نقض افتراءات للتشكيك في مصدرية القرآن و دلالته على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

تقليص

عن الكاتب

تقليص

د/ربيع أحمد مسلم سلفي العقيدة اكتشف المزيد حول د/ربيع أحمد
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    شبهة من يزعم أن عدم قدرة الناس على مجاراة أسلوب القرآن ليس خصوصية للقرآن؛ لأن أسلوب كل قائل صورة نفسه ومزاجه فلا يستطيع غيره أن يحل محله


    يقول الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « سيقول السائل إذا انتهى معنا إلى هذا الموضع: لقد أغلقتم عنا بهذا البيان بابًا من الشك، ولكنكم لم تلبثوا أن فتحتم علينا منه بابًا جديدًا، ألم تقولوا لنا: إن هذه الصناعة البيانية ليست في الناس بدرجة واحدة، وإن القوى تذهب فيه متفاوتة على مراتب شتى، فما نرى إذًا علينا من حرج أن نعد الإعجاز الذي حدثتمونا عنه أمرًا مشاعًا يجري في أساليب الناس كما يجري في القرآن.


    ألا ترون أن كل قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه إليها فطرته ومواهبه؟ وأن اختلاف الناس في هذه الوسائل يتبعه البتة اختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم؟


    إنكم لتستطيعون أن تحصوا في اللغة العربية صورًا كلامية بعدة الناطقين بها، بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب كما يكتب كاتب آخر على السواء، ولا قائلًا كذلك.


    بل أنتم لا محالة واجدون عند كل واحد منهاجًا خاصًّا في الأداء؛ فليس البدوي كالحضري ، ولا الذكي كالغبي و ليس الطائش كالحليم ، ولا المريض كالسليم . وليس الأدنى في هذا الباب يستطيع الصعود إلى الأعلى، ولا الأعلى يستطيع النزول إلى الأدنى.


    بل المتشابهان فطرة ومزاجًا، المتساويان تربية وتعليمًا قد يشربان من كأس واحدة ثم لا يتناطقان بالكلام على صورة واحدة .


    فكيف تأمرون الناس أن يجيئوكم بمثل القرآن وهم لا يقدرون أن يجيء بعضهم بمثل كلام بعض؟ وكيف تعدون عجزهم عنه آية على قدسيته وأنتم لا تعدون عجز كل امرئ عن الإتيان بأسلوب غيره آية على أن ذلك الأسلوب صنع إلهي محض لا كسب فيه للذي جرى على لسانه؟


    أليس هذا القياس يسوغ لنا أن نفترض القرآن كلامًا بشريًّا كسائر كلام البشر، غير أنه اختص أسلوبه بصاحبه كما اختص كل امرئ بأسلوب نفسه؟


    وجوابنا لهذا القائل أن نقول له: لسنا نماريك في أن كلام المتكلم إنما هو صورة تمليها عليه فطرته ومواهبه، ولا في أن هذه الفطر والمواهب لتفاوتها عند أكثر الناس لا بد أن تترك أثرها من التفاوت في صورة كلامهم، ولا في أن تلك الفطر والمواهب إن تشابهت عند فريق من الناس فأملت عليهم صورًا متشابهة من القول فإنها لا تخرجها في عامة الأمر صورة واحدة .


    كل هذا نسلمه ولا ننكره، ولكنه لا يضرنا ولا يوهن شيئًا من حجتنا؛ ذلك أننا حين نتحدى الناس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية، كلا، ذلك ما لا نطمع فيه، ولا ندعو المعارضين إليه، وإنما نطلب كلامًا أيًّا كان نمطه ومنهاجه، على النحو الذي يحسنه المتكلم أيًّا كانت فطرته ومزاجه .


    بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية حاذاه أو قاربه في ذلك المقياس وإن كان على غير صورته الخاصة، فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء، وفيه يتماثلون أو يتقاربون. وذلك غير المعارض والصور المعينة التي لا بد من الاختلاف فيها بين متكلم ومتكلم .


    فإن عسر عليك أن تفهم كيف تجيء المماثلة مع هذا الاختلاف ضربنا لك مثلًا ؛ قومًا يستبقون إلى غاية محدودة، وقد اتخذوا لذلك مجالًا واسعًا لا يزاحم بعضهم فيه بعضًا ، و لا يضع أحدهم قدمه على موضع قدم صاحبه، بل جعل كل منهم يذهب في طريقه الخاص به موازيًا لقِرنه في المبدأ والوجهة.


    ثم يكون منهم المجلي والمصلي، والمقفي والتالي، ويكون منهم من لا حظَّ له في الرهان. ويكون منهم المتكافئون المتعادلون. وهكذا تراهم وهم مختلفو المنازل يقع بينهم التماثل كما يقع بينهم التفاضل بنسبة ما قطعه كل منهم من طريقه إلى الغاية المشتركة .


    فكذلك المتنافسون في حلبة البيان يعمد كل منهم إلى الغرض من الطريق التي يرضاها، وعلى الوجه الذي يستمليه من نفسه، ثم يقع بينهم التماثل أو التفاضل على قدر ما يوفون من حاجة البيان أو ينقصون منها، وإن اختلفت المذاهب التي انتحاها كل منهم .


    هب -إذًا- المدعوين لمعارضة القرآن فيهم الأكفاء والأنداء لنبي القرآن في الفطرة والسليقة العربية ، أو من هم أكمل منه فيها، أو هبهم جميعًا دونه في تلك المنزلة. فأما الأعلون فسيجيئون على وفق سليقتهم بقول أحسن من قوله. وأما الأنداد فسيجيئون بشيء مثله. وأما الآخرون فلن يكبر عليهم أن يقاربوا ويجيئوا بشيء من مثله، وشيء من هذه المراتب الثلاث لو تم لكان كافيًا في رد الحجة وإبطال التحدي » [1].




    كَيفَ يكون الْقُرْآن معجزا وَهُوَ غير خَارج عَن حُرُوف المعجم ؟



    قال أبو بكر الباقلاني :«فَإِن قَالُوا كَيفَ يكون الْقُرْآن معجزا وَهُوَ غير خَارج عَن حُرُوف المعجم الَّتِي يتَكَلَّم بهَا الْخلق من أهل الفصاحة والعي واللكنة قيل لَهُم لَيْسَ الإعجاز فِي نفس الْحُرُوف وَإِنَّمَا هُوَ فِي نظمها وإحكام رصفها وَكَونهَا على وزن مَا أَتَى بِهِ النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - »[2] .


    و قال الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « شبهة من قد يظن أن القرآن إن كان معجزًا فليس إعجازه من ناحيته اللغوية ؛ لأنه لم يخرج عن لغة العرب في مفرداته ولا في قواعد تركيبه فإن قال: قد تبينتُ الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزًا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن سرًّا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم .

    ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظان هذ السر ؛ لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية : فمن حروفهم رُكِّبَتْ كلماتُه . و من كلماتهم أُلفت جمله وآياته ، و على مناهجهم في التأليف جاء تأليفه .


    فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟


    قلنا له : أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار ﴿
    وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾ .


    وأما بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعة، وسقفًا موضوعة، وأبوابًا مشرعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، و أكنها للناس من الحر والقر .


    و في تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة ، وترتيب الحجرات والأبهاء ، بحيث يتخللها الضوء والهواء، فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء.. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتًا بعيدًا .


    كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول ، و ما من كلمة من كلامهم و لا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة .


    و لكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتغشى منه نفسك، وينفر منه طبعك .


    ذلك أن اللغة فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وفيها العبارة والإشارة والفحوى والإيماء، وفيها الخبر والإنشاء، وفيها الجمل الاسمية والفعلية، وفيهاالنفي والإثبات، وفيها الحقيقة والمجاز، وفيها الإطناب والإيجاز، وفيها الذكر والحذف، وفيها الابتداء والعطف، وفيها التعريف والتنكير، وفيها التقديم والتأخير، وهلم جرا..


    ومن كل هذه المسالك ينفذ الناس إلى أغراضهم، غير ناكبين بوضع منها عن أوضاع اللغة جملة، بل في شعابها يتفرقون، وعند حدودها يلتقون .


    بيد أنه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يحمل في كل موطن، وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن، إذًا لهان الأمر على طالبه، ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا، وفي سمعهم نغمة واحدة. كلا، فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينًا، ويقصر بك عن غايتك حينًا آخر .


    ورب كلمة تراها في موضع كالخرزة الضائعة ثم تراها بعينها في موضع آخر، كالدرة اللامعة فالشأن إذًا في اختيار هذه الطرق أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض، وأيها أقرب توصيلًا إلى مقصد مقصد .


    ففي الجدال أيها أقوم بالحجة، وأدحض للشبهة، وفي الوصف أيها أدق مثيلًا للواقع، وفي موطن اللين أيها أخف على الأسماع وأرفق بالطباع، وفي موطن الشدة أيها أشد اطلاعًا على الأفئدة بتلك النار الموقدة، وعلى الجملة أيها أوفى بحاجات البيان وأبقى بطراوته على الزمان .


    والأمر في هذا الاختيار عسير غير يسير ؛ لأن مجال الاختيار كثير الشعب، مختلف الألوان في صور المفردات والتراكيب، والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الألوان، فضلًا عن الموازنة بينها، فضلًا عن حسن الاختيار فيها، فرب رجلين يهتدي أحدهما إلى ما غَفَل عنه صاحبه، ويغفل كل منهما عما هدي إليه الآخر، ورب وجه واحد يفوتك ها هنا يعدل وجهين تحصلهما هناك، أو بالعكس .


    وعن جملة الملاحظات التي يلاحظها القائل في قوله ، تتولد صورة خاصة مثلها في هذه المركبات المعنوية مثل "المزاج" في تلك المركبات العنصرية المادية، وهذا "المزاج" هو الذي نسميه بالأسلوب أو الطريقة، وعلى حسبه يقع التفاوت في درجات الكلام وفي حظه من الحسن والقبول .


    فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة .


    ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين. لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِوَلًا.. وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان .


    هذا مطلب له دليله، وإجمال له تفصيله ، وليس من قصدنا أن نعجلك الآن بالبحث في أدلته وتفاصيله ، وإنما أردنا أن نزيح عنك هذه الشبهة لتعلم أن ليس كل كلام عربي ككل كلام عربي، وأن هذه الناحية اللغوية جديرة بأن تتفاوت فيها القوى نازلة إلى حد العجز، أو صاعدة إلى حد الإعجاز » [3] .

    _____________________


    [1]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 123 - 125
    [2] - تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 178
    [3]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 118 - 121

    التعديل الأخير تم بواسطة محب المصطفى; 1 ماي, 2013, 10:00 م. سبب آخر: تنسيق
    د. ربيع أحمد طبيب بشري قليل التواجد في المنتدى
    بعض كتاباتي على الألوكة
    بعض كتاباتي على المختار الإسلامي

    تعليق


    • #17
      كَيفَ لَزِمت حجَّة الْقُرْآن غير العرب و هم لا يعلمون اللغة العربية ؟



      قال أبو بكر الباقلاني : « فَإِن قَالُوا كَيفَ لَزِمت حجَّة الْقُرْآن الْهِنْد وَالتّرْك وهم لَا يعْرفُونَ أَن مَا أَتَى بِهِ معجز قيل لَهُم من حَيْثُ إِنَّهُم إِذا فتشوا علمُوا أَن الْعَرَب الَّذين بعث فيهم النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانُوا أفْصح النَّاس وأقدرهم على نظم الْكَلَام الْعَرَبِيّ وَأَنَّهُمْ النِّهَايَة فِي هَذَا الْبَاب .


      وَأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِك أحرص النَّاس على تَكْذِيبه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنه نَشأ مَعَهم وَأَنَّهُمْ يعْرفُونَ دخيلته وَأهل مُجَالَسَته فِي ظعنه وإقامته وَأَنه مَا كَانَ يَتْلُو من قبله من كتاب وَلَا يخطه بِيَمِينِهِ وَأَنه مَعَ ذَلِك كُله أجمع تحداهم بِمثلِهِ أَو بِسُورَة من مثله مُجْتَمعين أَو مفترقين فعجزوا عَن ذَلِك أجمع كَمَا أَن حجَّة مُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَام - قَائِمَة على من لَيْسَ بساحر وَلَا طَبِيب لعلمه بِأَنَّهُمَا تحديا أطب النَّاس وأعظمهم سحرًا بِمثل مَا أَتَيَا بِهِ فعجزوا عَن ذَلِك مَعَ الْحِرْص على تكذيبهما والإتيان بِمثل مَا أَتَيَا بِهِ »[1] .





      من أَيْن يعلم أَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - تحدى الْعَرَب أَن تَأتي بِمثلِهِ وطالبهم بذلك ؟



      قال أبو بكر الباقلاني : « فَإِن قَالَ قَائِل من أهل الْملَل وَغَيرهم من أَيْن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحدى الْعَرَب أَن تَأتي بِمثلِهِ وطالبهم بذلك قيل لَهُم يعلم ذَلِك اضطرارا من دينه وَقَوله كَمَا نعلم وجوده وظهوره و كما نعلم وجود الْقُرْآن نَفسه اضطرارا .


      هَذَا على أَنه فِي نَص التِّلَاوَة نَحْو قَوْله : ﴿
      فَأتوا بِسُورَة من مثله ﴾ ، و ﴿ قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ ﴾ وَهَذَا غَايَة التحدي والتقريع وَقد وصل قَوْله : ﴿ فَأتوا بِسُورَة من مثله﴾ بقوله : ﴿ وَادعوا شهداءكم من دون الله ﴾ فَلَا مُتَعَلق لأحد فِي هَذَا الْبَاب »[2] .





      كَيفية إبطال حجَّة من أَتَى بِكَلَام منظوم وَزعم أَنه مثل الْقُرْآن



      قال أبو بكر الباقلاني : « فَإِن قَالُوا كَيفَ تبطلون حجَّة من أَتَى بِكَلَام منظوم وَزعم أَنه مثل الْقُرْآن و عروضه قيل لَهُ لعلمنا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمثل لَهُ وَلَا من جنس نظمه فَإِن قدر على ذَلِك قَادر فليأت بِهِ لنريه أَنه خلاف لَهُ ونعلم ذَلِك بعجز الْعَرَب أَيْضا عَن مُعَارضَة الْقُرْآن مَعَ الْعلم بِأَنَّهُم أفْصح الفصحاء وأبلغ البلغاء وأشعر وأخطب من على وَجه الأَرْض مِمَّن تكلم بلسانهم بعدهمْ فتعلم بذلك تعذر معارضته على من بعدهمْ »[3] .




      فرية أن القرآن شعر أو أن القرآن سحر



      يريد بعض المغرضين أن يقدح في إعجاز القرآن فيقول القرآن ليس كلاما معجزا فما هو إلا ضرب من ضروب الشعر أو ضرب من ضروب السحر ،و كل من له ذوق في اللغة و الفهم يعلم أن القرآن كلام منثور لكنه معجز ليس كمثله كلام ؛ لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء .


      وما هو بالشعر ولا بالسحر ؛ لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه وقانونه ورسمه والقرآن ليس منه .


      ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلا من نفس خبيثة ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمدية وسموها ونبلها إذ كانوا أعلم الناس به وأعرفهم بحسن سيرته وسلوكه .


      وقد نشأ فيه وشب وشاب بينهم هذا إلى أن القرآن كله ما هو إلا دعوة طيبة لأهداف طيبة لا محل فيها إلى خبث ورجس بل هي تحارب السحر وخبثه ورجسه وتسمه بأنه كفر إذ قال : ﴿
      وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ﴾ .


      ثم إن السحر معروف المقدمات والوسائل فليس بمعجز ولا يمكنه ولن يمكنه أن يأتي في يوم من الأيام بمثل هذا الذي جاء به القرآن [4] .


      و قال ابن الوزير : « ولو كانت الفصاحة من مقدورات السّحرة, وحيل حذّاقهم المهرة لقدروا بذلك على معارضة القرآن, فكيف وقد عجزوا عن يسير البيان ! فأكثرهم لا يعرف وزن بيت من أيّ الأوزان, ولا يدري كيف الجولان في هذا الميدان! فانظروا في هذه المعجزة العظيمة الباقية على مرّ الدّهور الطويلة, التي أخرست مهرة الكلام من العرب وأسكنتهم وأردت فرسان البلاغة فنكستهم, أظهر الله به عجزهم, وأبطل به عزاهم وعزّهم »[5] .

      ____________________

      [1]- تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 181
      [2]- تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 183
      [3]- تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 184
      [4] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/311
      [5]- الرَّوضُ البَاسمْ في الذِّبِّ عَنْ سُنَّةِ أبي القَاسِم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – 2/592
      التعديل الأخير تم بواسطة محب المصطفى; 1 ماي, 2013, 10:03 م. سبب آخر: تنسيق
      د. ربيع أحمد طبيب بشري قليل التواجد في المنتدى
      بعض كتاباتي على الألوكة
      بعض كتاباتي على المختار الإسلامي

      تعليق


      • #18
        تفاهة معارضة مسيلمة و أمثاله للقرآن



        قال الآمدي – رحمه الله - : « وَمِنْهُم[1] من حمله فرط جَهله وقصور عقله على الْمُعَارضَة و الإتيان بِمثلِهِ كَمَا نقل من ترهات مُسَيْلمَة في قَوْله : الْفِيل والفيل وَمَا أَدْرَاك مَا الْفِيل لَهُ ذَنْب طَوِيل وخرطوم وثيل .


        وَقَوله : والزارعات زراعا فالحاصدات حصدا والطاحنات طحنا إِلَى غير ذَلِك من كَلَامه وَلَا يخفى مَا فى ذَلِك من الركاكة والفهاهة وَمَا فِيهِ من الدّلَالَة على جهل قَائِله وَضعف عقله وسخف رَأْيه حَيْثُ ظن أَن هَذَا الْكَلَام الغث الرث الذى هُوَ مضحكة الْعُقَلَاء ومستهزأ الأدباء معَارض لما أعجزت الفصحاء معارضته وأعيه الألباء مناقضته من حِين الْبعْثَة إِلَى زَمَاننَا هَذَا »[2].


        و قال عبد العزيز آل معمر – رحمه الله - : « ولقد رام بعض سخفاء العقول محاكاة بعض قصار المفصل، فأتى من الهذيان بالعجب العجاب ، كقول مسيلمة الكذاب اللعين : " يا ضفدع كم تنقين، أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين ".


        فلما سمع أبو بكر الصديق هذا الكلام قال: " إنه كلام لم يخرج من إل ". قيل: " الإل " بالكسر هو الله - تعالى - وقيل: " الإل " بالأصل: الجيد. أي لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن .


        ولما سمع مسيلمة والنازعات قال : " والزارعات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، و الطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، و اللاقمات لقما ، لقد فضلتم علي أهل الوبر ، و ما سبقكم أهل المدر ".


        وقال معارضا لسورة الكوثر : " إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر ".


        وكقول الآخر: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين شراسيف وحشا ".
        وقال آخر: " الفيل وما الفيل وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، وشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل ".


        وهذا كلام فيه من السخافة ما لا خفاء به على من لا يعلم ، فضلا عمن يعلم .


        ثم جاء جماعة من المتأخرين ممن انتهت إليهم الرياسة في الفصاحة ، فتعرضوا لمعارضته ، كابن المقفع و المعري و المتنبي ، ونظراء لهم ، فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع ، وتنبو عنه الطباع ، و نادى عليهم بالخزي و الانقطاع ، وصيرهم مثلة و سخرية و ضحكة إلى أن تاب أكثرهم ، وأظهر ندمه ونسكه
        »[3] .


        يقول محمد الزرقاني – رحمه الله - : « يذكر التاريخ أن مسيلمة الكذاب رغم أنه أوحي إليه بكلام كالقرآن ثم طلع على الناس بهذا الهذر إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر .


        وبهذا السخف والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا وأنت خبير بأن مثل ذلك الإسفاف ليس من المعارضة في قليل ولا كثير .


        وأين محاكاة الببغاء من فصاحة الإنسان وأين هذه الكلمات السوقية الركيكة من ألفاظ القرآن الرفيعة ومعانيه العالية وهل المعارضة إلا الإتيان بمثل الأصل في لغته وأسلوبه ومعانيه أو بأرقى منه في ذلك ؟ »[4] .

        و المتتبع لكلام من توهم أنه قد عارض القرآن كمسيلمة نجد كلامه لا يخلو من تفاهة و سفه فهو يأتي بآيات من القرآن الكريم فيسرق أكثر ألفاظها و يبدل بعض ألفاظها أو يأتي بكلام على وزن الكلمات القرآنية بألفاظ سوقية و معان سوقية فهذا من قبيل المحاكاة ، وليست من المعارضة في شيء ، ليست معارضة الكلام أن تحاكيه تأخذ كلمة وتضع بدلها كلمة أخرى وتستخدم نفس الوزن والتحدّي كان بسورة مِن مثل القرآن في الألفاظ و المعاني و النظم و الجمال اللغوي و الجمال الصوتي ، و لم يكن التحدّي بكلام مسجوع .


        و المعارضة أن تعمد إلى معنى من المعاني فتؤديه نفسه بأسلوب آخر يوازي الأصل في بلاغته أو يزيد أي المعارضة هي أن تأتي بمقصود الشخص الذي قال الكلام الأول ، تأتي بمقصوده و لكن بعباراتأفصحمن يحاول ذلك في المعاني القرآنية فإنما يحاول محالًا ، و التجربة أصدق شاهد .


        وإني أسئل من يتوهم القدرة على معارضة القرآن رغم أن فصاحته لا شك أدنى بكثير من فصاحة العرب الأوائل لماذا لم تحاول قريش مع عنادها وإيذائها للنبي - صلى الله عليه وسلم - معارضة القرآنمع أنها أفصح قبائل العرب أو على الأقل من أفصح قبائل العرب ، وكانت تعرف للكلمة قيمتها و كانت تعرف الكلام الفصيح من غيره و قد آوت المعلقاتالسبع وعلقتها بالكعبة ؟!!


        و لماذا لم تحاول قبائل العرب الأخرى كبني سعد وحمير وغيرها من قبائل العربالمشهورة بالفصاحة معارضة القرآن ؟!

        و كان العرب في الجاهلية ليس لهم ثقافة غير الشعر و النثر و الخطابة والتجارة فلماذا عجزوا عن معارضة القرآن ثم يأتي من لا فقه له باللغة فيزعم أنه عارض القرآن ؟! .

        و الذي يقرأ قول مسيلمة : (( إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر )) يجد أن مسيلمة - عليه من الله ما يستحقه - قد سرق كثير من ألفاظ سورة الكوثر فالكلام منحول من سورة الكوثر و بدل بعض الألفاظ و ليس في كلامه النظم الجميل و لا مسحة من جمال لغوي و لا مسحة من جمال صوتي و هذا الكلام لا يماثل القرآن في شيء و إنما هو ضرب من الاقتباس من القرآن مع التصرف .



        و الذي يقرأ قول مسيلمة - عليه من الله ما يستحقه - : (( والزارعات زرعا ، و الحاصدات حصدا ، و الذاريات قمحا ، و الطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، و اللاقمات لقما ، لقد فضلتم علي أهل الوبر ، و ما سبقكم أهل المدر ))[5] )) يجد أن مسيلمة قد أتى بألفاظ سوقية على وزن كلمات سورة النازعات ، و قال الشعراوي – رحمه الله - : « هذا الكلام لوناً من هراء فارغ ؛ لأن الحق إنما أنزل كلامه موزونا جاذباً لمعانٍ لها قيمتها في الخبر »[6] .


        و ما ذكره مسيلمة- عليه من الله ما يستحقه - من هذا الكلام الركيك في غاية التهافت ، و لا يحمل أي معنى بلاغي لإيصال معنى مفيد و المعارضة بين كلامين إنما تكون معارضة إذا كان بينهما مقاربة ومداناة بحيث يلتبس أحدهما بالآخر أو يكون أحدهما مقاربا للآخر .


        و يقول الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « شبهة غِرٍّ ناشئ يتوهم القدرة على محاكاة القرآن فأما إن كان مثار الشبهة عنده أنه زاول شيئًا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارًا في البيان فوسوس له شيطان الإعجاب بنفسه والجهل بالقرآن أنه يستطيع الإتيان بمثل أسلوبه ، فذلك ظن لا يظنه بنفسه أحد من الكبار المنتهين ، و إنما يعرض -إن عرض- للأغرار الناشئين .


        ومثل هذا دواؤه عندنا نصح نتقدم به إليه أن يطيل النظر في أساليب العرب، وأن يستظهر على فهمها بدراسة طرف من علوم الأدب، حتى تستحكم عنده ملكة النقد البياني، و يستبين له طريق الحكم في مراتب الكلام وطبقاته ، ثم ينظر في القرآن بعد ذلك .


        وأنا له زعيم بأن كل خطوة يخطوها في هذه السبيل ستزيده معرفة بقدره ، وستحل عن نفسه عقدة من عقد الشك في أمره ؛ إذ يرى هنالك أنه كلما ازداد بصيرة بأسرار اللغة، وإحسانًا في تصريف القول ، وامتلاكًا لناصية البيان ، ازداد بقدر ذلك هضمًا لنفسه، وإنكارًا لقوته، وخضوعًا بكليته أمام أسلوب القرآن ، وهذا قد يبدو لك عجيبًا، أن يزداد شعور المرء بعجزه عن الصنعة بقدر ما تتكامل فيها قوته ويتسع بها علمه .


        ولكن لا عجب، فتلك سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه: لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها وثقة بالعجز عنها. ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها، ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون .


        فإن أبى المغرور إلا إصرارًا على غروره، وكبُر عليه أن يُقر بعجزه وقصوره، دعوناه إلى الميدان ليجرب نفسه و يبرز قوته ، و قلنا له : أخرج لنا أحسن ما عندك لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين .


        غير أننا نعظه بواحدة أخرى : ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الروية ويحكم الموازنة، وحتى يستيقن الإحسان والإجادة ؛ فإنه إن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه ويواري سوءته، وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها .


        وإن في التاريخ لَعِبَرًا تؤثَر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة؛ فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم؛ بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة بادٍ عَوارُه ، باقٍ عارُه وشَنارُه : فمنهم عاقلٌ استحيا أن يُتم تجربته ، فحطم قلمه ومزق صحيفته.


        ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تروج فيهم سخافاته، فطوى صحفه وأخفاها إلى حين . ومنهم طائش برز بها إلى الناس، فكان سخرية للساخرين ومثلًا للآخرين .


        فمن حدثته نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر وليأخذ بأحسنها، ومن لم يستحِ فليصنع ما يشاء » [7].


        و قال الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - في نسف ما يردده بعض المغرضين من قدرة أحد من البشر الإتيان بمثل القرآن : « شبهة أديب متواضع ينسب هذه القدرة إلى غيره من الفحول وأما إن كان مدخل الشبهة عنده أنه رأى في الناس من هو أعلى منه كعبًا في هذه الصناعة .


        فقال في نفسه: "لئن لم أكن أنا من فرسان هذا الميدان ، ولم يكن لي في معارضة القرآن يدان، لعل هذا الأمر يكون يسيرًا على من هو أفصح مني لسانًا وأسحر بيانًا"


        فمثل هذا نقول له: ارجع إلى أهل الذكر من أدباء عصرك فاسألهم هل يقدرون أن يأتوا بمثله ؟ فإن قالوا لك : " لو نشاء لقلنا مثل هذا" فقل : "هاتوا برهانكم! " و إن قالوا : " لا طاقة لنا به " فقل : أي شيء أكبر من العجز شهادة على الإعجاز؟


        ثم ارجع إلى التاريخ فاسأله : ما بال القرون الأولى ؟ ينبئك التاريخ أن أحدًا لم يرفع رأسه أمام القرآن في عصر من أعصاره ، و أن بضعة النفر الذين انغضوا رءوسهم إليه باءوا بالخزي والهوان ، و سحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان .


        أجل ، لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن ، و ما أدراك ما عصر نزول القرآن ؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتى أدركت هذه اللغة أشدها؛ وتم لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها ؟ ..


        و ما هذه الجموع المحشودة في الصحراء ، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك ؟ إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم وأجود صناعاتهم ؛ و ما هي إلا بضاعة الكلام ، و صناعة الشعر والخطابة ، يتبارون في عرضها و نقدها ، و اختيار أحسنها والمفاخرة بها ، و يتنافسون فيها أشد التنافس ، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم ، وما أمر حسان والخنساء وغيرهما بخافٍ على متأدب .


        فما هو إلا أن جاء القرآن ، وإذا الأسواق قد انفضت، إلا منه، وإذا الأندية قد صَفِرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يُباريَه أو يجاريَه ، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة ، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة ، أو تقديم واحدة و تأخير أخرى ؛ ذلك على أنه لم يسد عليهم باب العارضة بل فتحه على مصراعيه ، بل دعاهم إليه أفرادًا أو جماعات.


        بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكمًا بهم متنزلًا معهم إلى الأخف فالأخف : فدعاهم أول مرة أن يجبئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة ؛ فقال : ﴿
        لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا


        وقال : ﴿
        فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ ، فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله : ﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الاعزاء .


        وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سُلَّمًا يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا ... حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف .


        واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان .


        ومضى عصر القرآن والتحدي قائمًا فليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم ، ولم تنحرف ألسنتهم ، ولم تتغير سليقتهم ، و فيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسه ، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوئلهم ، لفعلوا ، و لكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين ، و حيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل .


        ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون ، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد ، كانوا أشد عجزًا وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز .


        فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم ، و كان برهان الإعجاز قائمًا أمامهم من طريقين : وجداني وبرهاني . ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن حتى يرث الله الأرض و من عليها » [8] .

        ______________________

        [1] - منهم الضمير يعود على الكفار
        2]- غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 344
        [3]- منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب 2/435
        [4] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/334
        [5]- بعض العلماء ينسب هذه الكلمات للنضر بن الحارث كما في تفسير النسفي 1/522 ، والبحر المحيط 4/584 ،و تفسير السمعاني 2/127 ، وتفسير القرطبي 7/41
        [6]- تفسير الشعراوي 6/3796
        [7]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 110 - 112
        [8]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 112 - 114

        التعديل الأخير تم بواسطة محب المصطفى; 1 ماي, 2013, 10:09 م. سبب آخر: تنسيق
        د. ربيع أحمد طبيب بشري قليل التواجد في المنتدى
        بعض كتاباتي على الألوكة
        بعض كتاباتي على المختار الإسلامي

        تعليق


        • #19
          تفاهة معارضة مسيلمة و أمثاله للقرآن



          قال الآمدي – رحمه الله - : « وَمِنْهُم[1] من حمله فرط جَهله وقصور عقله على الْمُعَارضَة و الإتيان بِمثلِهِ كَمَا نقل من ترهات مُسَيْلمَة في قَوْله : الْفِيل والفيل وَمَا أَدْرَاك مَا الْفِيل لَهُ ذَنْب طَوِيل وخرطوم وثيل .


          وَقَوله : والزارعات زراعا فالحاصدات حصدا والطاحنات طحنا إِلَى غير ذَلِك من كَلَامه وَلَا يخفى مَا فى ذَلِك من الركاكة والفهاهة وَمَا فِيهِ من الدّلَالَة على جهل قَائِله وَضعف عقله وسخف رَأْيه حَيْثُ ظن أَن هَذَا الْكَلَام الغث الرث الذى هُوَ مضحكة الْعُقَلَاء ومستهزأ الأدباء معَارض لما أعجزت الفصحاء معارضته وأعيه الألباء مناقضته من حِين الْبعْثَة إِلَى زَمَاننَا هَذَا »[2].


          و قال عبد العزيز آل معمر – رحمه الله - : « ولقد رام بعض سخفاء العقول محاكاة بعض قصار المفصل، فأتى من الهذيان بالعجب العجاب ، كقول مسيلمة الكذاب اللعين : " يا ضفدع كم تنقين، أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين ".


          فلما سمع أبو بكر الصديق هذا الكلام قال: " إنه كلام لم يخرج من إل ". قيل: " الإل " بالكسر هو الله - تعالى - وقيل: " الإل " بالأصل: الجيد. أي لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن .


          ولما سمع مسيلمة والنازعات قال : " والزارعات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، و الطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، و اللاقمات لقما ، لقد فضلتم علي أهل الوبر ، و ما سبقكم أهل المدر ".


          وقال معارضا لسورة الكوثر : " إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر ".


          وكقول الآخر: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين شراسيف وحشا ".
          وقال آخر: " الفيل وما الفيل وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، وشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل ".


          وهذا كلام فيه من السخافة ما لا خفاء به على من لا يعلم ، فضلا عمن يعلم .


          ثم جاء جماعة من المتأخرين ممن انتهت إليهم الرياسة في الفصاحة ، فتعرضوا لمعارضته ، كابن المقفع و المعري و المتنبي ، ونظراء لهم ، فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع ، وتنبو عنه الطباع ، و نادى عليهم بالخزي و الانقطاع ، وصيرهم مثلة و سخرية و ضحكة إلى أن تاب أكثرهم ، وأظهر ندمه ونسكه »[3] .


          يقول محمد الزرقاني – رحمه الله - : « يذكر التاريخ أن مسيلمة الكذاب رغم أنه أوحي إليه بكلام كالقرآن ثم طلع على الناس بهذا الهذر إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر .


          وبهذا السخف والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا وأنت خبير بأن مثل ذلك الإسفاف ليس من المعارضة في قليل ولا كثير .


          وأين محاكاة الببغاء من فصاحة الإنسان وأين هذه الكلمات السوقية الركيكة من ألفاظ القرآن الرفيعة ومعانيه العالية وهل المعارضة إلا الإتيان بمثل الأصل في لغته وأسلوبه ومعانيه أو بأرقى منه في ذلك ؟ »[4] .

          و المتتبع لكلام من توهم أنه قد عارض القرآن كمسيلمة نجد كلامه لا يخلو من تفاهة و سفه فهو يأتي بآيات من القرآن الكريم فيسرق أكثر ألفاظها و يبدل بعض ألفاظها أو يأتي بكلام على وزن الكلمات القرآنية بألفاظ سوقية و معان سوقية فهذا من قبيل المحاكاة ، وليست من المعارضة في شيء ، ليست معارضة الكلام أن تحاكيه تأخذ كلمة وتضع بدلها كلمة أخرى وتستخدم نفس الوزن والتحدّي كان بسورة مِن مثل القرآن في الألفاظ و المعاني و النظم و الجمال اللغوي و الجمال الصوتي ، و لم يكن التحدّي بكلام مسجوع .


          و المعارضة أن تعمد إلى معنى من المعاني فتؤديه نفسه بأسلوب آخر يوازي الأصل في بلاغته أو يزيد أي المعارضة هي أن تأتي بمقصود الشخص الذي قال الكلام الأول ، تأتي بمقصوده و لكن بعباراتأفصحمن يحاول ذلك في المعاني القرآنية فإنما يحاول محالًا ، و التجربة أصدق شاهد .


          وإني أسئل من يتوهم القدرة على معارضة القرآن رغم أن فصاحته لا شك أدنى بكثير من فصاحة العرب الأوائل لماذا لم تحاول قريش مع عنادها وإيذائها للنبي - صلى الله عليه وسلم - معارضة القرآنمع أنها أفصح قبائل العرب أو على الأقل من أفصح قبائل العرب ، وكانت تعرف للكلمة قيمتها و كانت تعرف الكلام الفصيح من غيره و قد آوت المعلقاتالسبع وعلقتها بالكعبة ؟!!


          و لماذا لم تحاول قبائل العرب الأخرى كبني سعد وحمير وغيرها من قبائل العربالمشهورة بالفصاحة معارضة القرآن ؟!

          و كان العرب في الجاهلية ليس لهم ثقافة غير الشعر و النثر و الخطابة والتجارة فلماذا عجزوا عن معارضة القرآن ثم يأتي من لا فقه له باللغة فيزعم أنه عارض القرآن ؟! .

          و الذي يقرأ قول مسيلمة : (( إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر )) يجد أن مسيلمة - عليه من الله ما يستحقه - قد سرق كثير من ألفاظ سورة الكوثر فالكلام منحول من سورة الكوثر و بدل بعض الألفاظ و ليس في كلامه النظم الجميل و لا مسحة من جمال لغوي و لا مسحة من جمال صوتي و هذا الكلام لا يماثل القرآن في شيء و إنما هو ضرب من الاقتباس من القرآن مع التصرف .



          و الذي يقرأ قول مسيلمة - عليه من الله ما يستحقه - : (( والزارعات زرعا ، و الحاصدات حصدا ، و الذاريات قمحا ، و الطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، و اللاقمات لقما ، لقد فضلتم علي أهل الوبر ، و ما سبقكم أهل المدر ))[5] )) يجد أن مسيلمة قد أتى بألفاظ سوقية على وزن كلمات سورة النازعات ، و قال الشعراوي – رحمه الله - : « هذا الكلام لوناً من هراء فارغ ؛ لأن الحق إنما أنزل كلامه موزونا جاذباً لمعانٍ لها قيمتها في الخبر »[6] .


          و ما ذكره مسيلمة- عليه من الله ما يستحقه - من هذا الكلام الركيك في غاية التهافت ، و لا يحمل أي معنى بلاغي لإيصال معنى مفيد و المعارضة بين كلامين إنما تكون معارضة إذا كان بينهما مقاربة ومداناة بحيث يلتبس أحدهما بالآخر أو يكون أحدهما مقاربا للآخر .


          و يقول الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « شبهة غِرٍّ ناشئ يتوهم القدرة على محاكاة القرآن فأما إن كان مثار الشبهة عنده أنه زاول شيئًا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارًا في البيان فوسوس له شيطان الإعجاب بنفسه والجهل بالقرآن أنه يستطيع الإتيان بمثل أسلوبه ، فذلك ظن لا يظنه بنفسه أحد من الكبار المنتهين ، و إنما يعرض -إن عرض- للأغرار الناشئين .


          ومثل هذا دواؤه عندنا نصح نتقدم به إليه أن يطيل النظر في أساليب العرب، وأن يستظهر على فهمها بدراسة طرف من علوم الأدب، حتى تستحكم عنده ملكة النقد البياني، و يستبين له طريق الحكم في مراتب الكلام وطبقاته ، ثم ينظر في القرآن بعد ذلك .


          وأنا له زعيم بأن كل خطوة يخطوها في هذه السبيل ستزيده معرفة بقدره ، وستحل عن نفسه عقدة من عقد الشك في أمره ؛ إذ يرى هنالك أنه كلما ازداد بصيرة بأسرار اللغة، وإحسانًا في تصريف القول ، وامتلاكًا لناصية البيان ، ازداد بقدر ذلك هضمًا لنفسه، وإنكارًا لقوته، وخضوعًا بكليته أمام أسلوب القرآن ، وهذا قد يبدو لك عجيبًا، أن يزداد شعور المرء بعجزه عن الصنعة بقدر ما تتكامل فيها قوته ويتسع بها علمه .


          ولكن لا عجب، فتلك سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه: لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها وثقة بالعجز عنها. ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها، ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون .


          فإن أبى المغرور إلا إصرارًا على غروره، وكبُر عليه أن يُقر بعجزه وقصوره، دعوناه إلى الميدان ليجرب نفسه و يبرز قوته ، و قلنا له : أخرج لنا أحسن ما عندك لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين .


          غير أننا نعظه بواحدة أخرى : ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الروية ويحكم الموازنة، وحتى يستيقن الإحسان والإجادة ؛ فإنه إن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه ويواري سوءته، وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها .


          وإن في التاريخ لَعِبَرًا تؤثَر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة؛ فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم؛ بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة بادٍ عَوارُه ، باقٍ عارُه وشَنارُه : فمنهم عاقلٌ استحيا أن يُتم تجربته ، فحطم قلمه ومزق صحيفته.


          ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تروج فيهم سخافاته، فطوى صحفه وأخفاها إلى حين . ومنهم طائش برز بها إلى الناس، فكان سخرية للساخرين ومثلًا للآخرين .


          فمن حدثته نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر وليأخذ بأحسنها، ومن لم يستحِ فليصنع ما يشاء » [7].


          و قال الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - في نسف ما يردده بعض المغرضين من قدرة أحد من البشر الإتيان بمثل القرآن : « شبهة أديب متواضع ينسب هذه القدرة إلى غيره من الفحول وأما إن كان مدخل الشبهة عنده أنه رأى في الناس من هو أعلى منه كعبًا في هذه الصناعة .


          فقال في نفسه: "لئن لم أكن أنا من فرسان هذا الميدان ، ولم يكن لي في معارضة القرآن يدان، لعل هذا الأمر يكون يسيرًا على من هو أفصح مني لسانًا وأسحر بيانًا"


          فمثل هذا نقول له: ارجع إلى أهل الذكر من أدباء عصرك فاسألهم هل يقدرون أن يأتوا بمثله ؟ فإن قالوا لك : " لو نشاء لقلنا مثل هذا" فقل : "هاتوا برهانكم! " و إن قالوا : " لا طاقة لنا به " فقل : أي شيء أكبر من العجز شهادة على الإعجاز؟


          ثم ارجع إلى التاريخ فاسأله : ما بال القرون الأولى ؟ ينبئك التاريخ أن أحدًا لم يرفع رأسه أمام القرآن في عصر من أعصاره ، و أن بضعة النفر الذين انغضوا رءوسهم إليه باءوا بالخزي والهوان ، و سحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان .


          أجل ، لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن ، و ما أدراك ما عصر نزول القرآن ؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتى أدركت هذه اللغة أشدها؛ وتم لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها ؟ ..


          و ما هذه الجموع المحشودة في الصحراء ، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك ؟ إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم وأجود صناعاتهم ؛ و ما هي إلا بضاعة الكلام ، و صناعة الشعر والخطابة ، يتبارون في عرضها و نقدها ، و اختيار أحسنها والمفاخرة بها ، و يتنافسون فيها أشد التنافس ، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم ، وما أمر حسان والخنساء وغيرهما بخافٍ على متأدب .


          فما هو إلا أن جاء القرآن ، وإذا الأسواق قد انفضت، إلا منه، وإذا الأندية قد صَفِرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يُباريَه أو يجاريَه ، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة ، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة ، أو تقديم واحدة و تأخير أخرى ؛ ذلك على أنه لم يسد عليهم باب العارضة بل فتحه على مصراعيه ، بل دعاهم إليه أفرادًا أو جماعات.


          بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكمًا بهم متنزلًا معهم إلى الأخف فالأخف : فدعاهم أول مرة أن يجبئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة ؛ فقال : ﴿
          لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا


          وقال : ﴿
          فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ ، فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله : ﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الاعزاء .


          وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سُلَّمًا يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا ... حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف .



          واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان .


          ومضى عصر القرآن والتحدي قائمًا فليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم ، ولم تنحرف ألسنتهم ، ولم تتغير سليقتهم ، و فيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسه ، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوئلهم ، لفعلوا ، و لكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين ، و حيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل .


          ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون ، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد ، كانوا أشد عجزًا وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز .


          فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم
          ، و كان برهان الإعجاز قائمًا أمامهم من طريقين : وجداني وبرهاني . ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن حتى يرث الله الأرض و من عليها » [8] .


          _____________________


          [1] - منهم الضمير يعود على الكفار 2]- غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 344
          [3]- منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب 2/435
          [4] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/334
          [5]- بعض العلماء ينسب هذه الكلمات للنضر بن الحارث كما في تفسير النسفي 1/522 ، والبحر المحيط 4/584 ،و تفسير السمعاني 2/127 ، وتفسير القرطبي 7/41
          [6]- تفسير الشعراوي 6/3796
          [7]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 110 - 112
          [8]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 112 - 114

          التعديل الأخير تم بواسطة محب المصطفى; 1 ماي, 2013, 10:13 م. سبب آخر: تنسيق
          د. ربيع أحمد طبيب بشري قليل التواجد في المنتدى
          بعض كتاباتي على الألوكة
          بعض كتاباتي على المختار الإسلامي

          تعليق


          • #20
            تفاهة معارضة مسيلمة و أمثاله للقرآن



            قال الآمدي – رحمه الله - : « وَمِنْهُم[1] من حمله فرط جَهله وقصور عقله على الْمُعَارضَة و الإتيان بِمثلِهِ كَمَا نقل من ترهات مُسَيْلمَة في قَوْله : الْفِيل والفيل وَمَا أَدْرَاك مَا الْفِيل لَهُ ذَنْب طَوِيل وخرطوم وثيل .


            وَقَوله : والزارعات زراعا فالحاصدات حصدا والطاحنات طحنا إِلَى غير ذَلِك من كَلَامه وَلَا يخفى مَا فى ذَلِك من الركاكة والفهاهة وَمَا فِيهِ من الدّلَالَة على جهل قَائِله وَضعف عقله وسخف رَأْيه حَيْثُ ظن أَن هَذَا الْكَلَام الغث الرث الذى هُوَ مضحكة الْعُقَلَاء ومستهزأ الأدباء معَارض لما أعجزت الفصحاء معارضته وأعيه الألباء مناقضته من حِين الْبعْثَة إِلَى زَمَاننَا هَذَا »[2].


            و قال عبد العزيز آل معمر – رحمه الله - : « ولقد رام بعض سخفاء العقول محاكاة بعض قصار المفصل، فأتى من الهذيان بالعجب العجاب ، كقول مسيلمة الكذاب اللعين : " يا ضفدع كم تنقين، أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين ".


            فلما سمع أبو بكر الصديق هذا الكلام قال: " إنه كلام لم يخرج من إل ". قيل: " الإل " بالكسر هو الله - تعالى - وقيل: " الإل " بالأصل: الجيد. أي لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن .


            ولما سمع مسيلمة والنازعات قال : " والزارعات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، و الطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، و اللاقمات لقما ، لقد فضلتم علي أهل الوبر ، و ما سبقكم أهل المدر ".


            وقال معارضا لسورة الكوثر : " إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر ".


            وكقول الآخر: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين شراسيف وحشا ".
            وقال آخر: " الفيل وما الفيل وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، وشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل ".


            وهذا كلام فيه من السخافة ما لا خفاء به على من لا يعلم ، فضلا عمن يعلم .


            ثم جاء جماعة من المتأخرين ممن انتهت إليهم الرياسة في الفصاحة ، فتعرضوا لمعارضته ، كابن المقفع و المعري و المتنبي ، ونظراء لهم ، فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع ، وتنبو عنه الطباع ، و نادى عليهم بالخزي و الانقطاع ، وصيرهم مثلة و سخرية و ضحكة إلى أن تاب أكثرهم ، وأظهر ندمه ونسكه »[3] .


            يقول محمد الزرقاني – رحمه الله - : « يذكر التاريخ أن مسيلمة الكذاب رغم أنه أوحي إليه بكلام كالقرآن ثم طلع على الناس بهذا الهذر إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر .


            وبهذا السخف والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا وأنت خبير بأن مثل ذلك الإسفاف ليس من المعارضة في قليل ولا كثير .


            وأين محاكاة الببغاء من فصاحة الإنسان وأين هذه الكلمات السوقية الركيكة من ألفاظ القرآن الرفيعة ومعانيه العالية وهل المعارضة إلا الإتيان بمثل الأصل في لغته وأسلوبه ومعانيه أو بأرقى منه في ذلك ؟ »[4] .

            و المتتبع لكلام من توهم أنه قد عارض القرآن كمسيلمة نجد كلامه لا يخلو من تفاهة و سفه فهو يأتي بآيات من القرآن الكريم فيسرق أكثر ألفاظها و يبدل بعض ألفاظها أو يأتي بكلام على وزن الكلمات القرآنية بألفاظ سوقية و معان سوقية فهذا من قبيل المحاكاة ، وليست من المعارضة في شيء ، ليست معارضة الكلام أن تحاكيه تأخذ كلمة وتضع بدلها كلمة أخرى وتستخدم نفس الوزن والتحدّي كان بسورة مِن مثل القرآن في الألفاظ و المعاني و النظم و الجمال اللغوي و الجمال الصوتي ، و لم يكن التحدّي بكلام مسجوع .


            و المعارضة أن تعمد إلى معنى من المعاني فتؤديه نفسه بأسلوب آخر يوازي الأصل في بلاغته أو يزيد أي المعارضة هي أن تأتي بمقصود الشخص الذي قال الكلام الأول ، تأتي بمقصوده و لكن بعباراتأفصحمن يحاول ذلك في المعاني القرآنية فإنما يحاول محالًا ، و التجربة أصدق شاهد .


            وإني أسئل من يتوهم القدرة على معارضة القرآن رغم أن فصاحته لا شك أدنى بكثير من فصاحة العرب الأوائل لماذا لم تحاول قريش مع عنادها وإيذائها للنبي - صلى الله عليه وسلم - معارضة القرآنمع أنها أفصح قبائل العرب أو على الأقل من أفصح قبائل العرب ، وكانت تعرف للكلمة قيمتها و كانت تعرف الكلام الفصيح من غيره و قد آوت المعلقاتالسبع وعلقتها بالكعبة ؟!!


            و لماذا لم تحاول قبائل العرب الأخرى كبني سعد وحمير وغيرها من قبائل العربالمشهورة بالفصاحة معارضة القرآن ؟!

            و كان العرب في الجاهلية ليس لهم ثقافة غير الشعر و النثر و الخطابة والتجارة فلماذا عجزوا عن معارضة القرآن ثم يأتي من لا فقه له باللغة فيزعم أنه عارض القرآن ؟! .

            و الذي يقرأ قول مسيلمة : (( إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر )) يجد أن مسيلمة - عليه من الله ما يستحقه - قد سرق كثير من ألفاظ سورة الكوثر فالكلام منحول من سورة الكوثر و بدل بعض الألفاظ و ليس في كلامه النظم الجميل و لا مسحة من جمال لغوي و لا مسحة من جمال صوتي و هذا الكلام لا يماثل القرآن في شيء و إنما هو ضرب من الاقتباس من القرآن مع التصرف .



            و الذي يقرأ قول مسيلمة - عليه من الله ما يستحقه - : (( والزارعات زرعا ، و الحاصدات حصدا ، و الذاريات قمحا ، و الطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، و اللاقمات لقما ، لقد فضلتم علي أهل الوبر ، و ما سبقكم أهل المدر ))[5] )) يجد أن مسيلمة قد أتى بألفاظ سوقية على وزن كلمات سورة النازعات ، و قال الشعراوي – رحمه الله - : « هذا الكلام لوناً من هراء فارغ ؛ لأن الحق إنما أنزل كلامه موزونا جاذباً لمعانٍ لها قيمتها في الخبر »[6] .


            و ما ذكره مسيلمة- عليه من الله ما يستحقه - من هذا الكلام الركيك في غاية التهافت ، و لا يحمل أي معنى بلاغي لإيصال معنى مفيد و المعارضة بين كلامين إنما تكون معارضة إذا كان بينهما مقاربة ومداناة بحيث يلتبس أحدهما بالآخر أو يكون أحدهما مقاربا للآخر .


            و يقول الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « شبهة غِرٍّ ناشئ يتوهم القدرة على محاكاة القرآن فأما إن كان مثار الشبهة عنده أنه زاول شيئًا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارًا في البيان فوسوس له شيطان الإعجاب بنفسه والجهل بالقرآن أنه يستطيع الإتيان بمثل أسلوبه ، فذلك ظن لا يظنه بنفسه أحد من الكبار المنتهين ، و إنما يعرض -إن عرض- للأغرار الناشئين .


            ومثل هذا دواؤه عندنا نصح نتقدم به إليه أن يطيل النظر في أساليب العرب، وأن يستظهر على فهمها بدراسة طرف من علوم الأدب، حتى تستحكم عنده ملكة النقد البياني، و يستبين له طريق الحكم في مراتب الكلام وطبقاته ، ثم ينظر في القرآن بعد ذلك .


            وأنا له زعيم بأن كل خطوة يخطوها في هذه السبيل ستزيده معرفة بقدره ، وستحل عن نفسه عقدة من عقد الشك في أمره ؛ إذ يرى هنالك أنه كلما ازداد بصيرة بأسرار اللغة، وإحسانًا في تصريف القول ، وامتلاكًا لناصية البيان ، ازداد بقدر ذلك هضمًا لنفسه، وإنكارًا لقوته، وخضوعًا بكليته أمام أسلوب القرآن ، وهذا قد يبدو لك عجيبًا، أن يزداد شعور المرء بعجزه عن الصنعة بقدر ما تتكامل فيها قوته ويتسع بها علمه .


            ولكن لا عجب، فتلك سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه: لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها وثقة بالعجز عنها. ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها، ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون .


            فإن أبى المغرور إلا إصرارًا على غروره، وكبُر عليه أن يُقر بعجزه وقصوره، دعوناه إلى الميدان ليجرب نفسه و يبرز قوته ، و قلنا له : أخرج لنا أحسن ما عندك لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين .


            غير أننا نعظه بواحدة أخرى : ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الروية ويحكم الموازنة، وحتى يستيقن الإحسان والإجادة ؛ فإنه إن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه ويواري سوءته، وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها .


            وإن في التاريخ لَعِبَرًا تؤثَر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة؛ فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم؛ بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة بادٍ عَوارُه ، باقٍ عارُه وشَنارُه : فمنهم عاقلٌ استحيا أن يُتم تجربته ، فحطم قلمه ومزق صحيفته.


            ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تروج فيهم سخافاته، فطوى صحفه وأخفاها إلى حين . ومنهم طائش برز بها إلى الناس، فكان سخرية للساخرين ومثلًا للآخرين .


            فمن حدثته نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر وليأخذ بأحسنها، ومن لم يستحِ فليصنع ما يشاء » [7].


            و قال الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - في نسف ما يردده بعض المغرضين من قدرة أحد من البشر الإتيان بمثل القرآن : « شبهة أديب متواضع ينسب هذه القدرة إلى غيره من الفحول وأما إن كان مدخل الشبهة عنده أنه رأى في الناس من هو أعلى منه كعبًا في هذه الصناعة .


            فقال في نفسه: "لئن لم أكن أنا من فرسان هذا الميدان ، ولم يكن لي في معارضة القرآن يدان، لعل هذا الأمر يكون يسيرًا على من هو أفصح مني لسانًا وأسحر بيانًا"


            فمثل هذا نقول له: ارجع إلى أهل الذكر من أدباء عصرك فاسألهم هل يقدرون أن يأتوا بمثله ؟ فإن قالوا لك : " لو نشاء لقلنا مثل هذا" فقل : "هاتوا برهانكم! " و إن قالوا : " لا طاقة لنا به " فقل : أي شيء أكبر من العجز شهادة على الإعجاز؟


            ثم ارجع إلى التاريخ فاسأله : ما بال القرون الأولى ؟ ينبئك التاريخ أن أحدًا لم يرفع رأسه أمام القرآن في عصر من أعصاره ، و أن بضعة النفر الذين انغضوا رءوسهم إليه باءوا بالخزي والهوان ، و سحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان .


            أجل ، لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن ، و ما أدراك ما عصر نزول القرآن ؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتى أدركت هذه اللغة أشدها؛ وتم لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها ؟ ..


            و ما هذه الجموع المحشودة في الصحراء ، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك ؟ إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم وأجود صناعاتهم ؛ و ما هي إلا بضاعة الكلام ، و صناعة الشعر والخطابة ، يتبارون في عرضها و نقدها ، و اختيار أحسنها والمفاخرة بها ، و يتنافسون فيها أشد التنافس ، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم ، وما أمر حسان والخنساء وغيرهما بخافٍ على متأدب .


            فما هو إلا أن جاء القرآن ، وإذا الأسواق قد انفضت، إلا منه، وإذا الأندية قد صَفِرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يُباريَه أو يجاريَه ، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة ، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة ، أو تقديم واحدة و تأخير أخرى ؛ ذلك على أنه لم يسد عليهم باب العارضة بل فتحه على مصراعيه ، بل دعاهم إليه أفرادًا أو جماعات.


            بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكمًا بهم متنزلًا معهم إلى الأخف فالأخف : فدعاهم أول مرة أن يجبئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة ؛ فقال : ﴿
            لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا


            وقال : ﴿
            فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ ، فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله : ﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الاعزاء .


            وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سُلَّمًا يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا ... حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف .


            واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان .


            ومضى عصر القرآن والتحدي قائمًا فليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم ، ولم تنحرف ألسنتهم ، ولم تتغير سليقتهم ، و فيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسه ، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوئلهم ، لفعلوا ، و لكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين ، و حيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل .


            ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون ، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد ، كانوا أشد عجزًا وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز .


            فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم
            ، و كان برهان الإعجاز قائمًا أمامهم من طريقين : وجداني وبرهاني . ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن حتى يرث الله الأرض و من عليها » [8] .


            __________________________


            [1] - منهم الضمير يعود على الكفار 2]- غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 344
            [3]- منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب 2/435
            [4] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/334
            [5]- بعض العلماء ينسب هذه الكلمات للنضر بن الحارث كما في تفسير النسفي 1/522 ، والبحر المحيط 4/584 ،و تفسير السمعاني 2/127 ، وتفسير القرطبي 7/41
            [6]- تفسير الشعراوي 6/3796
            [7]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 110 - 112
            [8]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 112 - 114

            التعديل الأخير تم بواسطة محب المصطفى; 1 ماي, 2013, 10:16 م. سبب آخر: تنسيق
            د. ربيع أحمد طبيب بشري قليل التواجد في المنتدى
            بعض كتاباتي على الألوكة
            بعض كتاباتي على المختار الإسلامي

            تعليق


            • #21
              فرية أن القرآن من تأليف الجن



              يدعي بعض المغرضين أن القرآن الكريم من تأليف الجن و هذا فرية باطلة فكما يوجد في الإنس من يحقدون على الحق مع العلم بأنه الحق ، فيتمنّون لو أمكنهم إفساد صفة الإعجاز في القرآن بأيّ وسيلة ممكنة ، كذلك يوجد في الجن من يحقدون مثل هذا الحقد ، ويتمنّون مثل هذا التمنّي .

              فلما لم نر إنسانا أوحى إليه من قبل أحد الجان بمثل القرآن، أو بمثل بعض منه، علمنا بدليل الواقع المشاهد أنه ليس من تأليف الجان ولا من إيحائهم[1].





              هل وصل خبر التحدى بالقرآن إلى كل العالم وهل يلزم من عجز بعض الخلق عجز كل الخلق ؟



              رد يحيي بن حمزة – رحمه الله – على من يقول سلمنا وقوع التحدي، ولكن هل وصل خبر التحدي إلى كل العالم، أو إلى بعضه، وباطل أن يكون واصلا إلى كله، لأنا نعلم بالضرورة أن أهل الهند والصين والروم، وسائر الأقاليم البعيدة، ما كانوا يعلمون وجود محمد - صلّى الله عليه وسلّم - في الدنيا، فضلا عن أن يقال: إنهم عالمون بتحديه بالقرآن، وباطل أن يكون واصلا إلى بعضهم، لأنهم ولو عجزوا عن المعارضة فإنه لا يكفى فى صحة دعوى النبوة، عجزهم عن معارضته، لأنهم بعض الخلق، وعجز بعض الخلق لا يكون عجزا لجميعهم، وإلا لزم في بعض الحذاق في صناعته إذا تحدى أهل قريته، ثم عجزوا عن ذلك، أن يكون نبيا لمكان دعواه، وهذا ظاهر الفساد وهذا يبطل ما ذكرتموه من التحدي بالقرآن .


              فقال يحيي بن حمزة - رحمه الله - : « وجوابه من وجهين :
              أما أولا : فلأنا نعلم بالضرورة أن العرب الذين قرع أسماعهم التحدى، وخوطبوا به «العين للعين» كانوا لا محالة أقدر على معارضته من غيرهم، لاختصاصهم بما لم يختص به غيرهم من سائر الأقاليم من الفصاحة والبلاغة، فلما عرفنا عجزهم كان غيرهم لا محالة أعجز من ذلك لما ذكرناه .


              وأما ثانيا : فهب أن خبر تحدّيه بالقرآن ما وصل إلى كل العالم في زمانه، لكن لا شك في وصوله إليهم الآن، مع أنهم لم يعارضوه، وفى هذا دلالة على صحة نبوته، ويؤيد ما ذكرناه أنا نرى من يصنف كتابا في أي علم كان، ويظن أنه قد أتى فيه باليد البيضاء، فلا يلبث إلا مقدار ما يصل إلى الأقاليم والبلاد، ويحصل بعد ذلك ما يبطله ويدل على تناقضه وضعفه على القرب لأجل شدة الحرص على ذلك، وهذا ظاهر في جميع التصانيف كلها، فلو كان ثم معارضة توجد للقرآن، لكانت قد حصلت في هذه الأزمان المتمادية، والسنين المتطاولة، ولا شك في بلوغه لهذه الأقاليم التى زعمتم، وفى هذا بطلان ما زعمتموه »[2].





              فرية قد وقع في التاريخ معارضات كثيرة للقرآن فسقط التحدي




              رد يحيي بن حمزة – رحمه الله – على من يقول قد وقع هناك معارضات للقرآن، فإن العرب قد عارضوه بالقصائد السبع وعارضه مسيلمة الكذاب بكلامه الذي يحكى عنه، وعارضه النضر بن الحارث بأخبار الفرس وملوك العجم، وعارضه ابن المقفع من كلامه وقابوس بن وشمكير ، والمعرى، فكيف يقال إن المعارضة ما وقعت ؟!.


              فقال يحيي بن حمزة – رحمه الله – : « وجوابه هو أن النظار من أهل الفصاحة والبلاغة مجمعون على أن المعارضة بين الكلامين إنما تكون معارضة إذا كان بينهما مقاربة ومداناة بحيث يلتبس أحدهما بالآخر أو يكون أحدهما مقاربا للآخر، وكل عاقل يعلم بالضرورة أن هذه القصائد السبع ليس بينها وبين القرآن مقاربة ولا مداناة ، بحيث يشتبه أحدهما بالآخر .


              وكيف لا وهذه القصائد من فن الشعر ، و القرآن ليس من فنون الشعر في ورد ولا صدر، فلا يجوز كونها معارضة له، وأما ما حكى عن النضر بن الحارث، فإنما نقل حكايات ملوك العجم، وليس من أسلوب القرآن، فلا يكون معارضا له .

              وأما ما يحكى عن مسيلمة الكذاب فهو بالخلاعة أحق منه بالمعارضة، لنزول قدره، وتمكنه في الحماقة ؛ لأن من حق ما يكون معارضا، أن يكون بينه وبين المعارض مقاربة ومداناة، بحيث يشتبه الأمر فيهما، فأما إذا كان الكلامان في غاية البعد والانقطاع، فلا يعد أحدهما معارضا للآخر » [3].





              فرية أن العرب ما عجزوا عن معارضة القرآن لكن تأخروا عن معارضة القرآن لعدم علمهم بما اشتمل عليه القرآن، من شرح حقائق صفات الله تعالى، والبعث والنشور وأحكام الآخرة، وأحوال الملائكة



              قال يحيي بن حمزة – رحمه الله – : « لا يقال : فلعل العرب إنما عجزوا عن معارضة القرآن ليس لأنهم غير قادرين عليها، وإنما تأخروا عن المعارضة، لعدم علمهم بما اشتمل عليه القرآن، من شرح حقائق صفات الله تعالى، والبعث والنشور وأحكام الآخرة، وأحوال الملائكة، وغير ذلك مما لا مدخل لأفهامهم فى تعقله وإتقانه .


              لأنا نقول هذا فاسد لأمرين :
              أما أولا فهب أن العرب كانوا غير عالمين بحقائق هذه الأشياء، لكن اليهود كانوا بين أظهرهم وكان عليهم السؤال عنها، ثم يكسونها عبارات يعارضون بها القرآن.


              وأما ثانيا فلأن اليهود أنفسهم كان فيهم فصحاء، فكان يجب مع علمهم بها أن يعارضوه، فلما لم تكن هناك معارضة لا من جهة اليهود، ولا من جهة غيرهم، دل على بطلانها وتعذرها »[4].


              هذا و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات و كتب ربيع أحمد حامدا لله و مصليا على نبيه - صلى الله عليه وسلم - الاثنين 16 /ربيع الأول/1434هـ ، 28/يناير/2013م

              ____________________


              [1] - من روائع القرآن لمحمد سعيد البوطي ص 130
              [2] - الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز 3/208
              [3]- الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز 3/213
              [4]- الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز 3/213

              التعديل الأخير تم بواسطة محب المصطفى; 1 ماي, 2013, 10:19 م. سبب آخر: تنسيق
              د. ربيع أحمد طبيب بشري قليل التواجد في المنتدى
              بعض كتاباتي على الألوكة
              بعض كتاباتي على المختار الإسلامي

              تعليق


              • #22
                جزاك الله عنا خيرا يا دكتور ..
                شموس في العالم تتجلى = وأنهار التأمور تتمارى , فقلوب أصلد من حجر = وأنفاس تخنق بالمجرى , مجرى زمان يقبر في مهل = أرواح وحناجر ظمئى , وأفئدة تسامت فتجلت = كشموس تفانت وجلى

                سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا اله الا انت نستغفرك ونتوب اليك ،،، ولا اله الا انت سبحانك إنا جميعا كنا من الظالمين نستغفرك ونتوب إليك
                حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ
                ،،،
                يكشف عنا الكروب ،، يزيل عنا الخطوب ،، يغفر لنا الذنوب ،، يصلح لنا القلوب ،، يذهب عنا العيوب
                وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد
                وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم إنك حميد مجيد
                عدد ما خلق الله - وملئ ما خلق - وعدد ما في السماوات وما في الأرض وعدد ما احصى كتابه وملئ ما احصى كتابه - وعدد كل شيء وملئ كل شيء
                وعدد ما كان وعدد ما يكون - وعدد الحركات و السكون - وعدد خلقه وزنة عرشه ومداد كلماته




                أحمد .. مسلم

                تعليق

                مواضيع ذات صلة

                تقليص

                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                ابتدأ بواسطة ابن الوليد, 24 مار, 2024, 09:27 ص
                رد 1
                143 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة ابن الوليد
                بواسطة ابن الوليد
                 
                ابتدأ بواسطة Guardian26, 22 ينا, 2024, 02:18 ص
                ردود 3
                134 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة محب المصطفى
                بواسطة محب المصطفى
                 
                ابتدأ بواسطة Muslim1989, 13 ديس, 2023, 02:27 ص
                ردود 8
                116 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                بواسطة *اسلامي عزي*
                 
                ابتدأ بواسطة Muslim1989, 11 ديس, 2023, 12:39 م
                ردود 9
                168 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة أحمد عربي أحمد سيد  
                ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 21 أكت, 2023, 11:53 م
                ردود 0
                225 مشاهدات
                0 معجبون
                آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                بواسطة *اسلامي عزي*
                 
                يعمل...
                X