قراءة فى السنن الكونية والاجتماعية ( 2 )

تقليص

عن الكاتب

تقليص

ياسر منير مسلم اكتشف المزيد حول ياسر منير
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قراءة فى السنن الكونية والاجتماعية ( 2 )

    قراءة فى السنن الكونية والاجتماعية ( 2 )
    ياسر منير ( باحث بالدكتوراه " مقارنة أديان " - جامعة القاهرة )

    تناولنا فى المبحث الأول مفهوم السنن الكونية والاجتماعية في اللغة والاصطلاح القرآنى، و وجه العلاقة بين السنة الكونية والسنة الاجتماعية. وفى هذه الحلقة نتناول المبحث الثانى بتوفيق الله تعالى.


    المبحث الثاني: أهمية العلم بالسنن الكونية والاجتماعية وطرق استخلاصها:
    أ- أهمية العلم بالسنن
    إن حاجة المسلمين اليوم إلى فهم هذه السنن وفقهها، وحسن التعامل معها ، والتحكم فيها شديدة ؛ حتى يستعيدوا فاعليتهم وقدرتهم على التغيير والإصلاح والبناء ، وبذلك تنتفي العشوائية من حركتهم ، والفوضى الفكرية من عقولهم ، والإرجائية والجبرية من مواقفهم.
    وذلك لن يكون بطبيعة الحال إلا بالقضاء على التفسير (الخرافي) للوقائع الاجتماعية ، ولحركة الحضارة البشرية ، ورفع أسباب الخمود والهمود ، والركود والجمود ، التي عطلت العقول عن إدراك سنن الله ونواميسه في الكون والمجتمع ، والتي أخرجت الأمة المسلمة من تدافع عالم المادة والشهادة والحركة إلى حال من السلب والتواكل "، وشاعت فيها عقيدة الجبر والإرجاء التي انحرفت بركن القضاء والقدر إلى تعطيل قانون السببية تعطيلا كاملا .
    ولكي يكون المسلم فاعلا مؤثرا لا بد أن يكتشف هذه السنن والقوانين، ويحسن تسخيرها واستثمارها ، ويدرك كيفية التعامل معها ، فيصل إلى منزلة مغالبة القدر بقدر أحب إلى الله ، أو يفر من قدر الله إلى قدر الله كما قال الفاروق رضي الله عنه .
    وقد بين ابن القيم هذه الحقيقة بكلمة مضيئة فقال : ( بأن دفع القدر الذي وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله ، كدفع قدر المرض بقدر التداوي ، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة ، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان ؛ فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار ؛ لا استسلام لها وترك الحركة والحيلة فإنه عجز ، والله تعالى يلوم على العجز ) . إن العلم بهذه السنن المبينة في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة أمر مهم جدا ؛ بل واجب شرعا ودينا ؛ فلا بد أن ينبري من العلماء من يقوم بهذه الفريضة الشرعية والكفائية الغائبة ، لأنها جزء من الدين؛ فلا غرو أن نجد القرآن الكريم قد خصص مساحات واسعة قد تزيد عن نصف القرآن للتاريخ وسننه وقوانينه ، ومنحنا أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ البشري وفهم حركته .
    قال الإمام الألوسي في تفسير قوله تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) : «والمراد من( كل شيء) ما يتعلق بأمور الدين أي بيانا بليغا لكل شيء يتعلق بذلك ، ومن جملته أحوال الأمم مع أنبيائهم ». فدخل في جملة أمور الدين -عند الألوسي -أحوال الأمم التي جرت لهم مع أنبيائهم ، والعلم بها ضرورة لاجتناب المسالك التي تفضي إلى المهالك ، وحتى لا نقع فيها وقعوا فيه من ضلال الأفهام ، وزلات الأقدام .
    وقال الشيخ محمد رشيد رضا : «إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا ، يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم المدونة ؛ لنستمد ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه ،فيجب على الأمة في مجموعها ، أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه ؛ كما فعلو في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وبينها العلماء بالتفصيل ».
    ويقول في موضع آخر : « إن علماء الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار -الذين ورثوا الكتاب بالسليقة – كانوا يفهمون هذه السنن الإلهية في الخلق ويهتدون بها وإن لم يضعوا لها قواعد علمية وفنية لتفقيه من بعدهم فيها ؛ ثم زالت السليقة فصاروا يفسرون القرآن والدين بالقواعد والفنون والمعارف الموروثة من الشعوب التي أسلمت ، ولم يكن علم الاجتماع قد دونه أحد ، لذا لا نرى في تفسيرهم شيئا من هذه السنن الخاصة بسياسة الأمم ، بل تنكبوا هداية القرآن فيها ، فكانت عاقبة أمرهم ما شكوا منه ، ونحاول تلافيه.»
    وهكذا يكون العلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها ، وهو ليس بدعا من العلوم ؛ بل قواعده ثابتة في كتاب الله تعالى ، وأصوله مبثوثة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله وتقريراته ، وعمل الصحابة رضي الله عنهم الذين فقهوا التنزيل ، وأدركوا مراميه ومقاصده ، فصاروا يتصرفون في ضوء هداية السنن بطريقة عملية وتلقائية .
    وقد نبه على ذلك صاحب «تفسير المنار» فقال : « ولا يحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لهذا العلم ؛ فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية ، التي وضعت لها القواعد والأصول ، وفرعت منها الفروع والمسائل ، ولا شك أن الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن ، وعالمين بمراد الله من ذكرها. وما كانوا عليه من العلم بالتجربة والعمل ، أنفع من العلم النظري المحض ، وذلك وكذلك كانت علومهم كلها ، ولما اختلفت حالة العصر اختلافا احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الكلام وعلم العقائد وغيرها ، كانت محتاجة أيضا إلى تدوين هذا العلم ، ولك أن تسميه علم السنن الإلهية ، أو علم الاجتماع الديني ، أو علم السياسة الدينية ، سم بما شئت فلا حرج في التسمية ».
    وعلى هذا المهيع اللاحب جعلت مدرسة المنار علم السنن الإلهية علما شرعيا أصيلا، وإحدى الوسائل الضرورية من أجل فهم رشيد ، واستنباط سديد، لمعاني القرآن المجيد ، وهذا الأمر ليس معهودا عند المفسرين من قبل، فكانت هذه إضافة منهجية جديدة أضافتها هذه المدرسة في مجال الأدوات والمناهج العلمية المعتمدة في دراسة وتفسير القرآن الكريم.
    ويمكن الجزم أن واقع المسلمين اليوم من التخلف الحضاري ، والتدهور الاجتماعي ، وذهاب القوة والعزة والسلطان ، إنما يعزى إلى جهلهم بالسنن الإلهية في الآفاق والأنفس والمجتمعات ، ولا سبيل إلى التقدم والرقي والنهضة واستئناف الدورة الحضارية إلا بفهمها وفقهها ، وحسن التعامل معها ، وإتقان تسخيرها واستثمارها ، واستشراف مستقبلها.
    ب- طرق استخلاص السنن
    وهنا يرد سؤال هو : كيف نكشف هذه السنن والقوانين ، وكيف نستنبطها ونستخلصها ونستخرجها من مكامنها ؛ لنهتدي بمعالمها ، ونجني ثمارها ، ونوظفها في حياتنا الاجتماعية ؟
    الجواب : إن مصادر ومظان استخراج السنن ترجع إلى أربعة أصول :


    الأصل الأول : القرآن الكريم :
    القرآن الكريم كلية الشريعة ، وعمدة الملة ، وينبوع الحكمة ، وآية الرسالة ، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه ، ولا نجاة بغيره .
    ولذلك كانت السنن والقوانين مرتبطة ارتباطا وثيقا بوظيفة القرآن ؛ باعتباره كتاب هداية وعملية تغيير ، وإخراجا للناس من الظلمات إلى النور .
    فلا غرور –إذن- أننا نجده يقدم لنا أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ والمجتمع البشري ، والانتقال بهذا التعامل من مرحلة العرض والجمع فحسب ؛ إلى محاولة استخلاص القوانين التي تحكم هذه الساحة.
    وقد تضمن القرآن خلاصة السنن التي تحكم المجتمعات والأمم ؛ تارة نصا، وتارة فحوى ودلالة ، وتارة أخرى بما يعرض من القصص القرآني ؛ عن نهوض الأمم والحضارات وسقوطها ، وربط الأسباب بالمسببات ، والمقدمات بالنتائج ، بشكل أشبه ما يكون بالمعادلات الرياضية التي تحكم عالم المادة ؛ ليعتبر أولوا الأبصار .
    إن القصص القرآني نبع لا ينضب لاستخلاص السنن لمن رزقه الله الفهم والفقه ، وإلا فما فائدة هذا القصص الخالد إذا لم ينشئ عقلا مستنبطا للقوانين والسنن ؛ التي تحكم التجمع الإنساني ، وتتحكم بقيام وسقوط الحضارات ، هل هي حكايات لتجزية الوقت أسقطها الزمن وطواها التاريخ ؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية :«ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا ، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها . والاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره، كالأمثال المضروبة في القرآن، وهي كثيرة ».
    قلت : فذلك قوله تعالى آمرا بالاعتبار : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذين بين يديه وتفصيل لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يومنون ».
    وإذا كان ذلك كذلك؛ فإن المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى؛ في مجال الدراسات القرآنية المعاصرة ، ومناهج التفسير الحديث ، أن نتوجه صوب القصص القرآني بالقدر نفسه الذي نتوجه به نحو آيات الأحكام ، واستنبطنا منها هذه الكنوز العظيمة في مجال التشريع ، لنكتشف فقها حضاريا في إطار علوم الإنسان ، والقوانين الاجتماعية ، التي تحكم مسيرة الحياة والأحياء ، والتي تخلفنا فيها إلى درجة لا نحسد عليها.
    الأصل الثانى : السنة النبوية:
    البيان النبوي هو المصدر الثاني لاستخلاص السنن الكونية والاجتماعية بعد القرآن الكريم، ففيها من القصص ، وضرب الأمثال ، وأحاديث الفتن وأشراط الساعة ، والإخبار بالمغيبات والمستقبليات ،والتطبيقات النبوية ؛ ما يروي ظمأ الباحث عن هذه السنن .
    وللأسف فإن الباحثين والدارسين في هذا المجال ، اقتصروا على القرآن الكريم وأهملوا نصوص السنة إلا قليلا على سبيل الاستشهاد فحسب ، مع أن كلاهما وحي إلهي : البلاغ القرآني ، والبيان النبوي ، وبالرغم من الرصيد الضخم والكم الهائل لنصوص السنة النبوية في هذا المجال.
    الأصل الثالث : قراءة التاريخ:
    إن الكشف عن السنن التي تحكم الحركة الاجتماعية لا يتأتى إلا من السير في الأرض ، واستقراء التاريخ ؛ الذي هو المرآة التي تتجلى فيها سنن الله تعالى ؛ للإفادة منها للحاضر والمستقبل .
    والتاريخ في المنهج القرآني لا يسير بالصدفة ، ولا يتحرك عبثا وفوضى ، وإنما تحكمه سنن ونواميس كتلك التي تحكم الكون والحياة والأشياء سواء بسواء ، والوقائع التاريخية لا تجري اعتباطا ولا عشوائيا ، إنما تقوم على ارتباط أسبابها بمسبباتها ، وعللها بمعلولاتها، ونتائجها بمقدماتها .
    وهذا الفتح القرآني الجليل هو الذي استلهمه العلامة المؤرخ ابن خلدون في وضع مقدمته حيث فرق فيها بين ظاهر علم التاريخ وباطنه، فهو في ظاهره أحداث ووقائع لا يربطها رابط ولا يجمعها جامع ، ( وفي باطنه نظر وتحقيق ، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق ، وجدير بأن يعد في علومها وخليق) ، وبين ميزة كتابه عن المؤرخين قبله : أنه ( أعطى لحوادث الدول عللا وأسبابا ، وأصبح للحكمة صوانا ، وللتاريخ جرابا).
    هذا التأسيس الذي أسس به ابن خلدون لعلم الاجتماع ، طار كل مطار ، وقرع أبواب المدن والأمصار ، فاتجه الفكر الأوروبي بعد قرابة أربعة قرون ؛ في بداية ما يسمى بعصر النهضة ، إلى دراسة التاريخ والكشف عن سننه وقوانينه ، فقامت هناك أبحاث متنوعة ومختلفة حول فلسفة التاريخ ، ونشأت على هذا الأساس مدارس مثالية ومادية ومتوسطة ، نشأت لكي تجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون ، ولكن هذا الجهد البشري كله هو في الحقيقة مدين لهذا التنبيه القرآني .
    إن أحداث التاريخ تتكرر وتتشابه إلى حد كبير لأن وراءها سننا ثابتة تحركها وتكيفها ، ولهذا يقول الغربيون : التاريخ يعيد نفسه، وتقول العرب في أمثالها : ما أشبه الليلة بالبارحة ! ويقول الإمام البيهقي : ( لا توجد حادثة لم يحدث مثلها من قبل) ، ويقول ابن الأثير : ( إنه لا يحدث أمر إلا تقدم هو أو نظيره ).
    ولذلك حث القرآن الكريم على السير في الأرض حقيقة أو مجازا ؛ وعلى دراسة التاريخ المنظور أو المسطور ؛ ببصيرة نفاذة ، ووعي حاضر ؛ لاستخلاص العبر، واستنباط السنن، لتجنب مواقع الخطأ التي قادت الجماعات البشرية ، والأمم والحضارات السابقة إلى السقوط الحضاري ، والدمار الاجتماعي ، ولسلوك سبيل النهوض والبناء.
    ولتتأمل معي هذه الآيات :
    - ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) { آل عمران :137}.
    - ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ) { محمد : 10 }.
    - ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) { سورة : ق، الآيتان 36-37}.
    - ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) { الحج :46}.
    إن من نتائج هذه السياحة في الأرض والسير في أرجائها أن تنشئ عقلا سننيا، ووعيا تاريخيا ، يستمد القواعد الثابتة ، والسنن الجارية من حركة التاريخ نفسه،
    - وقال الله تعالى واصفا حال يهود بني النضير : ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المومنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ) { الحشر :2}
    فهذه الآية الكريمة تبين أسباب سقوط الأمم وانهيار الحضارات ؛ ليأخذ المسلمون حذرهم ؛ فلا تتسرب إليهم إصابات الأمم السابقة وعللها وأمراضها ، وقد جعل الفقهاء والأصوليون هذه الآية دليلا على حجية القياس الشرعي ، أي قيسوا حالكم بحالهم ، وأن ما حدث لهم سيحدث لكم ، إذا سلكتم طريقتهم ، وسرتهم سيرتهم ؛ وهذا هو المعنى المراد من هذا النص ؛ سواء قلنا مع الجمهور أن معنى ( فاعتبروا) قيسوا ، أو قلنا مع الظاهرية وابن حزم أن معناها واتعظوا.
    وفي أكثر من موضع يؤكد القرآن الكريم أن النظر والتأمل والبحث الموضوعي والعلمي في تاريخ البشرية ، إنما هو جهد مفيد جدا ، لن يكون مردوده إلا على الحاضر والمستقبل ؛ ولا يمكن فرض اتجاه معين على التاريخ ؛ والافتراض سلفا بأن الاقتصاد أو الدين أو الحكم أو الجنس أو ما أشبه، هو الموجه لمسيرة التاريخ ، كلا ، بل الصواب أن نسير في الأرض حقيقة أو مجازا ، وأن ندع التاريخ نفسه يتكلم ليفصح لنا عن سننه الباهرة .
    على أنه ليس المراد بالتاريخ ، تاريخ المسلمين فحسب ، بل تاريخ البشرية حيثما عرف ، وتاريخ الأمم في أي أرض كانت وفي أي عصر كانت ، وعلى أي ملة كانت ، مسلمة أو غير مسلمة ، فالعبرة لا تؤخذ من سير المؤمنين وحدهم ، بل تؤخذ من المؤمن والكافر ، ومن البر والفاجر ، لأن الفريقين تجري عليهما سنن الله تعالى بالتساوي ، ولا تحابي هذه السنن أحدا، شأنها شأن السنن والقوانين الطبيعية ، فقوانين الحرارة والبرودة ، والغليان والانصهار ، والضغط والانفجار ، قوانين كونية عامة ، تتعامل مع الموحدين تعاملها مع الوثنيين.
    فالتاريخ العام هو المصدر الأساسي للفقه الحضاري ، والمختبر الحقيقي لصواب الفعل البشري ،قال تعالى : ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كانت عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) فاكتشاف سنن السقوط والنهوض من لوازم البناء الحضاري ،والاصلاح المجتمعي .
    الأصل الرابع : فقه الواقع:
    عرف الإمام ابن القيم أحد نوعي فقه الواقع فقال : ( أحدهما : فهم الواقع ، والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بها علما).
    وإذا كان هذا التعريف يخص جانب الفقه التشريعي الذي يخضع للمنهج الاستنباطي؛ فإن فقه السنن أي الفقه الاجتماعي الحضاري يخضع للمنهج الاستقرائي لبلوغ نفس الغاية ( علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بها علما ) وفق تعبير العلامة ابن القيم .
    فبالمنهج الاستقرائي أي استقراء حركة الواقع وأحداث الحاضر الفوارة الموارة ، نكتشف السنن الجارية ، والقوانين الثابتة والمطردة التي تحكم هذا الواقع من نهوض وسقوط وتداول حضاري ، لأن البرهان والدليل على ثبات السنن واطرادها هنا يتحقق من الاستقراء ، وليس من الاستنباط ، ولعله هو المراد في تأكيد القرآن في غير ما موضع على ( السير في الأرض) ، واكتشاف السنن الحاكمة لحركة الحياة والأمم والحضارات .
    أما آلات هذا المنهج فهي ما أشارت إليه الآية الكريمة : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) قال الإمام ابن عطية الأندلسي في تفسير هذه الآية : ( فالله تعالى أخبر أنه أخرج ابن آدم لا يعلم شيئا ، ثم جعل حواسه التي قد وهبها له في البطن سلما إلى إدراك المعارف ) ،وفي تفسير الإمام القرطبي : ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) أي : ( تعلمون بها وتدركون ). قلت : وذلك عن طريق النظر والمشاهدة والتأمل والاستقراء والتجارب التي تفضي إلى استخلاص النتائج ، وصياغة القواعد.

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 9 أغس, 2023, 11:28 م
ردود 0
27 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
ابتدأ بواسطة عادل خراط, 17 أكت, 2022, 01:16 م
ردود 112
164 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عادل خراط
بواسطة عادل خراط
 
ابتدأ بواسطة اسلام الكبابى, 30 يون, 2022, 04:29 م
ردود 3
35 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عاشق طيبة
بواسطة عاشق طيبة
 
ابتدأ بواسطة عادل خراط, 28 أكت, 2021, 02:21 م
ردود 0
120 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عادل خراط
بواسطة عادل خراط
 
ابتدأ بواسطة عادل خراط, 6 أكت, 2021, 01:31 م
ردود 3
64 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عادل خراط
بواسطة عادل خراط
 
يعمل...
X