كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام

تقليص

عن الكاتب

تقليص

نور الهداية مسلمة ولله الحمد اكتشف المزيد حول نور الهداية
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • * عمارة والتصوف:
    الوثنية! ويذم من يتعرض للقبور بسوء! وهذا من أعجب ما رأيت له
    (2/269)
    قال في كتاب "التراث" (156): "هل إذا قدر لتراث المصريين في التوحيد الديني أن يظهر وينشر وتسلط عليه الأضواء هل ستظل مكانه اللاهوت العبراني كما هي في دوائر الفكر العالمي؟ مكانة الرائد الذي يمثل أقدم النصوص المكتوبة في عقيدة التوحيد؟ .. كلا وتلك واحدة من مهام الفكر العربي في صراعه ضد الصهيونيين" فهو يطالب بإحياء (توحيد! ) الفراعنة لتغتاظ إسرائيل! .. قلت: بل لتفرح!، ويقول في كتاب "الإسلام وفلسفة الحكم" (582) عن المتوكل العباسي: "كما عم انقلاب المتوكل العباسي المعتزلة بالاضطهاد فلقد شمل به الشيعة العلويين كذلك فالأمويون قد قتلوا الحسين والمتوكل هدم قبره وسواه بالتراب ثم حرث أرضه وزرعها كي لا يزوره أحد من الناس"، فهو ينكر على المتوكل إحياءه للسنة في هدم القبور المرتفعة ومنع الناس من الافتتان بها لا سيما إذا كانوا من جهلة الشيعة، وقد كان الأولى بالسلفي أن يمدحه لا أن يذمه.

    4 - ومما يشهد بعدم سلفية الدكتور مدحه للتصوف الفلسفي ورجاله وهو يعلم أنه لا لقاء بين السلفية والتصوف الفلسفي الذي يقوم على مبدأ (وحدة الوجود) و (الحلول) فاسمعه يقول عن الأفغاني -متأثرًا به-: "وهو فيما يتعلق بالوقف من التراث الصوفي في الفكر الإسلامي كان أقرب إلى التصوف العقلاني -إن جاز التعبير- منه إلى التصوف العملي القائم على التنسك والتذوق والحدس .. فمعروف عنه تقديره الكبير للشيخ محيي الدين ابن عربي الذي يعد من أبرز أعلام التصوف الفلسفي في الفكر الإسلامي" "نظرة جديدة" (247).
    هذا غيض من فيض .. وقطرة من بحر مما لدى الدكتور من أفكار وكلمات تصادم المنهج السلفي فكيف يزعم أنه من رجاله؟
    هم الرجال وعيب أن يقال ... لمن لم يتصف بمعاني وصفهم رجل
    التعديل الأخير تم بواسطة نور الهداية; 5 مار, 2011, 06:27 م.

    ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

    تعليق


    • (2/270)
      ________________________________________
      * الوها بية والسلفيون ومحمد عمارة:

      1 - الوها بية: يرى الدكتور عمارة أن الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- "دعا إلى العودة لإسلام شبة الجزيرة الأول إسلام ما قبل عصر الفتوحات ذلك الذي يكفي الإنسان منه النصوص دونما حاجة إلى العقلانية الكلامية أو الفلسفية وما أثمرت من قياس ورأي وتأويل" "الطريق" (160).
      وإنه: "هاجم القياس حتى ولو كان صحيحًا وأعرض عن التأويل في فهم النصوص وتفسيرها وأعلن أن الرأي لا وزن له بجانب النصوص" "الطريق" (161).
      وأن الوها بية: "حركة تجديد سلفية نشأت في بيئة عربية بسيطة لم تعرف الفكر المركب لخلوها من تعقيدات الحضارة وأنماطها الفكرية المركبة فكانت صورة إسلامها هي صورة الإسلام العربي الأول في عصر صدر الإسلام" " الطريق" (163).
      "كانت الوها بية كامتداد للفكر السلفي إسهامًا في الاستقلال الحضاري لأمتنا العربية الإسلامية وإن تكن بداوة بيئتها وفقر الأفكر الفلسفي عند أعلامها قد جعل إسهامها على هذه الجبهة متمثلاً في رفض التبعية الفكرية مع العجز عن الإبداع في بلورة البديل وتطويره" "الطريق" (165).
      و"الوها بية بسبب من بداوة البيئة التي نشأت بها قد اتخذت موقفًا غير ودي من العقلانية ومن التمدن" "الطريق" (166)، ولذلك يقول محمد عبده عنها: "لم يكونوا للعلم أولياء ولا للمدنية أحباء" "الطريق" (167).
      ولقد "عجزت عن تلبية حاجات البيئات العربية الإسلامية المتحضرة ذات الفكر المركب والتطور الحضاري المتقدم" "الطريق" (167).
      ولهذا "ظلت دعوة ودولة في شبة الجزيرة وحدها ودون أن تتعداها" "العرب والتحدي" (151).
      التعديل الأخير تم بواسطة نور الهداية; 5 مار, 2011, 07:06 م.

      ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

      تعليق


      • (2/271)
        ________________________________________
        - هذه أبرز النقاط التي يعرضها الدكتور عن (الوها بية) أو التي حكم بها عليها
        ويمكن أن نرجعها إلى قسمين: قسم يمدح فيه الوها بية وقسم يذم فيه الوها بية ..
        فهو يمدحها لأنها:
        1 - حركة تجديد سلفية أعادت للتوحيد نقاءه وحاربت الخرافة.
        2 - حركة انتصرت للعروبة في مواجهة الدولة العثمانية .. وهذا فهم خاطئ فهي حركة (إسلامية - سلفية) .. ولم تكن (عربية) بالمعنى الذي يريد الدكتور؛ لأنها لم تحارب الدولة العثمانية لأجل (العروبة) بل لأجل انحراف دولة الخلافة عن التوحيد وانتشار الشرك والبدع بين أفرادها وتقريبها للطرقية والجامدين من المقلدة.
        قال الأستاذ (محمد جمعة) رادًا على الدكتور في هذه القضية: "الدعوة السلفية إذًا لم تصطدم بالعثمانيين لمجرد أنهم عثمانيون غير عرب؛ بل لأن العثمانيين قد أجازوا كثيرًا من البدع الشركية التي قامت الدعوة من أجل محاربتها ثم لأن العثمانيين هم الذين بدأوا الدولة السعودية الأولى والدعوة السلفية بالقتال فالمعروف تاريخيًّا أنه لم يكن هناك أي وجود حقيقي للعثمانيين في نجد أيام قامت الدعوة بل ربما أن العثمانيين لم ينتبهوا أو يهتموا بقيامها ولكن حين رأوها تنشط وتتوسع خافوها فحرضوا ولاتهم في العراق والشام على محاربتها فلما عجزوا كلفت الدولة العثمانية وإليها على مصر (محمد علي) بذلك" "مقال تصحيح وإيضاح" مجلة الهلال أغسطس 1983).


        * وهو يذم الوها بية لأنها:
        1 - عادت العقلانية والفلسفة وعلم الكلام.
        2 - عجزت عن تلبية احتياجات البلاد الأخرى في التمدن.
        3 - لأنها بدوية.
        (2/272)
        ________________________________________
        4 - لأن الإمام محمد بن عبد الوهاب هاجم القياس.
        5 - لأنها عنيفة فلذلك لم تصل إلى بلاد أخرى.
        - ونقول له:
        يا ناطح الجبل العالي لتكلمه ... أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
        - ولله در القائل:
        متى يصل العطاش إِلى ارتواء ... إِذا استقت البحار من الركايا
        ومن يثني (الأصاغر) عن مراد ... وقد جلس الأكابر في الزوايا

        ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

        تعليق


        • * محمد عمارة وبعض الأسماء:
          1 - معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -:
          - قال الدكتور: "إن المعتزلة قد ربطوا باستمرار بين نظرية الجبر وبين السلطة الأمرية ورأوا أن لهذه الأفكار الجبرية أبعادًا سياسية في المجتمع بل اتهموا معاوية بن أبي سفيان بأنه أول من أشاع هذا اللون من الفكر حتى يدعم سلطته وسلطانه ويوهم الناس أن انتقال الخلافة إليه وإلى أهل بيته إنما هو قدر الله وقضاؤه الذي يجب التسليم به والرضا عنه" "المعتزلة" (151).
          "فمعاوية .. قد حاول استخدام عقيدة الجبر كي يبرر انتقال السلطة له وتغير طبيعتها على يديه" "الإسلام وفلسفة الحكم" (158).
          ويقول: "دولة بني أمية وحكامها وولاتها يحكم عليها المعتزلة في الجملة بالضلال والفسق؛ لأنها قامت على ذنب من الذنوب الكبائر وهو تحويل الخلافة الشوروية إلى ملك وراثي عضود ولأنها مارست من المظالم والكبائر ما امتلأت به صحائف آثار كثيرة من كتب أهل الأعتزال" "الإسلام وفلسفة الحكم" (510).
          لقد اتهمه هذا الدكتور (الظالم) تبعًا لمشايخه الكذابين من المعتزلة بأنه
          (2/273)
          ________________________________________
          - رضي الله عنه - أول من ابتدع (الجبر) في الإسلام! حفاظًا على منصبه وولايته! والدليل عنده "قال الجبائي: أول من قال بالجبر وأظهره معاوية" "المعتزلة" (151)، ومثله عن ابن المرتضى. أفيقبل مسلم عاقل طعن هؤلاء المبتدعة المغضوب عليهم في أفضل الأمة؟ وقد أخبرناك بعض أقوالهم الآثمة في ذلك. أيُعَدَّل الفاسق ويُفَسَّق العدل؟ قال - صلى الله عليه وسلم - "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم" "مختصر مسلم" (1053) فهذه دعاوى من أشباه "الرافضة" قد استقوها منهم لا تقبل إلا ببينة صادقة. ثم يقال: إن أول من أظهر (الجبر) ونشره بين الناس هو (الجهم بن صفوان) كما هو معروف عند أهل الفرق وهو أحد الرجال الذين أثروا في المعتزلة! قال الشهرستاني: "الجهمية أصحاب جهم بن صفوان وهو من الجبرية الخالصة" (1).

          2 - الحسن البصري:

          - قال الدكتور: "إن المعتزلة يذكرون الحسن البصري في الطبقة الثالثة من طبقات رجالهم وهي الطبقة التي فيها التابعون ويثبتون له رسالته التي كتبها في القدر ردًّا على رسالة عبد الملك بن مروان، ولكن هناك من يشككون في هذه النسبة فيقولون: كان أهل القدر ينتحلون الحسن بن أبي الحسن وكان قوله مخالفًا لهم وهناك من يقول: إنه قال بالقدر ثم عدل ورجع عن القول به. ولكن الدراسة لأسس هذا الخلاف حول الحسن البصري تؤكد أن الرجل كان من أئمة الذين قالوا بالقدر على مذهب العدل" "الإسلام وفلسفة الحكم" (159) "مسلمون ثوار" (155).
          ويقول: "الحسن كان بلا جدال ولا شك من أوائل الذين قالوا بالقدر على مذهب المعتزلة أهل العدل والتوحيد .. كل ما في الأمر أنه قد اختلف
          __________
          (1) "الملل" (1/ 73).

          (2/274)
          ________________________________________
          معهم في أصل آخر هو المنزلة بين المنزلتين وفي قضايا أخرى مثل قضية تجريد السيف والخروج المسلح ضد بني أمية .. وعلى ضوء هذه الحقيقة نفهم ذكر المعتزلة للحسن في الطبقة الثالثة من طبقات رجالهم ونفهم قول الذين أرخوا لفرق المعتزلة عندما يذكرون (فرقة الحسنية) -نسبة للحسن- كإحدى فرق المعتزلة" "الإسلام وفلسفة الحكم" (160).
          - قلت: ابتلي الحسن -رحمه الله- بطائفتين من أهل البدع كلتيهما تجعله أصلاً لبدعتها .. الطائفة الأولى هي (المعتزلة) كما ذكر الدكتور والطائفة الثانية هم (الصوفية) .. قال الصوفي الشعراني في كتاب "اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر": "وقد كان الحسن البصري وكذلك الجنيد والشبلي وغيرهم لا يقررون علم التوحيد إلا في قعور بيوتهم بعد غلق أبوابهم وجعل مفاتيحها تحت وركهم ويقولون: أتحبون أن ترمى الصحابة والتابعون الذين أخذنا عنهم هذا العلم بالزندقة بهتانًا وظلمًا" (1).
          وكل يدعي وصلاً (بحسن) ... و (حسن) لا يقر لهم بذاك
          بل يقر -رحمه الله- لأهل السنة. لأنه أحد رموزهم الأكابر ولكنه جمع بين العلم والزهد والكلام (الحسن) فظنت كل طائفة أنه يعنيها وأما اتهامه بالقدر فتهمه قد براه الله منها قال ابن سيرين: "كانوا يأتون الشيخ -يعني الحسن- بكلام مجمل لو فسروه له لساءهم" (2).
          - وقال أبو سعيد الأعرابي: "كان يجلس إلى الحسن طائفة من هؤلاء فيتكلم في الخصوص حتى نسبته القدرية إلى الجبر وتكلم في الاكتساب حتى نسبته السنة إلى القدر كل ذلك لافتنانه وتفاوت الناس عنده وتفاوتهم في
          __________
          (1) "الكشف عن حقيقة الصوفية" لمحمود قاسم (ص 85).
          (2) "السير" (4/ 582).

          (2/275)
          ________________________________________
          الأخذ عنه وهو بريء من القدر ومن كل بدعة" (1).

          3 - ابن عربي الصوفي:
          - قال الدكتور: "ابن عربي -في التصوف الفلسفي- قمة القمم، لا في حضارتنا العربية الإسلامية فقط، بل وعلى النطاق الإنساني. وهو بمقياس "السلفية المحافظة" أو "الفقهاء" وثني زنديق.
          والذين يلقون نظرة على تيارات الفكر الإسلامي يجدون الفكرة ونقيضها، والمدرسة وضدها والمقولة وما ينقضها أو يعاديها .. قام ذلك في كل شيء، حتى في تصور الذات الإلهية، نجد "المنزهة" أصحاب التجريد، ونجد (المشبهة) الذين يفضي قولهم إلى ألوان من التجسيد أو الحلول أو الاتحاد إلخ .. والذي أعتقده وخاصة في مثل عصرنا -أن الاستنارة يجب أن تجعلنا ننظر للاختلافات في الآراء، والتعدد في التصورات، كمصدر للغنى الفكري والثراء الثقافي .. وإذا لم يكن مفر من الاختلاف، فلنجعله في إطار (الخطأ والصواب)، وليس في إطار (الكفر والإيمان)، فلا كهانة في الإسلام، ولا سلطة لبشر، حتى الرسل، على ضمائر الناس وقلوبهم.
          وإذا كان الأمر كذلك، فإن مصادرة ابن عربي، أو غير ابن عربي، تصبح قضية وفعلة بينة الشذوذ خصوصًا وأنها تأتي من أناس لا علاقة لهم بالفكر الذي يصادرونه لأنه باعتراف علية المتخصصين- فكر يستعصي على كثير من الخواص، فضلاً عن العوام.
          إن ابن عربي في التصوف الفلسفي، أشبه ما يكون باينشتين ونسبيته في العلوم، فمن في مجلس الشعب يستريح ضميره للحكم في مثل هذه الأمور؟ " "التراث" (291).
          __________
          (1) "السير" (4/ 582).

          (2/276)
          ________________________________________
          - أما عند أهل السنة فقال شيخ الإسلام: "آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحدًا وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق. وهذا تعطيل للخالق وحقيقة قوله فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن وهو قول فرعون، ولهذا كانوا معظمين لفرعون ثم إنهم جعلوا أهل النار يتنعمون فيها كما يتنعم أهل الجنة فكفروا بحقيقة اليوم الآخر ثم ادعوا أن الولاية أفضل من النبوة .. " (1).

          4 - عمرو بن عبيد:

          - قال الدكتور عنه:
          "علامة بارزة على طريق تطور العقل العربي المسلم .. وعلم من الأعلام الذين صنعوا النشأة الأولى للتيار العقلاني في تراثنا قبل أن تعرف العربية حركة الترجمة عن اليونان وثائر في سبيل العدل والشورى التميز نظره بنظرة خاصة لقضية الثورة ركزت على ضرورة الاستعداد والتمكن والإعداد ورفضت الفوضى والتمردات ومع ذلك فهو زاهد ناسك عابد سلكه الزهاد والمتنسكون في سلك أئمتهم كما تزينت باسمه صحائف الفلاسفة والمتكلمين والثوار. فلقد ذهب إلى بيت الله الحرام -من البصرة- إلى الحج ماشيًا على قدميه أربعين مرة في أربعين سنة ومعه راحلته -جمله- مخصصًا إياه لركوب الفقراء والضعفاء" "التراث" (27).

          5 - غيلان الدمشقي:

          - قال الدكتور: "غيلان الدمشقي إنسان إذا شئنا أن نلخص حياته والعطاء الذي قدمته نفسه في هذه الحياة في كلمات شديدة الاختصار استطعنا أن نقول: إنه كان موقفًا ثوريًا من كل سلبيات الحياة في العصر الذي عاش
          __________
          (1) "درء التعارض" (5/ 4).

          (2/277)
          ________________________________________
          فيه" "مسلمون ثوار" (142).
          وقال: "طلب من الخليفة -أي عمر بن عبد العزيز- أن يجعله قائمًا على رد المظالم والأموال المغتصبة من الأمة والتي كان الخلفاء والأمراء الأمويون قد احتازوها منذ علا نجمهم في خلافة عثمان بن عفان .. فقال غيلان الدمشقي للخليفة: ولني بيع الخزائن ورد المظالم. فولاه هذه المهمة وعهد إليه بتلك المسئولية" "مسلمون ثوار" (147).
          وقال: "كانت حياة غيلان نموذجًا فريدًا يجسد الموقف الثوري من سلبيات مجتمعه كذلك كان مماته نموذجًا فريدًا يجسد سلبيات هذا المجتمع ويدين هذه السلبيات" "مسلمون ثوار" (149).
          - قلت: قال ابن حبان: "كان داعية إلى القدر قتل وصلب بالشام لا تحل الرواية عنه ولا الاحتجاج به لبدعته التي كان يدعو إليها وقتل عليها".
          ثم روى بسنده إلى إبراهيم بن أبي عُلية قال: "كنت عند عبادة بن نسي فأتاه آت فقال: إن أمير المؤمنين هشامًا قد قطع يدي غيلان ورجليه فصلبه.
          قال: ما تقول؟ قال: قد فعل. قال: أصاب والله فيه القضاء والسنة ولأكتبن إلى أمير المؤمنين ولأحسنن له رأيه" (1).
          - قال الذهبي: "غيلان بن أبي غيلان المقتول في القدر ضال مسكين" (2).
          وقال ابن حجر: "قال ابن المبارك: كان من أصحاب الحارث الكذاب وممن آمن بنبوته فلما قتل الحارث قام غيلان إلى مقامه. وقال له خالد بن اللجلاج: ويلك ألم تك في شبيبتك ترامي النساء بالتفاح في شهر رمضان ثم صرت خادمًا تخدم امرأة الحارث الكذاب المتنبي وتزعم أنها أم المؤمنين ثم
          __________
          (1) "المجروحين" لابن حبان (2/ 20).
          (2) "ميزان الاعتدال" للذهبي (3/ 338).

          (2/278)
          ________________________________________
          تحولت فصرت زنديقًا ما أراك تخرج من هوى إلا إلى أشر منه. وقال له مكحول: لا تجالسني. وقال الساجي: كان قدريًّا دعا عليه عمر بن عبد العزيز فقتل وصلب وكان غير ثقة ولا مأمون كان مالك ينهى عن مجالسته. قلت - آي ابن حجر-: وكان الأوزاعي هو الذي ناظره وأفتى بقتله" (1).

          6 - ابن جني:

          - قال الدكتور عنه: "الرائد العملاق" "نظرة جديدة" (68).
          وقال: "كان ابن جني كما أعتقد ثمرة للعقل العربي الذي سار مجتمع البصرة في القرن الرابع الهجري وإضافة خلاّقة لهذا العقل" "نظرة جديدة" (69).
          وقال: "لقد كان -أحد تلامذة مدرسة بصرية امتازت باعتمادها على العقل وثقتها في قدرته إلى أبعد الحدود .. ألا وهي مدرسة الاعتزال" "نظرة جديدة" (73).

          7 - محمد علي:

          - قال الدكتور عنه: "ارتادت مصر للشرق والوطن العربي عصر التنوير واليقظة والنهضة في ظل الدولة المدنية الحديثة التي أسسها محمد علي باشا الكبير" "التراث" (189).
          ويخصص الدكتور مبحثًا كاملاً في كتابه "العلمانية" للدفاع عن اتهامات (لويس عوض) لمحمد علي.

          8 - ثورة الزنج:

          خصص الدكتور مبحثًا كاملاً من كتابه "الإسلام والثورة" للحديث عن ثورة الزنج، وكان مما قال: "كان قائد هذه الثورة -علي بن محمد بن أحمد ابن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب-
          __________
          (1) "لسان الميزان" - لابن حجر (4/ 424).

          ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

          تعليق


          • 9 - الدكتور عمارة وعبد الله بن سبأ:
            - قال الشيخ سلمان العودة في كتابه "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام".
            "ويرى الدكتور محمد عمارة أن ابن سبأ أقرب إلى الخرافة" (1).

            10 -الحشوية:
            نبز بها الدكتور محمد عمارة السلفيين أهل السنة والجماعة، ودمغ فكر أهل السنة بالحشو اتباعًا لشيوخه (الثقات) من أهل الاعتزال قال: "أطلق هؤلاء المجبرة على أنفسهم اسم أهل السنة وأهل الجماعة وشاعت عند عامة المسلمين وجماهيرهم التفسيرات التي تجعل كلمة السنة بمعنى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتجعل كلمة الجماعة منصرفة إلى جماعة المسلمين ولكن المعتزلة يسمون هذه الفرقة بالجبرية والمجبرة والمجورة وأهل الحشو" "المعتزلة" (29).

            وقال: "المعتزلة يسمون هذه الفرقة (أي أهل السنة) بالحشوية وأهل الحشو ويقولون عنهم أنهم يسمون أنفسهم بأنهم أصحاب الحديث وأنهم أهل السنة والجماعة وهم بمعزل من ذلك وليس لهم مذهب معروف! ولا كتاب تعرف منهم مذاهبهم! إلا أنهم مجمعون على الجبر والتشبيه ويدعون أن أكثر السلف منهم وهم براء من ذلك وينكرون الخوض في الكلام والجدل ويقولون على التقليد وظواهر الروايات" "المعتزلة" (34).
            __________
            (1) "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام" للعودة (ص 89) - دار طيبة.

            (2/281)
            ________________________________________
            وأما أهل السنة والسلفيون من الأئمة فقد ردوا هذا اللقب ولم يقبلوا إطلاقه عليهم؛ لأنه من الألقاب التي يقصد بها التنفير عن الحق. كما قال الشاعر.
            تقول ذا جنى النحل تمدحه ... وإِن شئت قلت ذا قيء الزنابير
            مدحًا وذمًا ما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير
            - قال ابن القيم: "هكذا شأن كل مبتدع وملحد، وهذا ميراث من تسمية كفار قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الصبأة، وصار هذا ميراثًا منهم، لكل مبطل وملحد ومبتدع، يلقب الحق وأهله بالألقاب الشنيعة المنفرة.
            وإذا قالوا: حشوية، صوروا في ذهن السامع قومًا قد حشوا في الدين ما ليس منه، وأدخلوه فيه، وهو حشو لا أصل له. فتنفر القلوب من هذه الألقاب وأهلها، ولو ذكروا حقيقة قولهم، لما قبلت العقول السليمة، والفطر المستقيمة سواه والله يعلم وملائكته ورسله وهم أيضًا أنهم براء من هذه المعاني الباطلة. وأنهم أبعد الخلق منها، وأن خصومهم جمعوا بين أذى الله ورسوله، بتعطيل صفاته، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقعدوا تحت قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1).
            وقال في موضع آخر: "ما ذنب أهل السنة والحديث إذا نطقوا بما نطقت به النصوص وأمسكوا عما أمسكت عنه ووصفوا الله بما وصف به نفسه ووصفه رسوله وردوا تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين الذين عندوا ألوية الفتنة
            __________
            (1) "الصواعق" لابن القيم (3/ 950).
            (2/282)
            ________________________________________
            وأطلقوا عنه المحنة وقالوا على الله وفي الله بغير علم فردوا باطلهم وبينوا زيفهم وكشفوا إفكهم ونافحوا عن الله ورسوله فلم يقدروا على أخذ الثأر منهم إلا بأن سموهم مشبهة ممثلة مجسمة حشوية" (1).
            - وقال أبو حاتم الرازي: "علامة الزنادقة أن يسموا أهل الأثر حشوية" (2).

            11 - نهج البلاغة:
            يعتمد الدكتور عمارة كثيرًا في كتبه على كتاب "نهج البلاغة" للشريف المرتضي بدعوى أنه يحتوي على خطب وكلمات لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وتجده ينقل من هذا الكتاب الروايات والآثار والخطب العديدة المخالفة لمنهج أهل السنة والتي تحتوي على طعون في الصحابة الأجلاء ممن لا تواليهم الشيعة (3)، ويأخذ الدكتور ذلك كله مسلمًا به .. بل يبني عليه أحكامه وإن لم يبن أحكايه فكفى به إثمًا أن ينشر مثل تلك الروايات الفادحة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقرأها العالم والجاهل في كتبه فتكون بابًا لسوء الظن بهم أو زلل اللسان عليهم. فمثلاً هو يقول عن معاوية - رضي الله عنه - في تصوير مدى عدائه للأنصار!! "لم ينس معاوية ولا الأمويون للأنصار موقفهم هذا ففي عهد معاوية وفدت جماعة من الأنصار على رأسهم النعمان بن بشير يشكون الفقر وضيق العيش وقالوا له: لقد صدق رسول الله في قوله لنا: ستلقون بعدي أثرة. فقد لقيناها، فقال لهم معاوية: فماذا قال لكم؟ قال لنا: فاصبروا حتى تردوا على الحوض قال فافعلوا ما أمركم به عساكم أن تلاقوه
            __________
            (1) "الصواعق" (1/ 137).
            (2) "اللالكائي" (1/ 182).
            (3) كعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص - رضي الله عنهم -.

            (2/283)
            ________________________________________
            غدًا عند الحوض كما أخبركم! وحرمهم ولم يعطهم شيئًا" "الإسلام وفلسفة الحكم" (381).
            مرجعك يا دكتور؟ .. "شرح نهج البلاغة" (6/ 32)!!!.
            روايات كثيرة يسردها الدكتور العقلاني وينثرها في كتبه خاصة ما يتعلق منها بالصحابة - رضي الله عنهم - فيها الألفاظ الجارحة والحزازات والحقد والغدر والخيانة والظلم لآل البيت وتجبر الأمويين والأغنياء المترفين والفقراء المساكين إذا قرأتها تشعر أنك تقرأ عن حفنة من اللصوص والمتصارعين على السلطة كما نرى في زماننا فتنكر قلبك بعدها وتستغفر الله أنك قرأتها فما بالك بمن تجرأ فنقلها وشهرها .. ثم ما بالك بمن كذبها؟ وليت الدكتور كان غافلاً عن رأي أهل السنة في هذا الكتاب ولكن اسمعه يقول: "إن المعارضين لفكر الشيعة في علم الإمام يستطيعون أن يشككوا في نسبة هذه العبارة لعلي بن أبي طالب؛ لأن نهج البلاغة قد جمعه الشريف الرضي نقيب الطالبيين ورأس الشيعة الإمامية في عصره" "الإسلام وفلسفة الحكم" (381).
            ويقول: "الذين يطالعون نهج البلاغة المنسوب للإمام علي بن أبي طالب - والذي نعتقد بصدق نسبته إليه .. " "تيارات الفكر" (218).

            - قلت: قال الذهبي في الشريف المرتضي: "هو جامع كتاب نهج البلاغة المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي - رضي الله عنه - ولا أسانيد لذلك وبعضها باطل وفيه حق ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها. ولكن أين المنصف؟ وقيل بل جمع أخيه الشريف الرضي" (1).
            وقال أيضًا: "من طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ففيه السب الصريح والحط على السيدين أبي بكر وعمر
            __________
            (1) "السير" (17/ 589).
            (2/284)
            ________________________________________
            - رضي الله عنهما - وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفه بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل" (1).
            - قال شيخ الإسلام: "أهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب قديم ولا لها إسناد معروف فهي بمنزلة من يدعي أنه علوي أو عباسي ولا نعلم أحدًا من سلفه ادعى ذلك قط فيعلم كذبه، فإن النسب يكون معروفًا من أصله حتى يتصل بفرعه. وفي هذه الخطب أشياء قد علم يقينًا من علي ما ينقاضها ولم يوجب الله على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه، وإن ذلك من تكليف ما لا يطاق" (2).

            وقال السيد محب الدين الخطيب تعليقًا على هذا القول: "أكثر التزوير الذي عني به الرضي وأخوه المرتضي في نهج البلاغة يدور على الشيء الذي له أصل فيضيفان إليه ما لم يكن له أصل من أمثال لقد تقمصها فلان بينما الصحيح الثابت بالسند عن علي هو جميل الثناء على فلان فيقع التناقض بين قوله المستقيم الثابت عنه وبين القول الملتوي المعزو إليه بلا سند ولا دليل على صحته فأساءوا إلى علي بإظهاره متناقضًا ومتحاملاً وأنانيًا وحاشا لله أن يكون كذلك" (3).

            12 - الدولة العبيدية:
            خصص الدكتور كما علمنا كتابًا كاملاً في تمجيد الدولة العبيدية الرافضية وعدّ توليها على مصر اكتمالاً لعروبتها .. وفي هذا تفضيل لها على
            __________
            (1) "الميزان" (3/ 124).
            (2) "المنتقى" (430).
            (3) المصدر السابق.

            (2/285)
            ________________________________________
            ما سبقها من حكم إسلامي ومن ضمنه حكما الخلفاء الراشدين بعد عمر - رضي الله عنه -! والذي زاد إعجاب الدكتور بهذه الدولة الرافضية أنها جعلت (مصر) مركزًا لها بعد أن كانت مجرد ولاية تابعة لدولة الخلافة .. فقد اختلطت عنده (الوطنية) بالنزعة (الشيعية) في هذا الكتاب.

            - قال ابن كثير -رحمه الله-:
            "كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرًا، فصاروا كأمس الذاهب {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}. وكان أول ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حدادًا اسمه عبيد، وكان يهوديًّا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بعد الأربعمائة كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم، والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة، وصارت له دولة وصولة، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه، وصار ملكًا مطاعًا، يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض. ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من دخل ديار مصر منهم، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الطاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشرة ملكًا، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة، وكذلك عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر أيضًا، ولكن كانت مدتهم نيفًا وثمانين سنة، وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد، في سنة ست وخمسين وستمائة، كما سيأتي.
            (2/286)
            ________________________________________
            وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أعتى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكمالها، حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشويك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وأنطاكية وجميع ما والى ذلك، إلى بلاد إياس وسيس، واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى غير ذلك، وقتلوا من المسلمين خلقًا وأممًا لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها وصارت دار الإسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق، ولكن الله سلم، وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته" (1).

            - محمد عمارة عقلاني مستنير كما يقول ليس على منهج أهل السلطة والجماعة:
            لقد انتقل الدكتور عمارة من تيار الفكر الماركسي الشمولي إلى تيار اليسار الإسلامي، أو تيار الأفغاني أو التيار الحضاري أو التيار المستنير أو العقلانية الإسلامية المعاصرة .. سَمّه ما شئت من هذه الأسماء فهي تصدق عليه.
            أما إنه عاد إلى الإسلام بمعناه الصحيح وهو منهج أهل السنة
            __________
            (1) "البداية والنهاية" لابن كثير (12/ 286)، وانظر إلى ما كتبه أيضًا في سنة 402 هـ.
            (2/287)
            ________________________________________
            والجماعة .. فلا والله! لم يعُد.
            وهذه الدراسة خير شاهد على ذلك.

            فإن قلت: لعل الدكتور قد تراجع عن التعلق بهذا التيار أيضًا ورجع إلى منهج الحق. فحاله مال الأشعري في تنقلاته الثلاث.
            فأقول: لا! لم يصنع ذلك.
            ْويشهد لهذا أمور قد ذكرت بعضها عند الحديث عن مقالاته في اليمامة .. ومنها:
            1 - أن كتبه التي اعتمدت عليها في هذه الدراسة لا زالت تطبع دون تغيير أو تنبيه على مثل هذا التراجع المزعوم .. فقد طبع (تيارات الفكر) وغيره طبعة جديدة في العام الماضي وما قبله.
            2 - أن الدكتور قد جمع أفكاره المعتادة التي يرددها دائمًا وضمّنها واحدًا من أواخر ما كتب وهو "معالم المنهج الإسلامي" الذي طبعه المعهد العالمي للفكر الإسلامي محتسبًا الأجر والنصح للمسلمين!!.
            3 - أنه يردد هذه الأفكار كثيرًا في مقالاته ومقابلاته كما نقلت ذلك عنه مرارًا .. وتابع مجلة المجتمع أو جريدة المسلمون تنبئك بصدق ادعائي! فهما لا تبخلان علينا بين الحين والآخر تبشران الأمة بمشروع عمارة الحضاري. والذي سينقذنا من مستنقعات التخلف التي يجرنا إليها .. النصوصيون المتزمتون الجامدون .. ! فلعلهما يتبصران الأمر بعد هذه الدراسة.
            4 - أن الدكتور الشاعر عبد الرحمن العشماوي .. قد أيدني في هذا عندما ردّ على الدكتور بعض أفكاره الجريئة .. وذلك عندما قال: "قيل عن الرجل ما قيل من أنه قد تراجع عن بعض آرائه العقلانية التي طرحها في كتبه .. "، ثم قال: "ثم إنني ما كدت أنتهي من حوار (المسلمون) الذي
            (2/288)
            ________________________________________
            أشرت إليه حتى برزت أمامي صورة الرجل بملامحه القديمة" (1).
            - قلت: فالرجل هو الرجل لم يتراجع عن (أي) شيء من أفكاره (المستنيرة) فيشترط لتوبته ما قاله ابن القيم -رحمه الله-: " .. فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الاعتقادات الفاسدة: بمحض اتباع السنة. ولا يكتفى منهم بذلك أيضًا حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة. إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده. ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى: البيان؛ لأن ذنبهم لما كان بالكتمان، كانت توبتهم منه بالبيان. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)[color="rgb(0, 100, 0)"] إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
            }
            وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم؛ لأن ذاك كتم الحق. وهذا كتمه ودعا إلى خلافه. فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس" (2).

            قلت: ويضاف إلى هذا الشرط (التبيين) الشروط المعلومة في التوبة (ترك الفعل -الندم- العزم على عدم العود) ثم قال -رحمه الله-: "القول على الله بلا علم صريح افتراء الكذب عليه (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا؟ ) فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس فلا تتحقق التوبة إلا بالتوبة من البدع. وأنى بالتوبة منها لمن لم يعلم أنها بدعة، أو يظنها سنة، فهو يدعو إليها، ويحض عليها؟ فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي تجب عليه التوبة منها إلا بتضلعه من السنة. وكثرة اطلاعه عليها، ودوام البحث عنها والتفتيش عليها. ولا ترى صاحب بدعة كذلك أبدًا. فإن السنة -بالذات- تمحق البدعة. ولا تقوم لها. وإذا طلعت شمسها في قلب العبد قطعت من قلبه ضباب كل بدعة، وأزالت ظلمة كل ضلالة. إذ لا سلطان للظلمة مع
            __________
            (1) "المسلمون" (377).
            (2) "المدارج" (1/ 363).

            (2/289)
            ________________________________________
            سلطان الشمس. ولا يرى العبد الفرق بين السنة والبدعة، ويعينه على الخروج من ظلمتها إلى نور السنة، إلا المتابعة، والهجرة بقلبه كل وقت إلى الله، بالاستعانة والإخلاص، وصدق اللجوء إلى الله والهجرة إلى رسوله، بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسنته "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"، ومن هاجر إلى غير ذلك حظه ونصيبه في الدنيا والآخرة. والله المستعان" (1).

            - قلت: وليعلم الدكتور -هداه الله- أني لم أبادله الرد في هذا الكتاب إلا دفعًا لفساد بدعته (بل بدعه) التي أراد نشرها بين عامة المسلمين وإيقافًا له عن الترسل فيها ..
            - قال شيخ الإسلام في حديث له: " .. كذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية فهذا إذا تكلم فيه الإنسان، بعلم وعدل وقصد النصيحة فالله تعالى يثيبه على ذلك لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيًا إلى بدعة فهذا يجب بيان أمره للناس فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق".

            - وقال -رحمه الله-: "إذا كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإن دُفع صيالهم وبُيِّن ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله" غافر الله لمحمد عمارة وهداه إلى عقيدة أهل السنة والجماعة.
            ***
            __________
            (1) "المدارج" (1/ 374).
            [/color]

            ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

            تعليق


            • (2/290)
              ________________________________________
              * عفوًا ومعذرة يا إِقبال .. فكُلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إِلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

              - قال عنه السيد أبو الحسن الندوي: "إن إقبال أنبغ عقل أنتجته الثقافة الجديدة، التي ظلت تشتغل وتنتج في العالم الإسلامي من قرن كامل، وأعمق مفكر أوجده الشرق في عصرنا الحاضر" (1).
              - وقال عنه الدكتور أحمد مظهر -رئيس قسم اللغة العربية بجامعة البنجاب بلاهور-: "لم يكن إقبال شاعر مسلمي شبه القارة وحدهم أو شاعر العالم الإسلامي الشرقي وحده، وإنما كان من هؤلاء الآحاد الأفذاذ الذين قلما يجود الزمان بهم، فهو شاعر الإسلام وشاعر الشرق، وشاعر الإنسانية كلها" (2).
              - قال عنه الدكتور عبد الوهاب عزام: "محمد إقبال شاعر نابغة، وفيلسوف مبدع، شاع ذكره وانتشر شعره وفلسفته في الهند، ولا سيما بين المسلمين فيها، ثم اتسع صيته وشاعت آراؤه في العالم، ولا سيما بعد أن قامت دولة باكستان العظيمة، وهي حقيقة تخيلها والناس منه يضحكون، ويقظة حلم بها والبائسون منه يسخرون، ولا يزال أنصاره وتلاميذه يكثرون على مر الأيام إعجابًا بفلسفته، فلسفة الحياة والأمل والعمل، وإكبارًا للمفكر المؤمن، والفيلسوف الذي لا يأسره الزمان، ولا يخضعه تقلب الحدثان، والشاعر الذي ينفخ الحياة في الموات، وينضر في القفر ألوان النبات، ويشعل الجمر الخامد في الرماد الهامد" (3).
              __________
              (1) "روائع إقبال" لأبي الحسن الندوي (ص 68).
              (2) مقدمة كتاب "إقبال العرب على دراسات إقبال" جمع الدكتور أحمد مظهر، نقلاً عن كتاب "محمد إقبال فكره الديني والفلسفي" لمحمد العربي بوعزيزي - دار الفكر المعاصر - لبنان - دار الفكر سورية.
              (3) "فلسفة إقبال وأساسها" للدكتور عبد الوهاب عزام (ص 13) من كتاب "إقبال العرب على دراسات إقبال".

              (2/291)
              ________________________________________
              - وقال عنه الدكتور أحمد مظهر: "ولو كان إقبال شاعرًا نابغًا لكفاه، ولو كان فيلسوفًا مبدعًا لكفاه، ولو كان مصلحًا اجتماعيًّا أو زعيمًا سياسيًّا لكفاه، ولكن الله سبحانه وتعالى قد وهبه شخصية جامعة لهذه الأوصاف النبيلة".
              واعتبره الدكتور نجيب الكيلاني أحد أولئك القلائل الذين بعثوا النور في سماء الشرق من أمثال الأفغاني!!! ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم (1).
              وقال أيضًا: "إن إقبال شاعر الإسلام وفيلسوفه الكبير، وصاحب فكرة إنشاء دولة باكستان، هو أول أديب مسلم في العصر الحالي، استطاع أن يستلهم الإسلام في وضع فلسفته المشهورة -فلسفة الذات أو (خودي) - وكان شعره وعاءً لهذه الفلسفة التي آمن بها ودعا إليها في صدق وحرارة، ولم يحظ شاعر أو فيلسوف مسلم بشهرة تضارع شهرة شاعرنا الكبير في هذا العصر" (2).
              - وكانت شخصية إقبال الإصلاحية مثار اهتمام الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور فأبرز ما قام به من دور فعال في سبيل الدعوة إلى تأسيس الباكستان من ناحية، وحفظ كيان المجتمع الإسلامي من الذوبان والتلاشي من ناحية أخرى (3).
              - وقال" عنه محمد علي جناح أول رئيس لباكستان: "كان شاعرًا منقطع النظير، طبق صيته الآفاق، وستبقى كلماته حية أبدًا. إن مساعدته لأمته وبلده لتضعه في صف أكبر كبراء الهند".
              __________
              (1) "إقبال الشاعر الثائر" لنجيب الكيلاني (ص 6) - مؤسسة الرسالة.
              (2) "الإسلامية والمذاهب الإسلامية" لنجيب الكيلاني (ص 49).
              (3) "محاضرة ألقاها الشيخ ابن عاشور حول محمد إقبال بتاريخ 24/ 4/1961 تحت إشراف سفارة باكستان.

              (2/292)
              ________________________________________
              كتب إلى محمد علي جناح: "إنه ينبغي على مسلمي الهند من أجل أن يتيسّر عليهم حلّ مشكلاتهم إعادة توزيع البلاد، وإقامة دولة إسلامية -أو أكثر- فيها أغلبية ساحقة لهم. أولاً: تعتقد أن الوقت لمثل هذا المطلب قد حان بالفعل؟ ولعلّ هذا هو أقصر رد يمكن أن تردّ به على الاشتراكية الإلحادية لجواهر لال لنهروا" (1).
              وتحقق أمله ويكفيه هذا فخرًا.
              - وقال الدكتور نظير قيصر الباكستاني: "هو بدون شك شاعر الشرق وحكيم المله فيلسوف العالم الإسلامي وهو في الوقت نفسه شاعر الكون بأسره".
              - ولقبّه شعراء الهند (ترجمان حقيقت) أي (ترجمان الحقائق).
              - وأبرز الأستاذ أحمد حسن الزيات دور إقبال في الدفاع عن المحمدية فقال: "فإذا كان حسّان شاعر الرسول فإن إقبالاً شاعر الرسالة، وإذا كان لحسّان من نازعه شرف الدفاع عن - صلى الله عليه وسلم - فليس لإقبال من ينازعه شرف الدفاع عن المحمدية" (2).
              - وقال عنه الدكتور عبد الودود شلبي: "فإذا كان للعرب في عصرهم الحاضر شاعر يلقب بأمير الشعراء هو أحمد شوقي، فقد كان أمير شعراء الإسلام في عصرنا الحاضر من غير منازع هو العلاّمة الدكتور محمد إقبال" (3).
              __________
              (1) "رسائل إقبال إلى جناح" (ص 17 - 18).
              (2) "تحية لذكرى إقبال" للأستاذ الزيات (ص 27)، من مقال له ضمن كتاب "إقبال العرب على دراسات إقبال".
              (3) مقال: "محمد إقبال أمير شعراء الإسلام" للدكتور عبد الودود شلبي بمجلة الأزهر (ص 206) السنة 50، الجزء الأول - مارس 1978 - الذكرى المئوية لميلاد إقبال.

              (2/293)
              ________________________________________
              - وقال عنه الأستاذ فتحي رضوان: "محمد إقبال رمز لأحسن ما في الحياة الإنسانية".
              - وذهب طه حسين إلى أن إقبال فرض نفسه على الدنيا وعلى الزمان، وأن المسلمين احتاجوا إلى نحو عشرة قرون ليوجد بينهم ثان لأبي العلاء.
              - وذهب توفيق الحكيم إلى أن "الشاعر محمد إقبال هو مفخرة من مفاخر الشرق في عصوره الحديثة، فهو الخلاصة للمعرفة الكونية النابعة من الشرق، وللمعرفة العقلية الصادرة عن الغرب .. لذلك كان إقبال هو بحق المفكر المجدد في فهم الإسلام والكاشف الصادق لجوهره العظيم" (1).
              - ويرى الدكتور طه حسين أن إقبال كان ينظر إلى العرب ويشيد بهم ويثني عليهم، ويتخذهم المثل الأعلى للإنسانية الجديرة بالوجود والحياة والبقاء (2).
              - ولقد عرّى إقبال حضارة الغرب ونقدها وهو العليم بها وقال: "يا ساكني ديار الغرب ليست أرض الله حانوتًا، إن الذي توهَّمتموه ذهبًا خالصًا سترونه زائفًا، وإن حضارتكم ستبعج نفسها بخنجرها، إن العزّ الذي يُبنى على غصن غض رقيق لا يثبت" (3).
              - ولقد أشار إقبال إلى أنه اكتوى بنار التعليم الغربي وخاض في دراسته، ولكنه مع ذلك خرج سالمًا وازداد إيمانًا بخلود الإسلام ومبادئه
              __________
              (1) من مقال: "إقبال العظيم" لتوفيق الحكيم ضمن كتاب "محمد إقبال قصائد ودراسات".
              (2) مقال بعنوان "إقبال فرض نفسه على الدنيا والزمان" لطه حسين (ص 3) مجلة الوعي الباكستانية العدد 31 - السنة 6 - مايو 1988 م.
              (3) "فلسفة إقبال" للدكتور حسون (ص 12)، و"إقبال الشاعر الثائر" لنجيب الكيلاني (ص 32 - 33).

              (2/294)
              ________________________________________
              السامية، كما خرج إبراهيم عليه السلام من نار نمرود، فقال: "كسرت ظلم العصر الحاضر، وأبطلت مكره، التقطت الحبة وأفْلتُ من شبكة الصياد، يشهد الله أني كنت في ذلك مقلدًا لإبراهيم، فقد خضت في هذه النار واثقًا بنفسي، وخرجت منها سليمًا محتفظًا بشخصيتي" (1).
              التعديل الأخير تم بواسطة نور الهداية; 6 مار, 2011, 01:47 ص.

              ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

              تعليق


              • * إِقبال حبيب إِلى النفوس ولكن الحق أحب إِلينا منه:

                - قوله في صفات الله عز وجل:
                الحق أن إقبالاً يؤيد مسلك السلف وما أرشد إليه الكتاب والسنة في هذا الباب، ولكنه تأثر كثيرًا بتفسير الصوفية وتفسير بعض فلاسفة الغرب في ذلك. مثل كانط وهيجل وهوايتهيد وبرجسون. ومن الصحيح كذلك أنه لم يستند كثيرًا إلى أقوال المفسرين والمحدثين والمتكلمين المسلمين في شرح نصوص القرآن والسنة، في محاضراته ومقالاته ودواوينه. ولذلك نجد أن كلامه غامض في غالب الأحيان، ومثقل باستخدام مصطلحات التصوف وفلسفة الغرب في شرح أفكاره.
                ومن الصفات التي وصف بها إقبال الله سبحانه وتعالى، أنه الذات الحقيقية والنهائية والأولى وواجبة الوجود، وهو الذات العليا والنفس العظمى والفرد الكامل الأعظم. وهو الإرادة الخالقة والقوة المحركة والنور الأصلي والأزلي الأحد، الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد (2).
                ويقول: " .. صفة العلم وصفة الخلق أمر واحد" (3).
                __________
                (
                1) "روائع إقبال" (ص 78).
                (2) "تجديد الفكر الديني في الإسلام" لمحمد إقبال (ص 75)، و"محمد إقبال موقفه من الحضارة الغربية" لخليل الرحمن عبد الرحمن (ص 172 - 173) - دار حراء.
                (3) "تجديد الفكر الديني" (ص 91 - 94).

                (2/295)
                ________________________________________
                وانظر إلى كلامه عن العلم والقدرة. والواقع أن إقبالاً قد حار في كلامه هذا حيرة الفلاسفة والمتصوفة.

                * وحدة الوجود ووحدة الشهود:
                لقد تضاربت آراء دارسي فكر إقبال حول موقفه من فكرة وحدة الوجود. فمنهم من رأى أنه ظل معتقدًا بها طوال حياته، ومن بين من قال بذلك تلميذ إقبال وشارح دواوينه الأستاذ يوسف سليم جشتي، ومنهم من رأى أنه كان يعتقد بها في أول عهده، ثم رفضها وندد بها حين رتب منظومة "الأسرار والرموز" بعد رجوعه من أوربا، وذلك رأي معظم الكتاب عن فكر إقبال ومن بين من رأى ذلك الدكتور سيد عبد الله وخليفة عبد الحكيم والدكتور ظ. الأنصاري (1). ومنهم من رأى أن إقبالاً لم يكن يعتقد بها في أول عهده ولكن اعتنقها خلال الفترة الأخيرة من حياته. والقائل بذلك الأستاذ ميكش أكبر آبادي في كتابه "نقد إقبال" (2)، ويرى الأستاذ جكن نات آزاد الهندوكي أن إقبالاً ظل يعتقد بتلك الفكرة طيلة حياته، ما عدا فترة ما بين رجوعه من أوروبا في عام 1908 م، وبين نشر ديوانه" "رسالة المشرق" (3).
                ويرى السيد نذير نيازي صاحب إقبال لمدة طويلة ومترجم محاضراته "تجديد التفكير الديني" إلى الأردية تحت إشراف إقبال نفسه، أنه لم يعتنق تلك الفكرة ليوم واحد لا في أول عهده ولا في آخره، غير أنه وجد بيئة صوفية
                __________
                (1) انظر مجلة "نقوش" لاهور، العدد 121، (ص 122 - 125)، و"إقبال كي تلاش" للدكتور ظ. أنصاري، (ص 9، 26 و120)، و"فكر إقبال" للدكتور خليفة عبد الحكيم، الناشر ايجوكيشنل بك هاؤس عليكره، ط 1977، (ص 274 - 275).
                (2) انظر نقد إقبال للأستاذ ميكش أكبر آبادي، الناشر آثينة أدب، لاهور ط 1970 م، (ص 306، 307).
                (3) انظر": "إقبال أوراس كاعهد" للأستاذ جكن نات آزاد، الناشر مكتبة الأدب لاهور، ط 1977 م، (ص 83 - 84).

                (2/296)
                ________________________________________
                في أسرة نشأ بها، فسمع شيئًا عنها وتأثر بها تأثرًا ما، كما أنه وجد معظم الشعر الأردي والفارسي مصطبغًا بتلك الفكرة، فنسمع صداها في بعض أبيات نظمها إقبال خلال الفترة الأولى لشعره، بينما نجد أن أستاذه المولوي السيد مير حسن كان معروفًا باتجاهاته الوها بية وكان يتهم أحيانًا بالطبيعية.
                ففكرة وحدة الوجود لم تصل إلى مستوى العقيدة في فكر إقبال وشعره في يوم من الأيام (1).
                ورأي السيد نذير نيازي هذا يبدو لنا أقرب إلى الصواب، فإن إقبالاً كان متأثرًا بحركة السيد المجدد السرهندي لتطهير التصوف من الأفكار غير الإسلامية أو العجمية، على ما يسميه إقبال. والسيد السرهندي قد ردّ ردًّا عنيفًا على أفكار محي الدين بن عربي الأندلسي، رأس القائلين بوحدة الوجود. فكان من قوله ضمن بعض رسائله: إن ابن عربي قد زلقت رجله في أثناء الطريق، وانخدع بما يعترى السالك من الأحوال في سفره الروحي ويتراءى له من وحدة هذا الوجود فلو تقدم خطوة لشاهد أن لا وحدة بين وجود العبد والمعبود، وأن الله هو الوراء ثم وراء الوراء ثم وراء الوراء. وقد سمى السيد المجدد هذه الوحدة التي تتراءى أثناء سلوكه بمرحلة وحدة الشهود لا بوحدة الوجود في الحقيقة. وكذلك جاء ضمن بعض رسائله: "إننا نحتاج إلى النصوص لا إلى الفصوص" (2).
                وانظر قوله ضمن مقدمة "الأسرار والرموز" (3).
                __________
                (1) انظر "دانأي راز" للسيد نذير نيازي (ص 428 - 451).
                (2) انظر "تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند" لمسعود عالم الندوي" (ص 112 - 113) ومجلة "نقوش" العدد 121، (ص 120 - 121)، ويقصد السيد المجدد بالنصوص نصوص الكتاب والسنة وبالفصوص كتاب "فصوص الحكم" لابن عربي.
                (3) مقدمة "الأسرار والرموز" لإقبال تعريب الدكتور عزام ضمن كتابه "محمد إقبال" (ص 86 - 88).

                (2/297)
                ________________________________________
                * رأي إِقبال في النبوّة:

                محبة إقبال للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعنى حبه لديه اتباع سنته واقتفاء أثره - صلى الله عليه وسلم -:
                - يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي عن حب إقبال للرسول - صلى الله عليه وسلم -:
                "لقد عاش الدكتور محمد إقبال شاعر الإسلام وفيلسوف العصر -مدة حياته- في حب النبي - صلى الله عليه وسلم - والأشواق إلى مدينته، وتغنى بهما في شعره الخالد. وقد طفح الكأس في آخر حياته، فكان كلما ذُكِرت المدينة فاضت عينه وانهمرت الدموع. ولم يقدر له الحج وزيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بجسمه الضعيف، الذي كان من زمان يعاني الأمراض والأسقام. ولكنه رحل إلى الحجاز بخياله القوي، وشعره الخصب العذب، وقلبه الولوع الحنون، وحلق في أجواء الحجاز وتحدّث إلى الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - بما شاء قلبه وحبه وإخلاصه ووفاؤه (1)،
                وتحدّث إليه عن نفسه، وعن عصره، وعن أمته وعن مجتمعه. وقد فاضت في هذا الحديث قريحة الشاعر، وانفجرت المعاني والحقائق التي كان الشاعر يغالبها ويمسك بزمامها وينتظر فرصة إطلاقها، وقد رأى أن فرصتها قد حانت .. فكان شعره في النبي الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، من أبلغ أشعاره وأقواها، وكان حشاشة نفسه وعصارة عمله وتجاربه، وكان تصويرًا لعصره وتقريرًا عن أمته وتعبيرًا عن عواطفه" (2).
                - وفي معنى حاجة المسلمين إلى التمسك بتعاليم السنة، يقول إقبال في "رموز اللاذاتية" تحت عنوان "الرسالة":
                "بالرسالات بدا تكويننا ... شرعنا منها ومنها ديننا
                __________
                (1) يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: ليس هذا الحديث من الاستعانة في شيء. إنما هو أسلوب من أساليب الشعر والحب، استعمله شعراء إيران والهند قديمًا وحديثًا.
                (2) "روائع إقبال" للأستاذ أبي الحسن علي الندوي (ص 170 - 171).

                (2/298)
                ________________________________________

                ذاك من "يهدي إِليه من يريد" ... حلقة منها حوالينا يشيد
                خلقة ذات محيط يعجز ... ساحة البطحاء فيها مركز
                نحن مما جمعتنا أمة ... أرسلت للناس فيها الرحمة
                موجنا في بحرها متصل ... موجة من موجة لا تفصل
                أمة في حرز سور الحرم ... في حفاظ مثل "أسد الأجم"
                نظرة الصديق رب الفهم ... وإِلى القلب من الربّ أحب
                فالنبي الروح فينا والعصب ... شرعه حبل وريد الأمة"
                - ويقول، تحت عنوان "إن حسن سيرة الأمة المسلمة من التأدب بالآداب المحمدية":
                "أنت كمّ في فروع المصصفى ... فتفتح في ربيع المصطفى
                نظرة من روضه فالتمس ... وسنا من خلقه فاقتبس
                مرشد الروم الذي قطرته ... قد حوت بحرا، سمت قولته:
                "لا تجدّ الحبل من خير البشر ... لا تقل عندي فنون وبصر"
                فطرة المسلم طرا رأفة ... قوله والفعل كل رحمة
                __________
                (1) ترجمة "الأسرار والرموز" للدكتور عزام (ص 96)، وراجع للنص الفارسي، م/26، و"يهدي إليه من يريد" إشارة الى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج: 16]، و"أسد الأجم" إشارة إلى بيت البردة:
                "أحل أمته في حرز ملته ... كالليث حل مع الأشبال في أجم"
                وأما ما قاله إقبال من أن النبي قد يكون أحب إلى قلوبنا من الرب تعالى فلعل قصده به أن النبي أقرب إلى مداركنا ومشاعرنا لكونه من جنسنا فالقلب يعشق إليه بسهولة وبأدنى معرفة به بينما الله سبحانه تعالى أحب إلى المؤمنين من كل شيء فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .. } [البقرة: 165]، فيمكن أن يكون الرسول أحب عاطفيًّا لا عقليًّا وواقعيًّا.

                (2/299)
                ________________________________________
                لعظيم الخلق من شق القمر ... رحمة عمّت ونور للبشر
                لست من معشرنا فاعتزل ... إِن تكن منه بعيد المنزل" (1)

                __________

                (1) ترجمة "الأسرار والرموز" للدكتور عزام" (ص 119 - 120)، وراجع للنص الفارسي (م/27)، ونسب شق القمر إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجازًا والمعنى الحقيقي أن الله تعالى شقّ القمر معجزة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -.


                ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

                تعليق


                • * جُهوده في الرّد على القاديانية في مسألة ختم النبوة:

                  قام إقبال ببذل جهود جبارة في الرد على القاديانية القائلة بأن سلسلة النبوة لم تنته برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ففي مايو 1935 م نشر إقبال مقالة في الرد على القاديانية، تحت عنوان "القاديانية والمسلمون" فقام الزعيم الهندوكي البانديت جواهر لال نهرو، يرد عليه مدافعًا عن القاديانية فكتب إقبال عدة مقالات بالإنجليزية في جواب نهرو، دافع فيها عن مسألة ختم النبوة برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ببالغ حماسة وحكمة (2).
                  - يقول الأستاذ مسعود عالم الندوي عن جهاد إقبال في ردّ القاديانية:
                  "ولصاحبنا (إقبال) مأثرة جليلة أخرى في باب الدعوة الدينية والدفاع عن حرمة الدين المبين، لا تنسى أبد الدهر. ولو لم يكن من أعماله الجليلة الخالدة إلا هذه المأثرة العظيمة لكفته فخرًا في الدنيا وذخرًا في الآخرة، ألا وهو موقفه الجليل المشهود بإزاء النحلة القاديانية الضالة المضلة، في السنين الأخيرة من حياته .. إن الزعيم جواهر لال نهرو كتب مقالتين .. ينكر فيهما على الجمعيات المسلمة الدينية حركتها ضد القاديانية ويؤيد جانب القاديانية.
                  وفي مثل هذه الأحوال انبرى المسلم المؤمن محمد إقبال للدفاع عن حظيرة الإسلام وردّ كيد القاديانية في نحورها. وتطهير الدين المبين من أرجاسها
                  __________
                  (1) ترجمة "الأسرار والرموز" للدكتور عزام" (ص 119 - 120)، وراجع للنص الفارسي (م/27)، ونسب شق القمر إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجازًا والمعنى الحقيقي أن الله تعالى شقّ القمر معجزة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
                  (2) "سيرة إقبال" للفاروقي (ص 426 - 428).
                  (2/300)
                  وأدناسها. فنشر تصريحات عديدة في الصحف، بين فيها موقف الإسلام بإزاء هذه النحلة المارقة التي تؤمن بنبوة الغلام القادياني الكذاب، وكشف عن عورات القاديانيين، وأماط اللثام عن خدماتهم للاستعمار البريطاني وتمسكهم بأذياله" (1).

                  * مناقشة رأي إِقبال في النبوة:
                  "إذا نظرنا في تفسير إقبال للنبوة نظرة دقيقة، وجدنا أنه أخطأ في عديد من الأمور. منها:
                  أولاً: أن النبوة ليست ضربًا من الوعي الصوفي، كما توهم إقبال، فإنه يقول في تعريف النبوّة: "إنها ضرب من الوعي الصوفي ينزع ما حصّله النبي في مقام الشهود إلى مجاوزة حدوده وتلمس كل سانحة لتوجيه قوى الحياة الجمعية توجيهًا جديدًا، وتشكيلها في صورة مستحدثة" (2).
                  - وهذا القول منه ليس بصواب فإن الله تعالى يختار النبي من عباده ويصطفيه من بينهم حسب إرادته وحكمته فإنه تعالى أعلم حيث يجعل رسالته. فالنبوة موهبة ومكرمة وتكليف من الله تعالى يهبها لمن يشاء من عباده ويحمّلها من يختاره منهم، على خلاف أمر الوعي الصوفي فإنه يحصل عليه بممارسة الرياضة الصوفية كل من يجتهد في الحصول عليه. فالنبوة مرتبة لا يمكن أن يتشرف بها أحد من اختياره وكسبه ورياضته، والوعي الصوفي يمكن الحصول عليه بالكسب والاجتهاد، وإذا كانت الولاية بالمصطلح الصوفي، ليس من الضروري الحصول عليها بالكسب والاجتهاد، مع أنها
                  __________
                  (1) "تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند" لمسعود عالم الندوي (ص 219 - 220) بتصرف في العبارة.
                  (2) "تجديد الفكر الديني" (ص 143)
                  .
                  (2/301)
                  أدنى رتبة من النبوة، فليست كل صوفي وليًا، كما أنه ليس كل ولي صوفيًّا، فكيف بالنبوة؟ ويوهم تفسير إقبال للنبوة المبيّن في "تجديد الفكر الديني" أنه يمكن التشرف بها بالكسب والاجتهاد، وذلك خطأ واضح، فإن الأنبياء قد وهبوا النبوة مفاجأة، مثل قصة سيدنا موسى عليه السلام، فإنه لم يكن على معرفة أن الله تعالى قد اختاره للنبوة حتى لحظة أن رأى نارًا في طور سيناء، وكلمه الله تعالى وأخبره باختياره نبيًّا، وكذلك سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على معرفة من أنه سوف يُختار للنبوة حتى إذا نزل عليه الروح الأمين في جبل حراء، وألقى إليه رسالة الله تعالى، رجع إلى البيت وهو خائف، يقول: زمّلوني ودثّروني. فلو كان الوحي نوعًا من وعي يتحصل بقطع المدارج الصوفية وسلوك المناهج الروحية المعتادة لدى الصوفية، لما حدثت تلك المفاجأة عند نزول الوحي في أول الأمر، على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسيدنا موسى عليه السلام. ففي هذا التفسير انخدع إقبال بآراء الصوفية الذين يفسرون النبوة والولاية بتفاسير ليس لها برهان منزل من الله تعالى، حتى قد اغتر بعضهم إلى حد أنه قال: إننا، معشر الصوفية أفضل من الأنبياء؛ لأن اتصالنا بالله تعالى مباشر واتصال الأنبياء به تعالى يحتاج إلى واسطة وهي الملائكة.
                  ثانيًا: أن إقبالاً لم يشرح في تفسيره كيفية نزول الوحي بواسطة الملائكة والروح الأمين، فإن الروح الأمين هو الذي يقوم بنقل الوحي إلى الأنبياء، ولم يشر إقبال في تفسيره إلى هذه المسألة مطلقًا.
                  ثالثًا: يوهم تفسير إقبال كأن النبوة عمل خاص للنبي وله فيه رغباته وتصرفاته وليس ذلك حقًّا، فإن النبيّ مأمور بأوامر الله تعالى، فإنه تعالى يربيه للتجرد إليه والعمل من أجل مرضاته حتى لم تعد للنبي رغبة ذاتية، ولو للهداية، فقد قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
                  (2/302)
                  * وقال تعالى: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}.
                  * وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].
                  والفارق الذي أوضحه إقبال بين عمل الصوفي وعمل النبي من أن عمل الصوفي يبقى فرديًّا، وعمل الرسول ينتقل إلى المجتمع، صحيح ولكن عمل الرسول ليس من عند نفسه، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عاد خائفًا حين نزل عليه الوحي في بدء الأمر، وقال: دثروني وزملوني ولم يقل: إني مارست هذه التجربة، فتعالوا، أيها الناس، وأوجدوها في حياتكم.
                  رابعًا: لا شك في أن للعقل دورًا بالغًا في بناء المجتمع وتوجيهه وتطوير العلوم والتجارب ولكن له مجال محدد وليس في استطاعته إقامة ميزان ثابت يميز به الحق من الباطل. فدور العقل في الإسلام مقيد بالوحي والأمة المسلمة مسئولة أن تحمل رسالة الإسلام في ضوء ذلك الوحي المنزل، وليس العقل في المنهج الإسلامي حرًّا طليقًا في تصرفاته يحرم ما يشاء ويحلل ما يشاء كما يوهم تفسير إقبال هذا.
                  - والواقع أن إقبالاً متأثر ومنخدع في رأيه أن العقل حلّ محلّ الوحي في العصر الحاضر، بأفكار الغربيين. والواقع كذلك أن هذا الرأي لا يمثل وجهة نظره الشاملة في هذا الشأن، فإنه قد أعطى القرآن الكريم حقه والسنة النبوية حقها في أكثر من موضع من دواوينه ومقالاته، فقال مثلا، ضمن منظومة "رموز اللاذاتية":
                  "إن دين محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو دين الحياة وشرعه شرح لنظام الحياة. وإذا فقدت الأمة أسوة الرسول تفقد وجودها وبقاءها".
                  وقال كذلك، تحت عنوان "إن الأمة لا تنتظم بدون شريعة وشريعة
                  (2/303)
                  الأمة المحمدية القرآن الكريم:
                  "لكتاب الله حق، فاقرأن ... كل ما تبغيه، منه فاطلبن"
                  وقال:
                  "وحدة الشرع حياة الأمة ... فمن القرآن روح الملة
                  نحن طين وهو قلب لا جرم ... هو "حبل الله" من شاء اعتصم
                  فانتظم في سلكه كالدرر ... أو غبارا في الرياح انتثر" (1)


                  - يرى إقبال أن النبوة ضرب من الوعي الصوفي يستعمل فيه النبي ما حصّله في مقام الشهود في سبيل توجيه قوى الحياة توجيهًا جديدًا. ورغبة النبي في أن يرى رياضته الدينية تتحول إلى قوى عالمية حية رغبة تعلو على كل شيء. واختبارها ليس إلا اختبار هذه القوى الحية التي أوجدها النبي في إطار إنشائي بالميزان التاريخي فعندما يتغلغل النبي فيما يواجهه من أمور مستعصية وينفذ إلى أعماقها تتجلى له حينئذ نفسه، فيعرفها ويزيح القناع عنها فتراها أعين التاريخ. ولهذا كان من بين ما يحكم به على قيمة دعوة النبي ورسالته، البحث في نوع البطولة الإنسانية التي ابتدعها، والفحص عن العالم الثقافي الذي انبعث عن روح دعوته.
                  ثم يوضح إقبال طبيعة الوحي باعتباره الصلة القائمة بين الله والنبي، ويرى أنه ظاهرة عامة من ظواهر الوجود. فالظواهر البيولوجية والفسيولوجية في عالمي الحيوان والنبات إنما تستمدّ اتجاهها من الإلهام الذي يوجه الحياة كلها
                  __________
                  (1) ترجمة "الأسرار والرموز" للدكتور عبد الوهاب عزام، و"محمد إقبال مفكرًا إسلاميًّا"
                  لمحمد الكتاني (ص 71 - 73). و"تجديد الفكر الديني في الإسلام" لإقبال (ص 142 - 144)، و"محمد إقبال وموقفه من الحضارة الغربية" لخليل الرحمن عبد الرحمن (ص 182 - 189).
                  (2/304)
                  في اتجاهها الخلاق. والقرآن نفسه يستعمل الوحي لعوالم مختلفة، كقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68].
                  وهكذا يعتبر إقبال النبوة ظاهرة طبيعية أملتها المراحل التطورية للبشرية. ففي طفولة البشرية كانت القوى الروحانية تتطور أحيانًا، إلى ذروة الوحي النبوي لتوجيه الناس وتحقيق مصالحهم. فالنبوة التي هي ثمرة القوى الروحانية الفطرية، كانت وسيلة للاقتصاد في التفكير وتمييز النافع من الضار، غير أنه بنمو ملكة العقل والتفكير لدى الإنسان أخذت الحياة نفسها تعمل لكبت تلك القوى التي لا تعتمد في معارفها على التفكير الاستدلالي.
                  وهكذا عرفت الإنسانية في تاريخها طورين عظيمين:
                  1 - طورًا اعتمدت فيه على قواها الروحية، ممثلة في الوحي.
                  2 - طورًا نسخ ذلك الطور السابق وتميز باعتمادها على القوى العقلية المنظمة. ورسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - صلة وصل بين الطورين أو العالمين، عالم الفطرة وعالم العقل. فهو من عالم الفطرة باعتبار مصدر رسالته وهو الوحي، وهو من العالم الحديث، عالم العقل، باعتبار مضمون رسالته يعني ما احتوته رسالة الإسلام والنص القرآني من دعوة صريحة إلى استعمال العقل، وحث على النظر في الكون، بحيث اعتبرت هذه الدعوة فريضة دينية قائمة. وهكذا ينص إقبال على أن النبوة في الإسلام تبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على زمام يقاد منه، وأن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو، وأن مخاطبة القرآن للعقل وحثه على التجربة على الدوام، وإصراره على أن النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة
                  (2/305)
                  الإنسانية، كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة (1).
                  __________
                  (1) انظر "محمد إقبال، مفكرًا إسلاميًّا" لمحمد الكتاني (ص 171 - 173)، و"تجديد الفكر الديني في الإسلام" (ص 142 - 144).


                  ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

                  تعليق


                  • * قضية الجبر والقدر في فكر إقبال:
                    في مسألة كون الإنسان مختارًا أو مجبرًا في إرادته وأعماله، يذهب إقبال إلى أن الله تعالى قد منح الإنسان حرية واسعة لإبراز إمكانياته واختيار أعماله ومراداته. وعمل القضاء والقدر ليس من خارج الأشياء أو النفوس، بل من داخل إمكانياتها واستعداداتها، ويؤثر القدر تأثيره داخل حدود الزمان والمكان. يقول إقبال في "تجديد التفكير الديني":
                    "الزمان باعتباره كلاً مركبًا، هو الذي يسميه القرآن، "التقدير" وهي كلمة أسيء فهم معناها كثيرًا في كل من العالم الإسلامي وفي خارجه.
                    والتقدير هو الزمان عندما ننظر إليه على أنه سابق على وقوع إمكانياته: هو الزمان الخالص من شباك تتابع العلة والمعلول .. والزمان بوصفه تقديرًا هو ماهية الأشياء ذاتها، كما جاء في القرآن {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، فتقدير شيء إذن ليس قضاءً غاشمًا يؤثر في الأشياء من خارج، ولكنه القوة الكامنة التي تحقق وجود الشيء، وممكناته التي تقبل التحقق، والتي تكمن في أعماق طبيعته وتحقق وجودها في الخارج بالتالي، دون أي إحساس بإكراه من وسيط خارجي" (2).
                    ويرى إقبال كذلك أن قوة الاستبصار والسيطرة المدبرة الملحوظتين في نشاط النفس تكشفان عن حقيقة الحرية التي منحها الله للإنسان، بعد أن هيأه لتحمل مسئوليته من تلقاء نفسه في اختيار تشكيل مصيره وتحديد سلوكه
                    __________

                    (2) "تجديد الفكر الديني في الإسلام" (ص 60 - 61).
                    (2/306)
                    مستدلاً بمثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
                    وقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].
                    وإذا كان من غير الممكن إنكار مبدأ القضاء والقدر السابق لحرية الإنسان، كما يقرره القرآن، فإن إقبالاً يرى أن معنى هذا القدر أو التقدير يعطي للنفس الإنسانية قوة عظيمة على مواجهة الضرورات التي لا مفر منها.


                    والقرآن نفسه -في رأي إقبال- يقرّ بحقيقة من حقائق النفس الإنسانية، وهي الارتفاع والانخفاض في قدرة الإنسان على اختيار أفعاله.
                    وحاول إقبال أن يفسر ذلك على ضوء نظرية اشبنجلر
                    Spengler-1880 - 1936 القائلة بأن الإنسان يمارس حياته بطريقتين: طريقة عقلية تقوم على فهم الكون باعتباره نظامًا ثابتًا من علة ومعلول وطريقة حيوية تقوم على الاستجابة المطلقة لضرورات الواقع الذي يعكس الزمان المتجدّد بما ينطوي عليه من خلق وإبداع. وهذه الطريقة الأخيرة هي التي يواجه بها المسلم الحياة، مفعمًا بالإيمان بضرورة ما يمليه التجدد الزماني الخلاَّق، وتبلغ نزعة الإيمان لديه بهذه الضرورة درجة من الخصب والعمق بحيث تفنى إرادته في إرادة الله المطلقة (القضاء والقدر) فتكتسب من ذلك حيوية وصلابة.


                    أما النزعة الجبرية التي سادت العالم الإسلامي، فيرى إقبال أن مرجعها إلى ما عرفه تاريخ المسلمين من أنظمة الحكم الجائر، وإلى تأثير الفلسفة التي طبعت النظام الكوني بالسببية المفضية إلى اعتبار العلة الأولى في إرادة الله وعنها يصدر كل شيء. فالمادية العملية التي ظهرت عند أمراء دمشق من بني أمية النهازين للفرص، احتاجت إلى سند يستندون إليه في سوء صنيعهم بكربلاء فقالت بقدر الله -يُروى أن معبد الجهني قال للحسن البصري: إن بني أمية يسفكون دماء المسلمين ويقولون إنما تجري أعمالهم على قدر الله
                    (2/307)
                    تعالى. فأجابه الحسن أنهم أعداء الله، وأنهم لمفترون. وهكذا نشأ -على الرغم من معارضة علماء الدين في الإسلام معارضة صريحة- القول بالقدر (1).

                    * مناقشة رأيه هذا في القدر:
                    يبدو أن إقبالاً قد حاول في تفسيره للقضاء والقدر أن يوفق بين طرفي الجبر والاختيار. فبكونه مسلمًا مؤمنًا بالله تعالى وبقدره، لم يستطع أن ينكر قدر الله وقضاءه إطلاقًا، ولكنه حين رأى أن القول بقدر الله والاتكاء عليه، قد دفع المسلمين خلال القرون الأخيرة، إلى ترك العمل والكفاح في حياتهم، وإلى الفشل في مقاومة التحديات التي واجهت العالم الإسلامي منذ قرون عديدة، ورأى كيف أن المستعمرين المستبدين استغلوا هذه النزعة وكيف انتهزوا هذه الفرصة لنهب الشعوب المتمسكة بهذا المبدأ، حاول أن يفسر عقيدة القضاء والقدر تفسيرًا يستطيع أن يوفق به بين الاعتقاد بقضاء الله تعالى، وبين كون الإنسان حرًا مختارًا في فكره وعمله، فرأى أن عملية تقدير الله تعالى لا تقوم بالأشياء والنفوس من خارجها، بل تأتي من داخل إمكانياتها، ولكنه في تفسيره ذلك، قد يندفع أحيانًا إلى القول: بكون واجب الوجود تعالى موجبًا في إرادته وأعماله، كما يزعم الفلاسفة، وأحيانًا إلى القول: بعدم وجود قضاء سابق من عند الله تعالى، قال:
                    "لا شك في أن ظهور ذوات لها القدرة على الفعل التلقائي، ومن ثم يكون فعلها غير متنبأ به، يتضمن تحديدًا لحرية الذات المحيطة بكل شيء.
                    ولكن هذا التحديد لم يفرض على الذات الأولى من خارج، بل نشأ
                    __________
                    (1) "تجديد الفكر الديني في الإسلام" (ص 125 - 127)، "محمد إقبال، مفكرًا اسلاميًّا" لمحمد الكتاني (ص 83 - 84).
                    (2/308)
                    عن حريتها الخالقة التي شاءت أن تصطفي بعض الذوات المتناهية لتقاسمه في الحياة والقوة والاختيار" (1).
                    - والواقع أن إقبالاً ينزع إلى القول بقدر الإنسان وكونه حرًا مختارًا في سلوكه وتصرفه، كما ذهب إليه المعتزلة، فهو معتزلي النزعة في هذا الأمر.
                    وقد أخطأ في رأيه أن القول بقدر الله تعالى بدأ في الإسلام أيام بني أمية، فإن ذلك إنكار لبعض نصوص الكتاب والسنة الصريحة. ولعل الصحيح أن استغلال هذا المبدأ بدأ في تلك الأيام. وكذلك أخطأ إقبال في فهم أن بعض الذوات المتناهية مشاركة للذات اللامتناهية، في الخلق والاختيار، وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]

                    فالخالقون في رأيه أكثر من واحد، والله تعالى أحسنهم.
                    ويرجع هذا الخطأ إلى عدم معرفته أسلوب اللغة العربية جيدًا وعدم إمعان الدراسة في ضوء الآيات الأخرى مثل قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] فالآية صريحة في حصر الخلق والأمر على الله تعالى.
                    * وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3].
                    * وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40]. وأمثالها من الآيات.
                    ولم ينكر إقبال مبدأ القضاء والقدر على الإطلاق فإنه قد أوضح في عديد من المواضع أن الذات في نفسها بين اختيار وجبر، ولكنها إذا قاربت الذات المطلقة، نالت الحرية الكاملة. والحياة جهاد لتحصين الاختيار ومقصدًا لذات أن تبلغ الاختيار بجهادها، فإذا قاربت الذات المطلقة نالت
                    __________
                    (1) "تجديد الفكر الديني في الإسلام" (ص 94).
                    (2/309)
                    الحرية الكاملة (1).
                    ويرى إقبال كذلك أن العبد ينال الحرية والاختيار، متقربًا إلى الله تعالى بأداء الصلاة وامتثال أوامره تعالى. وقد أريد بتعيين مواقيت للصلاة في كل يوم تخليص النفس من آثار الآلية الموجودة في النوم والعمل. فالصلاة في الإسلام خلاص للنفس ينقذها من الآلية إلى الحرية (2).
                    وأوضح إقبال وجهة نظره تجاه مسألة القضاء والقدر والاختيار والجبر ضمن شعره في عدة مواضع. منها ما قاله على لسان الحكيم المريخي ضمن ديوان جاويد نامه، حيث يتساءل: "زنده رود" (إقبال) الحكيم المريخي عن أن السائل والمحروم بقضاء الله وقدره، والحاكم والمحكوم بقضاء الله وقدره.
                    وليس من خالق للقدر سوى الله تعالى، فلا ينفع تدبير للخلاص من القدر ولا يغني منه حذر. فيردّ الحكيم المريخي عليه بقوله:
                    "إنك مخطئ تمامًا في فهم القدر. إن عليك لا أن ترضى فحسب بقدر الله، بل تطلب المزيد منه. فادع الله أن يحكم بقدر آخر إذا رمى قلبك بفعل قدر واحد، فإنك إذا طلبت. قدرًا جديدًا، كان ذلك أمرًا مشروعًا تمامًا، إذ لا نهاية لأقدار الله تعالى. حقًّا لقد فات أهل الأرض الشيء الكثير؛ لأنهم لم يعرفوا المعنى الدقيق للقدر، فأضاعوا بذلك قيمتهم الذاتية (نقود الذات) التي يمكنهم بها أن يتعاملوا مع الكون من ناحية ومع الخالق من ناحية أخرى.
                    فالقدر لا يعني أن يصبع الإنسان مجبرًا جبرًا خالصًا شأنه في ذلك شأن الجماد والنبات، فإن هذه السلبية طبيعة الفطرة الإنسانية.
                    أأقول لك سر القدر؟ إن هذا السر الدقيق تنطوي عليه جملة واحدة: إذا غيرت نفسك سيتغير هو الآخر، فلقد قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
                    __________
                    (1) انظر: "محمد إقبال" لمحمد الكناني (ص 85).
                    (2) "تجديد الفكر الديني" (ص 94).
                    (2/310)
                    ثم يضرب الحكيم المريخي بضعة أمثلة لتوضيح هذه القضية الدقيقة، فيقول:
                    كُن ترابًا يهبك القدر الرياح، كن حجرًا يقذف بك الزجاج. إذا كنت قطرة من الندى فالسقوط قدرك، وإذا كنت محيطًا من المحيطات فالثبات قدرك".


                    - ويستطرد الحكيم قائلاً:
                    "ربما أُلقي في روعك أن القدر حكم على بعض الناس أن يكدحوا طيلة حياتهم، دون أن يصلوا في النهاية إلى تكون الثروات، وأنه حكم بأن يحصل البعض الآخر على كنوز وثروات طائلة دون جهد يذكر .. ، إذا كانت هذه عقيدتك أيها الغافل، فإنها تؤدي بنا إلى القول بأن المحتاج سيظل أبدًا أكثر احتياجًا، ولن يصبح أي محتاج وفقير ثريًا أو غنيًا. فتبًّا لعقيدة تظل بك حتى تنام وما تزال تبقيك في نوم عميق. أهذا دين أم سحر وخرافة؟ أهذا دين أم حبة أفيون؟ ".

                    - ومنها قوله ضمن ديوان رسالة المشرق:
                    "لا يمكن الحكم بأنني مختار أو مجبر، فإنني تراب حيّ لا أزال أتقلب وأتحرك".
                    - ومنها قوله ضمن منظومة "حديقة الأسرار الجديدة":
                    "لقد كان من قول قائد معركة بدر (يعني الرسول - صلى الله عليه وسلم -) الحق أن العبد حر من جهة ومجبر من جهة. فالإيمان بين الجبر والقدر".
                    وقد عدّ أبو عمران الشيخ إقبالاً ثالث ثلاثة ممن سعوا إلى النهل من الفكر الاعتزالي العقلاني، والدعوة إلى الحرية الإنسانية وما هؤلاء الثلاثة الذين سعوا إلى إحياء روح الفكر الاعتزالي مع مطلع القرن التاسع عشر
                    __________
                    (1) "محمد إقبال وموقفه من الحضارة الغربية" (ص 189 - 194).
                    (2/311)
                    وبداية القرن العشرين سوى جمال الدين الأفغاني، ومحمد إقبال (1)

                    * البعث وخلود النفس لدى إِقبال (2):
                    يرى إقبال عن المصير الإنساني أن فكرة الإسلام الكلية عن الإنسان تؤكد البعث والخلود، إلا أن الحياة في هذه الدنيا هي التي تهيئ للإنسان مجال العمل من أجل تلك الغاية. وما الموت إلا ابتلاء نشاط يعقبه البعث.
                    وكان على إقبال أن يواجه مشكلة "البعث" ما دام قد انتهى إلى اعتبار النفس حقيقة قائمة، أو جوهرًا روحيًا يجاهد جهادًا موصولاً إلى اكتساب الوحدة والتكامل والحرية والخلود. فيقول في شرح تلك الفكرة:
                    "إن النهاية أي انقضاء الأجل ليس بلاء {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].
                    وهذا أمر بالغ الأهمية ينبغي أن يفهم على وجهه الصحيح .. فالإنسان .. أو الذات المتناهية -بشخصيته المفردة التي لا يمكن أن يستعاض عنها بغيرها، سيقت بين يدي الذات غير المتناهية، ليرى عواقب ما أسلف من عمل وليحكم بنفسه على إمكانيات مصيره {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13 - 14]- فأيا كان المصير النهائي للإنسان، فإنه لا يعني فقدان فرديته. والقرآن لا يعد التحرر التام من التناهي أعلى مراتب
                    __________
                    (1) "محمد إقبال فكره الديني والفلسفي" لمحمد العربي بوعزيزي - (ص 412 - 413) - دار الفكر.
                    (2) انظر رسالة الخلود ترجمة "جاويد نامه" للدكتور محمد السعيد جمال الدين (ص 195 - 198).
                    (2/312)
                    السعادة الإنسانية، بل "جزاؤه الأوفى" هو في تدرجه في السيطرة على نفسه، وفي تفرده وقوة نشاطه بوصفه روحًا، حتى أن منظر الفناء الكلي الذي يسبق يوم الحساب مباشرة، لا يمكن أن يؤثر في كمال اطمئنان الروح التي اكتملت نموًا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} [الزمر: 68].
                    ومن يكون أولئك الذين ينطبق عليهم هذا الاستثناء، إلا الذين بلغت أرواحهم منتهى القوة. فالإنسان في نظر القرآن متاح له أن ينتسب إلى معنى الكون وأن يصير خالدًا .. إن كائنًا اقتضى تطوره ملايين السنين ليس من المحتمل إطلاقًا أن يلقى به كما لو كان من سقط المتاع. وليس إلا من حيث هو نفس تتزكى باستمرار، إذ يمكن أن ينتسب إلى معنى الكون: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10].


                    وكيف تكون تزكية النفس وتخليصها من الفساد؟ إنما يكون ذلك بالعمل {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2]، فالحياة تهيئ مجالاً لعمل النفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب.
                    وليست هناك أعمال تورث اللذة، وأعمال تورث الألم، بل هناك أعمال تكتب للنفس البقاء أو تكتب لها الفناء. فالعمل هو الذي يعدّ النفس للفناء أو يكيفها لحياة مستقبلة. ومبدأ العمل الذي يكتب للنفس البقاء هو احترامي للنفس فيّ وفي غيري من الناس. فالخلود لا نناله بصفته حقًّا لنا، وإنما نبلغه بما نبذل من جهد شخصي.
                    والبعث إذن ليس حادثًا يأتينا من خارج. بل هو كمال لحركة الحياة في داخل النفس. وسواء أكان البعث للفرد أم للكون، فإنه لا يعدو أن يكون نوعًا من جرد البضائع أو الإحصاء لا أسلفت النفس من عمل، وما بقيت
                    (2/313)
                    أمامها من إمكانيات.
                    "يجنح إقبال إلى تأويل حدوث البعث تأويلاً لا يخلو م مباينة لما عليه حقيقته في التصور الإسلامي، فهو يقول: "على أنه لا مفر للنفس من أن تكافح كفاحًا موصولاً حتى توفق إلى التماسك وإلى الفوز بالبعث" (1).
                    وعلى ذلك الأساس فالبعث ليس حادثًا يأتينا من الخارج، بل هو كمال لحركة الحياة داخل النفس كما يصرّح إقبال.
                    وتبدو مباينة وجهة نظر إقبال للتصور الإسلامي للبعث بوضوح في قوله: "وسواءً أكان البعث للفرد أم للكون فإنه لا يعدو أن يكون نوعًا من - جرد البضائع أو الإحصاء لما أسلفت النفس من عمل، وما بقي أمامها من إمكانات" (2) ا. هـ (3).

                    * الجنة والنار عند إِقبال حالتان لا مكانان:
                    أما الجنة والنار فهما حالتان، لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني أو لصفة أو حال. فالنار في تعبير القرآن: {نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 6، 7]، هي إدراك أليم لإخفاق الإنسان لوصفه إنسانًا. أما الجنة فهي سعادة الفوز على قوى الانحلال.
                    وليس في الإسلام لعنة أبدية. ولفظ الأبدية، الذي جاء في بعض الآيات وصفًا للنار، يفسره القرآن نفسه، بأنه حقبة من الزمان: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23]، والزمان لا يمكن أن يكون مقطوع النسبة إلى تطور الشخصية انقطاعًا تامًا. فالخلق ينزع إلى الاستدامة، وتكييفه من جديد يقتضي زمانًا.
                    __________
                    (1) "تجديد الفكر الديني" (ص 138)
                    (2) المصدر نفسه.
                    (3) "محمد إقبال فكره الديني والفلسفي" (ص 442).
                    (2/314)
                    وعلى هذا فالنار، كما يصورها القرآن، ليست هاوية من عذاب مقيم يسلطه إله منتقم. بل هي تجربة للتقويم، قد تجعل النفس القاسية المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله. وليست الجنة كذلك إجازة أو عطلة.
                    فالحياة واحدة ومتصلة، والإنسان يسير دائمًا قدمًا، فيتلقى على الدوام نورًا جديدًا من الحق غير المتناهي الذي هو {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
                    ومن يتلقى نور الهداية الإلهية ليس متلقيًا سلبيًّا فحسب؛ لأن كل فعل لنفس حرة، يخلق موقفًا جديدًا، وبذلك يتيح فرصًا جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد" (1).


                    - لقد جانب إقبال الحقيقة الدينية المتعارف عليها في البعث والخلود في بعض الجزئيات، فهو مثلاً قد جعل من البعث فترة "لجرد البضائع"، وجعل الدار الآخرة موصولة بالدار الدنيا في حياة الإنسان، وأنه يمكن للمرء بعد موته أن يواصل عمله لمزيد من استكمال نموه النفسي وكماله الروحي، وهذا ما لا يقرّ به الإسلام الذي يرى الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وهي وحدها دار فرصة للعمل، وبموت الإنسان ينقطع عمله. والآخرة دار قرار وسكون وانقطاع عن العمل وجزاء عما قدّم الإنسان في الحياة الدنيا (2).

                    * يقول الدكتور خليل الرحمن عبد الرحمن فى كتابه "محمد إِقبال موقفه من الحضارة الغربية" (ص 197 - 199):
                    قد أخطأ إقبال في تفسيره لقضية البعث والخلود خطأين أساسيين:
                    أولاً: أنه رأى أن الجنة والنار حالتان لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني أو لصفة أو حال. وذلك رأي يعارض ما جاء به الكتاب والسنة. فإن الجنة والجحيم مكانان محسوسان، وليسا نفسيين
                    __________
                    (1) انظر "تجديد الفكر الديني في الإسلام" (ص 140 - 141)، و"الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي (ص 398 - 400) - مكتبة وهبة بمصر.
                    (2) انظر "محمد إقبال فكره الديني والفلسفي" (ص 445).
                    (2/315)
                    فحسب، على ما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلافًا، وعلى ما يشهد بذلك كثير من الآيات والأحاديث، مثل قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 30، 31].
                    * وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 27 - 30].
                    ثانيًا: إنه فسر الخلود والأبدية بحقبة من الزمن، تمنح النفس بعدها فرصة أخرى لاستئناف نشاطها وكفاحها، وليس في الإسلام، على ما يراه هو، لعنة أبدية، فالنار ليست هاوية من عذاب مقيم بل هي تجربة للتقويم، قد تجعل النفس القاسية تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله .. إلخ. وهذا تفسير يخالف، كذلك، إجماع الأمة، كما يعارض نصوص الكتاب والسنة الصريحة. فإن الآخرة ليست دار عمل وكفاح للنفس وإنما هي دار جزاء على أعمالها في الدنيا، فيما ينص عليه الكتاب والسنة. يقول الدكتور محمد البهي في هذا الخصوص:
                    "يلاحظ على تفكير إقبال أنه في محاولته شرح استمرار العالم، أو شرح خلوده وبقائه يرتفع في هذا الشرح عن المستوى الديني الذي يصوره الإسلام نفسه. وبذلك يبعد في تفسير النصوص التي استعان بها، عن مدلولاتها الطبيعية التي تلائم هذا المستوى .. فإذا جعل البعث فترة "لجرد البضائع"، وربط الدار الآخرة بالدار الدنيا في حياة الإنسان، فإنه يثير تساؤلاً عن (التكليف) من قبل الشرع ومدته، أهو في الدنيا والآخرة معًا؟. وتفسيره الخلود في النار عندئذ في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا}، بأنه حقبة وفترة ما، يعطي بعدها الإنسان فترة أخرى للبقاء، أو للعمل يدعو لبقاء الإنسان خلوده - يشرح أن الإنسان في نظر إقبال مكلف في الدارين معًا .. ولكن الإسلام ينظر إلى الدنيا على أنها دار ابتلاء وامتحان، وينظر إلى الآخرة على أنها دار
                    (2/316)
                    قرار وسكون، أي دار ينقطع فيها الامتحان والاختبار .. " (1).
                    - ويقول سيد قطب -رحمه الله- منبهًا إلى أن دفعة الحماسة لمقاومة انحراف معين، قد تنشئ انحرافًا آخر:
                    " .. أراد (إقبال) أن ينفض عن الفكر الإسلامي وعن الحياة الإسلامية ذلك الضياع والفناء والسلبية، كما أراد أن يثبت للفكر الإسلامي واقعية (التجربة) التي يعتمد عليها المذهب التجريبي ثم المذهب الوضعي!، ولكن النتيجة كانت جموحًا في إبراز الذاتية الإنسانية، اضطر معه إلى تأويل بعض النصوص القرآنية تأويلاً تأباه طبيعتها. كما تأباه طبيعة التصور الإسلامي.
                    لإثبات أن الموت ليس نهاية للتجربة، ولا حتى القيامة فالتجربة والنمو في الذات الإنسانية مستمران أيضًا، عند إقبال - بعد الجنة والنار. مع أن التصور الإسلامي حاسم في أن الدنيا دار ابتلاء وعمل، وأن الآخرة دار حساب وجزاء. وليست هنالك فرصة للنفس البشرية للعمل إلا في هذه الدار. كما أنه لا مجال لعمل جديد في الدار الآخرة بعد الحساب والجزاء" (2).
                    ومما يبدو أن إقبالاً في رأيه هذا متأثر تأثرًا ما، بفكرة التناسخ لدى الهندوس وبنظرية التطور الدائم المستمر لدى نيتشه، مع أنه يؤمن بانفصال الدارين، الدنيا والآخرة إيمانًا لا غموض فيه ولا شك، وذلك واضح من كتاباته وشعره. وقد تراجع إقبال عن رأيه هذا في آخر حياته على ما شهد به الأستاذ المودودي بأنه عاد صحيح العقيدة في أيامه الأخيرة (انظر إقباليات للمودودي ص 33).


                    __________
                    (1) "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي (ص 425).
                    (2) "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" لسيد قطب، الناشر دار الشروق ط 1980، (ص 23).


                    ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

                    تعليق


                    • * مفهوم التجديد عند إِقبال:
                      "إن العمل العظيم الذي أداه الدكتور محمد إقبال في مجال الإصلاح له
                      __________
                      (1) "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي (ص 425).
                      (2) "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" لسيد قطب، الناشر دار الشروق ط 1980، (ص 23).
                      (2/317)
                      قيمة كبرى لا ينساها التاريخ الإسلامي، والعمل المهم الذي أنجزه محمد إقبال هو أنه أعلن حربًا لا هوادة فيها ضد الغرب وحضارته المادية، فقد كان الرجل الوحيد في عصره الذي لا يدانيه أحد في تعمقه في فلسفة الغرب ومعرفته بحضارته وحياته، فلما نهض يفند فلسفته وأفكاره المادية بدأ يذوب سحر الحضارة الغربية الذي كان يبهر القلوب ويستولي على النفوس" (1).
                      بهذه الكلمات وصف الأستاذ أبو الأعلى المودودي جهود محمد إقبال (1877 - 1938) في مجال الإصلاح والتربية وهي شهادة لها وزنها من رجل عاصره وعرفه.



                      ويضيق نطاق هذه الدراسة عن تعداد إصلاحات إقبال، إنما نعرض هنا لأحد كتبه الذي لا يذكر اسم إقبال في العالمين العربي والغربي إلا ويقرن به.

                      ذلك الكتاب الذي كان في الأصل ست محاضرات ألقاها عام 1928 في الجامعات الهندية بطلب من الجمعية الإسلامية في مدراس وجمعت في كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان:
                      (
                      Reconstruction of Religious Thought Islam) وترجم إلى العربية بعنوان "تجديد الفكر الديني في الإسلام" فهذا الكتاب في بعض محتوياته يناقض ويهز الصورة التي رسمها العلامة المودودي لإقبال.
                      فهو في بعض فقرات الكتاب يحبذ صراحة تلك السرعة الكبيرة التي يتجه بها المسلمون روحيًّا نحو الغرب، بعد أن ظل التفكير الديني راكدًا خلال القرون الخمسة الأخيرة، ويرى أنه لا غبار على هذا الاتجاه؛ لأن الثقافة الأوربية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارًا لبعض الجوانب الهامة في ثقافة الإسلام، ورغم أنه أضاف أنه يخشى أن ينخدع المسلمون بالمظهر الخارجي
                      __________
                      (1) مجلة البعث الإسلامي - العدد الرابع - المجلد السادس عشر شوال 1391 هـ (ص 15) واقرأ نفس الرأي للعلامة أبي الحسن الندوي في الصراع بين الفكر الإسلامي والفكرة الغربية (ص 82 - 93).
                      (2/318)
                      البراق للثقافة الأوربية ويعجزوا عن إدراك كنهها وحقيقتها (1)، إلا أنه لم يخف إعجابه البالغ بالإصلاحات التركية التي لا يماري أحد أنها كانت حركة تغريب وقعت فيما خشاه إقبال نفسه، وهو الانبهار بالمظهر الخارجي للحضارة الغربية، ولكن إقبال كان يعتبرها حركة (اجتهاد) لإعادة بناء الشريعة من جديد على ضوء الفكرة والخبرة في العصر الحديث، ويصفها بأنها أكثر اتفاقًا مع روح الإسلام (2).

                      * كلام لا يُقبل من إقبال: ثناؤه على ما فعله أتاتورك وأقزامه:
                      ويشيد بالطريقة التي يمارس بها التركي (الاجتهاد) في قضاياه السياسية والدينية مستوحيًا على النحو الذي يفعله حقائق التجربة وحدها، لا التفكير الفلسفي المدرسي لفقهاء عاشوا وفكروا تحت ظلال أحوال من الحياة متباينة (3).
                      ويقول: إن نهضة الإسلام المرتقبة لا بد أن تحذو حذو المثال التركي وأن تفعل ما فعله الترك فتعيد النظر في تراث الإسلام العقلي (4).
                      ويستطرد للقول: إن معظم الأمم الإسلامية اليوم يكررون القول بالقيم التي قال بها السلف بطريقة آلية، أما تركيا فهي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية، وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، وهذه النقلة وهذه الحياة الجديدة الفسيحة الأرجاء المفعمة بالحركة لا بد أن تستحدث لتركيا مواقف توحي بآراء جديدة،
                      __________
                      (1) "تجديد الفكر الديني" إقبال (ص 14) والطبعة الإنجليزية
                      P. 7.
                      (2) المصدر نفسه (ص 180) والإنجليزية
                      P. 157.
                      (3) المصدر نفسه (ص 182) والإنجليزية
                      P. 158.
                      (4) المصدر نفسه (ص 176)، والطبعة الإنجليزية
                      P. 153.
                      (2/319)
                      وتقتضي تأويلات مستحدثة للأصول والمبادئ، تلك الأصول والمبادئ التي كانت لها قيمة نظرية فقط عند قوم لم يمارسوا الانفتاح (1).
                      من هذه الآراء تتكشف معالم التجديد الذي يدعو إقبال الأمم الإسلامية إليه، فالتغير والحركة والنمو الذي يصيب العالم الإسلامي من اتجاهه نحو الغرب، يقتضي إعادة النظر في الترات وإعادة بناء الشريعة من جديد على ضوء الفكر والتجربة المعاصرة، واستحداث تأويلات جديدة للمبادئ والأصول. وهذه هي معالم العصرانية
                      Modernism بعينها فهل كانت تلك حقًا هي أفكار إقبال؟ وهل كان حقًّا يدعو إلى هذا النوع من التجديد؟

                      * تناقض إِقبال:
                      تصف مريم جميلة هذه الآراء بأنها "من الأخطاء الفكرية التي وجدت طريقها إلى مؤلفات محمد إقبال النثرية باللغة الإنجليزية" وتقول: "إن أسوأ ما في الأمر في العالم الذي يتكلم الإنجليزية "ينبغي أن تضاف العربية أيضًا" والذي يجهل أشعاره بالأردية والفارسية (2) يعتقد أن هذا الكتاب يمثل بدقة أفكار العلامة محمد إقبال، وتؤكد أن إقبال نفسه اعترف في آخر حياته أنها خطأ كبير، وتسوق مقتطفات من شعره تناقض الآراء التي طرحها في الكتاب، وتعضد مريم جميلة أقوالها، برسالة شخصية بعثها إليها المودودي جاء فيها:
                      " .. ولكن محمد إقبال بكل عبقريته الشعرية، لم يكن ينجو من الأخطار، ولسوء الحظ فإن كتاباته لا تخلو كلية من المتناقضات، لقد كان إقبال يمر دومًا بمراحل مختلفة للتطور العقلي أثناء حياته، ولم يستطع أن
                      __________
                      (1) المصدر نفسه (ص 186)
                      P. 162.
                      (2) للشاعر إقبال سبعة دواوين شعر.
                      (2/320)
                      يكون فكرة صافية عن الإسلام إلا في السنوات القليلة الأخيرة من حياته، ففي السنوات الأولى من حياته تداخلت أفكار ومؤثرات غربية مع أفكاره الإسلامية" (1).
                      ونمضي قدمًا في قراءات أخرى لفكر إقبال في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام. والكتاب في الأصل كتاب فلسفي وهو محاولة كما يقول عنه مؤلفه لإعادة بناء الفلسفة الإسلامية بناءً جديدًا أخذًا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة (2)، ويبحث إقبال في هذا الكتاب المعرفة المكتسبة عن طريق التجربة الحسية، والمعرفة المكتسبة عن طريق ما يسميه التجربة الدينية (الصوفية)، ويقارن بين نوعي المعرفة هذين، ويناقش أيضًا حقيقة النفس وحريتها وخلودها والألوهية والنبوة وختم الرسالة ومبدأ التغير والحركة في الكون والمجتمع.
                      وأقدم مثالين يظهر بهما ما عند إقبال من نظرة عصرانية. ويطالعنا المثال الأول في تلك التأويلات التي يقدمها لبعض العقائد والتي تشأبه تأويلات سيد خان والفلاسفة الأولين. يقول عن قصة هبوط آدم:
                      "وهكذا نرى أن قصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن لا صلة لها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، وإنما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من الشهوة الغريزية إلى الشعور بأن له نفسًا حرة قادرة على الشك والعصيان (3).
                      __________
                      (1) انظر "الإسلام بين النظرية والتطبيق" مريم جميلة (ص 182 - 196) والطبعة الإنجليزية
                      Islam in Theory & Preactice, P. 246 - 259
                      (2) "تجديد الفكر الديني" (ص 2).
                      (3) "تجديد الفكر الديني" (ص 99) والطبعة الإنجليزية
                      P. 85
                      .
                      (2/321)
                      - أما المثال الثاني للنزعة العصرانية عند إقبال فتظهر واضحة في الفصل الذي كتبه عن الاجتهاد وسماه "مبدأ الحركة في الإسلام" (1)، ويقصد أن المبدأ الذي يواجه به الإسلام التغير والحركة هو الاجتهاد. ويعرف إقبال الاجتهاد ثم يقول: "وأصل الاجتهاد على ما أعتقد هو قول القرآن في آية مشهورة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وهذا الاستدلال يكشف أن إقبال، لم يكن -آنذاك على الأقل- عميق المعرفة بالثقافة الإسلامية (2).
                      ويطرح إقبال في ذلك الفصل هذا السؤال الذي هو شغل العصرانية الشاغل " .. وأنتقل الآن إلى النظر فيما إذا كان تاريخ الشريعة الإسلامية وبناؤها يتبين فيهما إمكان تفسير الشريعة ومبادئها تفسيرًا جديدًا، وبعبارة أخرى الموضوع الذي أود أن أثير البحث فيه هل شريعة الإسلام قابلة للتطور؟ ".
                      وعنده أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى جهد عقلي عظيم، ويرى أن العالم الإسلامي عليه أن يواجه هذا السؤال بالروح التي كان يواجه بها عمر مشكلات الدين ويصفه بأنه أول عقل ممحص مستقل في الإسلام ولا ريب عنده أن التعمق في دراسة كتب الفقه والتشريع الهائلة العدد لا بد من أن تجعل الناقد بمنجاة من الرأي السطحي الذي يقول بأن شريعة الإسلام شريعة جامدة غير قابلة للتطور.
                      ثم يناقش تجديد أصول الفقه الإسلامي من أجل أن يتبخر الجمود المزعوم ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد.
                      * تجديد أصول الفقه:
                      إنه يرى أن القرآن هو الأصل للشريعة الإسلامية، وليس من شك في
                      __________
                      (1) (ص 168 - 208)
                      pp. 196 - 180.
                      (2) انظر "الفكر الإسلامي الحديث" لمحمد البهي (ص 483).
                      (2/322)
                      أن القرآن يقرر بعض المبادئ والأحكام العامة في التشريع، ولكن القرآن ليس مدون في قانون، فغرضه الأساسي هو أن يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتب الشعور بما بينه وبين الله وبينه وبين الكون من صلات. على أن الأمر الجدير بالملاحظة في هذا الصدد هو أن القرآن يعتبر الكون متغيرًا، ومن الواضح الجلي أن القرآن بما له من هذه النظرة لا يمكن أن يكون خصمًا للتطور، وأن المبادئ التشريعية في القرآن رحبة واسعة وأبعد ما تكون عن سد الطريق على التفكير الإنساني والنشاط التشريعي، وأن الرعيل الأول من الفقهاء اعتمدوا على هذه المبادئ واستنبطوا عددًا من النظم التشريعية، على أن مذهبهم مع إحاطتها وشمولها ليست إلا تفسيرات فردية، وهم لم يزعموا أبدًا أن تفسيرهم للأمور واستنباطهم للأحكام هو آخر كلمة تقال فيها، وبما أن الأحوال قد تغيرت والعالم الإسلامي يتأثر اليوم بما يواجهه من قوى جديدة، فالرأي عنده "أن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا، على ضوء تجاربهم وعلى هدي ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة هو رأى له ما يسوغه كل التسويغ".
                      ثم ينتقل إلى أحاديث الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التي هي الأصل الثاني العظيم للشريعة، وينقل رأي المستشرق جولد زهير بأن إخضاع الأحاديث للفحص الدقيق على ضوء القوانين المستحدثة في النقد التاريخي، يظهر أنها في جملتها لا يوثق بصحتها ..
                      ثم يتناول بالبحث مسألة يعتبرها هامة، وهي أن الفرق بين الأحاديث التي تتضمن أحكامًا تشريعية والأحاديث التي ليس لها طابع تشريعي .. وحتى السنّة التشريعية يرى أن يبحث عن مدى ما تضمنته من عادات كانت للعرب قبل الإسلام، فتركها الإسلام دون تغيير، وأخرى أدخل فيها النبي
                      (2/323)
                      تعديلاً. وهل قبول النبي لها تصريحًا أو ضمنًا قد أريد بها أن تكون ذات صفة عامة في تطبيقها.
                      ويستشهد بأن أبا حنيفة لم يكن أحيانًا يعتمد على هذه الأحاديث، وذلك في نظره موقف جد سليم ثم يقول: "إذا رأى أصحاب النزعة الحرة في التفكير العصري، إنه من الأسلم ألا تتخذ هذه الأحاديث من غير أدنى تفريق بينها، أصلاً من أصول التشريع، فإنهم يكونون بذلك قد نهجوا منهج رجل من أعظم رجال التشريع أهل السنة".
                      - والإجماع عند إقبال الذي هو الأصل الثالث من أصول التشريع الإسلامي قد يكون من أهم الأفكار التشريعية في الإسلام، وهو يرى ضرورة انتقال حق الاجتهاد من الأفراد إلى هيئة تشريعية إسلامية؛ لأن ذلك هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة؛ لأن هذا الانتقال يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم من غير رجال الدين ممن يكون لهم بصر نافذ في شئون الحياة. وهو يتوقع لمثل هذه الهيئة التشريعية أن تخطئ خطأ فاحشًا في تفسير الشريعة؛ لأنها قد تتألف من رجال ليست لهم دراية بوقائع التشريع الإسلامي، ولكنه يستبعد أن يكون الحل تأليف لجنة دينية مستقلة، تكون لها سلطة الرقابة ويرى أن العلاج الوحيد الناجح للتقليل من وقوع الأخطاء في التأويل، هو إصلاح نظام التعليم القانوني وتوسيع مداه.
                      ثم يتساءل عن إجماع الصحابة، وهل إذا انعقد إجماعهم على أمر ما يكون ملزمًا للأجيال التي بعدهم؟ ويخلص إلى أن القول الجريء في ذلك هو أن الأجيال اللاحقة ليست ملزمة بإجماع الصحابة.
                      - والأصل الرابع من أصول الفقه هو القياس ويرى إقبال أن القياس كان في الأصل ستارًا يتوارى خلفه الرأي الشخصي للمجتهد، وأن النقد
                      (2/324)
                      الدقيق الذي وجه لمبدأ القياس كان يهدف إلى كبح الميل إلى إيثار النظر المجرد والفكرة التي تدور في العقل على الأمر الواقع، على أن المنتقدين أنفسهم وقعوا في خطأ آخر، وهو أنهم رغم إدراكهم ما للواقع من شأن، إلا أنهم في الوقت نفسه جعلوه ثابتًا إلى الأبد وقصروا نظرهم على (السابقات) التي وقعت بالفعل في أيام النبي وصحابته، ثم يدعو إلى إحسان فهم وتطبيق مبدأ القياس وهو أنه حق طليق في حدود النصوص الملزمة" (1).

                      * ملاحظات على آراء إِقبال حول الاجتهاد:
                      وبعد أن استعرضنا آراء إقبال حول الاجتهاد والتشريع ومصادره الرئيسية المتفق عليها، يجب أن نعلق على نقاط الضعف في هذه الآراء بما رأيناه صوابًا وحقًا في ميزان التعليم الإسلامي الصحيح فنقول:



                      أولاً: ليست مشكلة الاجتهاد النظري مشكلة أساسية كما ظن إقبال بل المشكلة الأساسية هي العقبات القائمة في طريق تطبيق أحكام الإسلام وتحكيم ْالشريعة وتنفيذها في الأوضاع الحالية. فإن الغرب بجميع وسائله وعملائه وكامل سلطته ودهائه يحارب أي محاولة تقوم لتطبيق الشريعة ويفشلها فليس الإسلام في حاجة اليوم، إلى مجتهد نظري أو مقنن منطقي أكثر مما هو في حاجة إلى ما يقوم بتنفيذ الشريعة وتطبيق الأحكام المدونة في القرآن وكتب السنة والفقه. فإقبال يبدو متأثرًا إلى حد بالغ بدعاية المستشرقين الكذابين بأن الفقه الإسلامي لا يستطيع أن يتكفل بحاجات المجتمع المعاصر المتقدم في مجالات الاقتصاد والاجتماع والسياسة وغيرها.
                      ثانيًا: لو فتح المجال للاجتهاد والاجتماع، كما يراه إقبال، بغض النظر عن الشروط والصلاحيات التي لا بد من توفرها في المجتهد عند الفقهاء
                      __________
                      (1) "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي محمد سعيد (ص 135 - 141) دار الدعوة - الكويت.
                      (2/325)
                      المتقدمين لكان ذلك فتحًا لباب الفتنة والفساد، فيأخذ كل متبع لهواه أو عميل لأعداء الإسلام يدعي لنفسه حق الاجتهاد ويبدي رأيه الفاسد باسم الاجتهاد والإصلاح، ويصير الدين عرضة للأهواء والفتن. فلا بد من الإصرار على توفر شروط الفقهاء عند من يدعي الاجتهاد. فالعودة إلى الاجتهاد مطلوبة، ولكن بنفس الشروط وبنفس الروح التي اجتهد بها فقهاؤنا القدامى الكبار.
                      ثالثًا: ما يراه إقبال حول السنة من أن بعضها ذو صفة عامة في تطبيقها والأخرى ليست كذلك، وحول الأمور التي أبقاها الإسلام دون تغيير، من تقاليد الجاهلية وكونها تعتبر تشريعًا أم أمورًا محلية، فهذا رأي خطير يفتح المجال للفتنة والفوضى والفساد؛ لأن كل شيء لم يغيره الإسلام من تقاليد الجاهلية عاد إِسلاميًّا مصطبغًا بصبغة الإسلام، فإن الشريعة التي تركها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إسلامية من أولها إلى آخرها.

                      فإذا فتح المجال للتفرقة بين أمور الشريعة بأن بعضها من عادات العرب وتقاليد الجاهلية والأخرى ذات طابع إسلامي وأن بعضها ذو طبيعة وقتية وبعضها الآخر ذو صفة دائمة، يكون ذلك مدخلاً للفتن والأهواء والفساد على ما هو واضح فإنه لا يمكن وضع حد لهذا التمييز والتفرقة.
                      رابعًا: ردد إقبال ضمن هذا الباب غير مرة، كلمة الجمهورية والديمقراطية الروحية، فإذا كان قصده بذلك التآخي والتعاون الإسلامي وتشاور علماء الإسلام في أمور دينهم ودنياهم لكان من الأفضل أن يستخدم لذلك لفظ الشورى؛ لأن الشورى لها أصل ومكانة في الإسلام، وإذا قصد به تقليد أساليب الغرب في التقنين ووضع الأنظمة فذلك شيء ليس له مجال في الإسلام، فإن البشر ليس لهم حق في وضع القوانين. "هما بلغ عددهم ومهما تطورت علومهم.
                      وقد عارض هذه الفكرة إقبال نفسه وفندها في معظم شعره ومؤلفاته
                      (2/326)
                      فإنه كشف زيف الديمقراطية الغربية في مواضع لا تكاد تحصى، وقال في موضع أن مخ مائتي حمار لا تساوي مخ إنسان واحد.
                      وأخيرًا فإن إقبالاً بعرضه هذا البحث قد فتح مجالاً واسعًا، أمام طلبة الشريعة الإسلامية وعلمائها ليفكروا فيما يواجهه العالم الإسلامي من المشاكل والتحديات في العصر الحاضر وما سيواجهه في المستقبل، وما يتحملونه من المسئوليات تجاه ربهم ودينهم وأمتهم. ولا حاجة بنا أن نسيء الظن في كون إقبال صادقًا، ولكنه متأثر بأفكار المستشرقين من جهة، ويبدو قليل المعرفة بروح الشريعة الإسلامية الخالصة من جهة أخرى.
                      - يقول الدكتور محمد البهي في هذا الشأن:
                      "ويلاحظ على إقبال أنه يقف في تفسيره لبعض آيات القرآن عند الحد العامي لمدلول اللفظ .. وقد يذهب في تفسير بعض آيات أخرى مذهبًا علميًّا أو فلسفيًّا ويبعد المعنى عن أن يكون في مستوى توجيه الإنسان المتوسط .. وحسن ظنه بالمستشرقين جعل فيه نقطة ضعف أخرى، وهي ثقته فيما يكتبون وتقبله له دون امتحان لما يكتبونه (1).

                      * ويُحمد لإِقبال تحفّظه حين يقول:
                      "إننا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث، ولكن ينبغي لنا أن نقرر أيضًا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي من أدق اللحظات في تاريخه .. فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال ..
                      أضف إلى هذا أن زعماء الإصلاح في الدين والسياسة قد يتجاوزون في تحمسهم لتحرير الفكر الحدود الصحيحة للإصلاح إذا انعدم ما يكبح
                      __________
                      (1) "الفكر الإسلامي الحديث" للدكتور محمد البهي (ص 425، 426، 437).
                      (2/327)
                      جماح حميتهم الفتية .. " (1).

                      * رأي بعض معاصري إِقبال فيه:
                      - قال مولانا أبو الكلام أزاد عند وفاة إقبال: "إن الهند الحديثة لم تستطع إنتاج شاعر عظيم مثله، وإن وفاته خسارة للشرق بأكمله، وليست للهند فحسب".
                      - وقال الشيخ أبو الأعلى المودودي ضمن مقابلته مع مندوب مجلة "سيارة" التي نشرت خلال فبراير - مارس 1978 م:
                      "إنه يوجد لدى إقبال تطور مستمر في الأفكار، فنجد مثلاً أنه يؤيد مصطفى كمال ويُظهر أنه رجل عبقري مثالي، ولكن عندما رأى تفاصيل الأحوال، عدّل رأيه. وفي الحقيقة هناك ثلاثة أطوار في حياة إقبال، وقد عاد قلبه، وفكره مسلمًا كاملاً في الطور الثالث والأخير من حياته" (2).



                      - ويقول الأستاذ السيد أبو الحسن علي الندوي تحت عنوان "صلتي بمحمد إقبال وشعره": "أما بعد، فإني لا أعتقد في إقبال عصمة ولا قدسًا ولا إمامة ولا اجتهادًا في الدين .. إنني أعتقد أن الحكيم السنائي، وفريد الدين العطار، والعارف الرومي (3)، كانوا أرفع منه مكانة بكثير، في التأدب بآداب الشرع والجمع بين الظاهر والباطن، والدعوة والعمل، وقد كانت في محاضراته التي ألقاها في مدراس أفكار فلسفية وتفسيرات للعقيدة الإسلامية لا نوافقه عليها .. إنني لم أزل -والحق أحق أن يُقال- في كل دور من أدوار
                      __________
                      (1) انظر "مفهوم تجديد الدين" (ص 141 - 142).
                      (2) "إقباليات" للمودودي ترتيب سميع الله وخالد همايون (ص 33).
                      (3) هذا الجانب الصوفي والثناء على رجال الصوفية الذين عندهم الأخطاء الكثيرة في اعتقادهم مما يُعاب على الشيخ أبي الحسن الندوي.
                      (2/328)
                      حياتي وثقافتي معتقد أنه لا يزيد على أن يكون تلميذًا من تلاميذ الثقافة الإسلامية النجباء الأذكياء، درسها دراسة مخلصة، وكان لا يزال في حاجة إلى التعمق والرسوخ فيها، والاستفادة من معاصريه الكبار. وكانت في شخصيته الكبيرة النادرة جوانب ضعف لا تتفق مع عظمته العلمية وعظمة رسالته وشعره لم يجد وقتًا كافيًا وجوًّا ملائمًا لإكمالها وتسديدها. إن أجل ما أعتقده أن إقبال شاعر أنطقه الله ببعض الحكم والحقائق في هذا العصر .. وأنه كان صاحب فكرة واضحة وعقيدة راسخة، عن خلود الرسالة المحمدية وعمومها، وعن خلود هذه الأمة وصلاحيتها للبقاء والازدهار، وعن كرامة المسلم، وأنه خُلِق ليقود ويسود، وعن تهافت المبادئ والفلسفات والدعوات التي ظهرت في هذا العصر، كالقومية الوطنية والشيوعية والرأسمالية، ووجدت فيه من وضوح الفكرة وشدة الاقتناع والتحمس لها، والشجاعة في نشرها، وفي نقد هذه الفسلفات، ما لم أجده مع الأسف في كثير من رجال الدين لعدم اكتناههم بحقيقتها واطلاعهم على نواياها وأهدافها وأسسها وتاريخها. وأخيرًا لا آخرًا، وجدته شاعر الطموح والحب والإيمان. وأشهد على نفسي أني كلما قرأت شعره جاش خاطري وثارت عواطفي، وشعرت بدبيب المعاني والأحاسيس في نفسي، وبحركة للحماسة الإسلامية في عروقي، وتلك قيمة شعره وأدبه في نظري" (1).

                      * رجوع إِقبال عن رأيه ومدحه أولاً لمصطفى كمال أتاتورك:
                      كان من رأي إقبال أن حركة التجديد -كما يزعمون- التي قام بها بعض الأتراك المحدثين -وفي مقدمة الدعاة لها الشاعر ضيا كوك آلب (1875 - 1924) - هي حركة مثالية في إصلاح الفكر الديني في الإسلام،
                      __________
                      (1) "روائع إقبال" لأبي الحسن الندوي (ص 20 - 22).
                      (2/329)
                      فقال: "وإذا كانت نهضة الإسلام أمرًا واقعًا، وأنا أعتقد أنها أمر واقع، فلا بد من أن نفعل يومًا ما فعله الترك، فنعيد النظر في تراثنا العقلي .. " (1).


                      فكان هذا رأيه حول الثورة القومية التركية التي نادى بها الشاعر ضيا ومصطفى كمال أتاتورك (1881 - 1938 م) ضمن محاضراته "تجديد الفكر الديني" التي نشرت في عام 1930 م، بينما أنه نبّه المسلمين كذلك في نفس المحاضرة إلى الأخطار التي يمكن حدوثها من حرية الفكر وعدم التقيد بأحكام الشريعة فقال:
                      "إنا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث "يعني الفترة الحديثة في حياة الأمة المسلمة" ولكن ينبغي لنا أن نقرر أيضًا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي أدق اللحظات في تاريخه، فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال، وفكرة القومية الجنسية -التي يبدو أنها تعمل في الإسلام العصري أقوى مما عُرف من قبل- قد ينتهي أمرها إلى القضاء على النظرية الإسلامية العامة الشاملة التي تشرّبتها نفوس المسلمين من دين الإسلام" (2).



                      كما أنه أخذ كذلك في نفس المحاضرة على دعوة الشاعر ضيا إلى المساواة بين الرجل والمرأة في الزواج والطلاق والميراث، فقال:
                      أما فيما يتعلّق بما ينادي به الشاعر التركي (ضيا) فإني أخشى أنه يبدو قليل العلم بقانون الأسرة في الإسلام، كما يظهر أنه لا يفهم المعنى الاقتصادي لقاعدة التوريث كما جاءت في القرآن" (3).
                      - وقد أُعجِب إقبال بمصطفى كمال أتاتورك وعلّق آمالاً كبيرة بعزمه
                      __________
                      (1) "تجديد الفكر الديني" (ص 176).
                      (2) "تجديد الفكر الديني" (ص 187).
                      (3) المصدر السابق (ص 194 - 195).
                      (2/330)
                      وإقدامه كما يتبيّن ذلك من نشيده الذي يتضمّنه ديوان بيام مشرق بعنوان "خطاب إلى مصطفى كمال باشا -أيدّه الله-!! (يوليو 1922 - بيام مشرق، ص 138)، ولكنه عندما عرف حقيقة هذه الثورة ودعاتها، تراجع عن رأيه السابق فقال على لسان سعيد حليم باشا، في ديوان "جاويد نامه" الذي نشر في 1932 م "إن مصطفى كمال قد تغنّى بالتجدّد وقال: ينبغي أن تُنسخ الشريعة الإسلامية وتمسح الآثار العتيقة. ولكن يا صاحبي لن تتجدد الحياة في الكعبة المشرفة إذا استوردت الأصنام من لاة ومناة، إليها من أوروبا، فليس في قيثارة التركي (مصطفى كمال) لحن جديد فإن ما توهمه جديدًا إنما هو نغمة تركتها أوروبا وراء ظهرها وأصبحت قديمة بالية لديها" (1).
                      وكذلك استنكر إقبال أعمال مصطفى كمال في ديوان ضرب الكليم الذي نشر في عام 1936 م، فقال: أنا شدوت حتى مزّقت شقائق النعمان جيوبها وجدًا، ونسيم الصبح لا يزال يطلب روضًا ينضر أزهاره، لا مصطفى كمال ولا رضا شاه بهلوي مظهر لروح الشرق، فإنها تطلب الآن شخصية تظهر فيها:
                      جيب الشقائق من شدوي غدا مزقا ... ونسمة الصبح روضا تطلب الآنا
                      ما "مصصفى" أو "رضا" جلّى حقيقتها ... فالروح في الشرق جسمًا تطلب الآنا (2)
                      فعاد إقبال -وهذا حسن الظن- عن مدحه لأتاتورك الطاغية والعود أحمد.
                      ***
                      __________
                      (1) "جاويد نامه" (ص 66).
                      (2) "ضرب كليم" (ص 142)
                      .

                      ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

                      تعليق


                      • الكفر ملة واحدة عنوانها العداء للإسلام
                        (2/333)
                        الكفر ملة واحدة عنوانها العداء للإِسلام

                        * المعلم "يعقوب" أو الجنرال يعقوب الخائن لمصر:
                        في إطار المخادعة وإلباس التاج أو وضعه فوق رأس الخونة ومن لا يستحقون،
                        يقدم لنا (لويس عوض) شخصًا نصرانيًّا اسمه (المعلم يعقوب) أو (الجنرال يعقوب) كما يسميه، علامة على نمو النزعة القومية لدى المصريين -كما يزعم- نتيجة للثورة الفرنسية وحملة نابليون على مصر، ويخصص لويس الباب الرابع من "الخلفية السياسية" في كتابه "تاريخ الفكر المصري الحديث" للحديث عن يعقوب تحت عنوان "مشروع الاستقلال الأول" (1)،
                        ويخبرنا أن (يعقوب) كان يحمل في جعبته مشروعًا خطيرًا كان في نيته عرضه على الإنجليز والفرنسيين، وهو مشروع استقلال مصر (2)، ويوحي كلامه بأن (يعقوب) كان يمثل المسلمين والنصارى (3)،
                        ويربط بين الحركات الثورية التي قامت في أرجاء العالم العربي، وبخاصة الحركات الباطنية (الزنج والقرامطة والكورانية والنصيرية والشعشاعية وغيرها) وبين حركة المعلم يعقوب، كما يشير إلى تشابهها مع جمهورية همام التي قامت في الصعيد ويعدها نموذجًا لنظام الحكم الذي يقترح يعقوب قيامه في مصر (4).

                        والسؤال هو: استقلال مصر عن من؟ ولماذا؟ ومن الذي كان يحكم مصر؟ وهل لا بد من أن يأتي الاستقلال على يد الخائن يعقوب؟
                        إن لويس يقصد باستقلال مصر انفصالها عن الخلافة العثمانية أو الباب
                        __________
                        (1) نفسه (80).
                        (2) "تاريخ الفكر المصري الحديث" للويس عوض (ص 149) وما بعدها.
                        (3) السابق (ص 151)، وانظر "مقالات في النقد والأدب" (ص 117).
                        (4) "تاريخ الفكر المصري الحديث" (ص 155).

                        (2/335)
                        العالي؛ لأن ارتباط مصر بالشعوب الإسلامية، يجور على استقلالها، أما ارتباطها بالاستعمار الفرنسي، فهو بداية القومية المصرية والعصر الديمقراطي، وإذا كان المماليك والأتراك، يحكمون مصر، فلا بد من التخلص منهم أولاً
                        -وليس من الحملة الفرنسية- ليكون نظام الحكم على غرار جمهورية الأمير همام في الصعيد الذي أعلن استقلاله بعد استنفار قواته لمواجهة الترك والمماليك جميعًا .. ومن ثم. فإن الاستقلال على يد الخائن يعقوب، يصبح هو طوق النجاة، الذي بشَّر به من خلال مشروعه الذي عرضه على الدول الأوربية ..

                        ترى ما الذي جعل المعلم يعقوب يبدو بطلاً لاستقلال مصر كما صوره لويس عوض؟
                        كان المعلم يعقوب يعمل في مجال الصرافة (تحصيل الأموال من المصريين)، وعندما جاءت الحملة الفرنسية استغلت نفرًا من طائفة النصارى المصريين والشوام، واستمالتهم إلى جانبها والقتال معها أو تأمين قواتها، ويشير (عبد الرحمن الرافعي) إلى أن نابليون أصدر أمره بتكليف كتيبة من الأروام المقيمين في ذلك العهد بالقاهرة ورشيد ودمياط وعهد إليها حراسة السفن الفرنسية أثناء مرورها بالنيل، وأراد نابليون من هذا الأمر أن يوفر بعض الجنود الفرنسيين، وأن يستخدم في هذه المهمة الأروام الذين أظهروا ولاءهم للجيش الفرنسي، لكن الأروام لم يتطوعوا لهذه المهمة بالعدد الذي كان ينتظره الفرنسيون (2).
                        ويلاحظ أن الرافعي لم يشر إلى تشكيل الفيلق القبطي بقيادة المعلم
                        __________
                        (1) السابق (ص 26).
                        (2) "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" لعبد الرحمن الرافعي (1/ 295).

                        (2/336)
                        يعقوب، الذي أسهب الجبرتي في الحديث عنه، وعن خيانته لوطنه .. يذكر الجبرتي في حوادث سنة 1521 هجرية (1800 - 1801 م) أن "يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية، وجعلوه ساري عسكر الضبطة، جمع شبان القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية، مميزين عنهم بقبع يلبسونه على رءوسهم، مشابه لشكل البرنيطة، وعليها قطعة فروة سوداء من جلد الغنم .. في غاية البشاعة! وصيرهم عسكره وعزوته، وجمعهم من أقصى الصعيد وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى -التي هو ساكن بها- خلف الجامع الأحمر، ربنى له قلعة، وسورها بسور عظيم وأبراج، وباب كبير يحيط به بدنات عظام. وكذلك بنى أبراجًا في ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية، وفي جميع السور المحيط والأبراج طيقانًا للمدافع وبنادق على هيئة سور مصر الذي رمّه الفرنساوية، ورتب على باب القلعة -الخارج والداخل- عدة من العسكر الملازبين للوقوف ليلاً ونهارًا، وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساوية" (1).

                        هذا هو المعلم يعقوب الذي أعدّ أول مشروع استقلال لمصر كما يرى لويس عوض أنه يكوّن فيلقًا عسكريًّا على الطريقة الفرنسية يتكون من شباب النصارى ويشيّد التحصينات والقلاع ليحارب!! يحارب من؟ يحارب الفرنسيّين أم غيرهم؟ لو حارب الفرنسيّين، فإن مشروعه الاستقلالي يصبح ذا موضوع، ولكن الجبرتي يقول إنه: "تظاهر مع الفرنساوية"، أي صار ظهيرًا لهم، أي واحدًا منهم، أي عدوًّا لشعبه ووطنه الذي يزعم لويس أنه يريد أن يحقق له الاستقلال!.
                        والجبرتي -كما يصفه عبد الرحمن الرافعي- كان يتحرى الصدق والدقة
                        __________
                        (1) "المختار من تاريخ الجبرتي" اختيار محمد قنديل (ص 424) - دار الشعب.

                        (2/337)
                        ويتوخى الحق، ولم يكن يتحيز لطائفة أو دولة، أو لأي إنسان مهما عظم نفوذه، ثم يقول الرافعي: "وإنك لتستطيع أن تتحق نزاهة الجبرتي من مطالعة كتابه وإمعان النظر فيه" (1).

                        والجبرتي هو الذي يصف لنا ما أنزله يعقوب -تحت ظلال حملة نابليون- بالشعب المصري، من خلال نزعته الطائفية التعصبية، فقد "كرنك في داره بالدرب الواسع جبهة الرويعي، واستعدّ استعدادًا كبيرًا بالسلاح والعسكر المحاربين، وتحصّن بقلعته التي كان قد شيدها بعد الواقعة الأولى (أي ثورة القاهرة الأولى ضد بونابرت وجيشه). فكان معظم حرب حسن بك الجداوي (من زعماء المماليك) معه" (2).

                        - ويذكر الجبرتي في حوادث سنة 1216 هجرية (20 من المحرم = يونيه 1801 م):
                        "توكل رجل قبطي يقال له عبد الله -من طرف يعقوب- بجمع طائفة من الناس لعمل المتاريس، فتعدّى على بعض الأعيان، وأنزلهم من على دوابهم، وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه .. فتشكى الناس من ذلك القبطي، وأنهوا شكواهم إلى "بليار" قائمقام، فأمر بالقبض على ذلك القبطي، وحبسه بالقلعة، ثم فردوا -لعلها فرضوا- على كل حارة رجلين يأتي بهما شيخ الحارة وتدفع لهما أجرة من شيخ الحارة" (3).
                        ويشير الجبرتي في حوادث سنة 1214 هـ (20 من ذي الحجة = 15
                        __________
                        (1) "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" (ص 417) وما بعدها - ط 5 طبع دار المعارف.
                        (2) "المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة" لأحمد حسين الصاوي (ص 26) - دار الفكر - القاهرة.
                        (3) "المختار من تاريخ الجبرتي" (ص 436).
                        (2/338)
                        مايو 1800 م) إلى التعنّت الذي مارسه الفرنسيون بإرشاد القبطة وطوائف البلاد (أي بمساعدتهم) "لأنهم هم الذين تقلّدوا المناصب الجليلة، وتقاسموا الأقاليم، والتزموا بجمع الأموال، ويضيف "وانضم إليهم الأسافل من القبط والأراذل من المنافقين" (1).

                        ويتحدث الجبرتي في حوادث السنة ذاتها إلى تطاول النصارى القبط والشوام على المسلمين بالسب والضرب والنيل منهم وإظهار الحقد عليهم "ولم يبقوا للصلح مكانًا، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحّدين" (2).
                        هذا هو المعلم يعقوب أو الجنرال يعقوب وجماعته الذين كوّنوا جيشًا يتحالف مع نابليون لإذلال المصريين، فهل يمكن لعاقل أن يفهم بعد ذلك طبيعة المشروع الاستقلالي الذي يتحدث عنه لويس عوض؟

                        لقد تناول عدد من الكتاب مسألة المعلم يعقوب بالشرح والتحليل، منهم محمد جلال كشك، في كتابيه "ودخلت الخيل الأزهر" الذي أشرنا إليه من قبل، و"الغزو الفكري" حيث خصص له فصلاً كاملاً (من صفحة 84 إلى ص 130)، ويردّ فيهما على مزاعم لويس حول يعقوب وبطولاته، واستشهد بما قاله "محمد شفيق غربال" الذي نقل عنه لويس ما قاله في يعقوب، واستشهد أيضًا بالجبرتي لدحض هذه المزاعم، ويعترف محمد جلال كشك أنه شارك في خطيئة الإشادة بالجنرال يعقوب عندما كتب مؤلفه "مصريون لا طوائف"، ويرجع ذلك إلى أنه كان صغير السن آنئذٍ" (3).
                        ويخصص (أحمد حسين الصاوي) كتابًا كاملاً عن يعقوب، ويتناول الآراء التي قيلت فيه، ويصل إلى نتيجة تقول: "إنه لم يكن مجرد خائن
                        __________
                        (1) السابق (ص 370، 372).
                        (2) نفسه (ص 368، 396، 445).
                        (3) "الغزو الفكري" (ص 106).
                        (2/339)
                        لقومه وبلاده، فوصفه بذلك من قبيل إطلاق الأحكام العامة التي تفتقر إلى التحديد، والأدق أن يوصف بأنه منشق على نظام الحكم القائم وبنيته رافض له، ولكن ما أساء إلى موقفه أبعد الإساءة أن هذا الانشقاق والرفض اتخذ من البداية بُعْدًا طائفيًّا مذمومًا، فضلاً عما امتزج به من طموحات شخصية" (1).

                        ولا أدري بم نصف مواطنًا انحاز لعدوّ البلاد الذي قتل أبناءها واغتصب نساءها ونهب أموالها وخيراتها وأهلك قراها ومدنها .. ثم حارب إلى جانبه، وأسفر عن وجهه الطائفي المتعصّب، وآذى -كما أخبرنا الجبرتي- مواطنيه وشعبه؟ هل يكفي أن نصفه بالمنشق على نظام الحكم؟ أليست القرائن الدالة والسلوكيات التي مارسها يعقوب خير برهان على خيانته وعمالته؟
                        إن الصاوي نفسه يزيد هذه القرائن والسلوكيات توضيحًا عندما يقول: "لقد رفض يعقوب إذ واتته الفرصة أن يستمر في الخضوع لنظام الحكم الإسلامي، الذي كان في رأيه يمثل طغيان الأغلبية على الأقلية، وفي ظلّه تضطهد طائفته القبطية وتمتهن حقوقها، وانشق يعقوب على أمته، فصانع -كما رأينا- الحاكم الفرنسي منذ البداية، وذهب في مصانعته إلى أبعد مدى، وكان له من رفضه وانشقاقه موقف لم يحد عنه، بل راح ينتهز كل فرصة لإثباته وتأكيده، وهو موقف اتسم بنظرة طائفية متطرفة كانت لها مظاهرها التعصبية الحادة" (2).
                        والصاوي نفسه هو الذي يصفه يعقوب بالشذوذ عن مألوف طائفته، وارتداء الزيّ المخالف، واتخاذ امرأة من غير جنسه بطريقة غير شرعية (كانت سورية)، ولم يكن رجال الدين راضين عن غروره وخروج تصرفاته معهم
                        __________
                        ْ (1) "المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة" (ص 81).
                        (2) السابق، الصفحة نفسها.

                        (2/340)
                        ومع الكنيسة عما تنبغي مراعاته من الأصول والتقاليد (1).
                        لقد كان يعقوب خائنًا بكل المقاييس، والأمر. ينطبق على أي مسلم ينضم إلى قوات العدو الغازية، أيًّا كانت الأسباب وراء هذا الانضمام، فما بالك برجل باع نفسه تمامًا للحملة الفرنسية، وقَبِلَ من أحد قادتها (كليبر) رتبة الجنرال، وبعد انهزام الحملة هرب معها؟

                        إن يعقوب ليس مجرد منشق، وإنما كان خائنًا، ألبسه (لويس عوض) تاج الوطنية،

                        وأسند إليه شرف البطولة في البحث عن استقلال مصر عن الباب العالي ودولة الخلافة، وفضّله على واحد من أعظم أبطال مصر الحقيقيين وهو السيد (عمر مكرم) نقيب الأشراف الذي عزل (خورشيد باشا) وولّى (محمد علي) وألبسه الكرك ونزل الخليفة العثماني على رأيه ورأي علماء الإسلام، وإن كانت نتيجة بطولته أن نفي إلى دمياط!
                        ومع أن الذين ناقشوا آراء لويس حول يعقوب، قد اعتمدوا الأسلوب العلمي في مناقشة، وبيان تهافت ما ذهب إليه مع تفاوت آرائهم في الحكم على يعقوب، ألا أنه يكتفي بوصفهم بالرجعية والتعصب الديني، ويتوعدهم بحساب التاريخ، ويقول: وسوف يحاسب التاريخ الرجعية العربية حسابًا عسيرًا، لأنها سجدت أمام التمثال الذي أقامه شفيق غربال للجنرال يعقوب، ثم مزقتني إربًا لمجرد أنني رددت آراءه وترجمت وثائقه. ونقادي لا يستطيعون ادعاء الجهل؛ لأني أصلت لهم كل شيء قلته عن الجنرال يعقوب في شفيق غربال، فإذا كانوا قد رجعوا إليه، ومع ذلك تعمّدوا تمزيقي لطرق قضيّة (يعقوب اللعين) بهذه الحيدة أو بشيء من التعاطف، فإن هذا يثبت سوء نيتهم، وإذا كانوا لم يهتموا بالرجوع فهذا يثبت انحطاطهم لإصرارهم على
                        __________
                        (1) السابق أيضًا (ص 18).

                        (2/341)

                        الإدانة رغم وجود شهود النفي. وعلى كل فقضية الجنرال يعقوب أخطر من أن تصرف بكلمتين فلي إليها عودة في مكانها الطبيعي" (1).

                        بالطبع، لم يعد لويس إلى القضية أبدًا، ولم يكن ردّه الانفعالي الذي سبّ فيه منتقديه، وصفهم. بالانحطاط وسوء النية والرجعية والتعصب الديني، كافيًا لإثبات حسن نيته .. فالعلم حجة وأخرى مضادة .. ومن يملك الدليل والبرهان لا يرد عليه إلا بالدليل والبرهان .. وكون شفيق غربال قد سبق إلى الكتابة عن يعقوب وصديقه الحميم لاسكاريس بالفرنسية أو نقلاً عنها، فهذا لا يعفي لويس من المؤاخذة؛ لأن القضية التي يناقشها لا تقتصر على شخص يعقوب، بل تمس تاريخ أمة وكيانها وحاضرها ومستقبلها، ولويس أبدى آراءه القاطعة، وأحكامه الجازمة، بل جعل عنوان الحديث عن يعقوب "مشروع الاستقلال الأول"، وربط هذا المشروع بما زعمه من تقديم الحملة الفرنسية معالم حضارية حديثة لمصر القومية والديمقراطية .. فهل يحق له بعدئذ أن يصرخ من تمزيقه إربًا؟ وهل هذا اعتراف ضمني بهشاشة موقفه؟ ألم يكن من الأولى أن يحدثنا عن بشاعة الحملة الفرنسية ودمويتها وكيفية مقاومتها، وقبح الانضمام إلى المستعمر الغازي أيًّا كانت الأسباب، وأيًّا كان الأشخاص المنضمين إليه؟ " (2).


                        * الدكتور فيليب حتّى صاحب "تاريخ العرب" وتزييفه لتاريخ المسلمين والعرب:
                        "ما يزال كتاب "تاريخ العرب" للدكتور فيليب حتى، مرجعًا من المراجع الهامة التي يعتمد عليها الباحثون وأساتذة الجامعات والكتاب،
                        __________
                        (1) "أوراق العمر" (ص 597 - 598).
                        (2) "لويس عوض .. الأسطورة والحقيقة" (ص 240 - 245).

                        (2/342)
                        كمصدر سهل ميسور بالرغم مما يحمل في تضاعيفه من أخطاء وشبهات، وقد حاول الدكتور عبد العزيز الدوري مواجهة انحرافات هذا الكتاب في دراسة شاملة فأشار إلى أن تسمية مؤلفة (تاريخ العرب) تشعر بوجهة نظر مؤلفه الخاصة، فلم يسمه تاريخ الإسلام مثلاً، وهي تسمية تباين الكتاب في استعمالها بحسب تقديرهم لطبيعة هذا التاريخ، ومع أن نظرته لدور العرب الحضاري فيها مجال لإعادة النظر، إلا أنه يشعرك بأن العرب هم محور هذا التاريخ وقاعدته، أما مادة الكتاب فلا تشعر بوجهة نظر تاريخية، ولكنا نشعر أن مؤلفه وقع تحت تأثير مصادره أكثر مما تشعر بوجهة له، ونحن نرى في بعض النواحي الكتاب تلخيصًا لآراء حديثة لبعض المستشرقين أوردها لبعضهم تبين أنها واهية. لم يحاول المؤلف وضع مفهوم جديد للفتوحات ولم يخرج عن هيكل نظرية (كايتاني) رغم ما تعرضت له من هزات.

                        وتحدث المؤلف عن مناحي الحياة الفكرية في العصر الأموي وردد مع غيره أن العرب الفاتحين لم يكن لهم "أي ثقافة أو تراث فكري"، وأنهم تعلقوا بحضارة الأمم التي غلبوها فنقلوا عنها، وكانوا مهرة في النقل وأظهروا قابلية للغذاء العقلي. ويرى أن شجرة الفكر (العربي) التي ازدهرت في العصر العباسي تأصلت جذورها في ثقافات العهود السابقة في الإغريق والفرس واليونان. ونحن نعرف النشاط الفكري في العصر الأموي كما بان في عرف المؤلف نفسه -في الدراسات العربية الإسلامية، وظهر في مراكز عربية صرفة وهي المدينة والكوفة والبصرة، وأن الخطوط العامة لهذه الدراسات وضعت في العصر الأموي، أما الأخذ عن الحضارات القديمة فكان في حقل الإدارة (خاصة الضرائب)، وإن تسربت بعض الآراء فقد كان ذلك عرضًا وبطريق الاتصال الشفوي، ولم يحصل الأخذ المنظم إلا في زمن العباسيين، وهذا يصدق على "علوم الأوائل" ولا يمكن تعميمه على نواحي

                        (2/343)
                        الفكر المختلفة.

                        ويتابع (فيليب حتى) نفس الوجهة حين يتحدث عن (الأندلس) فهو يرى أن سبب تأخر أسبانيا في نشوء فقه اللغة العربية والعلوم الدينية وكتابه التاريخ؛ "لأنه لم يكن عند الأسبان أهل البلاد من العلم والفن ما يفيدون به العرب بخلاف ما كانت عليه الحالة في الشام والعراق حين دخلهما الفاتحون"، ونسي المؤلف أن مراكز الدراسات العربية الخالصة وليس في المدن القديمة كدمشق والإسكندرية، وأنها كانت على يد العرب ولم يشارك فيها غير العرب جديًا إلا بعد أن تعربوا. وبعد هذا يحق لنا أن نتساءل: هل أن العرب خرجوا من الجزيرة وهم دون أي ثقافة أو تراث فكري، وماذا حل بعرب المدن في جنوب الجزيرة وشمالها. إن النقوش تكشف لنا تدريجيًّا عن نواح حضارية كانت مجهولة لدينا، كما أننا تحت تأثير مصادرنا - لم نعن بدراسة أثر عرب الجنوب في الحضارة العربية، وإذا كانت معلوماتنا الآن محدودة فإن هذا لا يخير لنا الحكم السلبي.
                        - كتابة التاريخ عند العرب:
                        ويذهب (فيليب حتى) إلى أن لكتابة التاريخ عند العرب أصولاً شيدت على أسس الطريقة الفارسية.

                        - ويقول الدكتور الدوري: وقد تبين لي من دراسة نشأة علم التاريخ عن العرب أن هذا العلم عربي النشأة والأصول، وأن خطوطه الأساسية تحددت قبل الترجمة عن الفارسية، ولذا فإن قول فيليب حتى بأن (المثال) الذي احتذاه المؤلفون فارسيًّا في الأصل على طريقة (خذ اينامه) مردود لأننا نعرف أن كتابة التاريخ على أساس السير وعلى أساس الأسر الحاكمة عرف قبل ترجمة "الخد اينامه" وقد بدأ علم التاريخ عند العرب من أصول تتصل بدراسة الحديث (المغازي) من جهة، وبمتابعة الاهتمام الموروث من الجاهلية بالأيام كما ظهر لدى الإخباريين.
                        (2/344)
                        - ويقول: الدكتور الدوري: أن ما أورده حتى عن المذاهب الفقهية فيه قلق، ومن الحديث يشعر بأنه لم يدقق ولم يستفد من بعض الباحثين المبرزين، وما كتبه عن الإسماعيلية والقرامطة يعكس ببساطة بعض الروايات الشائعة، وكأنه لم يستفد من الدراسات الحديثة.

                        وحديثه عن الشيعة قلق، وهو أحيانًا يلخص بعض المعلومات عن المصادر الأولية دون نقد، وتفسيره لانتشار الإسلام بأسباب مادية (ص 441) يحتاج إلى إعادة نظر، وقد فاته أن انتشار الإسلام في أدوار ضعفه السياسي كان أوسع من انتشاره قبل ذلك، ويكفي أن تشير إلى كتاب أرنولد "الدعوة إلى الإسلام". وتفسيره للشعوبية (ص 488) بعيد كل البعد عن تحليل دوافعها واتجاهاتها، فهو يراها مجرد دعوة للتسوية في حين أن الحركة لها جذور عميقة في الوعي القومي والديني للشعوب الأخرى، وخاصة الإيرانيين وأنها بدأت بنبرة التسوية في العصر الأموي فإنها سرعان ما انتقلت إلى تفضيل العجم على العرب وإلى مهاجمة التراث والكيان العربي الإسلامي، وكانت وثيقة الصلة بالزندقة. ولكنها برزت في حركة أدبية فكرية قوية.
                        - كما قبل المؤلف أسطورة العبّاسة لتفسير نكبة البرامكة دون تمحيص" (1) اهـ.

                        __________
                        (1) "مقدمات العلوم والمناهج" (1/ 402 - 404).

                        ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

                        تعليق


                        • * غاندي .. الهندوسي المتعصب يسرق الحركة الوطنية من المسلمين:
                          "الهندوسي المتعصب الذي أخفى هندوسيته البغيضة وراء المغزل والشاة.
                          وكان أول سياسي طالب بتأجيل الاستقلال مناديًا بمهادنة السلطة، وعدم مناوأة حكومة الاستعمار.
                          وكانت فلسفة غاندي التي استقاها من تولستوي ولقنوها لنا في الشرق
                          (2/345)
                          هي التغاضي عن تصرفات المستعمر والاستسلام له.
                          - والحقيقة أن الزعماء المسلمين هم الذين أعلنوا استقلال الهند الحقيقي وعينوا قضاة المحاكم وحكام المقاطعات وتجاهلوا جميع كل السلطات وقد ظهرت آثار المسلمين واضحة في الحركة الوطنية وضعفت وطنية الهندوك فحاربوا المسلمين بكل سلاح حتى سلاح الفتنة الوطنية والدس الرخيص.



                          ا"كان السؤال: حول غاندي وتكريمه، والأحاديث التي تنشر عنه في الصحف، وتصويره بصورة البطل: ومحاولة القول بأنه كان رمزًا للمصريين إبان الحركة الوطنية المصرية بعد ثورة 1919 وكانت الإجابة كالآتي:
                          بدأت الحركة الوطنية لتحرير الهند في أحضان الحركة الإسلامية، وقد أزعجت الاستعمار البريطاني هذه الخطوة فعمدوا إلى القضاء عليها بأسلوب غاية في المكر والبراعة فقد نحى المسلمين عن قيادة الحركة الوطنية وأسلمها إلى الهندوس، وأجراها على الأسلوب الذي سيطر على الهند بعد ثورة 1857 التي قادها المسلمون وكان الاستعمار البريطاني حريصًا على ألا تتحقق للمسلمين السيطرة على الهند بعد أن ظل الإسلام يحكم الهند أكثر من خمسمائة عام إلى أن أزاله الإنجليز.



                          والمعروف أن المسلمين قاطعوا مدارس الاحتلال وعزفوا عنها حتى أتيح لهم إقامة نهضة تعليمية داخل إطار دينهم وثقافتهم وذلك بإنشاء عدد من المعاهد الإسلامية، انتشرت في "لاهور" و"لكنؤ" ولم تلبث أن حققت تقدمًا واضحًا واسع المجال. ثم اتجه العمل لتحرير الهند فألفت الجمعية الإسلامية العامة في الهند لكنؤ (بومباي) وكان يشرف عليها كبار المسلمين في الهند مطالبين بحقوق المسلمين في الهند كوطنيين وكان الهندوك قد أعلنوا إنشاء المؤتمر الوطني العام وسموه المجلس الملّي الوطني الهندي العام. وكان غايته أن ينالوا حقوقًا سياسية تخولهم السيادة على الأقليات (وهم لا يريدون من
                          (2/346)
                          كلمة الأقليات غير المسلمين)، وفي عام 1910 نبهت حكومة الاحتلال إلى حركة الجمعية الإسلامية فأوعزت إلى محمود الحسيني أن يغادر الهند وقبض على أعوانه: أبو الكلام أزاد، حسرت مهاني، ظفر الله خان، محمد علي، شوكت علي. ولما عقدت الهدنة في 11 نوفمبر 1918 أعلنت الحكومة البريطانية استعدادها لإجراء إصلاحات في قانون الهند. فاتفق الفريقان (المسلمون والهندوس) على عقد مؤتمر في لكنؤ يجتمع فيه زعماء الفريقين.
                          وفي عام 1919 أطلقت الحكومة سراح المسجونين السياسيين المسلمين، فاجتمع زعماؤهم في لكنؤ بدعوة مولاي عبد الباري رئيس علماء أفرنجي محل فتداولوا في تأسيس جمعية إسلامية لتنظيم مطالب الاستقلال وكان قد ظهر في هذا الوقت تآمر الدول الكبرى على تمزيق شمل الدولة العثمانية.
                          فأطلق على هذه الجماعة (جمعية إنقاذ الخلافة من مخالب الأعداء الطامعين) وتأسست جمعية الخلافة في بومباي (18 فبراير 1920) برئاسة غلام محمد فتو، ميان حاجي خان. ودخل في عضويتها الزعماء المسلمون المعروفون في الهند، ودعت اللجنة المسلمين إلى جمع الإعانات للدفاع عن حوزة الخلافة، فأقبل المسلمون بسخاء وجمع ما لا يقل عن سبعة عشر مليون روبية إلى أضعاف ذلك كما يقول السيد عبد العزيز التفالي الزعيم التونسي الأشهر في تقريره الذي قدمه للأزهر الشريف في يونيو 1937 بعد زيارته للهند ودراسته لأحوال المسلمين هناك.
                          كان (غاندي) إلى تلك الآونة غير معروف في الهيئات السياسية في الهند، وكان متطوعًا في فرقة تمريض الجنود، ولما انتهت الحرب وانفصل عنها كانت جمعية الخلافة في بدء تآليفها فأقبل عليها وكان اسمه غير معروف إلا بين الأفراد القلائل الذين عرفوه في جنوب أفريقيا. فتيامن به زعماء المسلمين رغم تحذير المولوي (خوجندي) وكان على صلة به من قبل، ويعلم من أمره
                          (2/347)
                          ما لا يعلمون وبالأخص من ناحية تعصبه للهنادكة مع المسلمين. وشاءت الغفلة أن تنطوي هذه الحركة العظيمة على يديه. فقعد في جمعية الخلافة مقعد الناصح الأمين وجعل يشير عليها باستئلاف الهنادكة فقبل الأعضاء نصحه عن حسن نية، وندبوه للسعي إلى ذلك فقام وطاف الهند علي حساب الجمعية يدعو إلى الوفاق ويقول المطلعون على خفايا الأمور أنه كان يتصل بالهنادكة، ويتآمر معهم على شل الحركة الإسلامية ولما عاد من الرحلة سعى إلى إقناع جمعية الخلافة بانضمام إلى الكونجرس (المؤتمر الوطني) الذي تأسس لملاحقة المسلمين وانتزاع حقوقهم في الهند فانضمت إليه جمعية الخلافة وتبعتها بقية الأحزاب الإسلامية المعروفة ارتكازًا على الثقة في (غاندي) وعقد الكونجرس اجتماعًا فوق العادة بعد انضمام المسلمين إليه في مارس 1920 في بلدة باكبور حضره 25 ألف مندوب أكثرهم من المسلمين ولما تُلي عليهم القانون الأساسي اقترحوا تعديل المادة التي تقول: بإصلاح حالة الهند إلى عبارة (استقلال الهند) فوافق على ذلك المؤتمر، وشرعت الأحزاب الهندوكية منذ ذلك الوقت تطالب بالاستقلال التام طبق رغبة المسلمين، وكانوا قبل ذلك لا يطالبون إلا بإجراء إصلاحات. فارتاعت الحكومة (البريطانية) لهذا التعبير وعدته فاجعة في سياسة البلاد وعلى أثره ألقت القبض على الزعماء، وزجتهم في السجون.
                          واجتمع قادة الحركة وعرض أبو الكلام آزاد اقتراحًا باسم الأعضاء المسلمين يتضمن إعلان (الأمة الهندية) وبأن الحكومة الحاضرة غير شرعية.
                          مع دعوة البلاد إلى مقاطعتها فوافقت الجمعية، وانعقد على أثره (مؤتمر جمعية الخلافة) فأعلن موافقته أيضًا بالإجماع. وبعد أن جرى تصديق المؤتمر على قرار المقاطعة قام غاندي خطيبًا وقال: إن اتحاد الهنادكة مع المسلمين يبقى متينًا ما لم يشرع المسلمون في مناوأة الحكومة، ويشهروا السلاح في وجهها.
                          (2/348)
                          ورد عليه أبو الكلام آزاد فقال:
                          "إن غاندي يتصور أن أعمال المسلمين في الهند لا تقوم إلا على مساعدة الهنادكة فقد آن له أن يخرج هذه الفكرة من دماغه وليعلم غاندي أن المسلمين لم يعتمدوا قط على أحد إلا الله عز وجل وعلى أنفسهم".
                          وشرعت الأمة الهندية عقب ذلك في مقاطعة الحكومة، وإظهار العصيان المدني فامتنعت عن دفع الضرائب والرسوم، وتخلى المحامون عن الدفاع أمام المحاكم. وأعاد الناس الرتب والنياشين، والبراءات للحكومة، وأحرق التجار المسلمون جميع ما في مخازنهم من البضائع الإنجليزية، وترك المسلمون الموظفون مناصبهم في الحكومة فحل الهنادكة محلهم وهاجر كثير من المسلمين إلى الأفغان بعد أن تركوا أملاكهم وأرضهم في الهند واشتدت المقاطعة في البنغال اشتدادًا عظيمًا ليس له مثيل، فقد امتلأت سجونها بالمقاطعين من المسلمين حتى إذا أعيى الحكومة أمرهم صارت تقبض كل يوم على ألف شخص في الصباح وتطلقهم في المساء؛ لأن السجون لم تعد تتسع للمعتقلين.

                          وخطب اللورد ريدنج (الحاكم العام) في كلكتا فقال:
                          إنني شديد الحيرة من جراء هذه الحركة ولست أدري ماذا أصنع فيها.
                          ومن هذا السياق تستطيع أن تتصور قوة المسلمين في الحركة الوطنية، وضعفها في الهندوكية ولا شك أن الهندوكي بالغًا ما بلغ من النشاط السياسي لا يستطيع أن يجابه الحكومة، كما لا يستطيع أن يحارب المسلمين إلا بسلاح الدس. وقد اجتمع الزعماء المسلمون في عام 1921 وأعلنوا استقلال الهند استقلالاً فعليًّا وعينوا ولاة الولايات، وحكام المقاطعات، وقضاة المحاكم في جميع المدن.
                          فكان الوطنيون يرفعون قضاياهم أمامهم، ويتجاهلون محاكم الحكومة وبسبب ذلك تعطلت أعمال الحكومة والبوليس، وحدث ارتباك شديد في
                          (2/349)
                          الدوائر العالية بالهند غير أنها بدلاً من أن تستعمل سلاح القوة القاهرة لكفاح الشعب الأعزل لجأت إلى المناورات السياسية وهي أشد خطرًا، وكان بطل هذه المناورات المهاتما غاندي، فقد اتفق اللورد ريدنج مع غاندي على حل الوفاق القومي بين المسلمين والهندوك وقد أذيع الحديث بواسطة المصادر البريطانية بعد ستة أشهر. فقد نقل إلى اللورد الذي قال لغاندي:


                          "إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون، وأهدافها بأيدي زعمائها فلو أسرعنا وأجبناهم إلى طلباتكم وسلمنا لكم مقاليد الأحكام ألا ترى أن مصائر البلاد آيلة للمسلمين. فماذا يكون حال الهنادكة بعد ذلك؟ هل تريدون الرجوع إلى ما كنتم عليه قبل الاحتلال البريطاني وهل تفيدكم يومئذ كثرتكم وأنتم محاطون بالأمم الإسلامية من كل جانب، وهم يستمدون قوتهم منها عليكم. إذا كنتم تريدون أن تحتفظوا لأنفسكم باستقلال الهند فعليكم أن تسعوا أولاً لكسر شوكة المسلمين وهذا لا يمكنكم بغير التعاون مع الحكومة وينبغي لكم أيضًا تنشيط الحركات الهندوكية للتفوق على المسلمين في جميع الأعمال الحيوية وفي بلوغهم الدرجة المطلوبة فإني أؤكد لكم أن حكومة بريطانيا لا تتمهل في الاعتراف لكم بالاستقلال".
                          وقبل انصراف غاندي أوعز اللورد إليه أن يشير على (مولانا محمد علي) كتابة تعليق على خطاب كان ألقاه في مؤتمر الخلافة، وحمل فيه على الحكومة حملة عنيفة.

                          يقول في هذا التعليق:
                          "إن ما فهمته الحكومة كان مخالفًا لمرادي" فصدع غاندي بالأمر ودعا محمد علي لكتابة هذا البيان بعد أن أفهمه أن الكتاب سيكون سريًا لا يطلع عليه أحد غير اللورد فكتب البيان تحت التأثير السحري الذي كان لغاندي عليه. وما كاد الخطاب يصل إلى اللورد حتى أذيع في جميع أقطار الهند بعد أن صورته الحكومة بمقدمة قالت فيها:
                          (2/350)
                          إن محمد علي تقدم إلى الحكومة يطلب منها العفو عن الهفوة التي ارتكبها".
                          واتهم محمد علي من المسلمين بالتراجع، ورُمي بالخور والضعف غير أنه لم يحاول أن يصحح موقفِه إلا حين عقد مؤتمر في كراتشي (أغسطس ْ1920) حين أعلن سياسة المناوأة للحكومة لا موالاتها. فتلقى منه الهنادكة والمسلمون هذا التصريح بالارتياح التام ولكن عقب انفضاض المؤتمر أمرت الحكومة باعتقاله مع ستة آخرين من الزعماء، شوكت علي، حسين أحمد، كثار أحمد، ببرغلام محمد، الدكتور سيف الدين كتشلو. وساقتهم جميعًا إلى المحكمة المخصوصة للمحاكمة. فرفضوا الاعتراف بالحكومة وهيبة المحكمة عملاً بقرار المؤتمر السابق وامتنعوا عن الدفاع عن المتهم. ولكن المحكمة أدانتهم بمجرد الاتهام، وحكمت عليهم بالحبس عامين مع الأشغال الموجهة إليهم. وبعد الحكم أصدر محمد علي، وسيف الدين كتشلو منشورًا بتوقيعهما يخاطبان فيه الشعب وينصحانه بعدم الاهتمام بما حصل ويعدانه بأن الزعماء المعتقلين سيحضرون اجتماع الكونجرس القادم في ديسمبر بمدينة (أحمد أباد) سواء رضيت الحكومة أم كرهت لاعتقادهما أن الكونجرس سيعلن بصفة رسمية استقلال الهند، وتأليف حكومة وطنية هي التي ستقرر الإفراج عنهم. ولكن الحكومة لم تأبه لهذا المنشور؛ لأنها كانت واثقة من أن الكونجرس لن يفعل. ولما عقد اجتماع الكونجرس (ديسمبر سنة 1920) حضر غاندي وقال:
                          "بما أن الزعماء معتقلون، ولا سبيل للدولة معهم في منهاج أعمال المؤتمر فأقترح عليكم تعييني رئيسًا للمؤتمر، وتخويلي السلطة المطلقة لتنفيذ ما أراه صالحًا من الإجراءات".
                          فوافقته اللجنة على ذلك دون أن تنتبه إلى ما كان يضمره هو من
                          (2/351)
                          المقاصد التي قد لا تتفق مع خطة المؤتمر، وتقرر فيها أيضًا إسناد رئاسة مؤتمر الخلافة إلى أجمل خان، ومؤتمر مسلم ليك إلى حسرت مهاتي. وقبل اجتماع مؤتمر الخلافة قال غاندي للحكيم أجمل خان:
                          "إن إعلان الاستقلال في الظروف الراهنة غير مناسب".
                          وما زال به حتى أقنعه بالعدول عن إعلان ذلك مع أن الزعماء المسلمين كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، وكانت الحكومة تتوقع صدوره من أحزاب المسلمين بقلق شديد وما عساها تصنع لو تخلف غاندي عن الوفاء لها بوعده. وفي أغسطس 1921 أجمع الكونجرس تحت رئاسة غاندي في أحمد أباد فأعلن أن الوقت الذي يصرح فيه المؤتمر باستقلال الهند لم يحن بعد، فهاج الأعضاء وماجوا. وعقب انتهاء جلسات المؤتمر انعقد مؤتمر الخلافة، وتهيب الحكيم أجمل خان أن يثير عاصفة من قبل المسلمين فأمسك عن إعلان الاستقلال. أما حسرت مهاتي فقد أعلن في مؤتمر مسلم ليك أن الهند تريد أن تعرب بواسطتهم عن إرادتها في الاستقلال. فعلى الهنود أن يشعروا اليوم بأنهم مستقلون وألا يعترفوا بقوانين الحكومة الملغاة. فأمرت الحكومة بالقبض عليه وحكم عليه بالسجن عشر سنين مع الأشغال، وأجمعت الصحف الهندية على نقده ووصفه بالشدة وخفضت العقوبة إلى سنتين.
                          وعقب ظهور هذا الفشل الكبير في سياسة البلاد اعترت المسلمين شكوك في تصرفات غاندي، واستيقنوا أن زعماء الهنادكة متفقون على ذلك فدب الانشقاق بين الطرفين.
                          هذا هو النص الذي أورده العلامة الزعيم عبد العزيز الثعالبي عن دور المسلمين في الحركة الوطنية الهندية وكيف قضى عليه غاندي بالتآمر مع النفوذ البريطاني فانهار مخطط الاستقلال. وفي خلال سجن زعماء الحركة المسلمين تسلم غاندي الحركة وحولها إلى وجهة أخرى مخالفة مما دعا المسلمين من
                          (2/352)
                          بعد إلى المطالبة بكيان خاص لهم.
                          هذا هو غاندي في حقيقته التي لم تعرف في بلادنا وفي المشرق. والتي أخفيت عنا تمامًا خلال تلك الفترة التي كان المصريون بتوجيه من السياسة البريطانية يعجبون بغاندي وبدعوته إلى الاستسلام للنفوذ الأجنبي وقبول ما يعرض وعدم العنف.
                          وهذه هي الفلسفة التي استقاها غاندي من تولستوي وذاعت كثيرًا في بلاد المسلمين معارضة لمفهوم الإسلام الصحيح من الجهاد المقدس في سبيل استخلاص الحقوق المغتصبة إبان الحركة الوطنية المصرية حيث كانوا يجدون في غاندي وأخباره ما يؤيد النفوذ الأجنبي ويدفع الوطنيين المصريين ناحية التفاهم مع الاستعمار البريطاني، ولذلك فإن هذه الصفحات التي ينشرها بعض الكتاب لرسم صورة مزخرفة لغاندي يجب أن لا تخدعنا كثيرًا فإنه رجل هندوسي متعصب لهندوسيته كاره للمسلمين. وقد كان هو وتلميذه نهرو أشد عنفًا وقسوة في معاملة مسلمي الهند، وكانت أنديرا غاندي ابنة نهرو إبان حكمها قد حكمت على المسلمين في بعض المناطق بتعقيمهم عن طريق العمليات الجراحية عملاً على الحد من تعداد المسلمين في الهند.
                          فيجب علينا أن نعرف الحقائق ولا تخدعنا الأوهام الكاذبة والصور البراقة التي يراد بها تغطية حقيقة واضحة وجريمة كبرى هي أن غاندي في الحقيقة سرق الحركة الوطنية من الزعماء المسلمين وتآمر عليهم مع الحكومة البريطانية وأدخل أمثال محمد علي وشوكت علي وأبو الكلام آزاد وهم من أقطاب المسلمين، أدخلهم السجون، وسحب بساط الحركة الوطنية بالتآمر من تحت أرجلهم، وحال دون قيام حكومة هندية حرة يكون المسلمون فيها سادة.
                          وذلك لخدمة الاستعمار البريطاني وتسليم الهند إليه لتحويل المسلمين إلى أقلية فيها مما دعا المسلمين إلى العمل على قيام باكستان والتحرر من نفوذ
                          (2/353)
                          غاندي والهندوكية والاستعمار البريطاني.
                          راجع تقرير الشيخ عبد العزيز الثعالبي (البلاغ 1937) " (1).
                          __________
                          (1) "جيل العمالقة" (ص 297 - 304).



                          ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

                          تعليق



                          • * بطرس غالي الجد .. والحفيد وسجل الخيانات القذرة:
                            مسلسل لا ينتهي من مسلسلات الخيانة الصليبية ..
                            آية ذلك أن بطرس (بيتر) غالي كان مع التصور الغربي الصليبي الاستعماري قلبًا وقالبًا، مما يمكن معه القول أنه كان تلميذًا مخلصًا للمدرسة الاستعمارية التي رعاها (كرومر) وكان جده من طلائعها".

                            - "يحكي محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية السابق، في كتابه "السلام الضائع" عن فترة وجوده بكامب ديفيد برفقة أنور السادات عام 1978 م فيقول (2):
                            "ومن النوادر التي حدثت في ذلك الوقت، كان بطرس غالي يحكي عن خطابات التهديد التي وُجِّهت له بعد مرافقته للرئيس السادات في القدس، ثم أردف قائلاً بالفرنسية: "إنهم يتهموني بأني الجيل الثالث من الخونة في عائلة غالي" فقتلت ضاحكًا: "كيف؟ إني لا أعرف إلا اثنين فقط، هما جدك، وأنت، فمن الثالث؟ "أجاب بطرس: فيقولون إن عمي نجيب باشا غالي، قد تورط مع الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى".


                            * الجد بطرس قاتل المسلمين في دنشواي -الجيل الأول من الخونة في عائلة غالي:
                            - يقول آرثر إدوارد جولد سميث (الابن) (3).
                            __________

                            (2) "السلام الضائع" لمحمد إبراهيم كامل (ص 529).
                            (3) "الحزب الوطني المصري" ترجمة فؤاد دوارة، الهيئة العامة للكتاب 1983.
                            (2/354)
                            أطلق صيدلي شاب يدعى إبراهيم ناصف الورداني النار على بطرس غالي وأصابه بجراح خطيرة. على الرغم من نقله إلى المستشفى وإجراء عملية جراحية سريعة له لإخراج الرصاصات فقد أزهقت روحه، وتوفي في ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي.


                            وقُبِض على الورداني في موقع الجريمة واستجوبته النيابة العامة، واعترف بجريمته، وقرر أن دافعه للجريمة هو خيانة بطرس للأمة بتوقيع اتفاقية الحكم الثنائي للسودان، وبرئاسة لمحكمة دنشواي، وإحياء قانون المطبوعات، والحث على قبول اتفاقية قناة السويس (1).


                            ورفض مفتي الديار المصرية إصدار فتوى تؤيد إعدام الورداني، وبُذِلت جهود عديدة لإنقاذ حياته، وبالرغم من أن الجميع توقعوا أن ينجو الورداني من الموت بطريقة ما، فإنه شنِقَ في سرية تامة في 28 يونيو 1910.
                            بعد أربع سنوات تمامًا من تنفيذ أحكام دنشواي، وقبل أربع سنوات تمامًا من وقوع حادث اغتيال أخطر (2).



                            - وكان بطرس غالي وزيرًا للخارجية في وزارة مصطفى فهمي وظل يشغل هذا المنصب لمدة 13 عامًا، وكان طوال الخمس عشرة سنة السابقة حريصًا على إبقاء حسن الروابط سواء مع الاحتلال أو مع القصر (3).
                            ويقال إنه من قبل كان جاسوسًا على الحركة الوطنية لحساب الإنجليز (4)، "قبل أن يتولى وزارة الخارجية في وزارة الاستسلام والولاء المطلق للاحتلال
                            __________
                            (1) المصدر السابق (ص 202) نقلاً، عن محفوظات وزارة الخارجية البريطانية، من جورست إلى جراي، القاهرة 24 فبراير 1910، رقم 22.
                            (2) "بطرس بيتر غالي" لأبي إسلام أحمد عبد الله (ص 31) - بيت الحكمة.
                            (3) "تاريخ الوزارات المصرية" للدكتور يونان لبيب.
                            (4) "الحزب الوطني والنضال السري".
                            (2/355)
                            البريطاني" (1).
                            وقد رأس بطرس غالي بنفسه، المحكمة الإنجليزية الكافرة التي شُكلت للنظر في حادثة دنشواي، وكانت تضم في عضويتها:
                            مستر (وليم جود) المستشار القضائي بالنيابة.
                            ومستر (بوند) وكيل محكمة الاستئناف، والكولونيل (لاولو) القائم بأعمال المحاماة والقضاء في جيش الاحتلال.
                            و (أحمد فتحي زغلول) (2) رئيس محكمة مصر الابتدائية الأهلية.
                            و (عثمان رفقي بك) سكرتير الجلسة (3).
                            وكانت المشانق قد وصلت قرية دنشواي لإعدام المتهمين، قبل صدور حكم المحكمة (4)، وكان هذا واحدًا من الأسباب الرئيسية التي دفعت (إبراهيم الورداني) لاغتياله وفقًا لما جاء بأقواله.
                            أما السبب الثاني فهو امتياز شركة قناة السويس الذي كان مقررًا انتهاؤه في عام 1969، ولكن بطرس غالي إرضاء للقصر الحاكم من ناحية، ولسلطات الاحتلال من ناحية أخرى قد وافق على مشروع المستشار المالي البريطاني بول هارفي بحجة سد حاجة الحكومة المصرية إلى المال المستباح الذي يغترف منه الخديوي وحاشيته ووزرائه بلا رقيب أو حساب، فاتفق مع شركة القناة لمد عقد امتيازها لمدة أربعين عامًا، لقاء أربعة ملايين من الجنيهات تدفعها الشركة للحكومة إلى جانب جزء من الأرباح من سنة 1921 حتى سنة 1968.
                            __________
                            (1) "محمد فريد" لعبد الرحمن الرافعي.
                            (2) أحد تلامذة محمد عبده!! وشقيق سعد زغلول.
                            (3) أشهر القضايا المصرية.
                            (4) "تراجم مصرية وعربية" للدكتور محمد حسين هيكل.
                            (2/356)
                            وقد ظل المشروع سريًا بينهم وكأن مصر عزبة خاصة بهم وحدهم يبيعون فيها ويشترون، حتى كشفه محمد فريد، عندما حصل على نسخة منه، ونشرها بجريدة اللواء ليشهد كل شعب مصر على طغمة ممن تآمروا عليه وخانوه.
                            وافتضح سر فكرة المشروع الذي نص على أن يُجدد عقد امتياز الشركة، بحيث تبدأ التسعة والتسعون عامًا، من تاريخ توقيع العقد الجديد، فيمتد أجل الامتياز حتى 31 ديسمبر سنة 2008.
                            أما ثالث خيانات بطرس، إعادة قانون المطبوعات القديم، الصادر أثناء الثورة العرابية -والذي أُبطل العمل به- لردع الصحف التي تجاوزت الحدود، وأجادت عملها في كشف المستور من الخيانات والمؤامرات، بحيث تحول التهم الصحفية إلى محكمة الجنايات مباشرة.
                            ثم تجيء رابع الخيانات الكبرى عندما وقع بطرس غالي اتفاقية السودان، التي أعطت الإنجليز حق الحصول على نصف حقوق مصر في السودان، وأصبح حاكم السودان تحت وصاية الخديوي، بناء على طلب حكومة إنجلترا.
                            ولذا كله، عندما سُئل إبراهيم الورداني عن دوافع ما فعله، قال:
                            "لقد قتلته؛ لأنه خائن وجزاء الخائن هو البتر" (1).



                            ومن قبل لما شرعت النظارة العدلية (وزارة العدل) المصرية عام 1874 م، في التحضير لإنشاء المحاكم المختلطة -استجابة لأطماع النصارى التي تتجدد في صمت ودهاء بلا هوادة- بعد أن كانت تطبق نظم الشريعة الإسلامية فقط، أسندت إلى الجد بطرس باشا غالي بمعاونة محمد باشا قدري، ترجمة قوانين هذه المحاكم -التي احتوت على كثير من التشريعات
                            __________
                            (1) "الثائر الصامت" لعبد العزيز علي.
                            (2/357)
                            الفرنسية- إلى اللغة العربية، وهي التي ما زلنا نُحكَم بها حتى اليوم (1).

                            * الجيل الثاني من الخونة في عائلة غالي: نجيب وواصف غالي:
                            ظل نجيب غالي المسئول عن الخارجية المصرية طوال فترة الحماية البريطانية على مصر ومن أجل عيون الاحتلال، كان عينًا لهم بين صفوف الوطنيين، وكان عونًا لهم على تمثيل مصر في المحافل الدولية المشاركة في التآمر على تاريخ مصر.
                            ثم جاء شقيقه واصف بطرس غالي أفندي، ليشغل المناصب التالية على الترتيب في نفس التخصص:
                            - وزيرًا للخارجية في وزارة سعد زغلول باشا الأول.
                            (18 يناير 1924 - 24 نوفمبر 1924)
                            ولقد لعب دورًا ضخمًا في تحقيق أهداف الإنجليز لدى وزارة سعد الوفدية، والتي تمثلت في الاعتراف بوجود بريطاني فعال في مصر عن طريق المفاوضات، إذ أن مثل هذا الاعتراف أدى بشكل قوي إلى تحقيق مرمى الاستراتيجية البريطانية حينذاك في تثبيت دعاماتها بأرض مصر.
                            - وزيرًا للخارجية في وزارة النحاس باشا الأولى.
                            (16 مارس 1928 - 25 يونيه 1924)
                            - وزيرًا للخارجية في وزارة النحاس باشا الثانية.
                            (1 يناير 1930 - 19 يونيه 1930)
                            - وزيرًا للخارجية في وزارة النحاس باشا الثالثة.
                            (9 مايو 1936 - 31 يوليو 1937)
                            __________
                            (1) "بطرس بيتر غالي" (ص 37).
                            (2/358)
                            - وزيرًا للخارجية في وزارة النحاس باشا الرابعة.
                            (أغسطس 1937 - 30 ديسمبر 1937)
                            ويلاحظ أن واصف بطرس غالي كان أول وزير خارجية ممثلاً لحزب الوفد مع سعد زغلول في وزارته الأولى، ثم اختفى ليعود ثانية ملازمًا للتشكيلات الأربع لوزارات النحاس، ثم انتهى بانتهاء النحاس ولم يُسمَع له صوتٌ بعد ذلك.
                            ولم يحتفظ له التاريخ بسطر واحد، يمكن أن يشهد له أنه كان لمصر قبل الإنجليز، أو أنه تمثل موقفًا وطنيًا أعلن من خلاله رفضه للاحتلال والوصاية.
                            وحتى لا تترك أسرة غالي مجالاً لتَلَمُّس براءتها من هذه الأدوار المشبوهة في تاريخ مصر، أصدر (مترى بطرس غالي) عام 1938 كتابًا على غاية من الخطورة في تلك الحقبة الخطرة، تحت عنوان "سياسة الغد" وضع فيه الخطوط العريضة للسياسة الوطنية المصرية تجاه الوجود الاستعماري، ظهرت من خلال سطوره، روح تعاونية مع البريطانيين، ثم تَذَمَّر من اهتمام المصريين وقادتهم، بالاستقلال والوطنية (1).

                            * بطرس غالي الحفيد ودوره الجهنمي في الصلح مع إسرائيل واليهود أصهاره:
                            - قال الباحث عبد العاطي محمد أحد تلاميذ بطرس غالي الأوفياء في حديث له بمجلة السياسة الدولية أن بطرس غالي كان "من أشد المتحمسين للسلام بين العرب وإسرائيل" (2).
                            __________
                            (1) المصدر السابق (ص 27 - 28).
                            (2) مجلة السياسة الدولية أبريل 1992 (ص 77).
                            (2/359)
                            * بطرس غالي الخائن فرعون السلام مع اليهود:
                            - ومن مذكرات موشى ديان (1) يقول ديان:
                            "اقترحت على غالي أن يطلب من السادات ألا يتكلم في نقاشه مع الحكومة الإسرائيلية، عن اشتراك هذه المنظمة في المفاوضات؛ لأن رد الحكومة سيكون بالنفي، ووعدني بذلك، وفعلاً لم يذكر السادات منظمة التحرير الفلسطينية في خطابه الذي ألقاه في اليوم التالي.
                            .. وعند مدخل فندق الملك داود، استطعنا بصعوبة بالغة اختراق جموع المضيفين والصحفيين. وقد رافقت بطرس غالي حتى غرفته ثم تركته وذهبت" (2).
                            كما أشار ديان في مذكراته أيضًا، إلى أنه شعر بالارتياح لمحادثاته مع غالي، حيث قال: "إننا نظمنا خلافاتنا، وطالب ديان غالي عوضًا عن بحث المشاكل، الكلام عن العلاقات التي ترغب إسرائيل في إنشائها مع مصر .. فركز غالي على تحديد إطار للتسوية الشاملة" (3).
                            ولما تبادل ديان مع غالي الكلام حول مدينة القدس الشريفة.
                            - قال ديان لغالي:
                            "إننا عندما نبحث مستقبل القدس، فإننا سنعمل جيدًا إذا لم نبدأ البحث بسيادة القدس، بل نعالج مشاكل الأماكن المقدسة" (4).
                            وبدلاً من أن يغضب بطرس غالي في وجه ديان، والذي أثار دهشة
                            __________
                            (1) "أيبقى السيف الحكم" ترجمة لكتاب "الاختراق" لموشى ديان ط 2 1990.
                            (2) السابق (ص 65).
                            (3) "بطرس غالي" (75).

                            (4) المصدر السابق.
                            (2/360)
                            ديان، أن بطرس علق قائلاً:
                            - نعم، إنه يجب أن نتطلع لمحاولة إيجاد مفهوم جديد يتعلق بسيادة القدس.
                            كانت الإجابة غامضة، لكنها على كل حال تسير في نفس اتجاه ديان، مما شجعه على طرح السؤال الأكبر.
                            - إذا كان بإمكانك أن تبحث مع ( ... ) مسألة السيادة على القدس، ذلك أن اهتماماتهم ومفهومهم عن القدس قد أصبح مفهومًا قديمًا وقد طواه النسيان؟
                            فتأمله غالي ثم أجابه بهدوء:
                            - إنك على حق" ا. هـ.



                            "وشارك غالي في المركز الأكاديمي المصري -الإسرائيلي بالقاهرة كعضو عامل وفعال، من خلال محاضراته وجهوده الدءوبة لبث ثقة متبادلة بين الشعبين" وحث تلاميذه على ترسيخ مفاهيم التطبيع، وإنشاء المصطلحات السياسية والثقافية والفكرية التي تعمل على إذابة الجليد بين المصريين والصهاينة.
                            - ثم يضيف الدكتور نبيل السمان (1) قائلاً:
                            "وَأحَبَّ الدكتور غالي أن تُلتَقط له صور تمثل معركة قاديش التي جرت عام 299 قبل الميلاد، والتي جرت بين مصر الفرعونية وإمبراطورية الحيثيين، ونتج عن هذه المعركة الفاصلة، قناعة لدى فرعون مصر، رمسيس الثاني، والذي تمتع بشهرة عالمية واسعة، وأول من وقع معاهدة سلام مع خصومه من منطق قوة، وليس ضعف، إذ كان يشعر بسطوته، وضعف أعدائه، ولكن
                            __________
                            (1) في كتابه "بطرس غالي والحكومه العالمية".
                            (2/361)
                            السلام الذي أرسى رمسيس دعاتمه، يمكن أن يمتد ليومنا هذا حسب ما يشير إليه الدكتور غالي:
                            "ما توصل إليه سكان المنطقة قبل ثلاثة آلاف سنة، يمكن لأبنائهم أن يحاكوه ويقلدوه" (1).



                            ولكن مقولة الدكتور غالي، لا تنطبق على المصريين أو العرب، حسبما نرى ويرى هو، ولكنها تنطبق تمامًا -وهذا ليس بغائب عن فهم الدكتور- على الإسرائليين الذين يملكون من أسباب المنعة والقوة من الأسلحة النووية، والتقليدية .. ما لا يملكه خصومهم العرب.
                            ونظرًا لكون الدكتور غالي أحد مهندسي معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، والتي أدت إلى توقيع معاهدات كامب ديفيد -السرية والعلنية- فإنه يشعر أن من حقه وضع الفرعون رمسيس -كمثله الأعلى- في التسامح والسلام الواقعي ولذا، كان سباقًا، فقبل مشاركته السادات في رحلته التاريخية إلى القدس وضع تصورًا كاملاً لتفاصيل اتفاقية السلام مع الصهاينة، وحدد نقاط اهتمامه بضرورة التعايش السلمي بين مصر الفرعونية (!! ) والصهيونية ذات الأصول الفرعونية أيضًا، ويشير إلى ذلك قائلاً:
                            "لقد عملت في المفاوضات مع إسرائيل لسنوات طويلة، حتى أن الإسرائيليين اتهموني بأني المهندس الأكاديمي لمبادرة الرئيس السادات ( ... ) لكن ما حدث أن الإسرائيلبن بحثوا في مقالاتي، ووجدوا مقالاً كنت قد كتبته في مجلة السياسة الدولية، وذكرت فيه صراحة، أنه لا بد من إيجاد صيغة للتعايش السلمي مع إسرائيل.
                            ووجدوا أيضًا أنني قمت في عام 1975 بعمل ندوة في مركز
                            __________
                            (1) المصدر السابق (ص 66).
                            (2/362)
                            الدراسات السياسية والاستراتيجية (بمؤسسة الأهرام)، ودعوت فيها بعض العناصر الصهيونية، وعلى هذا الأساس بنوا افتراضهم هذا ( ... ) " (1).
                            __________
                            (1) "بطرس غالي والحكومة العالمية" (ص 67 - 68).




                            ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

                            تعليق


                            • * بطرس غالي وما أدراك ما بطرس؟
                              كانت نقطة التحول الكبرى في حياته العملية، تدريسه في جامعة كولومبيا الأمريكية من خلال منحة فولبرايت الأمريكية وهي هيئة صليبية صهيونية ومركزها وتمويلها المالي من أمريكا.

                              - وعندما تسلم بطرس ملف أفريقيا في الخارجية المصرية كانت الغالبية العظمى من الدول الأفريقية ملتزمة بقطع علاقاتها مع الكيان اليهودي ثم تغيرّ الوضع على يد بطرس صدق أو لا تصدق؟!
                              ففي إحدى ندوات مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجامعة القاهرة سأل أحد الباحثين بطرس غالي:
                              - كيف تذهب إلى إسرائيل في إطار العلاقات المصرية الإسرائيلية، وتطالب الأفريقيين بعدم إقامة علاقات مع إسرائيل؟!
                              كان السؤال في موضعه الصحيح حيث تزامن مع تهافت عدد من الدول الأفريقية لاستعادة علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، استجابة للضغوط الأمريكية عليها، وكان رد بطرس عجيبًا، فقال:
                              - أنا أقول للأفريقيين أن مصر أقامت علاقاتها مع إسرائيل لاستعادة أراضيها، أما أنتم فإن إسرائيل لا تحتل أراضيكم، وبالتالي لماذا تقيمون معها علاقات!!
                              واندهش بطرس من طرح إحدى معيدات كلية الاقتصاد والعلوم



                              (2/363)
                              السياسية يومها حول حتمية توظيف مصر للعنصر الإسلامي لمحاصرة التغلغل الصهيوني في القارة السوداء، وأنه بدون الاستناد إلى الظهير الإسلامي، فإن التنافر بين مصر والكيان الصهيوني في أفريقيا سيكون في صالح الأخيرة التي تحرص على توظيف عقيدتها اليهودية وتحظى بدعم الولايات المتحدة ومنظمات التبشير في آن واحد.
                              وكان مثار دهشة بطرس أن علاقات الكيان الصهيوني مع أفريقيا تنحصر في مجال التعاون الأمني والزراعي، حيث تقوم بتدريب أطقم الحراسة لعدد من الرؤساء الأفارقة، وترسل عددًا من خبرائها في الزراعة إلى عدد من الدول الأفريقية .. فقط ليس أكثر من هذا!! وهل هناك تعاون أكثر من هذا!! (1).

                              * كفى كفى يا بطرس:
                              صدرت عن الدكتور بطرس غالي سكرتير الأمم المتحدة عدة تصريحات منذ بدأ مهام منصبه أثارت غضب واستياء الكثيرين؟ فقد صرح بأن القرار 242 غير ملزم لإسرائيل. وقد قال هذه العبارة باللغة العربية، والمعنى واضح تمامًا، وليس هناك أي مجال للتحجج بأن الترجمة غير دقيقة.
                              وعلى مدى 25 عامًا في صدور القانون 242 تولى خلالها منصب السكرتير العام للأمم المتحدة عدة أشخاص، لم يصدر عن أي منهم مثل هذه العبارة التي قالها الدكتور غالي والتي تفتح الباب أمام إسرائيل لمزيد من التبجح والتهرب من تنفيذ قرار الأمم المتحدة.
                              __________
                              (1) مجلة الإصلاح الخليجية/عدد 30/ 12/1992، ويقصد بطرس هنا أن الكيان الصهيوني لم يعلن أنه يوظف تمسكه بعقيدته اليهودية في تدريبه لأطقم حراسة الرؤساء الأفارقة، أو خبراء الزراعة التابعين لجهاز الموساد الصهيوني مباشرة.
                              (2/364)
                              طلب المسئولون الفرنسيون من الدكتور بطرس غالي بعد انتهاء العدوان الهمجي البربري للصرب على جمهورية البوسنة والهرسك بأن ترسل الأمم المتحدة قوات لحفظ السلام ومنع اعتداءات الصرب على البوسنة والهرسك، فرفض الدكتور بطرس غالي إرسال قوات من الأمم المتحدة؛ لأن القدرات الحالية للأمم المتحدة لا تسمح بذلك! وهو أمر لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال.
                              ويثير الشكوك حول حياد الأمم المتحدة في التعامل مع دول العالم المختلفة، إرسال أكثر من أربعة عشر ألف جندي من القوات تحت أعلام الأمم المتحدة بسلاحهم ومدرعاتهم إلى كرواتيا قبل أن يصدر عن الدكتور غالي رفضه إرسال قوات إلى البوسنة والهرسك بأسابيع قليلة.
                              ثم رفض الدكتور غالي طلب مجلس الأمن بإشراف الأمم المتحدة على عملية تسليم الأسلحة الثقيلة بمقتضى اتفاقية لندن، وبعث بخطاب شديد اللهجة، لأعضاء مجلس الأمن يحتج فيه على عدم إشراكه في اتخاذ القرار، وقال: إنه لن يوصي بتنفيذه، موضحًا أن أحد أسباب رفضه يرجع إلى مسألة الأولويات.
                              وبعد ذلك بأيام تقدم الدكتور غالي يطلب من مجلس الأمن الموافقة على زيادة عدد قوات الأمم المتحدة في كرواتيا، وتمت الموافقة على ذلك، أي أنه بكل وضوح يكيل بمكيالين.


                              يرفض إرسال قوات عددها ألف ومائة رجل إلى البوسنة والهرسك للسيطرة على الأسلحة الثقيلة، وفي نفس الوقت يطلب زيادة القوات في كرواتيا التي يوجد بها بالفعل أكثر من أربعة عشر ألف رجل من قوات الأمم المتحدة.
                              إن الاختلاف الجذري الذي حدث في تقييم العالم للدكتور بطرس غالي
                              (2/365)
                              يوم توليه مهام منصبه كسكرتير عام للأمم المتحدة والتقييم الذي تردده الصحافة الدولية الآن، ليس من قبيل الصدفة، بل على ما أعتقد أنه عقاب من السماء للدكتور بطرس، على رفضه منذ شهور إرسال قوات من الأمم المتحدة لحفظ السلام في البوسنة والهرسك مثل ما تم في كرواتيا.


                              - إن عشرات الآلاف من القتلى قد صعدت أرواحهم إلى الله تشكو وأن عشرات الآلاف من الجرحى الذين يتألمون لا يكفون عن التوجه إلى الله بالدعاء ( ... ) وقد نقلت شبكة تلفزيونية أمريكية عدة مشاهد تصور فظائع معسكرات الاعتقال الصربية لأبناء البوسنة والهرسك من المسلمين، وصفها مراسل الشبكة التلفزيونية بأنها وحشية لا مثيل لها في التاريخ".

                              * قبل أن نفقد الذاكرة:
                              نشرت مجلة الدعوة السعودية (25/ 2/1993) الخبرين التاليين:
                              - (جثمان) مجلس الأمن:
                              قام المبعدون الفلسطينيون في مخيم مرج الزهور بالجنوب اللبناني، بتشييع جثمان مجلس الأمن إلى القبر وذلك بعد أن رضخ المجلس لشروط ومطالب إسرائيل ورفض تنفيذ قراره رقم 799 الذي يقضي بعودة جميع المبعدين إلى الأراضي المحتلة فورًا.
                              قام المبعدون بمسيرة في موقع إبعادهم، حملوا فيها (جثمان) مجلس الأمن، وقد كتبت عليه عبارة "مصداقية مجلس الأمن إلى مثواها الأخير" وألصق على وجه (الجثمان) علم الأمم المتحدة.
                              وتقدم المسيرة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي المتحدث باسم المبعدين والدكتور عزيز دويك والشيخ حامد البيتاوي خطيب المسجد الأقصى .. نعم هذا هو مجلس الأمن!!.
                              (2/366)
                              * بطرس والمُبْعَدُون!!
                              من الواضح أن الأمين العام للأمم المتحدة بطرس بطرس صرف نظره عن قضية المبعدين، كما صرف نظره عن الأعمال الإجرامية البشعة التي يقوم بها الصرب ضد المسلمين. كما غفا بصره عن الأعمال الإجرامية التي تقوم بها الهند في كشمير والتي يقوم بها راموس في الفلبين ضد المسلمين، والتي تقوم بها السلطات البورمية ضد مسلمي أركان .. ولكن بطرس بطرس متيقظ تمامًا لأي تحرك مسلم حتى ولو كان للدفاع عن النفس .. فمنذ أيام أصدر بطرس بيانًا شديد اللهجة ندد فيه بالهجوم الذي شنته القوات المسلمة على مواقع صربية قرب مطار سراييفو .. وكان لسان حاله يقول: "على المسلمين أن يسلموا أعناقهم لتقطعها خناجر الصرب ولا يجوز لهم حتى التأوه".
                              القوات المسلمة في البوسنة شنت هجومًا كبيرًا على الصرب في منطقة ابليدزا القريبة من المطار .. !!

                              * بطرس يذبح فلسطين على مذبح الأمم المتحدة الماسونية وفي ظل حكومته العالمية:
                              - نتيجة من النتائج:
                              إن قول بطرس بأن قرار الأمم المتحدة كانت رقم 242 غير ملزم هو وصف لم تستطع إسرائيل نفسها أن تدعيه، بل كانت تلف وتدور حوله بالادعاء بأنها كانت في حالة دفاع عن النفس في حرب 1967.
                              وكانت أول مرة تشير إسرائيل إلى شيء قريب مما قاله بطرس غالي، عندما خرج الإرهابي مناحم بيجين بعد اجتماعه مع السادات في الإسماعيلية ليقول في مؤتمر صحفي:
                              (2/367)
                              "إن الرئيس السادات اعترف لي بأن قرار عبد الناصر مطالبة سحب القوات الدولية من سيناء، يحمل معنى العدوان وأن إسرائيل كانت محقة فيما اتخذته من إجراءات".
                              ولم يعلق السادات على هذا الكلام وقتئذ!!
                              وكان هذا التقسيم لقرارات الأمم المتحدة إلى قرارات ملزمة وأخرى غير ملزمة هو الأول من نوعه في تاريخ المنظمة الدولية (1).

                              * بطرس غالي صاحب فكرة جامعة سنجور التنصيرية:
                              - قال بطرس غالي: "إن الدائرة التي يجب أن تنال اهتمامنا يجب أن تكون الدائرة الأفريقية؛ لأن مصر دولة أفريقية بالأساس، ليس فقط كذلك، ولكنها دولة أفريقية ممتدة جنوبًا حيث تظهر منابع النيل".
                              ولم يكتف د. بطرس بطرح هذا التوجه السياسي المشبوه، على شعب مصر الإسلامية العربية لسلخ مصر عن الأمة التي تنتمي إليها، لغة وعقيدة وجغرافية وتاريخًا وحضارة، بل أراد وحقق ما أراد، بوضع أسس عملية لهذه العلاقة التاريخية" (2).
                              - فلقد أعاد الجسور بين الكنيسة المصرية وبعض الكنائس الأفريقية التي كانت قد اتخذت مواقف عكسية بعد انفصال الكنيسة الأثيوبية عنها.
                              - ثم إنه هو صاحب فكرة إنشاء الجامعة الدولية الناطقة بالفرنسية، على غرار الجامعة الأمريكية في مصر والتي تحرر عقد إنشائها في 27/ 5/1989 بالعاصمة السنغالية داكار وبذل جهدًا جبارًا ليكون مقرها الإسكندرية، وأطلق
                              __________
                              (1) "بطرس بيتر غالي" (ص 173).
                              (2) "بطرس بيتر غالي" (ص 8).
                              (2/368)
                              عليها اسم "جامعة سنجور" ومن مهامها الأولى بعد مهمة التنصير، صناعة زعماء المستقبل للدول الأفريقية في ظل النظام الدولي الجديد الذي تم التخطيط له منذ سنوات.
                              وقد قام الرئيس مبارك بافتتاحها في 4/ 11/1990 وحضر الافتتاح الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، والرئيس السنغالي عبده ضيوف، والرئيس الزائيري موبوتو سيسي سيكو، وولي العهد البلجيكي، والرئيس السنغالي السابق ليوبولد سنجور الذي أطلق -بطرس- اسمه على الجامعة.

                              * ضيوف بطرس يوم افتتاح جامعة سنجور التنصيرية:
                              وإذا كانت فكرة إنشاء هذه الجامعة تشكل أهمية في التدليل على خيانات بطرس للتاريخ ودأبه على زرع هذه القلاع الكنسية في بلاد المسلمين، فإن الدليل الذي لا يصح إغفاله، هو تسليط الضوء بإيجاز شديد على ثلاثة ممن استضافهم بطرس لافتتاح الجامعة.

                              * سنجور:
                              هو (ليوبولد سنجور) الذي تحمل الجامعة اسمه تعبيرًا من بطرس عن اعتزازه به وإشادة بدوره التنصيري في أفريقيا.
                              وهو صليبي متعصب يكره الإسلام والمسلمين.
                              - ولد من أبوين مسلمين في السنغال، ثم خطف إلى فرنسا منذ صغره، وأُعد إعدادًا متميزًا ليكون هو أول رئيس لجمهورية السنغال بعد تحررها الشكلي من الاحتلال العسكري الفرنسي الصليبي، فمارس كل أشكال الإرهاب والقهر ضد المسلمين هناك، ومنع إنشاء المساجد، ولم يسمح بأي نشاط اجتماعي للمسلمين في غير الأطر التنظيمية التي تسمح بها الكنائس هناك.
                              (2/369)
                              وبذلك فإن اختيار اسم الجامعة التي أقيمت على أرض الإسكندرية،
                              بأن يكون اسمًّا لصليبي، ذي أصول إسلامية، فإنما يحمل رسالة ودلالة، لمسلمي مصر من ناحية، ولنصارى فرنسا وما يتبعهم من كنائس في بلاد المسلمين من ناحية أخرى.

                              * موبوتو سيسي سيكو:
                              هو القديس (62 عامًا) الذي تمر أشعة الشمس من خلال أشجار الغابة والزجاج الملون لنوافذ كنيسته، فتصنع حول رأسه هالة من الضوء متعددة الألوان، قابضًا يديه الاثنتين معًا على صدره، منحنيًّا يصلي في صمت الرهبان.
                              تولى الحكم الديكتاتوريَ المطلق لأكثر من 35 مليون زائيري منذ 27 عامًا، لم يغب فيها مرة واحدة عن قُداس يوم الأحد إلا لسفره خارج بلاده، وما خرج يومًا من قداسه، إلا واجتمع بحاشيته في القصر الرئاسي المجاور للكنيسة، ليحتسي شرابه المقدس من الخمر (شمبانيا لوران بيرون الوردية).
                              اتخذ لنفسه اسمًا يصعب على أي بشر أن يحمله، أو يترك سلطانًا لحكم وقع تحت يديه، وهو: "موبوتو سيسي سيكو كوكو نغبيندو وازا بانغا".
                              ومعناها: "المحارب شديد المراس الذي وبسبب قوة تَحَمُّله وصلابته، سيفوز خارجًا من نصر إلى نصر مخلفًا النار في أثره".

                              * فرانسوا ميتران:
                              أما عن فرانسوا ميتران ذلك الصليبي المتعصب، فيكفي أن نذكر عبارته الوقحه التي بثها عن طريق وكالات الإعلام الصهيونية في ديسمبر الماضي 1992 وتناقلتها أجهزة الإعلام العربية بغباء شديد قوله:
                              "إنني لا أرضى على ما يحدث في البوسنة من جرائم بشعة، لكنني لن
                              (2/370)
                              أسمح بأن تكون البوسنة دولة إسلامية في قلب أوربا".

                              * بطرس وميوله الصليبية للغرب:
                              في ندوة نظمتها جمعية القانون الدولي في لاهاي عام 1956 "وقف بطرس غالي الأستاذ بكلية الحقوق جامعة القاهرة وقتها؛ ليؤيد التدخل الفرنسي والإنجليزي في قناة السويس .. وعندما كرر بطرس غالي ترديد هذه الآراء غير الشريفة لم يتمالك الدكتور عز الدين فودة -أستاذ المنظمات الدولية في جامعة القاهرة نفسه، وطرح بطرس غالي أرضًا، وانهال عليه ضربًا بالأيدي والنعال، ولم يخلّصه منه إلا عم "حسّان" مسئول المطبعة بالكلية" (1).

                              * اختيار بطرس سكرتيرًا وأمينًا عامًا للأمم المتحدة بيت صهيون:
                              - تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) (2):
                              "إن الذي قد يغيب عن الوعي العام، هو أن هيئة الأمم المتحدة هي البديل الصهيوني الأمريكي من عصبة الأمم المتحدة، التي قامت بعد إعلان هدنة الحرب العالمية الأولى في الحادي عشر من نوفمبر سنة 1918، ونيط بها تنفيذ الميثاق الذي أعلنه مؤتمر السلام من قصر فرساي بجنيف في العالم التالي للهدنة، وفيه تقرر وضع فلسطين تحت انتداب بريطانيا العظمى التي سبق أن أعلنت (وعد بلفور) من لندن في نوفمبر سنة 1917.
                              من شهود العصر، الكونت دي سان أوكلير (السفير الفرنسي بلندن وقتئذ) وقد سجل في كتابه: "في جنيف نحو السلام" نص برقية من ألف
                              __________
                              (1) مجلة الإصلاح الخليجية 30/ 12/1962.
                              (2) صحيفة الأهرام 4/ 2/1993.
                              (2/371)
                              * كلمة تلقاها "الرئيس الأمريكي نيلسون" -رئيس مؤتمر السلام- يوم 18/ 3/1919 م من (يعقوب شيف) ممثل المنظمة اليهودية في الولاية المتحدة الأمريكية، عن القضايا الخمس المعروضة على مؤتمر السلام، وأولاها قضية فلسطين.
                              وأكد السفير أن النصوص التي تضمنتها معاهدة فرساي، هي من وضع (يعقوب شيف) وأبناء جلدته، وذلك ما صرح به (حاييم وايزمان) في خطابه في المؤتمر الصهيوني في بودابست سنة 1919، قال:
                              "إن منظمتنا ستلعب دورها في تنظيم العالم الجديد بعد الحرب، إننا نحن الذين صنعنا عصبة الأمم، وسوف نتابع السير وراء هذه المنظمة الدولية لتوجيهها ( ... ).
                              ومن ثم كانت المنظمة الصهيونية وراء نقل عصبة الأمم من جينيف إلى نيويورك باسم هيئة الأمم المتحدة، مفيدة بمجلس الأمن، الذي يحكم العالم الجديد بحق (الفيتو)، ينقض ما لا ترضاه الشرعية الدولية لهيئة الأمم المتحدة.
                              وجاء في محاضر مؤتمر المحافل الماسونية العالمية المنعقد في 28، 29، 30/ 6/1917 - أي قبل أن يفكر أحد من غير اليهود في تأسيس عصبة الأمم:
                              "إنه لمهم جدًّا أن نبني مدينة المستقبل السعيدة. ومن أجل تلك المهمة الماسونية الصادقة دعيتم اليوم. لقد حولنا هذه الحرب إلى نزاع رهيب بين الديمقراطيات المنظمة والقوى العسكرية الجبارة. لقد تحطمت في هذا الإعصار القوى القديمة (القياصرة) ولسوف تجرف رياح الحرية (المزيفة) بقية الحكومات، فلا مندوحة إذن من صنع سلطة عالمية عليا. إن الماسونية صانعة السلام، تطرح على بساط البحث موضوع هذه الهيئة الجديدة: عصبة الأمم".
                              (2/372)
                              * بعد قيام عصبة الأمم:
                              - قال اليهودي جسي سامتر في كتابه "الدليل إلى الصهيونية": "إن عصبة الأمم فكرة يهودية قديمة".
                              - وقال اليهودي الماسوني لينهوف في جريدة "واينر فريمور رازايتنج" عدد 6 عام 1927 م:
                              "لقد صدق الذين يربطون بين عصبة الأمم والماسونية؛ لأن عصبة الأمم كما هي اليوم مشتقة من تعاليم الماسونية وأفكارها".
                              - وقالت جريدة (
                              Judische Rundschau) اليهودية في عددها 83 عام 1921 م.
                              "المكان الصحيح لعصبة الأمم ليس "جنيف" أو "لاهاي" .. لقد حلم جينزبرج بهيكل على جبل صهيون حيث يدشن ممثلو جميع الأمم الهيكل (المزعوم) في المكان الأبدي. ولا يمكن أن يقوم سلام ما لم يتوجه جميع الناس في العالم لزيارة ذلك الهيكل كسيّاح".
                              - وقال المؤرخ اليهودي إسرائيل زانجويل في جريدة "الجويش جارديان"
                              اللندنية بتاريخ 11/ 6/1920 م: "إن معاهدات الأقليات هي المحك لعصبة الأمم، وذلك هو اهتمام اليهود وطموحهم".
                              وقال الصهيوني ناحوم سوكولوف في المؤتمر اليهودي الذي عقد في كارلسباد بتاريخ 27/ 1/1922 م ونشرته جريدة نيويورك تايمز في اليوم التالي:
                              "إن عصبة الأمم فكرة يهودية، لقد صنعناها بعد كفاح دام 25 سنة.
                              وستكون القدس يومًا ما عاصمة للسلم العالمي. إن ما حققناه نحن اليهود بعد كفاح 25 سنة، يرجع الفضل فيه إلى زعيمنا الخالد تيودور هرتسل".
                              (2/373)
                              * الأمم المتحدة:
                              أنشأ اليهود عصابة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى التي دبروها وخططوا لها، لتقرر بدء عملية تهويد فلسطين، ولتشرف على تنفيذ تلك العملية الإجرامية.
                              ثم دبر اليهود وخططوا للحرب العالمية الثانية، وبعد انتهائها أنشأوا الأمم المتحدة لتقوم بالمرحلة الثانية في جريمة اغتصاب فلسطين، بإصدار قرار تقسيمها وإنشاء دولة لليهود على أرضها المقدسة.
                              ومنذ إعادة تأسيس بيت صهيون باسمه الجديد (الأمم المتحدة) وهي تضم 60% من موظفيها من اليهود الصهاينة مع أن نسبة عدد اليهود إلى سكان العالم لا تزيد على 0. 5% أي نصف في المائة.
                              وكانت الأمم المتحدة من إنشائها حتى يومنا هذا أداة في خدمة فكرة الصهيونية، وكل قرار لها يتعارض مع رغبة اليهود يُجمَّد، ولا تجد من يثيره أو يطالب بتنفيذه؛ لأن أكثر من 100 دولة تعترف بإسرائيل وتتبادل معها التمثيل السياسي والقنصلي وترسل سفراءها إلى مقر الحكومة اليهودية في القدس.
                              وليس هذا فقط وحسب، بل إن الأخطبوط اليهودي المحتل ينشب أظفاره في كيان الأمم المتحدة، يوجه نشاطها إلى مصلحة الصهيونية العنصرية، والإحصائية التالية تثبت جانبًا من قوة ذلك الأخطبوط، وهذه الإحصائية عن السنوات الأولى التي أعقبت تأسيس هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945 م تثبت جانبًا من قوة ذلك الأخطبوط، الذي ما زال باسطًا أذرعه على كل إدارات الجمعية، ومسيطرًا على كل مناطق النفوذ والقرار فيها، وبيانها كما يلي:
                              تريجفي لي: أول سكرتير عام للمنظمة، يهودي ويظن الناس أنه عميل يهودي فقط.
                              (2/374)
                              بنجامين كوهين: مساعد السكرتير العام لشئون الإعلام - يهودي.
                              ك. ويتز: مدير المكتب الإداري - يهودي.
                              أ. روزنبرج: مستشار خاص للإدارة الاقتصادية - يهودي.
                              د. وينتروب: مدير الإدارة الاقتصادية - يهودي.
                              بنويت ليفي: مدير قسم الأفلام - يهودي.
                              ماكس أبراموفتش: نائب مدير الهيئة الإدارية - يهودي.
                              أ. فيلر: مدير الإدارة القانونية - يهودي.
                              د. زابلودسكي: مدير إدارة المطبوعات، قسم الوثائق - يهودي.
                              ج. رابينوفتش: مدير قسم الترجمة - يهودي.
                              ج. شابيرو: مدير مركز الأمم المتحدة في جنيف - يهودي.
                              م. بيرجمان: مدير التنفيذات - يهودي.
                              د. مورس: مدير عام مكتب العمل الدولي في جنيف - يهودي.
                              م. مندلز: سكرتير البنك الدولي - يهودي.
                              ك. جت: مدير إدارة الاعتمادات المالية الدولية - يهودي.
                              و. التمان: مساعد إدارة الاعتمادات المالية الدولية - يهودي.
                              م. برنشتاين: مدير الأبحاث في الاعتمادات المالية الدولية - يهودي.
                              جوزيف جولد: المستشار الثاني في الاعتمادات المالية - يهودي.
                              ج. ماير: المدير الفني لهيئة الصحة العالمية - يهودي.
                              م. كوهين: مدير مؤسسة اللاجئين الدولية - يهودي.
                              ***
                              (2/375)
                              * وتم تعيين بطرس غالي أمينًا عامًا للأمم المتحدة وهذه أقوال صحف الغرب:
                              - نشرت صحيفة الفيجارو الفرنسية مقالاً تحت عنوان:
                              بيتر غالي الأمين العام الجديد (الرجل الذي قاد السادات إلى القدس) (1).
                              - وفي مقال لصحيفة "انترناشيونال هيرالد تريبيون" (2) تحت عنوان:
                              (اختيار مصري من قِبَل الأمم المتحدة ... ).
                              حدد الكاتب ثلاثة عناصر أساسية، هي التي أهَّلت الدكتور (بطرس) للنجاح وهي:
                              1 - انتماؤه إلى المسيحية:
                              وهو أمر جعله "مقبولاً لدى العديد من الأعضاء في الأمم المتحدة".
                              2 - أن زوجته يهودية:
                              وهو أمر جعله مقبولاً لدى اللوبي الصهيوني الذي يحكم بيت الأمم هذا.
                              3 - دوره الجهنمي:
                              أثناء موافقته للرئيس السادات في زيارته التاريخية للقدس 1977 م، ثم محادثات كامب داود، ثم تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني.
                              - وهي العناصر الثلاثة نفسها التي ذكرها الكاتب الإنجليزي جيمس بون في صحيفة "التايمز" اللندنية تحت عنوان: بطرس غالي يواجه تحدي الإصلاح.
                              __________
                              (1) "بطرس بيتر غالي" (ص 89 - 93، 100 - 101).
                              (2) في 24/ 11/1991.
                              (2/376)
                              * قصاصات من الصحافة العربية والدولية:
                              - مجرد تساؤل: ماذا يريد بطرس غالي؟
                              نعم نتساءل: ماذا يريد بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة؟ قبل مدة ومع تصاعد مذابح القوات والميلشيات الصربية ضد مسلمي البوسنة والهرسك اعتذر الأمين العام للمنظمة التي يفترض فيها أن تكون "دولية" عن عدم تمكن المنظمة من إرسال قوات سلام إلى الجمهورية "المسكينة"؛ لأنه لا يملك المال الكافي لتمويل إرسال تلك القوات، مع أن الأمين "المحترم" كان قد أرسل قبل ذلك ما يقرب من 14 ألف جندي إلى كرواتيا لحمايتها من الصرب! فهل مسيحو كرواتيا أكثر إنسانية من مسلمي البوسنة حتى يستحقوا إرسال قوات سلام إليهم؟!
                              واليوم يعلن بطرس غالي بعد اطلاعه على تقرير مبعوثه إلى يوغسلافيا "أنه لا يمكن إرسال قوات دولية إلى البوسنة بسبب غموض الموقف. كما أنه ليس بالمستطاع تلبية طلب المسئولين في البوسنة في شأن نشر هذه القوات ما دام القتال مستمرًا".


                              ونحن لا نفهم لماذا يصر الأمين العام على أن الموقف في البوسنة غامض؟! فأي غموض هذا الذي يتحدث عنه؟! آلاف من الأبرياء يحاصرون ويذبحون ذبح النعاج وهم لا حول لهم ولا قوة ولا يزال الموقف غامضًا؟!
                              ثم إذا لم يكن مستطاعًا نشر قوات السلام ما دام القتال مستمرًا، فمتى تنشر، بعد أن يبيد الصرب آخر مواطن مسلم في البوسنة ويدمروا كل قرية فيها، ويسقطوا عاصمتها؟! إنه منطق عجيب.

                              وأخيرا -وليس آخرًا في عجائب بطرس غالي اقتراحه أن تترك جهود التفاوض وأنشطة صيانة السلم في البوسنة للمجموعة الأوربية وليس لمجلس الأمن والأمم المتحدة ولا يستنفر مجلس الأمن لحماية مسلمي البوسنة، كما
                              (2/377)
                              يفعل المجلس مع شعوب أخرى ليس آخرها كرواتيا وكمبوديا، أم أن مسلمي البوسنة لا يستحقون اهتمام المنظمة "الدولية" لمجرد أنهم مسلمون؟!
                              نعم نتساءل: ماذا يريد بطرس غالي؟ إنه يتعلل بأن المنظمة "الدولية" لا تملك المال الكافي لإرسال قوات سلام إلى البوسنة مع أن مصادر مطلعة في جامعة الدول العربية تؤكد أن السعودية عبرت عن استعدادها عبر منظمة المؤتمر الإسلامي للإسهام في توفير الإمكانات المالية اللازمة لعمليات الأمم المتحدة في البوسنة (1).

                              __________
                              (1) جريدة المسلمون العدد 381 (22/ 5/1992).


                              ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

                              تعليق


                              • * بطرس غالي وإِريتريا المسلمة:
                                لم يلتفت هذا الصليبي أبدًا إلى كفاح الشعب الإريتري المسلم، مع أن كثيرين طالبوه بذلك، ولكنه عندما تأكد أن "أسياس أفورقي الصليبي" قد حسم الموقف لصالحه في إرتيريا، بدأ يهتم بالشعب المظلوم على أساس نظرته الطائفية (2).

                                * بطرس الصليبي ودوره الكالح في مأساة البوسنة:
                                أما موقفه من البوسنة فلا يحتاج إلى إيضاح؛ لأن الدنيا كلها تعلم أن بطرس الحفيد تآمر مع سادته الذين يخدمهم حتى تم تحقيق الهدف الصليبي المرحلي للصرب والغرب .. لقد استقال رئيس المحكمة الدولية في "لاهاي" لمحاكمة مجرمي الصرب والكروات عندما تأكد من المؤامرة، ولم يحتمل ضميره أن يستمر في متابعة المهزلة" (3).
                                - إن الذي لم تُفصح عنه الصحافة الغربية ولا العربية، أن القرار
                                __________

                                (2) "دفاعًا عن الإسلام والحرية" لحلمي القاعود (ص 136).
                                (3) المصدر السابق (ص 136 - 137)
                                .
                                (2/378)
                                الدولي الصادر عن بيت صهيون بمنع السلاح، يسري على البوسنة فقط، وتلتزم به كافة الدول الإسلامية، برغم تدفق السلاح في نفس الوقت على الصرب من جمهوريات صربيا وروسيا.
                                كما أن طلب وقف إطلاق النار المفروض قهرًا، إنما هو للمسلمين فقط، حتى أن الرئيس البوسني علي عزت، قد اتهم مباشرة، مبعوث الأمم المتحدة (سايروس فانس) بأنه يساعد الصرب للقضاء على المسلمين، بعد أن أقر خطة الغرب لتقسيم البوسنة، وضم كل أرض يقف عليها الصربيون.
                                - فنقلاً عن صحيفة الاتحاد القطرية 17/ 12/1992:
                                وجه الأمين العام للأمم المتحدة رسالة خاصة إلى وزراء الخارجية ورؤساء وفود 34 دولة، المجتمعون أمس في جنيف لمناقشة قضية البوسنة.
                                "دعا فيها لاستمرار المفاوضات، وتجنب أي شيء من شأنه تصعيد أعمال العنف -!!! - وقال: أنه يعارض الإجراءات التي قد تدفع قوى أجنبية -يقصد إسلامية- إلى التدخل في الحرب، وطالب الدول الكبرى بعدم الاستجابة للضغوط المتزايدة من أجل التدخل العسكري ضد الصرب" هكذا بوضوح شديد.
                                كما ناشد (سيروس فانس) مبعوث (بطرس غالي) الدول الكبرى، عدم اتخاذ أي إجراء لوقف الانتهاكات الصربية للحظر المفروض على الطيران العسكري فوق البوسنة". ولا حول ولا قوة إلا بالله.

                                * ومن أفضح أشكال مكرهم:
                                أنهم عندما قرروا إسقاط المعونات الغذائية جويًا للمسلمين المحاصرين في البوسنة من ارتفاعات عالية (في أول فبراير الماضي 1993)، ففرح وهلل المسلمون بذلك القرار، فلما جاء وقت التنفيذ، سقطت كل المعونات فوق
                                (2/379)
                                معسكرات الصليبيين الصرب، إذ اكتشف فجأة الخبراء الأمريكان الصهاينة، أن إمكاناتهم التكنولوجية التي حددت ماركة الملابس الداخلية لصدام حسين أيام عاصفة الصحراء (!! )، لم تستطع أن تحدد موقع المتضورين جوعًا تحت حصار مجرمي الصرب والكروات على أرض البوسنة المسلمة" (1).

                                * قرارات الأمم المتحدة غير محترمة:
                                عمرو موسى - وزير الخارجية المصري (2).
                                - قال عمرو موسى:
                                قضية البوسنة والهرسك لفهمها، تحتاج إلى أن نستخدم بعض النقاط البسيطة في التوضيح:
                                النقطة الأولى ودعنا نبدأ من استقلال الصرب عن يوجوسلافيا، فإن البوسنة والهرسك تطلعت هي الأخرى إلى الحصول على الاستقلال، ولكن عند النظر إلى أرضية البوسنة والهرسك، نجد أن داخلها جالية صربية يقدر عددها بنحو 18 في المائة من إجمالي السكان، بينما يصل عدد المسلمين إلى نحو 55 في المائة والباقي من الكروات.
                                هذا التوزيع في السكان، لا يقابله توزيع مماثل في ملكية الأرض، فالـ 18% من الصرب استطاعوا بالقوة الاستيلاء على 80% من مساحة الأرض، بينما الـ 55 في المائة من المسلمين لا يملكون سوى خمسة في المائة من الأراضي، والباقي للكرواتين، وهذا بالطبع وضع شاذ، وهو في حقيقته أساس المشكلة، فالصرب من ناحيتها تتطلع إلى ما تسميه صربيا الكبرى،
                                __________
                                (1) "بطرس بيتر غالي" (ص 124 - 125).
                                (2) في حوار صحفي بمجلة أكتوبر 27/ 2/1992. أجرى الحوار معه الكاتب الصحفي/ صلاح منتصر، رئيس تحرير مجلة أكتوبر.
                                (2/380)
                                ولذلك فهي تؤيد الأصراب في البوسنة والهرسك لتكرس الوضع الحالي، بحيث تكون مكونة من ثلاثة كانتونات، كانتون صربي وآخر مسلم وثالث كرواتي، وفي النهاية فيما بعد يمكن ضم الكانتون الصربي الذي" له تقريبًا كل أراضي البوسنة والهرسك. وهذا وضع غير عادل لا يمكن قبوله.
                                نقطة ثانية وهي أن الصرب في تأييدها للصربيين في البوسنة الهرسك بدأت ممارسة سياسة اسمها التطهير العرقي، هدفها القضاء على المسلمين الذين تمارس ضدهم عمليات تعذيب وقتل وحشية.
                                مجلس الأمن من ناحيته تدخل وعارض سياسة الصرب وفرض عليها عقوبات حظر اقتصادي، ولكنها عمليًّا غير محترمة، فليست هناك أي رقابة لتنفيذ هذه العقوبات، وبالتالي فإن الصرب رغم قرار الحظر الاقتصادي، فإنها لا تعاني عمليًّا أي نقص في إمداداتها سواء كانت هذه الإمدادات تصل إليها بالجو أو بالبحر أو بالبر.
                                جاء مجلس الأمن بعد ذلك وفرض حظر وصول السلاح على كل الأطراف، ولكننا اكتشفنا أن هذا الحظر أضر بالمسلمين ولم يؤثر على الصرب، لأن الصرب تصنع حاجتها من السلاح، أما المسلمون فيستوردون احتياجاتهم من السلاح، وبالتالي أصبح قرار حظر السلاح وكأنه عقوبة مفروضة على المسلمين أضعفت مقاومتهم وزادت من عمليات الوحشية التي ترتكب ضدهم، وكان رأينا، ضرورة رفع حظر جزئي على السلاح ليساعد المسلمين على حصول ما يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، إلا أن (سيروس فانس) و (دافيد أوين) ممثلي مجلس الأمن، يرفضان هذه الفكرة على أساس أن الحرب في صورتها الحالية وبرغم ما فيها من صعوبات، فإنها محصورة بين أطرافها، وأنه إذا تم رفع الحظر عن طرف، فإن الطرف الآخر لا بد أنه سيجد من يمده بالسلاح أيضًا، ومن ثم ترتفع حدة النزاع أكثر مما هي عليه
                                (2/381)
                                ويمكن أن تتوسع لتشمل كل منطقة البلقان، ولكن هذا الرأي يظلم المسلمين، ولا بد عدلاً من تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم وفرض رقابة صارمة على تنفيذ العقوبات، وفي الوقت نفسه عدم الأخذ بنظام الكانتونات القائم على استغلال الوضع الحالي، الذي يسيطر فيه الصرب على أغلبية الأرض" اهـ.

                                * اتهامات للدكتور غالي:
                                سلامة أحمد سلامة - الكاتب الصحفي بصحيفة الأهرام لقد حركت مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك قلوب لم يكن في الحسبان أن تتحرك من أجل قضية طرفاها مسلمين ونصارى، لهولها وبشاعتها من ناحية، ولتخلف بيت صهيون وممارسة الشراسة والعناد في التغافل والتآمر من ناحية أخرى، إلى حد أن كُتاب كثيرون رسميون في بلادنا، هزتهم الفجيعة فتبنوا المشاركة في طرح القضية.

                                ومن بين هؤلاء، كان هذا المقال للكاتب المتميز، سلامة أحمد سلامة.
                                "تواجه الأمم المتحدة وأمينها العام الدكتور بطرس غالي، اتهامات خطيرة من جانب زعماء البوسنة المسلمين. بأن هناك تواطؤًا مؤكدًا للحيلولة دون تدخل صريح وفعال من جانب الأمم المتحدة بوقف عدوان الصرب وفظائع قواتها ضد أهالي البوسنة، وبمنع استيلائها على أراضيها.
                                والاتهام الموجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنه وقف في وجه الاتفاق الأوربي الذي كان يسعى إلى وضع الأسلحة الثقيلة تحت رقابة القوات الدولية، وأثار أزمة مع المجموعة الأوربية بحجة أن القرار اتخذ دون الرجوع إليه، وأن حجم القوات الدولية لا يكفي للقيام بهذه المهام الجديدة.
                                ومن الواضح أن الأمم المتحدة وأمينها العام لم تتخذ بعد ذلك أي خطوة جادة لوقف العدوان المستمر ضد جمهورية البوسنة، مما حدا بنائب رئيسها إلى التحذير أخيرًا من أن بلاده توشك أن تختفي من فوق
                                (2/382)
                                خريطة البلقان.
                                وقد أصبح من المؤكد الآن أن مصير جمهورية البوسنة بمن فيها من المسلمين قد حسم لغير صالحهم وأن الصراع الراهن في البلقان يتجاوز مجرد الرغبة في اقتسام أراضي البوسنة والاستيلاء عليها من جانب الصرب أو الكروات وأن ثمة خلافًا عميق الجذور يقسم الدول الأوربية ويحمل بين جوانبه عوامل التنافس القديمة.
                                ويتضح الآن يومًا بعد يوم أن قرارات العقوبات الاقتصادية وحظر السلاح التي اتخذتها الأمم المتحدة ضد الصرب، وعمليات مراقبة السواحل والحدود، ليست غير إجراءات وهمية، وأن عمليات الإغاثة وإرسال الإمدادات وقبول اللاجئين والهاربين من المعارك الوحشية ليست غير مسكنات وقتية، وأن المساعدات التي تتلقاها القوات الصربية من بعض دول أوربية ما زالت تتدفق لمواجهة مساعدات مماثلة تتلقاها القوات الكرواتية والبوسنية من دول أوربية أخرى.
                                فالوقود والذخيرة والإمدادات العسكرية تتدفق على الصرب من رومانيا وبلغاريا واليونان والدبابات والطائرات تتدفق على الكروات من ألمانيا والنمسا والمجر .. ومعنى ذلك، أن الانشقاق الأوربي الذي ظهر منذ بادرت ألمانيا بمفردها إلى الاعتراف بسلوفينيا وكرواتيا، دون موافقة الجماعة الأوربية، يتخذ الآن أبعادًا تترجم على أرض المعارك الدائرة، في محاولة لتحديد التوازنات الأوربية الجديدة مع ألمانيا وضدها.
                                وإذن: هل الصراع القومي والمذابح الدامية ضد المسلمين في هذه البلاد مجرد مظهر خارجي لصراع أوربي دفين له جذوره التاريخية وحساباته الأوربية؟
                                وهل هذا هو السبب في عدم تدخل أمريكا؟
                                (2/383)
                                ومن المسئول عن شلل الأمم المتحدة؟
                                وهل لنا في هذا الصراع ناقة أو جمل؟؟
                                أسئلة يحسن الإجابة عنها من الآن؟؟ " اهـ.

                                * أيقظوا بطرس غالي:
                                كتبت جريدة الرياض في 15/ 1/1993:
                                شنت صحيفة "ملييت" الواسعة الانتشار أمس حملة ضد بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة الذي تعرّض لغضب عام في تركيا بسبب ما يُنَسب إليه من لا مبالاة بنزيف الدماء الذيَ تعاني منه جمهورية البوسنة والهرسك من جرّاء العدوان الصربي المستمر. فتحت عنوان "أيقظوا هذا الرجل" دعت الصحيفة التي يبلغ توزيعها نحو مليون نسخة قراءها إلى إرسال خطاب معد مسبقًا باللغتين التركية والإنجليزية إلى غالي بالتليفاكس حول البوسنة.



                                وكتبت الصحيفة شرحًا تحت صورة كبيرة ملونة لغالي تقول فيه: "يقتلون المسلمين وبطرس غالي لا يرى، الصرب يغتصبون السيدات والأطفال وغالي لا يسمع، الصرب يحرقون ويمزقون كل شيء ويجعلون الناس يتضورون جوعًا وغالي لا يتكلم".

                                * بطرس غالي حصاد سنة مرة (1):
                                بقلم: فهمي هويدي - كاتب مصري عربي بارز كانت مناسبة مرور عام على تعيين الدكتور بطرس غالي أمينًا عامًا للأمم المتحدة فرصة استغلها كثيرون لتقييم تجربة أول عربي يشغل منصب دبلوماسي في العالم. وفي هذه المناسبة قرأت كتابات كثيرة عن الرجل،
                                __________
                                (1) مجلة المجلة (العدد 679) 10/ 2/1993، و"بطرس بيتر غالي" (ص 200).
                                (2/384)
                                بعضها ركز على شخصه، وانتقد موقفه من قضية البوسنة والهرسك بوجه أخص، انطلاقًا من تحيزه العقيدي، بينما سجل البعض الآخر انطباعات عن إدانات تراوحت بين الإيجابية والسلبية.
                                وجدتني متحفظًا كقارئ على هذين النهجين، فقد تمنيت أن يتم تقييم تجربة الرجل على أساس موضوعي وليس شخصي أولاً، وبناء على معلومات وليس انطباعات ثانيًا.
                                وإذ لا أغفل الاعتبارات الإنسانية في تقييم المواقف، إلا أن حجم الدور الذي تؤثر به تلك الاعتبارات يختلف من شخص إلى آخر، وقياس ذلك الدور يقتضي غوصًا في النوايا والأعماق، وهي مساحات مجهولة يتعذر سبرها على كثيرين.
                                من ناحية ثانية فالانطباعات عادة تعتمد كثيرًا على تقدير قد تلعب فيه المشاعر والعواطف الإيجابية والسلبية دورها في هذا الاتجاه أو ذاك.
                                بسبب ذلك، فقد تمنيت أن يتم أولاً "تحرير" موضوع المناقشة على طريقة فقهائنا، بمعنى إثبات حقائقه وتقديم معلوماته الأساسية، قبل أي تقييم أو اجتهاد في تفسير الوقائع وظل ذلك بدوره انطباعًا من جانبي ساد حينًا، حتى قرأت مقالاً كتبه الدكتور غالي في إحدى الصحف الفرنسية حول وجود الأمم المتحدة في الصومال، وبعده حديثًا أجرته معه مجلة تايم الأمريكية.
                                وجدت كلامه ظاهر التغليظ بحيث يحتاج إلى رد ومناقشة، الأمر الذي دفعني إلى الكتابة في الموضوع، ومن ثم فتح ملف الدكتور غالي في الأمم المتحدة.
                                ثمة انطباع شائع خلاصته أن الرجل يعرف إنه لكبر سنه انتخب لمرة واحدة، من ثم فإنه لن يبقى في منصبه أكثر من خمس سنوات، ولذلك فهو حريص على أن يتصرف بشكل مستقل، لا يبالي فيه بآراء الدول الكبرى، ولذا يبدو فيه الإصرار على ترك بصماته على جدران المنظمة الدولية؛ ولأن
                                (2/385)
                                الولايات المتحدة هي الدولة صاحبة التأثير الأقوى على الأمم المتحدة الآن، فإن المروجين لمقولة الاستقلال أوحوا بأن الدكتور غالي لا يهمه رضا واشنطن أو سخطِها، وأنه سيحدد مواقفه في ضوء تصرفاته الشخصية أولاً وأخيرًا.
                                غير أننا عندما نختبر تلك المقولة على المحك، فسوف نلاحظ أن الأمين العام يطبّق المواقف والأولويات الأمريكية بحذافيرها، وأنه طيلة العام الذي أمضاه في وظيفته كان شديد الالتزام بكل الخطوط السياسية المرسلة من واشنطن.
                                لقد فوجئنا به في أول مؤتمر صحفي عقده بعد توليه منصبه، وهو يعلن أن قرار 242 (ليس ملزمًا)، وعندما صدم الرأي العام العربي وأثار تصريحه الضجة المشهورة، أعاد مكتبه شرح موقفه، فقال: أنه قصد القول: بأن القرار ليس قابلاً فرض تنفيذه، نظرًا لعدم تبنيه بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
                                وكانت نتيجة ذلك أن الأمين العام الجديد بدأ مهمته بإضعاف مرجعية أساسية في المفاوضات العربية - الإسرائيلية.
                                وانعكست إفرازات ذلك الموقف على تدهور القرار 242 على المسار الفلسطيني، وذلك عندما رفضت واشنطن "بعد مضي حوالي ستة أشهر على تصريح الدكتور غالي إلزام الجانب الإسرائيلي بتطبيق القرار 242 على الشأن الفلسطيني.
                                لوحظ أيضًا أن الأمين العام الذي عُرِف بحرصه على إصدار التقارير التي يطلبها مجلس الأمن في أي موضوع أو مسألة، لم يستجب حتى الآن لطلب المجلس في القرار 681، المعني بحماية الفلسطينيين تحت الاحتلال، وانطباق اتفاقات جنيف الرابعة المعنية بحماية المدنيين على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان ذلك القرار قد طُلِب من الأمين العام في ديسمبر (كانون الأول) 1990 أن يقدم تقريرًا دوريًّا كل ثلاثة أشهر بشأن هذه المسألة.
                                (2/386)
                                وقدم (خافيير بيريز دي كويار) تقريرًا واحدًا أما الدكتور بطرس غالي فلم يقدم أي تقرير حتى الآن.
                                يضاف إلى ذلك أن تقليد ذكر القرار 425 في تقارير الأمين العام السنوية عن أعمال المنظمة، غاب عن تقرير الدكتور غالي، وهذا الغياب يتعذر تفسيره تحت أي ظرف، خصوصًا وأن القرار يطالب بانسحاب إسرائيل بالكامل من لبنان، وهو جزء مهم في المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية.
                                ويؤثر على المفاوضات اللبنانية يقينًا، ألا يساهم الأمين العام في إغفال قرار بهذه الأهمية، أصدره مجلس الأمن، خصوصًا وأن إسرائيل تتملص منه، والولايات المتحدة تغض الطرف عنه في المفاوضات.
                                يلاحظ كذلك أن الأمين العام قَدَّم تقارير عدة في شأن مختلف فقرات القرار 687، الذي وضع شروط إطلاق النار على العراق، لكنه تجاهل الآن الإشارة إلى الفقرة التي نصت على أن إزالة أسلحة الدمار العراقية تمثل خطوة نحو هدف جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل، وهذا الإهمال يتم في الوقت الذي يتأكد فيه خلل موازين القوى في المنطقة لمصلحة إسرائيل.



                                - على الصعيد الأفريقي هناك نموذج آخر يثير المزيد من علامات الاستفهام حول موقف الدكتور غالي، بل ويعزز الشك في مصداقية مقولة استقلاله عن الخط الأمريكي.
                                فالمعروف أن ثمة صراعًا قائمًا من أكثر من 16 عامًا بين الحركة الشعبية لتحرير أنجولا التي يقودها "خوزيه سانتوس"، وبين حركة يونيتا التي يقودها (جوناس سافيمي) غير أن الطرفين وقعا في نهاية المطاف اتفاق سلام بينهما في لشبونة عام 1991، واتفقا على إجراء انتخابات في البلاد خلال سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، لكن الذي حدث أن الحركة الشعبية لتحرير
                                (2/387)
                                أنجولا، هي التي فازت في الانتخابات رغم أنها تمت تحت إشراف دولي. الأمر الذي دفع سافيمي إلى رفض النتيجة والعودة إلى القتال مرة أخرى.
                                واللافت للنظر أنه رغم أن حكومة سانتوس الراهنة تُعد حكومة شرعية ثبتتها الانتخابات الديمقراطية، ورغم أن سافيمي زعيم يونيتا هو الخارج على الشرعية الرافض لنتيجة الانتخابات بل والرافض للاشتراك في ائتلاف حكومي، فإن الأمم المتحدة وأمينها العام يمارسان ضغطهما على الحكومة الشرعية للتفاوض مع سافيمي وليس العكس، وذهب الأمين العام في ضغطه إلى حد التهديد بسحب مجموعة المراقبة الدولية، إذا لم يستطع الرئيس المنتخب أن يصل إلى حل وسط مع سافيمي المتمرد والمنشق عليه.
                                وليس هناك من تفسير لذلك التدليل السافر لزعيم (يونيتا) سوى أن الرجل محسوب على الولايات المتحدة، وأن حركته تلقى تأييدًا ودعمًا مستمرين من واشنطن!
                                لأجل ذلك فإن الأمين العام بدا مستعدًا لتجاهل نتيجة الانتخابات، وضاربًا عرض الحائط بما أسفرت عنه عمليات التصويت، ومكثفًا ضغوطه وتهديداته على الطرف المنتخب، لمجرد أنه لا يلقى تعاطفًا أو تأييدًا من واشنطن.
                                الموقف في البوسنة كان أفدح وأغرب، فمنذ اللحظات الأولى لاندلاع القتال، الذي كان واضحًا فيه تمامًا أن الصرب مدعومون بترسانة الجيش اليوغسلافي العسكرية، وأن البوسنيين المسلمين لا يملكون أي شيء يدافعون به عن أنفسهم، مع ذلك فقد وقف الأمين العام والدول الكبرى بطبيعة الحال، ضد إرسال أية قوات تحمي المسلمين العزل من العدوان، ومع حظر السلاح على الجميع بمن فيهم الطرف المجني عليه.
                                وإذا أرسلت قوات رمزية، كانت مهمتها تأمين وصول الغذاء فقط، ولم
                                (2/388)
                                تكن بمقدورها حتى أن تدافع عن مهمتها تلك، فإنه عندما كانت العملية تواجه بأية انتهاكات من جانب الصرب، فإن الرد الوحيد كان يتمثل في إغلاق مطار سراييفو، ووقف الرحلات الجوية التي كانت تحمل المعونة إلى البوسنيين المحاصرين، وهو ما يعني: أن العقاب كان ينزل بالمسلمين البؤساء؛ لأنه كان يحرمهم من الطعام والمؤن!
                                لقد التزم الأمين العام الصمت، عندما كانت القوات الدولية تمنع المسلمين من ضحايا التطهير العرقي من العبور إلى كرواتيا ليفروا بحياتهم من الجحيم.
                                يقودنا إلى ذلك ما كتبه وصرح به الأمين العام للأمم المتحدة حديثًا، في مقاله الذي نشرته الصحيفة الفرنسية "لوجورنال دو ديمانش" في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
                                قال الدكتور غالي أن التدخل الدولي في البوسنة ليس ميسورًا بالمقارنة بالصومال، ففي البوسنة تتقاتل جيوش حديثة فائقة التدريب ويدعمها المواطنون بقوة وبسبب ذلك التشابك العسكري الكبير، فإن التدخل الدولي قد يزيد الأمر سوءًا.
                                وفي حديثه الأخير إلى مجلة "تايم" في 18 يناير (كانون الثاني) سئل عن مبرر دعمه للتدخل الدولي في الصومال، ومعارضته التدخل في البوسنة فقال ما نصه:
                                هناك فرق بين الحالتين ففي الصومال كنا عاجزين عن تقديم المساعدات الإنسانية؛ لأنه لم تكن هناك سلطة في البلاد يمكن الحوار معها حول قضية السلام، أما في يوغوسلافيا فتد كانت هناك أطراف تَحدثنا إليها وأمكننا أن نتفق على مبادئ لحل النزاع، وإطار عام لتحقيقه.
                                ومن أسف أن ما قاله الدكتور غالي يفتقد الصواب ولا أقول الأمانة!
                                (2/389)
                                فالقدر المتيقن أن القتال الدائر في البوسنة لا يتم بين جيوش حديثة فائقة التدريب، وإذا صح ذلك بصورة نسبية على القتال بين الصرب والكروات فإنه لا ينطبق بأي حال على البوسنويين المسلمين، الذين يعرف القاصي والداني أنهم عُزل لا يملكون سلاحًا، وأن بعضهم يحارب ببنادق الصيد، وأكثر من ذلك فالمسلمون لم يكن لهم جيش أساسًا، حيث لم يكن ذلك مسموحًا لهم، وكان ممنوعًا عليهم إذا ما انخرطوا أو جندوا في الجيش اليوغسلافي أن يرتقوا إلى مراتب الضباط، ومن ثم فقد كتب عليهم أن يظلوا جنودًا يؤمرون فيطيعون، بسبب من ذلك فإن نواة المقاتلين البوسنويين كانوا بضع مئات معدودة من رجال الشرطة.
                                هذه المعلومات يعرفها القاصي والداني وهي منشورة في جهات الكرة الأرضية الأربع، فما من تقرير عن الوضع العسكري في البوسنة إلا وأشار إلى أن المسلمين أصبحوا يملكون دبابتين فقط. بينما الصرب وراءهم كل مخازن الجيش اليوغسلافي، فضلاً عن أن السلاح الجوي هو أداتهم الفعالة التي مكنتهم من هزيمة المسلمين.
                                هل يعقل أن يصبح الأمين العام للأمم المتحدة الوحيد في الكرة الأرضية الذي لا يعلم أن البوسنويين لا يملكون جيشًا حديثًا وفائق التدريب، بل إنهم لا يملكون جيشًا على الإطلاق؟.
                                كلامه في مجلة. "تايم" يثير الدهشة بذات القدر حين برر التدخل في الصومال بانهيار السلطة في البلاد، وقال: إن ما حدث في يوغسلافيا عكس ذلك.
                                لأنه لم يذكر ما هو موقف تلك السلطة القائمة في يوغوسلافيا، التي ماطلت وتجاهلت مختلف قرارات الأمم المتحدة، حتى قتلت نائب رئيس وزارة البوسنة بينما كان في حراسة القوات الدولية وهو ما لم يحدث في الوضع المنفلت في الصومال!
                                (2/390)
                                نعم وجود السلطة مهم، ولكن الأهم منه هو موقف هذه السلطة واستعدادها لإقرار السلام والامتثال لقرارات الأمم المتحدة، ففي العراق على سبيل المثال هناك سلطة قائمة، ومع ذلك فقد فرض عليه الالتزام بالشرعية الدولية بالقوة المسلحة وجرى تأديبها وقمعها عدة مرات.
                                إن الذرائع التي ساقها الدكتور غالي هي ذاتها التي مكنت الصرب من التوسع وممارسة التطهير العرقي، وغير ذلك من الآثام والفظائع التي أرجو أن يكون الأمين العام للأمم المتحدة قد سمع بها.
                                قد كان استقبال الدكتور بطرس غالي في سراييفو ومقديشيو ناطقًا بحقيقة المشاعر التي تبلورت إزائه بعد سنة من توليه منصبه، وأدع وصف الزيارة للصحف الأمريكية التي رافقته في رحلته وسجلت وقائعها بدقة.
                                فتقرير الواشنطن بوست نشر تحت عنوان:
                                "المسلمون البوسنويون يتهمون بطرس غالي بالإسهام في بؤسهم
                                ".
                                وتحت العنوان ذكرت أن الأمين العام
                                "استقبل بعاصفة من الاستنكار والشتائم من مدينة سراييفو المحاصرة، والتي اعتقد أهلها أن الأمم المتحدة ضاعفت من محنتهم، وذلك خلال زيارة استغرقت ست ساعات ناشد فيها البوسنويين أن يضعوا ثقتهم في المفاوضات التي تجريها الأمم المتحدة، وقال: إن استخدام القوة ضد الصرب الذين يقصفون العاصمة ليس مستحبًا الآن!
                                وبينما كان بطرس غالي يشرح ذلك لممثل الحكومة البوسنية، تعالى الهتاف من الشارع:
                                "مُجرِم قَاتِل فاشي، ساعِدنا أو عد لبلادك".
                                وخرج بطرس غالي من البنى تحت حراسة مشددة حيث ذهب لزيارة المستشفى، وعلى الطريق قابلته هتافات أكثر عدائية من السكان الجياع في
                                (2/391)
                                المدينة المنكوبة الذين يتعرضون لقصف مستمر من الصرب لمدة تسعة أشهر ويعيشون بلا تدفئة ولا كهرباء ولا مياه جارية منذ ثلاثة أسابيع.
                                - وفي المؤتمر الصحفي وقفت صحفية من البوسنة وقالت للأمين العام:
                                "أنت أيضًا مذنب ومسئول عن كل سيدة اغتصبت، وكل رجل قتل".
                                - وسألته:
                                كم تطلبون من ضحايا في سراييفو قبل أن تتحركوا، ألا يكفيكم 12 ألفًا؟
                                - ورد بطرس غالي:
                                إذا كنت مجرمًا فهذه مشكلتي، أنا أشاركك آلامك ولكن حالكم أفضل بكثير من عشرة أماكن يمكن بيانها لكم.
                                - وقد علقت صحيفة واشنطن تايمز على هذا الرد بقولها:
                                "إذا كان هذا هو كلام الصديق فلا لوم على العدو".
                                جاء ذلك في افتتاحية شديدة اللهجة ضد الأمين العام تحت عنوان "ليست قضية معنويات"، وقالت:
                                "إن زيارة الدكتور غالي للمدينة التي أراد أن يعلن بها عن تضامنه مع شعبها المحاصر زادت آلامهم"، أو بنص ألفاظ الجريدة: "وَضَعَت ملحًا في جراحهم".



                                إذ بينما يؤيد غالي بشدة التدخل العسكري في الصومال، نراه يعارض نفس الإجراء في البوسنة! إنه يطالب بفرصة لمحادثات السلام (1) في جنيف، ولكن على
                                __________
                                (1) محادثات سلام وكل دقيقة يموت مسلم إما برصاص الخنازير أو قنابلهم أو بالتجويع أو بالقهر والتعذيب، ألم أقل إن مفهوم سلام المسلمين، لا ينبغي قبول خلطه بسلام القردة والخنازير.
                                (2/392)
                                ضوء التجربة لا يجوز أن نتوقع نجاحًا، والحقيقة المؤكدة هي استمرار وحشية القرون الوسطى في قلب أوربا المعاصرة.
                                وعندما حاول الدكتور مجاملة جريح في مستشفى سراييفو، فسأله عن معنوياته رد الرجل:
                                إنها ليست قضية معنويات.
                                أوقف القصف. يا بطرس.
                                أنت المسئول عن استمرار محنتنا.
                                من ناحية ثانية فقد نقلت وسائل الإعلام العالمية مظاهر الاستقبال الغاضب الذي لقيه الدكتور بطرس في العاصمة الصومالية (مقديشيو) الأمر الذي اضطره إلى اختصار زيارته.
                                - قالت الواشنطن بوست: إن المتظاهرين وهم من أنصار الجنرال عيديد، إلا أنهم يتمتعون بتأييد الصوماليين الذين يعتقدون أن الأمم المتحدة قد خذلتهم. وهي أول مرة في تاريخ المنظمة العالمية يستقبل سكرتيرها على هذا النحو من بلدين يفترض أنهم يحظيان بمساعدة المنظمة.
                                - وقد حاولت "الأسوشيتد برس" تفسير عزلة الأمين العام بنقلها عنه قوله:
                                إنه سياسي وليس دبلوماسيًا، وقالت: إنه نقد ذاتي صريح من الرجل الذي يشغل أعلى منصب دبلوماسي في العالم! واستعرضت بعض مظاهر قصوره الدبلوماسي فقالت:
                                "إنه بينما يشكر الأمين المصري من أجل جهوده في سبيل السلام، إلا أنه أثار ضده قوى كان يفترض أن تكون إلى جانبه سواء في الغرب أو الشرق أو دول العالم الثالث فمثلاً:
                                (2/393)
                                أغضب سكان سراييفو عندما اعترض على تدخل الغرب العسكري.
                                وأغضب الأفريقيين والعالم الثالث كله عندما صرح لصحيفة ألمانية قائلاً: "أريد أن أوضح تمامًا للرأي العام في الغرب إنني لست شديد الاهتمام كما تظنون بتوفير المساعدات المالية والفنية للعالم الثالث، إن مواطنيكم يشعرون بالقرف من مطالبتهم بالتبرع بالمال والطعام".
                                وأغضب الحكومات الغربية في الصيف الماضي عندما اتهمها بالاهتمام بحرب الأغنياء.
                                وأزعج الدول العربية بتصريحه عن القرار 242 إلى آخره.
                                - هذا هو حصاد سنة واحدة أمضاها الدكتور بطرس غالي في منصبه، فما بالكم به إذا استمر على منواله طيلة السنوات الأربع المتبقية له؟!
                                اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه.


                                ** [read][rainbow][glint]كتاب أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام[/glint][/rainbow][/read] **

                                تعليق

                                مواضيع ذات صلة

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 9 أغس, 2023, 11:28 م
                                ردود 0
                                26 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة د.أمير عبدالله  
                                ابتدأ بواسطة عادل خراط, 17 أكت, 2022, 01:16 م
                                ردود 112
                                164 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة عادل خراط
                                بواسطة عادل خراط
                                 
                                ابتدأ بواسطة اسلام الكبابى, 30 يون, 2022, 04:29 م
                                ردود 3
                                35 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة عاشق طيبة
                                بواسطة عاشق طيبة
                                 
                                ابتدأ بواسطة عادل خراط, 28 أكت, 2021, 02:21 م
                                ردود 0
                                120 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة عادل خراط
                                بواسطة عادل خراط
                                 
                                ابتدأ بواسطة عادل خراط, 6 أكت, 2021, 01:31 م
                                ردود 3
                                64 مشاهدات
                                0 معجبون
                                آخر مشاركة عادل خراط
                                بواسطة عادل خراط
                                 
                                يعمل...
                                X