## محاضرات عن الصراع بين بولس و تلاميذ المسيح ,لأستاذ اللاهوت الألمانى أوتو فليدرر ##

تقليص

عن الكاتب

تقليص

أويس القرنى مسلم اكتشف المزيد حول أويس القرنى
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ## محاضرات عن الصراع بين بولس و تلاميذ المسيح ,لأستاذ اللاهوت الألمانى أوتو فليدرر ##

    .
    لأستاذ اللاهوت الالمانى أوتو فليدرر كتب عديده متميزه , و أحد هذه الكتب عباره عن سلسة محاضرات عن تأثير بولس على المسيحيه Otto Pfleiderer , Lectures on the influence of the apostle Paul on the development of Christianity , و قد ترجمت لكم ملخصا لهذه المحاضرات القيمه


    أرجو أن تستفيدوا منها



    الكتاب مقسم الى عدة محاضرات , و لكنى سأقتصر على المحاضرات التى تتناول الصراع بين بولس و تلاميذ المسيح , أو بين بولس و المسيحيين المتهودين




    و هاكم رابط الكتاب



    http://www.archive.org/details/lectu...flue00pflerich

  • #2

    المحاضره الثالثه : نزاع رسول الأمميين مع المسيحيين المتهودين :






    ينبغى أن نتعجب أن النزاع بين بولس و المسيحيين المتهودين قد حصل فى مرحلة متأخره , ففى خلال الأربعة عشر سنه لأعماله التبشيريه الأولى فى مناطق سوريا و كيليكيه , كان هناك توافق بينه و بين كنائس اليهوديه , فبحسب كلام بولس نفسه أنهم كانوا يمجدون الله بسبب ثمرة كرازته . ربما أن بولس نفسه لم يلاحظ حينها كل النتائج التى ستترتب على مبادئه بسبب تحرر المسيحيه من الناموس , كما يمكن أيضا أن تكون كنائس اليهوديه لم تصل لها معلومات دقيقه عن الكنائس البعيده عنها نوعا ما , أو أن النتائج العامه التى حققها بولس جعلتهم سعداء بحيث غضوا الطرف عن العناصر المسيحيه الأمميه و اتصال اليهود بالمسيحيين الأممين , و لكن عندما انتشرت كرازة بولس أكثر و أكثر فى المناطق الوثنيه , زاد عدد الكنائس فى المناطق الوثنيه و فى نفس الوقت فى العاصمه السوريه " أنطاكيه " , و نمى العنصر الأممى فى العدد و التأثير , بحيث أن نمط المجتمع هناك صار أكثر تحررا , مما لفت الانتباه فى أورشليم , و ذهبت الفرحه بنجاح بولس و حل محلها القلق و الريبه بخصوص نتائج هذه التطورات .



    و رأى الأكثر غيره , أنه لا يمكنهم الصمت على أفعال بولس , و ذهبوا الى أنطاكيه ليراقبوا و يعارضوا هذا السلوك المتحرر , و قال عنهم بولس " الإخوه الكذبه المدخلين خفيه " , و نشأ اضطراب ليس بالقليل فى المجتمع الأنطاكى الخليط , خصوصا عند أولئك الذين كانوا يحتجون بأبى كنيستهم , و يمكننا أن نتخيل الوضع المؤلم الذى وجد بولس نفسه فيه , فإذا نجح هذا الحزب الغيور أن يجعل المؤمنين الأممين يختتنون و يخضعون للناموس اليهودى , تحت دعوى أن كنيستهم هى الكنيسه الأم , و أن الرسل فى صفهم , فإن الكرازه للأممين كانت ستحتضر , و سيكون عمل الرسول بولس للأممين بلا أى أمل مرجو , لأنه لو خضع لهم فى ضرورة التمسك بالناموس , فليس هناك أى أمل فى نجاح مهمته الى الوثنيين , الذين يشكل الناموس اليهودى عائقا منيعا أمام تحولهم الى المسيح .



    بينما و من ناحية أخرى , اذا أهمل بولس مطالب المتهودين , دون أن يتفاهم مع الرسل و ينال رضاهم عن كرازته المتحرره من الناموس للأمميين , فإنه بذلك سيقطع العلاقه ما بين الكنائس الأمميه و الكنيسه الأم , مما يجعل بقاء و استمرار مثل هذه الكنائس الأمميه أمرا عسيرا , و بالتالى فقد رأى بولس أن مصير كرازته يتوقف على أن يحظى بموافقة الكنيسه الأم , و بالتالى فقد سلك الطريق المباشر مع أنه الأخطر , و اختار أن يناقش المسأله مع الكنيسه الأم و قادتها البارزين , و من الطبيعى أن يكون بولس قد أخبر كنيسة أنطاكيه بخطته تلك , و لا بد أن الكنيسه تبنت هذا الحل حتى يلتئم الجسد , و بالتالى أرسلت بولس و معه برنابا كمندوبين رسميين الى أورشليم .



    هذه الرحله الى أورشليم كما سجلت فى سفر الأعمال لا تستبعد القصه التى يرويها بولس نفسه , بل إن كلا التعليقين يكمل الآخر بشكل يثير الإعجاب , و نفس الأمر يمكن أن يقال عن الأحداث التاليه التى حدثت فى أورشليم , و التوافق ما بين التعليقات أكبر بكثير من التناقضات , و يمكن تفسيره بسهوله أنه يعود الى اختلاف وجهة نظر كل كاتب .




    لا نجد فى أى موضع تقرير ما بأن الكنيسه كلها كانت فى جانب بولس , و أن الغيورين على الناموس يشكلون جزءا صغيرا لا قيمة له , فعلى العكس , لا يمكننا أن نغض الطرف أننا لو افترضنا هذا فسيكون من العسير أن نفهم كيف نشأت مثل هذه النزاعات الحيه التى تسجلها رسالة غلاطيه فى الاصحاح الثانى و سفر الأعمال فى الاصحاح الخامس عشر .



    و بالتالى فمن المرجح أن هذا النزاع عندما عرض على كنيسة أورشليم , ترددوا و لم يحسموا الأمر بين الأطراف المتنازعه . لقد كانت فكرة غريبة بالطبع على عقولهم اليهوديه , أن ينظروا الى الأممين كإخوة لهم دون أن يلتزموا بالناموس , و هم الذين نظروا إليهم طويلا كخطاه و غير طاهرين , و هذا الأمر قد يقدح أيضا فى سمعة الكنيسه الناشئه فى عين الشعب اليهودى و تهتز سمعتها الباره , مما يضر بالكرازه فى اسرائيل نفسها . و كذلك هل يمكن ليسوع المسيح أن يقبل مثل هؤلاء الناس فى مملكته المستقبليه و هو الذى قال أنه لم يأت لينقض الناموس ؟


    فى ضوء هذه الأسئله , لا بد أنهم مالوا فى البدايه الى رأى الغيورين على الناموس , و لكن فى نفس الوقت لا يمكنهم أن يتفادوا النجاح الذى حققه بولس و برنابا فى كنائس الأمم . ألم تكن الكنيسه بحاجه حينها أن ترى أن الكرازه للأمم مسرة للرب ؟ , ألم يتنبأ الرسل عن قدوم الأمم فى زمان الإكمال ؟ , أليست بعض أقوال يسوع تثنى على إيمان الأمميين و أخزى بها اليهود ؟


    لم تستطع الكنيسه الأم - بالرغم من نهجها المحافظ - أن تتجاهل كل هذه الاعتبارات , و لكن على الرغم من هذا فإن بولس وحده يقف متجاسرا أمام الجموع الغيوره على ناموسها اليهودى . فى الواقع , كانت لحظة عصيبه , ستحدد مصير المسيحيه , و قد مالت الكفه تجاه رأى ما فى البدايه , ثم مالت فى النهايه تجاه الرأى الآخر , عندما أيد الرسل الكرازه المتحرره للأمم . و بكل تأكيد يخبرنا سفر الأعمال بالحقيقه عندما يقول أن بطرس هو الذى أخذ زمام المبادره فى هذا الأمر , على الرغم أن الحديث الذى ينسبه سفر الأعمال الى فم بطرس يظهر آثارا للفتره اللاحقه لمحرر هذا الحديث , و لكن لا بد أن محبة بطرس للمسيح هى التى دفعته أن يمد يده لرسول الأمم .
    سار يعقوب أخو الرب , و يوحنا الرسول على نهج بطرس , و أكدا على رابطة الأخوه , و لكنهما ( و بالأخص يعقوب ) لم يفعلا هذا بشكل صريح مثل بطرس , فسفر الأعمال يظهر روح يعقوب اليهوديه الصارمه التى قيدت مثل هذا التحالف الأخوى , و يبدو أنه بسبب عدم انتمائه لتلاميذ المسيح - بعكس بطرس - لم يتأثر بروح المسيح المتحرره .


    بخصوص شروط الاتفاق , نجد اختلافا بين التعليقين , فبحسب بولس كانت شروط الاتفاق هى , الاول : أن يكون مجال كرازته للأمم و مجال كرازه الرسل الأخرين لليهود مجالان منفصلان فى المستقبل . الثانى : أن يتذكر بولس الفقراء فى كنائس اليهوديه و أن يجمع لهم العطايا من الأمميين .


    ان سفر الأعمال يلتزم الصمت بخصوص هاتين النقطتين , و يقول عوضا عن ذلك أنه قد فرض على المسيحيين الأمميين أن يمتنعوا عن اللحم المقدم للأوثان , و الزنا و الدم و المخنوق .


    هذا الاختلاف ما بين التعليقين محل جدل شديد , و الدخول فيه حاليا سيطيل الكلام و أنا أريد الالتزام بالموضوع . بما أن بولس لم يذكر هذه الموانع الأربعه على الأمميين , بل يؤكد أن ذوى السمعه لم يطلبوا منه شيئا ما , باستثناء أن يتذكر الفقراء , فبالتالى فى حديثه عن أكل اللحم المقدم للأوثان لا يشير الى قرار الرسل بخصوصه , و بالتالى ربما أن الشك فى الصحه التاريخية لهذا الاتفاق يجد له أساسا متينا .


    و لكن لا يستلزم من هذا أن كاتب سفر الأعمال اخترع قصته بشكل تحكمى , و من أجل غرض عقائدى محدد , بل على العكس ينبغى أن نفترض أن هذه الشروط الأربعه ليعقوب تنتمى الى الالتزامات التى تفرض على المهتدين حديثا , و عندما نتذكر أن أول المسيحيين الأمميين كان معظمهم مهتدون جدد , فإن الاستنتاج يطرح نفسه أن هؤلاء المهتدون الجدد حافطوا على نهج حياتهم السابقه , و بالتالى المحافظه على الأوامر الخاصه بالمهتدين الجدد صارت هى نقطة البدء للمسيحيين الأمميين فى بعض الكنائس .


    ليس مرفوضا أن يكون مثل هذا التقليد له أصل رسولى , و أن ينسبه كاتب سفر الأعمال الى مجمع رسولى , و لكنى لا أستبعد احتمالية أنه بعد أن حدث اتفاق عام فى أورشليم بخصوص الموضوع الرئيسى , جرى نقاش النقاط الأخرى بعد ذلك , و لكن بولس تجاهل ذكر هذا , بينما كان كاتب سفر الأعمال على علم به من خلال تقليد الكنيسه فى أنطاكيه , و اعتبره جزءا رئيسيا من الاتفاق , و بالتالى ليس من المستحيل أن نوفق بين التعليقين .




    إن هذا الإتفاق يحوى بداخله بذور الاختلاف , فإنه يفصل بين مجتمع مسيحى أممى لا يلتزم بالناموس و مجتمع مسيحى متهود يلتزم بالناموس , كيف يمكن أن يتعايش المجتمعان معا خصوصا فى مجتمع مختلط مثل الذى نجده فى أنطاكيه ؟ , لا بد أن يخضع أحد الطرفين للآخر , أن يعيش الأممى تحت الناموس ليرضى المسيحيين المتهودين , أو أن يعيش المسيحى المتهود بلا ناموس ليرضى المسيحيين الأمميين , و بالتالى بدأت الكنيسه فى أنطاكيه تحت قيادة بولس و برنابا تمارس الحريه و تتجاوز الاتفاق الرسولى .


    و لكن كيف نظرت أورشليم لهذه الأحداث التى تجرى ؟ , هنا أيضا نلاحظ الاختلاف ما بين بطرس و يعقوب , فبطرس لم يتردد فى زيارة كنيسة أنطاكيه المتحرره فكريا , و أن يتوافق بقلبه الكبير مع سلوكها المتحرر , بعكس يعقوب الذى رأى فى هذا السلوك المتحرر انتهاكا صريحا للاتفاق الذى عقد فى أورشليم , و انكار للأشياء المقدسه فى الوعى اليهودى , و انتقاص من قدر البر الى مستوى خطاة الوثنيين , و تدنيس للإيمان بالمسيح , و ربما أن غالبية من كانوا فى أورشليم يتفقون معه فى طريقة تفكيره هذه .


    و بالتالى أراد البعض أن يتحقق من الأوضاع فى أنطاكيه و أن يشحذوا الوعى اليهودى لبطرس , و أصاب وصولهم أكثر الأنطاكيين تحررا بحالة من الشلل , فلم يكن من الممكن ركوب خطر معارضتهم , و خضعوا لمبادئهم الصارمه فى خجل . تنحى بطرس عن المسيحيين الأمميين , الذين كان يرافقهم على موائدهم قبل ذلك , و حذى حذوه بعد ذلك المسيحيون المتهودون الأخرون , و حتى برنابا شعر أن الموجه المضاده تجرفه , و بالتالى كان هناك تأثير كبير لهذه الحركه مما جعل المسيحيون الأمميون يشعرون أنهم واقعون تحت ضغط أخلاقى , و بدوا يميلون للخضوع الى العادات اليهوديه .


    لم يستطع بولس أن يمنع نفسه أكثر من هذا , و مع حماسته المعروفه عنه عندما تكون الأمور الدينيه على المحك , عارض بطرس و اتهمه بالرياء , لأنه لم يكن هو وحده يتراجع , بل كان يجعل الآخرين أيضا يتراجعون عن مبادىء الحريه التى كانت اعتبرت صالحه . و اذا قال المتهودون أن المتحررين يدنسون الإيمان بالمسيح , كان رد بولس أنهم هم من يخطئون فى حق المسيح بجعله هو و الناموس جنبا الى جنب , و يجعلون موته بلا فائده , و يبطلون نعمة الله , و بالتالى فقد عبر بولس عن عدم التوافق الداخلى ما بين الايمان بالمسيح و المحافظه على النظام اليهودى , و أن موقفه من الناموس ليس فقط أمرا يجب تفهمه , بل هو وحده و فقط الموقف المسيحى الصحيح , و لكن المسيحيه المتهوده لم تكن لتحتمل مثل هذا الكلام من بولس , و لهذا نظرت اليه بارتياب .


    و بما أن بولس نقض اتفاق أورشليم بإصراره على نقض الناموس , فقد اعتبر المسيحيون المتهودون هذا الاتفاق لاغيا و غير ملزم لهم , و بدأت معارضه ضد بولس فى كنائسه الأمميه الخاصه به , و يصعب علينا أن نحدد مدى اشتراك الرسل الاصليون فى حركة المعارضة تلك لأننا لا نمتلك معلومات بخصوص هذا الأمر . و لكن - و على الرغم من ذلك - عندما نرى احتجاج المتهودين بالأسماء الشريفه للرسل , و استشهادهم على مصداقيتهم أمام كنائس الأمم من خلال رسائل تقديم جلبوها معهم بدون شك من فلسطين , فمن الصعب أن نتخيل أن حركتهم هذه لم يشترك فيها الرسل الأوائل بالكليه . و يضاف الى ما سبق , أن لو كان الوضع على هذه الكيفيه , فإن نبرة التردد التى نجدها فى كلام بولس أكثر من مره فى حديثه عن " ذوى السمعه " , " الأعمده " , " الرسل البارزين " , و تأكيده على استقلاليته و مساواته لهم , سيكون أمرا عسيرا على الفهم .



    و لكن و من ناحية أخرى , لا بد أن نأخذ فى اعتبارنا بخصوص التعامل مع الأحزاب التى كانت فى كورنثوس , أن بولس امتنع تماما عن التلميح الى بطرس , التى أخذت أحد هذه الأحزاب اسمه كشعار لها , و أنه لم يهاجم فى أى موضع سلطة الرسل الأوائل , بل على العكس يعترف بأسبقيتهم فى الرسوليه , و يسمى نفسه أقل الرسل و ليس مستحقا أن يدعى رسولا لأنه اضطهد الكنيسه , و لكنه بنعمة الله عمل أكثر من الآخرين . كذلك فإن بولس يذكر الكنيسه الأم بكل ود قبل فترة قصيره من رحلته الأخيره الى أورشليم , و أن المسيحيين الأمميين مديونون للقديسين الفقراء فى أورشليم , و لكنه فى نفس السياق يشير الى أن لديه شك بسيط فى أن يحظى هو و هديته باستقبال ودود فى أورشليم . إن هذا الشك لم يكن بدون أساس , و الذى يبرهن على هذ الأمر هو الموضوع الخطير الذى دفعه لهذه الزياره , و كذلك فعندما يظهر الإخوه المسيحيون المتهودون فى أى موقف , فإنهم لا يظهرون أى تعاطف أو دعم لرسول الأمميين .


    اذا أخذنا كل هذه الدلائل فى حسباننا , يمكننا أن نقول أن علاقة بولس بالكنيسه الأم كانت علاقه فاتره و متحفظه , يشوبها سوء الظن و السخط , و هذا يتضح جدا اذا افترضنا - كما فعلنا سابقا فى المجمع الرسولى - وجود اتجاهين فى الكنيسه الأم ذاتها , اتجاه متحرر متسامح يمثله بطرس , و اتجاه صارم متحفظ يمثله يعقوب , على الرغم أن هذا الاتجاه الأخير ربما بعد ما حدث فى أنطاكيه صارت له اليد العليا فى أورشليم , و لكن على الرغم من ذلك ربما أن الموقف التوفيقى لبطرس منع قطع كل العلاقات , و لهذا ظل لدى بولس أمل أنه عند وصوله و معه العطايا من الأمميين أن يغير مشاعر كنيسة أورشليم تجاهه .



    اذا تقدمنا الآن للنظر فى المراحل التاليه من النزاع بين بولس و المسيحيين المتهودين , لا بد أن ندير أعيننا تجاه ما حدث فى غلاطيه , ففى زيارة بولس الثانيه الى الكنائس هناك , رأى بولس أن وضعهم قد تغير للأسوأ , فقد ظهر المتهودون فى وسطهم , و هم الذين جاءوا من أماكن آخر مثل أنطاكيه أو أورشليم , محدثين اضطرابا و تشويشا فى الكنائس المسيحيه الأمميه , معلمين إياهم بضرورة الإلتزام بالناموس اليهودى و الختان من أجل الخلاص , و محتجين بسلطة الرسل الأوائل و بسلطة برنابا الذى هو أحد مؤسسى الكنائس فى غلاطيه , و منتقصين من سلطة بولس , واصفين إياه بمجرد تلميذ للرسل , بل و مشككين فى شرفه الشخصى .


    أمل بولس أن يهدىء العاصفه اليهوديه عبر ذهابه شخصيا , و لكنه لم يغادر الى هناك حتى وصلت الأمور هناك الى مرحلة عنيفه و سلوك معاد يشكل تهديدا , و عندما علم بولس بهذا كتب رسالته الى أهل غلاطيه , التى تعد شهادة رائعة للحريه المسيحيه , و تحفه لرجل دين عبقرى سبق عصره بقرون . انه يدافع فى البدايه عن استقلاليته الرسوليه , فإن انسانا ما لم يدعه ليصير رسولا , و لم يتعلم انجيله بواسطة تقليد , بل بإعلان مباشر من يسوع المسيح , و يعارض المبدأ اليهودى فى السلطويه و التقليد , بالمبدأ الإنجيلى فى الاطمئنان للحقيقه الإلهيه التى تشعر بها الروح من خلال اتصالها بالروح الإلهيه , و هو الأمر الذى يحمل بحد ذاته شهادة لصدقيتها .


    و هذه التجربه فى الشعور الداخلى بالوحى للروح , التى يسكن فيها مصدر انجيله , يفترض بولس أنها توجد أيضا عند قارئيه , و يحتج بها بوصفها القاعده الأسمى و الاختبار لكل الحقيقه الدينيه .




    عارض المتهودون بولس فى كورنثوس بأسلوب جديد يختلف عما فعله المتهودون فى غلاطيه , فلم يناقشوا اليونانيين هناك فى ضرورة التمسك بالناموس و الختان , بل هجموا مباشرة على محور كرازة بولس , و هو أنه لم يلتق المسيح و أنه يقدم لهم مسيحا مختلفا , بينما هم قد رأوا المسيح و تلاميذه و يستطيعون أن يكرزوا لهم بالتعاليم الصحيحه .




    بالنسبه لكنيسة روما كان بها أمميون و متهودون , و لكن الأمميين كانوا فى صف بولس و لهذا صار المتهودون أقليه .





    ان السعى الذى يظهر فى الرساله الى روميه تجاه ربط انجيل بولس بالعهد القديم , و لإظهار أنه متمم للنبوءه , أمر جدير بالملاحظه فى حد ذاته . و عندما ندخل فى التفاصيل نجد تغيرا فى النقاط الثلاثه الجوهريه لخلافات بولس السابقه , عقيدته فى المسيح , و الناموس , و أمل اسرائيل .


    فى معارضته للكورنثيين " حزب المسيح " , ركز بولس كثيرا على مثالية الكريستولوجى عنده " الرب هو الروح , على الرغم أننا عرفنا المسيح بالجسد , منذ الآن لا نعرفه أكثر " , و بعد ذلك بعد حوار له مع المسيحيين المتهودين المعتدلين ( الحزب البطرسى ) , ربما وصل الى قناعه أن الواقعيه التاريخيه التى تهتم بحياة المسيح الأرضيه لها شرعية مهما كان الأمر , و أن هذا يحدث توازنا مفيدا يضاف الى السمو الروحى لأتباع أبولوس . و بالتالى نجده فى رسالته الى روميه يدمج ما بين الطريقه التاريخيه و الواقعيه مع ميوله المثاليه كما لو أنه يستجلب الأولى الى واجهة المشهد , جاعلا اياها تعلى من قيمة الثانيه عن طريق المقارنه , و بالتالى فالمسيح بلا شك هو ابن لداود بحسب الجسد , و لكنه ابن الله بواسطة روح القداسه , و هو من نسل آباء اسرائيل بحسب الجسد و بالتالى ينتمى للأمه اليهوديه , و لكنه فى نفس الوقت الرب الإلهى فوق الكل , سواء كانوا يهودا أو أمميين .



    و بخصوص الناموس , ففى رسالة غلاطيه , كان بولس قد وضعه - فيما يتعلق بأجزائه الطقسيه - على قدم المساواه مع العباده الوثنيه , و سمى هذا النظام القانونى " لعنه " مضادة لروح المسيح , و لكنه الآن يرفض فكرة أنه يعتبر الناموس جسدى و غير نقى أو مبدأ للخطيه , فعلى العكس يقول أن الناموس روحى و مقدس , بار و صالح , و أن النتائج الكارثيه السبب فيها طبيعة الانسان الجسديه . إنه لا يعلن هنا أن الإلتزام بالناموس و الأصوام و الأطعمه يعد سقوطا بعيدا عن المسيح بعكس ما قاله فى رسالة غلاطيه , بل يعترف أن الشكاك أو " الضعيف " يمكنه أن يحافظ على الموانع و الممارسات للرب , و بالتالى أعلن أن كل انسان يمكنه أن يحتكم الى ضميره فى مثل هذه الأشياء , و أنها لا تستلزم التعنيف أو أن يقال عنها أنها أمور غير مسيحيه , و فى الواقع فإنه يجعل هذه واجبا على معتنقى الرؤى المتحرره أو " الأقوياء " أن يتعاملوا بتساهل أو تسامح مع الضعفاء .


    هذه التغير الملحوظ قد نجد تفسيرا له فى سببين , الأول يتعلق بظروف الكنيسه الرومانيه , التى لم يعد " الناموسيون " يلعبون فيها دور المهاجم و المضطهد , بل صاروا هم من يقع عليهم الاضطهاد , و السبب الثانى يعود الى خبرة بولس فى كورنثوس , حيث لم يستطع تفادى أن وجهة نظر المسيحيين المتهودين المعتدلين لها جانب صحى يستحق الانتباه .


    نجد آثارا لهذا فى التحذيرات العمليه فى رسالته الى روميه , و هى لا تساعدنا فقط فى فهم الوضع فى كنيسة روما , بل و تعطينا أيضا معلومات بخصوص وضع الأشياء فى كورنثوس بعد وصول بولس الأخير هناك . هذه الآثار تظهر تفاعلا داخل الأحزاب المتطرفه , و تقاربا داخليا ما بين تلاميذ بطرس و تلاميذ بولس من أجل وحدة الكنيسه . هذه النزعه السلاميه نلاحظها بأكثر وضوح فى نقاشنا للنقطه الثالثه من مواقف بولس السابقه , ففى رسالة بولس الى غلاطيه , أعلن بولس أن أبناء ابراهيم - أى شعب اسرائيل - مرفوضون , و محرومون كأبناء الجاريه , و أن أبناء ابراهيم الروحيين هم أبناء الحره و هم المؤمنون الأمميون , و هم الورثه الشرعيون , و أكد كلامه الحاد هذا من عام لآخر من خلال نتائج كرازته , التى شكلت صدمة شديده للمسيحيين المتهودين , الذين لم يستطيعوا أن ينسوا أن المسيح نفسه خرج من اسرائيل , و أن الوعود لاسرائيل ينبغى أن تتحقق فى مملكته , ولم يستطع بولس أن ينكر وجاهة هذا الشك , بما أنه قد اشترك بنفسه متألما فى الحزن لعدم ايمان اسرائيل .



    فى نقاشه لهذه النقطه ( روميه 9 ) , طرق على مسمار آخر غير الذى طرقه فى رسالته الى غلاطيه , فقد طمأن المسيحيين المتهودين المخذولين فى روما أنه متعاطف مع شعبه , الذين لهم الناموس و المجد و المواعيد و خدمة الله , الذين جاء المسيح من نسل آبائهم بحسب الجسد . و بهذا الخصوص لا يمكن أن تصير مواعيد الله سدى , فقال بولس " فالله لم يرفض شعبه الذين عرفهم " , و بالتالى سحب بولس كلامه عن " رفض " أبناء ابراهيم الذين بحسب الجسد .


    لقد تعثرت اسرائيل حقا عند صخرة العثره , و هى صليب المسيح و التبرير بالإيمان , و لكن لا يمكن أن تسقط و تظل هكذا للأبد , بل فقط لتسمح بدخول الأمميين الى الملكوت المسيانى , و عندما أدت خسارة اسرائيل الى كسب الأمميين , فإن الأمميين سيردون لهم الجميل بنفس الطريقه , و بالتالى فعدم ايمان اسرائيل حاليا لا يعنى أن الله قد رفضهم , بل فقط نحاهم مؤقتا من أجل خطة الخلاص العالمى , و فى النهايه سيحظى الجميع بنعمة الله . و حقا , صار الأول آخرا , و الآخر أولا , و قطعت فروع الزيتونه لشعب اسرائيل لتسمح بنمو فروع الأمميين , و لكن هذا لا يعنى أن يفتخر الأمميون على اسرائيل , بل عليهم أن يتذكروا أن الله قادر أن يقطعهم أيضا و ينبت اسرائيل مرة أخرى .


    و بالتاليه فالعالميه البولسيه التى بدى فى رسالته الى غلاطيه أنها تدير ظهرها ضد اسرائيل , تلتفت بوجهها الآن فى صالحها فى هذه الرساله , التى أرادت طمأنة من جرى تهميشهم , و بث التواضع فى أولئك الذين صاروا فى المقدمه , و بالتالى يتحد الجميع فى رابطة أخويه فى كنيسة الله , التى لا تفرق بين يهودى أو يونانى , و كانت هذه هى أنضج ثمره للنزاع الذى دار بين رسول الأمميين و المسيحيين المتهودين , و كان هذا فى نفس الوقت الشهاده التى تركها بولس للكنيسه العالميه الناشئه .

    تعليق


    • #3

      المحاضره الرابعه : المصالحه بين البولسيه و المسيحيه المتهوده :



      تعرضنا فى المحاضره السابقه للنزاعات بين بولس و المسيحيين المتهودين , كيف نشأت فى أنطاكيه و بلغت ذروتها بعد ذلك فى غلاطيه و كورنثوس , و بعد الانتصار على الخصوم فى كورنثوس صارت العلاقه أكثر هدوءا و تصالحا كما وجدنا هذا فى رسالة روميه , و نجد استمرارا لهذا النهج السلامى أثناء حبس بولس فى روما , و نستخلصه من الرساله الى فيلبى التى كتبت فى روما . لقد اشتكى بولس فى رسالته تلك أيضا من خصوم شخصيين يكرزون بالمسيح منازعين و حاسدين , و لهم نوايا سيئه ضد بولس , و لكنه على الرغم من ذلك يقر - بخصوص هؤلاء الخصوم - أنهم يكرزون حقا بالمسيح , و أنه حتى مسرور بعملهم , لأنهم على أى حال يخدمون الهدف الأكبر .


      يا له من أسلوب هادىء يختلف عن أسلوبه الحاد الذى واجه به خصومه فى غلاطيه و كورنثوس قائلا أنهم يكرزون بمسيح آخر و انجيل آخر . و لكن هنا يبرز سؤال و هو " هل هذا التغير سببه التغير فقط فى مشاعر بولس أم أن المسيحيين المتهودين لم يعودوا يكرزون بمسيح مضاد للمسيح البولسى ؟ و أنهم قد اقتربوا و تعلموا و توافقوا معه ؟ " .


      ان النبره التى نجدها فى رسالة روميه و رسالة فيلبى ترجح أنه قد حدثت إذابه للفروقات فى التربه الرومانيه و بدأت حركة مصالحه , و يمكننا أن نجد دليلا على هذا فى أول كتاب فى العهد الجديد لكاتب من المسيحيين المتهودين , و الذى كتب بعد سنوات قليله من مغادرة بولس لمسرح أعماله الأرضيه , و هو كتاب رؤيا يوحنا .


      من المتفق عليه حاليا أن هذا السفر قد كتب حوالى عام 68-69 م , و لكنى لا أرى محتملا أن يكون الرسول يوحنا هو المؤلف كما يفترض عادة , ليس فقط لأن الكاتب لا يسمى نفسه " رسولا " فى أى موضع , بل أنه يتحدث عن الاثنى عشر رسولا بطريقه لا يمكن أن تفهم على أنه واحد منهم , بل إنه يفترض موتهم كحقيقة مستقره . و أيضا بخصوص القضاء الذى يقع على روما فى سفر الرؤيا اصحاح 18 , الذى يترك انطباعا أنه شاهد عيان على حريق نيرو و اضطهاد المسيحيين التالى لذلك .


      لهذه الأسباب , أرى أن كاتب رؤيا يوحنا هو مسيحى متهود كان فى روما , و ذهب الى آسيا الصغرى , ربما هربا من اضطهاد نيرو ( 64 م ) , و تقابل مع الكنائس هناك , و الآن عندما اقترب سقوط أورشليم , وجه عينه النبويه صوب هذا الاتجاه و أيضا تجاه روما , بحيث صارت ذكرياته عن الرعب فى روما تحت نيرو رمزا للقضاء الآتى على بابل المتكبره و الخاطئه .


      اذا كان هذا الافتراض - الذى لا أشك فيه - صحيحا , فلا بد أن مؤلف هذه الرؤيا بوصفه عضوا فى كنيسة روما بين أعوام 62 - 64 م كانت له صلة بالرسول بولس , و بما أن كاتب سفر الرؤيا كان رجلا بارزا , فلا بد أنه لعب دور القياده لحزبه , و لدينا كل الحق أن نفترض أنه كان من صفوة النخبه من المسيحيين المتهودين فى روما , الذين يعبر بولس عن رأيه فيهم فى رسالته الى فيلبى , مشتكيا منهم أحيانا و معترفا بهم أحيانا .


      اتهم بولس خصومه هناك أن أعمالهم يشوبها الحسد , و أن نيتهم سيئه تجاهه , بل يريدون أن يسوء وضعه و يصير أكثر ايلاما مما هو عليه , و لا بد أنهم فعلوا ذلك مدعين أن مبدأه فى التحرر من الناموس هو المسئول عن التجاوزات الأخلاقيه للمسيحيين الأمميين , و هو الأمر الذى أضر طبعا بمسار محاكمته .


      فى نفس الوقت , يعترف فرحا , أن هؤلاء الخصوم يكرزون بالمسيج , و الذى كان بالتأكيد هو نفس مسيح انجيله , الرب الذى هو روح , و ليس مجرد المسيح بحسب الجسد الذى كان يكرز به المتهودون فى كورنثوس معارضين به مسيح بولس الذى بحسب الروح . و بالتالى رأى بولس أن الإيمان الروحى بالمسيح يوحد بينه و بين خصومه فى روما , بينما استمر حسدهم له و استمر ارتيابهم من مبدأه المتحرر من الناموس .


      عندما ننظر متفحصين الى علاقة كاتب رؤيا يوحنا ببولس , فإننا نجد نفس الملامح التى وصف بها بولس خصومه فى روما . من الواضح أن هذا المؤلف لا يتخذ موقفا وديا تجاه بولس , فقد قال أنه مكتوب على جدران أورشليم الجديده أسماء الرسل الاثنى عشر , الذين يمثلون أسباط اسرائيل الاثنى عشر , و لم يجعل مكانا لرسول الأمميين , بل انه أمر غامض جدا ما اذا كان قد اعتبره رسولا أصلا , و اللغه المستخدمه الى كنيسة أفسس ترجح أنه لم يعتبره رسولا من الأصل .


      عندما نسمع اطراءا على هذه الكنيسه بأنها لا تقدر أن تحتمل الأشرار , و قد جربت القائلين أنهم رسل و ليسوا رسلا فوجدتهم كاذبين , و أنها كرهت أعمال النقولاويين التى أبغضها المسيح أيضا , فمن الصواب أن نفترض أن المقصود هم البولسيون الذين يحتجون بسلطة بولس و الذين أفسدوا مبدأه " كل الأشياء طاهره " , و اتخذوه تكأة لانغماسهم فى أعمال الجسد و لاستمراراهم فى الممارسات الوثنيه , مثل الاشتراك فى الأعياد الذبائحيه لآلهة الوثنيين , و السلوك غير العفيف .


      و لكن النقطه المهمه , هى أن بولس نفسه كان قد أعلن حكما مغايرا على هذه الأشياء , و أدانها بكل شده , و لكن كاتب رؤيا يوحنا يتجاهل هذا بالكليه , بحيث أن القارىء لن يفهم أن الإدانة موجهه لهؤلاء البولسيين فقط , بل ما سيفهمه أنه يدين بولس نفسه أيضا . و بالتالى فهذا الكاتب يخلط بين وجود مبدأ معين و بين سوء استخدامه , و كذلك يلقى بوزر ممارسات أعضاء حزب معين على أكتاف قادته الذين قد يكونون بريئين تماما من هذه الممارسات . لقد كان هذا أحد تكتيكات حزب المسيحيين المتهودين فى روما , و الذى اشتكى منه بولس سابقا هناك , كما رأينا هذا فى رسالة فيلبى .


      و لكننا نجد أيضا فى رؤيا يوحنا فهما مثاليا للمسيح , و هو الأمر الذى اعتبره بولس موحدا له مع خصومه فى روما . فمثل ما نجده فى الكريستولوجى عند بولس , نجد أيضا أن كاتب رؤيا يوحنا ينادى بالموت الكفارى و المجد السماوى للمسيح , بينما يشير لحياة يسوع الأرضيه فقط عندما يصف المسيح بأنه من " نسل داود " و أنه " أسد يهوذا " , تماما كما ربط بولس فى رسالته الى روميه بين قدوم المسيح من نسل داود و بين بنوته الإلهيه . و كما سمى بولس المسيح " فصحنا المذبوح لأجلنا " , كذلك فان كاتب رؤيا يوحنا يصفه ب "الخروف المذبوح لأجلنا " , و يجد فى موته دليلا على المحبه و تطهيرا من الخطايا , و فديه لتخليصنا أمام الله .


      و كذلك , كما يسمى بولس المسيح باكورة الراقدين , كذلك يسميه كاتب رؤيا يوحنا باكورة الأموات , و كما يرى بولس أن المسيح رفع الى كرامة السيطره الإلهيه على الجميع , فكذلك يرى كاتبنا أن المسيح جلس على العرش بجوار أبيه , مشتركا بذلك فى السيطره و القوه الإلهيه , انه الرب على الكنائس , يمسك نجومها و ملائكتها الحارسه فى يده , و هو الحاكم على الأمم و ملك الملوك , الحكيم و القاضى القوى على الأمم , بل و مستحق للعباده بصورة تشابه ما يقدم لله نفسه .


      اذا كان مؤلف سفر الرؤيا فى تأليهه
      apotheosis للمسيح جاعلا اياه مستحقا للعباده يتجاوز ما وصل له بولس , إلا أنه فى تعريفه العقيدى لطبيعة المسيح لا يتخلف عن الرسول بولس , فهو يسمى المسيح مثل بولس " ابن الله " بالمعنى الميتافزيقى لكائن روحانى شبيه بالله , و أبعد جدا عن مجرد الأهميه الثيوقراطيه لهذا اللقب . و كما قال بولس " الرب هو روح " , فكذلك مؤلفنا يصف المسيح بأنه روح , أو المبدأ السماوى للوحى الذى يتحدث الى الكنائس و يحكم فيهم .


      و كما رأى بولس فى رؤيا أن المسيح هو الانسان من السماء فى ضوء و مجد سماوى , كذلك فإن كاتبنا يرى المسيح فى صورة فوق-عالميه شبيها بابن الانسان , و وجهه يضىء كالشمس . و كما وصف بولس سابقا ابن الانسان بأنه صورة الله , و وكيل الخلق , و رأس كل انسان , بل وفى النهايه هو الله فوق الجميع , فبنفس الطريقه يقدم مسيح سفر الرؤيا نفسه بصفات الفخامه الإلهيه " أنا الألف و الياء , قال الرب الإله , الكائن و الذى كان و الذى سيأتى , الكلى القوه " , و وفقا لذلك يدعى أيضا " رأس الخليقه " و " كلمة الله " , و الأداه الوساطيه لكل الوحى الإلهى من أول خلق العالم حتى الحكم الأخير .


      يظهر مما سبق أن التشابه فى الكريستولوجى بين سفر الرؤيا و الكريستولوجى عند بولس تشابه تام , فهذا المسيح يحتل موقعا عاليا مثل الذى نجده فى مسيح بولس الذى له قدر يفوق ابن الانسان الأرضى . هل يمكن أن تكون وجهة النظر هذه لدى رجل عاش و تحدث مع المسيح ؟ . أعتقد أننا بهذا نملك دليلا آخر على أن مؤلف سفر الرؤيا ليس هو يوحنا الرسول . و لكن اذا كان المؤلف مسيحى متهود فى روما - لا شك فى هذا بسبب ما نجده فى الكريستولوجى الخاص به - فإن التشابه الداخلى فى سفر الرؤيا مع عقيدة بولس يظهر لنا أن أصل هذا التشابه يعود مباشرة الى تأثيرات بولسيه .



      اذا افترضنا أن الأمور على هذا النحو , يمكننا أن نفهم لماذا كان بولس سعيدا بكرازة خصومه بالمسيح , فعلى الرغم من موقفهم العدائى تجاه شخصه , إلا أنه رأى خصومه يسيرون على خطاه , و هذه هى قوة الشخص العبقرى فى التاريخ , أن يجبر ألد أعدائه أن يسيروا ضد إرادتهم , و فى الواقع فإن كاتب سفر رؤيا يوحنا قد صار أفيد مناد بالفكره البولسيه عن المسيح , بوضعها فى قالب شعرى نبوى , مما جعل لها تأثيرا على الرومان و اليونان بدرجة لا تقل عن تأثيرها على العقل اليهودى . و بالتالى فقد توفر بهذا لدى الأحزاب فى المسيحيه الناشئه مركز التقاء لتقريب وجهات النظر اللاهوتيه المختلفه , فى اللحظه التى تهددها خطر الانشقاق الدائم بسبب مسألة صلاحية الناموس .



      إن نتائج هذا الاجماع فيما يتعلق بالسؤال المهم عن الكريستولوجى تتضح أكثر شىء فى حالة مؤلف سفر الرؤيا نفسه , فى نبرته المعتدله فى حديثه عن صلاحية الناموس , فعلى الرغم من صرامة تفكيره اليهودى و تشككه فى المبدأ المثالى المتحرر من الناموس الذى نادى به بولس , الذى رآه يتحول الى رخصة وثنيه لأعمال الجسد , الا أنه على الرغم من ذلك بعيد جدا عن النظره القاهره غير المتسامحه التى تمتع بها الغيورون على الناموس فى أنطاكيه أو غلاطيه , فلم يقل فى أى موضع بضرورة الختان أو المحافظه على الأعياد اليهوديه , بل على العكس , يعلن بوضوح للحزب المعتدل من المسيحيين الأمميين فى ثياتيرا - الذين بخلاف الحزب المتحرر المتطرف صاحب الأعمال الجسديه - أنه لن يضيف عليهم عبئا جديدا , و لكن عليهم فقط أن يلتزموا بسلوكهم الجيد .


      ما هذا السلوك الذى أمر به ؟ , انه لا يتحدث عنه بوضوح , و لكنه يتركنا نستنتجه من معارضته للممارسات الشريره , و من الأشياء التى يحث عليها فى سفر رؤيا يوحنا . لقد كانت الامتناع عن العباده الوثنيه و عدم العفه لا غير , و ليست المبادىء الأساسيه الدينيه و الأخلاقيه التى كانت تطلب سابقا من المهتدين اليهود الجدد , و التى كانت تطلب بعد ذلك من المسيحيين الأمميين .


      يعد كاتب سفر رؤيا يوحنا هؤلاء المسيحيين الأمميين الذين يتمسكون بهذا المبدأ البسيط للأخلاق المسيحيه , و يحافظون على كلمة و أعمال المسيح , أى السلوك المسيحى المخلص وسط الاضطهادات و المعاناه , يعدهم بتاج الحياه , و مكانا فى حفل عرس الخروف , و اشتراكا فى سيطرة المسيح العالميه , بينما يدين اليهود الذين عادوا المسيح واصفا اياهم بأنهم يهود كذبه و من مجمع الشيطان . و بالتالى فقد خرج كاتبنا من اطار الخصوصيه اليهوديه , الا أنه لا يمكننا أن نقول أنه يسير وفق العالميه البولسيه حتى الآن , بما أنه مثل الأنبياء لا يزال يجد فى اسرائيل العنصر الأساسى فى الثيوقراطيه , و الذين يجىء اليهم كل الأمم فيشتركون فى هذه المزايا بشكل جزئى .


      على الرغم من ذلك , فقد لاحظ فى هذه الجموع من الأمميين إخوة مسيحيين حقا " غسلوا ثيابهم و بيضوا ثيابهم فى دم الخروف " , و " الخروف الجالس فى وسط العرش يرعاهم و يقتادهم الى ينابيع ماء حيه " . لقد كتب بولس نفس الشىء الى أهل كورنثوس أنهم غسلوا أنفسهم و تبرروا باسم الرب يسوع المسيح , و بروح الإله . و بالتالى يتفق كاتبنا المسيحى المتهود مع بولس فى كلامه عن التطهير للجميع عبر الايمان بالمسيح , بما فى ذلك الأمميين , و لكن لا بد أن نعترف فى نفس الوقت أنه يفترض أن أولئك المدعوين الى عرس الخروف يلبسون بزا نقيا بهيا , و أن هذا البز هو تبررات القديسين , أى أن بر أعمال الناموس شرط لا غنى عنه للاشتراك فى الخلاص المسيانى و سيظل الأمر كذلك , و يعتبره الكاتب المعيار الواقعى للأخلاق و يؤكد على هذا , أمام ما يراه من مثالية البر بالإيمان التى تأخذ منحى خطرا عند كثير من البولسيين .



      و نفس هذا الموقف نجده أيضا عن مؤلف رسالة يعقوب , الذى يبتعد فى موقفه عن بولس أكثر و أكثر من موقف كاتب رؤيا يوحنا , فبعكس هذا الأخير , لم يترك كاتب رسالة يعقوب أى لمحه من الكريستولوجى الخاص ببولس , و بينما لا يعارض كاتب سفر رؤيا يوحنا فى أى موضع بولس بطريقة مباشره و مكشوفه , فمن الصعب أن نتخيل أن كاتب رسالة يعقوب فعل نفس الشىء .


      ربما أن هجومه على عقيدة بولس فى التبرير , تسبب فيها استفزازت من البولسيين الذين عبر ثقافتهم اليونانيه أفرغوا الايمان من معناه العميق , محولين اياه الى مجرد ايمان أو عقيده أو صيغه مذهب أو فكره فلسفيه مدرسيه , و بالتالى همشوا فى خلفية الصوره جملة و فى نفس الوقت كلا من الميستيكيه الدينيه و القوه الأخلاقيه للإيمان اللذان كانا فى الحس البولسى الأصيل .


      ربما يقبل هذا على أنه المناسبه التى أدت الى كتابة رسالة يعقوب , الا أنه لا يوجد مجال للشك أن يعقوب فشل أن يميز بين عقيدة الإيمان المشوهه التى يحملها هؤلاء البولسيين , و بين فكرة بولس نفسها عن هذه العقيده , و بدون شك فقد فهم بولس فى ضوء عقيدة البولسيين , و بالتالى ففى هجومه على البولسيين وجه ضرباته أيضا الى بولس .


      عندما يقول كاتب رسالة يعقوب ( رسالة يعقوب 2-24 )" ترون اذا أنه بالأعمال يتبرر الانسان , لا بالإيمان وحده " , فإن أى قارىء غير متحيز سيرى فى هذه الكلمات معارضه جدليه ضد ما قاله بولس فى ( روميه 3- 28) " اذا نجسب أن الانسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس " , و لا يمكن أن يكون الأمر مجرد صدفة عارضه أن كل منهما يؤيد موقفه من خلال تاريخ ابراهيم .


      و بينما يرى بولس فى المؤمن خليقة جديدة فى المسيح و نال الروح من الله , و يشعر بقوتها فى طاقة الحب التى تجلب معها اتمام الناموس , يرى يعقوب أن ايمانا مثل هذا ميت و لا قيمة له , و جسد بلا روح , لا بد أن تبث فيه الحياه من خلال الأعمال , و بالنسبة لايمان ميت مثل هذا - حتى الشياطين قد تحظى به - لا يمكن أن يتم التبرير الذى وعد به بولس كثمرة له , و لا يمكن أن يعتبر هو الايمان المسيحى الأصيل .


      إن الأساس لهذا الزعم يقع أول ما يقع فى سوء الفهم لطبيعة الإيمان , أو لنكون أكثر تحديدا , سببها أن كاتب رسالة يعقوب لم يفهم العمق الدينى لفكرة بولس عن الإيمان , و كذلك لم يفهم الكريستولوجى عند بولس . لا بد أن نبحث عن الأساس الأعمق لهذا الزعم فى اختلاف طبيعة كلا الرجلين , فالمستيكيه و المثاليه عند بولس قابلتها الواقعيه و الفهم العملى عند يعقوب الذى أعطى السلوك الأخلاقى المستقيم أهمية خاصه . و بخصوص وجهة نظر يعقوب تلك , فعلى نحوها لم يكن يمكن للمسيحيه أن تكون دينا عالميا أو دينا يختلف عن اليهوديه .


      الخطوات التاليه فى المصالحه ما بين بولس و المسيحيه المتهوده , و التى لا تزال تقابلنا فى رسالة يعقوب بقوه , تحققت جزئيا فى اطار اللاهوت الغنوصى , الذى شارك فيها النظام الدينى السكندرى بعناصر جديده لها قوه كافيه لتوحيد العناصر المقاومه , و جزئيا و خصيصا فى مجال قصة الإنجيل . و فى هذا المجال الأخير كانت الكنيسه فى روما هى الروح المحركه منذ البدايه .


      بحسب التقليد الكنسى , فإن أقدم أناجيلنا كتب فى روما بواسطة مرقص تلميذ بطرس , بعد موت بطرس و بولس . ربما هناك شك لسبب أو لآخر أن يكون مؤلف هذا الانجيل تلميذ مباشر لبطرس , و أنه كتب كلام بطرس بدقه ( كما يقول بابياس ) , و لا يمكن أن يعتبر ذكر مرقص فى رسالة بطرس الأولى ( العدد 13 ) دليلا حاسما ينصر هذا الرأى , لأنه من المفهوم أن ذكر مرقص ههنا هو الذى حرك التقليد الذى ربطه ببطرس . و لكن و من ناحية أخرى , لا يوجد سبب للشك فى وجود مرقص فى مجتمع بولس أثناء حبس الأخير فى روما .


      فى الواقع , هناك الكثير مما يمكن قوله فى صالح نسبة هذا الانجيل لتلميذ بولس هذا , لأننا نجد بهذا الانجيل عدة عناصر من التأثيرات البولسيه . إن العباره التى تقابلنا فى بدايات انجيل مرقص و التى يلخص فيها الهدف من كرازة يسوع " قد كمل الزمان , و اقترب ملكوت الله , فتوبوا و آمنوا بالإنجيل " تذكرنا بأساليب التعبير البولسيه ( غلاطيه 4-4 , 3-26 ) . ثم يبدأ الإنجيلى بعدها حديثه عن أعمال يسوع بسلسله من الشفاءات العجيبه , و الأحاديث الجدليه ليسوع , بحيث يعبر بها منذ البدايه عن الاختلاف العميق بين روح الانجيل الحره و القانونيه اليهوديه الصارمه , و على سبيل المثال , فى قصة الشفاء يوم السبت , جعل كاتب الانجيل يسوع يقول " جعل السبت من أجل الانسان و ليس الانسان من أجل السبت , و لهذا فإن ابن الانسان هو رب السبت أيضا " , و هى العباره التى لا نجد لها نظيرا فى الأناجيل الأخرى , بينما نجد انجذابا واضحا بينها و بين اعلان بولس " الرب روح , و حيثما تكون روح الرب فهناك الحريه " .


      ليس المقصود ههنا أن نشكك فى أن يسوع التاريخى نطق بمثل هذا الوصف , فعلى العكس من المحتمل جدا أنه فعل هذا , و لكن بمقدار ما افتقدت الروح اليهوديه لكنيسه فلسطين القوه لتقدر معارضة يسوع الاصلاحيه لليهوديه , بمقدار ما كان مهما للمسيحيه أن يفتح مرقص الإنجيلى عينيه و أن يتدرب فى مدرسة الرسول بولس ليرى المبدأ الجديد فى كرازة و تعليم يسوع .


      إن عقيدة سبق التعيين للبعض و تقسية البعض ( فى الأمه اليهوديه ) , و التى تميز بها بولس , نجدها أيضا فى انجيل مرقص فى عبارة بولسية أصيله ( مرقص 10-40 , 9-11و 12 , قارن هذا بروميه 9- 23 , 11-8 ) . و مما يميز هذا الإنجيلى البولسى أنه كان يأخذ كلمات بولس التى قالها فى رسالته الى روميه عن اصرار و عدم ايمان اليهود , و يضعها فى فم يسوع عندما يشتكى من نقص الإيمان و الفهم فى تلاميذه , و التى لم يكل مرقص من وضعها فى كل فرصة تسنح له بذلك ( مرقص 8-17 و 18 , مرقص 9-19 ) .


      كذلك فإنه يعطى أهمية خاصه لعدم فهم التلاميذ و تحيرهم بخصوص أهم نقطتين فى فكر بولس , أى كلمة الصليب و قيامة المسيح , فعلى الرغم أن يسوع كما يؤكد مرقص تحدث عن موته و قيامته بشكل علنى غير متحفظ , الا أنهم ظلوا على الرغم من ذلك فى جهل بخصوص هذا الأمر , و خافوا أن يسألوه , لأنهم و خصيصا بطرس لم يكونوا يهتمون بما لله بل بما للناس ( مرقص 8-32 و 33 , مرقص 9-32 , قارن هذا برسالة كورنثوس الأولى 2 - 14 و 15 , و روميه 10 - 2 و 3 , و رسالة كورنثوس الثانيه 4-4 ) . و بنفس الطريقه , تكلم يسوع بعد حادثة التجلى عن قيامة ابن الانسان , الا أن التلاميذ تحيروا فى أنفسهم و تساءلوا " ما هو القيام من الأموات " ( مرقص 9- 10 ) ,


      ربما تتوجه سهام النقد بالشك الى هذه التنبؤات عن الصلب و القيامه , الا أنه من المؤكد على أى حال أنه لو كان يسوع تحدث علانية عن أمر مثل هذا كما يحكى مرقص , فمن الصعب أن نفهم هذا النبلد المستمر فى فهم التلاميذ لمثل هذه الأقوال , و بالتالى فنحن مجبرون أن نرى فى كلام مرقص هذا مبالغة كبيره , و يجب البحث عن سبب هذا فى نظرة و مدى تقدير مرقص لهؤلاء الرسل الأوائل . و الآن , عندما نعلم أن الفهم لمعنى موت المسيح و قيامته هما حجر الأساس لفكر بولس , يتضح لنا ما قصده مرقص , عندما أكد مرارا و تكرارا على عدم فهم التلاميذ لهذه القضايا .


      و ربنا نجد هنا فقط مفتاح الحل لقصة التجلى , فمن الواضح جدا أنها قصة مثاليه
      idealistic narrative , وفرت رؤيا يوحنا و الكريستولوجى عند بولس عناصرها , فكما وضع بولس المجد الخالد لله على وجه يسوع , مقارنة بالمجد المؤقت على وجه موسى , و استنتج من ذلك القدر الأقل و الأهميه المؤقته للعهد القديم و الحرف , مقارنة بالمجد الأعلى و المستمر للعهد الجديد و الإنجيل و الروح . ( كورنثوس الثانيه 3 - 7 الى 11 , 4-6 ) . بنفس الطريقه تضع القصه المجازيه لمرقص يسوع المتجلى جنبا الى جنب مع ممثلى العهد القديم موسى و ايليا .


      و لكن ما علاقة التلاميذ بهذه الرؤيه المجازيه ؟ , لقد رغب بطرس أن يصنع مظالا للسكن الدائم لهؤلاء الثلاثه , بمعنى أنه يرى المؤقت و الدائم , القديم و الجديد , الحرف و الروح , متصاحبان فى كل وقت " لأنه لم يكن يعلم ما يتكلم به , اذ كانوا مرتعبين , و كانت سحابة تظللهم " ( مرقص 9- 6 و 7 ) . انك تجد هنا التفسير المجازى لكلام بولس " بل أغلظت أذهانهم , لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق , باق غير منكشف , الذى يبطل فى المسيح " ( كورنثوس الثانيه 3-14 ) .


      و كما كان التلاميذ غير قادرين على فهم معنى التجلى ( القيامه ) , أى أن يسوع قد صار الرب , الذى هو روح و حريه , كذلك لم يمكنهم أن يفهموا الغرض الحقيقى لله , بخصوص نطق الكتب المقدسه عن معاناة ابن الانسان ( مرقص 9- 12 و 32 , قارن هذا بكورنثوس الثانيه 4 - 4 , 5 - 16 و 17 , غلاطيه 6 - 12 ) .


      و فى هذا الموقف خصيصا , لم يقدروا أن يطردوا الأرواح الشريره باسم يسوع , و بالتالى فعلى الرغم من ملازمتهم الطويله للمسيح , الا أنهم لا يزالون يفتقدون للحقيقه ( الإيمان ) . بينما هناك رجل آخر لم يكن برفقة تلاميذ المسيح , يطرد الشياطين باسم المسيح و يصنع معجزات , و لهذا السبب يعترف به يسوع كتلميذ ( مرقض 9 - 38 و 39 ) .


      و بالتالى فإن مرقص ( الإنجيلى البولسى ) يجعل يسوع نفسه يدافع عن بولس المحتقر , الذى على الرغم من أنه آخر الرسل إلا أنه عمل أكثر من البقيه الذين استخدموا اتصالهم بالمسيح ضد بولس , و الذين أعلن المسيح أن قلوبهم قاسيه و جيل غير مؤمن و عميان . لقد كان هذا هو الرد البولسى على تعظيم شأن الاثنى عشر الذى ورد فى سفر الرؤيا , على حساب رسول الأمميين .


      بدورها هاجمت المسيحيه المتهوده مستخدمة أسلحة من ترسانة تقليد الإنجيل , فردت بتأليف " انجيل متى " , الذى أدمج مع انجيل مرقص مواد أخرى غزيره , عباره عن أقوال ليسوع , و مأخوذه من التقليد الجليلى , و أحدث هذا الدمج أثرا , بحيث أن كاتب هذا الإنجيل و الذى يفكر بنفس طريقة كاتب سفر الرؤيا , يعارض التحرر البولسى من الناموس , و يعارض الخصوصيه الضيقه لليهود . فى بداية عظة الجبل الطويله , التى لها مكانة هامه فى أعمال يسوع , يدمج الكاتب فى المواد التى أمامه بعض العبارات التى تشير بلا شك الى الرسول بولس " فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرى , و علم الناس هكذا , يدعى أصغر فى ملكوت السماوات , و أما من عمل و علم , فهذا يدعى عظيما فى ملكوت السماوات " ( متى 5 - 19 , قارن هذا برسالة كورنثوس الأولى 15 - 9 ,
      ελαχιστος (


      الأصغر هنا يشير الى بولس فى ملكوت السماوات , مع اشارة واضحة مقصوده لإيمانه الشخصى , لأنه يكسر بتعالميه أصغر الأشياء فى الناموس ( أى الحرف ) . إنه لا ينكر نصيبا له فى الملكوت , و لكن الدرجات و الحقوق المتساويه هى فقط مع الرسل الأوائل , و هى التى ناضل بولس من أجلها طويلا , و لكن هذا مرفوض بالنسبة له عند هذا المؤلف الإنجيلى المسيحى المتهود . و من جانب آخر , يرسم بطرس هنا على أنه " الأول " ( متى 10-2 و 5-19 ) .


      اذا كان بولس أسس رسوليته كاملة بناء على اعلان من الله , معتبرا أن هذا يعوض النقص الواقع من عدم مقابلته المسيح بحسب الجسد , فإن " متى الإنجيلى " على العكس من هذا يجعل هذا الإعلان الإلهى المباشر الذى لم يتم من خلال " جسد و دم " هو الأمر البارز الذى امتاز به بطرس , و لنفس السبب يجعل مفاتيح السماوات لبطرس , و له سلطان الحل و الربط ( أى أن يقنن الأمور الممنوعه و المسموح بها ) , و يقول أن كنيسة المسيح مبنية على صخرته و هو التمجيد " للرسول - العمود " و الذى بلا شك يفتقد أى مصداقيه تاريخيه , الأمر الذى يثبت من خلال الصعوبات الداخليه التى فى الفقره كلها , و كذلك من خلال عدم وجودها فى الأناجيل الأخرى .


      و لكن بينما يهاجم الرسول بولس فى انجيل متى , و يوضع تحت الرسل الأوائل بطريقة غير مباشره , فإن ال
      anti-nomianism البولسيه تهاجم بشكل مباشر و توصف بأنها أمر غير مسيحى , و نجد هذا بأقصى درجه فى ختام عظة الجبل , حيث إن كاتب الإنجيل المسيحى المتهود جعل يسوع يقول " كثيرون سيقولون لى فى ذلك اليوم يا رب يا رب , أليس باسمك تنبأنا , و باسمك أخرجنا شياطين , و باسمك صنعنا قوات كثيره ؟ , فحينئذ أصرح لهم : انى لم أعرفكم قط , اذهبوا عنى يا فاعلى الإثم " . ( متى 7 - 22 و 23 ) . هذه الكلمات تعبر بكل وضوح عن الحكم الذى أصدره المسيحيون المتهودون على أتباع بولس , الذين يعتبرون يسوع ربا لهم , و يصنعون المعجزات باسمه , فالمسيح لن يعترف بهم لأنهم " فاعلو اثم " .


      ربما كان كاتب انجيل متى يفكر أثناء كتابته فى هذه الفقره فى غلاة البولسيين , الذين انغمسوا فى الحريه الوثنيه , إلا أنه لا يعطى أدنى اشاره الى أنه يفرق بين هؤلاء المغالين و الحزب البولسى الحقيقى , و بالتالى ربما أنه نفسه لم يكن يرى فرقا بينهما , و على العكس فقد دحض بوضوح البولسيه و التحرريه , معتبرا كلاهما نتاجا ل " فعل الاثم " الواجب تعنيفه , و الاختلاف الوحيد بينهما فقط فى الرتبه .


      اننا نقابل نفس الشىء فى رؤيا يوحنا , من عدم التفرقه بين النهج الأخلاقى و عدم الأخلاقى للبولسيين , و هذه صفه تميز المسيحيه اليهوديه بصفة عامه , و ذات صلة وثيقه بالمبادىء الأساسيه للدين الناموسى , الذى يرى الناموس ملزما فى كل أجزائه , و انتهاك أى أمر منه يستحق التعنيف مثل أى أمر آخر فيه . وعلى الرغم أنه فى الحياة اليوميه ينبغى السماح ببعض التقييدات لهذا المبدأ , الا أن المسيحيه اليهوديه ليس بوسعها أن تتخلى عن المبدأ بحد ذاته , و بالتالى لم يكن من الممكن المصالحه ما بين البولسيه و المسيحيه المتهوده , و يؤكد هذا الأمر كل منتجات حزب المسيحيين المتهودين فى العصر المسيحى الأول , دون أن نستثنى حتى المنتجات ذات النبره المعتدله التى ينتمى لها انجيل متى .


      إن انجيل متى يبتعد - مثله مثل رؤيا يوحنا - عن الخصوصيه اليهوديه الضيقه . صحيح أنه نقل بعض الأقوال التى أخذت دون شك من مصادر فلسطينيه استخدمها المؤلف , و هذه الأقوال تمنع نشر رسالة يسوع و التلاميذ خارج حدود اسرائيل ( متى 10 - 5 و 6 , متى 15 - 24 و 26 ) , و لكن بجوار هذا المنع الواضح , نجد فى قصة المرأه الكنعانيه و قصة قائد المائه نماذجا للإيمان الأممى , تعرض لتخزى اليهود غير المؤمنين , و نجد فى العديد من الأمثال دعوة الأمميين بدلا من اليهود , الذين رفضوا الدعوى التى كانوا أول من تلقاها , و كذلك ما نجده عند مغادرة المسيح فى الكلمات التى وضعت على لسانه " فاذهبوا و تلمذوا جميع الأمم , و عمدوهم باسم الآب و الابن و الروح القدس " .


      إن سلوك الرسل الذى خالف هذا الأمر يدل على أنهم لم يسمعوا به , و بالتالى لا بد أن هذا الأمر منشأه يعود الى فترة لاحقه , عندما كتب مؤلف انجيل متى انجيله , و عندما لم يعد بوسع المسيحيين المتهودين أن يسابقوا أو يتجاهلوا النجاحات التى حققتها الكرازه للأمم , و ربما وجدوا من مصلحتهم أن ترتكز هذه النجاحات على شرف الرسل الأوائل , كما ترتكز على بولس , و ترتكز عليهم قبله .


      و لكن بأى مفهوم و تحت أية شروط أمكن لكاتب انجيل متى أن يقنن الكرازه للأمم ؟ , إنه يقول " و علموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به " . و كلمة " جميع " تشير الى صلاحية كل أجزاء الناموس عنده , و صلاحية أصغر حرف فيه بحيث لا يكسر كما قلنا قبل ذلك , و هو نفس الشىء الذى يقصده فى مثل " عرس ابن الملك " , الذى يذكر فيه انسانا دخل دون أن يكون عليه لباس العرس . ان تفسير هذا الأمر نجده فى رؤيا يوحنا , و التى استقى منها الإنجيلى دون شك هذه الصوره , ففى العرس المسيانى , تلبس امرأة الخروف بزا نقيا بهيا الذى هو " تبررات القديسين " ( سفر الرؤيا 19 - 8 ) .


      و بالتالى فمعنى المثل الذى ذكره متى , أنه سيسمح لكل الناس بالدخول الى الملكوت المسيانى , بما فى ذلك الأمميين , و لكن بشرط أن يثبتوا استحقاقهم لهذا الشرف عن طريق محافظتهم على الناموس ( ككل دون استثناء أصغر عنصر منه , الأعداد 18 و 19 ) . و يمكننا أن نرى كيف أن هذه العالميه تختلف عن نمط العالميه التى نادى بها بولس .


      بينما عبرت المسيحيه المتهوده عن نفسها فى انجيل متى , عادت البولسيه لتعبر عن نفسها فى انجيل لوقا الذى كتب بعد ذلك , على الرغم من اعترافنا أنها ليست البولسيه النقيه التى نادى بها بولس , بل البولسيه المسالمه التى أتت فى العصر التالى لبولس , التى لم تواجه المسيحيه المتهوده بعنف , بل كان توجهها فى الأكثر ضد اليهود غير المؤمنين , بينما كانت على وفاق مع المسيحيه المتهوده المعتدله .



      لقد تعاطف كاتب انجيل لوقا مع الكنيسه العالميه الناشئه , و لقد تحدث فى تعليق له عن نشأة المسيحيه أضاف فيه بعض العناصر الضروريه من زمنه , و لهذا السبب , فقد كتب انجيله - أبعد أكثر مما فعل سابقيه - تحت تأثير اعتبارات مثاليه للطبيعه الدينيه العقائديه و العمليه , فقد جرى رسم مفهوم بولس عن المسيح بألوان بديعه من الأدب الرؤوى , مؤسسا على العديد من التقاليد التاريخيه المتنوعه .


      يحكى هذا الإنجيل حياة يسوع قبل تفاصيل أعمال كرازته بشكل أوسع مما يفعل انجيل متى , و عبر عن الأفكار البولسيه بشكل رائع و فى شكل شعرى بديع , مثل " ابن الله بحسب روح القداسه " , " الرجل الثانى من السماء " , " الذى فى ملء الزمان ولد من امرأه تحت الناموس ليخلصنا " . فى الواقع فإنه استخدم فى القصص و التراتيل لقصة الميلاد و طفولة يسوع أجمل أزهار الشعر الدينى . و بينما جعل متى كرزاة يسوع تفتتح بالعظه على الجبل , التى خلاصتها أن يسوع لم يأت لينقض الناموس أو الأنبياء بل ليكمل , و رفض يسوع لفاعلى الإثم , نجد لوقا على العكس من ذلك ( لوقا 4 - 16 الى 30 ) يضع فى المقدمه العظه فى مجمع الناصره كنموذج لأعمال يسوع , و على الرغم من أنه يجعل يسوع يتحدث عن اتمام ما ورد فى الكتب المقدسه , الا أن هذا ليس اتماما للناموس بل للوعد .



      و لكن " كلمات النعمة " هذه التى خرجت من فم يسوع لم يفهمها رفقاؤه , و عندما يمضى يسوع قدما ليذكرهم بأمثلة سابقة تذكر تفضيل الأمميين على شعب اسرائيل , فإنهم طردوه من المدينه ممتعضين طالبين قتله , و كأن هذا تنبؤ عن الأحداث التى ستحدث بعد ذلك من غضب اسرائيل من انجيل النعمه الخاص ببولس , الذين أثارهم دخول الأمميين الى مملكة المسيح قبلهم .


      و بخصوص الجمله الوارده فى انجيل متى المضاده لبولس " فاعلى الإثم " , فإن لوقا يرد بكلمة مضاده لليهوديه ( لوقا 13-25 , قارن بغلاطيه 6 , و كورنثوس الثانيه 5-16 ) نصف المعاصرين ليسوع الذين رافقوه و أكلوا معه , تصفهم على لسان يسوع بقوله " لا أعرفكم من أين أنتم , تباعدوا عنى يا جميع فاعلى الظلم " ( لوقا 13 - 27 ) .


      و بنفس الطريقه , حذف لوقا مشهد الذى حضر الى عرس الملك دون رداء العرس , و وضع بدلا منه تفاصيل أخرى ترمز للكرازه العالميه للأمم ( لوقا 14 - 16 الى 24 ) .


      و كذلك يمتاز لوقا بعدد من الأمثال و القصص , التى اذا غضضنا الطرف عن التقاليد التى تأسست عليها , فإننا على أى حال نجد فى استخدام لوقا لها تعبيرا عن علاقة المسيحيه المتهوده بالبولسيه فى فترة متأخره . و ينتمى لهذا السياق أمثال الفريسى و العشار , و مثل الابن الضال الذى يقارن فيه تبرير الآثم النادم مع بر و افتخار اليهود , فمن منا لا يلاحظ فى استياء الابن الأكبر تجاه عطف الأب على ابنه الأصغر مثالا للغيره اليهوديه من المسيحيين الأمميين ؟ ( لوقا 15 - 28 - 32 , قارن مع روميه 9 - 30 ) . و مما ينتمى بالكامل الى الاسلوب المسالم الذى تحدث به بولس فى روميه اصحاح 9 , بخصوص البقاء الدائم لآمال شعب اسرائيل , ما فعله الأب عندما رأى أن غيرة الابن الأكبر ليس لها مبرر , لأن حقه فى البكوريه ليس محل تساؤل .



      صحيح أن مثل السامرى الصالح و الشاب الغنى و أليعازر لها أهمية أكبر , و قد أخذها لوقا من مصادر موجوده ( ربما مصادر أبيونيه ) , و فى الأول من هذه الأمثال , نجد أن تفضيل السامرى نصف-الأممى على ممثلى اليهوديه الرسميه , يخدم قضية الحزب المسيحى الأممى الذى ينتمى له لوقا الانجيلى البولسى . أما بخصوص المثل الأخير فقد أضاف له لاحقة فى ختامه ( لوقا 16 - 27 الى 31 ) تعد غريبة تماما على المعنى الأصلى لهذا المثل , و استهدف بذلك أن يهاجم اليهوديه غير المؤمنه , لأنها لا تتوب لا بموسى و لا بالأنبياء و لا بمعجزة قيامة المسيح من الأموات .


      على الرغم من موقف لوقا المؤيد للبولسيه بكل تأكيد , و المضاد لليهوديه , فإن حكمه بخصوص المسيحيه المتهوده و الرسل الأوائل حكم معتدل , فقد أخذ موقفا وسطا بين موقف متى الذى مجد الرسل الأوائل على حساب بولس , و موقف مرقص الذى صور الرسل الأوائل دائما بصورة غير جيده , و هذا هو الموقف الذى تميزت به البولسيه المسالمه التى أتت فى فترة متأخره . و يتضح موقفه هذا من الطريقه التى يحكى بها اعتراف بطرس , فبينما يحذف ( كما فعل مرقص ) تمجيد بطرس و اعتباره صخرة الكنيسه و معه مفاتيح السماوات ( و هى الأمور التى سجلها انجيل متى ) , الا أنه و من ناحية أخرى يقلل من اللوم الشديد لبطرس فى هذا الموقف و الذى سجله كاتبا الانجيلين الآخرين .


      يختص لوقا بذكر تعليق تعيين السبعين رسولا , بالإضافه الى الإثنى عشر , و بينما يعبر العدد الأخير عن الغايه من كرازة الرسل الأوائل , فإن العدد الأول يعبر عن الكرازه للأمم , لأن العدد سبعين هو عدد الأمم الوثنيه فى التقليد اليهودى , و هو التقليد الذى تشير له أسطورة المترجمون السبعون للترجمه السبعينيه أيضا , و التعليمات التى تعطى لهؤلاء السبعين بأن يأكلوا من أى شىء يوضع أمامهم عندما يلقوا ترحيبا فى أى مدينه ( لوقا 10 - 8 , قارن مع كورنثوس الأولى 10 - 27 ) لا يفهم الا اذا قلنا أن المدن الوثنيه هى المقصوده فى هذا السياق , و التحذير الذى يعطى لهم بخصوص ألا يتورعوا من الاشتراك فى الطعام غير الطاهر بالنسبه لليهود , ليس فقط يتوافق توافقا تاما مع المبدأ البولسى , بل و أيضا له صلة حرفيه بتوجيه بولس " كلوا مما يوضع أمامكم " .



      و بالتالى اذا كان هؤلاء السبعون هم الممثلون لكرازة بولس للأمم , فهذا يجعلنا نفهم جيدا لماذا يقول لوقا أنهم حققوا نجاحا أكثر من نجاح الرسل الاثنى عشر الذين أشار الى نجاحهم فى لمحة خاطفة فقط , و لكن عندما عاد السبعون فرحين يحكون عن قوتهم فوق الشياطين ( الوثنيين ) , فقد جعل لوقا يسوع يقول " رأيت الشيطان ساقطا كضوء من السماء " , و بالتالى يرى فى نجاح الكرازه البولسيه الى الأمم انتصارا على امبراطورية الوثنيه .



      و لكن من الجدير بالملاحظه , أنه جعل يسوع بعد ذلك يلتفت الى التلاميذ الإثنى عشر و يقول لهم " طوبى للعيون التى تنظر ما تنظرونه " ( لوقا 10 - 23 ) , فبحسب وجهة نظر لوقا البولسى المسالم , فإن السعاده برؤية يسوع تظل أمرا باقيا , و هى مزية لا جدال فيها حظى بها هؤلاء الرسل الأوائل , لدرجة أن ملوكا و أنبياء تمنوا أن يحصلوا على ما حصلوا هم عليه . و بالتالى فإن لوقا يبتعد عن النزاع الطائفى , فينسب لكل حزب مسيحى مزاياه الخاصه و وضعه التاريخى الخاص الذى يميزه .



      و لكن على الرغم من صحة ما سبق , الا أنه لا يخفى الى أى جانب يميل بمشاعره , ليس فقط من خلال تمجيده للنجاح الكبير - الموافق للحقيقه - الذى حققته الكرازه للأمم , بل و بعيدا عن هذه النتائج الخارجيه فإنه يفضل حياة الايمان التى تتمتع بها المسيحيه البولسيه , على المشاكل و المتاعب التى تسببها أعمال التقوى التى ينادى بها المسيحيون المتهودون , و هذا يتضح بجلاء فى قصة الأختين مرثا و مريم , فعندما تشتكى مرثا المشغوله بخدمة كثيره من أختها الجالسه عند قدمى يسوع تستمع لكلامه " يا رب أما تبالى بأن أختى قد تركتنى أخدم وحدى ؟ فقل لها أن تعيننى " ( لوقا 10 - 40 ) , يبدو أننا نسمع فى هذا صدى لشكوى يعقوب من " الانسان الباطل" الذى لا يفهم أن الايمان بدون أعمال ميت . و عندما يدافع يسوع عن الأحت المتهمه بكلمة جميله " مرثا , مرثا , أنت تهتمين و تضطربين لأجل أمور كثيره , و لكن الحاجة الى واحد , فاختارت مريم النصيب الصالح الذى لن ينزع منها " , فإننا نجد فى ذلك اعادة صياغه لما أعلنه بولس " اذا نجسب أن الانسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس " ( روميه 3 - 28 ) , " فأحيا لا أنا , بل المسيح يحيا فى , فما أحياه الآن فى الجسد فإنما أحياه فى الإيمان , ايمان ابن الله الذى أحبنى " ( غلاطيه 2 - 20 ) .



      و ينتمى لنفس هذا القسم قصة تلميذى عمواس , و هى التى يتميز بها انجيل لوقا فقط أيضا , و بما أن هذين التلميذين لم يكونا من الإثنى عشر , فلنا الحق أن نعتبرهم من السبعين وفق نية لوقا , و أنهما ممثلان للكرازه البولسيه الأمميه و لبولس نفسه , فكما أظهر يسوع ذاته لبولس كمسيح قائم بعد الصليب فى مجده فى الطريق من أورشليم الى دمشق , عندما كان بولس لا يزال فى عماه , فكذلك ظهر يسوع لهذين التلميذين و هما فى طريقهما من أورشليم الى عمواس , و أيضا لم يعرفه التلميذان , لأن الحزن على موته أغلق أعينهما , و لكن يسوع فتح أعينهما بأن أوضح لهما من خلال الكتب المقدسه كيف كان لزاما أن يقاسى المسيح هذه الأمور ليدخل فى مجده , و بالتالى اشتعل قلب التلميذين بالخوف و الأمل . و بنفس الطريقه , كان قلب بولس ملتهبا بالشكوك و النزاعات عندما كان يتأمل كلام الكتب المقدسه و هو فى طريقه الى دمشق , عن النبوءات التى ثبتت له عن ضرورة معاناة المسيح . و كذلك عندما حل المساء , كان المسيح مع التلاميذ و أخذ خبزا و شكر و كسر و أعطاهم , انفتحت أعينهم فى النهايه , و كان معروفا لديهم بكسر خبز العشاء .



      و بالتالى فإن لوقا المسيحى البولسى يعتبر المسيح هو الرب الحى و الروح المحييه , ليس فقط من خلال شهادة الكتب المقدسه , بل أيضا من خلال عشاء الرب المستيكى , التى يكون فيها الخبز و الكأس عناصر سريه للإشتراك فى موت و حياة المسيح . و عندما يحكى انجيل لوقا أخيرا عن صعود المسيح الى السماء عيانا , فإنه يكرر فى هذا المشهد الفكره الرئيسيه التى دندن عليها طوال قصته . إنها ليست حياة ابن داود المتمم لوعود اسرائيل التى يكرز بها المسيحيون المتهودون , بل الرجل السماوى الذى أصعد الى السماء و كان قد جاء منها , ابن الله بحسب روح القداسه كما ينادى بذلك الفكر البولسى , آدم الثانى , الذى نظرت فيه أغراض الله فى البشر " لننال التبنى " ( غلاطيه 4 - 5 ) .



      لقد طور لوقا هذا المفهوم المثالى عن المسيح بكل مهاره و بشكل دراماتيكى , فى صورة تاريخية واضحه , و التى على الرغم أنها أقل من حيث الثقه التاريخيه من قصة كاتبى الإنجيلين السابقين له , الا أنها تتفوق عليهما من حيث الحقيقه المثاليه
      idealistic truth , و يمكن للوقا أن يقول مع بولس " و ان كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد , لكن الآن لا نعرفه بعد ... الأشياء العتيقة قد مضت , هو ذا الكل قد صار جديدا " , و بالتالى قد رأى لوقا و حدد حياة يسوع فى ضوء الروح المسيحيه الجديده للبنوه الإلهيه .



      هل نجح لوقا فى تقديم الحقيقه التاريخيه فى نفس الوقت ؟ , يمكننا أن نقول بكل تأكيد أن السلطه المباشره التى استقى منها حياة يسوع كانت هى الفكره البولسيه عن المسيح , و لكن يتوجب علينا أن نسأل فى نفس الوقت , متى نال بولس روح البنوه الإلهيه التى رآها متشخصة فى يسوع ؟ , ألم يكن المصدر الأعلى لهذه القناعه الجديده هو فى الواقع روح المسيح ؟ و الوعى الدينى بعلاقته مع الله و التى شكلت العنصر الأساسى لشخصية يسوع ؟ . فى ضوء هذا يمكننا أن نقول بخصوص الحقيقه التى يتضمنها أكثر الأناجيل الإزائيه مثاليه ( أى انجيل لوقا ) , و الذى هو أقرب الأناجيل للإنجيل الروحانى ليوحنا , أنه حدد الطبيعه الأعمق للشخصيه الدينيه ليسوع أكثر مما فعل الإنجيلان السابقان ( مرقص و متى ) , و بالأخص انجيل متى المسيحى المتهود الذى اهتم فى شخصية يسوع بالجانب التاريخى الخارجى .


      أما بخصوص انجيل يوحنا فهو يمضى خطوة أبعد فى مسار رسم صورة يسوع فى جوانيه المثاليه و العقائديه و التعليميه , و هو المسار الذى سار فيه لوقا قبل ذلك , و مفهوم المسيح الذى يقدمه هذا الإنجيل يظهر تأثرا بالأشياء التى نبعت أول ما نبعت من عند بولس .



      و بالتالى حقق " آخر الرسل " أكثر مما حققه " البقيه " , فى هذا المجال كما فعل أيضا فى المجالات الأخرى , و وجدت نظرته المتعمقه فى شخصية المسيح و محبته له طريقا لها فى شعر لوقا , و فى التأمل العميق عند كاتب انجيل يوحنا , و أمدهم بالعناصر التى بنت عليها الكنيسه أفكارها اللاهوتيه عن المسيح منذ ذلك الحين .

      تعليق


      • #4
        جزاكم الله خيرا



        ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) أي ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره , بل صدره ضيق حرج لضلاله , وإن تنعم ظاهره , ولبس ما شاء , وأكل ما شاء , وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك , فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة ( المصباح المنير فى تهذيب تفسير بن كثير , صفحة 856 ).

        تعليق

        مواضيع ذات صلة

        تقليص

        المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
        ابتدأ بواسطة د تيماء, 16 مار, 2024, 03:34 ص
        ردود 0
        34 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة د تيماء
        بواسطة د تيماء
         
        ابتدأ بواسطة أحمد الشامي1, 4 ديس, 2023, 07:45 م
        ردود 0
        107 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة أحمد الشامي1
        بواسطة أحمد الشامي1
         
        ابتدأ بواسطة أحمد الشامي1, 3 ديس, 2023, 09:45 م
        ردود 0
        106 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة أحمد الشامي1
        بواسطة أحمد الشامي1
         
        ابتدأ بواسطة أحمد الشامي1, 30 نوف, 2023, 12:50 ص
        ردود 0
        70 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة أحمد الشامي1
        بواسطة أحمد الشامي1
         
        ابتدأ بواسطة أحمد الشامي1, 6 نوف, 2023, 01:29 ص
        ردود 0
        214 مشاهدات
        0 معجبون
        آخر مشاركة أحمد الشامي1
        بواسطة أحمد الشامي1
         
        يعمل...
        X