).
              (582) المصدر نفسه (2/534).
              (583)المصدر نفسه (2/534) .
              (584) دعوة المسلمين للنصارى (2/537).
              (585) مقامع الصلبان ص 197.
              (586) المصدر نفسه ص 127.
              (587) دعوة المسلمين للنصارى (2/537).
              (588) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 80.
              (589) المصدر نفسه ص 92.
              (590) الأجوبة الفاخرة ص 6.
              (591) مقامع الصلبان ص 158.
              (592) المصدر نفسه ص 158 – 168 دعوة المسلمين (2/545).
              (593) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 169 - 172.
              (594) المصدر نفسه ص 230 - 232.
              (595) المصدر نفسه ص 241 – 246 دعوة المسلمين للنصارى (2/546).
              (596) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد للنصارى (2/546).
              (597) الأجوبة الفاخرة ص 119 - 124.
              (598) المصدر السابق ص 124.
              (599) البداية والنهاية (2/263) دعوة المسلمين للنصارى (2/546).
              (600) دعوة المسلمين للنصارى (2/548).
              (601) الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلم البيان ص 163 - 170
              (602) دعوة المسلمين للنصارى (2/549).
              (603) المصدر نفسه (2/550).
              (604) المصدر نفسه (2/550).
              (605) مقامع الصلبان ص 323.
              (606) جواهر البلاغة ص 70 دعوة المسلمين للنصارى (2/551).
              (607) الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنشور ص 114 - 118.
              (608) النصيحة الإيمانية ص 62.
              (609)المصدر نفسه ص 72 دعوة المسلمين للنصارى (2/553).
              (610) دعوة المسلمين للنصارى (2/553).
              (611) دعوة المسلمين للنصارى (2/554).
              (612) تخجيل من حرّف التوراة والإنجيل (1/291).
              (613) المصدر نفسه (1/298).
              (614) المصدر نفسه (1/311).
              (615) دعوة المسلمين للنصارى (2/555).
              (616) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 418.
              (617) دعوة المسلمين للنصارى (2/560).
              (618) الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (1/924 – 925).
              (619) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 44.
              (620) المصدر نفسه ص 126.
              (621) دعوة المسلمين للنصارى (2/563).
              (622) تخجيل من حرّف التوراة والإنجيل (1/297).
              (623)دعوة المسلمين للنصارى (2/563).
              (624)الأجوبة الفاخرة ص 33، 74، 97.

              تعليق


              • #8
                آثار دعوة المسلمين للنصارى


                الثلاثاء 10 جمادى الأولى 1430 الموافق 05 مايو 2009 د. علي محمد الصلابي




                تاسعاً: آثار دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية:


                1- دخول أعداد كبيرة من النصارى في الإسلام: فمن ذلك مثلاً على مستوى القادة والعلماء النصارى إسلام أحد ملوكهم في شرق الدولة الإسلامية على يد الشيخ مختار بن محمود الزاهدي (625)، وإسلام كاتب الديوان في بغداد واسمه جبرائيل بن منصور (626) ويحيى بن عيسى بن جزلة الطبيب البغدادي المتوفّى سنة 493هـ (627)، وكاتب الإنشاء للملك العادل ويُقال له: ابن النحال وقد أسلم على يديه في حلب (628)، وشيخ نصراني ذو أتباع أسلم على يد أبي شامة المقدسي سنة 661 هـ (629) ومن مقدمي الصليبيين الذين اعتنقوا الإسلام عدد من فرسانهم انضموا إلى جيش صلاح الدين معلنين اعتناقهم الدين الإسلامي (630)، وفارس صليبي يُدعى روبرت (أوف سانت ألبانس) أحد مقدمي فرسان المعبد أسلم سنة 1185م/580هـ وتزوج بإحدى حفيدات صلاح الدين (631)، بل إن ابني أخت الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد هربا من معسكر الفرنج، والتحقا بجيش صلاح الدين معلنين اعتناقهم الإسلام، وذلك سنة 587هـ .. حيث أكرمهما، وفارس صليبي مشهور يُدعى (رانيود) أسلم وانضم بفرقته العسكرية إلى المسلمين (632)، وكان سفير سلطان مصر إلى الملك الصليبي (لويس إفرنجيا) اعتنق الإسلام وصار ذا مكانة عند السلطان (633) وأما اعتناق رجال الدين النصارى للإسلام فإن هناك إشارات تدل على كثرتهم في هذه الفترة، فمن ذلك مثلاً: إسلام الراهب عبد الله الأرمني على يد الشيخ عبد الله اليونيني المتوفّى سنة 617هـ، وكان زاهداً ورعاً فيه تصوّف(634)، وقد أسلم أيضاً على يد عبد الله الأرمني راهب آخر كان معتزلاً في صومعة له(635) وإسلام أحد علماء النصارى على يد الشيخ مختار بن محمود الزاهدي في خوارزم (636)، وإسلام عبد الواحد الصوفي ت 639 هـ، والذي كان قسًّا في كنيسة مريم بدمشق نحواً من سبعين سنة (637)، وكذلك إسلام (دانيال) أسقف خابور في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي (638) وقد أشار (توماس أرنولد) نقلاً عن بعض المصادر اللاتينية إلى خلو كثير من الأسقفيات القبطية في بداية القرن الثالث عشر الميلادي في مصر من الأساقفة، فمثلاً: في دير القديس مكاريوس وحده لم يبق غير أربعة من القسس بعد أن كان عددهم تجاوز الثمانين في عهد البطريق السابق (639)، بل إن أحد رجال الدين الصليبيين المبشرين الفرنسيسكان الذي أرسل إلى إفريقية لهذه المهمة عاد مسلماً(640)، وقد ذكر توماس آرنولد نقلاً عن بعض المصادر الغربية كثرة اعتناق القساوسة الصليبيين الإسلامَ في هذه الفترة (641)، أما اعتناق الإسلام من قبل عامة النصارى فإنه لا خلاف أن العراق وبلاد الشام ومصر وشمال إفريقية والأندلس وغيرها من البلاد كانت الديانة الغالبة فيها قبل ظهور الإسلام هي النصرانية، ومع انتشار الإسلام دخل الناس فيه من أهل هذه البلاد أفواجاً حتى أصبح الإسلام دين الغالبية، وأصحاب الديانات الأخرى أقلية بالنسبة له(642) وفي عصر الحروب الصليبية كانت هناك تحوّلات كبيرة من هذه الأقلية النسبية خاصة من النصارى إلى الإسلام، و يدل على ذلك الإشارات المتناشرة في المصادر والمراجع المختلفة، فمن ذلك مثلاً قول سبط بن الجوزي: .. سمعت جدي على المنبر يقول: بإصبعي هاتين كتب ألفي مجلدة، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون (643)ألفاً. وأسلم على يدي نحو مائتين من أهل الكتاب (644). وفي عهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله – ولحسـن معاملته لأقباط مصر تحوّل أعداد كبيرة منهم إلى الإسلام، كما ذكر ذلك أحد مؤرخيهم (645). وقد قال (توماس آرنولد) عن كثرة اعتناق القبط للدين الإسلامي: ولكثرة عدد القبط الذين كانوا يعتنقون الإسلام من حين إلى حين أخذ أتباع النبيّ يعتبرونهم أشد ميلاً لقبول الدين الإسلامي من أية طائفة أخرى (646)، وبيّن أنه حتى القرن التاسع عشر الميلادي لم تخل سنة من السنوات لم يتحول فيها القبط إلى الإسلام (647). أما إسلام العامة من النصارى الصليبيين فكان كثيراً جداً في هذه الفترة، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره (توماس آرنولد) نقلاً عن بعض المصادر الغربية أنه في الحملة الصليبية الأولى انفصلت جماعة كبيرة من الألمان وغيرهم من الطائفة الرئيسة لتنضم إلى الجيش السلجوقي المسلم معتنقة الإسلام(648)، وفي الحملة الصليبية الثانية انضمت فرقة كبيرة من الجيش الصليبي قوامها أربعة آلاف مقاتل تقريباً إلى جيش المسلمين، وذلك بعد فشل هذه الحملة، ولحسن المعاملة التي قوبلت بها هذه الفرقة اعتنق عدد كبير من أفرادها الإسلام بمحض إرادتهم وذلك سنة 542هـ - 1148م (649) وكذلك كانت أخلاق صلاح الدين – رحمه الله تعالى – وحسن معاملته للنصارى الصليبيين دافعاً لأعداد كبيرة منهم إلى اعتناق الإسلام، كما حدث بعد معركة حطين(650)، بشكل خاص وقد قال أحد الكتاب الغربيين عن ذلك:.. حتى إن نفراً من الفرسان المسيحيين بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية(651) ونقل (توماس آرنولد) عن بعض المصادر الغربية أنه في الحملة الصليبية الثالثة انضمت أعداد كبيرة من الجيش الصليبي إلى المسلمين؛ إذ اعتنق البعض منهم الإسلام، وقد ساق (توماس) شهادة مؤرخ غربي على ذلك رافق هذه الحملة، فقال هذا المؤرخ: وفريق من رجالنا .. تراهم يهجرون بني جلدتهم ويفرون إلى الأتراك، فلم يتردّدوا أن يصبحوا في زمرة المرتدين، ولكي يطيلوا أعمارهم الموقوته زمناً قصيراً اشتروا موتاً أبدياً بهذا الكفر المفزع(652).

                وقد أشار (توماس) نفسه إلى كثرة تحوّل الصليبيين إلى الإسلام في فترة الحروب الصليبية فقال: ولكن بانتهاء القرن الحادي عشر الميلادي انضم إلى أهالي الشام وفلسطين من المسيحيين عنصر جديد يتألف من هذه الجموع الهائلة من الصليبيين الذين كانوا يدينون بشعائر الأمم اللاتينية.. وظلت تعيش مهددة قرابة قرنين من الزمن، وفي غضون هذه الفترة كانت تحدث من حين لآخر تحولات إلى الإسلام من بين هؤلاء المهاجرين الغرباء(653) وقال أيضاً: ... وكان عدد المرتدين عن المسيحية في القرن الثالث عشر الميلادي كثيراً كثرة نلاحظها في سجلات الصليبيين القانونية التي يطلق عليها مجالس قضاء بيت المقدس(654)، ومما يدل على كثرة اعتناق النصارى من الصليبيين الإسلامَ في هذه الفترة فزع أحد قساوستهم في الشام من ذلك وإرساله رسائل إلى البابا ورجال الدين في أوروبا يطلب فيها ألاّ يرسلوا الضعفاء والفقراء؛ لأنهم أكثر عرضة لأن يفتنهم المسلمون فيعتنقوا الإسلام(655).

                2- تأثر النصارى بعادات المسلمين وأخلاقهم وتقاليدهم:
                فمن ذلك مثلاً ما يتعلق باللباس، والذي كان في غالب الأحيان لدى نصارى البلاد الإسلامية لا يختلف عن لباس المسلمين، فقد كان أحد الأساقفة الصليبيين والذي بُعث إلى عكا، وقد أرسل إلى البابا في روما اشتكى فيها من تشبّه النصارى الصليبيين بالمسلمين في زيهم وطريقة حياتهم(656) وحتى بعض النصارى من الصليبيين كانوا يتشبهون بالمسلمين بالزي واللباس، فمن ذلك مثلاً تقليد النساء الصليبيات لنساء المسلمين بالحجاب واللباس المحتشم. وقد قال أحد الكتاب الأوروبيين في ذلك: .. وكانت النساء الصليبيات يقلدن المسلمات في لبس الحجاب الذي يضفي على المرأة الحشمة والوقار(657) ومن عادات المسلمين التي اكتسبها النصارى الصليبيون في هذه الفترة النظافة، وكانت ليست بذات أهمية لديهم، وقد نقـل أحـد الباحثين رأياً في ذلك لمؤرخ أوروبي معاصر لفترة الحروب الصليبية وهو قوله: ولكنهم – أي الصليبيين – يعيشون كالحيوانات، ولا يغسلون أبدانهم ولا ثيابهم التي لا ينزعونها إلاّ إذا تمزقت(658) وبعد مخالطة الصليبيين للمسلمين اكتسبوا هذه العادة الحميدة، فتردد الكثيرون منهم على الحمامات العامة المنتشرة في الشام ومصر حتى الرهبان والراهبات الذين يعتكفون في كنائسهم وأديرتهم، مما جعل أحد مقدميهم واسمه (جاك دوفتري) يحتج على الراهبات لخروجهن من الأديرة مخالفات بذلك تعاليم شريعتهن ليذهبن إلى الحمامات العامة(659) وقد ساق أسامة بن منقذ نماذج على استغرابهم اهتمام المسلمين بالنظافة ومحاولتهم التشبه في ذلك، وتردّدهم على الحمامات العامة للمسلمين رجالاً ونساءً لهذا الغرض(660)، ومن العادات الإسلامية التي اكتسبها الصليبيون النصارى الغيرة على النساء، وكانت هذه الغيرة مفقودة جداً لديهم، فقال أسامة بن منقذ في سياق عرضه لمشاهداته وقائعَ في حياتهم، وعرضه لنماذج منها تدل على ذلك بقوله: .. ليس عندهم شيء من النخوة والغيرة، يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته يلقاه رجل آخر يأخذ المرأة، ويعتزل بها، ويتحدثا معا والزوج واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث، فإذا طوّلت عليه خلالها مع المتحدث مضى (661)، وقد أشار أحد البـاحثين إلى تغير هذه العادة القبيحة نسبياً في الجيل الثاني من الصليبيين بعد إقامتهم في البلاد الإسلامية(662)، ومن الصليبيين من تشبّه بالمسلمين حتى في الطعام، فترك أكل الخنزير مثلاً(663) ومن أهم ما اكتسبه بعض الصليبيين النصارى من المسلمين لين الطباع وحسن التعامل، وهذا ما لاحظه أسامة بن منقذ من خلال تعامله معهم وسبره لهذا الجانب فيهم بين من قدموا حديثاً من بلادهم، وبين من عاشروا المسلمين، وتعاملوا معهم، واكتسبوا شيئاً من أخلاقهم؛ إذ قال أسامة عن ذلك: فكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنجية أجفى أخلاقاً من الذين تبلدوا وعاشروا المسلمين(664)ومن المعروف في النصرانية تحريم التعدد بزعمهم، ومع ذلك فبعضهم قلّد المسلمين، وتزوّج أكثر من واحدة خاصة بعض زعمائهم وقوّادهم(665)، ومن مظاهر تأثر كثير من النصارى بالمسلمين في هذه الفترة اتجاه كثير منهم إلى تعلم اللغة العربية(666)؛ فالصليبيون في الشام اهتموا بذلك، فكان بعض قادتهم يتحدث العربية كـ(ريموند) صاحب طرابلس، وبعضهم وضع له قارئاً بها كصاحب صيدا(667) وحرص بعض قادتهم كذلك بأن يتعلم موظفوه ومن تحت يده في بعض الأعمال اللغة العربية، كما في موظفي الجمارك في عكا، والذين قابلهم ابن جبير في زيارته للشام في هذه الفترة(668)، وأسامة بن منقذ كان يربطه مع بعض فرسان الفرنج نوع من الصداقات، وكان يتعامل معهم، وهو لا يجيد لغاتهم، مما يدل على أن أعداداً منهم تتحدث باللغة العربية(669). وفي الأندلس كان تأثر النصارى باللغة العربية – لغة المسلمين – أكثر وضوحاً، إذ صارت هي لغة الحياة العامة في المجتمع الأندلسي(670)، وهكذا فكما أن الشخص لا يتأثر بشيء ويقلده إلاّ من باب الإعجاب به والاقتناع بقيمته فإن بعض النصارى بتشبّههم بالمسلمين في بعض الصفات وتأثّرهم بها دليل على الإعجاب بها، ونوع من الرضا عنها، واعتراف ضمني بقيمة الدين الذي جاء بها، وحثّ عليها(671).

                3- تحسّن نظرة كثير من النصارى للإسلام والمسلمين: وقد نقل (توماس آرنولد) عن بعض الكتاب الغربيين ما يؤيد ذلك، كقول أحدهم:... ومن المؤكد أن المسيحيين من أهالي هذه البلاد قد آثروا حكم المسلمين على حكم الصليبيين(672) وقول أحدهم: .. ويظهر أن أهالي فلسطين من المسيحيين لما وقع بيت المقدس في أيدي المسلمين نهائياً سنة 641 هـ -1244م رحبوا بالسادة الجدد، وأطمأنوا إليهم، ورضوا بحكمهم(673)، كذلك الحال بالنسبة لكثير من نصارى آسيا الصغرى في هذه الفترة الذين فضّلوا حكم السلاجقة المسلمين على سيطرة إخوانهم من النصارى من البيزنطيين(674)، أما بالنسبة للنصارى الصليبيين فقد تغيرت نظرتهم للإسلام والمسلمين نتيجة للجهود الدعوية المختلفة الموجهة إليهم في هذه الفترة، فمثلاً إن أحد رسلهم ويُدعى (بركارد) حينما قابل صلاح الدين سنة 580هـ/1175م عاد إلى قومه وأخبرهم بما لاحظه من أن المسلمين يؤمنون بإله واحد خالق كل شيء، وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- نبيّ مرسل من الله -جلّ وعلا- ومن مظاهر تغير هذه النظرة الحاقدة لدى النصارى تجاه المسلمين وجود نوع من الصداقات بين مسلمين ونصارى، ومن ذلك مثلاً ما كان لأسامة بن منقذ مع أفراد منهم يعدهم أصدقاء له، وكانوا يمكّنونه من الصلاة في المسجد الأقصى حينما كان تحت سيطرة النصارى(675)، وابن جبير الذي زار المنطقة في هذه الفترة رأى عرساً إفرنجياً حضره جمع من المسلمين، وكان من مشاهداته أن بعض النصارى إذا رأى أحداً من المسلمين انقطع للعبادة أتوه بالماء والزاد (676)، بل إنه في بعض جبهات القتال لطول المخالطة والمواجهة بين الفريقين أنس البعض بالبعض، بل وتجري في بعض الأحيان ألعاب ومسابقات على سبيل الترفيه بين الطرفين(677) وكان التجار المسلمون والنصارى على حال من الاختلاط والمعاملة التي أزالت كثيراً من الحدة والحقد والعداء الشديد الذي كان يحمله غالب الصليبيين في بداية قدومهم. وقد قال ابن جبير عن ذلك:.. واختلاط القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين إلى عكا كذلك.. والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشغولون في حربهم.. ولا تعترض الرعايا ولا التجار؛ فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلماً وحرباً(678). وقال أحد الكتاب الغربيين مبيناً تبدُّل النظرة لدى متأخري الصليبيين عن سابقيهم: ... ولقد تحدث بعض المؤرخين أمثال (وليم) كبير أساقفة صور عن الحضارة الإسلامية حديثاً مِلْئه الإجلال بل الإعجاب في بعض الأحيان لو سمعه المحاربون في الحملة الصليبية الأولى لهزمهم وصدم مشاعرهم وكبرياءهم(679)، ولا أدل على تبدل هذه النظرة من سماح الصليبيين للمسلمين الخاضعين لحكمهم بممارسة شعائرهم الدينية كما في عكا، وطرابلس، وأنطاكية وجبلة وغيرها، وكان أسلاف هؤلاء في حملتهم الأولى حينما رأوا لأول مرة مسجداً في القسطنطينية تُقام فيه الصلاة أحرقوه بما فيه(680)، وقد بيّن (توماس آرنولد) هذه الحقيقة، وهي أنه ليس عامة الصليبيين فحسب هم الذين تغيرت نظرتهم إلى المسلمين، بل إن علماء اللاهوت المسيحي قد أدى اختلاطهم بالمسلمين إلى تكوين رأي أكثر إنصافاً عن الإسلام(681).

                4- نجاح المسلمين في كسب بعض النصارى الصليبيين:
                كان من حسن سياسة نور الدين محمود مثلاً، مع بعض القادة النصارى أن كسبهم إلى جانبه ضد بني ملتهم، ودرأ بذلك خطراً عظيماً عن الإسلام بعدما كادوا أن يتفقوا ضد المسـلمين وذلك سـنة 544هـ (682) وكذلك صلاح الدين، حينما صالح صاحب صيدا حتى جعله يقاتل في صف المسلمين ضد بني ملته، وكان له أثر موجع عليهم، وكذلك صاحب صور الذي جاهر بعداء بني ملته (683)، وبعد معركة حطـين وما ظهر من نبله وكرمه وصفحه عن بعض قادة الصليبيين أن أقسم بعضهم ألاّ يواجهه في قتال (684).

                5- حسن معاملة النصارى لمن تحت أيديهم من المسلمين: ومن مظاهر التحسن مثلاً أنه في بعض القرى الواقعة تحت النفوذ الصليبي يتمتع أهلها المسلمون بحكم ذاتي لهم يحكمهم واحد منهم كما هي الحال في جبلية، وقد لمس الأحوال المعيشية الهادئة التي تعيشها بعض القرى والمدن الإسلامية تحت الحكم الصليبي ابن جبير حتى إنه خشي على أهلها من الفتنة مقابل بعض الاضطهاد الذي يلاقيه إخوانهم من قبل بعض الولاة المسلمين في بعض المناطق الإسلامية، حيث قال:.. وطريقنا كله ضياع متصـلة وعمائر منتظمة سكانها كلها مسلمون، وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه – نعوذ بالله من الفتنة – ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم، وكل ما بأيدي الفرنج من المدن بساحل الشام على هذا السبيل، ثم وصف ابن جبير استقرار أحوالهم وخشيته عليهم من الفتنة بالنصارى لذلك حيث قال:.. وقد أُشربت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه إخوانهم من أهل الرساتيق المسلمين وعمالهم؛ لأنهم ضد أحوالهم في الترفيه والرفق، وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين(685).

                6- ظهور عزة الإسلام وتغير التكتيك الصليبي:
                كان من أهم آثار الجهود الدعوية هو أن يكون الدين كله لله، وذلك بإقامة شرعه على أرضه، وإرشاد الناس إلى سبيله، وكان من أهم آثار الجهود الدعوية المختلفة خاصة الجهاد في سبيل الله في هذه الفترة إزالة الحكم الصليبي النصراني من المناطق التي زحف عليها، وطرده كلياً، وإعادة الحكم الإسلامي فيها، وما ترتب على ذلك من إظهار لعزة الإسلام وقوة المسلمين(686)، وهذا ما جعل الأعداء المتربصين من النصارى الصليبيين يعيدون تخطيطهم، ويغيرون أساليبهم في محاربة المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فقرروا لذلك التركيز على الناحية الفكرية بعد ما لم تُجدِ الجحافل العسكرية في صرف المسلمين عن دينهم وإقامة دولة نصرانية في قلب البلاد الإسلامية، لذلك تكوّنت بدايات ما يُسمّى بالغزو الفكري للشعوب الإسلامية، فاتجهت الجهود إلى إرسال جحافل من المبشرين الذين يتسللون إلى الشعوب الإسلامية بشكل سلمي؛ ليفتنوهم عن دينهم بالإقناع والتفاهم تحت ستار العمل الخيري، فكان لذلك تأسيس المدارس النصرانية والجماعات التنصيرية لتحقيق هذا الهدف بعدما عجزت عنه القوة العسكرية، وقد كان من أول هذه المؤسسات التبشيرية الرهبنة الكرملية التي تأسست في عام 548هـ - 1154م في طرابلس لبنان، ثم الفرنسيسكان والدومنيكان في مطلع القرن الثالث عشر (687)، ومنذ ذلك الوقت تتابع الدعاة لبث أفكارهم التنصيرية في العالم الإسلامي، وقد قال أحد الكتاب الأوروبيين عن ذلك: إذ حدث في القرن الثالث عشر أن بدأ نشاط تبشيري ضخم، وهذا النشاط إنما نجم عن الحروب الصليبية والاتصال بالمسلمين(688)، وكانت البداية العملية المنظمة لهذا العمل على يد (ريموندلل) وهو إسباني تعلم اللغة العربية، وكرس حياته لتنظيم العمل التبشيري بوساطة دراسة لغتهم والتنصير بينهم، ثم إرسال الجيوش العسكرية بعد ذلك (689).

                7- تأجيل إخراج المسلمين من الأندلس:
                ساءت أحوال المسلمين في الأندلس من جراء ضعف الخلافة الأموية فيها، ومن ثم انتهاؤها سنة 422هـ حين أعلن أهل قرطبة إلغاءها، وعلى رأسهم جهور بن محمد بن جهور(690)، فقامت على أنقاضها ما يُسمّى بدول الطوائف التي بلغت عشرين دولة تقريباً، حيث تغلّب كلٌّ على جهة وتلقب بالإمارة، بل والخلافة، فمنهم من تسمى بالمعتضد، وبعضهم تسمى بالمأمون، وآخر تسمى بالمستعين والمقتدر والمتوكل والموفق إلى غير ذلك من الألقاب التي قال عنها الشاعر الحسن بن رشيق:

                مما يزهّدُني في أرض أندلسٍ

                سماعُ مقتدرٍ فيها ومعتضدِ

                ألقابُ مملكةٍ في غير موضعِها

                كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ(691)

                ومع هذا الوضع المتردي لدول الطوائف أخذت الممالك النصرانية تتوسع على حسابها، فسقطت طليطلة بيد الإذفونش ملك قشتالة وليون وذلك سنة 478هـ (692)، ولم تلق المساندة الكافية لصد العدوان النصراني عليها من قبل أمراء الدويلات الإسلامية الأخرى التي كانت تتصارع فيما بينها، وتخطب وُدّ النصارى؛ حفاظاً على الطموحات الشخصية لبعض أمرائها الذين بلغ الحال بعدد منهم أن استعانوا بالنصارى ضد إخوانهم المسلمين، لذلك ساد الفزع بين مسلمي الأندلس لسرعة تقدم النصارى، وما يتوقعونه من نهاية سيئة لهم من جراء ذلك، حتى عبر أحد الشعراء عن هذه الحالة بعد سقوط طليطلة بقوله:

                يا أهلَ أندلسٍ شدّوا رحالَكُمُ

                فما المقامُ بها إلاّ من الغلطِ

                السلكُ ينثرُ من أطرافه وأرى

                سلكَ الجزيرةِ منثوراً من الوسطِ

                مَن جاور الشرَّ لا يأمن بوائقَهُ

                كيف الحياةُ مع الحياتِ في سفطِ (693)
                ولهذا الوضع المفزع في الأندلس دبت الغيرة في بعض أمراء الطوائف وبعض العلماء لحماية المناطق الإسلامية من النصارى؛ فكانت الدعوة للمرابطين لدخول الأندلس حيث تغيرت الكفة وانحصر نفوذ النصارى، فكان قدوم ا لمرابطين منقذاً للمسلمين في الأندلس من طمع النصارى، ومحافظاً على بقائهم فيها بعد أن أوشك على الزوال، وقد قال عن ذلك أحد المؤرخين الأندلسيين بعدما وصف الأوضاع المضطربة فيها قبل النجدة المرابطية: ... إلى أن جمع الله الكلمة ورأب الصدع ونظم الشمل، وحسم الخلاف وأعز الدين، وأعلى كلمة الإسلام، وقطع طمع العدو بيمن نقيبة أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب يوسف بن تاشفين (694) وعبور المرابطين لنجدة إخوانهم مسلمي الأندلس كان في سنة 479هـ حيث جرت معركة الزلاقة المشهورة مع النصارى، والتي انتصروا فيها واندحر الزحف النصراني على المناطق الإسلامية، آخذاً بالتقهقر(695)، ومنذ ذلك الحين عمل المرابطون على تثبيت سلطانهم في الأندلس، وتوحيد الطوائف فيها تحت سيطرتهم، والوقوف في مواجهة النصارى، وجهادهم في البلاد الأندلسية حتى كان تضعضعهم وضعف سلطانهم إثر سقوط عاصمتهم في المغرب مدينة مراكش سنة 541هـ، وبعد اضطراب أحوال الأندلس طمع النصارى في استغلال ذلك، فاجتاز الموحدون إليها، وكان لهم الجهد المشكور في مواجهتهم وكبح جماحهم ومن ثم الحفاظ على البقاء الإسلامي في الأندلس(696). حتى ضعف سلطانهم ثم سقوط دولتهم في سنة 668هـ(697)، فورثها مجموعة من الدويلات التي تساقطت في أيدي النصارى الواحدة تلو الأخرى، حتى كان آخرها سقوط غرناطة سنة 897هـ(698)، وهكذا فإن جهاد المرابطين ثم الموحدين في فترة الحروب الصليبية كان من أبرز العوامل بل أهمها في الحفاظ على الوجود الإسلامي في الأندلس وتأخير إخراج المسلمين منها(699).



                (625) الرسالة الناصرية ص 56 دعوة المسلمين للنصارى (2/744).
                (626) البداية والنهاية (13/135) دعوة المسلمين للنصارى (2/744).
                (627) سير أعلام النبلاء (19/188).
                (628) كتاب الروضتين (2/52) دعوة المسلمين للنصارى (2/744).
                (629) الدعوة إلى الإٍسلام، توماس أرنولد ص 111.
                (630) المصدر نفسه ص 111 دعوة المسلمين للنصارى (2/744).
                (631) الدعوة إلى الإسلام ص 108 دعوة المسلمين للنصارى (2/744).
                (632) مذكرات جوانقيل ص 168.
                (633) البداية والنهاية (13/100- 101).
                (634) المصدر نفسه (13/152 – 153) دعوة المسلمين للنصارى (2/745).
                (635) دعوة المسلمين للنصارى (2/745).
                (636) البداية والنهاية (13/169) دعوة المسلمين للنصارى (2/745).
                (637) الدعوة إلى الإسلام ص 107 دعوة المسلمين للنصارى (2/745).
                (638) الدعوة إلى الإسلام ص 107 دعوة المسلمين للنصارى (2/745).
                (639) الدعوة إلى الإسلام ص 629 دعوة المسلمين للنصارى (2/745).
                (640) الأوضاع الحضارية في بلاد الشام عصر الحروب الصليبية ص 233.
                (641) الدعوة إلى الإسلام ص 112 دعوة المسلمين للنصارى (2/746).
                (642) دعوة المسلمين للنصارى (2/746).
                (643) سير أعلام النبلاء (21/270).
                (644) دعوة المسلمين للنصارى (2/746).
                (645) الدعوة إلى الإسلام ص 130 دعوة المسلمين للنصارى (2/746).
                (646) دعوة المسلمين للنصارى (2/747).
                (647) المصدر نفسه (2/747).
                (648) الدعوة إلى الإسلام ص 108 دعوة المسلمين للنصارى (2/747).
                (649) المصدر نفسه ص 109 دعوة المسلمين للنصارى (2/747).
                (650) شفاء القلوب في أخبار بني أيوب ص 121.
                (651) الدعوة إلى الإسلام ص 111 دعوة المسلمين للنصارى (2/747).
                (652) الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد ص 111.
                (653) الدعوة إلى الإسلام ص 112 دعوة المسلمين للنصارى (2/748).
                (654) الدعوة إلى الإسلام ص 110 دعوة المسلمين للنصارى (2/748).
                (655) الدعوة إلى الإسلام ص 110 دعوة المسلمين للنصارى 02/748).
                (656) الأوضاع الحضارية في بلاد الشام عصر الحروب الصليبية ص 97 - 98.
                (657) تاريخ الحروب الصليبية (2/509).
                (658) دعوة المسلمين للنصارى (2/751).
                (659) المصدر نفسه (2/751).
                (660) الاعتبار ص 136 – 137 دعوة المسلمين للنصارى (2/752).
                (661) المصدر ص 135 المصدر نفسه (2/752).
                (662) العلاقات الحضارية بين الشرق والغرب في العصور الوسطى ص 192.
                (663) الاعتبار ص 140 دعوة المسلمين للنصارى (2/752).
                (664) المصدر نفسه (2/753).
                (665) المصدر نفسه (2/753).
                (666) المصدر نفسه (2/753).
                (667) المصدر نفسه (2/753).
                (668) رحلة ابن جبير ص 275 - 276.
                (669) الاعتبار ص 87 دعوة المسلمين للنصارى (2/753).
                (670) المسلمون في تاريخ الحضارة ص 79.
                (671) دعوة المسلمين للنصارى (2/754).
                (672) الدعوة إلى الإسلام ص 116.
                (673) دعوة المسلمين للنصارى (2/754).
                (674) المصدر نفسه (2/755).
                (675) الاعتبار، أسامة بن منقذ ص 134 - 135.
                (676) رحلة ابن جبير ص 259 -260.
                (677) النوادر السلطانية 169 -170.
                (678) رحلة ابن جبير ص 259 -260.
                (679) قصة الحضارة (22/65).
                (680) المصدر نفسه (4/50) دعوة المسلمين للنصارى (2/758).
                (681) دعوة المسلمين للنصارى (2/758).
                (682) كتاب الروضتين (1/123) دعوة المسلمين للنصارى (2/758).
                (683) النوادر السلطانية ص 298 المصدر نفسه (2/759).
                (684) قصة الحضارة ت(4/38) المصدر نفسه (2/759).
                (685) رحلة بن جبير ص 74 ، 75 دعوة المسلمين (2/761).
                (686) دعوة المسلمين للنصارى (2/762).
                (687) الأوضاع الحضارية في بلاد الشام ص 136.
                (688) الحروب الصليبية آرنست باركر ص 142.
                (689) البيان المغرب في أخبار الأندلس نقلاً عن دعوة المسلمين (2/763).
                (690) دعوة المسلمين للنصارى (2/763.
                (691) المصدر نفسه (2/763).
                (692) نفح الطيب (4/352 – 354).
                (693) أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض (1/46).
                (694) المعجب في تلخيص المغرب ص 147 دعوة المسلمين للنصارى (2/764).
                (695) الكامل (8/307 – 310).
                (696) دعوة المسلمين للنصارى (2/765).
                (697) نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب (1/446).
                (698) التاريخ الأندلسي ص 513.
                (699) دعوة المسلمين للنصارى (2/765).

                تعليق


                • #9
                  رد: الجدل الثقافي بين المسلمين والنصارى في عهد الحروب الصليبية

                  جزاكم الله خيرا
                  أيهما نصدق المسيح أم بولس و الكهنة ؟
                  أشفق على النصارى الحيارى !
                  كفاية نفاق يا مسيحيين !!
                  الطرق البوليسية لتثبيت الرعية !
                  تعصب و عنصرية الأقباط الأورثوذوكس
                  موقع أليتيا الكاثوليكي يبرر فضيحة زواج "المنذورين للرب " !
                  فضيحة "نشتاء السبوبة "الأقباط
                  أورثوذوكسي يعترف !
                  د.وسيم السيسى :لا توجد لغة تسمى بالقبطية
                  كل يوم اية و تفسيرها
                  حقيقة المنتديات المسيحية !
                  بولس الدجال
                  لماذا يرفض النصارى الحجاب ؟!
                  التاتو لا يجوز و الكنائس تضللكم يا نصارى
                  فضيحة زرائبية حول عمر مريم حين تزوجت يوسف النجار (حسب المصادر النصرانية )
                  حول عمر مريم حين تزوجت يوسف النجار (بحث من مصادر نصرانية -يهودية )
                  سؤال للطلبة النصارى
                  كشف عوار شبهات الكفار
                  محنة الثالوث مع مزمور 2
                  النصارى في لحظة صدق نادرة !



                  تعليق

                  مواضيع ذات صلة

                  تقليص

                  المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                  ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, منذ أسبوع واحد
                  ردود 0
                  27 مشاهدات
                  0 معجبون
                  آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                  بواسطة *اسلامي عزي*
                   
                  ابتدأ بواسطة زين الراكعين, منذ 4 أسابيع
                  ردود 0
                  25 مشاهدات
                  0 معجبون
                  آخر مشاركة زين الراكعين  
                  ابتدأ بواسطة زين الراكعين, 9 مار, 2024, 05:43 م
                  ردود 0
                  58 مشاهدات
                  0 معجبون
                  آخر مشاركة زين الراكعين  
                  ابتدأ بواسطة زين الراكعين, 5 مار, 2024, 10:20 ص
                  ردود 3
                  46 مشاهدات
                  0 معجبون
                  آخر مشاركة زين الراكعين  
                  ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 23 ينا, 2024, 11:53 م
                  ردود 0
                  18 مشاهدات
                  0 معجبون
                  آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                  بواسطة *اسلامي عزي*
                   
                  يعمل...
                  X