خسائر العدو:
لم أستطع الوقوف على رقم مقبول، أو تقدير معقول لخسائر العدو التي أصابته خلال دخوله الجولان، ولكني أستطيع الاستنتاج أن الخسائر عنده كانت قليلة، وأن أية خسائر مني بها إنما كانت من المقاومات الضارية في القلع، وتل العزيزيات، وتل الفخار، وتل شيبان، وحرش الجويزة، والرفيد، وقد كانت خسائره في الأرواح قليلة، أما خسائره في السلاح، والعتاد، فلقد كان مجموعها ما يقارب كتيبة دبابات، بسبب المقاومات التي ذكرت.
خسائرنا:
ضخمة جداً.. وتفوق حدود التصور في قيمتها وهولها.
1- فأول الخسائر، هو كرامة الشعب، وروحه القتالية، وقدرته على الصمود، وشرفه الذي ديس ولوث.
2- وثاني الخسائر، هو الأرض الكريمة الغالية الحبيبة، بكل ما فيها من كنوز وثروات.
3- وفيما عدا ذلك، فقد كانت الخسائر على الشكل التالي:
- في الأرواح، لم يتجاوز عدد القتلى 250 قتيلاً، كما لم يتجاوز عدد الجرحى 300 جريح، بينهم عدد من الضباط ذكرنا بعضهم اسماً، وحوالي سبعة أطباء.
- وأما الأسلحة: فحدث ولا حرج، فالمدفعية دمرت بكاملها، والمدافع المضادة للدبابات والطائرات ذهبت كلها بين مدمر أو غنيمة أخذها العدو بعد أن تركتها القوات، والأسلحة الأخرى، تركت كلها في الأرض، في العراء، جمع العدو قسماً منها، وجمع الفدائيون قسماً آخر، وجمع المهربون قسماً ثالثاً وباعوه، وقسم رابع وضئيل لا يزال مطموراً أو ملقى على الأرض وقد أكله الصدأ.
والمدفعية الصاروخية أصبحت كتلاً من الحديد الأسود المحروق.
وقاذفات اللهب، تركت سالمة للعدو ليستعملها ضد قواتنا وآلياتنا.
والدبابات.. دمر عدد منها لا يقل بمجموعه عن كتيبتين (40-50 دبابة)، وغنم العدو كتيبة دبابات برمائية تركها الجيش في الرفيد.
وأما الآليات.. فوا حسرتا عليها.
الآلاف منها دمر، ابتداءً من عربات الجيب... حتى الشاحنات الكبرى، مروراً بعربات الجند المدرعة.. مضافاً إليها عدد كبير من الشاحنات المدنية التي صادرتها السلطة لصالح الحرب، وأضف إلى ذلك، ما لا يقل عن ثلاثمائة صهريج بنزين، لا تقل قيمة الواحد منها عن 70 ألف ليرة سورية.
والطائرات.. دمر منها وأعطب عدد لم أستطع الوقوف عليه بدقة، وخربت مدارج الطائرات في كل من مطاري المزة، والضمير، وفي عدد من المطارات (السرية الأخرى).
وأخيراً.. المستودعات الهائلة الجبارة، بكل محتوياتها، من وقود، أو ذخيرة، أو مواد طبية أو أطعمة جافة أو ألبسة وتجهيزات ومفروشات..إلخ. ومن أبرز هذه المستودعات وأكثرها أهمية، هي مستودعات:
تل خنزير، الحميدية، جباتا الخشب، حرش عين زيوان، بقعاتا، خسفين.
الفصل الثاني
الوجه المشرق
"... وقد وقع أثناء انسحاب اللواء المدرع السوري حادث طارئ كشف عن مدى الخسائر التي كان يمكن إلحاقها بالمدرعات الإسرائيلية لو قامت الدبابات السورية بالهجوم المعاكس.
لقد تعطلت إحدى الدبابات بالصدفة، بعد تعطيل جنزيرها وكانت هذه الدبابة في أواخر الرتل السوري المنسحب، ولم يكن أمام قائد الدبابة إلا أن يحارب، فأدار مدفعه إلى الخلف، واستطاع من مكانه، وخلال دقائق معدودة أن يدمر ست دبابات ويوقف تقدم الإسرائيليين، واستنجد العدو بالطائرات فدمرت الدبابة السورية الشجاعة بصاروخ جوي، ولولا ذلك لاستطاعت تدمير 15 دبابة إسرائيلية على الأقل قبل أن تصاب وتحترق..".
(من رواية لضابط لبناني شهد المعركة صباح 9 حزيران نشرتها مجلة الحوادث اللبنانية، العدد 604، تاريخ 7/6/1968).
-1-
وجوه ناصعة للبطولة
وقد يعتقد البعض أن هذا الشعب قد فقد كل مقومات الأصالة والبطولة فيه.. وذلك، بعد الاطلاع على المخازي والجرائم التي حاولنا في صفحات سابقة، إبراز بعضها، والذي لم نستطع الوقوف عليه، أكثر وأدق وأعمق أثراً وأبعد خطراً..
ولكن الأصالة والنبل.. والشجاعة والرجولة، الصادقة غير المفتعلة، قادرة على إبراز وجودها، ولفت الأنظار إليها، وتحقيق فعالياتها القادرة على إصابة الباطل بشروخ خطيرة، مهما علا واستكبر، ومهما كان زيفه محبوكاً ودقيقاً.. بحيث خيل إليه أنه قد قضى على كل بذرة من بذور الحق الوضاء، والنور الكامن في النفوس.. القادر على رفع رأسه فوق كل سحب الظلام المفتعلة.
فهل عدمت الجبهة، رغم كل ذلك اللؤم والباطل.. عناصر وقفت بإباء ورجولة تدفع عنها طغيان ذلك السيل من خيانات المجرمين، وأرتال العدو الغازي الغريب؟
أبداً.. وكما في كل لحظة يأس.. وكما في كل صولة باطل.. يقف الحق، ليبعث البطولة في صور متعددة الأشكال.. وصيغ مختلفة الأحجام، هذه منها بعض النماذج:
1- لقد كانت في مقدمة تلك البطولات، التي ستبقى أبد الدهر، مفخرة لهذا الشعب.. ورمز كرامة وعزة الجيش هي بطولات وحدات المدفعية م/ط.. التي عملت في أسوأ الشروط التي أتيحت لها.. وحققت أعظم مردود كان يمكن لوحدات أفضل منها تدريباً وإعداداً.. أن تحققه، وساهمت مساهمة كبيرة في الحد من خطورة وفعالية طائرات العدو.. بعد أن غاب من الجو نسورنا، وعزلوا عن الحرب، ومنعوا من أداء واجبهم، وتركوا طاقات معطلة تغلي.. وهم يرون طائرات العدو تمرح في سماء البلاد.. وما من نسور تتصدى لها.
فالمدفعية المضادة للطائرات.. رغم حداثة عهدها.. ورغم ضعف تدريبها.. ورغم أن أكثر سدنتها كانوا من الاحتياطيين، ورغم أن أكثر ضباطها كانوا من غير الاختصاصيين.. فقد كان لها دور بطولي رائع، واستطاعت أن تمنع الطائرات المغيرة من تحقيق إصابات فعالة.. فوق كل هدف دافعت عنه وحداتها، وعملت بدون كلل.. وحققت المدافع أكثر من المردود المطلوب منها في المعدل الزمني الواحد، حتى احمرت سبطانات الكثير من المدافع لكثرة ما رمت وتشوه بعض هذه السبطانات ولم يكن لدى السدنة وقت كاف لتركيب السبطانات الاحتياطية.. وعجز المذخرون(90) عن حسن تلبية احتياجها، ووصلت إليهم الذخيرة مطلية بالشحم، ولكن ذلك لم يثن عزم الجميع، وقاموا بواجبهم خير قيام.
2- ومن روائع صور البطولة التي برزت، المقاومة الجبارة التي تصدت "للهجوم" المدرع الذي شنه العدو، وذلك حين اصطدم بنقطة استناد القلع.
دافع رجال هذا الموقع، كأفضل ما يمكن لرجال أن يدافعوا..
وكان القائد على رأس هذه القوة الصغيرة الرائد محمد سعيد يونس، واستطاعت هذه المقاومة الباسلة أن تحطم 36 دبابة، ولو نفذ الذي سبق أن قررته خطة العمليات، وقدمت لهذه المقاومة –وغيرها- الحماية والدعم، بالمدفعية والهجمات المعاكسة وكل أعمال القوات القتالية.. لتحطم الهجوم، وارتد المهاجمون، يلعقون جراحهم كالكلاب، ويلعنون قادتهم الذين زجوا بهم في وجه أولئك المردة من رجال الجيش السوري.
ولكن ما حيلة البطولة إن كانت وحيدة في وجه موجات متلاحقة من قوى الغزو الباغي؟.. وكيف يمكن للرجال الأشاوس أن يستمروا في ممارسة بطولاتهم.. ما دام قادتهم يمارسون مختلف صور الخيانة والغدر، بهم و بالبلاد ولقد استشهد الرائد البطل.. ومعه ضابط آخر..
فإلى هذا الرجل.. وكل الرجال الذين أدوا واجبهم.. سنؤدي واجب الشكر الآن.. وفي كل مناسبة ترجع فيها إلينا.. ذكرى صمودهم ... ومرارة الجريمة التي نفذت رغم إصرارهم على منع وقوعها..!
3- وليس للبطولة أن تقتصر على الضباط.. أو غيرهم من الرتب... فهي جوهر كريم.. قابع في كيان كل كريم.. يبرز باهراً الأبصار، متى أتيح له البروز.. سواء أكان صاحبه ضابطاً أم جندياً أم مدنياً.. فالبطولة والصمود، هما من نتاج الأصل الكريم.. والتربية البيتية الكريمة الأصيلة.. وليس للاختصاص أو الرتبة إلا تحديد مجال ظهورها، أو تحديد الحجم الذي يمكنه استيعابها.
ففي إحدى نقاط الدفاع، في تل شيبان.. قام مجند واحد.. نعم عسكري واحد، ومجند –من أبناء دير الزور- بتحطيم سبع دبابات للعدو.. وبماذا؟.. بسلاحه الفردي المضاد للدبابات، المسمى (القاذف ر.ب. ج).
4- وفي نقطة تل الفخار.. ذلك الموقع الذي ترك أثراً مريراً في قلوب القادة الإسرائيليين، طفحت به تصريحاتهم التي فاضلت على ألسنتهم أمام مراسلي الصحف الأجنبية المختلفة..
في ذلك الموقع.. صمد الرجال.. وليت كل الرجال مثلهم.. أدوا واجبهم بشرف ما فوقه شرف. وبروا بالقسم الذي سبق أن أدوه لأمتهم يوم ارتدوا لباس الجيش..
صمد الرجال.. بقيادة ضابطين، (النقيب نورس طه، وملازم أول لم يصل إلي اسمه)، وقاوموا بعناد لا نظير له.. ومنعوا قوات العدو المهاجمة من تخطي مجالات الرمي لأسلحتهم.. وقدمت هذه النقطة بفضل رجالها الأبرار.. أكرم وفاء لدين الأمة عليها.. ومات الرجال فيها، شهداء، أبراراً، كراماً، ولم يتم للعدو متابعة احتلال الأرض إلا على جثثهم.. وبعد نفاد ذخيرتهم, وانعزالهم وتطويقهم، وفقدان الاتصال بأي قائد مسؤول.. فأطبقوا جفونهم على ثرى الأرض الحبيبة، والأيدي مشدودة إلى الزنادات.. تشكو إلى الله، خيانة الذين أوقفوا رجالها عن متابعة الضرب.. حتى يرتد العدو الدخيل..
5- وفي سهل المنصورة، تصدى شابان من رجال المنصورة لرتل الدبابات المتقدم نحو القنيطرة، وأطلقا على عربة القائد، وعلى تجمعات القادة حوله، خلال إصداره أوامر التقدم لدخول القنيطرة.. فماذا كان؟
دب الذعر في صفوف الجبناء المتقدمين لاحتلال القنيطرة.. وتراجع رتل الدبابات الذي لا يقل عن 50 دبابة مسافة 3 كم إلى الوراء، واحتل الخط (باب الهوى- عين الحجل)، ثم انتشر بتشكيلة القتال، وأصدر قائد أوامر الهجوم.. (الأكاديمية وكأنه سيهاجم موقعاً حصيناً)، ثم تقدم مستعملاً كل طرق الحذر والترقب والاستعداد للتدخل، وقد شمل خط الفتح(91) المسافة الآتية: يميناً السفح الشمالي الشرقي لتل العرام (انظر الخريطة وهو شمال غرب تل أبي الندى)، ويساراً طريق الأوتوستراد الواصل ما بين المنصورة –الحميدية.. وتابعت قوات العدو زحفها بغاية البطء.. وقد حيرها صمت المقاومة التي انبعثت في وجهها فأجبرتها على التراجع.
ولما عادت وأشرفت على المنصورة.. طوقتها، وأخذ قائد الرتل يخاطب سكانها بمكبرات الصوت، ويطلب منهم الاستسلام.. ولما أعياه أن يجيب أحد، طلب أن يخرج إليه وفد من السكان.. فقابله بعضهم، وسأله عن القوات والجيش، فأخبره أن الجيش انسحب، ولم يبق في المنطقة أحد من القوات.
عندها سأله قائد الرتل الإسرائيلي عن المقاومة التي سببت له أن يتراجع عن تلك المسافة، فضحك المنصوري وأعلمه أن تلك كانت فورة حماس من شابين، حصلا على بندقيتين من أسلحة الجيش الفار، فأطلقا على الرتل الإسرائيلي وسببا له ذلك الذعر كله.
ولم تهدأ أنفاس القائد الغريب إلا حين اطمأن إلى أن ذينك الشابين قد تراجعا، وأن البلاد أصبحت خاوية على عروشها، ولم يبق فيها إلا من لم يستطع الفرار، أو الذين تشدهم الأرض إليها بارتباطات هي أعمق وأقوى من كل خطر.. حتى ولو كان خطر الاحتلال الصهيوني.. بلؤمه وخسته.
كان ذاك الحادث، في الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر السبت 10 حزيران.. وقد استغرق تراجع الرتل إلى خط الفتح عشر دقائق، بينما احتمل تقدمه (مجدداً) 5-6ساعات، اجتاز خلالها مسافة لا تزيد عن (3) كيلومترات في حدودها القصوى، وكان ذاك بعد إذاعة بلاغ سقوط القنيطرة من إذاعة حزب البعث.
وبلغ مجموع الخسائر التي ألحقتها بتلك القوة، رصاصات الشابين المذكورين ما لا يقل عن عشرة رجال بين قتيل وجريح.
6- في الساعة الرابعة من مساء الاثنين (بعد الظهر) 12 حزيران.. كانت تتقدم كتيبة دبابات إسرائيلية (40 دبابة)، على طريق (الرفيد –الجويزة –القنيطرة) وباتجاه القنيطرة.. وما إن وصلت مقدمة الرتل (سيارة القائد) إلى مشارف الحرش المحيطة بقرية (الجويزة)، حتى أصلته نيران المقاومة جحيماً أوقف الرتل بكامله، فتوقف، وانتشرت الدبابات واستنجد القائد بالطيران.. وجاءت طائرات (الهليوكوبتر) وفلحت أرض الحرش كله رشاشاتها.. حتى اطمأنت إلى إخماد المقاومة.. واستمر ذلك التوقف حتى صباح الثلاثاء 13 حزيران.. عندها عادت إلى قائد كتيبة الدبابات الإسرائيلية أنفاسه، وعاود التقدم لإكمال احتلال القنيطرة.
ولقد قام بعض الذين أعرفهم بسؤال النازحين من أبناء الجويزة، عن تلك المقاومة، التي عطلت إكمال احتلال القنيطرة مدة لا تقل عن 18 ساعة.. فعلموا أنه شاب من أبناء القرية، أطلق من إحدى البنادق التي وجدها كثيرة في الأرض (بنادق الجيش الهارب)، ولما نفدت الذخيرة التي كانت في البارودة، أكمل تراجعه باتجاه القنيطرة.. ثم دمشق..
7- وفي فترة الحرب، حشدت إحدى كتائب جيش التحرير الفلسطيني، في الرفيد، وقد تمكن بعض رجال هذه الكتيبة من إسقاط قاذفة إسرائيلية بأسلحتهم الفردية.. ولكن الطيار تخلى عن طائرته وسقط بالمظلة..
هرع بعض رجال الكتيبة لأسر الطيار.. فجاءت أربع طائرات مطاردة، وهاجمت الكتيبة، واضطرت الرجال إلى الاحتماء بالأرض تفادياً لنيرانها.. عندها استغلت تلك الفرصة طائرة هليوكوبتر للعدو، وأنقذت الطيار من الأسر أو القتل.
8- استطاع أحد ضباط الصف، من قوات المدفعية م/ط المتمركزة على (تل أبي الندى)، وهو المساعد عدنان الداغستاني قتل أحد الطيارين خلال هبوطه بمظلته، بعد إسقاط طائرته.. ثم استشهد المساعد فعليه رحمه الله ورضوانه..
9- وفي حرش الجويزة، كان واحد من الأبطال (مساعد لم يصل إلي اسمه) يعمل على مدفع مضاد للطائرات، استطاع إسقاط أربع طائرات ميستير بمدفعه وحده (عيار 5،14 مم رباعي السبطانات) ثم فاضت روحه الكريمة بعد أن هاجمته أربع طائرات ميراج بصواريخ النابالم فأحرقته ومدفعه.
10- ولا يفوتنا في حديثنا عن صور البطولة الرائعة التي برزت خلال تلك الأيام العصيبة، أن ننوه بالروح التي كانت من العسكريين المُسرَّحين. هؤلاء العسكريون، الذين سرحتهم سلطات حزب البعث، في نطاق خطتها التي اتفقت عليها مع الإسرائيليين، تمهيداً لوضع الجيش والشعب والبلاد كلها، في وضع صالح لتقبل الهزيمة.
العسكريون الذين لم ينج أكثرهم خلال حكم سلطة البعث، من العنت والأذى، تسريحاً ثم اتهاماً بالعمالة للأجنبي، أو مصادرة للأموال، أو ملاحقة وحرماناً من الراتب، أو سجناً وتعذيباً بلغ حدود التشويه في كثير من الحالات.. أو حكماً جائراً بالسجن أو بالنفي أو بالإعدام..
هؤلاء المسرحون... الذين دربهم الجيش ذخراً له لساعة من ساعات المحنة كالتي كانت يوم المسرحية التي أسموها حرباً..
هؤلاء العسكريون.. الذين أبعدوا عن حقل فعاليتهم الحقيقي، وعزلوا عن المشاركة في الحرب.. وحملوا فيما بعد –مع باقي فئات الشعب- أوزار الهزيمة التي لم يكن لهم فيها مطلق دور، ولم يسمح لهم بأي نشاط لمنعها أو وقفها عند حدود أقل مما كانت..
هؤلاء المسرحون.. لا لشيء، سوى أنهم رفضوا الموافقة على صفقة بيع الجولان، وتحدوا حزب البعث المجرم وحاولوا تنحيته لمنعه عن تأدية ذلك الدور الخطير..
رغم كل هذا وذاك.. لم ينسوا بلادهم وجيشهم وجولانهم الحبيب، يوم المحنة.. فتقدم أكثرهم إلى قيادة الجيش، واضعاً نفسه تحت تصرفها للدفاع عن البلاد، ولكن القيادة "شكرتهم" وطلبت منهم البقاء في بيوتهم.. وكأنهم من ذوات الخدور.
ولقد تنوعت صور البطولة خلال المحنة التي أنست هؤلاء كل جراحهم.. فجعلتهم يتقدمون للذود عن حياضهم.. رغم خيانة المجرمين.. أهل السلطة.
-فمنهم من تطوع في الدفاع المدني، للمساهمة في حماية المواطنين، والتخفيف من خسائر الحرب، وخاصة في المدن الكبيرة.
- ومنهم من التحق ببعض المنظمات الفدائية، للمساهمة في العمل على مؤخرات القوات الإسرائيلية، فيما إذا حاولت متابعة التوغل داخل البلاد.
- ومنهم من التحق بإحدى وحدات الاحتياط، طائعاً مختاراً.. وهؤلاء كانوا قلة، لأن التحاقهم يتوقف على موافقة القيادة، أولاً وأخيراً.. والقيادة لا ولن توافق إلا إذا اطمأنت إلى الذين يطلبون الالتحاق بالخدمة، بأنهم لن يعملوا ضدها.
- ومنهم من شكل –ببداهته- مجموعات للدفاع عن المدن، وخاصة دمشق، بعد أن هجرتها القوات والسلطات البعثية وتخلت عنها، وتركتها مفتوحة في وجه القوات الغازية.
- ومنهم من قابل بعض القادة المسؤولين في دمشق، وألحوا عليهم بوجوب تناسي الخلافات، ودعوة كل الضباط للخدمة في ذلك الظرف العصيب.. ولكنهم –هكذا أرى- كانوا يجهلون أنهم يطلبون الدفاع عن البلاد، من مجرمين يملكون كل التصميم والتخطيط المسبق لتسليمها إلى عدوها، مقابل ثمن بخس قبضوه، فاستحقوا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
- وحتى المشردين خارج البلاد، الملاحقين المحكومين كانوا يتحرقون ويتميزون غيظاً للقيام بواجبهم، فمن سبق منهم كان نصيبه السجن والمحاكمة، وكان من أبرز هؤلاء الأخوان (عبد الرحمن، وعلي السعدي)، ومنهم من اتصل بالقيادة العامة، وخاطبوا لضابط المناوب.. وقد سمى نفسه "الرائد شريف"، وأبلغوه أنهم يريدون العودة إلى البلاد، والدفاع عنها، فطلب منهم التريث، ثم عاود الاتصال معهم، وأبلغهم قرار القيادة برفض دخولهم إلى الأرض السورية، التي كانت – تلك القيادة تسلم منها جزءاً أغلى من حبة القلب إلى العدو الغريب الدخيل.
11- وفي ختام عرضنا لنماذج البطولة الصادقة، التي تأبى إلا أن تجد لها متنفساً في كل لحظة تطبق خلالها سوءات الجريمة، أو تحيق فيها الأخطار من كل جانب..
في ختام لحظات التسامي فوق مستوى الجريمة التي نفذها الفجار، وفي ساعة التجلي هذه، التي تبسط فيها البطولة أجنحتها فتظل المنكوبين، وتتسلل ذكرى الأبطال الذين أدوا ضريبة الرجولة.. فتلمس الجراح لمس الحنو المشبوب بالأمل في أن تعاود هذه الأمة الإنجاب..
في ختام هذا السرد الموجز، الذي استطعت الوقوف عليه من ملامح الأعمال البطولية التي أبرزت الوجه الحقيقي لهذه الأمة رغم ركام الخيانة والجريمة الهائل.
في هذا الختام.. الذي أراه مسك الختام لهذه الصفحات، لست أجد خيراً من المرور بإجلال واحترام، قريباً من ذكرى أخي الأبطال.. وكريم الرجال.. العقيد أركان حرب كمال مقصوصة، مبيناً حقيقة البطولة التي كلفته حياته.
ولم تبرز رجولة هذا الإنسان في ميدان الحرب، لأنه لم يرسل للحرب.. بل برزت في ميدان قولة الحق، الذي هو ميدان لصولات سادة الشهداء..
العقيد كمال مقصوصة ضابط من الذين عينوا في مراكز التجنيد، والذين تقع دعوة الاحتياط في حدود مسؤولياتهم.
ولقد استدعي إلى القيادة العامة (مبنى الأركان العامة في دمشق)، ليشهد اجتماعاً عقده الحزبيون.. ليقرروا سلسلة من الإجراءات والأعمال "للدفاع عن البلاد"، وذلك بعد سقوط القنيطرة، وبعد أن أصبحت دمشق مهددة بالغزو الإسرائيلي.
وفي خلال المناقشة، طالبوه بدعوة لواءي احتياط من أبناء (دمشق ، حمص، حماة، حلب). فاستغرب العقيد المذكور هذا الطلب.. ونبه القائد الذي يطالبه إلى أن دعوة الاحتياط لا يمكن أن تتم على أساس هذا التقسيم (أبناء المدن، ومن الطوائف غير العلوية)، وأن دعوة الاحتياط عادة تتم على أساس دعوة الألوية المعبأة سابقاً مثلاً (اللواء 90، اللواء 80، اللواء 60 احتياط.. إلخ).
أما دعوة الاحتياط، من أبناء مدن معينة، ومن أبناء طوائف معينة، واستثناء غيرهم من أبناء المناطق والطوائف الأخرى، فهذا أمر فريد من نوعه في تاريخ الجيش، ومستحيل التطبيق لأن أجهزة شعب التجنيد ومكاتب النفير، لا تملك الإحصاءات الجاهزة التي تمكنها من تنفيذ تلك الدعوة المريبة لبعض قوى الاحتياط.
عندها تصدى منطق التعصب والإجرام لمنطق الحق والإخلاص، فأصروا عليه أن ينفذ ما طلب منه وإلا.. ثم ألحقوه ببعض النعوت التي لا تليق بإنسان كريم..
... وجد العقيد المذكور – رحمه الله - أن الأمر مطبوخ مسبقاً، وأن هذه الجريمة الجديدة، معدة ومهيأة لوضع صفوة شباب هذه المدن في وجه القوات الإسرائيلية المتفوقة، بغية تركها للعدو فريسة يقضي عليها، وبذلك يتم لهم إذلال تلك المدن، والقضاء على أي أمل لديها بالمقاومة.. وأدرك كذلك أنهم يريدونه لتنفيذ تلك الجريمة.. ليحمل وزرها، وينجوا –هم- أمام الشعب، فرفض، ورد التحدي، وأفهمهم أن هذه الجريمة لن تتم وهو حي، عندها عاجله أحدهم بإطلاق الرصاص عليه، فقتل على الفور، وصعد إلى ربه مظلوماً!
ولكن المجرمين.. بعد أن وجدوا البطل أصبح جثة هامدة، هالهم الأمر، وحاروا كيف يغطون جريمتهم، فحمل وألقي من الطابق الثاني لمبنى الأركان.. وأشاعوا أنه "انتحر"، ونقل إلى المستشفى العسكري.. ثم سلمت جثته إلى ذويه، ومنعوا من تشريحها، كما أجبروا على دفنه سراً دون أن تكون له جنازة أسوة بأي إنسان آخر.. وذلك خشية افتضاح الأمر، وانقلاب الجنازة إلى ثورة ضدهم.
رحم الله كمال مقصوصة، فقد ذهب إلى ربه الذي نسأله أن يكتبه شهيداً من سادة الشهداء.. قال كلمة الحق في وجه سلطان جائر، فمنع باستشهاده تنفيذ جريمة خطط لها البعثيون.. وفوت عليهم ما دبروا.. فجزاه الله عن هذا الشعب كل خير.. وعوضه فسيح جناته، وجعله قدوة لغيره من الذين لم تستيقظ فيهم كوامن البطولة حتى اليوم.
رحم الله الشهيد.. ورحم الله كل الشهداء الذين ماتوا ثابتين صادقين.. ولا رحم الله الذين ماتوا فارين مولين الدبر.. وشلت أيدي المجرمين الذين نفذوا تلك الجريمة الفريدة في تاريخ الشعوب.
الفصل الثالث
نقاش الإثبات
"... صحيح أننا عملنا حتى الآن على تسهيل الحياة أمام مملكة تعيش بعيدة عن النفوذ السوفياتي، ولكن، في النهاية، تفرض علينا مصالحنا الاختيار..
نجد الآن أنه يوجد في سورية نظام بعثي.. وهو تحت النفوذ السوفياتي.
ولكن الواقع أن هدوءاً كاملاً يسود خطوط وقف إطلاق النار التي تفصل بيننا وبين هذه البلاد، وبتعبير آخر، وبغض النظر عن المفاهيم العقائدية، علينا أن ننظر إلى الأمور نظرة واقعية".
من تصريح آبا أيبان لمجلة "الاكسبريس" 22 نيسان 1968. عن كتاب (المسلمون والحرب الرابعة).
-1-
من الجانب العسكري
... قبيل الحرب وخلالها افتعلت أخطاء عسكرية في غاية الأهمية والخطورة، كان لها الأثر الذي نراه اليوم، من فجيعة تكاد تذهب بالعقول.. والأخطاء التي ارتكبت، سَوْقية (استراتيجية)، أو تعبوية (تكتيكية)، ما كان لها أن تقع، لو أن القيادة البعثية كانت حريصة حقاً على صون البلاد، لأن هذه الأخطاء، لا تصدر عن مطلق قائد، مهما بلغ من السذاجة أو السطحية والارتجال في ما يتخذ من قرارات. ونحن نناقش الآن أهم الأخطاء وأخطرها، وما كان لها من نتائج سببت النكبة.
1- عدم إعلان التعبئة العامة (النفير العام): وذلك يعني أن حزب البعث، لجأ لمواجهة تهديدات بالحرب يطلقها العدو الإسرائيلي، ويعلن خلالها أنه سيزحف لاحتلال دمشق..
مثل هذه التهديدات، وما تلاها من تحركات وأحداث بدأت تتلاحق في تصاعد مستمر، حتى بلغت نقطة "اللاعودة"، وأصبح في حكم المحقق الأكيد، وقوع الحرب، والصدام مع العدو.
رغم كل ذلك.. بقيت قيادة (السويداني وجديد والأسد وزعين، وماخوس وسادسهم الأتاسي، وكل الشركاء الآخرين في الجريمة).. هذه القيادة ظلت محتفظة "بهدوء أعصابها..!".، ولم "تؤثر التهديدات في خط سير الثورة".. تلك التهديدات.. "الصغيرة التافهة" التي يطلقها العدو.. "لتدعيم موقف عملائه من الرجعيين والأمبرياليين..(92)".
أقول: إن قيادة حزب العبث، لجأت لمواجهة ذلك الخطر المحقق، بتظاهرة دعائية مجرمة توهم أن القيادة تقوم بالحشد العسكري المطلوب.. بينما تركت الطاقات والقوى الحقيقية الفعالة والقادرة فعلاً على مواجهة العدو والتصدي له بأمانة وفعالية.. كل تلك القوى والطاقات، تركتها القيادة "البعثية" معطلة مشلولة، وكأنها دخيلة على الوطن، ولأن البعثيين ينظرون إلى هذه الطاقات، نظرة الريبة، ويرون فيها – لو جمعت وأطلقت يدها- مصدر خطر على وجودها واستمرارها في السلطة.
إن كل ما قامت سوريا (حزب البعث) باستنفاره من طاقاتها لمواجهة الحرب بعد أن تحقق وقوعها، هو ثلاثة ألوية احتياطية من ألوية المشاة، هي الألوية (80،123) والثالث لم أقف على اسمه.. وهذا يعني أن كل ما استنفر، لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل.. كان معظمهم من الاحتياطيين بعيدي العهد بالتدريب.. ثم عبئوا في وظائف وأعمال ليست اختصاصاً لهم.. ثم رغم كل ذلك.. كلفوا الهجوم على "صفد".
لقد استطاعت إسرائيل (حشد 11%) من طاقاتها المقاتلة للحرب ضد العرب(93)، وأن مبادئ النفير السليم تنص على أن من واجب أية دولة لمواجهة احتمالات الحرب، أن تعبئ ما لا يقل عن 10% من طاقاتها البشرية للقتال..
فإذا كان تعداد سكان سوريا لا يقل عن خمسة ملايين شخص، فإن من واجب الدولة أن تستنفر نصف مليون مقاتل وتضعهم في ظروف الاستعداد للحرب، ليؤدوا الأمانة المطلوبة.
ولزيادة الإيضاح، نؤكد أن نصف هذه النسبة على الأقل كان في وسع القيادة حشده واستنفاره لأن ما لا يقل عن ربع مليون من الرجال سبق له أن جند ودرب منذ تطبيق نظام التجنيد الإجباري في سوريا وحتى يوم المؤامرة..
إذن.. كان في وسع حزب البعث، أن يعبئ ربع مليون من المقاتلين في وجه إسرائيل على الأقل وهذا الـ "ربع مليون" فيه من أهل الاختصاص والخبرة عشرات الألوف من الضباط وضباط الصف والجنود، الذين سرحوا من الجيش خلال العهود السياسية المتعاقبة، فلم لم تستنفر هذه القوى لتؤدي دورها في الدفاع عن البلاد؟!!
هنا.. تقع أولى نقاط الاتهام، بحق المجرمين الذين صنعوا هذه النكبة.. ويدعم هذه التهمة تصريح خطير لقائد الجيش البعثي، يثبت الجريمة.. ويدين المجرمين..
فلقد صرح اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان العامة عشية الحرب، وبتاريخ 4/5/1967، خلال زيارته لتفقد القوات في الجبهة، وأمام جمع من ضباط الوحدات قائلاً: "إن القيادة لا تتوقع الصدام مع العدو.. وأن الذي ترونه يجري الآن، ما هو إلا تظاهرة عسكرية بالحشد".
2- حشد القوى الاحتياطية غير المدربة، وتعبئة العسكريين في ملاكات ووظائف ليست من اختصاصهم، في الوقت الذي تركت فيه العناصر الاختصاصية معطلة الفعالية، ومعزولة تماماً عن ميدان القتال... فكانت النتائج المذهلة التي رأينا.
إن أية قيادة، مهما كان رجالها جهلة أو مغفلين، لا يمكن أن تقدم على الذي فعلته قيادة حزب البعث، وأن هذا الذي فعلته لا نجد له تفسيراً إلا أنه الخيانة المدبرة مسبقاً والمرسوم لها أدق الخطط وأكثر التفصيلات لؤماً وسوء نية.
إن أية مؤسسة (حتى بائع الفول والحمص)، لا تسمح لغير المتخصص أن يمارس عملاً لا يفقهه أو لا يتقنه.. وهذا أمر طبيعي وبديهي.. فكيف تقدم قيادة جيش، ومن ورائها قيادة دولة على وضع قوات بكاملها، في مواجهة العدو –حتى ولو كان ذاك العدو ضعيفاً أو جاهلاً- وتكلفها بأخطر الواجبات القتالية.. وهي تعلم أن هذه القوات ليست إلا جمعاً متنافراً من الرجال- كما رسمت لذاك قيادة البعث- فاقداً لأبسط مستوى من التماسك والتعاون اللذين لا ينشآن عادة إلا بنتيجة التدريب المشترك الطويل؟.
كيف يكمن أن تقدم أجهزة دولة، وقيادتها، قوات للحرب عين فيها المتخصص بالهاون، رامياً لمدفع م/ط، أو الذي أمضى خدمته السابقة حاجباً أو خادماً في بيت أحد الضباط، رامياً لمدفع مضاد للدبابات؟
لا.. إن الذي حدث لم يكن أخطاء مبعثها الجهل أبداً.. فأجهزة النفير ومكاتبه التابعة لقيادة الجيش السوري لها من الخبرة والاختصاص ما جعلها تحقق – في أوائل الستينيات- أرفع مستوى في أعمال النفير وتعبئة الوحدات، عرفته دولة عربية على الإطلاق!.
والجداول الإحصائية، والسجلات الذاتية لكل من عاش في الجيش، تضم من المعلومات ما هو كاف وبدقة كافية، لتعطي من يستعملها أوضح معلومات عن اختصاص كل فرد في الوطن.. وبالتالي ما يمكنه من تعبئة هذه الاختصاصات في ميادين عملها، والوظائف التي تتيح لها أن تقدم أفضل إنتاج. فلم قامت أجهزة النفير خلال عهد حزب البعث بهذا العمل المجرم؟..
هذه أيضاً، النقطة الثانية من الاتهام ضد الحزب وأجهزته المتسلطة على الحكم.
3- حشد الألوية والوحدات المختلفة، في حدود ضيقة في الأرض، دون توفير الحماية الجوية لها..
لم أستطع الوقوف على رقم مقبول، أو تقدير معقول لخسائر العدو التي أصابته خلال دخوله الجولان، ولكني أستطيع الاستنتاج أن الخسائر عنده كانت قليلة، وأن أية خسائر مني بها إنما كانت من المقاومات الضارية في القلع، وتل العزيزيات، وتل الفخار، وتل شيبان، وحرش الجويزة، والرفيد، وقد كانت خسائره في الأرواح قليلة، أما خسائره في السلاح، والعتاد، فلقد كان مجموعها ما يقارب كتيبة دبابات، بسبب المقاومات التي ذكرت.
خسائرنا:
ضخمة جداً.. وتفوق حدود التصور في قيمتها وهولها.
1- فأول الخسائر، هو كرامة الشعب، وروحه القتالية، وقدرته على الصمود، وشرفه الذي ديس ولوث.
2- وثاني الخسائر، هو الأرض الكريمة الغالية الحبيبة، بكل ما فيها من كنوز وثروات.
3- وفيما عدا ذلك، فقد كانت الخسائر على الشكل التالي:
- في الأرواح، لم يتجاوز عدد القتلى 250 قتيلاً، كما لم يتجاوز عدد الجرحى 300 جريح، بينهم عدد من الضباط ذكرنا بعضهم اسماً، وحوالي سبعة أطباء.
- وأما الأسلحة: فحدث ولا حرج، فالمدفعية دمرت بكاملها، والمدافع المضادة للدبابات والطائرات ذهبت كلها بين مدمر أو غنيمة أخذها العدو بعد أن تركتها القوات، والأسلحة الأخرى، تركت كلها في الأرض، في العراء، جمع العدو قسماً منها، وجمع الفدائيون قسماً آخر، وجمع المهربون قسماً ثالثاً وباعوه، وقسم رابع وضئيل لا يزال مطموراً أو ملقى على الأرض وقد أكله الصدأ.
والمدفعية الصاروخية أصبحت كتلاً من الحديد الأسود المحروق.
وقاذفات اللهب، تركت سالمة للعدو ليستعملها ضد قواتنا وآلياتنا.
والدبابات.. دمر عدد منها لا يقل بمجموعه عن كتيبتين (40-50 دبابة)، وغنم العدو كتيبة دبابات برمائية تركها الجيش في الرفيد.
وأما الآليات.. فوا حسرتا عليها.
الآلاف منها دمر، ابتداءً من عربات الجيب... حتى الشاحنات الكبرى، مروراً بعربات الجند المدرعة.. مضافاً إليها عدد كبير من الشاحنات المدنية التي صادرتها السلطة لصالح الحرب، وأضف إلى ذلك، ما لا يقل عن ثلاثمائة صهريج بنزين، لا تقل قيمة الواحد منها عن 70 ألف ليرة سورية.
والطائرات.. دمر منها وأعطب عدد لم أستطع الوقوف عليه بدقة، وخربت مدارج الطائرات في كل من مطاري المزة، والضمير، وفي عدد من المطارات (السرية الأخرى).
وأخيراً.. المستودعات الهائلة الجبارة، بكل محتوياتها، من وقود، أو ذخيرة، أو مواد طبية أو أطعمة جافة أو ألبسة وتجهيزات ومفروشات..إلخ. ومن أبرز هذه المستودعات وأكثرها أهمية، هي مستودعات:
تل خنزير، الحميدية، جباتا الخشب، حرش عين زيوان، بقعاتا، خسفين.
الفصل الثاني
الوجه المشرق
"... وقد وقع أثناء انسحاب اللواء المدرع السوري حادث طارئ كشف عن مدى الخسائر التي كان يمكن إلحاقها بالمدرعات الإسرائيلية لو قامت الدبابات السورية بالهجوم المعاكس.
لقد تعطلت إحدى الدبابات بالصدفة، بعد تعطيل جنزيرها وكانت هذه الدبابة في أواخر الرتل السوري المنسحب، ولم يكن أمام قائد الدبابة إلا أن يحارب، فأدار مدفعه إلى الخلف، واستطاع من مكانه، وخلال دقائق معدودة أن يدمر ست دبابات ويوقف تقدم الإسرائيليين، واستنجد العدو بالطائرات فدمرت الدبابة السورية الشجاعة بصاروخ جوي، ولولا ذلك لاستطاعت تدمير 15 دبابة إسرائيلية على الأقل قبل أن تصاب وتحترق..".
(من رواية لضابط لبناني شهد المعركة صباح 9 حزيران نشرتها مجلة الحوادث اللبنانية، العدد 604، تاريخ 7/6/1968).
-1-
وجوه ناصعة للبطولة
وقد يعتقد البعض أن هذا الشعب قد فقد كل مقومات الأصالة والبطولة فيه.. وذلك، بعد الاطلاع على المخازي والجرائم التي حاولنا في صفحات سابقة، إبراز بعضها، والذي لم نستطع الوقوف عليه، أكثر وأدق وأعمق أثراً وأبعد خطراً..
ولكن الأصالة والنبل.. والشجاعة والرجولة، الصادقة غير المفتعلة، قادرة على إبراز وجودها، ولفت الأنظار إليها، وتحقيق فعالياتها القادرة على إصابة الباطل بشروخ خطيرة، مهما علا واستكبر، ومهما كان زيفه محبوكاً ودقيقاً.. بحيث خيل إليه أنه قد قضى على كل بذرة من بذور الحق الوضاء، والنور الكامن في النفوس.. القادر على رفع رأسه فوق كل سحب الظلام المفتعلة.
فهل عدمت الجبهة، رغم كل ذلك اللؤم والباطل.. عناصر وقفت بإباء ورجولة تدفع عنها طغيان ذلك السيل من خيانات المجرمين، وأرتال العدو الغازي الغريب؟
أبداً.. وكما في كل لحظة يأس.. وكما في كل صولة باطل.. يقف الحق، ليبعث البطولة في صور متعددة الأشكال.. وصيغ مختلفة الأحجام، هذه منها بعض النماذج:
1- لقد كانت في مقدمة تلك البطولات، التي ستبقى أبد الدهر، مفخرة لهذا الشعب.. ورمز كرامة وعزة الجيش هي بطولات وحدات المدفعية م/ط.. التي عملت في أسوأ الشروط التي أتيحت لها.. وحققت أعظم مردود كان يمكن لوحدات أفضل منها تدريباً وإعداداً.. أن تحققه، وساهمت مساهمة كبيرة في الحد من خطورة وفعالية طائرات العدو.. بعد أن غاب من الجو نسورنا، وعزلوا عن الحرب، ومنعوا من أداء واجبهم، وتركوا طاقات معطلة تغلي.. وهم يرون طائرات العدو تمرح في سماء البلاد.. وما من نسور تتصدى لها.
فالمدفعية المضادة للطائرات.. رغم حداثة عهدها.. ورغم ضعف تدريبها.. ورغم أن أكثر سدنتها كانوا من الاحتياطيين، ورغم أن أكثر ضباطها كانوا من غير الاختصاصيين.. فقد كان لها دور بطولي رائع، واستطاعت أن تمنع الطائرات المغيرة من تحقيق إصابات فعالة.. فوق كل هدف دافعت عنه وحداتها، وعملت بدون كلل.. وحققت المدافع أكثر من المردود المطلوب منها في المعدل الزمني الواحد، حتى احمرت سبطانات الكثير من المدافع لكثرة ما رمت وتشوه بعض هذه السبطانات ولم يكن لدى السدنة وقت كاف لتركيب السبطانات الاحتياطية.. وعجز المذخرون(90) عن حسن تلبية احتياجها، ووصلت إليهم الذخيرة مطلية بالشحم، ولكن ذلك لم يثن عزم الجميع، وقاموا بواجبهم خير قيام.
2- ومن روائع صور البطولة التي برزت، المقاومة الجبارة التي تصدت "للهجوم" المدرع الذي شنه العدو، وذلك حين اصطدم بنقطة استناد القلع.
دافع رجال هذا الموقع، كأفضل ما يمكن لرجال أن يدافعوا..
وكان القائد على رأس هذه القوة الصغيرة الرائد محمد سعيد يونس، واستطاعت هذه المقاومة الباسلة أن تحطم 36 دبابة، ولو نفذ الذي سبق أن قررته خطة العمليات، وقدمت لهذه المقاومة –وغيرها- الحماية والدعم، بالمدفعية والهجمات المعاكسة وكل أعمال القوات القتالية.. لتحطم الهجوم، وارتد المهاجمون، يلعقون جراحهم كالكلاب، ويلعنون قادتهم الذين زجوا بهم في وجه أولئك المردة من رجال الجيش السوري.
ولكن ما حيلة البطولة إن كانت وحيدة في وجه موجات متلاحقة من قوى الغزو الباغي؟.. وكيف يمكن للرجال الأشاوس أن يستمروا في ممارسة بطولاتهم.. ما دام قادتهم يمارسون مختلف صور الخيانة والغدر، بهم و بالبلاد ولقد استشهد الرائد البطل.. ومعه ضابط آخر..
فإلى هذا الرجل.. وكل الرجال الذين أدوا واجبهم.. سنؤدي واجب الشكر الآن.. وفي كل مناسبة ترجع فيها إلينا.. ذكرى صمودهم ... ومرارة الجريمة التي نفذت رغم إصرارهم على منع وقوعها..!
3- وليس للبطولة أن تقتصر على الضباط.. أو غيرهم من الرتب... فهي جوهر كريم.. قابع في كيان كل كريم.. يبرز باهراً الأبصار، متى أتيح له البروز.. سواء أكان صاحبه ضابطاً أم جندياً أم مدنياً.. فالبطولة والصمود، هما من نتاج الأصل الكريم.. والتربية البيتية الكريمة الأصيلة.. وليس للاختصاص أو الرتبة إلا تحديد مجال ظهورها، أو تحديد الحجم الذي يمكنه استيعابها.
ففي إحدى نقاط الدفاع، في تل شيبان.. قام مجند واحد.. نعم عسكري واحد، ومجند –من أبناء دير الزور- بتحطيم سبع دبابات للعدو.. وبماذا؟.. بسلاحه الفردي المضاد للدبابات، المسمى (القاذف ر.ب. ج).
4- وفي نقطة تل الفخار.. ذلك الموقع الذي ترك أثراً مريراً في قلوب القادة الإسرائيليين، طفحت به تصريحاتهم التي فاضلت على ألسنتهم أمام مراسلي الصحف الأجنبية المختلفة..
في ذلك الموقع.. صمد الرجال.. وليت كل الرجال مثلهم.. أدوا واجبهم بشرف ما فوقه شرف. وبروا بالقسم الذي سبق أن أدوه لأمتهم يوم ارتدوا لباس الجيش..
صمد الرجال.. بقيادة ضابطين، (النقيب نورس طه، وملازم أول لم يصل إلي اسمه)، وقاوموا بعناد لا نظير له.. ومنعوا قوات العدو المهاجمة من تخطي مجالات الرمي لأسلحتهم.. وقدمت هذه النقطة بفضل رجالها الأبرار.. أكرم وفاء لدين الأمة عليها.. ومات الرجال فيها، شهداء، أبراراً، كراماً، ولم يتم للعدو متابعة احتلال الأرض إلا على جثثهم.. وبعد نفاد ذخيرتهم, وانعزالهم وتطويقهم، وفقدان الاتصال بأي قائد مسؤول.. فأطبقوا جفونهم على ثرى الأرض الحبيبة، والأيدي مشدودة إلى الزنادات.. تشكو إلى الله، خيانة الذين أوقفوا رجالها عن متابعة الضرب.. حتى يرتد العدو الدخيل..
5- وفي سهل المنصورة، تصدى شابان من رجال المنصورة لرتل الدبابات المتقدم نحو القنيطرة، وأطلقا على عربة القائد، وعلى تجمعات القادة حوله، خلال إصداره أوامر التقدم لدخول القنيطرة.. فماذا كان؟
دب الذعر في صفوف الجبناء المتقدمين لاحتلال القنيطرة.. وتراجع رتل الدبابات الذي لا يقل عن 50 دبابة مسافة 3 كم إلى الوراء، واحتل الخط (باب الهوى- عين الحجل)، ثم انتشر بتشكيلة القتال، وأصدر قائد أوامر الهجوم.. (الأكاديمية وكأنه سيهاجم موقعاً حصيناً)، ثم تقدم مستعملاً كل طرق الحذر والترقب والاستعداد للتدخل، وقد شمل خط الفتح(91) المسافة الآتية: يميناً السفح الشمالي الشرقي لتل العرام (انظر الخريطة وهو شمال غرب تل أبي الندى)، ويساراً طريق الأوتوستراد الواصل ما بين المنصورة –الحميدية.. وتابعت قوات العدو زحفها بغاية البطء.. وقد حيرها صمت المقاومة التي انبعثت في وجهها فأجبرتها على التراجع.
ولما عادت وأشرفت على المنصورة.. طوقتها، وأخذ قائد الرتل يخاطب سكانها بمكبرات الصوت، ويطلب منهم الاستسلام.. ولما أعياه أن يجيب أحد، طلب أن يخرج إليه وفد من السكان.. فقابله بعضهم، وسأله عن القوات والجيش، فأخبره أن الجيش انسحب، ولم يبق في المنطقة أحد من القوات.
عندها سأله قائد الرتل الإسرائيلي عن المقاومة التي سببت له أن يتراجع عن تلك المسافة، فضحك المنصوري وأعلمه أن تلك كانت فورة حماس من شابين، حصلا على بندقيتين من أسلحة الجيش الفار، فأطلقا على الرتل الإسرائيلي وسببا له ذلك الذعر كله.
ولم تهدأ أنفاس القائد الغريب إلا حين اطمأن إلى أن ذينك الشابين قد تراجعا، وأن البلاد أصبحت خاوية على عروشها، ولم يبق فيها إلا من لم يستطع الفرار، أو الذين تشدهم الأرض إليها بارتباطات هي أعمق وأقوى من كل خطر.. حتى ولو كان خطر الاحتلال الصهيوني.. بلؤمه وخسته.
كان ذاك الحادث، في الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر السبت 10 حزيران.. وقد استغرق تراجع الرتل إلى خط الفتح عشر دقائق، بينما احتمل تقدمه (مجدداً) 5-6ساعات، اجتاز خلالها مسافة لا تزيد عن (3) كيلومترات في حدودها القصوى، وكان ذاك بعد إذاعة بلاغ سقوط القنيطرة من إذاعة حزب البعث.
وبلغ مجموع الخسائر التي ألحقتها بتلك القوة، رصاصات الشابين المذكورين ما لا يقل عن عشرة رجال بين قتيل وجريح.
6- في الساعة الرابعة من مساء الاثنين (بعد الظهر) 12 حزيران.. كانت تتقدم كتيبة دبابات إسرائيلية (40 دبابة)، على طريق (الرفيد –الجويزة –القنيطرة) وباتجاه القنيطرة.. وما إن وصلت مقدمة الرتل (سيارة القائد) إلى مشارف الحرش المحيطة بقرية (الجويزة)، حتى أصلته نيران المقاومة جحيماً أوقف الرتل بكامله، فتوقف، وانتشرت الدبابات واستنجد القائد بالطيران.. وجاءت طائرات (الهليوكوبتر) وفلحت أرض الحرش كله رشاشاتها.. حتى اطمأنت إلى إخماد المقاومة.. واستمر ذلك التوقف حتى صباح الثلاثاء 13 حزيران.. عندها عادت إلى قائد كتيبة الدبابات الإسرائيلية أنفاسه، وعاود التقدم لإكمال احتلال القنيطرة.
ولقد قام بعض الذين أعرفهم بسؤال النازحين من أبناء الجويزة، عن تلك المقاومة، التي عطلت إكمال احتلال القنيطرة مدة لا تقل عن 18 ساعة.. فعلموا أنه شاب من أبناء القرية، أطلق من إحدى البنادق التي وجدها كثيرة في الأرض (بنادق الجيش الهارب)، ولما نفدت الذخيرة التي كانت في البارودة، أكمل تراجعه باتجاه القنيطرة.. ثم دمشق..
7- وفي فترة الحرب، حشدت إحدى كتائب جيش التحرير الفلسطيني، في الرفيد، وقد تمكن بعض رجال هذه الكتيبة من إسقاط قاذفة إسرائيلية بأسلحتهم الفردية.. ولكن الطيار تخلى عن طائرته وسقط بالمظلة..
هرع بعض رجال الكتيبة لأسر الطيار.. فجاءت أربع طائرات مطاردة، وهاجمت الكتيبة، واضطرت الرجال إلى الاحتماء بالأرض تفادياً لنيرانها.. عندها استغلت تلك الفرصة طائرة هليوكوبتر للعدو، وأنقذت الطيار من الأسر أو القتل.
8- استطاع أحد ضباط الصف، من قوات المدفعية م/ط المتمركزة على (تل أبي الندى)، وهو المساعد عدنان الداغستاني قتل أحد الطيارين خلال هبوطه بمظلته، بعد إسقاط طائرته.. ثم استشهد المساعد فعليه رحمه الله ورضوانه..
9- وفي حرش الجويزة، كان واحد من الأبطال (مساعد لم يصل إلي اسمه) يعمل على مدفع مضاد للطائرات، استطاع إسقاط أربع طائرات ميستير بمدفعه وحده (عيار 5،14 مم رباعي السبطانات) ثم فاضت روحه الكريمة بعد أن هاجمته أربع طائرات ميراج بصواريخ النابالم فأحرقته ومدفعه.
10- ولا يفوتنا في حديثنا عن صور البطولة الرائعة التي برزت خلال تلك الأيام العصيبة، أن ننوه بالروح التي كانت من العسكريين المُسرَّحين. هؤلاء العسكريون، الذين سرحتهم سلطات حزب البعث، في نطاق خطتها التي اتفقت عليها مع الإسرائيليين، تمهيداً لوضع الجيش والشعب والبلاد كلها، في وضع صالح لتقبل الهزيمة.
العسكريون الذين لم ينج أكثرهم خلال حكم سلطة البعث، من العنت والأذى، تسريحاً ثم اتهاماً بالعمالة للأجنبي، أو مصادرة للأموال، أو ملاحقة وحرماناً من الراتب، أو سجناً وتعذيباً بلغ حدود التشويه في كثير من الحالات.. أو حكماً جائراً بالسجن أو بالنفي أو بالإعدام..
هؤلاء المسرحون... الذين دربهم الجيش ذخراً له لساعة من ساعات المحنة كالتي كانت يوم المسرحية التي أسموها حرباً..
هؤلاء العسكريون.. الذين أبعدوا عن حقل فعاليتهم الحقيقي، وعزلوا عن المشاركة في الحرب.. وحملوا فيما بعد –مع باقي فئات الشعب- أوزار الهزيمة التي لم يكن لهم فيها مطلق دور، ولم يسمح لهم بأي نشاط لمنعها أو وقفها عند حدود أقل مما كانت..
هؤلاء المسرحون.. لا لشيء، سوى أنهم رفضوا الموافقة على صفقة بيع الجولان، وتحدوا حزب البعث المجرم وحاولوا تنحيته لمنعه عن تأدية ذلك الدور الخطير..
رغم كل هذا وذاك.. لم ينسوا بلادهم وجيشهم وجولانهم الحبيب، يوم المحنة.. فتقدم أكثرهم إلى قيادة الجيش، واضعاً نفسه تحت تصرفها للدفاع عن البلاد، ولكن القيادة "شكرتهم" وطلبت منهم البقاء في بيوتهم.. وكأنهم من ذوات الخدور.
ولقد تنوعت صور البطولة خلال المحنة التي أنست هؤلاء كل جراحهم.. فجعلتهم يتقدمون للذود عن حياضهم.. رغم خيانة المجرمين.. أهل السلطة.
-فمنهم من تطوع في الدفاع المدني، للمساهمة في حماية المواطنين، والتخفيف من خسائر الحرب، وخاصة في المدن الكبيرة.
- ومنهم من التحق ببعض المنظمات الفدائية، للمساهمة في العمل على مؤخرات القوات الإسرائيلية، فيما إذا حاولت متابعة التوغل داخل البلاد.
- ومنهم من التحق بإحدى وحدات الاحتياط، طائعاً مختاراً.. وهؤلاء كانوا قلة، لأن التحاقهم يتوقف على موافقة القيادة، أولاً وأخيراً.. والقيادة لا ولن توافق إلا إذا اطمأنت إلى الذين يطلبون الالتحاق بالخدمة، بأنهم لن يعملوا ضدها.
- ومنهم من شكل –ببداهته- مجموعات للدفاع عن المدن، وخاصة دمشق، بعد أن هجرتها القوات والسلطات البعثية وتخلت عنها، وتركتها مفتوحة في وجه القوات الغازية.
- ومنهم من قابل بعض القادة المسؤولين في دمشق، وألحوا عليهم بوجوب تناسي الخلافات، ودعوة كل الضباط للخدمة في ذلك الظرف العصيب.. ولكنهم –هكذا أرى- كانوا يجهلون أنهم يطلبون الدفاع عن البلاد، من مجرمين يملكون كل التصميم والتخطيط المسبق لتسليمها إلى عدوها، مقابل ثمن بخس قبضوه، فاستحقوا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
- وحتى المشردين خارج البلاد، الملاحقين المحكومين كانوا يتحرقون ويتميزون غيظاً للقيام بواجبهم، فمن سبق منهم كان نصيبه السجن والمحاكمة، وكان من أبرز هؤلاء الأخوان (عبد الرحمن، وعلي السعدي)، ومنهم من اتصل بالقيادة العامة، وخاطبوا لضابط المناوب.. وقد سمى نفسه "الرائد شريف"، وأبلغوه أنهم يريدون العودة إلى البلاد، والدفاع عنها، فطلب منهم التريث، ثم عاود الاتصال معهم، وأبلغهم قرار القيادة برفض دخولهم إلى الأرض السورية، التي كانت – تلك القيادة تسلم منها جزءاً أغلى من حبة القلب إلى العدو الغريب الدخيل.
11- وفي ختام عرضنا لنماذج البطولة الصادقة، التي تأبى إلا أن تجد لها متنفساً في كل لحظة تطبق خلالها سوءات الجريمة، أو تحيق فيها الأخطار من كل جانب..
في ختام لحظات التسامي فوق مستوى الجريمة التي نفذها الفجار، وفي ساعة التجلي هذه، التي تبسط فيها البطولة أجنحتها فتظل المنكوبين، وتتسلل ذكرى الأبطال الذين أدوا ضريبة الرجولة.. فتلمس الجراح لمس الحنو المشبوب بالأمل في أن تعاود هذه الأمة الإنجاب..
في ختام هذا السرد الموجز، الذي استطعت الوقوف عليه من ملامح الأعمال البطولية التي أبرزت الوجه الحقيقي لهذه الأمة رغم ركام الخيانة والجريمة الهائل.
في هذا الختام.. الذي أراه مسك الختام لهذه الصفحات، لست أجد خيراً من المرور بإجلال واحترام، قريباً من ذكرى أخي الأبطال.. وكريم الرجال.. العقيد أركان حرب كمال مقصوصة، مبيناً حقيقة البطولة التي كلفته حياته.
ولم تبرز رجولة هذا الإنسان في ميدان الحرب، لأنه لم يرسل للحرب.. بل برزت في ميدان قولة الحق، الذي هو ميدان لصولات سادة الشهداء..
العقيد كمال مقصوصة ضابط من الذين عينوا في مراكز التجنيد، والذين تقع دعوة الاحتياط في حدود مسؤولياتهم.
ولقد استدعي إلى القيادة العامة (مبنى الأركان العامة في دمشق)، ليشهد اجتماعاً عقده الحزبيون.. ليقرروا سلسلة من الإجراءات والأعمال "للدفاع عن البلاد"، وذلك بعد سقوط القنيطرة، وبعد أن أصبحت دمشق مهددة بالغزو الإسرائيلي.
وفي خلال المناقشة، طالبوه بدعوة لواءي احتياط من أبناء (دمشق ، حمص، حماة، حلب). فاستغرب العقيد المذكور هذا الطلب.. ونبه القائد الذي يطالبه إلى أن دعوة الاحتياط لا يمكن أن تتم على أساس هذا التقسيم (أبناء المدن، ومن الطوائف غير العلوية)، وأن دعوة الاحتياط عادة تتم على أساس دعوة الألوية المعبأة سابقاً مثلاً (اللواء 90، اللواء 80، اللواء 60 احتياط.. إلخ).
أما دعوة الاحتياط، من أبناء مدن معينة، ومن أبناء طوائف معينة، واستثناء غيرهم من أبناء المناطق والطوائف الأخرى، فهذا أمر فريد من نوعه في تاريخ الجيش، ومستحيل التطبيق لأن أجهزة شعب التجنيد ومكاتب النفير، لا تملك الإحصاءات الجاهزة التي تمكنها من تنفيذ تلك الدعوة المريبة لبعض قوى الاحتياط.
عندها تصدى منطق التعصب والإجرام لمنطق الحق والإخلاص، فأصروا عليه أن ينفذ ما طلب منه وإلا.. ثم ألحقوه ببعض النعوت التي لا تليق بإنسان كريم..
... وجد العقيد المذكور – رحمه الله - أن الأمر مطبوخ مسبقاً، وأن هذه الجريمة الجديدة، معدة ومهيأة لوضع صفوة شباب هذه المدن في وجه القوات الإسرائيلية المتفوقة، بغية تركها للعدو فريسة يقضي عليها، وبذلك يتم لهم إذلال تلك المدن، والقضاء على أي أمل لديها بالمقاومة.. وأدرك كذلك أنهم يريدونه لتنفيذ تلك الجريمة.. ليحمل وزرها، وينجوا –هم- أمام الشعب، فرفض، ورد التحدي، وأفهمهم أن هذه الجريمة لن تتم وهو حي، عندها عاجله أحدهم بإطلاق الرصاص عليه، فقتل على الفور، وصعد إلى ربه مظلوماً!
ولكن المجرمين.. بعد أن وجدوا البطل أصبح جثة هامدة، هالهم الأمر، وحاروا كيف يغطون جريمتهم، فحمل وألقي من الطابق الثاني لمبنى الأركان.. وأشاعوا أنه "انتحر"، ونقل إلى المستشفى العسكري.. ثم سلمت جثته إلى ذويه، ومنعوا من تشريحها، كما أجبروا على دفنه سراً دون أن تكون له جنازة أسوة بأي إنسان آخر.. وذلك خشية افتضاح الأمر، وانقلاب الجنازة إلى ثورة ضدهم.
رحم الله كمال مقصوصة، فقد ذهب إلى ربه الذي نسأله أن يكتبه شهيداً من سادة الشهداء.. قال كلمة الحق في وجه سلطان جائر، فمنع باستشهاده تنفيذ جريمة خطط لها البعثيون.. وفوت عليهم ما دبروا.. فجزاه الله عن هذا الشعب كل خير.. وعوضه فسيح جناته، وجعله قدوة لغيره من الذين لم تستيقظ فيهم كوامن البطولة حتى اليوم.
رحم الله الشهيد.. ورحم الله كل الشهداء الذين ماتوا ثابتين صادقين.. ولا رحم الله الذين ماتوا فارين مولين الدبر.. وشلت أيدي المجرمين الذين نفذوا تلك الجريمة الفريدة في تاريخ الشعوب.
الفصل الثالث
نقاش الإثبات
"... صحيح أننا عملنا حتى الآن على تسهيل الحياة أمام مملكة تعيش بعيدة عن النفوذ السوفياتي، ولكن، في النهاية، تفرض علينا مصالحنا الاختيار..
نجد الآن أنه يوجد في سورية نظام بعثي.. وهو تحت النفوذ السوفياتي.
ولكن الواقع أن هدوءاً كاملاً يسود خطوط وقف إطلاق النار التي تفصل بيننا وبين هذه البلاد، وبتعبير آخر، وبغض النظر عن المفاهيم العقائدية، علينا أن ننظر إلى الأمور نظرة واقعية".
من تصريح آبا أيبان لمجلة "الاكسبريس" 22 نيسان 1968. عن كتاب (المسلمون والحرب الرابعة).
-1-
من الجانب العسكري
... قبيل الحرب وخلالها افتعلت أخطاء عسكرية في غاية الأهمية والخطورة، كان لها الأثر الذي نراه اليوم، من فجيعة تكاد تذهب بالعقول.. والأخطاء التي ارتكبت، سَوْقية (استراتيجية)، أو تعبوية (تكتيكية)، ما كان لها أن تقع، لو أن القيادة البعثية كانت حريصة حقاً على صون البلاد، لأن هذه الأخطاء، لا تصدر عن مطلق قائد، مهما بلغ من السذاجة أو السطحية والارتجال في ما يتخذ من قرارات. ونحن نناقش الآن أهم الأخطاء وأخطرها، وما كان لها من نتائج سببت النكبة.
1- عدم إعلان التعبئة العامة (النفير العام): وذلك يعني أن حزب البعث، لجأ لمواجهة تهديدات بالحرب يطلقها العدو الإسرائيلي، ويعلن خلالها أنه سيزحف لاحتلال دمشق..
مثل هذه التهديدات، وما تلاها من تحركات وأحداث بدأت تتلاحق في تصاعد مستمر، حتى بلغت نقطة "اللاعودة"، وأصبح في حكم المحقق الأكيد، وقوع الحرب، والصدام مع العدو.
رغم كل ذلك.. بقيت قيادة (السويداني وجديد والأسد وزعين، وماخوس وسادسهم الأتاسي، وكل الشركاء الآخرين في الجريمة).. هذه القيادة ظلت محتفظة "بهدوء أعصابها..!".، ولم "تؤثر التهديدات في خط سير الثورة".. تلك التهديدات.. "الصغيرة التافهة" التي يطلقها العدو.. "لتدعيم موقف عملائه من الرجعيين والأمبرياليين..(92)".
أقول: إن قيادة حزب العبث، لجأت لمواجهة ذلك الخطر المحقق، بتظاهرة دعائية مجرمة توهم أن القيادة تقوم بالحشد العسكري المطلوب.. بينما تركت الطاقات والقوى الحقيقية الفعالة والقادرة فعلاً على مواجهة العدو والتصدي له بأمانة وفعالية.. كل تلك القوى والطاقات، تركتها القيادة "البعثية" معطلة مشلولة، وكأنها دخيلة على الوطن، ولأن البعثيين ينظرون إلى هذه الطاقات، نظرة الريبة، ويرون فيها – لو جمعت وأطلقت يدها- مصدر خطر على وجودها واستمرارها في السلطة.
إن كل ما قامت سوريا (حزب البعث) باستنفاره من طاقاتها لمواجهة الحرب بعد أن تحقق وقوعها، هو ثلاثة ألوية احتياطية من ألوية المشاة، هي الألوية (80،123) والثالث لم أقف على اسمه.. وهذا يعني أن كل ما استنفر، لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل.. كان معظمهم من الاحتياطيين بعيدي العهد بالتدريب.. ثم عبئوا في وظائف وأعمال ليست اختصاصاً لهم.. ثم رغم كل ذلك.. كلفوا الهجوم على "صفد".
لقد استطاعت إسرائيل (حشد 11%) من طاقاتها المقاتلة للحرب ضد العرب(93)، وأن مبادئ النفير السليم تنص على أن من واجب أية دولة لمواجهة احتمالات الحرب، أن تعبئ ما لا يقل عن 10% من طاقاتها البشرية للقتال..
فإذا كان تعداد سكان سوريا لا يقل عن خمسة ملايين شخص، فإن من واجب الدولة أن تستنفر نصف مليون مقاتل وتضعهم في ظروف الاستعداد للحرب، ليؤدوا الأمانة المطلوبة.
ولزيادة الإيضاح، نؤكد أن نصف هذه النسبة على الأقل كان في وسع القيادة حشده واستنفاره لأن ما لا يقل عن ربع مليون من الرجال سبق له أن جند ودرب منذ تطبيق نظام التجنيد الإجباري في سوريا وحتى يوم المؤامرة..
إذن.. كان في وسع حزب البعث، أن يعبئ ربع مليون من المقاتلين في وجه إسرائيل على الأقل وهذا الـ "ربع مليون" فيه من أهل الاختصاص والخبرة عشرات الألوف من الضباط وضباط الصف والجنود، الذين سرحوا من الجيش خلال العهود السياسية المتعاقبة، فلم لم تستنفر هذه القوى لتؤدي دورها في الدفاع عن البلاد؟!!
هنا.. تقع أولى نقاط الاتهام، بحق المجرمين الذين صنعوا هذه النكبة.. ويدعم هذه التهمة تصريح خطير لقائد الجيش البعثي، يثبت الجريمة.. ويدين المجرمين..
فلقد صرح اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان العامة عشية الحرب، وبتاريخ 4/5/1967، خلال زيارته لتفقد القوات في الجبهة، وأمام جمع من ضباط الوحدات قائلاً: "إن القيادة لا تتوقع الصدام مع العدو.. وأن الذي ترونه يجري الآن، ما هو إلا تظاهرة عسكرية بالحشد".
2- حشد القوى الاحتياطية غير المدربة، وتعبئة العسكريين في ملاكات ووظائف ليست من اختصاصهم، في الوقت الذي تركت فيه العناصر الاختصاصية معطلة الفعالية، ومعزولة تماماً عن ميدان القتال... فكانت النتائج المذهلة التي رأينا.
إن أية قيادة، مهما كان رجالها جهلة أو مغفلين، لا يمكن أن تقدم على الذي فعلته قيادة حزب البعث، وأن هذا الذي فعلته لا نجد له تفسيراً إلا أنه الخيانة المدبرة مسبقاً والمرسوم لها أدق الخطط وأكثر التفصيلات لؤماً وسوء نية.
إن أية مؤسسة (حتى بائع الفول والحمص)، لا تسمح لغير المتخصص أن يمارس عملاً لا يفقهه أو لا يتقنه.. وهذا أمر طبيعي وبديهي.. فكيف تقدم قيادة جيش، ومن ورائها قيادة دولة على وضع قوات بكاملها، في مواجهة العدو –حتى ولو كان ذاك العدو ضعيفاً أو جاهلاً- وتكلفها بأخطر الواجبات القتالية.. وهي تعلم أن هذه القوات ليست إلا جمعاً متنافراً من الرجال- كما رسمت لذاك قيادة البعث- فاقداً لأبسط مستوى من التماسك والتعاون اللذين لا ينشآن عادة إلا بنتيجة التدريب المشترك الطويل؟.
كيف يكمن أن تقدم أجهزة دولة، وقيادتها، قوات للحرب عين فيها المتخصص بالهاون، رامياً لمدفع م/ط، أو الذي أمضى خدمته السابقة حاجباً أو خادماً في بيت أحد الضباط، رامياً لمدفع مضاد للدبابات؟
لا.. إن الذي حدث لم يكن أخطاء مبعثها الجهل أبداً.. فأجهزة النفير ومكاتبه التابعة لقيادة الجيش السوري لها من الخبرة والاختصاص ما جعلها تحقق – في أوائل الستينيات- أرفع مستوى في أعمال النفير وتعبئة الوحدات، عرفته دولة عربية على الإطلاق!.
والجداول الإحصائية، والسجلات الذاتية لكل من عاش في الجيش، تضم من المعلومات ما هو كاف وبدقة كافية، لتعطي من يستعملها أوضح معلومات عن اختصاص كل فرد في الوطن.. وبالتالي ما يمكنه من تعبئة هذه الاختصاصات في ميادين عملها، والوظائف التي تتيح لها أن تقدم أفضل إنتاج. فلم قامت أجهزة النفير خلال عهد حزب البعث بهذا العمل المجرم؟..
هذه أيضاً، النقطة الثانية من الاتهام ضد الحزب وأجهزته المتسلطة على الحكم.
3- حشد الألوية والوحدات المختلفة، في حدود ضيقة في الأرض، دون توفير الحماية الجوية لها..
تعليق