دروس في الإسراء والعروج

تقليص

عن الكاتب

تقليص

المهندس زهدي جمال الدين مسلم اكتشف المزيد حول المهندس زهدي جمال الدين
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    الدرس الثامن


    زمن الإسراء


    نعود بعد ذلك إلى واقعة الإسراء.
    يقول المؤرخون أنهاوقعت في أواخر الفترة المكية على أقوال منها:
    إنها حدثت في السنة الثانية عشرة بعد البعثة أو ربيع من السنة الحادية عشرة أو في ربيع قبل الهجرة بسنة.
    كما أن هناك شهادة السيدة أم هانئ بنت أبي طالب أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" كان يبيت عندها ليلة الإسراء وأنها أول من رَوَى له المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" رؤياه.
    وقد رَوَى عدد من الصحابة ما يؤيد ذلك. لقد ذهب الرسول عند السيدة أم هانئ بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته أم المؤمنين السيدة خديجة.. وكل ذلك كانب عد السنة العاشرة من البعثة. أي أن الإسراء كان في السنة الحادية أو الثانيةعشرة.

    فاصل زمني بين الإسراء والعروج
    إذن هناك فاصل زمني بين المعراج والإسراء لا يقل عن خمس سنوات، وقد يصل إلى سبع سنوات.
    وأن العروج هو الذي وقع أولاً وفيه فرضيةالصلاة، ورؤية الله تعالى، والوصول إلى سدرة المنتهى والجنة، وأنه ذكر في سورةالنجم التي لم يرد فيها أي ذكر للإسراء.
    أما الإسراء فقد وقع قُبيل الهجرة، وقد وردفي سورة الإسراء التي لم يرد فيها أي ذكر للعروج.

    ثم نظرةٌ إلى حديث أم هانئ الذي رواه محمد ابن إسحاق، والذيجاء في سيرة ابن هشام، وقد رواه عنها سبعة من المحدِّثين بمتون مختلفة تدور جميعها حول رحلة الإسراء، ويتبين أنه لم يرد فيه أي ذكر للمعراج. وإذا كانت السيدة أم هانئ هي أول من سمع الخبر من الرسول صلى الله عليه وسلم.. فهل يمكن أن يحكي لها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جزءا من رحلته ويغفل أو يخفي عنها الجزء الأكبر والأهم؟ قالت: ما أُسريَ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وهو في بيتي - نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا.
    فلما كان قُبيل الفجر أهَبَّنارسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: "يا أم هانئ: لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيتِ بهذا الوادي، ثم جئتُ بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت الغداء معكم الآن كما ترين. ثم قام ليخرج، فأخذت بطرف ردائه فتكشف عن بطنه -كأنه قبطية مطوية- فقلت له: يا نبي الله، لا تحدث بهذا الناسَ فيكذبوك ويؤذوك. قال: (والله لأحدثنهم)... إلخ الحديث.
    وهنا لم يرد أي ذكر على لسان المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا على لسان أم هانئ عن وقائع المعراج.
    أليس هذا دليلا على أن العروج كان في مناسبة أخرى؟! وهل من المعقول أن ينسَى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو تنسَى أم هانئ هذه الواقعة العظيمة؟ اللهم لا.. وإنما شتان ما بين الواقعتين.
    وعندما سمع أهل مكة حكاية الإسراء من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،ماذا حدث؟.
    تقول السيدة عائشة: لما عرف الناس خبر إسراء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهبوا إلى أبي بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة إلى بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه؟ فقالوا: بلى! هاهو ذلك في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق. فما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدّقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه! . سيرة ابن هشام.
    أليس في هذا الحديث ما يدل على أن العروج إلى السماء لم يرد في تلك المناسبة على لسان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن القوم لم يتحدثوا عنه وهوالأعجب والأبعد حسب قول أبي بكر الصديق، وهو الأدعى إلى التكذيب والسخرية من جانب الكفار!، واستدلال أبي بكر كان عن الخبر يأتي من السماء. فإذن موضوع العروج النبوي إلى السماء لم يكن واردا عندئذ..
    وإلا لكان استدلال أبي بكر غير مناسب للمقام.
    أما وقد تبين بجلاء أن الإسراء شيء والعروج شيء آخر ولم يجتمعا في رحلة واحدة بل ولا في سنة واحدة، وإنما يفصلهما عدد من السنوات يبلغ ستا أو سبعا..
    مما سبق يتضح لنا بجلاء أن حادثة العروج المذكورة في صحيح البخاري كانت رؤيا وأنها حدثت قبل الإسراء فلما أُسرِيَ بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك وعرج به من المسجد الأقصى إلى السموات العلا بالروح والجسد لم يستنكر عليه أحد ذلك..
    وـ وخلاصة القول إن ما سقناه من شهادات وأدلة نقلية وعقلية من داخل الروايات وخارجها لفيه الكفاية للدلالة على أن العروج رحلة بعيدة في زمنها عن رحلة الإسراء، وكل منها مستقل وقائم بذاته وأنها كانت مناماً وتمت بالروح فقط ثم بعد أن تم الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المسجد الأقصى بالروح والجسد وصلى بالأنبياء والمرسلين إماماً بعدها عُرج به إلي السموات العلا بالروح والجسد وما رآه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناماً ورؤيا رآه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عياناً ورؤية.
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 28 أكت, 2020, 06:58 ص.

    تعليق


    • #17
      الدرس التاسع



      لماذا الذهاب إلى المسجد الأقصى



      كان من الممكن أن يتم العروج بالروح والجسد مباشرة من المسجد الحرام ، ولكن لماذا تم العروج من المسجد الأقصى؟..

      تم ذلك لسببين والله سبحانه وتعالى أعلم.

      السبب الأول:يكمن في تحقيق قوله تعالى مخاطباً نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
      ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ [يونس: ٩٤]

      وقد سبق الحديث عنه بالتفصيل في الدرس الخامس.

      السبب الثاني: يكمن السبب الأول في مكانة القدس ..

      إن صورة قبة الصخرة المشرفة هي التي تظهر الآن في وسائل الإعلام المختلفة بما فيها الفضائيات والصحف العربية، حتى قناة فلسطين الفضائية شعارها قبة الصخرة وليست صورة المسجد الأقصى، والموضوع أبعد ما يكون عن الشكلية إذ أنه يمس جوهر المسألة ولبها، رغم أنه يتم في غفلة معظم العرب والمسلمين في الوقت الذي تبذل " إسرائيل " ووسائل الإعلام التابعة لها أو الدائرة في فلكها جهوداً لتكريس صورة قبة الصخرة المشرفة في أذهان العالم، ومن ضمنهم العرب والمسلمون على أنها هي نفسها المسجد الأقصى، بدليل أن الصورة المتداولة لدى الجميع هي هذه الصورة لا صورة المسجد نفسه، علماً بأن المشروع الصهيوني يستهدف هدم المسجد الأقصى تحديداً وإقامة هيكل سليمان المزعوم مكانه.
      ورغم أن الحفريات الإسرائيلية المستمرة سنوات طويلة لم تظهر أي أثر لهذا الهيكل وإلا لكانت إسرائيل قد أقامت ضجة ما بعدها ضجة حوله، ولأن قبة الصخرة المشرفة ليست مستهدفة، فإن إسرائيل ستبقى عليها وتتبجح أمام العالم فيما لو هدمت المسجد الأقصى وأقامت الهيكل، إنه لم يمس وستدلل على ذلك ببقاء قبة الصخرة التي صار العالم بما فيه نسبة كبيرة من المسلمين والعرب يظن أنها هي المسجد لذلك فإنه لابد على الإعلام العربي أن يتنبه إلى هذه الحقيقة الهامة إذ أن جهل الكثيرين بهذه الحقيقة يدل على أن إسرائيل نجحت جزئياً في مسعاها لتحريف الحقائق وإشاعة الاعتقاد بما ترمي إليه حسب منظورها بعيد الأمد .

      روي البخاري في صحيحه عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال المسجد الأقصى .. قلت كم كان بينهما ؟ قال أربعون سنة ".
      وقد يقال : المشهور أن الذي بني المسجد الأقصى هو سليمان عليه السلام لما روي النسائي عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إن سليمان عليه السلام لما بني بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثاً فأعطاه اثنتين وأرجو أن يكون أعطاه الثالثة سأله ملكا لا ينبغي لأحد بعده فأعطاه إياه ، وسأله حكما يواطئ حكمه فأعطاه إياه ، وسأله من أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه أن يخرج من الذنوب كيوم ولدته أمه " .
      فإذا ما علمنا أن ما بين سليمان عليه السلام وإبراهيم عليه الصلاة والسلامم أكثر من ألف سنة والثابت في العقيدة والتاريخ أن بيت المقدس أسس قبل أن يبنيه سليمان عليه السلام ، فإننا نجزم بأن بناء سليمان عليه السلام للمسجد الأقصى لم يكن إلا تجديدا له كما فعل إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَي المسجد الحرام .
      قال القرطبي : " أن الآية – أي قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) والحديث – يقصد حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حول بناء سليمان للمسجد – لا يدلان على أن إبراهيم وسليمان عليهما السلام ابتدءا وضعهما بل كان تجديداً لما أسس غيرهما .

      واختلف في أول من أسس بيت المقدس ، فروي أن أول من بني البيت – يعني المسجد الحرام – آدم عليه السلام . فيجوز أن يكون ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً ، ويحتمل أن تكون الملائكة قد بنت بيت المقدس بعد بنائها البيت الحرام ..

      سبحان الذي أسرى



      قال علماء المنطق الإسلامي أن الكلام يخضع لنسب ثلاثة :
      واقعة ، ومجزوماً بها ، وعليها دليل
      1 - فإذا كانت النسبة( واقعة ) و ( مجزوم بها ) و( عليها دليل ) فذلك هو " العلم" نقول مثلا : الله خالق كل شئ .
      فهذه نسبة ( واقعة ) و ( مجزوم بها ) و ( عليها دليل ) فهذا هو العلم مراتبه ثلاث : علم اليقين وحق الحق وعين اليقين .
      2 - فإذا كانت النسبة(غير واقعة) و (مجزوم بها) و (عليها دليل) فهذا هو "الجهل"
      فالجاهل يتحدث عن شئ لا وجود له أصلا ، وقد يكون مستحيلا ومع ذلك فتراه يجزم به ويقيم عليه الدليل ، كمن يحاول مثلا أن يثبت أن أيام الأسبوع ثمانية ، فهذه نسبة ( غير واقعة ) – ثمانية أيام – ومجزوم بها فهناك أيام في الأسبوع ويقيم دليلاً على أن هذه الأيام ثمانية أيام . فهذا هو الجهل .
      3 - فإذا كانت النسبة ( واقعة ) و(مجزوم بها ) ولا دليل عليها فهذا هو " الشك " .
      4 - وإذا كانت النسبة ( واقعة ) و( مجزوم بها ) ويتساوى عندها الدليل من عدمه فهذا هو " الظن " ، فإذا غلب عليه الدليل فهو اليقين ، ولذلك قد يأتي " الظن " بمعنى " اليقين " يقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة آية 45 ، 46 " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ) . أي الذين يوقنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون . ويقول سبحانه وتعالى في سورة الحشر حكاية عن اليهود ومدى تيقنهم بأن حصونهم قد مانعتهم من الله آية (2)
      ( وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله ) – الحشر آية /2
      5 - وإذا كانت النسبة ( غير واقعة ) وغير ( مجزوم بها ) ولا ( دليل عليها ) فهذا هو " الوهم ".
      6 - مما تقدم نجد أن الشك والظن يتساويان في مفهوم اليقينية ، فالشك يحمل في طياته معنى اليقين ولكنه يفتقر إلى الدليل الخارجي لأن اليقين دائماً هو ( دليل داخلي في النفس ويطمئن إليه القلب بالدليل الخارجي فإذا انعدم ذلك الدليل الخارجي بحث الإنسان عنه تلقائيا حتى تنسجم الجوارح ويعيش الإنسان مع نفسه في حالة من الاتزان العاطفي والعقلي .

      ولنأخذ نموذجين :
      النموذج الأول : نبي الله ورسوله إبراهيم الخليل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
      يقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة آية 260 :
      ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أو لم تؤمن ؟ ).
      فإبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن " مرتاباً " إذ أن قدرة الله على إحياء الموتى نسبة ( واقعة ) وطلاقة قدرة المولى عز وجل ( مجزوم بها ) ، فالشك غير الريبة إذ أن الريبة إنكار للوجود أما الشك فهو مرادف لليقين والمدقق في سؤال الخليل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجده كالآتي : ( رب أرني ) فهو اعتراف منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطلاقة قدرة الله جلا علاه غير منكر لها معترفاً بتكوينه البشري العاجز عن إدراك ورؤية ذلك الفعل المختص به الله وحده فقوله ( أرني ) أي اجعلني قادراً على رؤية هذا الأمر – هذه واحدة ، أما الثانية فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أرني كيف تحي الموتى) فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل (أَتُحيِّي الموتي؟) فالسؤال عن الكيفية وليس لإثبات الكيفية ، لذلك قال عز وجل (أو لم تؤمن) (قال بلى) ولم يقل نعم.. وهذه قاعدة مهمة جداً إذ أنه قد شاع في الإجابة عن السؤال المنفي استعمال الجواب " نعم " في النفي إذ يقول البعض عند إجابة من سأل ( ألم تسمع الخبر ؟ ) فيقال ( نعم ) للدلالة على عدم سماعه ، والصحيح هو أن يجيب بـ ( بلى ) عند الإثبات .. جاء في التنزيل في سورة القيامة ( أيحسب الإنسان ألا نجمع عظامه . بلى قادرينعلى أن نسوي بنانه) 3-4 وقوله تعالى في سورة الأنعام آية 30(قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا) وقوله تعالى لإبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أو لم تؤمن قال بلى) ومن ثم كانت الإجابة من الله العلي القدير أن أدخله في التجربة الذاتية البحتة (قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك) وبالطبع فإن إبراهيم الخليل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم ويؤمن بطلاقة قدرته جل علاه ، ولكنه أراد أن ينتقل من النسبة اليقينية المفتقرة إلى دليل مشاهده عنده إلى نسبة يقينية عليها من الله دليل لينتقل إلى مقام عين اليقين .

      النموذج الثاني : نبي الله العزير عليه السلام

      يقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة آية 259
      ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أني يحي ، هذه الله بعد موتها ) .. فالسؤال بـ (أني) عن الكيفية وليس لإثبات الكيفية مثل ما حدث مع إبراهيم الخليل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأيناه مع نبي الله زكريا عليه السلام بعد أن طلب من ربه أن يهب له غلاماً .. وبعد أن بشره ربه بالإجابة إلى طلبه .. ، فالبشرى من الله نسبة واقعة ومجزوم بها والدليل عليها كان في إدخال نبيه زكريا في التجربة الذاتية على الرغم من أن امرأته كانت عاقراً وقد بلغ زكريا من الكبر عتيا ( قال رب أني يكون لي غلام ) وباقي القصة معروفة ، ونفس الإجابة كانت مع السيدة مريم البتول عندما بشرها الحقسبحانه وتعالى بغلام ( قالت أنى يكون لي غلام ) ؟ وكلهم – أي العزيز وزكريا ومريم – يؤمنون بطلاقة قدرة المولى عز وجل وكلهم أُدْخِلوا في التجربة الذاتية البحتة .
      بالنسبة للعزير أماته الله مائة عام وبالنسبة لزكريا ومريم القصة معروفة.

      السبب الثاني:



      يقولسبحانه وتعالى في سورة يونس آية 94 مخاطباً نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) .
      ويقول سبحانه وتعالى في نفس السورة مخاطباً الناس جميعهم آية 104
      ( قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم )..
      والمدقق في قوله تعالى عند خطابه لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلاحظ أن خطابه جل علاه لم يصدر عن سؤال صدر من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ما حدث مع أبي الأنبياء إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن ورائه العزير ومن ورائهما زكريا ومريم ، لذلك كان جواب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فور أن أنزلت عليه هذه الآية أن قال كما جاء في الصحيحين (والله لا أشك ولا أسأل) ولكن الحق جل علاه أراد أن ينشئ واقعاً محسوساً لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقوله جل علاه ( فسئل ) ، الفاء في كل القرآن الكريم تأتي معطوفة على محذوف وهنا في هذه الآية تقديره من أنبائهم ، وعليه يصير مضمون الآية ( وإن كنت يا محمد في شك من أنبائهم فسئل الذين يقرؤون الكتاب من رسلنا الذين سبقوك في الدعوة إلى الله ) ، فأراد الله جل علاه – وقد أعلمه بما حدث مع موكب الرسل الكرام – أن ينقله من النسبة اليقينية المفتقرة إلى دليل المشاهدة عنده إلى نسبة يقينية عليها من الله دليل لينتقل إلى مقام عين اليقين حتى ولو لم يسأل لذلك أدخله جل علاه في التجربة الذاتية البحتة قال عز من قائل في سورة الزخرف آية 45 :
      ( وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن ءالهة يعبدون ) .
      وحتى يتحقق ذلك الأمر وهو سؤاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرسل الله الكرام ليقص كل منهم ما حدث معه من قومه وإن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أعلمه ربه بما حدث ، لذلك جمعه الله وإياهم عيانا ليلة الإسراء والمعراج ، فلقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حياً بقانون الأحياء وهم موتى بقانون الأموات ولكن طلاقة قدرته جل علاه تحققت في ذلك الجمع المبارك والذي تم في المسجد الأقصى الذي استحق أن يبارك الله فيه وحوله ، وبعد أن اجتمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلم بموكب الرسل الكرام واستمع منهم وسألهم والتقى بهم والتقوا به قام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلى بهم إماما فكانت آية من الله وما أعظمها من آية فـ ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا وله لنريه من ءايتنا إنه هو السميع البصير ) الإسراء آية 7.

      أما لقاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأنبياء وارتقاؤه عليهم فله مدلول آخر..
      فهو كلما التقى رسول ارتقاه من آدم إلى إبراهيم وإمامته صلى الله عليه وسلم للأنبياء ما هي إلا إعلان من الله تعالى بالتسليم لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فالله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على جميع خلقه يوم أن خلق آدم عليه السلام في اليوم المعروف بعالم الذر.
      ﭧ ﭨ
      ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭵ ﭶﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ [الأعراف: ١٧٢]
      ثم اصطفى الله من جميع خلقه أنبيائه ورسله الكرام فأخذ سبحانه وتعالى عليهم الميثاق بأن يؤمنوا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وينصرونه إن هم أدركوه، كأن الأنبياء قد نصحوا الأمم.

      ﭧ ﭨ ﭽ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ[آل عمران: ٨١]

      ثم جاء الوقت ليُعِلنوا هم تسليمهم وإسلامهم وراء محمد صلى الله عليه وسلم. فجمعهم الله سبحانه وتعالى به صلى الله عليه وسلم ليتم تحقق وعد رسله الكرام له جلّ علاه، ولتأكيد شهادتهم له فكان لهم ذلك بأن جمعهم بنبيه صلى الله عليه وسلم وإياهم ليلة العروج إلى السماء بقانونه هو فكان عليه الصلاة والسلام حياً بقانون الأحياء وكانوا هم أمواتاً بقانون الأموات، فجلس معهم وسمع منهم وهو العليم بأحوالهم فلقد أخبره الله تعالى عنهم قبل ذلك.
      ﭧ ﭨ ﭽ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ [الزخرف: ٤٥]

      فكيف سيتم تحقق مراد الله تعالى حينما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى:
      ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ..

      كان ذلك بالمعراج إلى الأرض المباركة ، وهناك تحقق مراد الله تعالى قبل عروجه صلى الله عليه وسلم إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى، فجلس معهم في أول لقاء قمة عرفه التاريخ حثهم وحدثوه وأخبرهم وأخبروه وفي النهاية جاء بيان القمة الختامي بأن أقروا جميعا إمامة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بما فيهم أبيهم آدم ، وفي هذا المؤتمر أخذ الله عليهم الميثاق مرة أخرى وأشهدهم على أنفسهم وكان الله عز وجل معهم من الشاهدين:

      ﭧ ﭨ ﭽ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ[آل عمران: ٨١]
      التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 28 أكت, 2020, 06:58 ص.

      تعليق


      • #18
        الدراسة كاملة وبنظام الـ pdf وذلك لتعذر قراءة الآيات البينات لمن لا يستعمل مصحف المدينة المنورة في الكتابة .حيث تحولت الآيات القرآنية إلى حروف ومربعات، ولست أدري ما السبب .
        أسأل الله العلي العظيم أن ينفع بها كل مسلم يعتز بإسلامه و بكتاب الله الكريم ورسول صلى الله عليه وسلم .
        التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 28 أكت, 2020, 06:58 ص.

        تعليق


        • #19
          لقد ظهرت الآيات القرآنية مرة أخرى وبالرسم العثماني فهل هي عندي أنا وحدي أم أنها هكذا ظهرت عند الكل..
          أرجو الإفادة..والملف لم يتم تحميله نظراً لسعته الكبيرة.
          زهدي
          التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 28 أكت, 2020, 06:58 ص.

          تعليق


          • #20
            فور الانتهاء من كتابة الدروس في الإسراء والعروج قام فضيلة الشيخ العالم محمود غريب وهو من علماء الأزهر الشريف الأجلاء بإلقاء خطبة الجمعة تعليقاً على ما كنت قد كتبت وكان عنيفاً عند طرحه للموضوع، ولم أشأ أن أناقشه بعد الخطبة فيما قال احتراماً لقدره أولاً..
            وثانياً..لأنه بطبيعته يرفض الاستماع للرأي الأخر سواء أكان هذا الطرف الأخر مناقشاً أو محاوراً أو مجادلاً..فهذه الأبواب الثلاثة مغلقة عنده أياً كانت شخصية المناقش أو المحاور..حتى تلقيت مقالاً له تعليقاً على الدروس.
            وهائنذا وأنشره بتمامه ملحقا به ردي المتواضع عليه.. ولم أن أنشره إلا بعد أن سلمته ردي عليه..وإليكم المقال مشفوعاً بردي عليه..

            قضية الزمن في ترتيب الآيات


            للشيخ محمود غريب .
            عندما حاولت دراسة موضوع المعراج وجدت مشكلة لم يحاول كثير من المفسرين أن يناقشها
            وهذا في حدود التفاسير التي قرأتها .
            هذه المشكلة أن سورة النجمة نزلت في السنة الخامسة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم نزلت قبل حادث الإسراء بعدة سنوات ، لكن السورة الكريمة تكلّمت في أولها عن المعراج
            قال تعالى:
            [ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى{5} ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى{6} وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى{7}] النجم:7.
            وهذا مما جعل بعض العلماء يقول إن المعراج في سورة النجم كان رؤية رآها النبي صلى الله عليه وسلم . فهذا الموضوع يحتاج إلى تحقيق علمي .

            صحيح أن سورة النجم نزلت قبل حادث الإسراء بعدّة سنوات لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية الأخيرة منها عند الكعبة وسجد فسجد معه المسلمون وسجد معه المشركون إلا كهلاَ من أهل الشرك وهو أميّة بن خلف حمل بعض التراب أو الحصى إلى جبهته وقال يكفني هذا [ التحرير والتنوير ج 27 ص 162]..
            وعندما وصل خبر سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين في الحبشة كان هذا أحد أسباب رجوعهم إلى مكة .
            يبقي السؤال بل يتأكد هذا السؤال ، كيف تذكر السورة الكريمة آيات المعراج ، قبل الإسراء بعدة سنوات ؟..
            وخلاصة دراستي أن بعض سور القرآن نزل آخرها قبل أوّلها، وبعض قصص القرآن كذلك .
            سورة الممتحنة.. نزل آخرها ضمن موضوع ( صلح الحديبية ) وصلح الحديبة كان في ذي القعدة من سنة ست للهجرة " فقه السيرة للبوطي "..
            فقد جاء في شروط الصلح أن من يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة مسلماَ فعلى النبي أن يردّه لمكة . ومن ذهب من المسلمين إلى مكة مرتداَ لا تردّه قريش . وحدث ما حدث بين المسلمين ،
            وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه جمع من النساء تقودهن السيدة أم كلثوم بنت عقبة، فهل يردهن النبي صلى الله عليه وسلم حسب شروط الصلح ؟ هنا قال القرآن:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{10}] الممتحنة: 10.
            بل أباح القرآن أن يتزوج المسلم بها غير محترم للزواج الأول بالكافر لاختلاف الدين إيماناَ وشركاَ .
            قال تعالى:[ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ] الممتحنة 10.
            فهذا المقطع من السورة نزل في السنة السادسة من الهجرة ، بينما أوّل آية من السورة الكريمة نزل بسبب موضوع ( حاطب بن أبي بلعته ) عندما أفشى سر النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل إلى قريش يخبرهم بأن النبي في الطريق إليهم ،والقصة مشهورة في كتب السيرة وفي التفاسير .
            أول آية نزلت في طريق النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة .
            قال تعالى:
            [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ{1}] أول الممتحنة .
            فآخر السورة نزل قبل أولها بعدّة سنوات... كذلك سورة النجم . وانتهى الأمر بدون حاجة إلى التأويل أو القول بتعدّد المعراج بدون دليل .


            والقصة كذلك.. فقد ينزل آخر القصة قبل أوّلها . واخترت لهذا قصة البقرة في عهد موسى عليه السلام . نزل آخرها [ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ{67}]سورة البقرة: 67.
            والحوار موجود بين موسى وبني إسرائيل.
            ومعلوم أن هذا حدث بعد أن قتل رجل من بني إسرائيل واختلفوا في قاتله فأمر الله موسى أن يذبحوا بقرة ويضربوا المقتول ببعضها .
            فأوّل القصة في الآية 72 من السورة الكريمة بينما آخرها متقدّم في الآية 67 " [وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ{72} فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{73}] البقرة: 72.
            إنّ الزمن عند الله يختلف عن الزمن عندنا.
            وبعد :
            فليس الأصل في ترتيب الآيات في المصحف هو وقت نزول الآية ، ولكن الأصل هو مطابقة المصحف الذي بين أيدينا للمصحف الأصل الذي في اللوح المحفوظ والذي لا يمسّه إلا المطهرون من الملائكة .
            فالمصحف الذي بين أيدينا يطابق مصحف الملأ الأعلى الذي أوّله الفاتحة ثم سورة البقرة وآخرة سورة الناس. ولولا هذا لكان مصحفنا قد رتّب حسب ترتيب النزول – أول آية في سورة ( اقرأ )..وآخر أية:[ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ{281}] البقرة: 281 .. فمن أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم بهذا الترتيب ؟
            الإجابة سهلة وهي أن جبريل كان ينزل في كل عام في ( رمضان ) ويراجع مع النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل من القرآن .
            وآيات القرآن تشهد بهذا.[ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ{77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ{78} لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ{79} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{80}] الواقعة: 77.
            والمطهّرون هم الملائكة، أما البشر فمتطهّرون[وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ{222}] " إن الله يحبّ التوابين ويحبّ المتطهرين " [ سورة البقرة 222]
            وفي آخر سورة البروج جاء قوله تعالى:[ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ{21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ{22}] ..لعلى قد وفقت في فهم هذا الموضوع . حتى لا نخطئ فهم القرآن .


            التعليق


            أولاً


            1ـ قول فضيلة الشيخ: (أن بعض سور القرآن نزل آخرها قبل أوّلها)..هذا حق يعرفه أي دارس لعلوم القرآن وأسباب النزول والتنزيل..ولكنه حينما استشهد بما هو في سورة النجم فلقد كان استشهاده لا يعدو إلا أن يكون استقراء سالب لقضية كلية موجبة..
            فهو لم يشر لا من قريب ولا من بعيد لحديث الإمام البخاري رقم 6963 صحيح البخاري، كتاب التوحيد.والذي جاء فيه:[ حَدَّثَنَا ‏ ‏عَبْدُ الْعَزِيزِبْنُ عَبْدِ اللَّهِ ‏ ‏حَدَّثَنِي ‏ ‏سُلَيْمَانُ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏شَرِيكِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ ‏ ‏أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ ‏ ‏أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ‏ ‏يَقُولُ ‏لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏مِنْ ‏مَسْجِدِالْكَعْبَةِ ‏ ‏أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ‏ ‏قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ ‏ ‏وَهُوَنَائِمٌ فِي‏الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ‏فَقَالَ أَوَّلُهُمْ أَيُّهُمْ هُوَ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ فَقَالَ آخِرُهُمْ خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى ‏ ‏فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ ‏ ‏وَلَايَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَاتَنَامُ قُلُوبُهُمْ ...........إلى قوله :
            حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَدَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ ‏ ‏مُوسَى ..........إلى قوله:
            ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏يَا ‏ ‏مُوسَى ‏ ‏قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ قَالَ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ قَالَ وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ]اﻫ.

            2ـ والحديث بتمامه وبتعليقنا عليه مذكور في الدرس الرابع..ولا حاجة لإعادة ما قلناه..المهم أن هذا الحديث يستدل به الطاعنون في سنة النبي صلى الله عليه وسلم للنيل من البخاري وصحيحه ..والشيخ من أشد المدافعين عن السنه..فماذا يقول فضيلته..وأرجو أن تعيد قراءة الحديث بتأن وروية ففي نهاية الحديث قول الراوي:[ قَالَ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ قَالَ وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ‏]اﻫ.

            3ـ وقلنا في الدرس الخامس:[ ولو أننا تصفحناالروايات التي تجمع بين الأمرين وتقول بعروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيت المقدس بعد إسرائه ولقائه الأنبياء وصلاته معهم.. ظهر لنا أنها اختلطت في بعضهاواضطربت اضطرابا شديدا، فمثلا يقول الرواة أن المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي الأنبياء ومنهم آدم وموسى وعيسى، وصلى بهم في بيت المقدس، وبعد فترة وجيزة صعد إلى السماء ولقيهم، ولكنه لم يتعرف عليهم وأخذ يسأل جبريل: من هذا؟ فيجيبه جبريل عليه السلام، وهذاأمر لا يسيغه الوجدان ولا يتقبله العقل، فكيف يغيب عن ذهنه وينسى وجوه أشخاص من أمثال هؤلاء الأنبياء العظام، قابلهم وصلى بهم منذ فترة قصيرة؟ وهذا، وإن كان دليلا واضحا على خلط الرواة بين الأحداث المتشابهة فهو أيضا دليل على الفارق الزمني بين العروج والإسراء.
            إن المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى الأنبياء أولا في عروجه المنامي ولم يكن يعرف حليتهم فسأل عنهم، لكن لم يرد سؤاله عنهم عند لقائه بهم في رحلةالإسراء ولا بعد عروجه إلى السماء بالروح والجسد لأنه ببساطة شديدة كان يعرفهم...

            4ـ ونسأل فضيلة الشيخ.. فماذا عن حديث البخاري رقم 6525باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح..والذي فيه:
            [حَدَّثَنِي ‏ ‏مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ أَبُو هِشَامٍ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏‏إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏عَوْفٌ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏أَبُورَجَاءٍ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏‏قَالَ:‏
            ‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ ‏ ‏هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا قَالَ فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ.
            وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ ‏ ‏غَدَاةٍ ‏ ‏إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ ‏‏آتِيَانِ ‏ ‏وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي انْطَلِقْ وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ ‏ ‏فَيَثْلَغُ ‏ ‏رَأْسَهُ ‏ ‏فَيَتَهَدْهَدُ ‏ ‏الْحَجَرُ هَا هُنَا فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى قَالَ قُلْتُ لَهُمَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقْ انْطَلِقْ قَالَ فَانْطَلَقْنَا .....إلى آخر الحديث والمذكور بتمامه مع التعليق وكل المرائي الموجودة في هذا الحديث عليه هي التي يستدل بها الدعاة عند تناولهم لحديث الإسراء والعروج والتي تناولناه في الدرس السادس بالتفصيل.فما هو رأي فضيلته وكيف يوفق بين هذه الأحاديث وبين ما يقال من طعون؟!..

            وقد بوب جماعة من أهل العلم المعراج قبل الإسراء ، وجزم الواقدي بذلك وفرق بينهما بزمان ( انظر الطبقات وسيرة الذهبي ) ، وقال المناوي : اختلف في المعراج والإسراء هل كانا في ليلة واحدة أو ليلتين وأيهما كان قبل وهل كان يقظة أو مناماً بجسده أو بروحه مرة أو أكثر على أقاويل لا تكاد تحصى ( العجالة السنية ص65 ) .

            وقال ابن كثير : ثم اختلفوا في اجتماعه بالأنبياء وصلاته بهم أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم أو بعد نزوله منها كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب( انظر البداية 3/111 (.
            6ـ يأتي الحديث على سورة النجم.
            ولقد تناولنا الحديث عن زمن نزول سورة النجم في الدرس السابع..
            فالسورة تتحدث صراحة عن العروج مع أنها نزلت كاملة بعد خمس سنوات من البعثة وقبل حادثة الإسراء بسبع سنين.
            كما أن الصلاة فرضت على المسلمين بحديث البخاري وذلك في السنة الثالثة للبعثة على أقصى تقدير ولم يكن قد أسري برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
            فالشيخ تحدث عن مناسبات السور ..وهذا كلام حق ولا جدال فيه..إلا أن فضيلته لم يذكر لنا من أين استقى كلامه والذي يقول فيه أن آخر سورة النجم نزلت قبل أولها..
            هذا اجتهاد منه يحمد عليه فهو من أئمة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم..ولكنه لم يستشهد بأي مرجع من المراجع الأم عند المسلمين..
            ومن ثم قال:
            [ فآخر السورة نزل قبل أولها بعدّة سنوات... كذلك سورة النجم . وانتهى الأمر بدون حاجة إلى التأويل أو القول بتعدّد المعراج بدون دليل . ]..فهذا القول رأيه هو الأمر الذي جعلنا نقول ونصف هذا الكلام بأنه استقراء ناقص لقضية كلية موجبة.لماذا؟..
            لأن هذا القول الذي قاله لم يقل به:
            الأئمة العلام أصحاب الكتب الخاصة بعلوم القرآن الكريم أمثال:
            ـ الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي.في كتابه " البرهان في علوم القرآن" ..
            ( جمع فيه المؤلف علوم القرآن التي كانت مفرقة في مصنفات مستقلة، كأسباب النزول، ومعرفة المناسبات بين الآيات، وعلم القراءات، وإعجاز القرآن، والناسخ والمنسوخ، وإعراب القرآن، والوجوه والنظائر، وعلم المتشابه، وعلم المبهمات ،وأسرار فواتح السور وخواتمها، ومعرفة المكي والمدني. حاول المصنف في هذاالكتاب أن يستوفي كل علم بمفرده باختصار، فكان يؤرخ له ، ويحصي الكتب التي ألفت فيه ، ويشير إلى العلماء الذين تدارسوه ، ثم يذكر مسائله ، ويبين أقوال العلماء فيه، وينقل آراء علماء التفسير والمحدثين والفقهاء والأصوليين وعلماء العربية وأصحاب الجدل . ).
            ـ الإمام ألبقاعي ..في كتابه " نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" .... [كتاب جليل وضع فيه مصنفه علما لم يسبقه إليه أحد، ذكر فيه مناسبات ترتيب السور والآيات، أطال فيه التدبر وأنعم فيه التفكر لآيات الكتاب. فهو إذا يشمل على أحد جوانب الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم. بين فيه الربط بين جميع أجزاء القرآن، ووجه النظم مفصلا بين كل آية وآية في كل سورة من القرآن الكريم استغرق في إعداده اثنين وعشرين عاما].
            ـ الحافظ ابن حجر العسقلاني ..في كتابه"العجاب في بيان الأسباب"..[هذا الكتاب من أهم المصنفات في علم " أسباب النزول " وهو تتميم لكتاب الواحدي في هذا الفن قام الحافظ - رحمه الله - بتلخيص كلامه وتتبع ما فاته من محذوف الأسانيد مع بيان حال الأحاديث والآثار من حيث الصحة والحسن والضعف والوهاء يبدأ غالباً بكلام الواحدي ثم بما استفاده من كلام الجعبري ثم بما التقطه من كتب غيرهما من كتب التفاسير والمغازي والمسانيد والسنن والآثار والأجزاء المتفرقة ناسبا كل رواية لراويها وكل مقالة لمخرجها مكتفيا بأسباب النزول الظاهرة معرضاً عما كان من قبيل التأويل ورتبه مؤلفه حسب السور على ترتيبها في المصحف.].
            ـ " أسرار ترتيب القران للسيوطي"..[ وهو كتاب يبحث أسرار ترتيب سور القرآن، وتوخى فيه مؤلفه الربط بين نهايات السور وبدايات السور التاليات لها، وقد عرض في ثنايا حديثه لأسباب النزول، والكتاب مرتب حسب ترتيب السور والآيات].
            بالإضافة إلى مخالفته لكل ما هو مكتوب في كتب التفاسير التالية:
            ـ كتاب الجامع لأحكام القرآن، المشهور بـ "تفسير القرطبي"، تأليف أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي.
            ـ " جامع البيان عن تأويل آي القرآن".. تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ﻫ.
            ـ " التحريروالتنوير"..تأليف محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي ت 1393 ﻫ.
            ـ " مفاتيح الغيب" للإمام أبي فخر الرازي..
            ـ تفسير ألنسفي تأليف الإمام الجليل العلامة أبي البركات عبد الله ابن أحمد بن محمود ألنسفي.
            ـ " تفسير القران العظيم" للإمام الحافظ عماد الدين ، أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي.المتوفى سنة 774 ﻫ.
            ونكتفي بهذا القدر ..




            ثانياً


            بقيت مسألة استدلال فضيلته بما هو موجود في القصة القرآنية واستدل فضيلته بقصة البقرة..
            وهذا الاستدلال ليس في محله إذ أنه لم يقل به أي أحد من المفسرين ولم نسمع أياً منهم قال أن آخر القصة نزل بعد أولها..ولكن هذا أسلوب القرآن الكريم والفريد عند عرضه للقصص القرآني ،،ولقد أفاض المرحوم سيد قطب في هذه المسألة وذلك في كتابه" التصوير الفني للقرآن"..
            وللأهمية نذكر ما قاله المرحوم سيد قطب في هذا المجال تعميما للفائدة



            الخصائص الفنية للقصة
            قال المرحوم سيد قطب أن القصة القرآنية لها ظواهر قال:

            (......وثانية هذه الخصائص تنوع طريقة المفاجأة .
            مرة يُكشف السر للنظارة , ويترك أبطال القصة عنه في عماية ؛ وهؤلاء يتصرفون وهم جاهلون بالسر , وأولئك يشاهدون تصرفاتهم عالمين . وأغلب ما يكون ذلك في معرض السخرية , ليشترك النظارة فيها , منذ أول لحظة , حيث تتاح لهم السخرية من تصرفات الممثلين !.. وقد شاهدنا مثلا من ذلك في قصة أصحاب الجنة : " .... إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ . وَلَا يَسْتَثْنُونَ . فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ " .
            وبينما نحن نعلم هذا , كان أصحاب الجنة يجهلونه : " فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ . أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ . فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ .أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ . وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ " .
            وقد ظللنا نحن النظارة نسخر منهم , وهم يتنادون ويتخافتون , والجنة خاوية كالصريم ؛ حتى انكشف لهم السر أخيرا بعد أن شبعنا تهكما وسخرا : " فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ" ! وذلك جزاء من يحرم المساكين ! . فهذا لون من ألوان التناسق كذلك , يضاف إلى نظائره هنالك .
            ومرة يكشف بعض السر للنظارة , وهو خاف على البطل في موضع , وخاف على النظارة وعن البطل في موضع آخر , في القصة الواحدة . مثال ذلك قصة عرش بلقيس الذي جيء به في غمضة , وعرفنا نحن أنه بين يدي سليمان , في حين أن بلقيس ظلت تجهل ما نعلم : " فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ..." . فهذه مفاجأة عرفنا نحن سرها سلفا . ولكن مفاجأة الصرح الممرد من قوارير , ظلت خافية علينا وعليها حتى فوجئنا بسرها معها حينما " قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ..." . ! .

            ومرة لا يكون هناك سر , بل تواجه المفاجأة البطل والنظارة في آن واحد , ويعلمان سرها في الوقت ذاته : وذلك كمفاجآت قصة مريم , حين تتخذ من دون أهلها حجابا , فتفاجأ هناك بالروح الأمين في هيئة رجل , فتقول :
            " قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً " . نعم إننا عرفنا قرفنا قبلها بلحظة أنه " الروح " ولكن الموقف لم يطل فقد أخبرها : " قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً" . ! وقد فوجئنا كذلك معها إذ أجاءها المخاض إلى جذع النخلة " .... قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً . فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً " . .... إلخ..

            ومرة يكتم سر المفاجأة عن البطل وعن النظارة , حتى يُكشف لهم معا في آن واحد . مثال ذلك قصة موسى مع العبد الصالح العالم في سورة الكهف فهي تجري هكذا : " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً . فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً . فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً . قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً . قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً . فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً . قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً . قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً . قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً . قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً . فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً . فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً . قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً . قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً . فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً . قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً " .
            فإلى هنا نحن أمام مفاجآت متوالية, لا نعلم لها سرا, وموقفنا منها كموقف بطلها موسى . بل نحن لا نعرف من هو هذا الذي يتصرف تلك التصرفات العجيبة ولا ينبئنا القرآن باسمه, تكملة للجو الغامض الذي يحيط ينا. وما قيمة اسمه ؟ إنما يراد به أن يمثل الحكمة الكونية العليا , التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة , بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة ؛ فعدم ذكر اسمه يتفق مع هذه الشخصية المعنوية التي يمثلها .
            وان القوى المجهولة لتتحكم في القصة منذ نشأتها ؛ فها هو ذا موسى يريد أن يلقي هذا الرجل الموعود , فيمضي في طريقه ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة , وكأنما نسيه ليعودا, فيجد هذا الرجل هناك؛ وكان لقاؤه يفوتهما لو سارا في وجهتهما, ولو لم تردهما الأقدار إلى الصخرة كرة أخرى ... كل الجو غامض مجهول, وكذلك اسم الرجل الغامض مجهول .
            ثم يأخذ السر في التجلي , فيعلمه النظارة حين يعلمه موسى :
            " أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً . وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً . فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً . وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً" .
            وفي دهشة السر المكشوف يختفي الرجل كما بدا . لقد يخطر للأذهان الدهشة بعد أن تصحو أن تسأل: من هذا ؟ ولكنها لن تتلقى جوابا. لقد مضى في المجهول, كما خرج من المجهول, فالقصة تمثل الحكمة الكبرى , وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار, ثم تبقى مجهولة أبدا .
            ذلك أفق من آفاق التناسق كذلك , كان موضعه في فصل التناسق هنالك . فليرده القارئ بنفسه إلى تلك الآفاق !..
            تعليق من عندنا:
            ومن هذا النوع قصة بقرة بني إسرائيل الموجودة في سورة البقرة والتي استشهد بها فضيلته.. فنحن في القصة أمام مفاجآت متوالية, لا نعلم لها سرا, وموقفنا منها كموقف بطلها موسى عليه السلام ومعه بني إسرائيل. فهنا يكتم القرآن الكريم سر المفاجأة عن أبطال القصة وعن النظارة , حتى يُكشف لهم معا في آن واحد . ثم يأخذ السر في التجلي , فيعلمه النظارة حين يعلمه موسى ومعه بني إسرائيل..وهذا فن من فنون عرض القصة القرآنية ولم يقل أحد أن نزول أخر القصة نزل في زمن وأول القصة نزل في زمن أخر..
            فالاستشهاد هنا استشهاد في غير محله..
            وماذا عن فرضية الصلاة التي نزلت في الفترة الأولى من البعثة المحمدية الشريفة.. أي في أوائل السنةالثانية أو منتصفها. وأنها ـ أي الصلاة ـ من أوائل ما نزل من الأحكام .

            فاصل زمني بين الإسراءوالمعراج
            إذن هناك فاصل زمني بين المعراج والإسراء لا يقل عنخمس سنوات، وقد يصل إلى سبع سنوات.
            وأن المعراج هو الذي وقع أولاً وفيه فرضيةالصلاة، ورؤية الله تعالى، والوصول إلى سدرة المنتهى والجنة، وأنه ذكر في سورةالنجم التي لم يرد فيها أي ذكر للإسراء.
            أما الإسراء فقد وقع قُبيل الهجرة، وقد وردفي سورة الإسراء التي لم يرد فيها أي ذكر للمعراج.
            وخلاصة القول إن ما سقناه من شهادات وأدلة نقلية وعقلية من داخلالروايات وخارجها وذلك على مدى الدروس العشرة السابقة لفيه الكفاية للدلالة على أن العروج رحلة بعيدة في زمنها عن رحلةالإسراء، وكل منها مستقل وقائم بذاته وأنها كانت مناماً وتمت بالروح فقط (حديث رقم 6963 صحيح البخاري ..وحديث رقم 6525باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح )..

            ثم بعد أن تم الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المسجد الأقصى بالروح والجسد وصلى بالأنبياء والمرسلين إماماً بعدها عُرج به إلي السموات العلا بالروح والجسد..

            وما رآه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ذلك (مناماً ورؤيا )...
            رآه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك (عياناً ورؤية ).

            وصلى اللهم وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
            التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 28 أكت, 2020, 06:58 ص.

            تعليق

            مواضيع ذات صلة

            تقليص

            المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
            ابتدأ بواسطة عاشق طيبة, 26 ينا, 2023, 02:58 م
            ردود 0
            39 مشاهدات
            0 معجبون
            آخر مشاركة عاشق طيبة
            بواسطة عاشق طيبة
             
            ابتدأ بواسطة عطيه الدماطى, 23 ينا, 2023, 12:27 ص
            ردود 0
            61 مشاهدات
            0 معجبون
            آخر مشاركة عطيه الدماطى  
            ابتدأ بواسطة د. نيو, 24 أبر, 2022, 07:35 ص
            رد 1
            63 مشاهدات
            0 معجبون
            آخر مشاركة د. نيو
            بواسطة د. نيو
             
            ابتدأ بواسطة محمد بن يوسف, 1 نوف, 2021, 04:00 م
            ردود 0
            22 مشاهدات
            0 معجبون
            آخر مشاركة محمد بن يوسف
            بواسطة محمد بن يوسف
             
            ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 18 يون, 2021, 02:47 ص
            ردود 0
            73 مشاهدات
            0 معجبون
            آخر مشاركة *اسلامي عزي*
            بواسطة *اسلامي عزي*
             
            يعمل...
            X