بعض من فضائل مصر


بسـم الله الرحمـن الرحيـم

وبالله التوفيق والإعانة
أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد المعدل المعروف بابن النحاس أخبرنا عمر بن أبي محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي المصري رحمه الله، قال: هذا كتاب أمر بجمعه وحض على تأليفه أبو المسك كافور، يذكر فيه مصر وما خصها الله به من الفضل والبركات والخيرات، على سائر البلدان، فزاد الله الأستاذ رغبة في العلم، ولأهله محبة، وعليه مثابرة وشهوة، فمثله رغب في مثله، وحث على جمعه. إذ كان أردشير زمانه في السياسة والعمارة، وواحد دهره في عدله ورأفته، ورفقه برعيته، فلا أزال الله عناظله، وأمتعنا ببقائه، ودوام أيامه، وجعل ما خصه به من الفضل في دنياه، موصولا بأخراه.
فجمعت ما أمر به من كتب شيوخ المصريين وغيرهم من أهل العلم والخبرة، والبحث والذكاء والفطنة، والتفتيش والرحلة والطلب.
فمن مشهوريهم: يزيد بن أبي حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر. وبعدهما: الليث بن سعد، وعبد الله بنلهيعة.
وبعدهما: سعيد بن كثير بن عفير، وعثمان بن صالح السهمي.
وبعدهما: خلف بن ربيعة، وعبد الرحمن بن ميسرة، وأحمد بن يحيى بن الوزير،وأبو خيثمة علي بن عمرو بن خالد.
وبعد هذه الطبقة: يحيى بن عثمان بن صالح،وعبيد الله بن سعيد بن كثير بن عفير.
وبعدهما: علي بن الحسن بن خلف بنقديد، ومحمد بن الربيع ابن سليمان الجيزي.
وبعدهما: أبو عمر محمد بن يوسفبن يعقوب الكندي، وأبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى فأعلمت نفسيفيما تأدى إلى من الأخبار لمن ذكرتهم ورواياتهم، وألفته واختصرت المتون، وأسقطتالأسانيد؛ لتتسق أخباره، ويسهل استماعه، وتقرب فائدته، على اسم الله وعونه والصلاةعلى نبينا محمد وعلى آله.


فضل مصر على غيرها
فأقول: فضل الله مصر على سائر البلدان، كما فضل بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض،والفضل على ضربين: في دين أو دنيا، أو فيهما جميعا، وقد فضل الله مصر وشهد لها في كتابه بالكرم وعظم المنزلة وذكرها باسمها وخصها دون غيرها، وكرر ذكرها، وأبان فضلها في آيات من القرآن العظيم، تنبئ عن مصر وأحوالها، وأحوال الأنبياء بها، والأمم الخالية والملوك الماضية، والآيات البينات، يشهد لها بذلك القرآن، وكفى به شهيداً،ومع ذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في مصر وفي عجمها خاصة وذكره لقرابته ورحمهم ومباركته عليهم وعلى بلدهم وحثه على برهم ما لم يرو عنه في قوم من العجم غيرهم، وسنذكر ذلك إن شاء الله في موضعه مع ما خصها الله به من الخصب والفضل وماأنزل فيها من البركات وأخرج منها من الأنبياء والعلماء والحكماء والخواص والملوك والعجائب بما لم يخصص الله به بلداً غيرها، ولا أرضا سواها، فإن ثرب علينا مثرب بذكر الحرمين، أو شنع مشنع، فللحرمين فضلهما الذي لا يدفع، وما خصهما الله به ممالا ينكر من موضع بيته الحرام، وقبر نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس ما فضلهما اللهبه بباخس فضل مصر ولا بناقص منزلتها، وإن منافعها في الحرمين لبينة لأنها تميرهما بطعامها وخصبها وكسوتها وسائر مرافقها، فلها بذلك فضل كبير، ومع ذلك فإنها تطعم أهل الدنيا ممن يرد إليها من الحاج طول مقامهم يأكلون ويتزودون من طعامها من أقصى جنوب الأرض وشمالها ممن كان من المسلمين في بلاد الهند والأندلس وما بينهما، لا ينكر هذا منكر، ولا يدفعه دافع، وكفى بذلك فضلا وبركة في دين ودنيا.
ذكر ماورد في فضل مصر
فأما ما ذكره الله عز وجل في كتابه مما اختصرناه من ذكر مصر. فقول الله تعالى: {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوابيوتكم قبلة} وما ذكره الله عز وجل حكاية عن قول يوسف: {ادخلوا مصر إن شاء الله أمنين} وقال عز وجل: {اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} وقال تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأمه أيةً وأوينهما إلى ربوةٍ ذات قرار ومعين} قال بعض المفسرين: هي مصر. وقال بعض علماء مصر: هي البهنسا. وقبط مصر مجمعون على أن المسيح عيسى بن مريم وأمه عليهماالسلام كانا بالبهنسا وانتقلا عنها إلى القدس.
وقال بعض المفسرين: الربوة دمشق، والله أعلم.
وقال تعالى: {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه}.
وقال تعالى: {وقال نسوة في المدينة أمرأة العزيز تراود فتها عن نفسه} والمدينة: منف، والعزيز ملك مصر حينئذ.
وقال تعالى: {ودخل المدينةعلى حين غفلةٍ من أهلها} هي منف، مدينة فرعون.
وقال تعالى: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} هي منف أيضاً.
وقال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: {يأيهاالعزيز} وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو} فجعل الشام بدوا، وقال تعالى حكاية عن فرعون وافتخاره بمصر: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي} وقال تعالى حين وصف مصر وما كان فيه آل فرعون من النعمة والملك بما لم يصف به مشرقا ولا مغربا، ولا سهلا ولا جبلا، ولابرا ولا بحرا: {كم تركوا من جناتٍ وعيونٍ وزروعٍ ومقامٍ كريمٍ ونعمةٍ كانوا فيها فاكهين} فهل يعلم أن بلداً من البلدان في جميع أقطار الأرض أثنى عليه الكتاب بمثل هذا الثناء، أو وصفه بمثل هذا الوصف، أو شهد له بالكرم غير مصر؟ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ستفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لكم منهم صهرا وذمة).
وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما).
فأماالرحم، فإن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام من القبط من قرية نحوالفرما يقال لها: أم العرب.
وأما الذمة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم،تسرى من القبط مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من قرية نحوالصعيد، يقال لها حفن من كورة أنصنا، فالعرب والمسلمون كافة لهم نسب بمصر من جهةأمهم مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أزواج النبي صلى اللهعليه وسلم أمهات المؤمنين، والقبط أخوالهم.
وصارت العرب كافة من مصر، بأمهمهاجر؛ لأنها أم إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وهو أبو العرب.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ستكونون أجنادا، وخير أجنادكم الجند الغربي، فاتقواالله في القبط: لا تأكلوهم اكل الخضر).
وروى عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا؛ فذلك الجند خيرأجناد الأرض). قال أبو رضي الله عنه: ولم ذلك يا رسول؟ قال: (لأنهم في رباط إلى يوم القيامة).

دعاء الأنبياء لمصر وأهلها
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جماعة من الملوك منهم هرقل، فما أجابه أحد منهم، وكتب إلى المقوقس صاحب مصر فأجابه عن كتابه جواباً جميلا، وأهدى إليه ثياباً وكراعاً وجارتين من القبط؛ مارية وأختها وأهدى إليه عسلا فقبل هديته، وتسرى مارية، فأولدها ابنة إبراهيم، وأهدى أختها لحسان ابن ثابت فأولدها عبد الرحمن بن حسان.
وسأل عليه الصلاة والسلام عن العسل الذي أهدى إليه، فقال من أين هذا؟ فقيل له من قرية بمصر يقال لها بنها، فقال: (اللهم بارك في بنها وفي عسلها) فعسلها إلى يومنا هذاخير عسل مصر.
وروى عن عبد الله بن عباس أنه قال: دعا نوح عليه السلام ربه،لولده وولد ولده: مصر بن بيصر بن حام بن نوح، وبه سميت مصر، وهو أبو القيط فقال: اللهم بارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أم البلاد وغوث العباد،ونهرها أفضل أنهار الدنيا واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الروض، وذللها لهم، وقوهم عليها.
والكعبة: البيت الحرام، وهو بيت هاجر وابنها إسماعيلعليهما السلام اللذين كانا يسكنانه، وروى أن البيت هدم في الجاهلية فولت قريش بناءهرجلا من القبط يقال له: بقوم، فأدركه افسلام وهو على ذلك البناء.

من صاهر القبط من الأنبياء
وصاهر القبط من الأنبياء إبراهيمالخليل عليه السلام، بتسريه هاجر أم إسماعيل عليهما السلام.
ويوسف بتزوجه بنت صاحب عين شمس التي ذكرها الله في كتابه، فقال تعالى: {وغلقت الأبواب وقالت هيتلك} ومحمد صلى الله عليه وسلم بتسريه مارية.
من ذكرهم الله تعالى في كتابه من أهل مصر
وممن ذكرهم الله تعالى في كتابه من أهل مصر، رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه.
قال تعالى: {وقال رجل مؤمن من أل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم}.
ومنهم قارون،وكان ابن عم موسى: قال الله تعالى: {وأتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة}.
وقال عز وجل: {فخرج على قومه في زينته}.
وكان قارون أيسر أهل الدنيا.
ومنهم: هامان، قال تعالى: {وقال فرعون يأيها الملأ ماعلمت لكم من إلهٍ غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً}.
ومنهم فيما يقال: الخضر عليه السلام، وروى بعض أهل العلم أنه ابن فرعون موسى لصلبه، وكان آمن بموسى، وجاز البحر معه، وكان مقدما عنده، وكان نبياً.
ومنهم: وزراء فرعون وجلساؤه، ذكر الله تعالى عنهم في كتابه حسن المحضر ورجاحة العقل، قال تعالى حكاية عن فرعون: {قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحارٍ عليم}.
فهل في الدنيا جلساء ملك أرجح عقلا واحسن محضرا منهم؟ حيث أنصفوا، وأمروا أن يمتحن بمثل ما وقع لهم أنه يشبه ما جاء به، ولم يكونوا في المنزلة وقبح المحضركوزراء نمرود، حين شاورهم في إبراهيم عليه السلام.
قال تعالى حكاية عنهم: {قالوا حرقوه وانصروا ألهتكم إن كنتم فاعلين}.
ذكر الله عز وجل ذلك عنهم فيكتابه العزيز.
ومنهم: السحرة الذين تجمعوا لموسى حين رأوا آيات موسى لميصروا على الكفر، ولم يلبثوا أن آمنوا وسجدوا لله عز وجل.
قال تعالى في كتابه: {فألقى السحرة ساجدين قالوا أمنا برب العالمين رب موسى وهارون} وفي آيات كثيرة كرر ذكرهم وأثنى عليهم.
{فاقض ما أنت قاضٍ إنما تقضى هذه الحياةالدنيا}.
وروى ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة السبئي، وبكر بن عمروالخولاني، ويزيد بن أبي حبيب، قالوا: كان عدد السحرة اثنى عشر ساحراً تحت يدي كلساحر منهم عشرون عريفا. تحت يدي كل عريف منهم ألف من السحرة فكان جميع السحرة مائتي ألف وأربعين ألفا ومائتين واثنين وخمسين إنسانا بالرؤساء والعرفاء.
وأجمعت الرواة على أنه لا يعلم جماعة أسلمت في ساعة واحدة أكثر من جماعة القبط، وروى أنهلم يفتتن رجل واحد منهم كما افتتن بنو إسرائيل بعبادة العجل.
وروى أن عبدالله بن عمر وقال: القبط أكرم الأعاجم محتداً، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً،وأقربهم رحماً بالعرب كافة، وبقريش خاصة.
وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مصر أطيب الأرضين ترابا، وعجمها أكرم العجم أنسابا).
وقال بعض أهل العلم: لم يبق من العجم أمة إلا وقد اختلطت بغيرها إلا قبطمصر.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مات ابنه إبراهيم: (لوعاش كان صديقا نبيا، وإن له لمرضعتين في الجنة، ولو عاش لعتقت القبط وما استرق أحدمنهم أبدا).
ذكر من أظهرته مصر من الحكماء
منهم: نيروز أبوبختنصر من أهل قرية يقال لها: سيسرو من كورة أرمنت وكان رجلا من أهل العلم فنظر فيعلمه فإذا به يخرج من صلبه رجل يخرب مصر فأعطى الله عز وجل موثقا أنه لا ينكح امرأةأبداً. وخرج إلى الشام ثم إلى العراق، فأقام بفارس بقرية يقال لها نفر وكان لملكتلك القرية ابنة بها لمم، فوصف المصري لها دواء لعلاجها.
فلما رآها شاهدحسنا بارعا وخطبها من أبيها فدخل عليها فجرت بينهما أسباب حتى حملت منه، فوضعتبختنصر فجرى خراب الدنيا على يديه.
ومنهم: الإسكندر ذو القرنين، من أهل قرية نحو الإسكندرية يقال لها لوبية، ملك الأرض بأسرها، وذكره الله في كتابه العزيزباسمه، فقال تعالى: {ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً إنا مكنا له في الأرض وأتيناه من شيءٍ سببا فأتبع سبباً حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فيعينٍ حمئةٍ ووجد عندها قوماً قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا}.
وبنى سد يأجوج ومأجوج، قال الله تبارك وتعالى: {قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداًقال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوةٍ أجعل بينكم وبينهم ردماً أتوني زبر الحديد} وبنى الإسكندرية ويروى أنها: {إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد}.
وبنى الإسكندرية ببلاد الخزر وبنى مدينة سمرقند وبنى الأبراج والمناظر ببلدالبسكس على بحيرة طابس في آخر العمارة التي بالشمال، وفعل بالعراق الأفاعيلالعجيبة، غضباً لما فعل بختنصر بمصر، فقتل دارا بن دارا، وخرب العراق.
وكتبإلى معلمه بمصر أرسطاطاليس يشاوره في قتل من بقي منهم.
فكتب إليه: لا تفعل،ولكن ول كل رئيس منهم ناحية من بلده، فإنهم يتنافسونفي الرياسة، ولا يجمعهم ملكأبداً، ففعل فلبثوا على ذلك زماناً طويلاً، فلما قام أردشير واجتمعوا عليه، بعد تعبعظيم وحروب ومشقة قال: إن كلمة فرقتنا أربعمائة سنة لكلمة مشئومة.
ومنهم: هرمس، المثلث بالنعمة: نبي، وملك، وحكيم، وهو الذي صير الرصاص ذهباً بصاصا.
ومنهم أغاثيمون، وفيثاغورس، تلميذا هرمس من أصحاب الصابئة، ولهما من العلومصنعة الكيمياء والنجوم والسحر وعلم الروحانيات والطلسمات والبرابي وأسرار الطبيعةوقد أودعت البرابي ذلك.
ومنهم أوسيلا وسيزوارس وبندقليس أصحاب الكهانةوالزجر.
ومنهم سقراط صاحب الكلام على البارئ عز وجل، والحكمة والبلاغة.
ومنهم أفلاطون صاحب السياسة والنواميس والكلام على المدن والملوك.
ومنهم أرسطاطاليس صاحب النطق والآثار العلوية، والحس والمحسوس والكونوالفساد، والسماء والعالم، وسمع الكيان والسماع الطبيعي، ورسالة نبت الذهب، ورسالةالغراء فيما بعد الطبيعة. حتى إن يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب له أكثر منألف كتاب في كل معنى، كلها فصول من كتب أرسطاطاليس.
ومنهم بطلميوس القلوذىصاحب الرصد والحساب، وهو صاحب كتاب المجسطى في تركيب الأفلاك وحركة الشمس والقمروالكواكب المتحركة والثابتة وصورة فلك البروج، وكتاب جغرافيا في مساحة الأرضوأقاليمها، والجبال والبحار وألوانها، والأنهار والعيون وابتدائها وانتهائها، وصفةالأمم الذين يعمرون الأرض، وكتاب الثمرة في أحكام النجوم، وكتاب تسطيح الكرة.
ومنهم أراطس صاحب البيضة ذات الثمانية والأربعين صورة في تشكيل صورة الفلك. والألف كوكب، واثنين وعشرين كوكباً من الكواكب الثابتة، والزيج العلوي.
ومنهم إبرخس صاحب الرصد والالة المعروفة بذات الحلق.
ومنهم ثاونصاحب الزيج المنسوب إليه.
ومنهم دامانيوس، وواليس، وأصطفن أصحاب كتب أحكامالنجوم.
ومنهم إيرن، وله الهندسة والمقادير، وكتاب جر الأثقال، والحيلالروحانية وعمل البنكامات والآلات لقياس الساعات.
ومنهم فيلون البرنطي، ولهعمل الدواليب والأرحية والحركات بالحيل اللطيفة.
ومنهم أرشميدس، صاحب الحيلوالهندسة، والمرايا، والمرايا المحرقة، وعمل المجانيق ورمي الحصون، والحيل علىالجيوش والعساكر براً وبحراً.
ومنهم مارية وقلبطرة، ولهم الطلسمات، والخواصللطبائع.
ومنهم أبلونيوس، وله كتاب المخروطات، وكتاب قطع الخطوط.
ومنهم تابوشيش، وله كتاب الأكر، ومنهم ذيوفنطس، وله كتاب الحساب. ومنهمأوطوقيوس، وله كتاب الكرة والأسطوانة.
ودخلها جالينوس، وديسقوريدس صاحبالحشائش، وديوجانس، وأركاغانس، وأوريباسيوس، وفريقونوس، وروفس ولهم الطب اليوناني.
فكل هؤلاء سكنوا مصر في الدهور الخالية والأيام السالفة، فما غيرت ذهن واحدمنهم ولا أضرت بعقله.

من كان بمصر من الأنبياء
وأما من كان بهامن الأنبياء عليهم السلام، فإبراهيم الخليل، وإسماعيل ويعقوب، ويوسف. واثنا عشرنبياً من ولد يعقوب وهم الأسباط وموسى وهارون ويوشع بن نون، وعيسى بن مريم،ودانيال، عليهم الصلاة والسلام. فهذا ما ذكر: من كان بها قبل الإسلام.

من كان بمصر في الإسلام من الصحابة
وأما من كان بها في الإسلام من الصحابة والفقهاء والعلماء والأحبار والزهاد ومن دخلها من الملوك والخلفاء وأهلالعلم والشعر والنحو والخطابة، وكل من برع على أهل زمانه، أو نجم على أهل عصره،فيتسع ذلك علينا، ولكن نختصر من ذلك على المشهورين.
ذكر أهل العلم والمعرفة والرواية أنه دخل مصر في فتحها ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجلونيف. وقال يزيد بن أبي حبيب: وقف على إقامة قبلة المسجد الجامع ثمانون رجلا منأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. منهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود،وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وفضالة بن عبيد، وعقبة بن عامر وأبو ذر ومحمية بنجزء ونبيه بن صؤاب، ورافع بن مالك، وربيعة بن شرحبيل بن حسنة، وسعد بن أبي وقاصوعمرو ابن علقمة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب وخارجةبن حذافة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليهوسلم، ومحمد بن مسلمة، ومسلمة بن مخلد، وأبو أيوب ورويفع بن ثابت، وهبيب بن مغفل،وكعب بن ضنة، ومعاوية بن حديج، وعمار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة وغيرهم.

من كان بمصر من الفقهاء والعلماء
وأما من كان بها من الفقهاءوالعلماء، فمنهم: يزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد، وله مذهب انفرد به. وهو الذي أخرج الرشيد من يمينه التي عجز عنها فقهاء الدنيا، ومنهم عبد الله بن وهب يفوق بتصنيفه جماعة من الفقهاء المصنفين، وله من تصنيفه نحو مائة جزء، ومنهم عبد الله بنلهيعة، له منزلة في الفقه والحديث والأخبار، ومنهم أشهب، وابن القاسم وعبد الله بنعبد الحكم، وأسد بن موسى، ومحمد بن عبد الحكم، والمزنى، والربيع المؤذن، وأحمد بنسلامة الطحاوي، وكل واحد منهم قد برع في مذهبه، ونجم على أهل عصره، ولكل واحد منهممن الكتب المصنفة ما يعجز عن نظيرها أهل النيا. ومنهم سعيد بن عفير، ويحيى بن عثمان، وابن قديد، ومحمد بن يوسف الكندي، والميسرى، وابن أبي خيثمة، وكل واحد منهم قد فاق أهل عصره وبرز عليهم في الفقه والعلم والأخبار وأيام الناس والافتنان في سائر العلوم.
من كان بمصر من الزهاد حيوة بن شريح، وسليم بن عتر، وسليمان بن القاسم، وأبو الربيع الزبدي، وسعيد الأدم،وإدريس الخولاني وذو النون المصري وغير من ذكرناهم، ونشأ بينهم هانئ ابن المنذر. وشاعرهم: حبيب بن أوس الطائي. وفارسهم: مالك بن ناعمة، فارس الشقر. ومتكلمهم: غيلانأبو مروان، رئيس الغيلانية.

من ولد بمصر من الخلفاء
وولد بها من الخلفاء، عمر بن عبد العزيز، وجعفر المتوكل على الله.

من دخل مصر من الفقهاء وغيرهم
وأما من دخلها من الفقهاء وغيرهم، فالشعبي وأبو سلمة بنعبد الرحمن وعكرمة ومحمد بن إسماعيل بن علية، والشافعي، وحفص الفرد وإبراهيم بنأدهم، ومنصور بن عمار المتكلم.

من دخل مصر من الخلفاء
ودخلهامن الخلفاء معاوية، ومروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان،ومروان بن محمد، والسفاح، والمنصور، والمأمون، والمعتصم، والواثق.
من دخل مصر من الشعراء
ودخلها من الشعراء، نصيب، وجميل بثينة،وكثير عزة، وعبيد الله بن قيس الرقيات، والأحوص وعبد الله بن الزبير، وأبو ذؤيب،ومعلى الطائي، وأبو نواس، ودعبل بن علي الخزاعي، والغيداق، وزبدة، وأبو صعصعة، وأبوحجلة وأبو نجاد، وابن حذار، والحسين الجمل، وغير من ذكرناهم.
ذكرمصر وفضلها على غيرها من الأمصار
وأما ذكر مصر وفضلها على غيرها من الأمصار وماخصت به وأوثرت به على غيرها، فروى أبو بصرة الغفاري قال: مصر خزانة الأرض كلها،وسلطانها سلطان الأرض كلها، قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.
ولم تكن تلك الخزائن بغير مصر، فأغاث الله بمصر وخزائنها كل حاضر وباد من جميع الأرض.
وجعلها الله تعالى متوسطة الدنيا، وهي في الإقليم الثالث والرابع، فسلمت من حر الإقليم الأول والثاني، ومنبرد الإقليم الخامس والسادس والسابع، فطاب هواؤها، ونقي جوها وضعف حرها، وخف بردها،وسلم أهلها من مشاتي الجبال، ومصائف عمان، وصواعق تهامة، ودماميل الجزيرة، وجرباليمن، وطواعين الشام، وغيلان العراق، وعقارب عسكر مكرم، وطلب البحرين، وحمى خيبر،وأمنوا من غارات الترك، وجيوش الروم وطوائف العرب، ومكائد الديلم، وسرايا القرامطة،وبثوق الأنهار، وقحط الأمطار، وقد اكتنفها معادن رزقها؛ وقرب تصرفها، فكثر خصبها،ورغد عيشها، ورخص سعرها.
وقال سعيد بن أبي هلال: مصر أم البلاد، وغوثالعباد. وذكر أن مصر مصورة في كتب الأوائل، وسائر المدن مادة أيديها إليها تستطعمها.
وقال عمرو بن العاص: ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة.
وأجمع أهل المعرفة: أن أهل الدنيا مضطرون إلى مصر يسافرون إليها، ويطلبونالرزق بها، وأهلها لا يطلبون الرزق في غيرها، ولا يسافرون إلى بلد سواها، حتى لوضرب بينها وبين بلاد الدنيا لغني أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا.
ورىعن حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم، حديث، يرفعه إلى الله عز وجل يقول يوم القيامةلساكني مصر فيما يعدد عليهم من نعمته ألم أسكنكم مصر، فكنتم تشبعون من خبزها وتروونمن مائها، أمسكوا على أفواهكم.
وقال يحيى بن سعيد: جلت البلاد فما رأيتالورع ببلد من البلدان أعرفه إلا بالمدينة وبمصر. وقال خالد بن يزيد: كان كعبالأحبار يقول: لولا رغبتي في الشام لسكنت مصر؛ فقيل: ولم ذلك يا أبا إسحاق؟ قال: إني لأحب مصر وأهلها؛ لأنها بلدة معافاة من الفتن، وأهلها أهل عافية، فهم بذلكيعافون، ومن أرادها بسوء كبه الله على وجهه، وهو بلد مبارك لأهله فيه.
وروىعن شفي بن عبيد الأصبحي، أنه قال: مصر بلدة معافاة من الفتن لا يريدهم أحد بسوء إلاصرعه الله، ولا يريد أحد هلكهم إلا أهلكه الله.
وذكر أهل العلم أنه مكتوب في التوراة: بلد مصر خزانة الله، فمن أرادها بسوء قصمه الله.
وقال أبوالربيع السائح: نعم البلد مصر، يحج منها بدينارين، ويغزى منها بدرهمين. يريد الحجفي بحر القلزم، والغزو إلى الإسكندرية وسائر سواحل مصر.
وذكر يحيى بنعثمان، عن أحمد بن عبد الكريم، قال: جلت الدنيا، ورأيت أهلها، ورأيت آثار الأنبياءوالملوك والحكماء، ورأيت بناء كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك الأرض، ورأيت آثار سليمانبن داود عليهما السلام ببيت المقدس وتدمر، والأردن، وما بنته الشياطين بتدبيرالنبوة، فلم أر مثل برابي مصر على حكمتها، ولا مثل الآثار التي بها، والأبنية التيلملوكها وحكمائها.

كور مصر
وبمصر ثمانون كورة، ليس منها كورةإلا وفيها طرائف وعجائب من أصناف البر والأبنية والنتاج والشراب والطعام والفاكهةوجميع ما ينتفع به الناس، ويدخره الملوك، يعرف كل صنف من كورته، وينسب كل لون إلىكورته، وصعيدها أرض حجازية، حرها كحر الحجاز، تنبت النخل والأراك والقرط والدوموالعشر، وأسفل أرضها شامي تمطر مطر الشام، وتنبت نبات الشام من الكرم والتين والموزوالجوز وسائر الفاكهة، والبقول والرياحين، ويقع به الثلج.
ومنها كورة لوبيةومراقية برابى وجبال وغياض، وزيتون وكروم برية بحرية جبلية، بلاد إبل وماشية، ونتاجوعسل ولبن وفي كل كورة من مصر مدينة، قال تعالى: {وابعث في المدائن حاشرين}.
وفي كل مدينة منها آثار عجيبة من الأبنية والصخور والرخام والبرابي، وتلكالمدن كلها تأتي من السفن تحمل الطعام والمتاع والآلات إلى الفسطاط تحمل السفينةالواحدة ما يحمله خمسمائة بعير.
ومنها: الإسكندرية في أبنيتها وعجائبهاوآثارها، وأجمع الناس أنه ليس في الدنيا مدينة على ثلاث طبقات غيرها، ولما دخلهاعبد العزيز بن مروان وهو إذ ذاك أمير مصر، قال لعاملها حين رأى آثارها وعجائبها: أخبرني كم كان عدد أهلها في أيام الروم؟ قال: والله أيها الأمير ما أدرك علم هذاأحد من الملوك قط، ولكن أخبرك كم كان فيها من اليهود، فإن ملك الروم أمر بإحصائهمفكانوا ستمائة ألف. قال: فما هذا الخراب الذي في أطرافها؟ قال: بلغني عن بعض ملوكفارس حين ملكوا مصر، أنه أمر بفرض دينار على كل محتلم لعمران الإسكندرية، فأتاهكبراء أهلها وعلماؤهم، وقالوا: أيها الملك لا تتعب، فإن ذا القرنين الإسكندر أقامعلى بنائها ثلاثمائة سنة. ولقد أقام أهلها سبعين سنة لا يمشون فيها نهاراً إلا بخرقسود في أيديهم، خوفاً على أبصارهم من شدة بياضها.
ومن فضائلها ما قاله المفسرون من أهل العلم: إنها المدينة التي وصفها الله تعالى في كتابه الكريم، فقال: {إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد}.
وقال أحمد بن صالح: قال لي سفيان بن عيينة: يا مصري، أين تسكن؟ قلت: أسكن الفسطاط، قال: أتأتي الإسكندرية؟قلت: نعم، قال لي: تلك كنانة الله يحمل فيها خير سهامه.
وقال عبد الله بنمرزوق الصدفي: لما نعى إلي ابن عمي خالد بن يزيد وكان توفي بالإسكندرية لقيني موسىبن علي بن رباح، وعبد الله بن لهيعة والليث بن سعد متفرقين، كلهم يقولون: أليس ماتبالإسكندرية! فأقول: بلى فيقولون: هو حي عند الله يرزق، ويجري عليه أجر رباطه ماقامت الدنيا، وله أجر شهيد حتى يحشر على ذلك.
ومن عجائبها المنارة، وطولهامائتان وثمانون ذراعاً، وكان لها مرآة ترى فيها من يمر بالقسطنطينية.
وفيهاالملعب الذي كانوا يجتمعون فيه، لا يرى أحدهم شيئاً دون صاحبه ولا يتظالمون، ينظروجه كل واحد منهم تلقاء وجه صاحبه، إن عمل أحدهم شيئاً أو تكلم أو قرأ كتاباً أولعب لوناً من الألوان سمعه الباقون، ونظر إليه القريب والبعيد سواء.
وفيهكانوا يترامون بالكرة، فمن دخلت كمه ولي مصر، وكان عمرو بن العاص قد دخل تاجراً في الجاهلية بالأدم والقطن، فشهد هذا الملعب فيمن ينظر، فدخلت الكرة كمه، فأنكروا ذلك،وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط! أنى لهذا الأعرابي بولاية مصر! فأعادوها، فعادت الكرة إلى كمه مرات فتعجبوا من ذلك، إلى أن جاء الله بالإسلام، وكان من أمره ماكان.
وبها السواري والمسلتان، وعجائبهما وآثارهما أكثر من أن تحصى، حتى إنخليجها مبلط بالرخام من أوله إلى آخره يوجد كذلك إلى اليوم.
وقال الذين ينظرون في الأعمار والأهوية والبلدان بمريوط من كورة الإسكندرية، ووادي فرغانة.
وذكر أهل العلم أن المنارة كانت في وسط الإسكندية حتى غلب عليه البحر،فصارت في جوفه، ترى الأبنية والأساسات في البحر عياناً إلى يوم القيامة.
ومنها كورة الفيوم: وهي ثلاثمائة وستون قرية، دبرت على عدد أيام السنة لاتقصر عن الري، فإن قصر النيل سنة من السنين مارت كل قرية منها مصر يوماً واحداً.
وليس في الدنيا بلد بني بالوحى غير هذه الكورة، ولا بالدنيا بلد أنفس منهولا أخصب ولا أكثر خيراً ولا أغزر أنهاراً.
ولو قايسنا بأنهار الفيوم أنهارالبصرة ودمشق، لكان لنا بذلك الفضل. ولقد عد جماعة من أهل العقل والمعرفة مرافقهاوخيرها فإذا هي لا تحصى، فتركوا ذلك وعدوا ما فيها من المباح مما ليس عليه ملك لأحدمن مسلم ولا معاهد يستعين به القوي والضعيف فإذا هو فوق السبعين صنفاً.
ومنها مدينة منف، وأبنيتها وعجائبها وأصنامها ودفائنها وكنوزها أكثر من أنتحصى، لا يدفع ذلك دافع، ولا ينكره منكر، من آثار الملوك والحكماء والأنبياء.
قال إبراهيم بن منقذ الخولاني: خرجنا إلى منف، فإذا بعثمان بن صالح جالسعلى باب الكنيسة فسلمنا عليه، فقال أتدرون ما مكتوب على باب الكنيسة؟ قلنا: ما هو؟قال: مكتوب عليه، أنا فلان بن فلان، لا تلموني على صغر هذه الكنيسة، فإني اشتريت كلذراع منها بمائة دينار، فقلنا: إن لهذه قصة، فقال: ها هنا وكز موسى عليه السلام الرجل فقتله.
ومنها مدينة عين شمس، وهي هيكل الشمس، وبها العمودان اللذانلم ير أعجب منهما ولا من شأنهما، فإنهما محمولان على وجه الأرض ليس لهما أساس،وطولهما في السماء نحو خمسين ذراعاً، فيهما صورة إنسان على دابة، وعلى رأسهما شبهالصومعتين، من نحاس، فإذا جرى النيل قطر من رأسهما ماء، وتستبينه وتراه منهماواضحاً ينبع.
ومنها. الفرما، وهي أكثر عجائب وأقدم آثاراً، ويذكر أهل مصرأنه كان منها طريق إلى جزيرة قبرس في البر، فغلب عليها البحر.
ويقولون: غلب البحر على مقطع الرخام الأبلق، وأن مقطع الأبيض بلوبية.
قال يحيى بن عثمان: كنت أرابط بالفرما، وكان بينها وبين البحر قريب من يوم، يخرج الناس والمرابطون في أخصاص على الساحل، ثم علا البحر على ذلك كله.
وقال ابن قديد: توجه ابن المدبر وكان بتنيس إلى الفرما في هدم أبواب من حجارة شرقي الحصن احتاج أن يعمل منهاجيرا. فلما قلع منها حجراً أو حجرين خرج إليه أهل الفرما بالسلاح فمنعوه من قلعها،وقالوا هذه الأبواب التي قال الله عز وجل فيها على لسان يعقوب: {وقال يا بني لاتدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة}.
وبالفرما نخلها العجيب الذييثمر حين ينقطع البسر والرطب من ثائر الدنيا، فيبتدئ هذا الرطب من حين يلد النخل فيالكوانين، فلا ينقطع أربعة أشهر حتى يجيء البلح في الربيع. ولا يوجد ذلك في بلد من البلدان، لا بالبصرة ولا بالحجاز ولا باليمن، ولا بغيرها من البلدان. ويكون هذا فيالبسرمازون البسرة منه عشرون درهماً وأكثر. وفيه ما يكون طول البسرة منه قريباً منفتر.
وقال ابن التختكان: أربع كور بمصر ليس على وجه الأرض أفضل منها ولاتحت السماء لها نظير، كورة الفيوم، وكورة أتريب، وكورة سمنود، وكورة صا.

خراج مصر
وأما خراجها فجباها عمرو بن العاص أول سنة فتحها عشرةآلاف ألف دينار، وكتب إليه عمر بن الخطاب يعجز رأيه ويقول: جبيت للروم عشرين ألفألف دينار، فلما كان في العام المقبل جباها اثني عشر ألف ألف دينار، فلما عزل عثمانعمراً منها، وولي عبد الله بن أبي سرح، زاد على القبط في الخراج والمؤن، فبلغتأربعة عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو. درت اللقحة، فقال عمرو: وأضررتمبالفصيل، فأدبرت منه يومئذ، ولم تزل تنقص إلى اليوم. فما جبيت في أيام بني أميةوبني العباس إلا دون الثلاثة الآلاف ألف دينار غير ولاية أمير المؤمنين هشام، فإنهاجباها ابن الحبحاب أربعة آلاف ألف، وولاية بني طولون بالغوا في عمارتها فجباها أبوالجيش أربعة آلالف ألف دينار.
وولي خراجها ابن الحبحاب لأمير المؤمنينهشام، فخرج بنفسه فمسح أرض مصر كلها عامرها وغامرها مما يركبه النيل فوجد فيهاثلاثين ألف ألف فدان.
وقال الليث بن سعد: ولي الخراج الوليد بن رفاعة لأميرالمؤمنين هشام، فخرج لإحصاء الجماجم والقرى، فأقام ستة أشهر بالصعيد، وبأسفل الأرضثلاثة أشهر، فأحصى فوق عشرة آلاف قرية، أصغر قرية فيها خمسمائة جمجمة من القبط،تكون جملة ذلك خمسة آلاف ألف.
وولي الخراج أسامة بن يزيد لأمير المؤمنينسليمان، فكتب إليه أن احلب الدر حتى ينقطع، واحلب الدم حتى ينصرم. فذلك أول شدةأصابت أهل مصر، فقال سليمان يوماً وقد أعجبه ما فعل أسامة: أسامة لا يرتشي ديناراًولا درهماً، فقال له عمر بن عبد العزيز: أنا أدلك على من هو شر من أسامة ولا يرتشيديناراً ولا درهماً؛ قال: من هو؟ قال: عدو الله إبليس، فغضب سليمان وقام من مجلسه،فلما توفي أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك وولي عمر بن عبد العزيز وجه في عزلأسامة قبل دفن سليمان وولي حيان بن شريح، وأمره أن يحبس أسامة في كل جند ستة أشهر،وأسامة بنى المقياس القديم.
وكتب المنصور إلى محمد بن سعيد: وكان يلي خراجمصر يستحثه بالخراج، فكتب إليه يشكو اختلالها، وأنها تحتاج إلى إنفاق فإنها تردأضعاف ما ينفق فوافق ذلك خروج بن الحسن فكتب إليه:
لا تكسع الشول بأغبارهاإنك لا تدري من الناتجفزاد ذلك في انكسارها واختلالها.
وذكر أنعمرو بن العاص رضي الله عنه قال للمقوقس: ويحك إنك قد وليت هذا المصر ثلاثين سنة،فبم تكون عمارتها؟ قال: بخصال؛ منها أن تحفر خلجها وتسد جسورها وترعها، ولا يؤخذخراجها إلا من غلتها، ولا يقبل مطل أهلها، ويوفى لهم بالشروط، وتدر الأرزاق علىالعمال، لئلا يكون تأخيرها سبباً للارتشاء، ويرفع عن أهلها المعاون والهدايا، ليكونذلك لهم قوة، فبذلك تعمر ويرجى خراجها.

مناظر مصر وجمالها
وأماما يعجب من رونق منظرها، فذكر عن كعب الأحبار أنه قال: من أراد أن ينظر إلى شبهالجنة، فلينظر إلى مصر إذا أخرفت وغذا أزهرت، وإذا اطردت أنهارها، وتدلت ثمارها،وفاض خيرها، وغنت طيرها.
وعن عبد الله بن عمرو قال: من أراد أن ينظر إلىالفردوس فلينظر إلى أرض مصر حين تخضر زروعها، ويزهر ربيعها، وتكسى بالنوار أشجارهاوتغنى أطيارها.
وقال المأمون لإبراهيم بن تميم: صف لي مصر حين تخضر زروعها،ويزهر ربيعها، وتكسى بالنوار أشجارها، وأوجز. قال جحفلة: الفرس في الربيع، وعجزه فيالرمل. يريد أنها برية بحرية يرتع الفرس في الربيع، ويبرد في بروده.
وذكرأهل مصر أن موسى بن عيسى الهاشمي وكان أمير مصر، قال لهم يوماً وهو بالميدان الذيفي طرف المقابر: أتتأملون ما أرى؟ قالوا: وما يرى الأمير؟ قال: أرى ميدان رهان،وجنان نخل، وبستان شجر ومنازل سكنى، وذروة جبل، وجبان أموات، ونهراً عجاجاً، وأرضزرع، ومرعى ماشية، ومرتع خيل، وصائد بحر، وقانص وحش وملاح سفينة، وحادي إبل، ومفازةرمل وسهلا وجبلا في أقل من ميل في ميل.
وذكر أنه صورت للرشيد صورة الدنيافما استحسن منها غير بلد أسيوط، وذلك أن مساحته ثلاثون ألف فدان في دست واحد، لوقطرت قطرة فاضت على جميع جوانبه، ويزرع فيه الكتان والقمح والقرط وسائر أصنافالغلات فلا يكون على وجه الأرض بساط أعجب منه، ويسايره من جانبه الغربي جبل أبيضعلى صورة الطيلسان، كأنه قرنان، ويحف به من جانبه الشرقي النيل، كأنه جدول فضة، لايسمع فيه الكلام من شدة أصوات الطير.
وأجمع الناس أنه ليس على وجه الدنيابساط قرط فيه خيل موقوفة وخيام مضروبة، ونتاج، ومهارى، وسائمة، وقهارمة، إلا بمصر.

ذكر ما ورد في نيل مصر
وأما نيلها، فروى ابن لهيعة: أن معاويةبن أبي سفيان قال لكعب: أسألك بالله العظيم يا كعب، هل تجد لنيل مصر في كتاب اللهخيراً؟ قال: إي والذي فلق البحر لموسى عليه السلام! إني لأجد في كتاب الله عز وجلأن الله يوحى إليه عند جريه: إن الله يأمرك أن تجري كذا وكذا، فاجر على اسم الله،ثم يوحى إليه عند انتهائه: إن الله يأمرك أن ترجع، فارجع راشداً.
وروى عنالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان والنيلوالفرات).
ورى أن الله تعالى خلق نيل مصر معادلا لأنهار الدنيا ومياهها،فحين يبتدئ في الزيادة تنقص كلها لمادته، وحين ينقصى تمتلئ كلها.
وذكر أبوقبيل، أن نيل مصر في زيادته يفور كله من أوله إلى آخره. وقال ابن لهيعة: كان لنيلمصر قطيعة على كور مصر، مائة ألف وعشرين ألف رجل، معهم المساحى، والآلات سبعونألفاً للصعيد، وخمسون ألفاً لأسفل الأرض لحفر الخلج وإقامة الجسور والقناطر وسدالترع، وقطع القضب والحلفاء، وكل نبت مضر بالأرض.
وقال محفوظ بن سليمان: إذا تم الماء ست عشرة ذراعاً فقد وفى خراج مصر، فإذا زاد بعد ذلك ذراعاً واحدة زادفي الخراج مائة ألف دينار لما يروى من الأعالي، فإن زاد بعد ذلك ذراعاً أخرى نقصمائة ألف من الخراج، لما يستجر من البطون.
وذكر ابن عفير، أن عمر بن الخطابكتب إلى عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلىعمرو بن العاص. سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنيفكرت في بلدك فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، قد أعطى الله أهلها عدداً وجلداًوقوة في بر وبحر، قد عالجتها الفراعنة، وعملوا فيها عملا محكماً، مع شدة عتوهم،فعجبت من ذلك، فأحب أن تكتب إلى بصفة مصر كأني أنظر إليها.
فكتب إليه عمروبن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقدبلغني كتابك وقرأته وفهمته، وأما ما ذكرت فيه من صفة مصر، فإن كتابي سيكشف عنك عمىالخبر، ويرمى على بالك بنافذ البصر، إن مصر وما أحببت أن تعلمه من صفتها، تربةسوداء، وشجرة خضراء بين جبل أغبر ورمل أعفر، قد اكتنفها معدن رفقها، ومحط رزقها، مابين أسوان، إلى منشأ البحر، في سح النهر، مسيرة الراكب شهراً، كأن ما بين جبلهاورملها بطن أقب، وظهر أجب، يخط فيه نهر مبارك الغدوات، ميمون البركات، يسيل بالذهب،ويجري بالزيادة والنقصان كمجاري الشمس والقمر، له أيام تسيل إليه عيون الأرضوينابيعها مأمورة بذلك، حتى إذا ربا وطما، واصلخم لججه، واغلولب عبابه، كانت القرىبما أحاط بها كالربا لا يوصل من بعضها إلى بعض إلا في السفائن والمراكب، ولا يلبثإلا قليلا حتى يكون كأول ما بدأ من جريه وأول ما طما من شربه، وحتى تستبين فنونهاومتونها، ثم تنتشر فيه أمة محقورة، قد رزقوا على أرضهم جلداً وقوة، لغيرهم ما سعوابه من كدهم بلا حمد ينالهم من ذلك، يسقون سهل الأرض وخرابها وروابيها، ثم يلقونفيها من صنوف الحب ما يرجون به التمام من الرب، وما يلبث إلا قليلا حتى يشتد، ثمتسيل قنواته وتصفر، يسقيه من تحته الثرى ومن فوقه الندى، أو سحاب منهمر بالأرائكمستدر، ثم في هذا الزمان من زمانها يغنى ذبابها، ويبدأ في صرامها، فبينما هي مدرةسوداء إذا هي لجة زرقاء، ثم غوطة خضراء، ثم ديباجة رقشاء، ثم فضة بيضاء، فتباركالله أحسن الخالقين، الفعال لما يشاء. وإن خير ما اعتمدت عليه في ذلك شكر الله عزوجل يا أمير المؤمنين، على ما أنعم عليك منها، فأدام الله لك النعمة والكرامة فيأمورك كلها والسلام.
وأجمع أهل العلم أنه ليس في الدنيا نهر أطول مدى منالنيل، يسير مسيرة شهر في بلاد الإسلام وشهرين في بلاد النوبة وأربعة أشهر فيالخراب حيث لا عمارة، إلى أن يخرج من جبل القمر خلف خط الاستواء.
وليس فيالدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال إلا هو وليس نهر يصيب في بحر الروم والصين غيرنيل مصر. وليس في الدنيا نهر يزيد ويمد في أشد ما يكون من الحر حين تنقص أنهارالدنيا وعيونها غير نيل مصر، وكلما زاد الحر كان أقوى لزيادته، وليس في الدنيا نهريزيد بترتيب غير نيل مصر.
وليس في الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على نيلمصر، ولا يجبي من خراج نهر من أنهار الدنيا ما يجبي من خراج النيل.
فضل مقبرة مصر
وأما فضل مقبرتها فذكر أهل العلم أن الطور منالمقطم وأنه داخل فيما وقع عليه القدس في قوله تعالى: {وناديناه من جانب الطورالأيمن وقربناه نجياً}. وقال تعالى: {إنك بالواد المقدس طوىً}.
قال كعب: كلم الله تعالى موسى من الطور إلى أطراف المقطم من القدس، وقال تبيع: منازل الفسطاسفي القدس.
وروى أن موسى عليه السلام سجد، فسجدت معه كل شجرة من المقطم إلىطوى.
ويروى أنه مكتوب في التوراة: وادي فتح مقدس جديد يعني وادي مسجد موسىعليه السلام بالمقطم عند مقطع الحجارة، وأن موسى عليه السلام كان يناجي ربه بذاكالوادي.
وروى أسد بن موسى قال: شهدت جنازة مع ابن لهيعة، فجلسنا حوله، فرفعرأسه، فنظر إلى الجبل، فقال: إن عيسى بن مريم عليه السلام مر بسفح هذا الجبل، وعليهجبة صوف، وقد شد وسطه بشريط، وأمه إلى جانبه، فالتفت إليها وقال: يا أماه هذه مقبرةأمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وبينما عمرو بن العاص يسير في سفح المقطمومعه المقوقس، فقال له عمرو: ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات كجبال الشام، فلوشققنا في أسفله نهراً من النيل وغرسناه نخلا؟ فقال المقوقس: وجدنا في الكتب أنه كانأكثر الجبال أشجاراً ونباتاً وفاكهة، وكان ينزله المقطم بن مصر بن بيصر بن حام بننوح عليه السلام، فلما كانت الليلة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام،أوحى إلى الجبال؛ إني مكلم نبياً من أنبيائي على جبل منكم، فسمعت الجبال كلهاوتشامخت، إلا جبل بيت المقدس، فإنه هبط وتصاغر، فأوحى الله تعالى إليه لم فعلت ذلك؟وهو به أخبر، فقال: إعظاماً وإجلال لك يا رب! قال: فأمر الله الجبال أن يحيوه، كلجبل مما عليه من النبت، وجاد له المقطم بكل ما عليه من النبت حتى بقى كما ترى،فأوحى الله تعالى إليه إني معوضك على فعلك بشجر الجنة أو غراسها، فكتب بذلك عمرو بنالعاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فكتب إليه: إني لا أعلم شجر الجنة أوغراسها لغير المسلمين، فاجعله لهم مقبرة، ففعل، فغضب المقوقس من ذلك، وقال لعمرو: ما على هذا صالحتني! فقطع له عمر قطيعاً نحو بركة الحبش يدفن فيه النصارى.
وروى عبد الله بن لهيعة عن عياش بن عباس أن كعب الأحبار سأل رجلا يريدالسفر إلى مصر، فقال له: أهد لي تربة من سفح مقطمها، فأتاه منه بجراب، فلما حضرتكعباً الوفاة أمر به ففرش في لحده تحت جنبه.
والإجماع على أنه ليس فيالدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحجرها، ولاأعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران مقدسة في جميع الكتب، وحين تشرف عليهاتراها كأنها مدينة بيضاء، والمقطم عال عليها كأنه حائط من ورائها.

الخواص والعجائب التي بمصر
وأما الخواص التي بها والعجائبوالبركات والحكم، فجبلها المقدس، ونيلها المبارك، وبها الطور حيث كلم الله تعالىموسى، وبها الوادي المقدس، وبها ألقى موسى عصاه، وبها فلق البحر لموسى، وبها ولدموسى وهارون وعيسى عليهم السلام. وبها كان ملك يوسف وبها النخلة التي ولدت مريمعيسى تحتها بسدمنت من كورة أهناس، وبها اللبخة التي أرضعت عندها مريم عيسى بأشمون،فخرج من هذه اللبخة الزيت، وبها مسجد إبراهيم، ومسجد مارية أم إبراهيم سرية رسولاللهصلى الله عليه وسلم بحفن، أوصت أن يبني بها مسجد فبنى.
وبها منالأبنية وآثار الحكمة: البرابي والهرمان، وليس على وجه الأرض بناء باليد حجراً فوقحجر أطول منهما وجاءت الأخبار أنهما قبرا هرمس وأغاثيمون، والصابئة تحجهما من حران.
قال عمر بن أبي عمر: أنا لقيت من الصابئة من حجمها.
وبها منارةالإسكندرية، وبها عمود عين شمس.
وبها صدع أبي قير الذي تفر إليه طيرالبواقيرات في يوم من السنة كان معروفاً فكلما أدخل بوقير منها منقاره في الصدع مضىلسبيله فلا يزال يفعل ذلك حتى يلتقي الصدع على بوقير منها فيجسه ولا يزال معلقاًحتى تذروه الرياح.
وبها حائط العجوز من العريش إلى أسوان؛ يحيط بأرض مصركلها.
وبالنيل السمكة التي تسمى الرعادة، إذا وضع الرجل الجلد يده عليها لميتمالك أن يضطرب جسمه كله اضطراباً شديداً.
وبها مجمع البحرين، وهو البرزخالذي ذكره الله تعالى فقال: {مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبتغيان}. وقالتعالى: {وجعل بين البحرين حاجزاً} ، وهما بحر الصين وبحر الروم، والحاجز بينهمامسيرة ليلة ما بين القلزم والفرما. وليس يتقاربان في بلد من البلدان تقاربهما بهذاالموضع، وبينهما في السفر مسيرة شهور.
وليس بالدنيا بلد من البلدان يأكلأهله صيد البحر طرياً غير أهل مصر. وبها من الطرز والقصب التنيسي والثوب الدبيقي ماليس بغيرها، وليس في الدنيا طراز يبلغ الثوب الساذج منه الذي ليس فيه ذهب مائةدينار غير ثوب تنيس ودمياط. ويقال: إنه ليس في الدنيا منزل إلا وفيه من ثوب تنيسولو خرقة.
وبها الثياب الصوف والأكسية المرعز، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.
وذكر بعض أهل مصر أن معاوية لما كبر كان لا يدفأ، فأجمعوا أنه لا يدفئه إلاأكسية تعمل في مصر، من صوفها المرعز العسلي غير مصبوغ، فعمل له منها عدد، فما احتاجمنها إلا إلى واحد.
ولهم النتاح العجيب من الخيل والبغالوالحمير ما يفوق نتاج أهل الدنيا، وليس في الدنيا فرس في نهاية الصورة في العنق غيرالفرس المصري، و ليس في الدنيا فرس لا يردف غير المصري، وسبب ذلك قصر ساقية وبلاغةصدره وقصر ظهره، وذكر أن الوليد عزم على أن يجري الخيل ويمتحن خيل البلدان، فكتبإلى سائر الأمصار أن يتخير له خيل كل بلد،ويتوجه به إليه، فلما اجتمعت عرضت عليه،فمرت به المصرية، فلما رآها دقيقة العصب، لينة المفاصل والأعطاف، قال: هذه خيل ماعندها طائل، فقال له عمر بن عبد العزيز وهو جالس معه: وأين الخير كله إلا لهذهوعندها! فقال له: ما تترك تعصبك يا أبا حفص لمصر على كل حال، فلما أجريت الخيل جاءتالمصرية كلها سابقة ما خالطها غيرها.
ولهم معدن الذهب، بفوق معدنهم كلمعدن.
ولهم معدن الزمرد، وليس في الدنيا زمرد إلا معدن بمصر، ومنها يحملإلى سائر الدنيا. ولهم القراطيس، وليس هي في الدنيا إلا بمصر ولهم القمح اليوسفي،وليس هو في الدنيا إلا بمصر. ولهم زيت الفجل ودهن البلسان والأفيون والأبرميس وشرابالعسل والبسر البرني الأحمر واللبخ والخس والكبريت، والريش والشمع والعسل وخل الخمروالترمس والجلبان والذرة والنيدة والأترج الأبلق والفراريج السرمكية، وذكر أن مريمعليه السلام شكت إلى ربها قلة لبنها فألهمها أن عملت النيدة فأطعمتها عيسى عليهالسلام.
وذكر أهل العلم أنه لا يكاد يرى مترهبو الشام إلا عمشاً من أكلهمالعدس ورهبان مصر سالمون من ذلك لأكلهم الجلبان، ولهم البقر الخيسية المؤبدة للحلبفقط، وهي أحسن البقر صورة، وبقر مصر ليس في الدنيا بقر أعظم منها، حتى أن العفومنها يساوي أكثر من عفو ثور من غيرها. ولهم حطب السنط والأبنوس والقرط الذي تعلفهالدواب. وذكر بعض أهل العلم أنه يوقد بحطب السنط عشرين سنة في الكانون أو التنورفلا يوجد له رماد طول هذه المدة.
وقال بعض أهل العلم: ليس في الدنيا شجرةإلا وهي بمصر، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
وبوجد بمصر في كل وقت منالزمان من المأكور والمأدوم والمشروب والمشموم وسائر البقول والخضر، جميع ذلك فيالصيف والشتاء، لاينقطع منه شيء لبرد ولا لحر، يوجد ذلك كله في الصيف ويوجد بعينهفي الشتاء غير مفقود منه شيء واحد.
وذكر أن بختنصر قال لابنه بلسلطان: ماأردت سكنى مصر إلا لهذه الخصال وبلسطان هو الذي بنى قصر الشمع.
ومصر معذلك فرضة مكة والمدينة وساحلهما، وفرضة صنعاء وعدن وعمان والشحر والسند والهندوالصين وجزائر الصين وسرنديب وغيرها، يجلب العطر والجواهر والطرائف والآلات فيالبحر حتى توافى المراكب بالقلزم.
وهي فرضة بحر الروم من الشام كلها، وبلدالروم من أنطاكية إلى ما وراءها من قسطنطينة ورومية وبلد الإفرنجة وأنطابلس وطرابلسوالقيروان وتاهرت. وسجلماسة والسوس وطنجة والأندلس وجزائر البحر صقلية وأقريطش،وقبرس، ورودس. يحمل إليها رقيق هذه البلدان كلها من الجواري والغلمان والديباجوالحرير والمصطكي والميعة والمرجان والعنبر والزعفران وسائر أصناف التجارات، ويحملمن مصر إليها مثل ذلك، ولا يقصدون بلداً سواها، ولا يؤمون غيرها، فلأهلها خيار ذلككله، ولسائر الناس حثالته، فبارك الله، لأبي المسك فيما ولاه وهناه بما أعطاه،وأوزعه على ذلك شكره، وألهمه خشيته، وأصلح له جنده ورعيته.
وصلى اللهعلى سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
مـنـقـول من كتاب فضائل مصرالمحروسة لأبن الكندى


أخوكم/ حماده مصباح تمي الأمديد