الأنعام: نسقيكم مما في بطونها .. نسقيكم مما في بطونه؟ - ما توجيه ذلك؟

تقليص

عن الكاتب

تقليص

د.أمير عبدالله مسلم اكتشف المزيد حول د.أمير عبدالله
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د.أمير عبدالله
    حارس مؤسِّس
    • 10 يون, 2006
    • 11015

    الأنعام: نسقيكم مما في بطونها .. نسقيكم مما في بطونه؟ - ما توجيه ذلك؟

    قال الله تعالى: ( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) (سورة النحل)
    وقال تعالى: ( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) ( سورة المؤمنون )

    الأنعام، جمع تكسير، ويُشار إليها بالتأنيث، مما في بطونها، فلماذا جاءت في الآية الاخرى (مما في بطونه)؟

    الجواب:

    أ) بيان حقائق هامة تأصيلية قبل الدخول في أصل الموضوع

    أولًا:
    بيان أن اللغة سماع

    اللغات في أصلها نقلية، وأساس معرفتها ومعرفة خصائصها هو السماع، فالسماعُ أو النقلُ الذي تتلقاه الأذن، هو " الأخذ المباشر للمادة اللغوية عن الناطقين بها"[1]. ولِذا كان السماع هو الأساس الأول الذي دَوَّنَ العلماء بموجبِه اللغة[2]؛ ويقول الإمام فخر الدين الرازي في كتاب المحصول: " الطريقُ إلى معرفة اللغة النقلُ المحض وهو إما تواتر أو آحاد"[3] والقواعد توضع على حسب السماع، وكذلك التذكير والتأنيث يكون سماعًا.

    ثانيًا: توضع القواعد النحوية على السماع الأغلبي
    ثم توضع القواعد على هذا السماع حسب القاعدة الأغلبية، فإذا أنثت أكثر العرب الشيء (الأغلبية) وذكره بعضهم (الأقل، والندرة) فإن القاعدة تُساق على الأغلبية المطردة، لكن يظل الوجهان صحيحان في اللغة. ولذا تجد كثيرًا من الأساليب النحوية الفصيحة، الصحيحة تخالف القواعد، ويُسميها أهل اللغة لغة شاذة، وقلّ أن تجد باباً من أبواب النحو أو الصرف إلا والشذوذ وارد فيه ويقصدون باالشذوذ اي الندرة والقلة لا أنها خطأ، اي انها جائزة في اللغة، لا تمنعها اللغة، ولذا جاء بها السماع ولكن غير شائعة، وتظل في قواعد اهل اللغة من فصيح اللغة، ومن لسان العرب. بل إن هذا النادر والقليل يستعمل كما استعمله العرب ويقدم على القياس المطرد. وليس كل ما قد يخرج على القاعدة المتفق عليها شاذا أو نادرًا، بل بعضه كذلك مطرد، فيتشعب التعدد فيه ويتعقد، فيظهر الاختلاف في القواعد بين النحاة. ومن ذلك مثلاً قولهم: هذا لقيته. يحتمل موقع " هذا " في التركيب وجهين مطردين، الابتداء والجملة بعده خبره، أو النصب على الاشتغال والجملة بعده مفسِّرة،​ وبقي التركيب في هذا المثال يحتمل الوجهين، لأن اللفظ الذي شغل الموقع لم تظهر عليه علامة إعرابية لبنائه. فيجوز فيه أن يكون في موضع نصبٍ، صفة لـ " اسم " الذي عُرِّف بالإضافة، ويجوز فيه أيضاً أن يكون في موضع جر صفة لـ " رب " الذي عرف بالإضافة. وليس هناك قرينة حاسمة تحدد وجهاً وتلغي غيره.​


    ثالثًا: وأهم رافد من روافد السماع اللغوي في تقعيد القواعد هو القرآن:
    السماع اللغوي في لغة العرب الذي اشتقت منه القواعد النحوية والعادات الكلامية الأغلبية، ثلاثة، وقد ذكرها السيوطي فقال عن السماع اللغوي: "ما ثبتَ في كلامِ مَن يوثَقُ بفصاحته، فشمل كلام الله تعالى، وهو القرآنُ، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب قبل بعثته وفي زمنه وبعده، إلى زمن فسدت الألسنة بكثرة المولَّدين، نظمًا ونثرًا عن مسلم أو كافر؛ فهذه ثلاثة أنواع لا بُدَّ في كل منها من الثُّبوت"[4] ، يقول ابن الأنباري: " اعلم أن النقل ينقسم إلى قسمين: تواتر وآحاد، فأما التواتر فلغة القرآن وما تواتر من السُّنّةِ وكلام العرب. وهذا القِسْم دليل قطْعيّ من أدلةِ النحو ... وأما الآحاد فما تفرد بنقله بعض أهل اللغة ولم يوجد فيه شرط التواتر، وهو دليل مأخوذ به"[5].

    أي أن روافد السماع ثلاثة:
    1- القرآن الكريم وقراءاته.
    2- حديث النبي صلى الله عليه وسلم والصدر الأول.
    3- كلام العرب الفصحاء

    وقد اعتمَدَ الخليلُ في تأصيلِهِ لقواعِدِ النحوِ وإقامةِ بُنيانِهِ على السماع والتعليل والقياس، والسماعُ عندَهُ كان إما نقلًا عن القراءِ وهو نفسُهُ كان قارئًا وحافِظًا لكتابِ اللهِ، أو أخْذًا عن العربِ الخُلَّص الذينَ يوثق بفصاحتِهم. وكان تلميذه سيبويه حريصًا أيّما حرص على تحرّي الكلام المسموع، من ذلك أنه ذهب إلى القول بأن كسْرَ الراء في الرِّضا ومثله الشِّبَع لا يُعرف إلا بالسماع: "وقالوا: رضِيَ يرضى وهو راضٍ وهو الرِّضا، ونظيره سخِطَ يسْخَطُ سَخَطاً وهو ساخِطٌ، وكسروا الراء كما قالوا: الشِّبَع فلم يجيئوا به على نظائره، وذا لا يجسر عليه إلاَّ بسماعٍ"[6] ومثلهُ كذلِك تحقيقهُ لهمزةِ "نَبِيء " و"بريئة " كما في لغة قوم من أهل الحجاز، ذهب للقولِ برداءتِهِ، لذلك يفضل أن يقال: نبيّ، وبريةّ، لأن العُهْدَةَ فيهِ هو المسموع: "وقالوا: نبيٌّ وبريّةٌ، فألزمها أهلُ التحقيق البدل. وليس كلُّ شيءٍ نحوهما يُفعل به ذا، إنما يؤخَذُ بالسّمع. وقد بلغنا أنَّ قوماً من أهل الحجاز من أهل التحقيق يحققون "نبيءٌ وبريئةٌ"، وذلك قليلٌ رديء. فالبدل ههنا كالبدل في "مِنْساةٍ" وليس بدل التخفيف، وإن كان اللفظ واحداً"[7].

    رابعًا: لا يتعلم المبتدىء إلا القواعد الأغلبية
    وفي المدارس تُعلم وتتفشى القواعد الأغلبية، ولا يُطالب الطالب في بداية تحصيله بما قل وندر وما لم يدرس استثناءاته. فيندثر علم الاستثناءات والاقل والنادر عند الطالب، ولا يبقى إلا في بطون الكتب أو يظل محدود الاستخدام، أو بين علماء الشان وأهل العلم. ثم يُفاجأ المبتدىء أو من لا علم له بهذه الاستثناءات إذا ما قرأ في أمهات كتب اللغة أو زاد تحصيله وتخصصه في اللغة، أو قبل ذلك إذا وجده في كتاب الله، فيسأل ويتعلمه ويتدرج علمه، أما أن يأتي من لا علم له ولا درس من المشغبين فيُحاكم القرآن الكريم بعلمه المحدود، فهذا هو الجهل المركب، فهذا الجاهل، الذي لم يعرف إلا قشورًا، فظن في نفسه العقل والعلم، فأورد الغرُّ نفسه موارد الهلاك، ​ولم يعلم المسكين أن القرآن ذاته هو اول روافد السماع اللغوي، اي أنه هو نفسه حاكم على اللغة والسمع.

    خامسًا: الدرس اللغوي ليس مسألة رياضية
    مما سبق يتبين أنه ​لا يوجد في اللغة 1+ 1= 2، أو إما او، إما القاعدة وإما خطا، بل كل شيء يمكن توجيهه حسب الأسباب التي تقتضيها طبيعة اللغة وخصائص اللهجات، وحسب القرائن المحيطة بالحدث اللغوي، والتي تعرف بالمقام،​ وكذلك السياق ومقصد المتكلم، ولذا ظهر التوجيه اللغوي وتعج به كل كتب اللغة.


    ب) بيان ما اشتبه على السائل في الآيات:

    أولًا: يُمكن أن يُذكر او يؤنث الضمير في اللغة على حسب مقصد المتكلم إن قصد العود على حكم اللفظ أو على الجمع:
    فبالمذكر من جهة حكم اللفظ، وبالمؤنث من جهة الأصل (لمعنى الجمع). ودليل ذلك من اقوال أهل اللغة في ذلك قال أبو عبيدة والأخفش : النعم يذّكر ويؤنث فمن أنّث فلمعنى الجمع، ومن ذكر فلحكم اللفظ، ولأنه لا واحد له من لفظه. وقال المبرد: والنعم والأنعام واحد"، وذلك لأن الألف واللام إذا دخل الآحاد ألحقه بالجمع كقوله: والله لا أتزوج المرأة، فإنه يحنث بالواحدة والجمع، وإذا دخل الجمع ألحقه بالواحد كقوله: "والله لا أتزوج النساء"، فإنه يحنث بالواحدة، ولو قال: "لا أتزوج نساء، فإنه يحنث بدون الثلاث[8]​​. وقال النسفي في تفسيره: "ذكر سيبويه الأنعام في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ولذا رجع الضمير إليه مفرداً وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع وهو استئناف كأنه قيل كيف العبرة فقال نسقيكم مما في بطونه { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا } [النحل : 66] أي يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ لا يبغي أحدهما عليه"[9]

    ومن أدلة ذلك من لغة العرب أنه جاء مذكرًا مع أن الشائع أن يكون مؤنثًا، قول الشاعر يذكره ولا يؤنثه:
    • الاستشهاد الأول: وكل عام نِعَم تحوونه يلقحه قوم وتنتجونه إن له نخيل فلا يحمونه.​
    • الاستشهاد الثاني: إذا رأيت أنجما من الأسد جبهته أو الخراة والكند بال سهيل في الفضيح ففسد وطاب ألبان اللقاح فبرد. ولم يقل فبردت لانه رد إلى (اللبن أو الخراة).​

    ثانيًا: يُمكن أن يُذكر او يؤنث الضمير في اللغة على حسب الكناية بالشيء والبعض والجزء المُضمَر
    فالآية التي جاء فيها التذكير، كان يقتصر الحديث فيها على اللبن، واللبن لا يخرج من كل الأنعام بل يخرج من البعض، فيصح أن يعود الضمير على البعض في هذه السورة لما اقتصر على ذكر اللبن. ومثال ذلك أيضًا من كتاب الله، قول الله : {فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّى}، ولم يقل هذه، وقوله : {وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ ... فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ} ولم يقل : جاءت، لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا.​ ومثله كما في هذه الآية فذكرها واراد الشيء الذي ذكره وهو اللبن. قال الكسائي : ردَّ الكناية إلى المراد في بطون ماذكر. وقال المؤرج : الكناية مردودة إلى البعض والجزء، كأنه قال : نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونه اللبن، إذ ليس لكلّها لبن وإنما يسقى من ذوات اللبن، فاللبن فيه مضمر. فالمعنى {مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] أي: الإناث منها و {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] أي: بطون البعض؛ لأن اللبن يكون في بعضها لا في كلها، ولذا عاد الضمير مذكراً.​ ​وقال الأخفش: ({لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هذاوَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} وقال {لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ} فتذكيره يجوز على {مَا تَرْكَبُونَ} [12] و {ما} هو مذكر كما تقول: "عندي من النساء ما يوافقك ويسرك" وقد تذكْر "الانعام" وتؤنّث وقد قال في موضع {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} وقال في موضع آخر {بُطُونِها} .​)

    ومن أمثلة ذلك في اللغة:
    • الشاهد اللغوي الأول ، ما رواه الاصمعي عن الصلتان العبدي: إن السماحة والمرؤة ضمّنا قبراً بمرو على الطريق الواضح. وكان من حقه أن يؤنث هذا الفعل فيقول: ضمنتا، لأن كل فعل أسند إلى ضمير مؤنث يجب تأنيثه.
    • الشاهد اللغوي الثاني، لعروة بن حزام في تغزله بمحبوبته عفراء: وعفراء أدنى الناس مني مودة وعفراء عني المعرض المتواني، فلم يقل المعرضة المتوانية، وعفراء أنثى حقها التأنيث، فأضمر هذا "الشخص" وعفراء هذا الشخص المتواني، كل ذلك على معنى هذا الشخص وهذا الشيء. ولا يُقال في هذا خطأ لغوي.
    • الشاهد اللغوي الثالث لهدبة بن الخشرم : إذا الناس ناس والبلاد بغبطة وإذ أُم عمّار صديق مساعف ولم يقل صديقة مساعفة، وكل ذلك على معنى هذا الشخص وهذا الشيء.

    ثالثًا: يُمكن أن يُذكر او يؤنث الضمير في اللغة​ على حسب الجنس:
    فإذا أراد المتكلم بالضمير " الجنس" فهذا من جهة اللغة يمكن أن يكون بالمذكر والمؤنث وكما نقل القرطبي: (لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْجَمْعِ وَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَيُقَالُ: هُوَ الْأَنْعَامُ وَهِيَ الْأَنْعَامُ، جَازَ عود الضمير بالتذكير) فإذا أراد جنس الأنعام، اي حيوان، فيجوز القول: مما في بطونه، وإن عاد الضمير على الأنعام، فيكون (مما في بطونها)، وفي ذلك يقول ابن كثير في تفسيره، وةقد ضرب مثالا عليه من القرآن أيضًا: "{نسقيكم مما في بطونه} الضمير عائد على الحيوان، فإن الأنعام حيوانات، أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان، وفي الآية الأخرى {مما في بطونها} ويجوز هذا وهذا، كما في قوله: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره}"

    ومن أمثلة ذلك في كلام العرب:
    • الفراخ:وفيها قال الشَّاعِرُ: مِثْلَ الْفِرَاخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهُ، ولم يقل حواصلها.

    رابعًا: من العرب من يًذكر الأنعام تصريحًا:
    وقد ذكر أبو جعفر الغرناطي عن قوله: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) (النحل: 66) حكاية عن سيبويه: ( وقد حكى سيبويه، رحمه الله، أن من العرب من يقول: هو الأنعام، وعليه حمل آية الأنعام في تذكير الضمير، وورد في سورة المؤمنون على التأنيث والجمع لما بني على ذلك من قوله: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (المؤمنون: 21 - 22)، فنوسب بضمير الأنعام ما أتبع به من الضمائر في قوله: فيها، ومنها، وعليها. فورد بصورة التأنيث والجمع.) [10]​​

    خامسًا: احتمال اللفظ لأوجه لغوية متعددة إذا جاء مفردًا (آحادا) مبني على أفعال
    وقد عد سيبويه كل لفظ بُني على افعال وجاء مفردا مثل أخلاق وأمشاج، أنه يحتمل التذكير والتأنيث، فلفظ الأنعام يحتمل وجهان لغويان (أن يكون مفردًا) وأن يكون (جمع تكسير)، فكونه مفرد (آحاد) فهذا يقتضي الجمع، ويحتمل التأنيث باعتبار معناه والتذكير باعتبار لفظه. يقول محيي الدين درويش في
    وفي اعراب القرآن وبيانه 6/ 327، لمحيي الدين درويش يقول: (اللغة: (الْأَنْعامِ) :... ويجوز أن يُقال في الأنعام وجهان أحدهما أن يكون​ تكسير نعم كأجبال في جبل وأن يكون اسما مفردا مقتضيا لمعنى الجمع فاذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله: في كل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه وإذا أنث ففيه وجهان انه تكسير نعم وانه في معنى الجمع، ولسيبويه بحث طريف كما قلنا فقد عدّ المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأمشاج فيعامل بالتذكير تارة باعتبار لفظه وبالتأنيث أخرى اعتبارا بمعناه وقيل هو جمع نعم كأسباب وسبب. وقال ابن يعيش: «واعلم أن أبنية القلة أقرب الى الواحد من أبنية الكثرة ولذلك يجري عليها كثير من أحكام المفرد ومن ذلك جواز تصغيره على لفظه خلافا للجمع الكثير ومنها جواز وصف المفرد بها: غرب ثوب أسمال وبرمة اكسار ومنها جواز عود الضمير إليها بلفظ الإفراد نحو قوله تعالى: «وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه» .

    أخيرًا نختم بكلام القرطبي في تفسيره: (قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِمَّا فِي بُطُونِها) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ:" مِمَّا فِي بُطُونِهِ" عَلَى مَاذَا يَعُودُ. فَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ جَمْعُ الْمُؤَنَّثِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تُخْبِرُ عَنِ الْأَنْعَامِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا أَرَاهُ عَوَّلَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَهُ وَلَا يَلِيقُ بِإِدْرَاكِهِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْجَمْعِ وَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَيُقَالُ: هُوَ الْأَنْعَامُ وَهِيَ الْأَنْعَامُ، جَازَ عود الضمير بالتذكير، وَقَالَ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ مِمَّا فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَذْكُورِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «1» " وَقَالَ الشَّاعِرُ: مِثْلَ الْفِرَاخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهُ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:" مِمَّا فِي بُطُونِهِ" أَيْ مِمَّا فِي بُطُونِ بَعْضِهِ، إِذِ الذُّكُورُ لَا أَلْبَانَ لَهَا، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَنْعَامُ وَالنَّعَمُ وَاحِدٌ، وَالنَّعَمُ يُذَكَّرُ، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ، فَرَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَى لَفْظِ النَّعَمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْأَنْعَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا رَجَعَ التَّذْكِيرُ إِلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالتَّأْنِيثُ إِلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَذَكَرَهُ هُنَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَنَّثَهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ فَقَالَ:" نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها «2» " وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى انْتِظَامًا. حَسَنًا. وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ أَكْثَرَ من رمل «3» يبرين وتيهاء فلسطين. الرابعة- لاستنبط بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْجِلَّةِ وَهُوَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ مِنْ عَوْدِ هَذَا الضَّمِيرِ، أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُفِيدُ التحريم، وقال: إنما جئ بِهِ مُذَكَّرًا لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى ذِكْرِ النَّعَمِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلذَّكَرِ مَحْسُوبٌ، وَلِذَلِكَ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يحرم حين أنكرته عائشة [رضى الله عنها «4»] فِي حَدِيثِ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ" فَلِلْمَرْأَةِ السَّقْيُ وَلِلرَّجُلِ اللِّقَاحُ" فَجَرَى الِاشْتِرَاكُ فِيهِ بَيْنَهُمَا. وقد مضى قول فِي تَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ فِي" النِّسَاءِ «5» " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.​)[11]​​​ وقال كذلك: (وَالْأَنْعَامُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" مِمَّا فِي بُطُونِهِ ". وَفِي مَوْضِعٍ" مِمَّا فِي بُطُونِها)[12]​​​

    والله تعالى أعلى واعلم


    [1] مجلة رفوف * مخبر المخطوطات الجزائرية في غرب إفريقيا * جامعة أدرار– الجزائر * العدد السابع– سبتمبر 2015، " الأصول النحوية وتوابعها في اللغة العربية"، مسري، الطاهر، ص. 201. لمع الأدلة لابن الأنباري، ص. 27.
    [2]الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه: 134
    ويُنظر: https://www.alukah.net/literature_la...#ixzz5wMV4A5rT
    [3]
    [4] الاقتراح في أصول النحو للسيوطي 39.​
    [5] لُمَعُ الأدلة في أصول النحو لابن كمال الدين بن محمد الأنباري (ت. 577 هـ)، ص. 83​
    [6] الكتاب لسيبويه 3/ 555

    [7] الكتاب لسيبويه 3/ 538​​
    [8]​​​ يُنظر تاج الدين الكرماني في (غرائب التفسير وعجائب التأويل، 1/ 609)​
    [9]​ ويرجع فيما سبق إلى (الكشف والبيان للثعلبي) و (مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، 2/ 220-221)

    [10]​ ​ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، 2/ 302
    [11]​ الجامع لأحكام القرآن، 10/ 123- 124
    [12]​​ الجامع لأحكام القرآن، 10/ 69
    "يا أيُّها الَّذٍينَ آمَنُوا كُونُوا قوَّاميِنَ للهِ شُهَدَاء بِالقِسْطِ ولا يَجْرِمنَّكُم شَنئانُ قوْمٍ على ألّا تَعْدِلوا اعدِلُوا هُوَ أقربُ لِلتّقْوى
    رحم الله من قرأ قولي وبحث في أدلتي ثم أهداني عيوبي وأخطائي
    *******************
    موقع نداء الرجاء لدعوة النصارى لدين الله .... .... مناظرة "حول موضوع نسخ التلاوة في القرآن" .... أبلغ عن مخالفة أو أسلوب غير دعوي .... حوار حوْل "مصحف ابن مسْعود , وقرآنية المعوذتين " ..... حديث شديد اللهجة .... حِوار حوْل " هل قالتِ اليهود عُزيْرٌ بنُ الله" .... عِلْم الرّجال عِند امة محمد ... تحدّي مفتوح للمسيحية ..... حوار حوْل " القبلة : وادي البكاء وبكة " .... ضيْفتنا المسيحية ...الحجاب والنقاب ..حكم إلهي أخفاه عنكم القساوسة .... يعقوب (الرسول) أخو الرب يُكذب و يُفحِم بولس الأنطاكي ... الأرثوذكسية المسيحية ماهي إلا هرْطقة أبيونية ... مكة مذكورة بالإسْم في سفر التكوين- ترجمة سعيد الفيومي ... حوار حول تاريخية مكة (بكة)
    ********************
    "وأما المشبهة : فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة
    وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول : أكفر من يكفرني وكل مخالف يكفرنا فنحن نكفره وإلا فلا.
    والذي نختاره أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة "
    (ابن تيْمِيَة : درء تعارض العقل والنقل 1/ 95 )

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, منذ أسبوع واحد
ردود 0
16 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة د.أمير عبدالله
ابتدأ بواسطة ابن الوليد, 24 مار, 2024, 09:27 ص
رد 1
149 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة ابن الوليد
بواسطة ابن الوليد
ابتدأ بواسطة Guardian26, 22 ينا, 2024, 02:18 ص
ردود 3
145 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة محب المصطفى
بواسطة محب المصطفى
ابتدأ بواسطة Muslim1989, 13 ديس, 2023, 02:27 ص
ردود 8
121 مشاهدات
1 معجب
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
ابتدأ بواسطة Muslim1989, 11 ديس, 2023, 12:39 م
ردود 9
178 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة أحمد عربي أحمد سيد
يعمل...