تابع براهين وجود الله تابع مستويات الدلالة الفطرية علي وجود الله المستوي الثالث : الغرائز (13)

تقليص

عن الكاتب

تقليص

Shebl Al Saqar مسلم اكتشف المزيد حول Shebl Al Saqar
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • Shebl Al Saqar
    1- عضو جديد
    • 6 ديس, 2021
    • 73

    تابع براهين وجود الله تابع مستويات الدلالة الفطرية علي وجود الله المستوي الثالث : الغرائز (13)

    االمستوى الثالث الغرائز :
    يمكن تعريف الغريزة بأنها هي الميل الفطري الذي يدفع الكائن الحي إلى العمل في اتجاه معين تحت ضغط حاجاته الحيوية ، والأمثلة عليها كثيرة جدًا تفوق الحصر في الحشرات والطيور والحيوانات المختلفة مثل بناء العش أو الخلية عند الزنابير والنحل والنمل ، وسبل التمويه والتخفي من الأعداء عند دودة القز مثلاً ، وهجرات الفراشات والجراد والطيور والأسماك والزواحف والثدييات من أوطانها في مسارات ثابتة محددة ثم العودة ، وفي الإنسان هناك غرائز الجوع والعطش والجنس وحب البقاء والأبوة والأمومة وغيرها ، حتى قال أحدهم إن الإنسان لو لم ير الماء قط لبحث عنه لأن غريزة العطش داخله تهفو إلى الماء وتهدي إليه . وتعتبر الغرائز من المسائل المستعصية على الطبيعيين أتباع الفلسفة الإلحادية وأنصار نظرية التطور لأن عددًا منها موجود في كائنات ذات جهاز عصبي محدود ليس لديه القدرة على بناء خطط وتكتيكات معقدة للتمويه وخداع الأعداء ، كذلك عدد من هذه الغرائز غير قابل للانتقال وراثيًا لكونه في أفراد عقيمين مثل شغالات النحل أو النمل ، لهذا فإن وجود الغرائز في الكائنات المختلفة تدل على أن هناك من غرسها فيها ، وفيها دلالة بارزة على وجود الله وخالقيته وعلمه وحكمته.

    تأمل في قول ابن القيم في كتابه الشفاء العليل عن النحل:

    أمر النحل فِي هدايتها من أعجب العجب، وذَلِكَ أن لها أميرًا ومدبِّرًا، وهو الْيَعْسُوبُ – يريدُ مَلِكَةَ النحلِ -، وهو أكبر جسمًا من جميع النحل، وأحسن لونًا وشكلًا.


    قال – رحمه الله -:

    ملكة النحل تَلِدُ فِي إقبال الربيع، وأكثر أولادها يَكُنَّ إناثًا، وإذا وقع فِيها ذَكَرٌ؛ لم تَدَعْهُ النحلُ بينها، بل إما أن تطرده، وإما أن تقتله إلا طائفةً يسيرةً، وذلك أن ذُكُورَ النحلِ لا تَعْمَلُ شيئًا ولا تَكْسِبُ، تَأْكُلُ فقط.

    النحل تُقَسَّمُ فِرَقًا فِرَقًا، فمنها فرقةٌ تَلْزَمُ الملكة ولا تفارقها، ومنها فِرْقَةٌ تُهَيِّئُ الشمعَ وتَصْنَعُه، والشمعُ هو ثِفْلُ النحلِ أو ثِفْلُ العسلِ، وفيه حلاوةٌ كحلاوةِ التينِ.

    وللنحلِ فِيه عَنْايةٌ شديدةٌ فوقَ عَنْايَتِها بالعسلِ فَيُنَظِّفُهُ النحلُ – يعني الشمعةَ - ويُصَفِّيهِ ويُخَلِّصُه مما يخالطه، وفِرْقَةٌ من النحل تَبْنِي البيوت، وفرقة تسقي الماء وتحمله على متونها، وفِرْقَةٌ تَكْنُسُ الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجِيَفِ والزِّبْلِ، وإذا رأت بينها نحلةً مَهِينَةً بَطَّالةً؛ قَطَّعَتْها وقَتَلَتْهَا؛ حتى لا تُفْسِدَ عليهن بقيةَ العُمَّالِ بِكَسَلِها، وتُعْدِيهِنَّ ببطالتها ومَهَانَتِها، وأولُ ما يُبْنَى فِي الخلية: مَقْعَدُ الملكِ وبيتُه، فيُبْنَى له بيتٌ مُرَبَّعٌ يُشْبِهُ السريرَ والتَّخْتَ، فيجلس عليه، ويستدير حوله طائفةٌ من النحل تشبه الأمراءَ، والخدمُ والخواصُّ لا يُفَارِقْنَهُ، ويَجْعَلُ النحلُ بين يَدَيِ الملِكِ شيئًا يشبه الْحَوْضَ، يَصُبُّ فِيه من العسلِ أَصْفَى ما يَقْدِرُ عليه، ويَمْلَأُ منه الحوضَ، ويكون ذَلِكَ طعامًا للملك وخواصِّهِ، ثم يَأْخُذْنَ فِي ابْتِنَاءِ البيوت على خطوطٍ متساويةٍ كَأنَّها سِكَكٌ ومَحَالٌّ، وتَبْنِي بُيُوتَهَا مُسَدَّسَةً متساويةَ الأضلاعِ، كَأنَّها قَرَأَتْ كتابَ إِقْلِيدِس حتى عَرَفَتْ أَوْفَقَ الأشكالِ لِبُيُوتها؛ لأن المطلوب مِنْ بناء الدُّور: هو الوَثَاقَةُ والسَّعَةُ، والشكلُ الْمُسَدَّسُ دون سائرِ الأشكالِ إِذَا انْضَمَّتْ بعضُ أشكالِهِ إِلَى بعضٍ؛ صار شكلًا مستديرًا كاستدارةِ الرَّحَى ،ولا يبقى فِيه فُرُوجٌ ولا خَلَلٌ، ويَشُدُّ بعضُه بعضًا حتى يصير طبقًا واحدًا محكَمًا لا يَدْخُلُ بين بيوتِهِ رؤوسُ الْإِبَرِ، فتبارك الَّذِي ألهمها أن تَبْنِيَ بيوتَها هذا البناءَ الْمُحْكَمَ الَّذِي يَعْجِزُ البشرُ عَنْ صُنْعِ مِثْلِه، فَعَلِمَتْ أَنَّهُا محتاجةٌ إِلَى أنْ تَبْنِيَ بيوتَهَا من أشكالٍ موصوفةٍ بصِفَتَيْنِ:
    إحداهما: ألَّا تكونَ زَوَايَاها ضيقةً؛ حتى لا يَبْقَى الموضعُ الضيقُ معطَّلًا.
    والثانية: أن تكون تلك البيوتُ مُشَكَّلَةً بأشكالٍ إِذَا انضم بعضُها إِلَى بعضٍ، وامتلأت العَرَصَةُ منها؛ فلا يبقى منها ضائعًا.
    ثم إنَّهَا عَلِمَتْ أنَّ الشكلَ الموصوفَ بهاتين الصفتين هو الشكل الْمُسَدَّسُ فقط؛ فإن المثلثاتِ والمربعاتِ وإنْ كُنَّ مما يمكن امتلاءُ العَرَصَةِ منها؛ إلا أنَّ زواياها ضيقةٌ.
    وأما سائر الأشكال -وإن كَانَت زواياها واسعةً-؛ إلا أَنَّهُا لا تمتلئ العَرَصَةُ منها؛ بل يبقى فِيما بينها فروج خالية ضائعة.
    وأما الشكل المسدس؛ فهو موصوفٌ بهاتين الصفتين، فهداها سبحانه إلى بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مَسْطَرَةٍ ولا آلةٍ ولا مثالٍ يُحْتَذَى عليه، وأَصْنَعُ بني آدم لا يَقْدِرُ على بناءِ البيتِ الْمُسَدَّسِ إلا بالآلات الكبيرة، فتبارك الَّذِي هداها أن تَسْلُكَ سُبُلَ مراعِيها على قوتها، وتَأْتِيها ذُلُلًا، لا تَسْتَعْصِي عليها ولا تَضِلُّ عَنْها، وأن تَجْتَنِيَ أَطْيَبَ ما فِي المراعى وأَلْطَفَهُ، وأن تعود إِلَى بيوتها الخاليةِ فَتَصُبَّ فِيها شرابًا مختلفًا ألوانُه، فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، فإذا فَرَغَتْ من بناء البيوت خَرَجَتْ خِمَاصًَا تَسِيحُ سهلًا وجَبَلًا، فأَكَلَتْ من الْحَلَاوَاتِ المرتفعةِ على رؤوسِ الأزهارِ وورقِ الأشجارِ، فترجع بِطَانًا، وجعل سبحانه فِي أفواهها حرارةً منضِجَةً تُنْضِجُ ما جَنَتْهُ، فتُعِيدُه حلاوةً ونضجًا، ثم تَمُجُّهُ فِي البيوتِ، حتى إِذَا امتلأتْ خَتَمَتْهَا وَسَدَّتْ رؤوسَها بالشمعِ الْمُصَفَّى، فإذا امتلأت تلك البيوتُ عمِدت إِلَى مكانٍ آخَرَ إِنْ صَادَفَتْهُ فَاتَّخَذَتْ فِيه بيوتًا، فإذا امتلأت تلك البيوت – وهي عيون ذلك الشمع – على الطريقة السُّدَاسية التي مر ذكرها، فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر إن صادفته، فاتخذت فيه بيوتًا، وفَعَلَتْ كما فَعَلَتْ فِي البيوتِ الأولى، فإذا بَرَدَ الهواءُ، وأَخْلَفَ الْمَرْعَى، وحيل بينها وبين الكسب؛ لَزِمَتْ بُيُوتَهَا، واغْتَذَتْ بما ادَّخَرَتْهُ من العسل، وهي فِي أيام الكَسْبِ والسعيِ تَخْرُجُ بُكْرَةً، وتَسِيحُ فِي الْمَرَاتِعِ، وتستعمل كلُّ فرقة منها بما يَخُصُّها مِن العملِ، فإذا أمست رَجَعَتْ إِلَى بيوتها، وأما الملكة – هو يقول رحمه الله: "وأما الملك" -؛ فلا يُكْثِرُ الخروجَ من الخلية إلا نادرًا إِذَا اشتهى التَّنَزُّهَ، فَيَخْرُجُ ومعه أمراءُ النحلِ والخدمُ، فيطوف فِي الْمُرُوجِ والرياضِ والبساتينِ ساعةً من النهار، ثم يعود إِلَى مكانه.

    ومن عجيب أمره: أَنَّهُ ربما لحقه أذىً من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه، فَيَغْضَبُ ويُخْرُجُ من الخلية ويتباعد عَنْها، ويَتْبَعُهُ جميع النحل وتبقى الخلية خالية - وهذا يحدث فعلًا -، فإذا رأى صاحبُ الخلية ذَلِكَ، وخاف أن يأخذ النحلَ – يعني الملكَ - ويذهبَ بها إِلَى مكان آَخَرَ؛ احتال صاحب الخلية لاسترجاع الملك وطلب رضاه، فيتعرف موضعه الَّذِي صار إِلَيْهِ بالنحل، فيعرفه باجتماع النحل إِلَيْهِ؛ فإن النحل لا تفارقه وتجتمع عليه حتى تصير على الملك عَنْقودًا، وهو إِذَا خرج غَضَبًَا جَلَسَ على مكانٍ مرتفعٍ من الشجرة، وطافت به النحل وانضمت إِلَيْهِ حتى يصير كالكرة، فيأخذ صاحب النحل رُمْحًَا أو قصبةً طويلةً، ويَشُدُّ على رأسِه حُزْمَةً من النبات الطيبِ الرائحة العَطِرِ النظيفِ، ويُدْنِيهِ إِلَى محل الملك، ويكون معه إما مِزْهَرٌ أو يَرَاعٌ أو شيء من آلاتِ الطَّرَبِ، فيحركُه وقد أدنى إِلَيْهِ ذَلِكَ الحشيشَ، فلا يزال كذَلِكَ إِلَى أن يرضى الملك، فإذا رضي وزال غضبُه؛ طَفَرَ ووَقَع على الضِّغْثِ، وتَبِعَهُ خَدَمُهُ وسائرُ النحلِ، فيحمله صاحبُه إِلَى الخليةِ، فَيَنْزِلُ ويَدْخُلُها هو وجنودُه، ولا يَقَعُ النحلُ على جيفةٍ ولا حيوانٍ ولا طعامٍ.

    ومن عجيب أمر النحل: أَنَّهُا تقتل الملوك الظلمةَ الْمُفْسِدَةَ، ولا تدين لطاعتها، والنحلُ الصغارُ المجتمعةُ الخلقِ هي العَسَّالَةُ، وهي تحاول مقاتلةَ الطِّوالِ القليلةِ النفع، وإخراجَها ونفيَها عَنْ الخلايا، وإذا فعلت ذَلِكَ جاد العسل، وتجتهد أن تقتل ما تريد قتلَه خارج الخليةِ صيانةً للخلية عَنْ جِيفَتِه.

    ومن النحل صِنْفٌ قليلُ النفعِ كبيرُ الجسمِ، وبينها وبين العَسَّالة حربٌ، فهي تقصدها وتغتالها، وتفتح عليها بيوتها، وتقصد هلاكها، والعسالة شديدة التيقظ والتحفظ منها، فإذا هجمت عليها فِي بيوتها حَاوَلَتْها وأَلْجَأَتْها إِلَى أبواب البيوت، فَتَتَلَطَّخُ بالعسل، فلا تقدر على الطيران، ولا يُفْلِتُ منها إلا كُلُّ طويلِ العُمُرِ، فإذا انقضت الحرب وبَرَدَ القتالُ؛ عادت إِلَى القتلى فحَمَلَتْهَا وأَلْقَتْهَا خارجَ الخلية.

    وفي النحل كرامٌ عمَّالٌ لها سعي وهمة واجتهاد، وفيها لئام كُسَالَى قليلةُ النفعِ مؤْثِرَةٌ للبطالة، فالكرام دائمًا تطردها وتنفيها عَنْ الخلية، ولا تساكنها خشية أن تُعْدِيَ كِرَامَها وتفسدَها.

    والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه، ولِذَلِكَ لا تُلْقِي زِبْلَها إلا حين تطير، وتكره النتن والروائح الخبيثة، وأبكارها وفراخها أحرس وأشد اجتهادًا من الكبار، وأقل لَسْعًَا، وأجودُ عسلًا، ولَسْعُها إِذَا لَسَعَتْ أقلُّ ضررًا من لَسْعِ الكبار.

    ولما كَانَت النحل من أنفع الحيوان وأبركه؛ فقد خُصَّتْ من وحي الرب تعالى وهدايته بما لم يَشْرَكْهَا فِيه غيرُها، وكان الخارجُ من بطونها مادةَ الشفاء من الأسقام، وكان النورَ الَّذِي يُضِيء فِي الظلام بمنزلةِ الهداةِ من الأنام، فلما كان ذلك بالنسبة للنحل؛ كَانَ أكثرَ الحيوان حائزًا للعداوة، وكان أكثر الحيوان له أعداءً، وكان أعداؤه من أقل الحيوان منفعةً وبركةً، وهذه سنة الله فِي خلقه، وهو العزيز الحكيم.
    هذا ما ذكره العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - فِي «شفاء العليل».

    وأما الْعِلْم المعاصر؛ فإنه نظر أَيْضًا فِي حياة النحل، وخَصَّها بكثيرٍ من النظر والبحث، فقد تقدم الْعِلْم اليوم كثيرًا، وبِتَقَدُّمِهِ تَعَرَّفْنَا على كثير من عجائب الخلق وأسرار الكون.

    لقد أَكَّدَ لنا الْعلماءُ ما عرفناه من قَبْلُ مِنْ أن عالَمَ النحلِ ينقسم إِلَى ثلاثة أقسام، هي: النحلة الملكة، والنحلة الذَّكَر، والنحلة الشَّغَّالَةُ.
    أما ملكة النحل؛ فهي أم الخلية كلِّها، وجميعُ النحل فِي الخلية أبناؤها، ويكفي أن تعلم أن الملكة تضع فِي كل يومٍ تّطْلُعُ فِيه الشَّمْسُ ما بين خمسمائةٍ وألفِ بَيْضَة «1500» إِلَى أَلْفَيْ بيضة «2000»؛ بل يزيد العدد إِلَى (3500) خمسمائة وثلاثة آلاف بيضة في كل يوم، ويستمر هذا على امتداد موسم التكاثر الَّذِي يبدأ من إقبال الربيع، وينتهي بانتهاء الصيف.
    وما هذا العدد الهائل من البَيْضِ إلا لمواجهة النقص المستمر الَّذِي يصيب خلية النحل، فالنحلة عمرها قصير، فعمر النحلة يتراوح بين خمسةِ أسابيعَ وسبعةِ أسابيعَ، ولِذَلِكَ فإنّ الخلية تحتاج إِلَى أجيال جديدة تُرْفِدُ الخليةَ بأعدادٍ كبيرةٍ تواجه النقص الَّذِي يَلْحَقُ بها، كي تستمرَّ الخليةُ فِي القيام بالواجبات التي يَحْتَاجُ إِلَيْهِا عالَمُ النحلِ، وحتى تستطيعَ الدفاعَ عَنْ نفسها فِي مواجهةِ الأعداءِ والأخطارِ، ولولا ذَلِكَ لانقرضت الخلية وبادت.
    من بديع صنع الله فِي ملكة النحل: أَنَّهُا تَضَعُ بَيْضَهَا فِي البيوت التي تَبْنِيهَا الشَّغَّالَةُ بمقاساتٍ مختلفة، فالشغالة تبني البيوت الشمعية بمقاساتٍ مختلفة، المقاسُ الكبيرُ يُعِدُّه النحلُ لملكة المستقبل، البيضةُ التي تَضَعُها الملكةُ فِي ذَلِكَ البيت ذي المقاس الكبير تكون ملكة؛ لأن الشغالة تُغَذِّيها بغذاءٍ خاصٍّ بالْمَلِكَات، هو «الغذاءُ الْمَلِكِيُّ»، فتكون هذه البيضةُ مَلِكَةً بعد حين.
    البيضة التي تضعها الملكة فِي البيت الأصغرِ حجمًا ومقاسُه رُبُعُ بُوصَة تصبح نحلةً ذكرًا، أما البيضة التي تضعها فِي البيت الصغير ومقاسُه خمس البوصة فيُنْتِجُ نحلةً شَغَّالَةً.
    بقي أن نعلم أن الملكة تضع مع بيضةِ النحلةِ الشغالةِ ثلاثةً إِلَى أربعةِ حيواناتٍ مَنَوِيَّةٍ لِإِخْصَابِهَا، فتكون نحلةً شغالة، بينما تضع فِي بيت النحلة الذكر بيضةً غير مُخَصَّبَةٍ.
    من عجيب صنع الله فِي النحلة الملكة: أَنَّهُا لا تُلَقَّحُ إلا فِي الهواء فِي أثناء طَيَرَانِها، ولِذَلِكَ سِرٌّ عجيب، فالنحلة الذكر لا يُمْكِنُهَا تلقيحُ الملكة وهي رابِضَةٌ على الْأَرْض، وإنما يكون ذلك إذا كانت طائرةً في الفضاء، وعند ذَلِكَ تمتلئ أكياسٌ موجودةٌ فِي النحلةِ الذَّكَرِ بالهواء، فَتَنْتَفِخُ فِي أثناء الطيران، ويؤدي انتفاخها إِلَى الضغط على عضو التذكير، فيخرج من مَكْمَنِه.
    ومن عجائب صنع الله فِي الملكة العذراء: قدرتها على دعوة الذكر لتلقيحها، وذَلِكَ بأصوات تصدرها تدعو بها الذكور إِلَيْهِا، وتخرج من خليتها حائمةً حولًها مُصْدِرَةً تلك الأصواتَ، وتستقبل الذكورُ هذه الدعوةَ لا فِي الخلية وحدَها، بل فِي جميع الخلايا المجاورة، وتنطلق أسراب الذكور خلف الملكة، وهي تُغِذُّ الطيران منطلقةً فِي الفضاء الرَّحْب، ويفوز بتلقيحها أقوى الذكورِ وأشدُّها وأسرُعها، ولَكِنه يفقد حياته بعد ذَلِكَ.
    قد يَسْأَلُ سائلٌ عَنْ كيفية سماع الذكور لدعوة الملكة.
    الجواب: أن الله زَوَّدَ كلَّ نحلةٍ بِقَرْنَي استشعار، هذان القرنان يتألفان من حلقات يتصل بعضها ببعض، عليها عدد كبير من الثقوب، ويبلغ عدد الحلقات فِي الذكر اثنتا عشرة حلقة، فِي حينِ أن عددها فِي الشغالة أو الملكة إحدى عشرة حلقة.

    ويبلغ عدد ثقوب الحواس الكائنة على قرن الاستشعار عَنْد الذكر (2800) ثمانمائةٍ وألفي ثقبٍ، وفي الشغالة يبلغ (2400) أربع مائة وألفي ثقب، وفي الملكة يبلغ (1600) ستمائة وألف ثقب.
    والحقيقة أن قرني الاستشعار فِي النحلة بمنزلة هوائي الإذاعة، يستخدمه لالتقاط الأصوات الصادرة من الملكة، ولغير ذَلِكَ من الأصوات، كما تستخدمه فِي الشم والسمع واللمس.
    وإذا فقدت النحلة الشغالة أو الذكر أو الملكة قرني الاستشعار؛ فإنها لا تستطيع أن تقوم بدورها، ففيه يتركز معظم حواسها: السمع والشم واللمس كما سبق.
    وتكوين النحلة الذكر يتناسب مع المهمة التي خلق من أجلها، فهو كبير قوي، يأكل كثيرًا، ولا يعمل شيئًا، فلا يجمع الرحيق، ولا يصنعه، ولا يبني، ولا يحرس، حتى طعامُه، تضعه النحلة الشغالة فِي فَمِه، كل ما يستطيع القيام به هو تلقيح الملكة، ولذا فإن النحلة الشغالة بعد انتهاء مهمته تمتنع عَنْ إمداده بالغذاء، وأكثر من هذا تهاجم الشغالةُ الذكورَ فتقتُلُها أو تطردُها، فعند الرجوع من عملية تلقيح الملكة تعود الذكور، فإذا ما عادت تَلَقَّتْهَا الشغالةُ عَنْد باب الخلية، فَيَحْدُثُ ما يُعْرَفُ بِمَذْبَحَةِ الذكورِ، فتقتلها؛ لِأَنَّهُ لا فائدة منها.
    ويبقي أن نعلم أن عدد الذكور من النحل قليلٌ بالنسبة لتَعداد النحل، فلا يتجاوز عددُها فِي الخلية الواحدة المائتين.
    أما النحلة الشغالة؛ فإنها تكون مُمَثِّلَةً للعدد الأكبر فِي الخلية، كما أَنَّهُا العنصرُ الفَعَّالُ فِيها، وهي التي تقوم بالأعمال المختلفة والمهمات الصعبة؛ تجني الرحيق، تجمع غبار الطلع، تصنع العسل، تمدّ الملكة بغذائها الخاص، تبني الأقراص التي يحفظ فِيها العسل، وتُرَبِّي فِيها الأجيالَ الجديدةَ من النحل، وتَحْرُسُ الخليةَ، وتقوم بتنظيفها والمحافظة عليها؛ بل تقوم بتهويتها وتدفئتها.
    ومن الغرائز التي وهبها الله لمثل هذه الكائنات الضئيلة ما هو مذهل، يجعل كل ذي عقل من البشر يخرّ ساجدًا للخالق الْعَظِيم.
    على سبيل المثال: ما تراه فِي مستعمرة فيها نوع من الحشرات يطلق عليه: (النمل الأبيض)، تعيش هذه الحشرات أَيْضًا فِي مستعمرات، إِذَا زاد أفراد المستعمرة عَنْ الحد المعقول بالنسبة لكمية الغذاء المتاحة؛ فإنّ هذه الحشرات تدرك هذه الْحَقيقة عَنْ طريق الغريزة، فتبدأ الأفراد فِي التهام عدد كبير من البَيْض، وبذَلِكَ يسهم النمل فِي حلّ مشكلة زيادة أفراد المستعمرة وفي حل مشكلة الغذاء، إذ إن التهام البيض يعتبر تغذية، وفي الوقت نفسه يقلل من عدد ذرية النمل الأبيض.
    إنّ هذه الحشرات لا تدرك لماذا تفعل ذَلِكَ؛ ولَكِنها النفحة الإلهية التي تلهمها لعمل ما لا يمكن أن تدركه من الأشياء التي تعود عليها بالفائدة وتجنبها الفناء.
    هذه الحشرات نفسها تتغذى على الأخشاب وتلتهمها بشراهة، إذ فِي بعض الأماكن الموبوءة بها ـ أي بالنمل الأبيض ـ يتناول أفراد الأسرة طعامهم على منضدة الطعام الخشبية، ثم يذهبون فِي الصباح لتناول إفطارهم، فيجدون تلك المنضدة قد تقوضت أركانها، وانهارت فِي خلال ليلة واحدة.
    في بعض جهات استراليا الموبوءة بتلك الحشرات المدمرة قد يسأل أحد السائحين وهو ناظر من نافذة القطار عَنْ اسم القرية التي رآها على مدى البصر، فيقول: ما اسم هذه القرية؟ فيعتريه الذهول عَنْدما يخبرونه أن تلك القرية لا تضم آدميين، ولَكِنها المساكن التي أقامها النمل الأبيض ليعيش بها.
    هذه المساكن ترتفع عَنْ سطح الْأَرْض عدة أمتار، وتصنعها الحشرات من مادة غريبة، هي خليط من لعابها وبعض المواد الأخرى، وهي أقوى من الإسمنت المسلح، ولا يمكن أن تخترقها الحشرات أو يتسرب إِلَيْهِا الماء من خلال جدرانها، وبداخلها أنفاق متشعبة يعيش فِيها النمل الأبيض.
    وتَسْتَخْدِمُ هذه الحشراتُ للتَّخَابُرِ عَنْ بُعْدٍ نوعًا من الشَّيْفَرَةِ تُشْبِهُ شَيْفَرَةَ التِّلِغْرَاف، إذ تدق على جدران النفق برأسها عدة دقات، فيفهم باقي النمل ما تريد عَنْ طريق تلك الدقات الشَّفْرِيَّةِ، تفعل ذَلِكَ دون أن تدري ماذا تفعل، إذ إنَّهُا تفعلها عَنْ طريق الإلهام الإلهي الذي جعله الله رب العالمين غريزة فيها.
    احتار الْعلماء فترة طويلة فِي تفسير إمكان حياة مثل هذه الحشرات عَنْ طريق الغذاء على الأخشاب، فالخشب لا يحتوي على أَيَّةِ مَوَادَّ عضويةٍ قابلةٍ للهضم، وأخيرًا اكتشف العلماءُ السِّرَّ.
    لقد وَجَدوا فِي داخلِ الجهازِ الهضميِّ لأفرادِ هذه الحشراتِ حيواناتٍ دقيقةً أوليةً يَتَكَوَّنُ جسمُها من خليةٍ واحدةٍ، وهذه الحيواناتُ الأوليةُ تُفْرِزُ أجسامُها إِفْرَازَاتٍ تُحَوِّلُ الخشبَ إِلَى مَوَادَّ غذائيةٍ قابلةٍ للهضمِ هي التي تُغَذِّي النملَ الأبيض.
    ومن العجيب: أَنَّهُ لم يحدث إطلاقًا أن اكْتُشِفَتْ نملةٌ بيضاءُ واحدة تخلو أمعاؤها من هذه الحيوانات الأولية، ولو لم توجد هذه الحيوانات داخل أمعاء النمل الأبيض منذ بدء خلقها لما أمكنها الحياة؛ لأنها لا تتغذى إلا على الخشب، ولانقرضت منذ أول جيل من أجيالها؛ فهل من الممكن أن يحدث هذا عَنْ طريق المصادفة؛ أو هو شيءٌ مُقَدَّرٌ مُدَبَّرٌ مرسومٌ لا يقوى عليه إلا العليم الحكيم؟!!
    ومن عجب: أن النمل يُرَبِّي البقر!!
    فالنمل يربي بقرةً كما يربي الإنسان بقرة!!
    بل إن النمل يَفْلَحُ الْأَرْضَ!!
    وهذا من عجائب النمل!!
    النمل استأنس مئات من الأجناس من الحيوانات الأدنى منه شأنًا، بينما الإنسان لم يستأنس سوى نحو عشرين من الحيوانات الوحشية التي سخرها لمنفعته ومتعته، وعرف النمل الزرع والرعي عَنْ طريق الغريزة.
    حشرات الْمَنّ التي يطلق عليها أحيانًا اسم (قمل النبات) التي نراها على أوراق بعض النبات؛ يرعاها النمل ليستفيد منها.
    في الربيع الباكر يرسل النمل الرسل لتجمع له بيض هذا المن، فإذا جاؤوا به؛ وضعوه فِي مستعمراتهم حيث يضعون بيضهم، ويهتمون ببيض هذه الحشرات كما يهتمون ببيضهم، فإذا فقس بيض المن وخرجت منه الصغار؛ أطعموها وأكرموها، وبعد فترة قصيرة يأخذ المن يُدِرُّ سائلًا حلوًا كالعسلِ كما تُدِرُّ البقرةُ اللبنَ، ويتولى النمل حَلْبَ هذا المن للحصول على هذا السائل وكأنها أبقار.
    ولا يعتني النمل بتربية المواشي وحدها، بل يعتني كذَلِكَ بالزرع وفِلاحة الْأَرْض.
    شاهد أحد الْعلماء فِي إحدى الغابات قطعة من الْأَرْض قد نما بها أُرْزٌ قصيرٌ مِنْ نوعٍ نِصْفِ بَرِّيٍّ، كَانَت مساحة القطعة خمسة أقدام طولًا فِي ثلاثة عرضًا، وكان طول الأرز نحو ستة سنتيمترات، ويتراءى للناظر إِلَى هذه البقعة من الْأَرْض أنّ أحدًا لا بد يعتني بها، فالطينة حول البذور كَانَت مشققة، والأعشاب الغريبة كَانَت مستأصلة، والغريب أَنَّهُ لم يكن على مَقْرُبَةٍ من هذا المكان عودٌ آَخَرُ من الأرز، فهذا الأرز لم ينم من تلقاء نفسه، وإنّما زرعه زارع.
    ولوحظ أن طوائف النمل تأتي إِلَى هذا المزروع وتذهب عَنْه، فانْبَطَحَ العالِمُ على الْأَرْض يلاحظ ما يصنعه، ولم يلبث أن عرف أنّ هذا النمل هو القائم بزراعة الأرز فِي تلك البقعة من الْأَرْض، وأنه اتخذ من زراعتها مهنة له، تشغل كل وقته، فبعضه كَانَ يشق الْأَرْض ويحرثها، والبعض الآخر كَانَ يزيل الأعشاب الضارة، فإذا ظهر عود من عشب غريب قام إِلَيْهِ بعض النمل، فَيَقْضُمُونَهُ، ثم يحملونه بعيدًا عَنْ المزرعة.
    نما الأرز حتى بلغ طولُه ستين سنتيمترًا أو ستة سنتيمترات كما مر.
    كانت حبوب الأرز قد نَضِجَتْ، فلما بدأ موسم الحصاد شاهد صفًا من شغالة النمل لا ينقطع متجهًا نحو العيدان، فيتسلقها إِلَى أن يصل إِلَى حبوب الأرز، فتنتزع كل شغالة من النمل حبة من تلك الحبوب، وتهبط بها سريعًا إِلَى الْأَرْض، ثم تذهب بها إِلَى مخازنها تحت الْأَرْض.
    بل الأعجب من ذَلِكَ: أنّ طائفة من النّمل كَانَت تتسلق الأعواد، فتلتقط الحب، ثم تلقي به، بينما طائفة أخرى تتلقاه، وتذهب به إِلَى المخازن.
    ويعيش هذا النوع من النمل عيشة مدنية فِي بيوت كبيوتنا ذاتَ شُقَقٍ وطبقات، أجزاء منها تحت الْأَرْض، وأجزاء فوق الْأَرْض.
    هذه معلوم.
    هذه حقيقة رصدها علماء الحشرات، ولها صورها المعروفة.
    فتحيا عيشة أو حياة مدنية فِي بيوت كبيوتنا ذاتَ شُقَقٍ وطبقات، أجزاء منها تحت الْأَرْض، وأجزاء فوق الْأَرْض، وفِي هذه المدن تجد الخدم والعبيد.
    بل الأعجب من ذَلِكَ: أنك تجد الممرضات اللاتي تُعْنَى بالمرضَى ليلًا ونهارًا، وتجد منها من يرفع جثث من يموت من النمل.
    يفعل ذَلِكَ النوع من النمل كلّ هذا بدون عقل، بدون تفكير، إذ يتم ذلك بالهداية التي أودعها الله تبارك وتعالى فِي أجسام النمل الصغيرة.
    فهل وقع ذَلِكَ اتفاقًا؟!!
    هل وقع ذَلِكَ مصادفةً؟!!
    هل فِي النمل من عَقْلٍ يفعل ذَلِكَ ويقوم به؟!!
    قال العلامة الإمام ابن القيم -رحمه الله-:
    وهذا الحمام من أعجب الحيوان هدايةً، حتى قَالَ الإمام الشافعي: "أعقلُ الطيرِ الْحَمَامُ".
    وبُرُدُ الحمام هي التي تحمل الرسائل والكتب، وربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد، فإن الغرض الَّذِي يَحْصُلُ به لا يَحْصُلُ بمملوكٍ ولا بحيوانٍ غيرِه؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ ويَرْجِعُ إِلَى مكانه مِنْ مسيرةِ ألفِ فَرْسَخٍ فما دونَها، وتُنْهِي الأخبارَ والأغراضَ والمقاصدَ التي تتعلق بها مهماتُ الْمَمَالِكِ والدولِ، والقَيِّمُونَ بأمرها يَعْتَنُون بأَنْسَابِها ـ بأنسابِ الْحَمَامِ الَّذِي هو بُرُدُ الحمام، الَّذِي يقال له: «الحمامُ الزَّاجِل» ـ، القَيِّمُونَ بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيمًا، فَيُفَرِّقُونَ بين ذُكُورِها وإناثِها وَقْتَ السِّفَادِ، وتُنْقَلُ الذكورُ عَنْ إناثِها إِلَى غيرِها، والإناثُ عَنْ ذكورها، ويخافون عليها من فساد أنسابها وحَمْلِها مِنْ غيرِها، ويَتَعَرَّفُونَ صحةَ طُرُقِها ومَحَلِّهَا، ولا يأمنون أن تُفْسِدَ الأنثى ذَكَرًا مِنْ عُرْضِ الحمام، فَتَعْتَرِيها الْهُجْنَةُ.
    والْقَيِّمُونَ بأمرِها لا يحفظون أرحامَ نسائِهم ولا يحتاطون لها كما يحتاطون ويحفظون أرحامَ حَمَامِهِم ويَحْتَاطُون لها!!
    والْقَيِّمُونَ لهم فِي ذَلِكَ قواعدُ وطرقٌ يعتنون بها غايةَ الاعتناء، بحيث إِذَا رأوا حمامًا ساقطًا؛ لم يَخْفَ عليهم حَسَبَهَا ونَسَبَهَا وَبَلَدَهَا، ويُعَظِّمُونَ صاحبَ التجربةِ والمعرفةِ، وتَسْمَحُ أنفسُهم بالْجُعْلِ الوَافِرِ له، ويختارون لِحَمْلِ الكتبِ والرسائلِ الذكورَ منها، ويقولون: هو أَحَنُّ إِلَى بيتِهِ لمكانِ أُنْثَاهُ، وهو أشدُّ مَتْنًَا، وأَقْوَى بَدَنًا، وأَحْسَنُ اهتداءً.
    وطائفةٌ منهم يختارون لِذَلِكَ الإناثَ، ويقولون: الذكر إِذَا سافر وبَعُدَ عهدُه؛ حَنَّ إِلَى الإناثِ، وتاقت نفسُه إِلَيْهِن، فربما رأى أنثى فِي طريقه ومجيئه، فلا يصبر عَنْها، فيتركُ الْمَسِيرَ، ومالَ إِلَى قضاءِ وَطَرِه منها.
    وهدايتُه على قدر التعليم والتوطين، والحمامُ موصوفٌ باليُمْنِ والْإِلْفِ للناسِ، ويُحِبُّ الناسَ ويحبونه، ويَأْلَفُ المكانَ، ويَثْبُتُ على العهدِ والوفاءِ لصاحبه وإن أساء إِلَيْهِ صاحبُه، ويعود إِلى صاحبِه من مسافاتٍ بعيدةٍ، وربما صَدَّ فَتَرَكَ وَطَنَهُ عَشْرَ حِجَجٍ وهو ثابتٌ على الوفاءِ، حتى إِذَا وَجَدَ فرصةً واستطاعةً عاد إِلَيْهِ.
    الحمامُ إِذَا أرادَ السِّفَادَ؛ يَلْطُفُ للأنثى غايةَ اللُّطْفِ، وإذا عَلِمَ الذَّكَرُ أَنَّهُ أَوْدَعَ رَحِمَ الأنثى ما يكونُ منه الولدُ؛ يقوم هو والأنثى بطلبِ القَصَبِ والحشيشِ وصغارِ العِيدَانِ، فَيَعْمَلَانِ منه أُفْحُوصَةً، ويَنْسِجَانِهَا نَسْجًَا متداخلًا فِي الوضع الَّذِي يكون بقدرِ حَيْمَانِ الحمامةِ، ويَجْعَلَانِ حروفَها شاخِصَةً مرتفعةً؛ لئلا يَتَدَحْرَجَ عَنْها البَيْضُ، ويكونُ حصنًا للحاضن، ثم يتعاودان ذَلِكَ المكان، ويتعاقبان الأُفْحُوصَ يُسَخِّنَانِهِ ويُطَيِّبَانِهِ، ويَنْفِيَانِ طِبَاعَهُ الأولَ، ويُحْدِثَانِ فِيه طبعًا آَخَرَ مُشْتَقًَّا ومستخْرَجًَا من طِبَاعِ أبدانِهما ورائحتِهما؛ لكي تَقَعَ البيضةُ - إِذَا وقعت - فِي مكانٍ هو أَشْبَهُ المواضعِ بأرحامِ الحمامِ، ويكون على مقدارٍ مِنَ الْحَرِّ والْبَرْدِ والرَّخَاوَةِ والصَّلَابَةِ، ثم إِذَا ضَرَبَها الْمَخَاضُ بادرت إِلَى ذَلِكَ المكانِ، وَوَضَعَتْ فِيه البَيْضَ، فإنْ أَفْزَعَهَا رَعْدٌ قَاصِفٌ رَمَتْ بالبيضةِ دون ذَلِكَ المكانِ الَّذِي هَيَّأَتْهُ؛ كالمرأة التي تُسْقِطُ من الفزع، فإذا وضعت البيض فِي ذَلِكَ المكان؛ لم يزالا يتعاقبان الْحَضْنَ، حتى إِذَا بلغ الْحَضْنُ مَدَاهُ وانتهت أيامُه؛ انْصَدَعَ عَنْ الفراخِ فأعاناه على خروجه، فيبدآن أولًا بنفخ الريح فِي حلقه حتى تتسع حَوْصَلَتُهُ، علمًا بأن الحوصلة تضيق عَنْ الغذاء، فتتسع الحوصلة بعد التحامها، وتَنْفَتِقُ بعد ارْتِقَاقِهَا، ثم يَعْلَمَانِ أن الحوصلةَ وإن كَانَت قد اتَّسَعَتْ شيئًا؛ فإنها فِي أول الأمر لا تحتمل الغذاء، فَيَزُقَّانِهِ بِلُعَابِهِمَا المختلِطِ بالغذاءِ، وفيه قُوَى الطَّعْمِ، ثم يَعْلَمَانِ أن طَبْعَ الحوصلةِ يَضْعُفُ عَن استمرارِ الغذاء، وأنها تحتاج إِلَى دفع وتقوية لتكون لها بعضُ المتانة، فَيَلْقُطَانِ من الْغِيطَانِ الْحَبَّ اللَّيِّنَ الرَّخْوَ، ويَزُقَّانِهِ الفَرْخَ، ثم يزقانه بعد ذَلِكَ الحبَّ الَّذِي هو أقوى وأشدُّ، ولا يزالان يزقانه بالحب والماء على تدريجٍ بحَسَبِ قوةِ الفَرْخِ، وهو يطلب ذَلِكَ منهما، حتى إِذَا علما أَنَّهُ قد أطاق اللقطَ منعاه بعضَ المنع؛ ليحتاج إِلَى اللقط ويعتادَه، وإذا عَلِمَا أن رِئَتَهُ قد قويت ونمت، وأنهما إن فَطَمَاه فَطْمًَا تامًَّا قَوِيَ على اللَّقْطِ وتَبَلَّغَ لنفسِه؛ ضَرَبَاهُ إِذَا سألهما الزَّقَّ ومَنَعَاهُ، ثم تُنْزَعُ تلك الرحمةُ العجيبةُ منهما، ويَنْسَيَانِ ذَلِكَ التعطفَ المتمكنَ حينَ يَعْلَمَانِ أَنَّهُ قد أطاق القيامَ بالتَّكَسُّبِ لنفسه، ثم يبتدآن العمل ابتداءً ذَلِكَ النظام.
    ومِنْ عجيبِ هدايةِ الحمامِ: أَنَّهُا إِذَا حَمَلَت الرسائلَ؛ سَلَكَت الطرقَ البعيدةَ عَنْ القُرَى ومواضعِ الناسِ؛ لئلا يَعْرِضَ لها مَنْ يَصُدُّها، ولا يَرِدُ مياهَ الناس، بل يَرِدُ المياهَ التي لا يَرِدُها الناسُ.

    المصادر:
    الشفاء العليل لابن القيم
    شموع النهار

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة الراجى رضا الله, منذ 3 يوم
ردود 0
6 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة الراجى رضا الله
ابتدأ بواسطة الراجى رضا الله, منذ 2 أسابيع
ردود 11
53 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة الراجى رضا الله
ابتدأ بواسطة Mohamed Karm, 7 فبر, 2023, 06:09 ص
ردود 0
130 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة Mohamed Karm
بواسطة Mohamed Karm
ابتدأ بواسطة ARISTA talis, 2 ديس, 2022, 01:54 م
ردود 0
69 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة ARISTA talis
بواسطة ARISTA talis
ابتدأ بواسطة عادل خراط, 21 نوف, 2022, 03:22 م
ردود 25
160 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة عادل خراط
بواسطة عادل خراط
يعمل...