بين هجرة اليهود إلى فلسطين .. وهجرة المسلمين إلى المدينة

تقليص

عن الكاتب

تقليص

المهندس زهدي جمال الدين مسلم اكتشف المزيد حول المهندس زهدي جمال الدين
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بين هجرة اليهود إلى فلسطين .. وهجرة المسلمين إلى المدينة

    بين هجرة اليهود إلى فلسطين .. وهجرة المسلمين إلى المدينة


    محتويات الدراسة
    1ـ نعرض أولاً في هذه الدراسة لقيمة حادث الهجرة من ناحية تأثيرها على خط سير الدعوة وذلك من خلال اللقاء الأول بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وورقة بن نوفل.

    2ـ ثم نعرض ثانياً لإرهاصات الهجرة النبوية الشريفة وذلك من خلال الإعداد القرآني من سور يونس وهود ويوسف عليهم من ربنا السلام.

    3ـ ثم نتناول الحديث بعد ذلك عن الهجرة النبوية الشريفة وفيها نعرض للآتي:
    أ ـ أهمية الهجرة
    ب ـ الهجرة.. حدث غيّر مجرى التاريخ
    ج ـ مقدمات الهجرة الكبرى
    د ـ التجهيز للهجرة
    هـ بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة
    و ـ بين الهجر والهجرة في العصر الحديث

    4 ـ ثم نتناول بعد ذلك الحديث عن هجرة اليهود إلى فلسطين وفيها نتحدث عن الموضوعات التالية:
    أ ـ أول مؤامرة في التاريخ
    ب ـ الأمر بالهجرة وعصيان بني إسرائيل
    ج ـ بين هجرة المسلمين وهجرة اليهود
    د ـ الهجرة اليهودية الحديثة

    5 ـ ثم نتحدث عن إرهاصات الهجرة النبوية الشريفة وغزوة بدر الكبرى كما هي واردة في أسفار اليهود والنصارى
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:41 م.

  • #2
    البداية مع ورقة بن نوفل




    كان القرآن المكي على مدي ثلاث عشرة عاماً ينزل منجماً على قلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ليعالج قضايا الأمة ويمهد لأكبر الأحداث في الإسلام، ألا وهو حادثة الهجرة.
    في غار حراء



    لما تقاربت سنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السَّوِيق والماء، ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة فيقيم فيه شهر رمضان، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه‏.‏

    وكان اختياره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له، وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضَجَّة الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم، فيستعد لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ‏.‏‏.‏‏.‏ دبر الله له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرًا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله ‏.‏
    جبريل عليه السلام ينزل بالوحي




    ولما تكامل له أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال، وقيل‏:‏ ولها تبعث الرسل ـ بدأت طلائع النبوة تلوح وتلمع، فمن ذلك أنه كان يرى الرؤيا الصادقة؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر ـ ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ـ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن‏.‏
    وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلاً، وقد وافق 10 أغسطس سنة 610 م، وكان عمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يومًا‏.

    ولنستمع إلى السيدة عائشة الصديقة رضي الله عنها تروى لنا قصة هذه الوقعة التي كانت نقطة بداية النبوة، وأخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ.
    والحديث بتمامه كما ورد بصحيح البخاري.
    أَنَّ ‏عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ ‏قَالَتْ:

    [‏‏كَانَ أَوَّلَ مَابُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّىا للَّهُ عَلَيْ هِوَسَلَّمَ ‏‏الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَىرُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَلْحَقُ ‏ ‏بِغَارِ حِرَاءٍ ‏ ‏فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ‏ ‏قَالَوَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ ‏ ‏اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى ‏ ‏خَدِيجَةَ‏ ‏فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا ‏ ‏حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي ‏ ‏غَارِحِرَاءٍ ‏ ‏فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ ‏مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أرسلني فقال: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5} [ العلق: ١ - ٥ ]
    ‏فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ‏‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ ‏تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى ‏ ‏خَدِيجَةَ ‏ ‏فَقَالَ: ‏ ‏زَمِّلُونِي ‏‏زَمِّلُونِي ‏ ‏فَزَمَّلُوهُ ‏ ‏حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ.
    قَالَ ‏‏لِخَدِيجَةَ: ‏
    ‏أَيْ ‏ ‏خَدِيجَةُ ‏ ‏مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ.
    قَالَتْ ‏ ‏خَدِيجَةُ: ‏
    ‏كَلَّا أَبْشِرْ فَوَ اللَّهِ لَايُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا.. فَوَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ.. وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ.. وَتَحْمِلُ ‏ ‏الْكَلَّ.. ‏وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ.. وَتَقْرِي الضَّيْفَ.. وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
    فَانْطَلَقَتْ بِهِ ‏ ‏خَدِيجَةُ ‏ ‏حَتَّى أَتَتْ بِهِ ‏ ‏وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ ‏وَهُوَ ابْنُ عَمِّ ‏ ‏خَدِيجَةَ ‏ ‏أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَاللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ.
    فَقَالَتْ ‏ ‏خَدِيجَةُ: ‏
    ‏يَاابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ.
    قَالَ ‏ ‏وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى.
    فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ ‏خَبَرَ مَارَأَى.
    فَقَالَ ‏‏وَرَقَةُ ‏ ‏هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى ‏ ‏مُوسَى.. ‏ ‏لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا.. لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا ذَكَرَ حَرْفًا.
    قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟؟!!..
    قَالَ ‏ ‏وَرَقَةُ: ‏ ‏نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا أُوذِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ‏ ‏وَرَقَةُ ‏ ‏أَنْ تُوُفِّيَ ].

    أي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ قد تلقى خبر هجرته من مكة لحظة تلقيه لخبر نبوءته، وإن توحيد الإلوهية وتوحيد الربوبية , وتوحيد القوامة , وتوحيد مصدر الشريعة , وتوحيد منهج الحياة , وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة .

    إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله خاتم الأنبياء والمرسلين،وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود المعروفة لدارسي السيرة العطرة ; وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار عمر الدعوة . . لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه , فالله سبحانه غني عن العالمين، ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة "بالإنسان" إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها.

    وعلى مدي ثلاث عشرة عاماً هي عمر الدعوة في مكة كان فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ أذن الخير التي استقبلت آخر إرسال السماء لهدي الأرض ولسان الصدق الذي بلغ عن الحق مراده من الخلق فأدي الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من رب العالمين فلم يكل ولم يتعب وإن كان التعب والكلال قد بلغ منه مبلغاً خصوصاً بعد موت أبي طالب والسيدة خديجة رضي الله تعالى عنها ; وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب ـ وخاصة بعد حادث الإسراء وغرابته , واستهزاء المشركين به ـ مع وحشة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ من خديجة ـ رضي الله عنها - في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته ; وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها ; وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها . .
    وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى القلة المسلمة معه ببيعةالعقبة الأولى ثم الثانية.
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:41 م.

    تعليق


    • #3
      [FONT='Arial','sans-serif']
      الإعداد



      طبيعة المعركة بين الكفر والإيمان:




      تحذير هام للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏، من سورة القلم:

      قال تعالى:[ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ{48}] [القلم: ٤٨]
      يبدأ التحذير بالإعلان عن خطة المعركة والكشف عن سنة الحرب بين الله عز وجلّ وأعدائه المخدوعين.

      قال تعالى: [ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ{44}][القلم: ٤٤]
      وبالإعلان عن خطة المعركة والكشف عن سنة الحرب بين الله وأعدائه المخدوعين،بهذا وذلك يخلي الله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ والمؤمنين من المعركة بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، فهي معركته سبحانه وتعالى وهي حربه التي يتولاها بذاته .
      والأمر كذلك في حقيقته, مهما بدا أن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ وللمؤمنين دورا في هذه الحرب أصيلا، إن دورهم حين ييسره الله لهم هو طرف من قدر الله في حربه مع أعدائه، فهم أداة يفعل الله بها أو لا يفعل؛ وهو في الحالين فعال لما يريد؛ وهو في الحالين يتولى المعركة بذاته وفق سنته التي يريد .
      وهذا النص نزل والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ في مكة, والمؤمنون معه قلة لا تقدر على شيء؛ فكانت فيه الطمأنينة للمستضعفين , والفزع للمغترين بالقوة والجاه والمال والبنين، ثم تغيرت الأحوال والأوضاع في المدينة، وشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ومن معه من المؤمنين دور ظاهر في المعركة، ولكنه هنالك أكد لهم ذلك القول الذي قاله لهم وهم في مكة قلة مستضعفون . وقال لهم وهم منتصرون في بدر:[ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{17}] [الأنفال: ١٧]

      وذلك ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة، حقيقة أن المعركة معركته هو سبحانه، وأن الحرب حربه هو سبحانه، وأن القضية قضيته هو سبحانه، وأنه حين يجعل لهم فيها دورا فإنما ذلك ليبليهم منه بلاء حسنا، وليكتب لهم بهذا البلاء أجرا، أما حقيقة الحرب فهو الذي يتولاها ، وأما حقيقة النصر فهو الذي يكتبها ، وهو سبحانه يجريها بهم وبدونهم ، وهم حين يخوضونها أداة لقدرته ليست هي الأداة الوحيدة في يده .
      وهي حقيقة واضحة من خلال النصوص القرآنية في كل موضع, وفي كل حال, وفي كل وضع، كما أنها هي الحقيقة التي تتفق مع التصور الإيماني لقدرة الله وقدره, ولسنته ومشيئته, ولحقيقة القدرة البشرية التي تنطلق لتحقيق قدر الله. . أداة. . ولن تزيد على أن تكون أداة. .
      وهي حقيقة تسكب الطمأنينة في قلب المؤمن, في حالتي قوته وضعفه على السواء، ما دام يخلص قلبه لله , ويتوكل في جهاده على الله ، فقوته ليست هي التي تنصره في معركة الحق والباطل والإيمان والكفر, إنما هو الله الذي يكفل له النصر، وضعفه لا يهزمه لأن قوة الله من ورائه وهي التي تتولى المعركة وتكفل له النصر ، ولكن الله يملي ويستدرج ويقدر الأمور في مواقيتها وفق مشيئته وحكمته, ووفق عدله ورحمته.
      كما أنها حقيقة تفزع قلب العدو, سواء كان المؤمن أمامه في حالة ضعف أم في حالة قوة، فليس المؤمن هو الذي ينازله, إنما هو الله الذي يتولى المعركة بقوته وجبروته، الله الذي يقول لنبيه [ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ{44}][القلم: ٤٤]
      [القلم: ٤٤ ]، وخل بيني وبين هذا البائس المتعوس ! والله يملي ويستدرج فهو في الفخ الرعيب المفزع المخيف , ولو كان في أوج قوته وعدته ، فهذه القوة هي ذاتها الفخ وهذه العدة هي ذاتها المصيدة :[ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ{45}][القلم: ٤٥]
      أما متى يكون، فذلك علم الله المكنون ! فمن يأمن غيب الله ومكره ? وهل يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون ?.
      توجيه للصبر ولقطة من قصة يونس




      وأمام هذه الحقيقة يوجه الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ إلى الصبر، الصبر على تكاليف الرسالة . والصبر على التواءات النفوس ، والصبر على الأذى والتكذيب، الصبر حتى يحكم الله في الوقت المقدر كما يريد، ويذكره بتجربة أخ له من قبل ضاق صدره بهذه التكاليف , فلولا أن تداركته نعمة الله لنبذ وهو مذموم:[ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ{48} لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ{49} فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ{50}]
      [القلم: ٤٨ - ٥٠]
      وصاحب الحوت هو يونس عليه السلام كما جاء في سورة الصافات، وملخص تجربته التي يذكر الله بها محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ لتكون له زادا ورصيدا , وهو خاتم النبيين , الذي سبقته تجارب النبيين أجمعين في حقل الرسالة , ليكون هو صاحب الحصاد الأخير , وصاحب الرصيد الأخير , وصاحب الزاد الأخير، فيعينه هذا على عبئه الثقيل الكبير، عبء هداية البشرية جميعها لا قبيلة ولا قرية ولا أمة، وعبء هداية الأجيال جميعها لا جيل واحد ولا قرن واحد كما كانت مهمة الرسل قبله، وعبء إمداد البشرية بعده بكل أجيالها وكل أقوامها بمنهج دائم ثابت صالح لتلبية ما يجد في حياتها من أحوال وأوضاع وتجارب، وكل يوم يأتي بجديد . .
      ملخص تلك التجربة أن يونس بن متى عليه السلام أرسله الله إلى أهل قرية، قيل اسمها نينوى بالموصل، فاستبطأ إيمانهم , وشق عليه تلكؤهم , فتركهم مغاضبا قائلا في نفسه:إن الله لن يضيق علي بالبقاء بين هؤلاء المتعنتين المعاندين , وهو قادر على أن يرسلني إلى قوم آخرين وقد قاده الغضب والضيق إلى شاطئ البحر , حيث ركب سفينته , فلما كانوا في وسط اللجة ثقلت السفينة وتعرضت للغرق، فأقرعوا بين الركاب للتخفف من واحد منهم لتخف السفينة . . فكانت القرعة على يونس ، فألقوه في اليم ، فابتلعه الحوت .
      عندئذ نادى يونس عليه السلام ـ وهو كظيم ـ في هذا الكرب الشديد في الظلمات في بطن الحوت , في وسط اللجة , نادى ربه.
      قال تعالى:[ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ{87} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ{88}] [الأنبياء: ٨٧ - ٨٨]
      فتداركته نعمة من ربه , فنبذه الحوت على الشاطئ . . لحما بلا جلدا . . ذاب جلده في بطن الحوت . وحفظ الله حياته بقدرته التي لا يقيدها قيد من مألوف البشر المحدود !.
      والتحذير للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ من الخروج من مكة مهاجراً قبل أن يفرد له إذن خاص به...
      ورأينا كيف كان التذكير له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏في سورة هود بإخوانه الأنبياء وما حدث لهم، وفي سورة يونس، كان التذكير بقوم يونس لأهل مكة ، فلقد أعطى الله سبحانه وتعالىلأهل مكة الفرصة بالإيمان، فلقد آمنوا ونفعهم إيمانهم.
      وهنا نجد في البدايات الأولى للوحي يذكر الله سبحانه وتعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏بعدم الاستعجال فقال له:[ :[ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ{48}] [القلم: ٤٨ ]

      وازداد الإيذاء ..
      وازداد معه الصبر حتى أذن الله سبحانه وتعالى للمسلمين الأوائل بالهجرة الأولى للحبشة..

      الهجرة إلى الحبشة.. والخروج من الأزمة


      حين اشتد العذاب بأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضاقت بهم السبل، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة "فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه" فخرج فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة؛ مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.
      وتفكير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ في الحبشة ينطوي على معرفة واسعة للنبي الكريم بأحوال شبه الجزيرة العربية، واتجاهاتها السياسية، فلم يكن هناك مكان أصلح للحماية والإيواء من الحبشة، فالقبائل العربية تربطها بقريش علاقات وثيقة، وروابط متينة تمنعها من استقبال هؤلاء المسلمين إذا ما فكروا في الهجرة إليها، وبلاد اليمن غير مستقرة يتنازعها التنافس بين الفرس والروم، والصراع بين اليهودية والنصرانية، ولم تكن أي مدينة من مدن الجزيرة العربية تصلح أن تكون مكانًا مناسبًا لإيوائهم، حتى يثرب نفسها التي استقبلت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك، وأقام بها دولته لم تكن تصلح هي الأخرى في هذا الوقت لاستقبال المهاجرين، حيث كانت تمزقها الخلافات الداخلية، والصراعات بين قبائله.
      وكان جملة من هاجر إلى الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً.
      وقبل الهجرة الأولى للحبشة، كانت سورة الكهف تُعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم لهذا الأمر :


      قال تعالى:
      [ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً{16}] [الكهف: ١٦]
      إنهمفتية،أشداء في أجسامهم, أشداء في إيمانهم، أشداء في استنكار ما عليه قومهم. .
      ولقدتبين لهم الطريقان طريق الإيمان وطريق الضلال , واختلف المنهجان ، فلا سبيل إلى الالتقاء , ولا للمشاركة في الحياة، ولا بد من الفرار بالعقيدة، إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها , ويتلقوا ما يتلقاه الرسل ، إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر , ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروابها،وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويراودهم , ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله .
      ولما كان أمرهم قد كشف، فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله, وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة، وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم:[ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً{16}] [ الكهف: ١٦ ]
      وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة، فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم,ويهجرون ديارهم , ويفارقون أهلهم . ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم ، هؤلاء يستروجون رحمة الله ، ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة .[ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً{16}] [الكهف: ١٦].
      ولفظة (ينشر) تلقي ظلال السعةالبحبوحةالإنفساح ، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسعيوطها وتمتد ظلالها , وتشملهم بالرفق واللين والرخاء .
      إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق , وإن الوحشة الموغلة لتشف , فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق .
      بعد ذلك جاء الإعداد النفسي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ للهجرة الشريفة فكان الحديث عن موسى عليه السلام.
      ثم جاءت سورة القصص:


      قال تعالى:[ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ{20}] [القصص: ٢٠]

      وكان هذا ملمحاً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏بالهجرة وذلك من خلال الأمر لنبي الله موسى بالخروج من المدينة والتوجه إلى مكان أخر[إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ ]...

      وهذا الإعداد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏من قصة موسى عليه السلام للهجرة الشريفة إنما هو إعداد مقصود لذاته إنها يد القدرة التي تظهر في اللحظة المطلوبة, لتتم مشيئتها ، ولسوف نفرد دراسة خاصة لهذا الإعداد من خلال قصص موسى عليه السلام المتكرر في القرآن المكي، بمشيئة الله تعالى.

      لقد عرف الملأ من قوم فرعون, وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنها فعلة موسى عليه السلام وما من شك أنهم أحسوا فيها بشبح الخطر، فهي فعلة طابعها الثورة والتمرد والانتصارلبني إسرائيل ، وإذن فهي ظاهرة خطيرة تستحق التآمر، ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء ، فانتدبت يد القدرة واحدا منالملأ .

      الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه, والذي جاء ذكره في سورة غافر، انتدبته ليسعى إلى موسى من أقصى المدينة في جد واهتمام ومسارعة,ليبلغه قبل أن يبلغه رجال الملك:

      [ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ{20} فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{21}][ القصص: ٢٠ - ٢١]..

      ومرةأخرى نلمح السمة الواضحة في الشخصية الانفعالية، التوتر والتلفت، ونلمح معها،التوجه المباشر بالطلب إلى الله, والتطلع إلى حمايته ورعايته, والالتجاء إلى حماه في المخافة, وترقب الأمن عنده والنجاة:[ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{21}][ القصص: ٢١]

      ثم يتبعه السياق خارجا من المدينة, خائفا يترقب, وحيدا فريدا, غير مزود إلا بالاعتماد على مولاه ; والتوجه إليه طالبا عونه وهداه :[ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ{22}][القصص: ٢٢]

      ونلمح شخصية موسى عليه السلام فريدا وحيدا مطاردا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز .
      مسافات شاسعة , وأبعاد مترامية , لا زاد ولا استعداد , فقد خرج من المدينة خائفا يترقب ,ـ لاحظ أن هذا هو نفس الحال التي كان عليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وخرج منزعجا بنذارة الرجل الناصح ,لم يتلبث , ولم يتزود ولم يتخذ دليلا ، ونلمح إلى جانب هذا نفسه متوجهة إلى ربه ,مستسلمة له , متطلعة إلى هداه:
      [ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ{22}] القصص: 22

      ومرةأخرى نجد موسى عليه السلام في قلب المخافة , بعد فترة من الأمن ، بل منالرفاهيةوالطراءة والنعمى ، ونجده وحيدا مجردا من قوى الأرض الظاهرة جميعا ,يطاردهفرعون وجنده , ويبحثون عنه في كل مكان , لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلاـ وهذا ما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة حينما خرج مهاجراً ـ ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا , ولا تسلمه لأعدائه أبدا،فها هو ذا يقطع الطريق الطويل , ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء.

      لقدانتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين ، وصل إليه وهو مجهود مكدود ،وانتهى به الأمر بعد ذلك عند الرجل الصالح شيخ مدين.

      [/font]
      التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:40 م.

      تعليق


      • #4
        المؤامرة ضد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏




        ثم تنبيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏لطبيعة المؤامرة التي سوف تحاك ضده ومن أهله وقومه فكان الحديث عن سورة يوسف عليه السلام
        وأليس ما حدث مع يوسف عليه السلام هو هو عين ما حدث للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الهجرة؟.
        قال تعالى:
        [ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ{30}] [الأنفال: ٣٠]

        وأليس هذا هو عين الموجود في سورة يوسف15:[ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ{15}][يوسف: ١٥]بعد أن قالوا:

        {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ }يوسف9


        {قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }يوسف10

        إنه التذكير بما كان ليوسف عليه السلام , قبل تغير الحال , وتبدل الموقف، وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل ; كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر،ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة , يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق .
        وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب, وما كان فيه من خوف وقلق ; في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة. . وما كان من تدبيرالمشركين ومكرهم برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم, لامجرد النجاة منهم !.
        لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ ويحبسوه حتى يموت ; أو ليقتلوه ويتخلصوا منه ; أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا.. ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله ; على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا ; ليتفرق دمه في القبائل ; ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها , فيرضوا بالدية وينتهي الأمر !.

        قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق , أخبرنا معمر , أخبرني عثمان الجريري, عن مقسم مولى ابن عباس , أخبره ابن عباس في قوله: [ وَإِذْ يَمْكُرُ].
        قال:" تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم:إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق ـ يريدون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه.
        فأطلع الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ على ذلك ; فبات عليّ رصي الله تعالى عنه على فراش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لحق بالغار،وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ فلما أصبحوا ثاروا إليه ; فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم , فقالوا: أين صاحبك هذا ? قال:لا أدري ! فاقتصوا أثره ; فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم , فصعدوا في الجبل , فمروا بالغار , فرأوا على بابه نسج العنكبوت , فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه . . فمكث فيه ثلاث ليال " .
        والصورةالتي يرسمها قوله تعالى:
        [ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ{30}] [ الأنفال: ٣٠]

        صورة عميقة التأثير..ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش , وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون . .والله من ورائهم, محيط, يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون.
        إنها صورة ساخرة, وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة. . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل , من تلك القدرة القادرة . . قدرة الله الجبار , القاهر فوق عباده ,الغالب على أمره , وهو بكل شيء محيط ?.
        والتعبيرالقرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ; فيهز بها القلوب ويحرك بها أعماق الشعور.

        الخروج من مكة:




        وفي الطريق إلى المدينة أنزل الله سبحانه وتعالى في سورة القصص:
        قال تعالى:[ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{85}] [القصص: ٨٥]

        الآن يتوجه الخطاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة، يتوجه الخطاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏وهو مخرج من بلده , مطارد من قومه , وهو في طريقه إلى المدينة لم يبلغها بعد , فقد كان بالجحفة قريبا من مكة , قريبا من الخطر , يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه , والذي يعز عليه فراقه , لولا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه , ومهد ذكرياته , ومقر أهله .
        يتوجه الخطاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏:[ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{85}] [القصص: ٨٥]

        وهو في موقفه ذاك:

        فما هو بتاركك للمشركين , وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك , ويستبدون بك وبدعوتك , ويفتنون المؤمنين من حولك،إنا فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره , وفي الوقت الذي فرضه ;وإنك اليوم لمخرج منه مطارد , ولكنك غدا منصور إليه عائد .
        [ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ] [القصص: ٨٥]
        وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب ,ليمضي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏في طريقه آمنا واثقا , مطمئنا إلى وعد الله الذي يعلم صدقه , ولايستريب لحظة فيه .

        وإن وعد الله لقائم لكل السالكين في الطريق ; وإنه ما من أحد يؤذى في سبيل الله، فيصبر ويستيقن إلا نصره الله في وجه الطغيان في النهاية , وتولى عنه المعركة حين يبذ لما في وسعه , ويخلي عاتقه , ويؤدي واجبه .
        [ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ] [القصص: ٨٥]

        ولقد رد موسى من قبل إلى الأرض التي خرج منها هاربا مطاردا، رده فأنقذ به المستضعفين من قومه, ودمر به فرعون وملأه,وكانت العاقبة للمهتدين. .
        فامض إذن في طريقك, ودع أمر الحكم فيما بينك وبين قومك لله الذي فرض عليك القرآن:
        [ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{85}] القصص: ٨٥

        ودع الأمر لله يجازي المهتدين والضالين، وماكان فرض القرآن عليك إلا نعمة ورحمة ; وما كان يجول في خاطرك أن تكون أنت المختارلتلقي هذه الأمانة.
        وإنه لمقام عظيم ما كنت تتطلع إليه قبل أن توهبه:

        قال تعالى:[وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ{86}] [القصص: ٨٦]

        وهو تقرير قاطع عن عدم تطلع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ إلى الرسالة ; إنما هو اختيار الله سبحانه وتعالى ،والله يخلق ما يشاء ويختار , فذلك الأفق أعلى من أن يفكر فيه بشر قبل أن يختاره الله له ويؤهله ليرقاه . وهو رحمة من الله بنبيه وبالبشرية التي اختاره لهدايتها بهذه الرسالة ، رحمة توهب للمختارين لا للمتطلعين ، ولقد كان من حوله كثيرون في العرب وفي بني إسرائيل يتطلعون إلى الرسالة المنتظرة في آخر الزمان، ولكن الله سبحانه وتعالى ـ وهوأعلم حيث يجعل رسالته ـ وقد اختار لها من لم يتطلع إليها ولم يرجها , من دون أولئك الطامعين المتطلعين , حينما علم منه الاستعداد لتلقي ذلك الفيض العظيم .
        ومن ثم يأمره ربه ـ بما أنعم عليه بهذا الكتاب ـ ألا يكون ظهيرا للكافرين ;ويحذره أن يصدوه عن آيات الله ويمحص له عقيدة التوحيد خالصة في وجه الشرك والمشركين.
        قال تعالى:[ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ{86} وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{87}] [القصص: ٨٦ - ٨٧]
        فهذه الآيات الكريمة نزلت ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏في طريق هجرته الفاصلة بين عهدين متميزين من عهودالتاريخ:
        [ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ] فما يمكن أن يكون هناك تناصر أو تعاون بين المؤمنين والكافرين.
        التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:40 م.

        تعليق


        • #5
          بين يدي الهجرة النبوية الشريفة


          أهمية الهجرة




          تكمن أهمية الهجرة في:
          تخليص المؤمنين من حالة العوَز وقلة الأمن، ومن ثم إطلاق قدراتهم الإنتاجية في حالتَي السلم والحرب معًا.
          قال تعالى:
          [ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{100}] [النساء: ١٠٠]
          والمراغم هو المنعة والقوة، أو ما يرغِم به المؤمنون أعداءهم على مساومتهم ومنعهم من العدوان عليهم، والسعة هي سعة العيش.

          وقال تعالى:
          [ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ{41}] [النحل: ٤١]

          فالمهاجر في سبيل الله اليوم إنما يهاجر ليطلق لنفسه قدراتها، ويتحلل من كل قيد يلزمه بالقعود، والمهاجر في سبيل الله اليوم مطالَب بأن يطلق لفكره وعقله وعلمه كل الآفاق الرحبة الواسعة.
          والأمة تقف أمام أمر إطلاق الطاقات هذا وتتمعن في نفسها، وما يكبلها من آسار الأغلال الثقيلة التي جعلتها في آخر الأمم، وتمعن الأمة النظر في الأمن والحريات التي هي أول مدارج الصعود نحو الهجرة؛ لتعي الهوة الكبيرة بينها وبين الهجرة النبوية العطرة.
          وكذا المسلم ـ بل الداعية ـ يجب أن يقف ليراجع فكره ونفسه، ويستخرج الأغلال التي تحيط به وأن ينطلق الانطلاقة المباركة وفق شرع ربنا الحكيم، وقدوته صاحب الهجرة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.
          إن الأعداد الكبيرة من المسلمين التي تهاجر اليوم الهجرة العكسية إلى بلاد الغرب، ثم تظل تدور حول نفسها متأثرة بالمحيط الذي تعيش فيه، غاب عنها معنى إطلاق الطاقات هذا، وفات عليها لُباب الأمر في فقه الهجرة.
          والهجرة بمعناها الشامل حركة تجديد مستمر، وعامل من عوامل قوة الأمة الفكرية والمادية؛ كونها تتمحور حول المثل الأعلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، ولا تزال الأمة بعافية ما دامت على صلة قوية بهذا المثل الأعلى، سواء في إنضاج فكرها أو تقدم مدنيتها، ومن تدبَّر أحداث الهجرة ودقائقها أدرك أهمية حركة التجديد، وترك البيئات المغلقة إلى البيئات المفتوحة، سواء أكانت بلدًا أو مؤسسة، أو حتى نفس المؤمن ذاته؛ إذ المثل الأعلى يحث دائمًا على أسمى الغايات، ويدفع لإنجاز أرقى الحضارات، ولن يتحقق ذلك إلا بالتجدُّد المنفتح، المتعلق بالمثل الأعلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.
          والهجرة مطلب قوي لتماسك الجبهة الداخلية في الأمة؛ إذ هي المراجعة والمحاسبة، سواء الذاتية أو الجماعية أو المؤسسية، إذْ جوهر الهجرة يقوم على هَجْر كل ما لا يليق، وبهذه النظرة الواعية لمعنى الهجرة يكون النقد البناء، وتكون المراجعات الربانية للسَّيْر، والتفرس في الأخطاء، وهذا من أقوى عوامل النهوض الحضاري.
          إن حالة الأمة اليوم ـ وحال أفرادها في الغالب ـ لفي أشد الحاجة إلى إطلاق الطاقات الكبيرة التي تحوزها في أبنائها، وتوفير الأمن والاستقرار لهم؛ فما سعى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ للمدينة إلا بعد سنوات من الكبت والتضييق؛ فكانت المدينة المنورة البيئة التي انطلق فيها البناء الحضاري، ونلمس اليوم إما كبتًا لمجتمعات كاملة، أو فقدانًا للدور في كثرة من أفراد الأمة.
          وحركة التجديد التي قال فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (أبو داود بسند صحيح) هذه الحركة تحتاج إلى تجديد في الأفراد والمؤسسات.
          والنقد الداخلي والتوبة والمراجعة قوة تتماسك بها الأمة، وتسترد بها عافيتها، ويتنفس بها كل فرد أنسام البناء الحضاري.

          الهجرة.. حدث غيّر مجرى التاريخ

          هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ إلى يثرب ضرورة فرضتها آليات الدعوة لانطلاقة الدين الجديد
          مكث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى الإسلام، ويبصرهم بشرائعه، ويرشدهم إلى أحكامه، دون أن يتطرق إليه ملل، أو يصيبه كلل أو ضجر، لا تصرفه عن دعوته الشواغل، ولا يثنيه عن التبليغ وعد أو وعيد، وإنما هو ماض في طريقه، تحوطه عناية الله وتكلؤه رحمته، لا يجد وسيلة تمكّنه من تبليغ دعوته إلا اتبعها، ولا طريقة تهيئ له النجاح إلا أخذ بأسبابها، طرق كل باب، ووقف عند كل جمع، وعرض دعوته على القبائل؛ لعل أحدًا يؤمن بها ويؤازرها.
          وآمن بالدعوة الجديدة بعض أهل مكة، ممن سمتْ نفوسهم، وصفتْ أفئدتهم، ونضجتْ عاطفتهم الدينية، فالتفوا حول نبيهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ كما آمن عدد من الرقيق والموالي والمستضعفين في مكة، ولم تلق مكة بالاً لهذا الدين الجديد في بادئ الأمر، وعدّت محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ وصحبه مجموعة من الحنفاء الذين يظهرون ثم يختفون دون أن يلتفت إليهم أحد.. لكن هيهات هيهات...
          فلقد استشعرت مكة وأهلها الخطر، حين وجدوا أنفسهم أمام رجل آخر، ودعوة مختلفة، وجماعة تتكون، وكتاب يُتلى، وأن الرسالة يتزايد أنصارها وإن كانت تشق طريقها ببطء بين دهاليز وجبال مكة وعقول أهلها وعصبيتهم التي جبلوا عليها، وليس هذا فحسب بل، هالهم الأمر حين بدأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ يهاجم الوثنية ويعيب الأصنام، ويسفّه عبادتها، وهنا رأت مكة أن مكانتها الدينية وزعامتها الروحية في خطر، فلجأت إلى مواجهة الدين الوليد، ومحاصرته بكافة الوسائل التي تضمن إجهاضه والقضاء عليه، ولم تتحرج في استخدام التعذيب والقتل والسجن مع المؤمنين بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ودعوته، ولم يسلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ نفسه من الأذى، وتعرضت حياته للخطر.

          مقدمات الهجرة الكبرى

          وإذا كانت الحبشة التي يحكمها ملك عادل تصلح أن تكون مأوى صالحًا ومكانًا للحماية، فإنها لم تكن تصلح أن تكون مركزًا للدعوة، ومعقلاً للدين، ولهذا لم يفكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏في الهجرة إليها، واستمر في عرض دعوته على القبائل العربية التي كانت تفد إلى مكة، أو بالذهاب إلى بعضها كما فعل مع قبيلة ثقيف في الطائف، ولم تكن قريش تتركه يدعو في هدوء، وإنما تتبّعت خطوه، تحذر القبائل من دعوته وتنفّرها منه.
          غير أن سعي النبي الدءوب، وحرصه على تبليغ دعوته كان لا بد أن يؤتي ثماره، فتفتّحت لدعوته قلوب ستة رجال من الخزرج، فأسلموا، ووعدوه بالدعوة للإسلام في يثرب، وبشروه بالفوز لو قُدّر له أن تجتمع عليه قبائل يثرب.

          ولم يكد ينصرم عام حتى وافى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ في موسم الحج اثنا عشر رجلاً: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وعقد معهم بيعة عرفت ببيعة العقبة الأولى، على "ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم...".
          وأرسل معهم حين عادوا إلى بلادهم مصعب بن عمير، وكان داعية عظيمًا، فقيهًا في الدين، لبقًا فطنًا، حليمًا رفيقًا، ذا صبر وأناة، فنجح في مهمته أيما نجاح، وانتشر الإسلام في كل بيت هناك، وهيأ السبيل لتكون يثرب هي دار الهجرة، التي ينطلق إليها المسلمون، ومعقل الدين ومركز الدولة.

          وبعد عام عاد مصعب في موسم الحج، ومعه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، التقوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ في إحدى الليالي سرًا وبايعوه بيعة العقبة الثانية، التي تضمنت التزامهم بحماية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ عندما يهاجر إليهم والدفاع عنه، والمحافظة على حياته.
          ومن ثم حددت هذه البيعة الوضع القانوني للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ بين أهل يثرب، فاعتبرته واحدًا منهم، دمه كدمهم، وحكمه كحكمهم، وقضت بخروجه ضمنًا من عداد أهل مكة، وانتقال تبعيته إلى أهل يثرب، ولهذا أخفى المتبايعون أمر هذه البيعة عن قريش؛ لأن الفترة بين إتمام هذه البيعة، ووصوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ لا يلتزم أهل يثرب خلالها بحماية النبي الكريم إذا وقع له مكروه أو أذى من قريش.

          التجهيز للهجرة

          وبعد أن تمّت البيعة المباركة أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا أفرادًا وجماعات، يتخفّى بها من يخشى على نفسه، ويعلنها من يجد في نفسه القدرة على التحدي.
          ولم تقف قريش إزاء هذه الهجرة مكتوفة اليدين، فحاولت أن ترد من استطاعت رده، لتفتنه في دينه أو تعذبه أو تنكل به، ولكن دون جدوى، فقد هاجر معظم المسلمين، وبقى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ في مكة، ووقعت قريش في حيرة: هل يظل في مكة كما فعل في الهجرة إلى الحبشة، أم يهاجر في هذه المرة مع أصحابه؟ وفي هذا خطر شديد عليهم؛ لأنه يستطيع في يثرب أن ينظم جماعته، ويقيم دولته، فتتهدد مكانة قريش بين القبائل، وتضيع زعامتها، وتتأثر تجارتها.
          حزمت قريش أمرها، واتخذت قرارها بقتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ قبل أن تفلت الفرصة من بين أيديها، ويتحقق ما تخشاه، فأعدوا مؤامرتهم لهذا الغرض الدنيء، وأشركوا جميع القبائل في قتله، باختيار شاب قوي من بين أبنائها، حتى يتفرق دمه في القبائل، ولا يقوى بنو هاشم على محاربة أهل مكة، وقد سجل القرآن الكريم نبأ هذه المؤامرة الخسيسة في قوله تعالى في الأنفال:[ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ{30}] [الأنفال: ٣٠]

          حادث الهجرة.. وأسباب النجاح
          اتخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ كل الأسباب التي تضمن نجاح هجرته إلى المدينة التي ترتب عليها قيام دولة الإسلام، واتساع رقعتها، وسطوع حضارتها، ولعل أهم الأسباب هو نجاحه الباهر في إعداد المكان الذي سينزل به هو وأصحابه، مستخدمًا كل الوسائل الممكنة من توثيق عرى العلاقات مع أهل يثرب بعقد معاهدتين عظيمتين، وإرسال داعية عظيم الكفاءة، قوي الإيمان، شديد الإخلاص؛ لنشر الدين، وجذب الأتباع هناك.
          والسبب الثاني من أسباب النجاح هو اختيار الوقت المناسب للهجرة، فلم يعزم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ على الهجرة إلا بعد أن استوثق من رسوخ إيمان أهل يثرب، وتعهدهم بحمايته والدفاع عنه، وذلك في بيعة العقبة الثانية، ومن ثم لم تعد هناك حاجة لبقائه في مكة بعد أن وجد النصرة والمنعة عند أهل يثرب.

          والسبب الثالث هو آليات الهجرة التي اتبعها النبي في خروجه من مكة إلى المدينة، في واحدة من أجلّ ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة، وتفاصيل هذه الهجرة مذكورة في كتب السيرة، ولسنا في حاجة إلى سردها الآن، ولكن يمكن القول بأنها كانت سرية إلى أقصى حد، ودقيقة إلى أبعد مدى، وضع لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏كل ما في وسع البشر وطاقتهم من وسائل تضمن لها النجاح، وخطط تحقق لها التوفيق، فإذا لم يفلح ذلك كله، فستأتي عناية الله في اللحظة المناسبة.

          الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة
          وما أن وصل النبي المدينة في ضحى يوم الاثنين، الموافق (12 من ربيع الأول للسنة الأولى من الهجرة الموافق 24 سبتمبر 622م) حتى بدأ العمل الجاد، والسعي الدءوب، حتى أكمل رسالته على نحو لا مثيل له في تاريخ الإنسانية.
          ولم تكن يثرب عندما نزلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ مدينة بالمعنى المعروف، وإنما كانت واحات متفرقة في سهل فسيح تسكنها قبائل الأوس والخزرج والجماعات اليهودية، فنظّم العمران بالمدينة، وشق بها طرقا معبّدة، وكان المسجد هو الأساس في هذا التنظيم، انتظم حوله عمران المدينة الجديدة، واتسقت شوارعها.
          وكان هذا المسجد هو مقر الرئاسة الذي تقام فيه الصلاة، وتُبرم فيه كل الأمور، وتُعقد به مجالس التشاور للحرب والسلم واستقبال الوفود، وبجوار المسجد اتخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ مساكنه، وكانت متصلة بالمسجد، بحيث يخرج منها إلى صلاته مباشرة، وأصبح من السُنّة أن تُبْنى المساجد وبجوارها بيوت الولاة ودواوين الحكم.
          ثم أصلح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ما بين الأوس والخزرج وأزال ما بينهما من عداوة، وجمعهما في اسم واحد هو الأنصار، ثم آخى بينهم وبين المهاجرين على أساس أن المؤمنين إخوة، وكانت المرة الأولى التي يعرف فيها العرب شيئا يسمى الأخوة، دون قرابة أو صلة رحم، حيث جعل كل رجل من المهاجرين يؤاخي رجلا من الأنصار، فيصير الرجلان أخوين، بينهما من الروابط ما بين الأخوين من قرابة الدم.
          وبعد المؤاخاة كانت الصحيفة، وهي الدستور الذي وضعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ لتنظيم الحياة في المدينة، وتحديد العلاقات بينها وبين جيرانها، هذه الوثيقة لم يُمْلِها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ إملاء، وإنما كانت ثمرة مناقشات ومشاورات بينه وبين أصحابه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وكلما استقروا على مبدأ قام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏بإملاء نصه على علي بن أبي طالب، وشيئا فشيئا اكتملت الوثيقة، وأصبحت دستورا للجماعة الجديدة، ولا يكاد يُعرف من قبل دولة قامت منذ إنشائها على أساس دستور مكتوب غير هذه الدولة الإسلامية الجديدة، فإنما تقام الدول أولا، ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور.
          وأدت هذه السياسة الحكيمة إلى قيام جماعة متآلفة متحابة، وإلى ازدياد عدد سكان المدينة حتى زاد عدد سكانها عما كانوا عليه أكثر من خمس مرات، بعد أن أقبل الناس على سكناها؛ طلبا للأمن والعدل في ظل الإسلام، والتماسًا لبركة مجاورة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ واستجابة لما دعا إليه القرآن من الهجرة إلى الله وإلى رسوله.
          التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:40 م.

          تعليق


          • #6
            بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة




            كانت الهجرة إلى المدينة ضرورة ملحة فرضتها الأحداث التي أحاطت بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ في مكة، وألزمته السعي إلى مكان آخر تُمارس فيها شعائر الإسلام، وتُطبّق أحكامه، وتنطلق دعوته إلى كل مكان، دون مزاحمة أو تضييق، ومكة حينذاك لم تعد صالحة لهذه الفترة من عمر الرسالة، لأن العداء قد بلغ بها كل مدى ضد الدين الجديد، وأصبحت هناك صعوبة بالغة في استكمال الدعوة التي تحتاج إلى دولة حتى تنجح رسالتها.

            ولم تكن الحبشة التي تنعم بالعدل والأمان تصلح لهذه الفترة؛ نظرا لاختلاف البيئة اللغوية والدينية هناك؛ الأمر الذي جعل حركة الإسلام هناك بطيئة، وبلا فاعلية، ولا تسمح هذه البيئة بالتطبيق؛ ومن ثم لم تكن هناك مدينة في شبه الجزيرة العربية تصلح لاستقبال الدين في الفترة الثانية إلا يثرب التي أُطلق عليها مدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.
            وللهجرة بهذا المفهوم معنيان:


            حسي ومعنوي، وفي معناها اللغوي هي الانتقال، وقد يكون الانتقال حسيًّا بترك مكان لآخر، وقد يكون معنويًّا بالانتقال من ثقافة إلى أخرى.
            ومن معاني هذا الأخير قول الله تعالى في سورة المدثر:[ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ{5}] [المدثر: ٥]
            وقال تعالى:[ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً{10}] [المزمل: ١٠]
            فهي مراجعة لكافة الموروثات الثقافية والبنائية، واكتشاف الجوانب التي عدا عليها الخطأ أو الفساد في الفهم والتطبيق، مراجعة عملية فاعلة.
            بين الهجرة الشريفة والعام الهجري


            يخلط الكثير من المسلمين بين الهجرة النبوية الشريفة والعام الهجري فالرسول صلى الله عليه وسلم قد هاجر في شهر ربيع الأول في حين أن العام الهجري يبدأ من شهر المحرم وكلما جاء العام الهجري احتفل المسلمون بذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وفي هذا خلط كبير، ولما كانت الهجرة النبوية الشريفة تعتبر من أعظم الأحداث لذلك تم التأريخ بها.
            وقد ألف الناس أنه في الأحداث الكبيرة تنزل السور لتعالج مثل هذه الأمور فسورة الفتح مثلاً نزلت عقب الحديبية وسورة الأنفال نزلت عقب غزوة بدر الكبرى والنصف الثاني من سورة آل عمران نزلت بعد غزوة أحد وسورة النور نزلت بعد حادثة الإفك ، وهكذا وهكذا ، فإذا كانت أحداث الهجرة هي أعظم الأحداث في الإسلام الأمر الذي جعل الصحابة يؤرخون بها
            فلماذا لم تنزل سورة في أعقابها تعلق على هذا الحادث؟..
            لأن الهجرة كحدث عظيم لم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يعقب عليها بسورة وينتهي الأمر وإنما شاء الحق سبحانه وتعالى أن تذكر على امتداد الدعوة فإذا حدثت حادثة معينة أرجعهم الحق سبحانه وتعالى إلى الحديث عن الهجرة والمهاجرين, لذلك سوف تجد على امتداد القرآن كله لا تخلو سورة من السور من ذكر الهجرة والذين هاجروا، حتى الآيات التي نزلت في سورة التوبة ويحفظها الكل ويرددها المشايخ من فوق المنابر بمناسبة الحديث عن الهجرة إنما نزلت بعد تسع سنيين من الهجرة، في مناسبة أحكيها لكم:

            إن دولة الروم كانت دولة عظمى كأمريكا الآن وكانت مسيطرة على الشمال الإفريقي كله، وكانت محتلة لشمال الجزيرة العربية، هذه الدولة جاء الإذن من السماء بالخروج لملاقاتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هم بغزو بلد عرض بغيرها إلا في هذه الغزوة فلقد جاء الأمر مباشرة وكان الأمر في شهر أغسطس في شدة الحر، وهنا تقاعس بعض المسلمين ، وتدخل المنافقون وقالوا هلك محمد وأصحابه، وعلى الفور نزلت الآيات تزلزل الأرض من تحت أقدام المسلمين فقال الله تعالى :

            [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ{38}] [التوبة: ٣٨]
            وعلى الفور أرجعهم الله تعالى إلى حادثة الهجرة التي تمت منذ تسع سنين.
            فالرجل الفرد الذي خرجت الدنيا كلها في أثره تطلبه كان الله معه وكان الله ناصره، فما بالكم بأمة كاملة إذا خرجت لتنصر الحق:

            [ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{40}][التوبة: ٤٠]
            فالهجرة كحدث أكبر من أن يعلق عليها بسورة وانتهى الأمر.

            والهجرة إن هي إلا رديف لمعنى التزكية، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏:
            "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".
            رواه أبو داود بسند صحيح.
            إن الحديث عن الهجرة يجب ألا نقف فيه عند مظاهر هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، ونسرد التفاصيل التي وردت عنها، بل نحن مطالبون بالغوص في عميق جذرها، وتحليل نفسية الهجرة وفلسفتها؛ كي نعي وندرك منها بعضًا من سبل الخلاص لأنفسنا وأمتنا الكريمة.
            إن التلازم بين معنيي الهجرة ـ الجسدي والنفسي ـ لا يزال قائمًا ما دام المؤمنون لم يمسكوا بزمام الأستاذية العالمية، ولا يزالون حتى ذلك الوقت يحتاجون إلى المعين المزدوج للهجرة النبوية العطرة، ولا يتوقف أبدًا المعنى النفسي أو المعنوي؛ لأنه بمثابة الزاد والتزكية للأنفس والمجتمعات.
            فالهجرة النبوية نهر جاري العطاء في كل حين بإذن ربه، يغرف منه المؤمن رواء له حينًا بعد حين، يربط الحداثة بالواقع، ويتلقط منها ما يريد،
            ومع إدراك فقه الهجرة وأبعادها يُطوَى اليأس، وتُطوَى معه مراحل في النفس وفي الآفاق الدعوية، وما ثمة مكان للحزن.
            قال تعالى:
            [ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{40}][التوبة: ٤٠]
            التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:39 م.

            تعليق


            • #7
              بين الهجر والهجرة في العصر الحديث



              إذا تتبعنا الآيات والأحاديث التي تتصل بموضوع الهجرة نجد ثلاثة أنواع من الهجرة:
              النوع الأول :
              حيث تكون الهجرة من دار يحس فيها المسلم بالخطر على دينه وبأنه إن استمر فيها مقيما فإنه يتعرض لفتنة غالبة على العقيدة ، وأنه سوف يتعرض لإيذاء شديد ومحنة قاسية جراء التمسك بواجبات دينه وفرائضه ، في هذه الحالة حيث تكون الهجرة من هذه الدار إلى دار أخرى تتحقق فيها السلامة والفائدة للدين
              يدعو القرآن إلى الهجرة كما يدعو إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وفي مثل هذه الحال
              قال تعالى:[ دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{96} إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً{97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً{98} فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً{99} وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{100}] [النساء: ٩٦ - ١٠٠]
              فهذه الآيات تدل على وجوب الهجرة على من يخاف على عقيدته ودينه في أرض الكفر ، وتعد بالعفو عمن لا يستطيع حيلة تمكنه من الهجرة ، ولا سبيل يهتدي إليه ، وهي مع ذلك تعد الشجعان الذين يقدمون على الهجرة بما تنطوي عليه من مشقة وأهوال بالتيسير والتوفيق .
              ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات : ( هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين ، إذ يجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه .. ، والظاهر أن المراغَم المنع الذي يتخلص به ويراغِم به الأعداء ) والسعة المشار إليها في الآية يراد بها سعة من الضلالة إلى الهدى ، ومن الضعف إلى القوة ، ومن القلة إلى الغنى ، وإذن فلا يصح في هذه الهجرة أن تكون هروبا ، ولكن لابد من رجحان المراغمة ضد العدو ، ورجحان المناصرة مع الإخوة
              ومن هنا يقول الإمام العيني في شرحه على صحيح البخاري : ( أما الهجرة من المواضع التي لا يتأتى فيها أمر الدين فهي واجبة اتفاقا ) .
              وفي هذه الحالة أيضا جاءت الأحاديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: فيما رواه الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمر يقول:
              «لتكونَنّ هجرةٌ بعد هجرة، إِلى مُهَاجَرَ أَبيكم إِبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، حتى لا يبقى في الارضينَ إِلاّ شِرارُ أَهلها، وتَلْقِطْهُم أَرضُوهم، وتَقْذَرُهم رُوح الرحمن ـ عز وجل ـ وتَحشرهم النارُ مع القردة والخنازير، تَقِيل حيثُ يقيلون، وتَبيت حيثُ يبيتون، وما سقط منهم فَلَها».
              وجاء في سنن أبي داود باب في الهجرة هل انقطعت ، بسنده عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ أبِي عَوْفٍ عن أبي هِنْدٍ عن مُعَاوِيَةَ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتّى تَنْقَطِعَ التّوْبَةُ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التّوْبَةُ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».

              وفي سنن النسائي بسنده عَنْ عَبْدِ الله السّعْدِيّ قَالَ وَفَدْنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ أَصْحَابِي فَقَضَى حَاجَتَهُمْ ثُمّ كُنْتُ آخِرَهُمْ دُخُولاً فَقَالَ حَاجَتُكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَتَى تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ؟ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفّارُ.).

              وفي هذا يقول العلماء : ( أما الهجرة عن المواضع التي لا يتأتى فيها أمر الدين فهي واجبة اتفاقا ) كما ذكر العيني في شرحه للحديث في صحيح البخاري .

              ومن هنا كان الإذن بالهجرة إلى الحبشة عندما اشتد العذاب على المسلمين بمكة ، قبل الهجرة إلى المدينة .
              قال ابن إسحاق : فلما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم : إذا خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم . فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏إلى ارض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.
              قال ابن إسحاق : وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة فكانوا بها ، منهم من خرج بأهله معه ، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه
              وكان فيمن هاجر من أعلام المسلمين الأولين مثل عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت الرسول عليه الصلاة والسلام ، وجعفر بن أبي طالب ، وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود وغيرهم .
              ونحن نشك في أن هذا ينطبق على أية جماعة من المسلمين في العصر الحاضر ممن نعرف أن ليس لهم وضع كالذي كانت عليه مجموعة الهجرة إلى الحبشة في عصر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ لكننا نبقيه صالحا للأخذ به من ناحية المبدأ بالشروط السابقة.

              أما النوع الثاني من الهجرة :
              فإنما تكون كذلك من دار يتحقق فيها الخطر على الدين ، لكنها لا تكون إلى دار يتحقق فيها السلامة فحسب ، كما في النوع الأول ، ولكنها تكون فوق ذلك مقدمة إلى نصر على أعداء الدين .
              إنه أشبه ما تكون بحركة في ميدان القتال، يرجع فيها الجيش خطوة أو يتحيز إلى فئة لينطلق بعد ذلك في طريق النصر، وهكذا كانت هجرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏وأصحابه من مكة إلى المدينة.
              لم تكن هجرة للسلامة، ولكنها هجرة للقتال والجهاد والكفاح؛ كانت بدء مرحلة جدية من الجهاد في سبيل الله.
              ومن هنا كان تعرض الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏للأنصار عند قدومهم إلى مكة يطلبون الحلف مع قريش ، فدعاهم إلى الإسلام ، أبطل بذلك حلفا محتملا للأعداء ، وأنشأ حلفا محققا لصالح الدعوة الإسلامية ، فكانت بيعة العقبة الأولى مع اثني عشر رجلا من الأنصار ، وأرسل معهم إلى المدينة من يعلمهم القرآن والشرائع ، وهنالك انتشر الإسلام فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها مسلمون رجالا ونساء ، ثم كانت بيعة العقبة الثانية وكان المبايعون فيها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين ، بايعوا فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأنفسهم وأن يرحل وأصحابه إليهم ، وكل ذلك تمهيدا للهجرة ، بين الغرض منها ، لم يكن الخروج لمجرد السلامة ، ولكنه التحفز لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية .
              ومن هنا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة فخرجوا إليها أرسالا ، وانتظر الرسول بمكة محتجزا معه أبا بكر وعليا رضي الله عنهما ، حتى أذن بالخروج فكانت الهجرة بأحداثها ونتائجها .
              وكانت بدءا لقتال تتابعت غزواته ضد المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم، وكانت بزوغا لشمس الإسلام بعد أن ظهر فجره في مكة.
              وكانت ظهورا للمجتمع الإسلامي بعد أن تكون أفراده في مرحلة الدعوة المكية .
              وكانت حجر الأساس في ظهور الدولة الإسلامية التي حملت الدعوة، ونشرت الإسلام في أرجاء العالم من بعد
              فهذا النوع من الهجرة ليس فرارا، وليس إيثارا للسلامة، وليس إيثارا للراحة، وإنما هو انتقال من مشقة إلى مشقة، ومن جهاد إلى جهاد، وهو واجب حيثما توافرت دواعيه، وتحققت أسبابه، وترقبت نتائجه في النصر.
              إنها ليست هربا من الجهاد ولكنها إعداد له .
              وجدير بنا نحن المسلمين اليوم أن نستحضر التاريخ الذي هو جوهر ذاتنا ومبنى شخصيتنا
              وجدير بنا أيضا ونحن نستحضره أن نلتفت إلى ما فيه من عناصر العمل الإيجابي وتحمل المسئولية ، والمسئولية القيادية ، وإخلاص التوجه إلى الله تعالى لا أن نكتفي بسرد ما فيه من نفحات الإعجاز وخوارق العادات ، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏وهو أقرب الناس إلى الله لم يدخر جهدا في التدبير للهجرة ، وقد بدأ هذا التدبير مبكرا بعرض نفسه على القبائل من العرب : أن يحموه وينصروه ، أخفى صلى الله عليه وسلم رسالته ثلاث سنين ثم أعلن بها في الرابعة ودعا إلى الإسلام عشرة سنين ، يوافي الموسم كل عام ، يتبع حجيج الجاهلية في منازلهم ، بمنى ، والموقف ، يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة ، ويسأل عن منازلهم ، ويأتي أسواق المواسم : عكاظ ، ومجنة ، وذو المجاز ، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه .

              وفي السيرة الهاشمية أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏كان يقف في منازل القبائل من العرب ، بمنى ، فيقول : يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وان تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني ، حتى أبين عن الله عز وجل ما بعثني به .
              وكان خلفه أبو لهب ، كان إذا فرغ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏من قوله يقول : يا بني فلان إن هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه .
              وذكر ابن إسحاق أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏عرض نفسه من بين ما عرض على بني عامر بن صعصعة ، فقال له رجل منهم : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟.
              قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: الأمر لله يضعه حيث شاء .
              فقال له العامري : أنقاتل العرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ؟ لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه . وكانت نقطة فاصلة.
              إنها الرسالة الصاخة أسماع العلمانية منذ أربعة عشر قرنا .
              فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركه السن فلما قدموا عليه سألهم عما كان في موسمهم قالوا : جاءنا فتى من قريش أحد بني عبد المطلب ، يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا ؟ فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال : يا بني عامر هل لها من تلاف ؟ - أي تدارك هل لها من مطلب ؟ والذي نفسي بيده ما يقولها كاذبا أحد من بني إسماعيل قط ، وإنها لحق ، وإن رأيكم غاب عنكم .

              وذكر الواقدي أنه كان ممن عرض صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم : بني عبس ، وبني سليم ، وغسان ، وبني محارب ، وفزارة ، وبني نضر ، ومرة وعذرة والحضارمة ، فكانوا يردون عليه صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ، ويقولون : أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك
              ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه من بني حنيفة ، أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب .

              ويروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه سلم لقي جماعة من شيبان بن ثعلبة ، وكان معه أبو بكر وعلي رضي الله عنهما ، وان أبا بكر سألهم ممن القوم : قالوا من بني شيبان بن ثعلبة ، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر ـ أي سادات في قومهم ـ وفيهم مفروق بن عمرو ، وهانئ بن قبيصة ، ومثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك .

              وكان مفروق بن عمرو أقرب مجلسا إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال له : إنا لنزيد على الألف ولن تغلب الألف من قلة .
              فقال أبو بكر رضي الله عنه : كيف المنعة فيكم ؟.
              قال مفروق : علينا الجهد الطاقة ولكل قوم جد أي حظ وسعادة ، أي علينا أن نجتهد وليس علينا أن يكون لنا الظفر لأنه من عند الله يؤتيه من يشاء .
              فقال أبو بكر رضي الله عنه : فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم ؟.
              فقال مفروق : إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى ، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب ، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد ، والسلاح على اللقاح ، لعلك أخو قريش ؟.
              فقال أبو بكر رضي الله عنه : أو قد بلغكم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏فيها ؟ - أي قريش هو ذا .
              فقال مفروق : بلغنا أنه يذكر ذلك ، فإلام تدعو يا أخا قريش ؟.
              فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأني رسول الله ، وإلى أن تؤووني وتنصروني ، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله ، وكذبت رسوله ، واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغني الحميد .
              فقال : مفروق : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون .
              قال مفروق : ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم عرفناه . ثم قال : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش ؟
              فتلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر ، والبغي لعلكم تذكرون .فقال مفروق : دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك .
              وكان مفروق أراد أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة ، فقال: هذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا .
              فقال هانئ : قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش ، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لزلة في الرأي وقلة نظر في العاقبة ، وإنما تكون الزلة مع العجلة ، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ، ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر ، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة ، فقال : هذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا .
              فقال المثنى : قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش ، والجواب جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر ، وإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب دون ما يلي أنهار كسرى فعلنا ، فإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا وأن لا نؤوي محدثا ، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه أنت هو مما تكرهه الملوك . وما دروا أن وقت النظر لا يطول ، وأن رضا ملك الملوك أولى من رضا الملوك .
              التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:39 م.

              تعليق


              • #8
                هاهو النموذج العربي القديم في التبعية لملوك الدول الكبرى وأباطرتهم.
                ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏قال لهم : ما أسأتم في الرد ، إذ أفصحتم بالصدق ، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه ، إن لم تلبثوا إلا قليلا ، حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم ، ويعرسكم نساءهم : تسبحون الله وتقدسون ؟ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً{45} وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً{46} وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً{47} وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً{48}] [الأحزاب: ٤٥ – ٤٨].
                ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم .
                ولما قدمت بكر بن وائل مكة للحج قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏لأبي بكر : ائتهم ، فأتاهم ، فعرض عليهم ، فقال لهم : كيف العدد فيكم ؟ قالوا : كثير مثل الثرى .
                قال : فكيف المنعة ؟ قالوا : لا منعة ، جاورنا فارس ، فنحن لا نمنع منهم ولا نجير عليهم ، قال : فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم : أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين ، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين ، وتكبروه ثلاثا وثلاثين ؟ قالوا : ومن أنت ؟.
                قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: أنا رسول الله .
                ثم مر بهم أبو لهب فقالوا له : هل تعرف هذا الرجل ؟ قال : نعم ، فاخبروه بما دعاهم إليه وأنه زعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : لا ترفعوا بقوله رأسا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه .
                فقالوا : لقد رأينا ذلك حيث ذكر من أمر فارس ما ذكر .
                مرة أخرى : إنها التبعية المفضلة عند العرب قديما لمن يكون البوش القديم أو حديثا لمن يكون البوش الجديد.
                وما دروا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد جاء ليحررهم من عبادة العباد إلى عبادة الله . وأن الله أذن لدولة العبودية في الأرض أن تزول، وما بقي إلا أن يمدوا أيديهم ليبايعوا رسوله، وقد بايعوه قديما وما بقي إلا أن يجددوا البيعة !!..
                ولم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏يعرض نفسه على القبائل في كل موسم ويقول : لا أكره أحدا على شيء ، من رضي الذي أدعو إليه فذاك ، ومن كره لم أكرهه ، إنما أريد منعي من القتل ، حتى أبلغ رسالات ربي . فلم يقبله أحد من تلك القبائل ويقولون : قوم الرجل أعلم به ، ترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه !!
                وما دروا أن الفساد إنما هو في ساحة قومه من المشركين، وان الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليصلح ما أفسدوه .
                وعن ابن إسحاق : لما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم حيث تمت بيعة العقبة ومن ثم كانت بيعة العقبة الأولى ، ثم كانت بيعة العقبة الثانية .
                كانت تخطيطا وتدبيرا محكما لا يعفى فيه المسلمون من الجد، والتخطيط اتكالا على نصر يتقاطر عليهم من السماء.

                تعالوا إلى بيعة العقبة ، ففي سيرة مغلطاي ومستدرك الحاكم أن بيعة العقبة كانت في شهر رجب حيث استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم ، فبينما هو عند العقبة التي ترمي فيها الجمرة فيقال جمرة العقبة إذ لقي بها رهطا من الخزرج ، وكانوا ستة نفر وقيل ثمانية : فقال من أ نتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج.
                فقال : أمن موالي يهود يعني من حلفاء يهود المدينة قريظة والنضير قالوا نعم .
                قال : أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه ، صلى الله عليه وسلم ، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم الإسلام ، ورأوا أمارات الصدق عليه صلى الله عليه وسلم لائحة ، فقال بعضهم لبعض : تعلمون والله أنه للنبي الذي يوعدكم به يهود ، [ وهكذا سخر الله اليهود للتمهيد لظهور محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] فلا تسبقنكم إليه ، ذلك أن يهود كانوا إذا وقع بينهم وبينهم شيء من الشر قالوا لهم : سيبعث نبي قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتلة عاد [ نفس ما يردده اليهود اليوم من ظهور المسيح في هرمجدون لقتال المسلمين ] .
                فلما دعاهم الرسول إلى الإسلام أجابوه وصدقوه وأسلموا .
                وقالوا له : إنا تركنا قومنا - يعنون الأوس والخزرج بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وتطاولت بينهما الحروب ، فمكثوا على المحاربة والمقاتلة أكثر من مائة سنة ، أي مائة وعشرين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك .
                ثم انصرف أولئك الرهط من الخزرج راجعين إلى بلادهم .
                وفي رواية أنهم لما آمنوا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏وصدقوه قالوا : إنا نشير عليك أن تمكث على رسلك أي على حالك باسم الله حتى نرجع إلى قومنا ، فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله عز وجل ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏لعل الله يصلح ذات بينهم ، ونواعدك الموسم من العام المقبل ، فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقع لهؤلاء الستة أو الثمانية مبايعة ، ويسمى هذا ابتداء الإسلام للأنصار .
                فلما كان العام المقبل قدم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا ، عشرة من الخزرج واثنان من الأوس ، وقيل كانوا أحد عشر رجلا ، منهم خمسة من الستة أو الثمانية الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم عند العقبة أولا في العام الماضي . فاجتمع بهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏عند العقبة أيضا ، فبايعهم صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه البيعة : أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏قال لمن حضر من الأنصار : أبايعكم على أن تمنعوني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، فبايعوه على ذلك ، وعلى أن يرحل إليهم هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، وعلى السمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن نقول الحق حيث كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم .

                ثم قال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: ومن وفى فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا عوقب به في الدنيا ، فهو أي العقاب طهرة له ، وإن سترتم عليه فأمركم إلى الله ، وإن شاء عذب وإن شاء غفر .
                فلما انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏معهم عبد الله ابن أم مكتوم ، ومصعب بن عمير ، رضي الله عنهما : يعلمان القرآن من أسلم منهم ، ويعلمان الإسلام من أراد أن يسلم ، ويفقهانه في الدين ، ويدعوان من لم يسلم منهم إلى الإسلام . وهذه المبايعة يقال لها بيعة العقبة الأولى ، لوجود هذه المبايعة عندها . وأسلم من رجالات المدينة : سعد بن معاذ ، وابن عمه أسيد بن حضير رضي الله عنهما .

                وفي كلام ابن الجوزي : أن أول دار أسلمت من دور الأنصار دار بني عبد الأشهل .
                ثم ذهب مصعب إلى دار أسعد بن زرارة ، رضي الله تعالى عنه ، فأقام عنده يدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا فيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من سكان عوالي المدينة ، أي قراها من جهة نجد .

                قال كعب : ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏العقبة : أي إلى أن يوافوه في الشعب الأيمن ، وأمرهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ألا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا ، وذلك ليلة النفر الأول .
                قال : فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين ، وكان من جملة المشركين أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام ، وهو سيد من ساداتنا فكلمناه وقلنا له :
                يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ، ثم دعوناه للإسلام فأسلم ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏فشهد معنا العقبة .
                فمكثنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏بعد هدءة ، يتسلل الرجل والرجلان تسلل القطا مستخفين ، حتى اجتمعا في الشعب عند العقبة ، ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان، قال : فلا زلنا ننتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ حتى جاءنا ، وفي رواية أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏سبقهم وانتظرهم ، فلما تأخروا ذهب ثم جاء بعد مجيئهم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ليس معه غيره وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له ، وكان معه أيضا أبو بكر وعلي إلا أن العباس أوقف عليا على فم الشعب ، عينا له ، وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا ، فلم يكن معه عندهم إلا العباس والله اعلم .
                فلما جلسوا كان العباس أول من تكلم فقال : يا معشر الخزرج قال ذلك لأن العرب كانت تطلق الخزرج على ما يشمل الأوس ، وكانت تغلب الخزرج على الأوس ويقولون " الخزرجيين " .
                قال : إن محمدا منا حيث علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا ، فهو في عز من قومه ، ومنعة من بلده ، وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه وما نعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن تدعونه .. فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده .
                فقال البراء بن معرور : إنا والله لو كان في أنفسنا غير ما تنطق به لقلناه ، ولكنا نريد الوفاء والصدق وبذل أنفسنا دون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.
                وفي رواية أن العباس قال : قد أبى محمد الناس كلهم غيركم ، فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فأروا رأيكم وائتمروا بينكم ولا تفرقوا إلا عن اجتماع ، فإن أحسن الحديث أصدقه .
                ولا يصح أن يفهم من قول العباس ( قد أبى محمد الناس كلهم غيركم ) أن الناس غير الأنصار وافقوه على مناصرته فأباهم ، ولا أن المراد بالناس قبيلة شيبان بن ثعلبة الذين قالوا له ننصرك بما يلي مياه العرب دون ما يلي مياه كسرى فأبى ، لكن المراد بالناس الذين أباهم : أهله وعشيرته ، لأنه إنما أراد نصرة كاملة في الدين والدنيا والله أعلم .
                وعندما تكلم العباس بما ذكر قالوا له : قد سمعنا مقالتك ، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت ، وفي رواية خذ لنفسك ما شئت واشترط لربك ما شئت .
                فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وآباءكم .
                فقال ابن رواحة : فإذا فعلنا فما لنا ؟.
                فقال صلى الله عليه وسلم : لكم الجنة .
                قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل .
                لم تكن صفقة دنيوية إذن . وما كان فيها شيء من مساومة .
                وفي رواية : فتكلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم .
                وفي رواية أنهم قالوا له : يا رسول الله نبايعك . قال : تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم ، وأزواجكم ، وآباءكم ، ولكم الجنة .
                فأخذ البراء بن معرور بيده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به أزرنا أي نساءنا وأنفسنا - وكانت العرب تكني بالإزار عن المرأة والنفس فنحن والله أهل الحرب ، وأهل الحلقة أي السلاح ورثناها كابرا عن كابر .
                وبينا البراء يكلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏قال أبو الهيثم بن التيهان بتشديد المثناة وتخفيفها نقبله على مصيبة المال وقتل الأشراف .
                فقال العباس : اخفوا جرسكم أي صوتكم فإن علينا عيونا.
                ثم قال أبو الهيثم : يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال يعني اليهود حبالا أي عهودا وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟.
                فتبسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: ثم قال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم والهدم إهدار دم القتيل - ، دمي دمكم فدمي ودمكم واحد، هدمي وهدمكم واحد أي وإذا أهدرتم الدم أهدرته وذمتي وذمتكم واحد ، ورحلتي مع رحلتكم ، أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم .
                وعند ذلك قال لهم العباس : عليكم بما ذكرتم ذمة الله مع ذمتكم وعهد الله مع عهدكم ، في هذا الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، يد الله فوق أيديكم ، لتجدًّن في نصرته ولتشدن من أزره .
                قالوا جميعا : نعم .
                قال العباس : اللهم إنك سامع شاهد ، وإن ابن أخي قد استرعاهم ذمته ، واستحفظهم نفسه ، اللهم كن لابن أخي شهيدا .
                ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: أخرجوا إليَّ منكم اثنيى عشر نقيبا ، فلا يحدث أحد في نفسه أن يؤخذ غيره ، فإنما يختار لي جبريل.
                فلما تخيرهم وهم سعد بن عبادة ، وأسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وسعد بن خثيمة ،والمنذر بن عمرو ، وعبد الله بن رواحة ، والبراء بن معرور ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وأسيد بن حضير ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، وعبادة بن الصامت، ورافع بن مالك : كل واحد على قبيلة ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين .
                وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: لأولئك النقباء : انتم كفلاء على غيركم ، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ن وأنا كفيل على قومي : يعني المهاجرين .
                وفي رواية أن الذي تولى الكلام من الأنصار وشد العقدة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: أسعد بن زرارة ، وهو من أصغرهم ، فإنه اخذ بيد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏وقال : رويدا يا أهل يثرب ، إنا لن نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، وإن إخراجه اليوم مفارقة لجميع العرب ، وقتل خياركم ، وأن تعطكم السيوف ، فإما انتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ، ومفارقة العرب كافة ، فخذوه وأجركم على الله تعالى ، وإما تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذر لكم عند الله تعالى .
                فقالوا : يا سعد أمط عنا يدك ، فوالله لا نذر أي نترك هذه البيعة ولا نستقيلها ، أي لا نطلب الإقالة منها .
                وفي رواية أن العباس بن عبادة بن نضلة تكلم مع الأنصار وشد العقدة ، فقال : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر ، والأسود من الناس أي على من حاربه منهم ثم ذكر مثل ما تقدم عن أسعد بن زرارة
                ثم توافقوا على ذلك .
                وقالوا : يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا ؟
                هنا يظهر جوهر الرسالة
                قال : رضوان الله والجنة
                قالوا : رضينا ابسط يدك
                فبسط يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه .
                وأول من بايعه صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور ، وقيل اسعد بن زرارة ، وقيل أبو الهيثم بن التيهان ، ثم بايعه السبعون كلهم ، وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة ، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ كان لا يصافح النساء ، إنما كان يأخذ عليهن ، فإذا أحرزن قال اذهبن فقد بايعتكن.
                ويروى أن أبا الهيثم قال : أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام .
                وقال أسعد بن زرارة : أبايع الله عز وجل يا رسول الله ، فأبايعك على أن أتم عهدي بوفائي وأصدق قولي بفعلي في نصرك .
                وقال النعمان بن حارثة : أبايع الله عز وجل يا رسول الله ، وأبايعك على الإقدام في أمر الله عز وجل ، لا أرأف فيه القريب ولا البعيد .,
                وقال عبادة بن الصامت : أبايعك يا رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم .
                وقال سعد بن الربيع : أبايع الله وأبايعك يا رسول الله على أن لا أعصى لكما أمرا ولا أكذبكما حديثا .
                وهذه البيعة هي ما يقال لها بيعة العقبة الثانية .

                فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام إظهارا كليا وتجاهروا به .
                وأمر صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة .
                وكان ذلك تمهيدا للهجرة الغرض منها : لم يكن لمجرد السلامة ، لكنه التحفز لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية وانتقالا من مشقة إلى مشقة .
                وبدءا لجهاد تتابعت غزواته .
                وكانت بزوغا لشمس الإسلام بعد أن ظهر فجره بمكة .
                وكانت ظهورا للمجتمع الإسلامي بعد أن تكون أفراده في مرحلة الدعوة المكية
                وكانت حجر الأساس في ظهور الدعوة الإسلامية التي حملت الدعوة ونشرت الإسلام في الجزيرة العربية كلها ، ثم في أرجاء العالم من بعد ، ليتحقق للإسلام عالميته التي لا بد أن تصطدم بأية دعوة للعالمية أو العولمة ، تنطلق من غير داره : دار الهجرة في المدينة .

                إنه في هذا النوع من الهجرة- والذي قبله - جاء الحكم باستمرارها ما استمر الجهاد أو استمرت فرصة الحياة المشروطة بقبول التوبة ، وذلك فيما رواه الإمام أحمد بمسنده بسنده عن أبي هند البجلي قال:
                «كنا عند معاوية وهو على سريره، وقد غمض عينيه، فتذاكرنا الهجرة ، والقائل منا يقول: قد انقطعت، والقائل منا يقول: لم تنقطع، فاستنبه معاوية فقال: ما كنتم فيه؟ فأخبرناه، وكان قليل الرد على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: تذاكرنا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏فقال: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».وجاء مثله في سنن أبي داود والدارمي وغيرهما.
                وفي هذا النوع من الهجرة جاءت الآيات الكثيرة التي ترفع من قدر المهاجرين.

                قال تعالى:[ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ{20}] [التوبة: ٢٠]

                وقال تعالى:[ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{218}][البقرة: ٢١٨] .

                وقال تعالى:[ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ{195}] [آل عمران: ١٩٥. ]

                وقال تعالى:[ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{100}][ النساء: ١٠٠]
                وفي هذا النوع من الهجرة جاءت الإشارة إلى شرط قبولها عند الله في الحديث الصحيح ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ). متفق عليه .
                التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 2 نوف, 2020, 08:12 م.

                تعليق


                • #9
                  أما النوع الثالث من الهجرة


                  فتكون من دار يمكن لإنسان أن يحتفظ فيها بعقيدته ودينه وشعائره إلى دار أخرى تفضلها في ذلك كله ، تكون من دار يحدث للإنسان فيها شيء من الأذى ، يناله من المنافقين أو من أعداء الدين ، لكنه أذى محتمل ، إلى دار أخرى .. يستريح فيها من ذلك كله ، ويستمتع فيها بقوة المجتمع الإسلامي وغلبة الدولة الإسلامية .
                  مثل هذه الهجرة لا فائدة منها للدين ، إنما هي تستهدف الراحة والدعة ، وفيها راحة من تبعات الدعوة والجهاد في بيئة تفيد فيها الدعوة ويفيد فيها الجهاد .
                  مثل هذه الهجرة هي ما كان يستأذن فيه بعض المسلمين بعد فتح مكة ، كانوا يطلبون الهجرة من موطنهم إلى المدينة ، فلم يأذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما طلب إليهم الاستمرار في أماكنهم مستمسكين بدينهم ، عاملين على نشره وتوكيده فيمن حولهم ، مستعدين للقتال عندما يدعون إليه .
                  في هذا النوع من الهجرة جاء قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.
                  وفي صحيح البخاري بسنده عن مُجاشِعِ بن مسعودٍ قال: «جاءَ مُجاشعٌ بأخيهِ مُجالِدِ بنِ مسعودٍ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مُجالدٌ يُبايعُكَ على الهجرِة. فقال: لا هِجرةَ بعدَ فتح مكةَ، ولكنْ أبايعهُ على الإسلام».
                  و قول عائشة رضي الله عنها فيما جاء بصحيح البخاري بسنده عن عطاء بن أبي رباحٍ قال: " زُرتُ عائشةَ مع عبيدِ ين عمير الليثيّ، فسألناها عن الهجرةِ فقالت: لا هجرةَ اليوم ، كان المؤمنونَ يَفِرّ أحدُهم بدينهِ إِلى اللّه تعالى وإلى رسولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏مخافةَ أن يُفتنَ عليه، فأما اليومَ فقد أظهرَ اللّه الإِسلام، واليومَ يَعبُدُ ربّهُ حيث شاء، ولكن جهادٌ ونيّة».وقول ابن عمر فيما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن مجاهد مثله : «قلتُ لابن عمرَ، فقال: لا هجرةَ اليوم ـ أَو بعدَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ـ ».

                  وما جاء فيما رواه البخاري في صحيحه بسنده عنِ ابنِ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما قال: «قال النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏يومَ افتَتَحَ مكةَ: لا هِجرةَ، ولكِنْ جِهادٌ ونيّة، وإِذا استُنفِرتُم فانفِروا، فإنّ هذا بلدٌ حَرّمَ اللهُ يومَ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ، وهو حَرامٌ بحُرمةِ اللهِ إلى يومِ القيامَةِ، وإِنهُ لم يَحِلّ القِتالُ فيهِ لأحدٍ قبلي، ولم يَحِلّ لي إلاّ ساعةً من نهارٍ، فهوَ حرامٌ بحرمةِ اللهِ إلى يومِ القِيامةِ، لا يُعضَدُ شَوكِه، ولا يُنَفّرُ صَيدُهُ، ولا يَلتقِطُ لُقَطتَهُ إلاّ مَن عَرّفَها، ولا يُختلى خَلاها. قال العبّاسُ: يا رسولَ اللهِ إلاّ الإِذخِرَ، فإِنه لِقَينِهم ولِبُيوتهم. قال: قال: إلاّ الإِذخِرَ».


                  ومن هنا جاء رده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏على من سأله متخوفا من ضياع الثواب على من لم يهاجر كما جاء في سنن النسائي بسنده عن عَنْ صَفْوَانَ بْنِ اُمَيّةَ قَالَ: ( قُلْتُ يَا رَسُولَ الله إنّهُمْ يَقُولُونَ إنّ الْجَنّةَ لا يَدْخُلُهَا إلاّ مَنْ هَاجَرَ قَالَ: لا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكّةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيّةٌ فَإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا.) وقد روي مثله في سنن أبي داود والبيهقي والترمذي الذي قال فيه : حديث حسن صحيح .

                  وللعلماء أقوال في تضعيف بعض روايات هذا الحديث ، ففي كتاب الجهاد لأحمد بن عمرو ابن أبي عاصم الضحاك ( ت 287 ﻫ) روى الحديث بسنده عن ابن عباس ثم قال : إسناده ضعيف والحديث صحيح .

                  وقال عبد الرحمن الرازي (ت 327 ﻫ) : سألت أبي عن حديث رواه الوليد عن شيبان عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لاهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " فقال أبي :
                  هذا وهم أي في السند وإنما هو الأعمش عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                  وفي تفسير ابن كثير قال : ( وقال الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدري أنه قال : لما نزلت هذه السورة " إذا جاء نصر الله والفتح " قرأها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏حتى ختمها فقال الناس :
                  حيز وأنا وأصحابي حيز ، وقال أي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " يقول ابن كثير: وهذا الحديث الذي أنكره مروان على أبي سعيد الخدري ليس بمنكر ، فقد ثبت من رواية ابن عباس ، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.).
                  وقال السيوطي في الديباج على صحيح مسلم " لا هجرة بعد الفتح " ( قال العلماء الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة ، وفي تأويل هذا الحديث قولان :

                  الأول : لا هجرة بعد الفتح لأنها صارت دار إسلام ، وإنما تكون من دار الحرب.

                  والثاني : معناه لا هجرة بعد الفتح أي نفي أن يكون فضلها بعد الفتح كفضلها ما قبل الفتح.
                  قال تعالى:
                  [ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{10}][ الحديد: ١٠]
                  وقال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى :
                  [ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً{89}]
                  [النساء: ٨٩]
                  قال القرطبي : ( والهجرة أنواع :
                  منها الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى قال : لا هجرة بعد الفتح "
                  وهجرة المنافقين مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغزوات.
                  وهجرة من أسلم من دار الحرب فإنها واجبة [ أقول بشروطه التي ذكرناها في النوع الأول والثاني مما قدمناه ].
                  وهجرة المسلم ما حرم الله عليه كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏" والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه " وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن
                  وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم ، فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏مع كعب وصاحبيه )
                  والخلاصة أن الحكم يختلف باختلاف المقصود من الهجرة وظروفها :



                  إذا كانت تستهدف الفرار بالدين من دار يتحقق فيها الخطر عليه فهي واجبة، وهكذا كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة.

                  وإذا كانت تستهدف الإعداد لحال جديد من الجهاد في سبيل الله والتمهيد لنصر حاسم على الأعداء فهي واجبة، وهكذا كانت هجرة المسلمين إلى المدينة .

                  وإذا كانت تستهدف الراحة والتخلص من مشقة الجوار مع المنافقين أو من هم أقل درجة في الإسلام فتلك هي الهجرة التي منعها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
                  هذه الهجرة غير المشروعة إسلاميا هي التي تكون في مثل ظروف المسلمين بعد فتح مكة حيث قد توفر لهم شيء من القوة والمنعة : تحميهم وتدافع عنهم ، هي تلك الهجرة التي تكون من أجل التخلص من أذى محتمل إلى دار أخرى يستمتع فيها المسلم بالدعة ، والراحة ، أو يتخلص فيها من متاعب الدعوة وتبعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو يفلت فيها من مشقات الجهاد في بيئة تفيد فيها الدعوة ويفيد فيه الجهاد .


                  ونحن اليوم ندفع ثمن " الهجر " عندما تركنا سنن الهجرة :
                  يتساءلون : لماذا ننهزم في معاركنا جميعا : عسكرية ، واقتصادية ، وتربوية ، و.. على جميع المستويات ، هزائم في أدنى المستويات ؟.
                  والجواب : لأننا ندفع فاتورة الحساب ، ولابد أن تدفع بعد أن تأجلت . ولأن فاتورة الحساب هذه هي من وارد ما أقمنا عليه البناء من قبل .
                  أهملنا السنة أو هجرناها سواء في القيام بواجب الهجرة عند ما تقتضي مراغمة للمشركين ونصرا للمهاجرين المسلمين كما كان الحال في هجرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏وهو النوع الثاني الذي قدمناه ، أو في عدم القيام بها إذ يقتضي ذلك تشبثا بالأرض واستعدادا ليوم الكريهة " جهاد ونية "

                  نحن اليوم ندفع ثمن هجرنا لسنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏وقد كان علينا أن نهاجر معه أو إليه : إلى سنته فنعمل بها .
                  كان علينا أن نهاجر إلى سنته ولكننا هجرناها .
                  هجرنا سنته في سنن الحرب والجهاد ، فخسرنا فتح فرنسا : نعم خسرنا فتح فرنسا على يد عبد الرحمن الغافقي ، خسرناها بمخالفة استمرارنا على الجهاد ، خسرنا فتح فرنسا بمخالفة شبيهة بمخالفة بعض المسلمين في غزوة أحد ، وخسرنا فرنسا بمخالفة سنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏في الاهتمام بأمر المسلمين ، بمعرفة أحوال المسلمين ، بمعرفة تاريخ الإسلام ، وليسأل القارئ عمن يعرف شيئا عن هذه القضية.
                  وخسرنا الأندلس ، وخسرنا الهند ، وخسرنا شرق أوربا ، وخسرنا فلسطين ، وخسرنا المسجد الأقصى ، وها نحن نخسر العراق ، ثم نخسر أمن الشرق الأوسط ، ثم نخسر أمن المسجد الحرام .
                  وهجرناها في سنة الوحدة
                  هجرنا سنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏في الاهتمام بأمر المسلمين وهو أقل درجات الوحدة فأسقطنا المسلمين المضطهدين من حسابنا خوفا من تهمة الإرهاب.

                  وهجرنا سنته صلى الله عليه وسلم عند ما هاجرنا حيث لا تجوز الهجرة ، حيث منعها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: في الأندلس مثلا ( النوع الثالث ) ، وقد يتساءل البعض : وكيف كانوا لا يهاجرون وقد انصب عليهم العذاب.
                  نقول : يستعدون لهذا اليوم قبل أن يقع فربما - أو أغلب الظن - أنه كان لا يقع ، " جهاد ونية " ، "جهاد ونية " نستعد له لا بالاستمتاع بالدنيا وعيش النعومة ، والأخذ من الدنيا بأقصى ما يأخذه أهلها منها .
                  إنه ليس من طبيعة الأشياء بالنسبة للمسلم أن يأخذ من الدنيا بأقصى ما يأخذه أهلها منها ، لأن أرضه التي يقف عليها إنما فتحت له بالجهاد والنية ، فإذا تخلى عن الجهاد والنية وشرع يأخذ من الدنيا بأقصى ما يأخذه منها أهلها كان لا بد من أن ينفصل عن فيزيائيته الخاصة ، وكان من ثم لابد من أن تتزلزل أرضه تحت قدميه.
                  إن أفقر الفقراء فينا اليوم يأخذون بدين هذه الحياة الدنيا فيتقاتلون بعضهم مع بعض ، ويتقاتلون بالانضمام إلى صفوف أعدائهم الذين يعملون على إبادة المسلمين ، يتقاتلون هكذا للأخذ من هذه الدنيا بأقصى ما يأخذه أهلها منها ، بينما كان أغنى الأغنياء في جيل الصحابة والسلف الصالح يأخذون بدين الآخرة فيأخذون من الدنيا بتواضع ، يأخذون ما يوصلهم لثواب الآخرة . وهذه هي المفارقة .
                  أنظروا إلى بعض الأقليات في بعض البلاد الإسلامية : لقد أصبحت سرا ترسانات أسلحة ..هكذا الرجال ، واليوم نبكي كما تبكي النساء ملكا لم نحافظ عليه كما يحافظ الرجال .
                  إن المسلمين في قضية الهجرة إنما يقيمون على أرضهم بتأشيرة إقامة إلهية باسم الإسلام ، فإذا فقدوا هذه التأشيرة أو تنازلوا عنها لم يكن لهم أرض ولا وطن ولا هجرة .
                  التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:38 م.

                  تعليق


                  • #10
                    هجرة اليهود إلى فلسطين



                    أول مؤامرة في التاريخ




                    قام أبناء يعقوب بعقد اجتماع سري، بعيدا عن المعنيين بالأمر ( يعقوب ويوسف وأخيه ).

                    [ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{8}]
                    [يوسف: ٨]

                    1 ـ كانت المشكلة مدار البحث حب أبيهم ليوسف وأخيه، والدافع هو الحسد وحب التملّك.

                    2 ـ كان هناك إقرار بالإجماع، أنّ أبيهم يعقوب نبيّ الله ضالّ، وضلاله واضح لا لُبس فيه.

                    3 ـ كانوا يؤمنون بالقوة المتحصّلة من الكثرة ( فهم عشرة أشقّاء كبار مقابل اثنان صغار ) .

                    4 ـ جمعتهم وحدة الغاية والمصلحة .

                    [اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ{9} قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ{10}]
                    [يوسف: ٩ – ١٠].

                    ......ثم التوبة قبل المعصية :كيف؟، ولذلك قالوا: نتوب ونكون من بعده قوما صالحين، ولكن المسالة المهمة هنا هي أن الحديث عن التوبة قبل الجريمة ـ في الواقع ـ هو لأجل خداع الوجدان وإغرائه وفتح الباب للدخول إلى الذنب, فلا يعد دليلا على الندم أبدا.
                    وبتعبير آخر:
                    إن التوبة الواقعية هي التي توجد بعد الذنب حالة من الندم والخجل للإنسان, وأما الكلام في التوبة قبل الذنب فليس توبة.
                    وتوضيح ذلك أن الإنسان حين يواجه الضمير والوجدان عند الإقدام على الذنب , أو حين يكون الاعتقاد الديني سدا وحاجزا أمامه يمنعه عن الذنب وهو مصمم عليه , فمن اجل أن يجتاز حاجز الوجدان أو الشرع بيسر, يقوم الشخص بخداع نفسه وضميره كيف؟.
                    تراه يقول لنفسه لن أقف مكتوف اليدين بعد الذنب , بل سأتوب وامضي إلى بيت اللّه وأؤدي الأعمال الصالحة , وسأغسل جميع آثار الذنوب .
                    أي انه في الوقت الذي يرسم الخطة الشيطانية للإقدام على الذنب , يرسم خطة شيطانية أخرى لمخادعة الضمير والوجدان ... وللاعتداء على عقيدته بحيث تمكنه من تحقيق الجناية والذنب وكسر الحاجز الديني الذي يقف أمامه، إن إخوة يوسف دخلوا من هذا الطريق أيضا.

                    المسالة الدقيقة الأخرى في هذه الآية :

                    أنهم قالوا:[ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ] ولم يقولون : يخل لكم قلب أبيكم ,وذلك لأنهم لم يطمئنوا إلى أن أباهم سوف ينسى يوسف بهذه السرعة ... فيكفي أن يتوجه إليهم أبوهم, ولو ظاهرا وهناك احتمال آخر لهذا التعبير, وهو أن الوجه والعينين نافذتان إلى القلب, فمتى ما خلا الوجه لهم فان القلب سيخلو ويتوجه إليهم بالتدريج.
                    ولكن كان من بين الإخوة من هو أكثر ذكاء وارق عاطفة ووجدانا, لأنه لم يرض بقتل يوسف أو إرساله إلى البقاع البعيدة التي يخشي عليه من الهلاك فيها ... فاقترح عليهم اقتراحا ثالثا, وهو أن يلقى في البئر (بشكل لا يصيبه مكروه ) لتمر قافلة فتأخذه معها, ويغيب عن وجه أبيه ووجوههم, حـيث تقول الآية في هذا الصدد[ قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ{10}] [يوسف: ١٠]

                    الطرح الأول كان القتل أي حتمية الهلاك.

                    الطرح الثاني كان النفي إلى أرض بعيدة مع احتمالية الهلاك.

                    الطرح الثالث الإلقاء في الجب وفيه تخفيف الضرر مع احتمال النجاة.
                    كانت الغاية الاستفراد بحبّ أبيهم .

                    5 ـ الإقرار بعدم مشروعية عملهم وفساده ، وذلك قبل شروعهم بالتنفيذ .

                    6ـ تبييت نية بالتوبة والصلاح، قبل ارتكاب الجريمة، وهذا منطق أعوج لا يقبله ربّ ولا عبد.

                    7ـ إغفالهم للعناية الإلهية المُدّخرة في علم الغيب ، والتي تتدخل في الوقت المناسب لتسيير الأمور .قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ{10}] [يوسف: ١٠].

                    كان أصلحهم فاسدا، حيث وافقهم على فعل المنكر مع تخفيف الضرر.

                    8ـ كان هناك إصرار لدى الأغلبية .

                    9ـ كان القرار النهائي أخف الضرر: إلقاء يوسف في بئر مع توافر احتمالية الهلاك، فيما لو لم يلتقطه أحد.
                    10ـ عدم الاكتراث بنبوة أبيهم، وما كان يتنزّل عليه من الوحي.

                    11ـ غفلة وعمى بصر وبصيرة وإتباع للهوى ، فليس فيهم ذو رأي سديد.

                    12ـ جهل بعواقب الأمور ، كالأثر النفسي والمعنوي البالغ ، على من يطمحون بالاستفراد بحبه ، وبالتالي عدم تحقق مرادهم .

                    13ـ تبييت النية للقيام بالفعل عندما تحين الفرصة .
                    قال تعالى:
                    [ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ{11} أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{12} قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ{13} قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ{14} فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ{15}]
                    [يوسف: ١١ - ١٥]


                    ـ لم يكن يعقوب في العادة يأمنهم على يوسف وأخوه لمعرفته بعدم صلاحهم .

                    ـ لم ينتظروا الفرصة للتنفيذ، بل سعوا إلى خلقها وإيجادها، باستخدام الحيلة والمكر والدهاء.

                    ـ تجاهلوا تأكيد أبيهم لهم بأن غيبة يوسف عن وجهه، ولو لفترة بسيطة تسبب له الحزن. فكيف إذا كان ذلك أبديا ؟! وكانت تلك محاولة منه عليه السلام لإحياء ضمائرهم لعلّهم يرجعون ، ولكنهم لم يشعروا بذلك فكان كما أخبره سبحانه .

                    ـ كان أبوهم عليه السلام على علم بمخطّطهم قبل التنفيذ، وقد أخبرهم بما كانوا قد خطّطوه مسبقا بشأن الذئب، لكن ذلك لم يُثنهم عن عزمهم.
                    قرار التنفيذ اتُخذ بالإجماع .




                    1ـ تم إخفاء النوايا الإجرامية اتجاه يوسف، تحت غطاء من الحرص على ترفيهه، لإقناع أبيهم بالاستجابة لمطلبهم.
                    قال تعالى:
                    [ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ{16} قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ{17} وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ{18}] [يوسف: ١٦ - ١٨]
                    2ـ الاستخفاف بأبيهم واستضعافه لكبر سنّه .

                    3ـ التضليل واختلاق وفبركة الشواهد والأدلة، لتبرئة أنفسهم وإدانة الذئب.

                    4ـ الجرأة في الكذب على نبيّ الله مع علمهم بذلك .

                    5ـ يقين يعقوب عليه السلام من كذبهم وتجنّيهم على الذئب .

                    6ـ ومما أحزنه عليه السلام هو ما كان عليه أبناءه من قلة إيمانهم ، وعقوقهم له ، وظلم لأخيهم ، وفسادهم وإفسادهم ، وصفات وطبائع غاية في السوء ، لا تليق بالأنبياء أو بأبناء أنبياء يتنزّل الوحي بين ظهرانيهم ، وفي المقابل لم يملك عليه السلام إلا الصبر والرجاء وطلب العون من الله لمجابهتهم . [ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ{18}] [يوسف: ١٨]

                    7ـ بعد أن مرّت سنين على تلك الحادثة ، وأصبح يوسف وزيرا لمالية فرعون ، وقدِمَ أخوته إليه في مصر ، احتال عليهم ليأمن منهم على أخيه ، ويرفع عنه ما كان قد وقع عليه من ظلم وكيد .
                    قال تعالى:[ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{69}] [يوسف: ٦٩]
                    8 ـ كان يوسف عيه السلام على علم، بما كانوا يكيدون لأخيه، عن طريق الوحي أو القياس.

                    9ـ عدم توبتهم عما فعلوه سابقا، وبقائهم على نفس الحال.

                    10ـ خيانة يوسف بالغيب بعد كل هذه السنين، واتهامه زورا وبهتانا بالسرقة، فيوسف من عباد الله المخلصين، وما كان له أن يسرق.
                    قال تعالى:
                    [ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ{77}][ يوسف: ٧٧]

                    11ـ تأكيد يوسف على فسادهم وإفسادهم بما حدّث به نفسه، حيث لم يجهر نبي الله بقوله أنهم أسوء حالا ممن يسرق[ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ] فما فعلوه معه لا يُقارن بخطيئة السرقة التي اتهموه بها ، والتي أقرّوا بأنها أحد أشكال الإفساد في الأرض.
                    [ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ{73}] [يوسف: ٧٣].

                    12ـ عدم اكتراثهم بسوء حال يعقوب عليه السلام ، ومدى ما نزل به من أذى نفسي وجسدي حتى أنه كف بصره: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ{84}][يوسف: ٨٤].

                    13ـ قسوة قلوبهم باستنكارهم حزن أبيهم على يوسف:[ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ{85}][يوسف:85]

                    14ـ يعقوب عليه السلام يقطع الرجاء من أبنائه ، ويشكو قسوة أبنائه وضعفه وقلة حيلته في مواجهة أفعالهم إلى الله .

                    [ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ{84} قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ{85} قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{86} يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ{87}] [يوسف: ٨٤ - ٨٧]

                    15ـ لم يعترفوا لأبيهم بحقيقة فعلتهم مع يوسف، مع علمهم ومعرفتهم ومعايشتهم لحال أبيهم، وما وصلت إليه من سوء.

                    16ـ كان يعقوب عليه السلام على يقين من نجاة يوسف وكذب أبنائه عليه .

                    هنا تتضح مفارقة عجيبة ، توضح الكثير من معالم الشخصية اليهودية الإسرائيلية القديمة الحديثة ، فهم يعلمون علم اليقين أن يوسف ذهب إلى غير رجعة وأنه قُتل على الأرجح ، ولكنهم لم يعترفوا لأبيهم بحقيقة ما فعلوا ، وظلّوا مصرّين على حكاية الذئب ، فلا ضمير يؤنبهم ولا قلب يشعر مع أبيهم، وأبيهم يعلم علم اليقين من ربه ، أن يوسف على قيد الحياة ، وأنه نبي وسيكون له شأن كبير مستقبلا ، إذ كان عالما بتأويل رؤيا يوسف السابقة ، وأن أخوته سيسجدون له لعلو منزلته ، وهذا ما كان يُصبّره عليه السلام حين قال:[ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ{18}] يوسف:18

                    أما ما كان يؤلمه عليه السلام ، هو إصرار أبنائه على ما هم عليه واستمرارهم ، وعدم التوبة والرجوع إلى الله .

                    17ـ موقف يوسف من أبيه وإخوته:
                    [ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{100}] [يوسف: ١٠٠]

                    هنا يتضح خلق الأنبياء وأدبهم في يوسف عليه السلام ، حيث قابلَ السيئة بالحسنة ونسب خطيئة أخوته إلى الشيطان.
                    معطيات المعادلة كانت:


                    جمع واجتماع في الخفاء + قرار بالإجماع + تنفيذ بمكر ودهاء = مؤامرة.
                    التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:37 م.

                    تعليق


                    • #11
                      الأمر بالهجرة وعصيان بني إسرائيل




                      1ـ رحل يعقوب عليه السلام وبنوه : رأوبـين , شمـعون , لاوي , يـهوذا , زوبولون , يساكر, دان جاد , أشير , نفتالى , بنيامين , ومعهم بنو بنيه ضيوفاً على المصريين في أرضهم وذلك في عهد يوسف عليه السلام رئيس الوزراء وكانوا قبل مجيئهم قوماً رُحَل يعيشون في البادية.
                      قال تعالى:
                      [ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{100}] [يوسف: ١٠٠]


                      2ـ عاش بنو يعقوب في مصر وتكاثروا , ثم في عام 1237 قبل الميلاد خرج بنو يعقوب بعد موت أبيهم من مصر بقيادة نبي منهم هو موسى عليه السلام.
                      قال تعالى:
                      [ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ{49}][البقرة: ٤٩].

                      3ـ توجه موسى عليه السلام بعد ذلك إلى أرض سيناء ومعه بني إسرائيل.قال تعالى:
                      [ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{160}] [الأعراف: ١٦٠]


                      4ـ بعد ذلك جاء الأمر الإلهي لهم بالدخول إلي مدينة أريحا بالشام.
                      قال تعالى:
                      [ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ{20} يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ{21}] [المائدة: ٢٠ – 21]
                      بماذا أجابوه عليه السلام:
                      [ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ{22}][المائدة:22]


                      5ـ فراح صاحبي موسى " كالب بن يفنة ويوشع بن نون" يشجعونهم بقولهما لهم:
                      [ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{23}] [المائدة: ٢٣]

                      فلم يعبئوا بكلامهما وتوجهوا إلى موسى عليه السلام بقولهم :[ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ{24}] [المائدة: ٢٤]

                      6ـ هنا توجه موسى عليه السلام إلى ربه :[ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ{25}][المائدة: ٢٥]

                      7ـ على الفور جاء الأمر من فوق سبع سماوات بالتحريم الأبدي:
                      قال تعالى:[ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ] [المائدة: ٢٦]

                      8 ـ وليس التحريم فقط بل هناك عقوبة سابقة عليه وهي التيه في الصحراء26:
                      [ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ{26}] [المائدة: ٢٦]

                      9ـ عاش بنو إسرائيل في التيه أربعين عاماً , وكان منهم الصالحون ومنهم دون ذلك.
                      قال تعالى:[ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ{167} وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{168}] [الأعراف: ١٦٧ - ١٦٨]

                      10ـ وفي هذه المدة مات هارون وتبعه موسى عليهما السلام ولم يدخلا الأرض المقدسة.


                      11ـ حيث أن موسي عليه السلام بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر بأمر من الله سبحانه وتعالى كانت وجهته إلى الأرض المقدسة.. ولكن بني إسرائيل رفضوا الدخول خوفا من الفلسطينيين.
                      وعليه لم يستطع موسى عليه السلام بعد التيه في سيناء أن يدخل باليهود إلي فلسطين وتوفى علية السلام قبل دخول بني إسرائيل أريحا و قبره في منطقة صحراوية لم يعرف إلى الآن، و لم يدخل القدس نهائيا في حياته.

                      12ـ وبعد موت موسى عليه السلام وفي عهد النبي صموئيل الثاني كانت بداية الهجرة إلى فلسطين حيث يقص الله سبحانه وتعالى علينا ما حدث لبني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام إذ ذهبوا إلى نبي لهم يطلبون إليه الإذن بالدخول إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لـهم الدخول إليها , ولكن نبيهم يعرف تـاريخهم الطـويل وأنهم إذا كتب عليهم القتال فلن يقاتلوا, فماذا حدث معهم.

                      قال تعالى:
                      [ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ{246} وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{247} وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{248} فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{249} وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{250} فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ{251} تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ{252}]
                      [البقرة: ٢٤٦ – ٢٥٢]

                      ألم تر ? كأنها حادث واقع ومشهد منظور، لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل, من كبرائهم وأهل الرأي فيهم إلى نبي لهم ، ولم يرد في السياق ذكر اسمه, لأنه ليس المقصود بالقصة, وذكره هنا لا يزيد شيئا في إيحاء القصة , وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل . . لقد اجتمعوا إلى نبي لهم, وطلبواإليه أن يعين لهم ملكا يقاتلون تحت إمرته (في سبيل الله). .
                      وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال, وأنه في (سبيل الله) يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم, ويقظة الإيمان في نفوسهم, وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق, وأن أعداءهم على ضلالة وكفرو باطل ; ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله.

                      وهذاالوضوح وهذا الحسم هو نصف الطريق إلى النصر، فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل ; ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف. . في سبيل الله . . فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير .
                      وقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم, وثبات نيتهم, وتصميمهم على النهوض بالتبعة الثقيلة, وجدهم فيما يعرضون عليه من الأمر:

                      [ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ]

                      ألا ينتظر أن تنكلوا عن القتال إن فرض عليكم ? فأنتم الآن في سعة من الأمر،فأما إذا استجبت لكم , فتقرر القتال عليكم فتلك فريضة إذن مكتوبة ; ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها إنها الكلمة اللائقة بنبي , والتأكد اللائق بنبي، فما يجوز أن تكون كلمات الأنبياء وأوامرهم موضع تردد أو عبث أو تراخ .
                      وهناارتفعت درجة الحماسة والفورة ; وذكر الملأ أن هناك من الأسباب الحافزة للقتال في سبيل الله ما يجعل القتال هو الأمر المتعين الذي لا تردد فيه: [ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا]

                      ونجد أن الأمر واضح في حسهم, مقرر في نفوسهم، إن أعداءهم أعداء الله ولدين الله، وقد أخرجوهم من ديارهم وسبوا أبناءهم، فقتالهم واجب ; والطريق الواحدة التي أمامهم هي القتال ولا ضرورة إلى المراجعة في هذه العزيمة أو الجدال.
                      ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم :[ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ]

                      وهنا نطلع على سمة خاصة من سمات بني إسرائيل في نقض العهد , والنكث بالوعد , والتفلت من الطاعة , والنكوص عن التكليف , وتفرق الكلمة , والتولي عن الحق البين .

                      ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية ; فهي سمة بشرية عامة لا تغيرمنها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقة التأثير، وهي - من ثم - سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر , وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر , كي لا تفاجأ بها فيتعاظمها الأمر.

                      والتعقيب على هذا التولي:[ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] ، وهو يشي بالاستنكار ; ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة - بعد طلبها - وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية، وصمها بالظلم، فهي ظالمة لنفسها, وظالمة لنبيها،وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق, ثم تتخلى عنه للمبطلين.
                      إن الذي يعرف أنه على الحق, وأن عدوه على الباطل - كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا[ فِي سَبِيلِ اللّهِ] ثم يتولى بعدذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه . إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم . [ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ].

                      امتناع بني إسرائيل بتملك طالوت لهم:
                      قال تعالى:
                      [ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{247} وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{248}] [البقرة: ٢٤٧ - ٢٤٨]

                      وفي هذه اللجاجة تتكشف سمة من سمات بني إسرائيل، لقد كان مطلبهم أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت لوائه، ولقد قالوا:
                      إنهم يريدون أن يقاتلوا[ فِي سَبِيلِ اللّهِ] فها هم أولاء ينغضون رؤوسهم , ويلوون أعناقهم، ويجادلون في اختيار الله لهم كما أخبرهم نبيهم; ويستنكرون أن يكون طالوت - الذي بعثه الله لهم ـ ملكا عليهم ، لماذا ? لأنهم أحق بالملك منه بالوراثة ، فلم يكن من نسل الملوك فيهم، ولأنه لم يؤت سعة من المال تبرر التغاضي عن أحقية الوراثة،وكل هذا غبش في التصور, كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة . .
                      ولقد كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية, وعن حكمة الله في اختياره:[ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]. إنه رجل قد اختاره الله.. فهذه واحدة.. وزاده بسطة في العلم والجسم.. وهذه أخرى.[ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ].
                      فهو ملكه , وهو صاحب التصرف فيه , وهو يختار من عباده من يشاء ..[ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ].
                      ليس لفضله خازن وليس لعطائه حد.. وهوالذي يعلم الخير , ويعلم كيف توضع الأمور في مواضعها . .
                      وهي أمور من شأنها أن تصحح التصور المشوش , وأن تجلو عنه الغبش . . ولكن طبيعة بني إسرائيل - ونبيها يعرفها - لا تصلح لها هذه الحقائق العالية وحدها، وهم مقبلون على معركة،ولا بد لهم من خارقة ظاهرة تهز قلوبهم, وتردها إلى الثقة واليقين:[ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{248}] البقرة:248
                      وكان أعداؤهم الذين شردوهم من الأرض المقدسة - التي غلبوا عليها على يد نبيهم يوشع بعد فترة التيه ووفاة موسى عليه السلام قد سلبوا منهم مقدساتهم ممثلة في التابوت الذي يحفظون فيه مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون .
                      وقيل: كانت فيه نسخة الألواح التي أعطاها الله لموسى على الطور، فجعل لهم نبيهم علامة من الله ,أن تقع خارقة يشهدونها , فيأتيهم التابوت بما فيه [ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ] فتفيض على قلوبهم السكينة .
                      وقال لهم:إن هذه الآية تكفي دلالةعلى صدق اختيار الله لطالوت , إن كنتم حقا مؤمنين . .
                      ويبدو من السياق أن هذه الخارقة قد وقعت, فانتهى القوم منها إلى اليقين.

                      المعركة وقتل داود لجالوت
                      ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد , ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق . .
                      والسياق القرآني على طريقته في سياق القصص يترك هنا فجوة بين المشهدين ، فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود:[ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{249}] البقرة:249

                      هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل . . إنه مقدم على معركة ;ومعه جيش من أمة مغلوبة , عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة ، وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة،هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة ، الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات،وتصمد للحرمان والمشاق , وتستعلي على الضرورات والحاجات , وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها , فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء .
                      فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه , وصموده وصبره:
                      صموده أولا للرغبات والشهوات , وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب ،واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش، ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه , ويؤثر العافية . وصحت فراسته:[ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ].
                      شربوا وارتووا، فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده, تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف ! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم ، انفصلواعنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم، وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف , لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة ، والجيوش ليست بالعدد الضخم ولكن بالقلب الصامد , والإرادة الجازمة , والإيمان الثابت المستقيم على الطريق .
                      ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي ; ولا بد من التجربةالعملية ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها.
                      ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى. . بل مضى في طريقه .وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت ـ إلى حد ـ ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد:
                      [ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ]
                      لقدصاروا قلة ، وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته بقيادة جالوت، إنهم مؤمنون لم ينكصواعن عهدهم مع نبيهم، ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته، إنها التجربة الحاسمة، تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم , فاتصلت بالله قلوبهم ;وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم , غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم.
                      [ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{249}] .
                      وهنابرزت الفئة المؤمنة، الفئة القليلة المختارة، والفئة ذات الموازين الربانية هكذا[ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ].
                      فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقوا الله .
                      التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:37 م.

                      تعليق


                      • #12
                        القاعدة:


                        أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنهاهي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار، ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ; ولأنها تمثل القوة الغالبة ، قوة الله الغالب على أمرها لقاهر فوق عباده , محطم الجبارين , ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين ،وهم يكلون هذا النصر لله:[ بِإِذْنِ اللّهِ]... ويعللونه بعلته الحقيقية:
                        [ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل.
                        ونمضي مع القصة، فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله, التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء, وتستمد قوتها كلها من إذن الله, وتستمد يقينها كله من الثقة في الله, وأنه مع الصابرين.
                        إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة,الثابتة،التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته, مع ضعفها وقلتها. . إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة، بعد أن تجدد عهدها مع الله , وتتجه بقلوبها إليه ,وتطلب النصر منه وحده , وهي تواجه الهول الرعيب:قال تعالى:[ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{250}][البقرة: ٢٥٠]

                        هكذا[ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً]... وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم, وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة.[ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] فهي في يده - سبحانه - يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد .[ وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] فقد وضح الموقف . . إيمان تجاه كفر . وحق إزاء باطل . ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين. فلا تلجلج في الضمير , ولا غبش في التصور , ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق .
                        وكانتالنتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها :قال تعالى:[ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ{251}]:[ البقرة: ٢٥١]
                        ويؤكد النص هذه الحقيقة [ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ].. [بِإِذْنِ اللّهِ ]... ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما، وليتضح التصورالكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون, ولطبيعة القوة التي تجريه. . إن المؤمنين ستار القدرة ; يفعل الله بهم ما يريد, وينفذ بهم ما يختار. . بإذنه. .ليس لهم من الأمر شيء, ولا حول لهم ولا قوة, ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته,فيكون منهم ما يريده بإذنه. . وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين . . إنه عبد الله . اختاره الله لدوره . وهذه منة من الله وفضل . وهو يؤدي هذا الدور المختار , ويحقق قدرالله النافذ . ثم يكرمه الله - بعد كرامة الاختيار - بفضل الثواب . . ولولا فضل الله ما فعل, ولولا فضل الله ما أثيب. . ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق. . فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي , إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد . استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص .
                        ويبرزالسياق دور داود[ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ].
                        وداود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل . وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا . .ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها , إنما تجري بحقائقها . وحقائقها يعلمها هو. ومقاديرها في يده وحده . فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم , ويفوا الله بعهدهم . ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده . وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير , ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم . . وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله. فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت , ويرثه ابنه سليمان , فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل ; جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود:[ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ] البقرة:251.
                        وكان داود ملكا نبيا , وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى . . أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعا . . وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة, ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية, وللإرادة المستعلية لا للكثرة العددية.
                        ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر، ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض , وتمكين الصلاح في الحياة .إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار .

                        3ـ وعليه فإننا نخلص من هذه الآيات البيّنات إلى الحقائق التالية:

                        · واضح أنها تعالج موضوعاً تتفق أحداثه مع ظروف المسلمين الأوائل في العهد المدني من حيث الهجرة والتحرر من الحياة في ظل سلطان مجتمع وثني وتكوين مجتمع خالص الإيمان.
                        · إنها تعالج وتقدم العبرة المسلمين الأوائل في ذلك العهد حتى لا يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل من جبن وعصيان وتقاعس عن القتال في سبيل الله تعالى .
                        إن الآيات تكشف حقيقة هامة, هذه الحقيقة تكمن في طبيعة تكوين بني إسرائيل حتى لا ينخدع المسلمون بمظاهر قوة اليهود في المدينة آنذاك أو حتى فيما بعد إذ أنهم:[ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ{14}] [الحشر: ١٤]

                        فهذه الآيات البيِّنات وغيرها نصوص صريحة توضح انه لما رفض بنو إسرائيل الإذعان لأوامر الله بالدخول إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم , حرمها عليهم وعاقبهم بالتيه أربعين سنة , وهو تحذير مقصود لذاته يفهمه المسلمون وهم في بداية العهد المدني .
                        ولقد أوضحت الآيات الكريمة { 167-168} من سورة الأعراف مصير بني إسرائيل بعد التيه وتحريم الأرض المقدسة عليهم إلى يوم القيامة.
                        قال تعالى:[ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ{167} وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{168}] الأعراف: ١٦٧ - ١٦٨

                        فلقد كتب الله عليهم الشتات في الأرض, فلا وطن لهم ولا مكان, ولقد تحقق وعد الله وبعث عليهم من سامهم سوء العذاب ولقد بينت سورة الإسراء الكريمة بشيء من التفصيل ما أجملته سورة الأعراف الكريمة.
                        وتمضي بنا قافلة الزمان وتتحول الأيام شهوراً وتكتمل سنيناً وقد أتى الله سبحانه وتعالى داود عليه السلام الملك والحكمة ثم ورث سليمان عليه السلام ملك أبيه بعد موته بإذن ربه جلّ علاه.

                        قال تعالى:[ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ{15} وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ{16}] [النمل: ١٥ - ١٦]

                        بعد موت سليمان عليه السلام انقسمت الدولة العبرية إلى مملكتين :

                        المملكة الأولى : مملكة إسرائيل في الشمال ، لأنها تقع في شمال فلسطين وتضم عشرة أسباط وهم : رأوبين, جاد, أفرايم سبط يوسف, يساكر, زبولون, أشير, دان, شمعون, لاوي نفتالى, ونصف سبط منسى .
                        وأول ملك عليها هو " يوربعام الأول بن نباط " ـ 931/910 ق.م ـ والذي اتخذ من ترصة الواقعة شمالي شرق شكيم " نابلس " بـ 10 كم عاصمة لمملكته , ونصب عجول الذهب في بيت إيل وأمر بعبادتها .
                        هذا وقد ملك على هذه المملكة 19 ملكاً, دام حكمهم أكثر من قرنين إلى أن دمرها الآشوريون تدميراً كاملاً بقيادة سرجون الثاني سنة 722 ق. م وهؤلاء اليهود هم المعروفون بالسامريين وتوراتهم هي التوراة السامرية .

                        المملكة الثانية : مملكة يهوذا في الجنوب , لأنها تقع في جنوب فلسطين وتضم سبطين اثنين هما سبط يهوذا وبنيامين ونفر من سبط لاوي ، وتقول أن جبل صهيون هو الجبل الذي عظمه الله وتوراتهم هي التوراة العبرية , ويطلق عليها مملكة داود ولقد تعاقب على حُكمها 20 ملكاً من نسل داود , أولهم "رحبعام بن سليمان " ودام حكمهم حوالي ثلاثة قرون ونصف إلى أن دمرها بختنصر البابلي عام 586 ق.م وذلك بعد دمار مملكة إسرائيل الشمالية على يد الآشوريين بـ 135 سنة وكان آخر ملوك مملكة يهوذا هو " صدقيا بن يوشيا ".

                        إذن لا وجود حقيقي لمملكتي إسرائيل ويهوذا , والسبب الأساسي هو غضب الرب عليهم لأنهم نقضوا الميثاق ولُعِنوا على لسان أنبيائهم لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ولم يقبلوا الكتاب الذي أُنزل على موسى عليه السلام إلا بعد أن رفع الله جل علاه الجبل فوقهم ولم يكتفوا بذلك وإنما طلبوا من نبيهم أن يُرِيَهُمْ الله جهرة بالإضافة إلى اتخاذهم العجل إلها من دون الله وقتلهم الأنبياء بغير حق فباءوا بغضب على غضب , إنهم يعرفون ذلك تماماً ويسعون للحصول على رضا الرب عليهم وعلامة رضاه عليهم هي بناء الهيكل الثالث , ومن ثَمَّ تراهم يرتدون السواد ويتوجهون نحو الحائط المزعوم فيقرءون نصـوصاً من التلمود يقولون فيها : تقطع رأسي ويدي إن لم أسع لبناء الهيكل , وعند اكتمال البناء سوف ينزل المسيح .
                        ومن هنا نشأت حركة أمناء جبل الهيكل، التي سعت إلى تأسيس دولة اليهود وذلك من خلال الهجرة الحديثة إلى فلسطين،والذين يطالبون اليوم بيهودية الدولة ، بعد مؤتمر أنابولس، وذلك على النحو الذي فصلناه في دراستنا بعنوان القدس مفاهيم يجب أن تصحح ودراستنا (إحذروا يهودية الدولة) فليرجع إليها في موضعها.
                        التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:37 م.

                        تعليق


                        • #13
                          بين هجرة المسلمين وهجرة اليهود




                          نقارن هنا بين هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة قديماً وبين هجرة اليهود من بلاد كثيرة إلى الأراضي الفلسطينية الطاهرة حديثاً، وتتركز المقارنة هنا في أمر يلتقي فيه المسلمون واليهود، وأمور يفترقون عندها.
                          فأما الذي يلتقون فيه فهو أن الدافع للهجرة كان عقدياً دينياً، فالمسلمون هاجروا من أجل إقامة دين جديد في بلد آمن.
                          وهاجر اليهود من أوروبا وأميركا وآسيا وأفريقيا مقررين أن يتركوا أرضهم ولغتهم ويحترموا اللغة العبرية من أجل إقامة مملكة الله أو دولة إسرائيل فكلتا الهجرتين باسم الدين والعقيدة.
                          أما الأمور التي يختلفون فيها فهي:
                          أولاً :هجرة المسلمين
                          1 ـ أن هجرة المسلمين كانت بوحي من الله سبحانه وتعالى، وكانت الأسباب من صنعهم وبرغبتهم وتطلعهم إلى ثواب الله. ومهد الله سبحانه وتعالى لها بما قدمناه وسقناه من أدلة في الصفحات السابقة. كما أنها كانت تخطيطا وتدبيرا محكما لا يُعفى فيه المسلمون من الجد، والتخطيط اتكالا على نصر يتقاطر عليهم من السماء.
                          2ـ واللافت للانتباه أنه بعد اجتماع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوفد المدينة في بيعة العقبة الثانية وهي من مقدمات الهجرة، قالوا له :
                          قد سمعنا مقالتك ، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت ، وفي رواية خذ لنفسك ما شئت واشترط لربك ما شئت .
                          فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وآباءكم .
                          فقال ابن رواحة : فإذا فعلنا فما لنا ؟.
                          فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكم الجنة .
                          قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل .
                          لم تكن صفقة دنيوية إذن، وما كان فيها شيء من مساومة.
                          وفي رواية أن العباس بن عبادة بن نضلة تكلم مع الأنصار وشد العقدة ، فقال : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر، والأسود من الناس ـ أي على من حاربه منهم ـ ثم ذكر مثل ما تقدم عن أسعد بن زرارة.
                          ثم توافقوا على ذلك .
                          وقالوا: يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا ؟.
                          هنا يظهر جوهر الرسالة .
                          قال: رضوان الله والجنة.
                          قالوا: رضينا ابسط يدك.
                          فبسط يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعوه .
                          وأول من بايعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البراء بن معرور ، وقيل اسعد بن زرارة ، وقيل أبو الهيثم بن التيهان ، ثم بايعه السبعون كلهم، وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة ، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يصافح النساء، إنما كان يأخذ عليهن ، فإذا أحرزن قال اذهبن فقد بايعتكن .
                          فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام إظهارا كليا وتجاهروا به.
                          وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة .

                          ثانياً :هجرة اليهود
                          أما هجرة اليهود فقد دبرها لهم غيرهم ومهد لها الانتداب البريطاني على فلسطين·
                          يقول بنيامين نتنياهوـ رئيس وزراء إسرائيل عام 1996م ـ في كتابه(مكان تحت الشمس) الذي ترجمه للعربية محمد عوده الدويري وراجعته كلثوم السعدي، ونشرته دار الجيل، عمان، الطبعة الثالثة،1997م، ص 363: تحت عنوان [استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين هو الذي يحقق حلم مؤسسي الحركةالصهيونية].
                          (إن تاريخ الصهيونية هو تاريخ هجرة اليهود إلى"أرض إسرائيل" وهذاهو العنصر الذي سيحسم مستقبل الدولة السكاني؛ لذا فإن المفتاح لمستقبل الدولة والحل لكافة مشاكلها السكانية يكمنان في استمرار هجرة اليهود إلى إسرائيل حتى تصبح مأوى للجماهير اليهودية التي شاهدها مؤسسو الحركة الصهيونية في أحلامهم، ولذا فإن النضال من أجل الهجرة اليهودية هو نضال من أجل استمرار بقاء إسرائيل).

                          ثالثاً: أن وصف المسلمين الذين تركوا مكة إلى المدينة أطلق عليهم [ المهاجرون] وهو وصف أطلقه رب العزة عليهم، جاءت الآيات الكثيرة التي ترفع من قدرهم، ومنها:

                          أ ـ قال تعالى:[ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ{20}] [التوبة: ٢٠]

                          وقال تعالى:[ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{218}][البقرة: ٢١٨.]

                          وقال تعالى:
                          [ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ{195}][آل عمران: ١٩٥] .

                          وقال تعالى:
                          [ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ{41}][النحل: ٤١ - ٤٢]
                          وقال تعالى:
                          [ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{100}]
                          [النساء:100 ]
                          وهذا اللقب أطلق عليهم لأنه لم يكن لهم على ظهر الأرض من نصير، فقد كانت الدنيا كلها ضدهم: مشركون ونصارى ويهود.
                          أما المشركون فلأن القرآن عاب الأصنام وحقر الأوثان وهدم تقاليد الجاهلية.. وأما المسيحية فإن الإسلام كان في مكة ينكر بحرارة أن يكون لله ولد، وذلك في سورة الكهف ومريم وغيرهما من السور المكية...وأما اليهود ـ وهم عدو ثالث ـ فإن القرآن لم يترك من أمرهم شيئاً، فقد فضح عقائدهم وعرى صفاتهم الخبيثة المتعددة فلم يكن بد لهؤلاء جميعاً ـ وقد عالنهم القرآن بصفاتهم وخباياهم ـ أن يغتاظوا ويغضبوا ويزداد كرههم للإسلام وحقدهم للمسلمين، ومن هنا لم يكن للمسلمين في الهجرة يد تحميهم إلا يد الله، ولا كنف يأوون إليه إلا كنف الله·
                          من ناحية أخرى كانت الجماعة المسلمة في ذلك الوقت ضعيفة من حيث العدد والعدة، وكان أعداؤهم يملكون عناصر القوة وأسباب الاضطهاد ورغم ذلك فقد نجحوا في بناء مدينة تأتي دونها في الوصف المدينة الفاضلة التي تعشقها الفلاسفة وتخيلوا فيها الكمال وأثبتوا أن الإيمان الناضج يحيل البشر إلى خلائق تباهي الملائكة سناء ونضارة.

                          رابعاً: بينما كانت حال اليهود مباينة لذلك من كل جانب فلقد تعهدت إنجلترا ـ الدولة الأولى في العالم يومئذ ـ ما بين عامي ( 1917 – 1948) أن تكيف الظروف في فلسطين لاستقبالهم وكان الحاكم الإنجليزي في فلسطين يذل العرب ويعطش أرضهم حتى لا ينبت فيها زرع فيبيعها الفلسطينيون بأبخس ثمن أو بأغلاه، ولم تتعهد إنجلترا وحدها بذلك إنما تولى إصر ذلك معها أميركا وروسيا وفرنسا، كذلك ملوك العرب بخيانتهم وخذلانهم·
                          يقول بنيامين نتنياهو في كتابه مكان تحت الشمس ص 104 : لم تكن بريطانيا الدولة الوحيدة التي وعدت اليهود بوطن قومي في فلسطين، بل إن عصبة الأمم التي انتدبت بريطانيا على فلسطين ضمت وعد بلفور (إلى كتاب الانتداب كجزء لا يتجزأ منه)، وفيه( يكون صاحب الانتداب مسئولا عن أن تسود في الدولة ظروف سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومياليهودي). ص104.
                          من ناحية أخرى كان اليهود وأعوانهم غاية في القوة والاقتدار، ومع ذلك فإننا نرى اليوم ما يحدث على أرض الرسالات من رعب وهلع لليهود، فلا يتمتعون بأمن ولا ينعمون باستقرار، ومصيرهم حتماً إلى الزوال بمنطق القرآن والسنة والتاريخ والواقع·

                          خامساً: أن المسلمين الذين هاجروا كانوا دعاة توحيد لله وإصلاح للأرض كانوا يعلمون الدنيا أن الله رب العالمين لا شريك له وأن الناس يجب أن يسلموا وجوههم إليه ويحيوا على الأرض وفق المنهج الذي ارتضاه الله لهم، فترفعت عن المآرب هممهم، وأخلصوا لله طواياهم، وذهلوا عن متاع الدنيا، واستهوتهم مثل عليا لا مثيل لها في الأولين والآخرين·
                          بينما كانت صلة اليهود بالله مغشوشة، والدوافع التي جاءت بهم، وإن كانت دينية إلا أن ما فيها من باطل أضعاف ما فيها من حق، وما يكتنفها من ظلم ليست معه شائبة عدل، من أجل هذا كله كان البون شاسعاً والفرق واسعاً بين هجرة المسلمين وهجرة اليهود·
                          إن المسلمين في قضية الهجرة إنما يقيمون على أرضهم بتأشيرة إقامة إلهية باسم الإسلام، فإذا فقدوا هذه التأشيرة أو تنازلوا عنها لم يكن لهم أرض ولا وطن ولا هجرة.
                          أما اليهود فيقيمون على أرض فلسطين بتأشيرة إقامة من بلفور والبون واسع بين التأشيرتين.
                          التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:36 م.

                          تعليق


                          • #14
                            الهجرة اليهودية الحديثة


                            وبداية الاستعمار الاستيطاني اليهودي في أواخر الحكم العثماني




                            في عام 1837انشئت أول مستعمرة يهودية في فلسطين على يد اليهودي البريطاني مونتفيوري ، حيث كان عدد سكانها في ذلك الوقت (1500) يهودي وارتفع عدد المهاجرين إلى (10000) يهودي عام 1840 ثم 15 ألف يهودي عام 1860 ثم 22 ألف يهودي عام 1881.
                            في عام 1882 بدأت أفواج المهاجرين الروس بالتوافد إلى فلسطين رغم إصدار السلطات العثمانية لقانون يحد من الهجرة وقدر عدد الفوج الأول بألفي يهودي وارتفع هذا العدد ليصل إلى (25) ألف يهودي عام 1903.
                            وتعرضت الأراضي الفلسطينية لخمس موجات متتالية من الهجرات اليهودية وذلك في أعقاب الأزمات المتعاقبة التي حدثت منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية وذلك في المناطق التي تواجد فيها اليهود.

                            1. الهجرة الأولى 1882-1903:
                            وقد تمت على دفعتين قدم فيها إلى فلسطين حوالي(25) ألف يهود ي معظمهم من يهود رومانيا وروسيا وقد تم تمويلها بواسطة جمعيات أحباء صهيون وحركة البيلو إلى جانب بعض الشخصيات الاستعمارية والأجهزة البريطانية.

                            2. الهجرة الثانية 1904-1918:
                            حدثت هذه الهجرة بعد إنشاء الحركة الصهيونية، وقد بلغ عدد المهاجرين فيها نحو (40) ألف جاء معظمهم من روسيا ورومانيا وكانوا أساسا من الشباب المغامرين الذين جندتهم الأجهزة الاستعمارية والصهيونية. ومع نهاية موجة الهجرة الثانية وبسبب نشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1914 وصل عدد اليهود في فلسطين إلى حوالي (85) ألف يهودي ووصلت مساحة الأراضي التي يمتلكونها إلى 418 ألف دونم ونحو 44 مستعمرة زراعية.
                            3. الهجرة الثالثة 1919-1923:
                            بلغ عدد المهاجرين فيها حوالي (35) ألف مهاجر يهودي.
                            4. بمعدل ثمانية آلاف مهاجر سنويا.
                            5. جاء معظمهم من روسيا ورومانيا وبولندا بالإضافة إلى أعداد صغيرة من ألمانيا وأمريكا.

                            6. الهجرة الرابعة 1924-1932:
                            بدأت في زمن الانتداب البريطاني.
                            7. حيث توافد إلى فلسطين في هذه الموجة نحو (89) ألف مهاجر يهودي معظمهم من أبناء الطبقة الوسطى وبالذات من بولندا وقد استغلوا رؤوس الأموال الصغيرة التي أحضروها معهم لإقامة بعض المشاريع الصغيرة الخاصة بهم.
                            وقد بلغ تدفق المهاجرين الصهيونيين ذروته في عام 1925 حيث وصل عددهم إلى حوالي (33) ألف مقابل (13 ) أ لف في عام 1924 وبعد ذلك انخفض العدد مرة أخرى ليصل إلى حوالي (13)ألف في عام 1926.
                            ثم بدأت الهجرة بالانحسار سنة 1927 بسبب الصعوبات الاقتصادية في البلاد آنذاك، فانخفض عددهم إلى ثلاثة آلاف ثم ألفين فقط في عام 1928.
                            هذا وقد وصل مجمل عدد اليهود في فلسطين في نهاية هذه المرحلة حوالي (175) ألفا واستوطن 136 ألفا منهم في 19 مستعمرة مدنية أما الباقون فقد انتشروا في نحو 110 مستعمرات زراعية.

                            8. الهجرة الخامسة 1933-1939:
                            وقد بلغ عدد المهاجرين اليهود الذين قدموا في هذه الهجرة إلى فلسطين نحو (215) ألفا جاء معظمهم من أقطار وسط أوروبا التي تأثرت بعد وصول النازية إلى الحكم.
                            9. فهاجر منها وحدها خلال هذه الفترة (45) ألف مهاجر.
                            وقد بلغت نسبة المهاجرين اليهود من ألمانيا إلى فلسطين سنة 1938 نحو 52% من المجموع العام لليهود المهاجرين.
                            وفي سنة 1933 صدر الكتاب الأبيض الذي بموجبه قامت بريطانيا بتحديد الهجرة اليهودية بـ(75) ألف خلال الخمس سنوات التالية وهكذا قلل بقدر الإمكان العدد الكبير من المهاجرين عن الطريق الرسمي وزاد عددهم عن الطريق غير الرسمي ، حيث بلغ ذروته سنة 1935 ليصل عدد المهاجرين حوالي (62) ألفا، ثم أخذت بالهبوط بسبب اشتعال ثورة 1936 في فلسطين، وقد وصل إلى فلسطين في سنوات الحرب العالمية الثانية نحو (55) ألف مهاجر غير شرعي حيث كان الأسطول البريطاني مكلفا بإرشاد سفن المهاجرين اليهود وإمدادهم بالماء والتموين والوقود وقيادتها إلى السواحل الفلسطينية.
                            إلى جانب ذلك دخل البلاد من اليهود بين عام 1940-1948 نحو (120) ألف يهودي ومع انتهاء فترة الانتداب البريطاني كان عدد اليهود قد وصل إلى (625) ألفا، أي ما يعادل ثلث السكان في البلاد.
                            ـ المصدر: تطور القضية الفلسطينية ( التاريخي والاجتماعي والسياسي) ، الدكتور رياض العيلة. الطبعة الثانية ، مايو 1998.
                            *الهجرة بعد قيام إسرائيل 1948-1967

                            باغتصاب فلسطين عام 1948 وطرد العرب الفلسطينيين من أرضهم ووطنهم، بدأت الصهيونية في بذل جهود كبيرة لتسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأصدرت قانون العودة الذي اقر عام 1950والذي ينص على:
                            " أن لكل يهودي الحق في العودة إلي البلاد كيهودي عائد. والهجرة تكون بتأشيرة مهاجر". كما صدر قانون الجنسية الإسرائيلية عام 1952 بحيث يحق لكل يهودي يهاجر إلى إسرائيل الحصول على الهوية الإسرائيلية بمجرد دخول البلاد.
                            كل ذلك بالإضافة إلى تشجيع الوكالة اليهودية للهجرة وتنظيمها والاهتمام بأمور المهاجرين عند وصولهم إلى البلاد، ساعد على ازدياد الهجرة.

                            يلاحظ مما سبق ما يلي:
                            أولا: ارتفاع عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين خلال السنوات الأربعة الأولى لقيام دولة الكيان الصهيوني، حيث تم دخول حوالي (700) ألف مهاجر خلال هذه الفترة في حين أن عدد اليهود في فلسطين بلغ حوالي (650) ألف نسمة عام 1948 ويرجع سبب تزايد الهجرة اليهودية إلى ما يلي:
                            1. قيام المنظمات الصهيونية بنقل من تبقى من اليهود في مخيمات اللاجئين في أوروبا الغربية إلى فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية.
                            2. المفاوضات التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية مع حكومة رومانيا عام 1948وادت إلى وصول حوالي (118) ألف مهاجر روماني خلال الأربع سنوات 1948-1951.
                            3. استخدام الصهيونية أساليب ملتوية إرهابية لتحقيق أهدافها بالنسبة للهجرة وخاصة في بلدان الشرق الأوسط وخاصة في اليمن والعراق وليبيا حيث كان اليهود يقومون بتفجيرات في الأحياء اليهودية لإثارة الرعب .
                            4. ومن ثم يطلبون منهم الهجرة إلى فلسطين للتخلص من الإرهاب.
                            ثانيا: انخفاض عدد المهاجرين خلال الثلاث سنوات التالية 1952-1954 بسبب الأزمة الاقتصادية في البلاد التي نتجت عن ازدياد عدد المهاجرين وانتشار البطالة.
                            ثالثا: استمرار الهجرة وبشكل متضاعف عن الفترة السابقة خلال السنوات الثلاث (1955-1957) وعلاقة ذلك بحوادث المجر والوضع الاقتصادي في البلاد بسبب العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة.
                            رابعا: انخفاض عدد المهاجرين بعد عام 1957 بشكل واضح بسبب توقف الهجرة من شمال أفريقيا ومصر حيث عملت الحكومات العربية في المغرب وتونس ومصر على تشجيع اليهود على البقاء في البلاد عن طريق توفير الظروف المؤاتية لمعيشتهم وأمنهم وخاصة بعد عدوان السويس والتخلص من عملاء الصهيونية وما قاموا به من أعمال إرهابية.
                            خامسا: ارتفاع عدد المهاجرين منذ عام 1961 حيث وصل المعدل (50 )ألف مهاجر سنويا وذلك خلال السنوات من 1961 وحتى 1965.وهكذا نجد تطور عدد سكان إسرائيل اليهود والعرب، ونسبتي اليهود والعرب من مجموع السكان، كما أن العدد الإجمالي للسكان قد تطور على نحو سريع، فوصل في نهاية سنة 1993 إلى (5.327.600) نسمة منهم 81.4% يهود و 18.6% عرب وتشمل هذه الإحصاءات طبعا سكان القدس العربية وهضبة الجولان اللتين ضمتا إلى إسرائيل(172.000) تقريبا، وإذا استثنينا سكان هاتين المنطقتين المحتلتين منذ سنة 1967، فإن نسبة السكان العرب من مجموع سكان إسرائيل تهبط قليلا فتبلغ 15.4%.
                            المصدر: statistical Abstract of Israel, No.45(1994),p.43
                            منذ سنة 1967 تشمل الإحصاءات الإسرائيلية سكان مدينةالقدس العربية التي ضمت إلى إسرائيل (نحو 70.000 في سنة 1967 و 155.500 في سنة1993).
                            ومنذ سنة 1982، تشمل هذه الإحصائيات السكان العرب في هضبة الجولان التي ضمتأيضا إلى إسرائيل (نحو 16.500 في سنة 1993).

                            والمصادر تؤكد أن اليهود الغربيين الذين شكلوا الأغلبية الساحقة قبل سنة 1948 تقلص نسبتهم بعد قيام إسرائيل بسبب هجرة اليهود الشرقيين، لكنهم بقوا يشكلون الأغلبية بنسبة قليلة حتى أوائل الستينات (52.1% سنة 1961).
                            وتقلصت نسبة اليهود الغربيين أكثر بعد ذلك، وتفوقت عليها في أوائل السبعينات نسبة اليهود الشرقيين (44.2 %في مقابل ، 47.4% سنة 1972).
                            وبقيت نسبة اليهود الشرقيين أعلى من نسبة اليهود الغربيين حتى تدفق هجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل في أوائل التسعينات.
                            وفي سنة 1993، رجحت كفة اليهود الغربيين قليلاً على كفة اليهود الشرقيين (39.9% في مقابل 36.3%) أما سكان إسرائيل من اليهود ارتفع عددهم بنسبة من 5.5% سنة 1961 إلى 23.8% سنة 1993.
                            وأخيرا نجد أن اليهود الذين ولدوا خارج فلسطين شكلوا أغلبية يهود إسرائيل حتى أوائل السبعينات . ثم ارتفعت نسبة اليهود المولودين في (إسرائيل أو فلسطين قبل سنة 1948) أكثر وأصبح هؤلاء يشكلون أغلبية سكان إسرائيل اليهود(60.9% سنة 1993).
                            وهكذا يتبين أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع مهاجرين أو مجتمع مستوطنين لا يزال 39.1% من سكان اليهود من مواليد أماكن خارج البلاد و 37.1% من مواليد البلاد (فلسطين أو إسرائيل) لكن آباءهم ولدوا في الخارج و 23.8% فقط من السكان اليهود ولدوا هم وآباؤهم في البلاد.

                            وقد نما عدد السكان اليهود سريعا، فتضاعف منذ قيام إسرائيل في 15 مايو 1948 حتى نهاية سنة 1993 نحو ست مرات، وساهم ميزان الهجرة، بصورة عامة، في نصف الزيادة السكانية والزيادة الطبيعية في النصف الآخر.
                            إن الفلسطينيين في إسرائيل، باستثناء سكان القدس العربية يشكلون 15.4% من مجموع السكان .

                            وقد حافظ المواطنون العرب على نسبتهم، على الرغم من الهجرة اليهودية المكثفة، بفضل الزيادة الطبيعية التي تصل نسبتها إلى نحو ضعفي نسبة الزيادة الطبيعية لدى اليهود.
                            والسكان اليهود في إسرائيل ينقسمون/ وفقا لـ"بلد الأصل " كما تعرفه الإحصاءات الإسرائيلية أي وفقا لمكان ولادة الشخص ومكان ولادة أبيه، إلى ثلاث جماعات اثنيه رئيسية:

                            أ. يهود غربيون (أو من أصل غربي): وهم من مواليد أوروبا- أميركا، ومواليد البلاد لآباء من مواليد أوروبا- أميركا.

                            ب. يهود شرقيون (أو من أصل شرقي): وهم من مواليد آسيا- إفريقيا- ومواليد البلاد لآباء من مواليد آسيا –إفريقيا.
                            ج. يهود أبناء البلد: أي يهود ولدوا هم وآباؤهم في البلد (فلسطين أو إسرائيل).
                            * المصدر: دليل إسرائيل.العام.مؤسسة الدراسات الفلسطينية، محمود ميعاري، التركيب السكاني ص 37-89.


                            * المهاجرون الروس من الاتحاد السوفيتي.
                            يشكل المهاجرون الروس من الاتحاد السوفيتي سابقا إلى إسرائيل نحو 10% من مجموع عدد السكان فيها ، ويزداد نفوذهم وتأثيرهم في الحياة السياسية باطراد منذ موجة الهجرة الكبيرة، التي حملت العدد الأكبر منهم إلى إسرائيل في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، فخلال أربع سنوات (1990-1993) هاجر أكثر من نصف مليون مواطن من الاتحاد السوفيتي سابقا إلى إسرائيل ، الأمر الذي أدى إلى ازدياد عدد سكانها بنسبة 10% وكانت أكثرية المهاجرين الراشدين من خريجي الجامعات السوفيتية أو المعاهد التكنولوجية كما كانت الفئة الأكبر بين هؤلاء مهندسين ومهندسين معماريين.
                            المصدر: American Sephardi Federation, Jewish Agency forIsrael and Center Bureau of Statistics


                            http://www.us.israel.org/jsource/immigration/FSU.html



                            المصدر: احمد خليفة، المهاجرون الروس في إسرائيل، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 38، ربيع 1999 ص 80+ص 124.
                            وفي السنوات الأخيرة بات العامل الديموغرافي مهيمنا في تحديد شبكة العلاقات بين اليهود والعرب في ارض إسرائيل كلها "فلسطين التاريخية"، أما في داخل دولة إسرائيل 2001 فيشكل اليهود 73% من السكان.
                            ومن المتوقع أن تصل نسبة السكان اليهود داخل إسرائيل في سنة 2020 رغم الازدياد المستمر إلى 68% تشمل هذه المعطيات عرب القدس- والعمال الأجانب وأيضا مجموعات غير يهودية إضافية تقطن إسرائيل.
                            وتصل نسبة السكان اليهود اليوم في ارض فلسطين الغربية كلها ( الساحل الفلسطيني) إلى 51% لكن من المتوقع أن تصل بعد عشرين سنة إلى 42% وهذا، دون اخذ إعادة اللاجئين بالحسبان.
                            المصدر: إسرائيل: ديموغرافيا 2000-2020"مخاطر واحتمالات"
                            بقلم:ارنون سوفير، ترجمة وتقديم : محمد حمزة غنايم.إبريل 2001، تصدر هذه السلسلة عن مدار"المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية".
                            انخفضت معدلات الهجرة إلى إسرائيل حيث بلغت 30-40 ألف سنويا وربما اقل من ذلك بعدما كانت تصل إلى 100 ألف مهاجر سنويا في السنوات السابقة.
                            وهناك انخفاض في معدلات الزيادة الطبيعية للسكان اليهود في إسرائيل بسبب انخفاض معدل المواليد1.6% في المقابل تزايد معدل الوفيات خصوصا بين المسنين مع الأخذ بعين الاعتبار أن الهرم السكاني الإسرائيلي وصل إلى مرحلة الشيخوخة، أي أن عدد كبار السن اكبر من عدد صغار السن ، حيث بلغت نسبة عدد السكان اقل من 17 سنة، 32% سنة 1997.
                            إن نسبة زيادة السكان اليهود منذ عام 1948 وحتى عام 1998 تصل إلى 28% في حين تزايد عدد السكان الفلسطينيين داخل إسرائيل بسبعة أضعاف أي 700% وكذلك سكان الضفة وقطاع غزة.
                            المصدر: تقرير بعنوان: حرب ديموغرافية اشد ضراوة وراء العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني ،الهيئة العامة للاستعلامات –www.sis.gov.ps.
                            التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:36 م.

                            تعليق


                            • #15
                              الهجرة النبوية الشريفة وغزوة بدر الكبرى


                              في أسفار اليهود والنصارى




                              دراسة في دلالات المكان من الإشارات الواردة في سفر أشعياء:
                              المقدمة
                              يُظهر لنا موضوع دراستنا هذه الواردة في أسفار اليهود والنصارى الدلالات والإشارات الجغرافية والتاريخية والدينية في نص نبوءة أشعياء 21/13-17 :(13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ تَبِيتِينَ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ. 14هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ الْعَطْشَانِ يَا سُكَّانَ أَرْضِ تَيْمَاءَ. وَافُوا الْهَارِبَ بِخُبْزِهِ. 15فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا. مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الْحَرْبِ. 16فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ: ( فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ 17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ).
                              دوافع دراساتنا لهذا النص نبوءة أشعياء 21/13-17 [وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ] الذي يعد من أقوى النصوص التي استدل بها علماء ودعاة الإسلام عند محاججتهم أهل الكتاب، للتسليم بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏قد تقدم ذكره ووصفه في أسفار أهل الكتاب وأنهم، وكما أخبر القرآن يعرفون رسول الله وصفته وما وقع له من أمور وأحداث، كما يعرفون أبناءهم .
                              قال تعالى:[ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{146}[ البقرة: ١٤٦]
                              ونبوءة أشعياء ـ الذي يصفونه بأنه من أعظم أنبياء اليهود ـ تتكلم عن العرب و تصف حادثاً جللاً يحدث في بلاد العرب.
                              ولنتعرف بدءاً بنص النبوءة في عدد من الترجمات للكتاب المقدس (أسفار اليهود والنصارى) حتى يتسنى لنا قراءته والتعرف على ما جاء فيه:
                              نص النبوءة من سفر أشعيا الإصحاح21 الفقرات 13-17 بالعهد القديم من الكتاب المقدس.




                              1- ترجمة الفاندايك (الذائعة الصيت):
                              نبوءة عن بلاد العرب



                              13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ تَبِيتِينَ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ. 14هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ الْعَطْشَانِ يَا سُكَّانَ أَرْضِ تَيْمَاءَ. وَافُوا الْهَارِبَ بِخُبْزِهِ. 15فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا. مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ وَمِنْ أَمَامِ الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الْحَرْبِ. 16فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ: ( فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ 17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ).

                              2- ترجمة الكاثوليك (دار المشرق)
                              13 قَولٌ على العَرَبة: في الغابَةِ في العَرَبةِ تَبيتون يا قَوافِلَ الدَّدانِيِّين. 14 هاتوا الماءَ لِلِقاءَ العَطْشان يا سُكَّانَ أَرضِ تَيماء. استَقبِلوا الهارِبَ بِالخُبْز 15 فإِنَّهم قد هَرَبوا مِن أَمامِ السُّيوف
                              مِن أَمامِ السَّيفِ المَسْلول والقَوسِ المَشْدودةِ وشِدَّةِ القِتال. 16 لِأَنَّه هكذا قالَ لِيَ السَّيِّد: ( بَعدَ سَنَةٍ كسِني الأَجير، يَفْنى كُلُّ مَجدِ قيدار، 17 وباقي عَدَدِ أَصْحابِ القِسِيِّ مِن أَبْطالِ بَني قيدار يُصبِحُ شَيئاً قَليلاً، لِأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرائيلَ قد تَكَلَّم)

                              3- الترجمة العربية المشتركة:
                              13وحي على العربِ: بيتُوا في صَحراءِ العربِ، يا قوافِلَ الدَّدانيِّينَ! 14هاتوا ماءً لِلعَطشانِ يا سُكَّانَ تيماءَ! إستَقبِلوا الهارِبَ الجائِعَ بالخبزِ. 15هُم هارِبونَ مِنْ أمامِ السُّيوفِ، مِنْ أمامِ السَّيفِ المَسلولِ والقَوسِ المَشدودةِ ووَيلاتِ الحربِ. 16وهذا ما قالَهُ ليَ الرّبُّ: ( بعدَ سنَةٍ بلا زيادةٍ ولا نُقصانٍ يَفنى كُلُّ مَجدِ قيدارَ 17ولا يَبقى مِنْ أصحابِ القِسيِّ، مِنْ جبابِرةِ بَني قيدارَ، غيرُ القليلِ. أنا الرّبُّ إلهُ بَني إِسرائيلَ تكلَّمتُ).هذا النص هو النبوءة .
                              دلالات المكان ووصفه عند دراسة نص أشعياء و ما جاء فيه من أخبار وأحداث في


                              (أسفار اليهود والنصارى):




                              نستقرئ من دلالات النص تسلسل للمراحل التالية:
                              المرحلة الأولى تحديد مكان الوحي ووصفه



                              حدد النص [13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ] بأن بدء الوحي في بلاد العرب في الوعر في غار حراء ، والأحداث التاريخية تؤكد على أنه لم يكن هناك وحي من جهة بلاد العرب سوى الوحي وبدء رسالة رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد وردت كلمة الوحي بدلالة اللفظ المستخدم لدى المسلمين العرب في القرآن.

                              قال تعالى:[ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{3}] [الشورى: ٣]

                              ونستنتج من النص ما يلي:
                              حددت هذه النبوءة من بلاد العرب مكان بدء الوحي على الرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ بكل دقة لفظاً ومكاناَ.
                              وصف طبيعة بلاد العرب الجبلية بالوعورة (فِي الْوَعْرِ).
                              والوعر هو الجبل (القاموس المحيط )، وإن أرض الحجاز وسلاسل جبالها هي الموصوفة بالوعر.
                              ولفظ : [وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ] دليل دامغ لموقع الحدث وخصائصه الطبيعية .

                              المرحلة الثانية تحديد منشأ حدث الهجرة ومقصدها




                              ذكر النص حدث الهجرة النبوية وحدد مكانين اثنين حدثت فيهما رحلة الهجرة هما:

                              1- منشأ خروج المرتحل (مكة المكرمة).

                              2- وجهة (المقصد) وهي (المدينة المنورة) التي هاجر إليها.
                              يترتب على تحديد الموقع الذي هاجر منه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ والذي هاجر إليه في رحلة الهجرة، تفسيراً وتحليلاً للحدث من المنظور التاريخي والجغرافي وربطه بالموقع المكاني المرتحل منه وإليه في رحلة الهجرة من مكان خروجه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة (يثرب) فالرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ لم يهاجر إلا للمدينة فقط .

                              ونستنتج من هذا النص التالي:
                              ـ اعترافاً صريحاً بنبي هذه الأمة وخاتم الأنبياء الرسول الكريم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.

                              ـ إقراراً بهجرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏والتنبؤ بها .

                              ـ تحديداً للجهة التي هاجر منها وإليها.

                              ـ وصف أسباب الهجرة كما في النص: [فإنهم من أمام السيوف قد هربوا ونحن نعرف الأحداث التي سبقت الهجرة ، ومحاولة قتل النبي الكريم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ وكل ذلك هربا من بطش قريش، عندما تسلحوا بسيوفهم وأقواسهم،وحاصروا بيته لقتله في الفراش، ونوم علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بدلاً منه، وقصة الهروب إلى غار حراء مع أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.

                              ـ اعترافاً بالظلم الذي تعرض له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ المرسل في مكة من قومه.

                              ـ وصفه أحوال المهاجر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏من اضطهاد قريش له في مكة المكرمة في النص (لأَنَّهُمْ قَدْ فَرُّوا مِنَ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ، وَالْقَوْسِ الْمُتَوَتِّرِ، وَمِنْ وَطِيسِ الْمَعْرَكَةِ) أشعياء 21/ 15.
                              المرحلة الثالثة مطالبة سكان تيماء بنصرة المهاجر




                              في هذه المرحلة يطلب أشعياء من سكان منطقة "تيماء" مناصرة المهاجر الهارب والعطشان، وإتباع هذا الدين الحنيف الذي يدعو إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، وأثرها في تغير مجريات الأحداث والتاريخ في العالم .
                              وإن هذا النص بين لنا أن النداء كان لسكان ومنطقة المكان المهاجر إليه في (يثرب) وتيماء وهي أماكن تشكل نسيجاً واحداً متكاملاً من حيث السكان والظروف والوظيفة التجارية كمعبر للقوافل، وهي متقاربة بمفهوم المسافة الطبيعية.
                              فالنص يخاطب الدداينين من أهل تيماء، ويطلب منهم حماية الهارب إلى بلادهم الوعرة، ويبشرهم بفناء مجد أبناء قيدار بن إسماعيل بعد سنة من الهروب (الهجرة).

                              والددانيون كما يشير معجم الكتاب المقدس هم سكان تيماء في شمال الحجاز، وما تتميز به سلسة الجبال من وعورة في التضاريس .
                              فنستدل من ذلك، على أنه خطاب موجه لسكان منطقة المدينة المنورة (يثرب) وما حولها، بأن عليهم عمل التالي:
                              أن يأتوا لملاقاة العطشان الهارب من الظلم، وأن يطعموه، وأن ينصروا المهاجرين المظلومين، ونحن نعرف كم خرج أهل يثرب فرحين منتظرين قدومه وهم ينشدون (طلع البدر علينا)، وملاقاتهم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏الذي عرفوا دعوته في مكة ومبايعتهم له ودعوتهم له،ثم ما تلا ذلك من أحداث في مناصرتهم وإطعامهم وإسقاهم ومقاسمتهم أموالهم وأرزاقهم (ولذلك سموا بالأنصار).
                              وقد كان الرجل يورث أخاه المهاجر وغير ذلك من أحداث ليست من موضوع الدارسة.
                              طالب أشعياء سكان تيماء من اليهود، بمناصرة المهاجر لمعرفته وإيمانه بالرسالة،وأهميتها، ودورها المستقبلي على المنطقة المهاجر إليها .
                              ومنطقة تيماء يقطنها جماعات من اليهود، وعلى ذلك فخطابه لهم من واقع عظمة الحدث المشهود.
                              تنبؤ أشعياء بالدعوة،وبالفتح الإسلامي الذي سيتجاوز مكان الهجرة (يثرب) إلى تيماء وحدود جزيرة العرب إلى أنحاء المعمورة .
                              وإن من أسباب رفض اليهود للتسليم بنبوة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، على الرغم من أمر الله سبحانه وتعالى لهم بإتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ .

                              قال تعالى:[ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{158}] [الأعراف: ١٥٨]

                              كانت رغبتهم في أن يكون خروج النبي القادم من بينهم، بل ولابد وأن يكون من اليهود أنفسهم، وعلى ذلك فكافة الحروب والنزاعات التي وقعت فيما بين المسلمين واليهود في ذلك العهد كانت بسبب المعتقدات والعادات القبلية والاجتماعية السائدة في ذلك المكان الذي يحتم على الفرد الولاء لقبيلته والمحافظة على ما توارثه من معتقدات، وإن الخروج عليهم بمعتقد ودين كالإسلام ونبي هو محمد الذين يعرفون قدومه وينكرونه هو بمثابة التهديد للسيادة والأعراف، ومن ثم تلاحقت الأحداث بمعاداة الإسلام ومحاولات تدبير المكائد والصراعات ، وما نجم عنها من إجلاءهم من مناطق وجودهم فيها.
                              ونحن عندما نستقرئ أحداث ما بعد الهجرة، نتبين كيف كانت العلاقة بين اليهود والمسلمين في المدينة المنورة وما تضمنته من صراعات وحروب ومكائد من اليهود حتى طردوا منها.
                              وفي ذلك دلالة كما تؤكد الأحداث والعهود والمواثيق واحترام المسلمين لليهود في صدر الإسلام والتعامل معهم بعد أن أتاح لهم الحياة في المجتمع مع المسلمين .
                              التعديل الأخير تم بواسطة محمد شبانه; 4 نوف, 2020, 11:36 م.

                              تعليق

                              مواضيع ذات صلة

                              تقليص

                              المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 25 ماي, 2023, 03:17 ص
                              رد 1
                              40 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 10 ديس, 2021, 01:50 ص
                              ردود 0
                              74 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                              بواسطة *اسلامي عزي*
                               
                              ابتدأ بواسطة وداد رجائي, 2 نوف, 2020, 06:20 م
                              ردود 0
                              419 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة وداد رجائي
                              بواسطة وداد رجائي
                               
                              ابتدأ بواسطة وداد رجائي, 2 نوف, 2020, 06:12 م
                              ردود 0
                              9,994 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة وداد رجائي
                              بواسطة وداد رجائي
                               
                              ابتدأ بواسطة عبدالمهيمن المصري, 10 مار, 2017, 04:29 م
                              ردود 4
                              4,704 مشاهدات
                              0 معجبون
                              آخر مشاركة الفضة
                              بواسطة الفضة
                               
                              يعمل...
                              X