مطلبك عسير بحق أخي "إسلام" .. لكن عزاؤك أنه غير واجب في الجملة ..

التاريخ عند المسلم ليس لمجرد التاريخ ، والله عز وجل علمنا هذا حين قص علينا أحسن القصص في كتابه العظيم ، ونبهنا إلى أن المطلوب من التاريخ أخذ العبرة ، ولا أحسب أنه تخفى عليك مواضع هذا في القرآن العظيم.

التصور الخاطئ هنا : أنه لا يمكن أخذ العبرة إلا بعد معرفة كافة التفاصيل بتدقيق وتحقيق .. وقد أبطل الله عز وجل هذا التصور الخاطئ ، حين قص علينا أحسن القصص ولم يذكر الكثير والكثير من التفاصيل ، ومع هذا تحص العبرة والعظة من هذا القصص العظيم.

نعم، من الشائق أن نعرف بتدقيق وتحقيق أسماء الفتية أصحاب الكهف والرقيم .. لكن - ولله الحمد - أغنى الله المسلم عن مثل هذا .. فالعبرة والعظة تحصل من هذا القصص بدون معرفة هذا الشائق .. وهكذا الحال مع باقي أحداث التاريخ.


أراك حريصًا على تاريخ الأمم الغابرة .. وإذا كانت الكتب الإلهية المنزلة السابقة نفسها لم تحفظ ، فكيف ترجو حفظ التاريخ الغابر ، والعناية به أقل ، والدافع إلى حفظه أضعف ؟!

لكن - كما قلت - عزاؤك هنا أنك غير محتاج فعلاً إلى معرفة التواريخ الغابرة بتدقيق وتحقيق.

وليس مقصودي الإعراض عن التاريخ بالكلية ، أو تاريخ الأمم السابقة .. كلا .. وإنما قصدت أن القدر الذي يصل إلينا منه فيه الكفاية بفضل الله.

أغلب الأمور والتفصيلات قبل الإسلام هي ظنية من جهة التأليفات البشرية .. ليس عندنا أسانيد قبل الإسلام .. خذ مثلاً كتب "يوسيفوس" .. مخطئ أنت لو حسبت أنها ثابتة النسبة إليه بيقين .. وإنما يُغض الطرف عن هذا لأن كلامه ليس له سلطة الوحي الإلهي ، وبالتالي بإمكانك إزاحته جانبـًا وقتما تريد .. لهذا السبب فقط تختفي المعركة حول ثبوت نسبة كتبه إليه ، وإلا .. وإلا فلو تعرضت لطرف من هذه المعركة بين "المحققين" والمشتغلين بالمخطوطات القديمة ، لعرفت أن المشكلات قائمة في إثبات نسبة هذه الكتب إلى يوسيفوس .. لا أسانيد .. لا يقين .. ولم تعرف الأمم - خلاف أمة الإسلام - حفظ كتبها وتوثيق نسبتها إلى مؤلفيها كما لأهل الإسلام .. الأمور عندهم مهلهلة تمامــًا .. الكل يظن ويحسب ويخمن .. لا أحد يملك يقينـًا بخصوص شيء.

وكذا الحال حتى مع الكتب المؤلفة بعد المسيح عليه السلام ، كالكتب التي ينسبها النصارى إلى "آبائهم الأولين" .. أغلب - أو كل - هذه الكتب غير محققة النسبة إلى من ينسبونها إليهم .. لا أسانيد .. لا ضبط على العلماء .. لا تواتر ولا شهرة .. الكل يظن ويحسب ويخمن .. لا أحد يملك اليقين.

فإذا كانت الثقة غير حاصلة بنسبة الكتب إلى مؤلفيها ، فما بالك بالمذكور في الكتب ذاتها ؟!

إذا عدمت اليقين في نسبة الكتاب إلى "يوسيفوس" ، فما بالك بالتقريرات المذكورة في هذا الكتاب ؟!

والمشاكل هنا لا تنتهي ..

خذ مثالاً آخر ..

ستجد النصارى - أو غيرهم - يقولون لك : زيد من الناس عاش في القرن الثاني بعد الميلاد ، وكان أبوه فلان أو علان ، وعمل بالتجارة ثم صار قديسـًا ..

تقرأ هذا ، فتظن أن القوم عرفوا هذه المعلومات من طرق أخرى بشكل ما .. والحق أن هذا "الزيد" لا ذكر له في أي مرجع أو كتاب ، إلا كتابه هو نفسه الذي ينسبونه إليه ..

والقصة أنهم وجدوا كتابـًا ، مكتوبـًا عليه أن "زيدًا" ألفه ، فلما قرءوا الكتاب وجدوه يذكر أحداثًا ترجع إلى القرن الفلاني ولا يتعداها ، فيستنتجون من هذا أنه ينتمي للقرن الفلاني ! .. ثم يقرءون في الكتاب - بقلم الكاتب نفسه - بعض المعلومات عنه أو عن أبيه .. فتصير لديهم شبه "ترجمة" لهذا "الزيد" .. المفارقة هنا أن "الترجمة" مأخوذة من كلامه نفسه فقط .. لكنهم حين يتكلمون عنه يتكلمون وكأن كل الناس في القرن الثاني كانوا يعرفون زيدًا !

والمسلم إذا قرأ "ترجمتهم" فهمها بطريقة خاطئة غالبـًا .. لأنه يقيسها على ما عرفه من تاريخه الإسلامي .. فالمسلم عرف عن "الشافعي" مثلاً الكثير والكثير من غير كتبه ، عديدون كتبوا عن "الشافعي" من أقرانه وتلاميذه ، ومعروف ومشهور بين المسلمين في زمانه وبعد زمانه .. لا نحتاج إلى كتاب منسوب للشافعي حتى نعرف عنه أغلب ترجمته ..

فالمسلم إذا قرأ ما كتبه النصارى أو غيرهم عن القديس الفلاني أو الراهب العلاني ، يظن أن الحال كالحال .. يحسب أن النصارى عرفوا ترجمة القديس أو الراهب من طرق أخرى غير مؤلفه المنسوب إليه .. والحال أنهم لا يعرفون له ذكرًا خارج المؤلف الذي ينسبونه إليه بطريق التخمين والظن ..

لولا رسالة القديس الفلاني .. ما عرفوا القديس الفلاني أصلاً !

هذا معناه بوضوح ، أن الصورة الكلية التي يرسمونها عن هاتيك القرون ، ويشيدونها على دعائم شخصيات بعينها ، هي صورة متهاوية عند التحقيق .. شخصيات تكاد تكون وهمية لولا عثورهم على رسالة لهذا أو ذاك هنا أو هناك منسوبة إليه ، ناهيك عن ظنية هذه النسبة وكونها مرجوحة في الأغلب !

هذه إحدى مشكلات التاريخ السابق ، عرضت عليك طرفـًا منها ، وهناك مشكلات أخرى لا تقل عنها أهمية وتأثيرًا ، هذه المشاكل لا تنتهي.

أعود فأقول : عزاؤك أنك غير محتاج إلى هذا كله بفضل الله.

وأعود فأقول : ليس مقصودي الإعراض عن هذا كله .. وإنما مقصودي التنبيه على السالك في هذا الدرب بما سيلاقيه ، وأن لا يحزنه فقدان شيء لا يحتاج إليه.